المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

‌الفصل الثالث

قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

ولاية لوزيتانيا أصل مملكة البرتغال. تداولها بين الفاتحين، وضعها عند افتتاح الأندلس. ولاية الغرب الأندلسية. شمال لوزيتانيا وسقوطه في يد النصارى. ولاية البرتغال. البرتغاليون أهل هذه الولاية. أصل الملوكية البرتغالية. الكونت ريمون البرجوني وابن عمه الكونت هنري. زواج الكونت ريمون بأوراكا إبنة ألفونسو السادس. اختياره لحكم إمارة البرتغال. وفاته وخلافة الكونت هنري له. ولاية البرتغال ومدنها عندئذ. الكونت هنري أمير وراثي للبرتغال. موقفه من الحرب الأهلية في قشتالة. وفاته. ولده الطفل ألفونسو وأمه تريسا الوصية عليه. تقلبها في محالفة الفريقين المتحاربين في قشتالة. غزو المرابطين لأراضيها وانسحابهم. سخط الشعب على حكمها. مؤامرة الأشراف عليها واعتقالها. تولى ولدها الفتى ألفونسو هنريكيز الحكم. إعلانه لاستقلال البرتغال. سخط القيصر ألفونسو ريمونديس لذلك. الحرب بين قشتالة والبرتغال. التحالف بين نافارا والبرتغال. غزو البرتغال لجليقية. الحرب بين البرتغال والقيصر. توسط مطران براجا وعقد الهدنة بينهما. غزوة برتغالية لأراضي المسلمين. مجلس لاميجو واتخاذ ألفونسو هنريكيز لقب الملك. قانون وراثة العرش. القوانين الجديدة. تنظيم القضاء. قيام مملكة البرتغال. جماعات الفرسان الدينية. ألفونسو هنريكيز في الرواية العربية.

نقف الآن قليلا في تتبع أخبار الممالك النصرانية الإسبانية، لنلم بأخبار مملكة نصرانية أخرى، من ممالك شبه الجزيرة الإسبانية، لم يكن لها قبل أوائل القرن الحادي عشر ذكر بين هذه الممالك، ونعني بذلك مملكة البرتغال الناشئة، التي بدأت تحتل مكانتها إلى جانب باقي الممالك النصرانية، وتأخذ معها بنصيب بارز في الكفاح بينها وبين إسبانيا المسلمة.

إن مملكة البرتغال ترجع من حيث رقعتها الإقليمية، أو من حيث أرومتها الملوكية، إلى أصول متواضعة. فأما من حيث الرقعة الإقليمية، فإنه يجب أن نعلم أن القسم الغربي من شبه الجزيرة الإسبانية، كان منذ العصر القديم، يتميز بسكانه وخواصه الجغرافية، وكان سكانه يعرفون بأهل لوزيتانيا، وهم جنس يتميز بخصائصه من الإسبان الذين كانوا يحتلون شرقي الجزيرة وأواسطها، وكانت

ص: 521

ولاية لوزيتانيا في العصر القديم تشمل الرقعة الغربية الواقعة جنوبي جليقية المحاذية للشاطىء فيما بين مصب نهر دويرة ومصب نهر وادي يانة. وكانت لوزيتانيا أيام الرومان تكون مع ولاية بتيكا (باطقة) أو الأندلس، القسم الجنوبي الغربي من اسبانيا الرومانية، وتسمى بإسبانيا السفلى. ولما غزت القبائل الجرمانية شبه الجزيرة الإسبانية في أوائل القرن الخامس الميلادي، نزل الوندال والشوابيون في ولاية لوزيتانيا. ولما عبر الوندال إلى إفريقية، احتل الشوابيون لوزيتانيا كلها، واستمروا بها زهاء نصف قرن حتى أجلاهم القوط عنها، فارتدوا شمالا إلى جليقية، واحتل القوط لوزيتانيا، وعاصمتها يومئذ مدينة ماردة، وذلك في أوائل النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، ثم استولى القوط بعد ذلك على اسبانيا كلها، ما عدا قسمها الشمالي الذي استمر عصراً آخر بيد الشوابيين، حتى افتتحه القوط في أواخر القرن السادس. وكانت لوزيتانيا تكون عندئذ إقليماً من الأقاليم الستة التي قسمت إليها المملكة القوطية. ولما افتتح المسلمون اسبانيا، بقيت لوزيتانيا على وضعها القديم، وعاصمتها ماردة، ومن مدنها قلمرية وأشبونة وشنترة وشنترين. وكانت ماردة أيام الدولة الأموية، بالأخص منزل المولدين، وكانت مثل طليطلة، من المدن المتمردة الثائرة، تضطرم بها الثورة على حكومة قرطبة من آن لآخر، وكانت أيام الفتنة الكبرى في مقدمة القواعد الخارجة، وقد ثار بها بنو الجلّيقي، واستقلوا بحكمها عصراً.

وكان القسم الجنوبي من ولاية لوزيتانيا وهو الذي بقى بأيدي المسلمين، يعرف بولاية الغرب الأندلسية، أو غربي الأندلس. ولما قامت دول الطوائف تغلب على هذه المنطقة بنو الأفطس، واتخذوا من بطليوس قاعدة لإمارتهم.

وكان حكمهم يمتد من منتصف وادي نهر وادي يانة حتى المحيط، ويشتمل على قسم من وادي نهر التاجُه، يمتد شمالا حتى مدينة قلمرية (1)، ويشتمل على ثغر أشبونة، وشنترين ويابرة. أما القسم الشمالي من ولاية لوزيتانيا، وهو الذي يمتد من مدينة براجا شمالا، وقلمرية جنوباً، فكان النصارى قد تغلبوا عليه شيئاً فشيئاً، وافتتح فرناندو الأول ملك قشتالة معظم قواعده من المسلمين، وآخرها مدينة قلمرية، وقد افتتحها سنة 1064 م (456 هـ)، وجعل فرناندو من من هذه المنطقة ولاية مستقلة باسم " البرتغال " بالاشتقاق من اسم " بورتو كالي "

(1) قلمرية وتسمى أيضاً قلنبرية هي بالافرنجية Columbria Combra

ص: 522

Porto Calle، وهي الثغر الواقع عند مصب نهر دويرة، وجعل قاعدتها قلمرية. وانتدب لحكمها وزيره المستعرب الكونت سسنندو دافيدس الذي تعرفه الرواية العربية باسم " ششنند ". ثم ضمت هذه الولاية الجديدة قبيل وفاة فرناندو بقليل إلى مملكة جليقية، التي تركها فرناندو إلى أصغر أولاده الثلاثة غرسية.

وقد ذكرنا من قبل أن سكان لوزيتانيا، وهي التي اقتطعت ولاية البرتغال الجديدة من قسمها الشمالي، كانوا عنصراً خاصاً يفترق بمميزاته عن الإسبان.

وكان اللوزيتانيون أو البرتغاليون أهل الولاية الجديدة، يتوقون إلى الاستقلال عن مملكة جليقية، ومن ثم فقد كانوا منذ البداية ضد حكم الملك غرسية بقيادة زعيمهم الكونت نونيو منندس، ولكنهم هزموا أمام جيش جليقية، وقتل زعيمهم نونيو (سنة 1071 م). واستسلمت الولاية الثائرة إلى مصيرها، وتعاقب في حكمها الأمراء والحكام من قبل ملك قشتالة.

هذا عن أصول البرتغال الجغرافية والتاريخية. وأما عن أصوال الملوكية البرتغالية، فإنه لما عبر المرابطون إلى اسبانيا عقب افتتاح ألفونسو السادس ملك قشتالة لطليطلة، ولقيت الجيوش الإسبانية المتحدة هزيمتها الساحقة في موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م) عبر إلى شبه الجزيرة استجابة لصريخ ألفونسو السادس، كثير من الفرسان والأشراف الفرنسيين لينجدوا إخوانهم في الدين إزاء الخطر الإسلامي الجديد - خطر السيل المرابطي، وكان من بين أولئك المجاهدين الوافدين اثنان من أشراف برجونية، هما الكونت ريمون البرجوني، والكونت هنري دي لورين، وكلاهما ينتمي إلى فرع من فروع آل كابيه ملوك فرنسا. وقد أبدى الرجلان في خدمة ألفونسو السادس ومعاونته همة تذكر، ومن ثم فقد رأى أن يثيبهما عن إخلاصهما وغيرتهما، فزوج الكونت ريمون بإبنته أورّاكا، ولما كان الكونت قد ظهر بالأخص في محاربة المسلمين في البرتغال وانتزع منهم شنترين وأشبونة وشنترة (1093 م) فقد عينه ألفونسو حاكماً لهذه الولاية. وزوج الكونت هنري، وهو ابن عمومة الكونت ريمون، بابنته غير الشرعية تريسا التي رزق بها من خليلته خمينا نونيز.

ولما توفي الكونت ريمون بعد ذلك بقليل في سنة 1094 م، بعد أن أعقب من زوجه أوراكا ولداً هو ألفونسو، وهو الذي غدا فيما بعد القيصر ألفونسو ريمونديس، خلفه في حكم ولاية البرتغال قريبه الكونت هنري، وكانت

ص: 523

ولاية البرتغال تشمل يومئذ المنطقة الواقعة بين نهر منيو (نهر منديجو)، ونهر التاجُه حتى أسفل مصبه، وبها عدة مدن هامة هي براجا وبورتو وقلمرية وبازو ولاميجو (مليقة) وعدة بلاد وضياع أخرى، ومنح الكونت هنري الذي لقب عندئذ بالدوق، حكم هذه الولاية لا باعتبارها إمارة مستقلة، ولكن على قاعدة الإقطاع باعتبارها تابعة لمملكة قشتالة، تؤدي الجزية إليها وتشاركها في حروبها ضد المسلمين بفرقة من ثلاثمائة فارس ويتوارثها عقبه (1). بيد أن تريسا زوجة هنري كانت تلقب بالملكة لأرومتها الملكية. وجعلت مدينة قلمرية حاضرة الإمارة الجديدة، ومن ثم فإن الرواية العربية قد جرت على تسمية أمير البرتغال، أو ملكها فيما بعد " بصاحب قلمرية ". وبالرغم مما بذله الكونت هنري للمحافظة على حدود ولايته، فإن المسلمين استطاعوا غير بعيد أن يستردوا أشبونة وشنترين. ولما توفي ألفونسو السادس في سنة 1109 م، جاءت وصيته الخاصة بوراثة العرش مؤيدة لحقوق هنري الوراثية في حكم ولاية البرتغال، ولكن في ظل قشتالة. بيد أنه كان في الواقع يحكم ولايته مستقلا، وكانت تبعيته لقشتالة مسألة اسمية فقط.

ولما نشبت الحرب الأهلية بين الملك ألفونسو المحارب وزوجه الملكة أوراكا، وقف الكونت هنري في البداية إلى جانب ملك أراجون في موقعة كامبودي سبنيا، إذ كان يخشى على استقلاله من الملكة أوراكا، بيد أنه لما تطورت الحوادث وهزمت أوراكا وحوصرت في أسترقة، تحول هنري إلى مهادنتها، ثم حارب إلى جانبها وعبر إلى فرنسا، ليستقدم الحشود لمعاونتها، وذلك مقابل حصول البرتغال على مدينة توي والأراضي الواقعة على ضفة منيو اليمني. ثم توفي الكونت هنري عقب ذلك في مايو سنة 1112 م، ولم يترك سوى طفل في الثالثة من عمره يدعى ألفونسو، فتولت أمه الملكة تريسا الحكم، بطريق الوصاية عليه وكانت دونيا تريسا، فضلا عن جمالها، امرأة وافرة الذكاء والعزم والإقدام، وكانت تجيش بأطماع كثيرة في سبيل تدعيم سلطانها واستقلالها، وتوسيع رقعة إمارتها. وقد رأينا فيما تقدم كيف عملت خلال الحرب الأهلية في قشتالة على انتهاز الفرص، وتحالفت مع الكونت دي ترافا والثوار الجليقيين غير مرة، ضد أختها أوراكا، ثم حاربت إلى جانب أوراكا والأسقف خلمريث، وكيف استطاعت

(1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola V. I. p. 357

ص: 524

في النهاية أن تحافظ عل ما كسبه زوجها من أراضي جليقية، وأن تكسب من أختها أراضي جديدة في أحواز سمورة وطورو ثمناً لتخليها عن تحالفها مع الثوار (سنة 1119)، ورأينا كيف احتذت حذو أختها أوراكا في التورط في مسلكها الأخلاقي المشين، وتوثيق علائقها الغرامية بالكونت فرناندو بيرث، وتركه يتصرف في شئون الإمارة بصورة سخط لها الشعب البرتغالي، وأخيراً كيف انتهى ألفونسو ريمونديس إلى إخضاعها، وإلى أرغام البرتغال أن تعترف باسم أميرها الصبي ألفونسو هنريكيز أنها مستظلة بحمايته.

وفي خلال ذلك استطاعت تريسا أيضاً أن تصمد لغزوات المسلمين لأراضيها.

وكانت أهم غزوة واجهتها من المرابطين، هي زحف أمير المسلمين علي بن يوسف على قلمرية عاصمة الإمارة ومحاصرته لها، ودخوله إياها، وذلك في يونيه سنة 1117 م (سنة 511 هـ). بيد أن المرابطين لم يحتفظوا بها بل غادروها على الأثر، وقفلوا إلى إشبيلية، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.

ولم تمض على ذلك أعوام قلائل حتى سئم الشعب حكم هذه الأميرة المستهترة، وأخذ يتطلع إلى أميره الفتى ألفونسو هنريكيز، وكان الأمير قد بلغ الرابعة عشرة ْمن عمره (سنة 1124 م)، واتشح بثوب الفروسة وفقاً لتقاليد العصر، وأجازه لذلك الملك ألفونسو ريمونديس. وكان الشعب يحبو أميره الفتى بحبه، لما كان يتصف به من الخلال الحميدة، من الفروسة والتقوى، ورقة الشمائل، وتوقير رجال الدين، ويرى أن الوقت قد حان لتقديمه وتوليه شئون الحكم. وأخيراً دبر الأشراف والأحبار مؤامرة لتحقيق هذه الأمنية، والتف حول الأمير جمع كبير من الأنصار، وشهر الحرب ضد أمه المستبدة، فلقيته في أنصارها في سنت مايميتي على مقربة من جويمرانس، فهزمت الأم، وأسرت وألقيت إلى السجن لتكفر عن زلاتها، وماضيها الأثيم، ونفى خليلها أو زوجها الكونت فرناندو بيرث من المملكة ونفى معه كثير من أنصاره. وتولى الأمير الفتى ألفونسو هنريكيز حكم إمارة البرتغال، وكان ذلك في سنة 1128 م، وقد بلغ الأمير الثامنة عشرة من عمره.

وأعلن ألفونسو هنريكيز أنه يتولى حكم إمارته مستقلا دون تبعية لأحد.

فثار لذلك ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة، إذ كان يعتبر البرتغال إقليماً من أقاليم مملكته مشمولا بحمايته. وزحف بقواته على البرتغال بحجة العمل على إنقاذ

ص: 525

خالته تريسا، وإرغام الأمير الخارج عليه، على التزام الطاعة، ونشبت بين البرتغال وقشتالة حرب طويلة الأمد، وكان مسرحها بالأخص جنوبي جيلقية، ولم يكن في وسع ملك قشتالة أن يتابع هذه الحرب بنفسه، لما كان يشغله من غارات المسلمين ومدافعة ملك أراجون. ولما توج ألفونسو ريمونديس قيصراً لإسبانيا في سنة 1135 م، رفضت البرتغال أن تسلم بهذا الادعاء، وشاطرها في ذلك غرسيه راميريس ملك نافارا، ووقع عندئذ نوع من التحالف بين نافارا، والبرتغال. وبينما سار القيصر لمحاربة نافارا، زحف البرتغاليون على جليقية، واستولوا على مدينة توي وعدة مواضع أخرى، فنهض أشراف جليقية لمقاومة البرتغاليين، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان الظفر فيها لألفونسو هنريكيز، ولكنه اضطر أن يترك الميدان وقتاً لكي يرد غزوة قام بها المرابطون على مقربة من قلمرية، ولكن المرابطين كانوا قد انسحبوا خلال ذلك عائدين إلى أراضيهم، فلما عاد ألفونسو هنريكيز ثانية لاستئناف القتال في جليقية، كان خصومه قد جمعوا فلولهم، واستكملوا أهبتهم، فلما اشتبك الفريقان كرة أخرى، دارت الدائرة في هذه المرة على البرتغاليين، فهزموا هزيمة شديدة وجرح أميرهم. ولم يمض سوى قليل على ذلك حتى فرغ القيصر ألفونسو ريمونديس من حرب نافارا، وعاد بنفسه لمحاربة البرتغال، وتوالى الاشتباك بين الفريقين.

وكان ألفونسو هنريكيز يحرص على ألا يلتقى مع القشتاليين في معركة حاسمة، ثم رأى في النهاية نزولا على نصح قادته أن يتقدم بطلب الصلح إلى القيصر، وتوسط مطران براجا في الأمر، وانتهت المفاوضة إلى عقد هدنة بين الفريقين، واتفق على تبادل الأسرى من الجانبين، وإعادة الحدود بين البلدين، كما كانت في آخر عام من حكم الملكة تريسا، ولم يتفق على شىء بالنسبة للمسألة الجوهرية التي كانت سبب الحرب، وهي مسألة تبعية البرتغال لمملكة قشتالة. وعلى أي حال فقد عقد السلم بين الفريقين، واجتمع القيصر وألفونسو هنريكيز في خيمة واحدة، وتصافحا، وتصافيا، ثم عاد كل منهما إلى أراضيه (سنة 1138 م).

تحدثنا الرواية النصرانية بعد ذلك عن غزوة عظيمة قام بها ألفونسو هنريكيز في الأراضي الإسلامية في العام التالي، أعني في سنة 1139 م (533 هـ)، وأحرز فيها نصراً باهراً على الجيش الإسلامي الضخم الذي حشده ولاة بطليوس ويابرة وباجة وإشبيلية، وذلك في مكان يسمى " أوريك " على ضفة نهر التاجُه،

ص: 526

وهو حادث لم نجد له ذكراً في الروايات العربية. ثم تقول لنا إن ألفونسو هنريكيز اعتزم عقب هذا النصر أن يتلقب بألقاب الملوكية، وأن القيصر ألفونسو ريمونديس بعث إلى البابا يحتج على اتخاذ أمير البرتغال لمثل هذه الخطوة. على أن ألفونسو هنريكيز لم يعبأ باعتراض القيصر، أو تدخل البابوية في الأمر، واعتزم أن يجعل من لقبه الملوكي مسألة قومية بينه وبين شعبه، فاستدعى في مدينة لاميجو (1) مجلساً قومياً (كورتيس) مثل فيه رجال الدين والأشراف ونواب المدن (سنة 1143 م) ووافق هذا المجلس على أن يتخذ ألفونسو هنريكيز لقب الملك، وأن يكون الملك متوارثاً في أعقابه الذكور، وعلى أثر ذلك وضع أسقف براجا على رأس ألفونسو تاجاً من الذهب المرصع بالجوهر. وصادق الملك الجديد في هذا المجلس على القوانين التي قدمها إليه ممثلو الطبقات، وفي مقدمتها قانون وراثة العرش، وهو يبين أحكام هذه الوراثة وتسلسلها بين الأبناء والإخوة، وحالة ما إذا توفي الملك دون عقب، وترك إبنة، فإنها تتولى الملك من بعده، وقانون الأشراف، وهو ينص على من يمكن نظمهم في طبقة الأشراف، ممن يجري في عروقهم الدم الملكي، وكل من وفق إلى إنقاذ الملك أو أحد أقاربه، أو إنقاذ العلم الوطني في ميدان الحرب، وكل من استطاع أن يقتل في الحرب أميراً من الأعداء، أو يغتنم علماً من أعلامهم.

والمسألة الثالثة هي مسألة تنظيم العدل، وقد نص القانون الذي وضع لذلك على أن يدين جميع البرتغاليين بالطاعة للملك، باعتباره أكبر قاض في البلاد.

وأن يعاقب على السرقة الأولى والثانية بالتعزير، ويعاقب على السرقات الكبرى بالكي بالنار أو الموت. وتعاقب المرأة المتزوجة إذا زنت هي وعشيقها بالحرق، ويعاقب القاتل بالإعدام مهما كان شخصه، وكذلك يعاقب بالإعدام كل من اغتصب بكراً شريفة، فإذا لم تكن المجني عليها من الأشراف، وجب على المعتدي أن يتزوج بضحيته.

ويترك للقاضي تقدير العقوبة على جرائم الضرب والجرح. وكل من اعتدى على أحد من رجال القضاء بالسب أو الضرب، عوقب بالكي بالنار أو بغرامة قدرها خمسون قطعة من الذهب، ويلزم بالتعويض المناسب.

(1) تقع لاميجو Lamigo في شمال البرتغال جنوبي نهر دويره، وتعرف في الرواية العربية " بمليقة ".

ص: 527

وهكذا وضعت في مجلس لاميجو أسس مملكة البرتغال الجديدة، التي تحولت من كونتية أو إمارة صغيرة قامت في ظروف متواضعة لتكون ولاية تابعة إلى مملكة قوية، تأخذ منذ الآن مكانها في تاريخ اسبانيا النصرانية، وتقوم منذ الآن فصاعداً بنصيب بارز من النضال المرير المستمر بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة، وتدفع رقعتها تباعاً على حساب القواعد والأراضي الإسلامية في ولاية الغرب الأندلسية.

وعنى الملك ألفونسو هنريكيز كذلك بأمر جماعات الفرسان الدينية، إذ شعر بأهميتها، وخطرها في محاربة المسلمين، وكانت طلائع فرسان الداوية، وفرسان القديس يوحنا قد ظهرت قبل ذلك، واشتركت في كثير من المعارك التي تنشب بين البرتغاليين والمسلمين. وفي سنة 1158 م، أنشأ ألفونسو هنريكيز جماعة دينية جديدة سميت بالجماعة المحاربة الجديدة Nova Militia، ووضعت لها نظم كنظم فرسان قلعة رباح، وشعارها الجهاد من أجل الدين المسيحي، وألا يدخروا وسعاً في مقاتلة المسلمين، وألا يتزوجوا، وعين دون بيدرو أخو الملك، أول أستاذ أعظم للجماعة. ولما نجحت هذه الجماعة في سنة 1166 م، في الاستيلاء على يابُرة من أيدي المسلمين بقيادة الفارس المغامر جيرالدو الباسل (سمبافور)، سموا " بفرسان يابرة ". ثم سموا فيما بعد " بفرسان آفيس " وذلك حينما منحهم الملك ألفونسو الثاني القلعة المسماة بهذا الاسم في سنة 1211 م.

ويعرف الملك ألفونسو هنريكيز، منشىء مملكة البرتغال، في الرواية العربية بصاحب قلمرية أو قلنبرية (1)، إذ كانت قلمرية في البداية عاصمة البرتغال، ويعرف كذلك بابن الرنق وابن الرنك أو ابن الريق (2) أعني ابن هنري أو إنريكي (وهنريكيز معناها ابن هنري، وهو هنري البرجوني والد ألفونسو).

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء من 200.

(2)

تختلف الروايات العربية في تسمية ألفونسو هنريكيز. ويجمع معظمها على تسميته بابن الرنك (راجع كتاب أخبار المهدي بن تومرت ص 127، وابن خلدون ج 6 ص 239، والبيان المغرب " القسم الثالث " ص 78) ويسميه ابن صاحب الصلاة كذلك بابن الرنك أو أدفونش الرنك (مخطوط المن بالإمامة لوحة 117 أ) وتسميه بعض الروايات الأخرى " بابن الريق "(راجع الحلة السيراء ص 200، ورسائل موحدية - الرسالة الرابعة والثلاثون - ص 223 و 225 و 227).

ص: 528

وثائق مرابطية وموحّدية

ص: 529

1

رسالة الإمام الغزالي إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين

(منقولة عن المخطوط رقم 1275 ك (الكتانية) المحفوظ بخزانة الرباط وعنوانه " مجموع أوله كتاب الأنساب " لوحة 130 - 133).

الأمير جامع كلمة المسلمين، وناصر الدين، أمير المؤمنين أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، الداعي لأيامه بالخير، محمد بن محمد بن محمد الغزالي، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين وساير النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليومٌ من سلطان عادل، خير من عبادة سبعين سنة. وقال صلى الله عليه وسلم، ما من والى عشرة إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، أوبقه جوره أو طلقه عدله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، وعدل الإمام العادل أولهم، ونحن نرجو أن يكون الأمير جامع كلمة الإسلام، وناصر الدين، ظهير أمير المؤمنين، من المستظلين بظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، فإنه منصب لا ينال إلا بالعدل في السلطنة، وقد آتاه الله السلطان، وزينه بالعدل والإحسان. ولقد استطارت في الآفاق محامد سيره، ومحاسن أخلاقه على الإجمال، حتى ورد الشيخ الفقيه الوجيه أبو محمد عبد الله بن عمر بن العربي الأندلسي، حرس الله توفيقه، فأورد من شرح ذلك وتفصيله، ما عطر به أرجاء العراق، فإنه لما وصل إلى مدينة السلام، وحضرة الخلافة، لم يزل يطنب في ذكر ما كان عليه المسلمون في جزيرة الأندلس من الذل والصغار، والحرب والاستصغار، بسبب استيلاء أهل الشرك، وامتداد أيديهم إلى أهل الإسلام بالسبي والقتل والنهب، وتطرقهم إلى اهتضام أهل الإسلام، بما حدث بينهم من تفرق الكلمة، واختلاف آراء الثوار المحاولين للاستبداد بالإمارة، وتقاتلهم على ذلك، حتى اختطف من بينهم حماة الرجال، بطول القتال والمحاربة والمنافسة، وإفضاء الأمر بهم إلى الاستنجاد بالنصارى حرصاً على الانتقام، إلى أن أوطنوهم

ص: 530

بيضة الإسلام، وكشفوا إليهم الأسرار، حتى أشرفوا على التهايم والأغوار، فرتبوا عليهم الجزا، وجزوهم بشر الحزا. ولما استنفدوا من عندهم الأموال، أخذوا في نهب المناهل، وتحصيل المعاقل، واستصرخ المسلمون عند ذلك بالأمير ناصر الدين، وجامع كلمة المسلمين، ظهير أمير المؤمنين، ابن عم سيد المرسلين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، واستصرخه معهم بعض الثوار المذكورين

عن مداراة المشركين، فلبا دعوتهم، وأسرع نصرتهم، وأجاز البحر بنفسه ورجاله وماله، وجاهد بالله حق جهاده، ومنحه الله تعالى استيصال شأفة المشركين، والإفراج عن حوزة المسلمين، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين، وأمده بالنصر والتمكين، وذكر متابعته العدوة إلى جهة أخرى بعد ثلاثة أعوام من هذه الغزوة المشهورة، وقتل كل من ظهر من النصارى بالجزيرة المذكورة، من الخارجين لإمداد ملوكها على عادتهم، أو من سراياهم في أي جهة يمموا من جهات المسلمين، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين، حتى أغناه ذلك عن جر العساكر والجنود، وعقد الألوية والبنود، وذكر أن أولايك الثوار، لما أيقنوا قوة الأمير ناصر الدين، وغلبته لحزب المشركين، وسألهم رفع المظالم عن المسلمين، التي كانت مرتبة عليهم، بجزية المشركين، وإمدادهم بها لهم، مدارات لبقاء إمرتهم، عادوا إلى ممالأة المشركين، وألقوا إليهم القول في جهة الأمير، وجرءوهم على لقايه، وصح ذلك عنده وعند المسلمين. فسأله المسلمون عند ذلك إنزال هؤلاء الثوار عن البلاد، وتداركها ومن فيها من المسلمين قبل أن يسري الفساد، ففعل ذلك. ولما تملكها، رفع المظالم، وأظهر فيها من الدين المعالم، وبدد المفسدين، واستبدل بهم الصالحين، ورتب الجهاد، وقطع مراد الفساد، ثم أضاف إلى ذكر ذلك، ما شاهده من تلك السجية الكريمة في إكرام أهل العلم، وتوقيره لهم، وتنزيهه باسمهم، واتباعه لما يفتون إليه من أحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه، وحمله عماله على السمع والطاعة لهم، وتزيين منابر المملكة الجديدة والقديمة بالخطبة لأمير المؤمنين، أعز الله أنصاره، وإلزامه للمسلمين البيعة، وكانوا من قبل منكفين عن البيعة، والندا بشعار الخليفة، إلى غير ذلك مما شرحه من عجايب سيرته، ومحاسن أحواله، ومكارم أخلاقه. وكان منصبه في غزارة العلم، ورصانة العقل، ومتانة الدين، يقتضي التصديق له في روايته، والقبول لكل ما يورده من صدق كلمته،

ص: 531

وأن ما أفاضه من هذه الفضايل إلى حضرة الخلافة، أعز الله أنصارها، فوقع ذلك موقع الاحماد، ثم ذكر مع ذلك توقف طايفة من الثوار الباقين في شرق الأندلس، عن مشايعة الأمير ناصر الدين، ومتابعته، وأنهم حالفوا النصارى، واستنجدوا بهم فأعلن المسلمون بالدعاء عليهم، والتبري منهم، ليتوب عليهم أو ليقطع شأفتهم. وكتب هذا الشيخ سؤالا على سبيل الاستفتاء، وافيته فيه بما اقتضاه الحق، وأوجبه الدين، وأعجلني المسير إلى سفر الحجاز، وتركته مشمراً عن ساق الجد، في طلب خطاب شريف من حضرة الخلافة يتضمن شكر صنيع الأمير ناصر الدين في حمايته لثغور المسلمين، ويشتمل على تسليم جميع بلاد المغرب إليه، ليكون رئيسهم، ورؤسم تحت طاعة، وأن من خالف أمره، فقد خالف أمر أمير المؤمنين، ابن سيد المرسلين، ويتعين جهاده على كافة المسلمين.

ولم يبالغ أحد في بث مناقب قوم، مبالغة الشيخ الفقيه أبى محمد في بث مناقب الأمير وأشياعه المرابطين. ولقد شاع دعاؤه في المشاهد الكريمة بمكة حرسها الله، لحضرة الأمير وجماعة المرابطين، ولم يقنعه ما فعله بنفسه إلى أن كلف جميع من رجا بركة دعايهم، الدعاء لهم في تلك المشاهد الكريمة والمناسك العظيمة، وأعلن بالدعاء لأمير بلده، الأمير الأجل أبى محمد سير بن أبى بكر، وفقه الله تعالى، وذكر من فضله، وحسن سيرته، وتلطفه بالمسلمين، ورفع جميع النوايب عنهم، ما جهد به إلى النفوس. ولقد دُعي الشيخ الفقيه إلى المقام ببغداد على البر والكرامة، والاتصال بأسباب، يتشرف بها من حضرة الخلافة، فأبا إلا الرجوع إلى ذلك الثغر يلازمه للجهاد مع الأمراء وفقهم الله تعالى، ولو أقام لفاز بالحظ الأوفى من التوقير والإكرام، وما أجدر مثله بأن يوفي حظه من الاحترام، وولده الشيخ الإمام أبو بكر قد أحرز من العلم في وقت تردده إلى ما لم يحرزه غيره مع طول الأمد وذلك لما خص به من

الذهن، وذكاء الحس، واتقاد القريحة، وما يخرج من العراق، إلا وهو مستقل بنصيبه، حايز قصب السبق بين أقرانه.

ومثل هذا الوالد والولد خص بالإكرام في الوطن، وقد تميزا بمزيد التوفيق من الأعيان في الغربة، والله يحفظ من حفظهما، ويرعا من رعاهما، فرعاية أمثالهما، من آداب الدين المعينة على أمير المسلمين، وقد قال المحسنون، فليستوص بمن ظفر بهم منهم خيراً، وكم دخل قبلهما العراق، ويدخل بعدهما من تلك البلاد [النائية](1)

(1) المخطوط " الثانية ".

ص: 532

وما يذكر محاسنها، ولا يرفع مساويها. وقد انتهى الشيخ الفقيه من ذلك إلى ما لا يمكن أن يلحق فيه ثناؤه، فضلا عن أن يزاد عليه، والله تعالى يعمر بهما أوطانهما، ويصلح شأنهما، ويوفق الأمير ناصر المسلمين، ليتوسل إلى الله تعالى في القيامة بإكرام أهل العلم، فهي أعظم وسيلة عند رب العالمين، ونسأل الله أن يخلد ملك الأمير ويؤيده، تخليداً لا ينقطع، أبد الدهر، ولعل القلوب تنفر عن هذا الدعاء، وتستنكر لملك العباد التأييد والبقاء. وليس كذلك. فإن ملك الدنيا، إذا تزين بالعدل، فهو شبكة الآخرة، فإن السلطان العادل إذا انتقل من الدنيا، انتقل من سرير إلى سرير أعظم منه، ومن ملك إلى ملك أجل وأرفع منه. وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. ومهمى وفي العدل في الرعية، والنصفة في القضية، فقد خلد ملكه، وأيد سلطانه، وقد وفق له بحمد الله ومنه، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله أجمعين.

2

رسالة

كتب بها الوزير الكاتب ابن شرف عن بعض رؤساء الغرب إلى أمير المسلمين رحمه الله في فتح أقليش أعادها الله بقدرته

(منقولة من المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 54 أ - 58 ب)

أطال الله بقاء أمير المسلمين وناصر الدين، عماد الأنام وعتاد الإسلام، السعيد الأيام، الحميد المقام، كبيري بالقدر، وظهيري على الدهر، الذي أجله بحقه، وأقره بسبقه، وأدام خلوده مؤيد الإرادة، مؤيد السعادة، مجدد النمو والزيادة. والحمد لله الجبار القهار، الذي شد الأزر، وأمد النصر، وأعطى الفلج عن قسر، ففلق عنه يد الماطل، وفرق بين الحق والباطل، والحمد لله الذي أسعد بدولة أمير المسلمين الأيام، ونصر بسيفه الإسلام، وغاظ به الكفار، وجعل عليهم الكرة فولوا الأدبار. والله تعالى يشفع سعوده، ويضمن مزيده، وينصر جنوده بمنه.

ولما أن وضعني أمير المسلمين، أدام الله نصره، حيث شاء من آلة التشريف والعز المنيف، وألحقني من النعماء سربالها وأسحبني أذيالها، وصرف

ص: 533

إلى من عدده وبلده ما أولاني نعمه، ووالاني كرمه، حفظت تلك الحرمة، وشكرت لأستزيد من تلك النعمة، وأخذت في الاجتهاد في الجهاد عالقاً بسببه، آخذاً بمذهبه، وهيأت من ماله عندي جيشه الموضوع بيدي، وأجبت داعي الله بأعظم نية على أكرم طية، لعزمة بيمناه رأسها، وعلى تقواه أساسها وأصلها.

وسرت عن حاضرة غرناطة حرسها الله في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم بجيش تصم صواهله، وتطم كواهله، راياته خافقة، وعزماته صادقة، ونبراته على ألسنة السعد ناطقة. ومررنا من طاعة أمير المسلمين وناصر الدين، على جهات سمعت منادينا، وتبعت هادينا، وانقادت وراءنا أعداد وأمداد، بروزاً من كمون، وتحركوا عن سكون، وانخنا بثغر بيّاسة، وقد توافد الجمع، وملىء البصر والسمع. وأخذت في الرأي أخمره، والعزم أضمره، والذيل أشمره، وجددت الاستخارة لله تعالى والاستجارة به، وابتهلت إليه داعياً ضارعاً، وعولت في جميع أموري على حكمه خاضعاً متواضعاً.

ولحقنا بطرف بلاد العدو أعادها الله، ووطئناها من هنالك، وقد بان عنوان الأهبة، والتأم بنيان الرتبة، وسرنا بجيش يفيض فيضاً، على أرض تغيض غيضاً، ولسيول الخيل إغراق، وليروق البواتر إشراق، وقد نطقت ألسنة الأعنة بقدّام قدّام، وأشرقت كواكب الأسنة في غمام القتام، وسدت الهموات كل نهج وسبيل، واستقلت الرايات عن قبيل فقبيل، وأفضت بنا الخيرة إلى المدينة الحصينة " أقليش " قاعدة القطر وواسطة الصدر، ذات العدد العديد، والسور المشيد، فبدر السابق وشفع اللاحق. وغدونا يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، فدرنا بها دور الحلقة بنقطها، واكتنفناها اكتناف السبحة بسبطتها، وبهت القوم، واتسع البحر عن العوم، وحاروا وحاموا، حين راموا، وجثنا بكل ضرب من الحرب، نخسف عاليها، وننسف هاويها، ونلزها بالرماح، ونهزها هز الغصن في أيدي الرياح، حتى فض الختام، وعض منهم الإبهام، وعجل الله بالنصر وفتحها بالقسر، ونفخ في صورهم، ودارت دائرة السوء بدورهم، ومحقتهم السيوف محق الربا، وأذرتهم ريح النصر فصاروا هبا، وبطحوا بطح زرع الحصيد، وبسطوا بسط كلب الوصيد، وأخذتهم فجأتنا أخدة، ونبذت بهم سطوتنا نبذة، فخروا إلى الأذقان، وسيقوا إلى الموت والإذعان، فما كدنا ننزل حتى كدنا ذلك المنزل، وما أنخنا حتى رضخنا،

ص: 534

ولا وصلنا إليه حتى حصلنا عليه، فوردنا ما أردنا.

ولما استحر فيهم القتل، واجتث منهم الأصل، وضاق بهم المزدحم، وغص ذلك الملتحم، قصر الوقت المبغت، وشغل الأخيذ عن المفلت، وألهي الكثير عن من قل، ونام الجم الغفير عن الفل، وعادت بقاياهم بقصبة المدينة فولجوها، كما يلج العصفور، ويقوم العثور، قد غلقوا الأبواب، وأسدلوا الحجاب، ونحن نصل الجد، ونوحر لأفل غرب، ولا ملت حرب، نجتث الجراثم، ونحتز الغلاصم، ونخرب الديار وبنيانها، ونهدم البيع وصلبانها، ونتتاحفوا بهدايا السبابا، ونتكاشفوا عن بقايا الخبايا، ونصرحوا بنيانا صدعته الحتوف، وغلبته السيوف فلأطلاله هدم وعلى رسومه ردم، حتى علا على الشرك الإيمان، وبدل الناقوس بالأذان، وزحزحت الهياكل عن موضعها، وطرحت النواقيس عن بيعها، ولاذ بنا من هنالك من المسلمين عائذين بنا مستسلمين لنا، فناشدونا بالملة وحرمتها، وكشفوا لنا عن الخلة وسدتها، وفروا من الحملة إلى الحملة، فأوينا شاردهم، وأقمنا قاعدهم، فانجابت كربتهم، وعادت بعد البوار ومجاوبة الكفار بشرِّ دار ملتهم، وأنار لهم الإسلام على منار الإيمان المجدد، واشتهر فيهم التوحيد اشتهار الحسام المجرد، وكشف الدين عن مضمره، وخطب الحق المبين على منبره، وأقمنا بقية يومنا على ذلك إلى أن خام النهار، وحان من الشمس الاصفرار، فعند ذلك أرحنا البواتر، وغيضت تلك الدماء الهوامر، وغداً الخميس في الخميس، مبنياً على ذلك التأسيس، يجر أذيال الظفر في العدد الأوفر، يشفع الأوالي بالتوالي، ويشتري العوالي بالعوالي، فأصبحنا في عز وأنس، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم كأن لم يغنوا بالأمس، وتضامت تلك العصبة إلى تلك القصبة، والقوم في السجن والحصر، والحصن كالواحد في العالم، والأصبع في الخاتم، والمحصور مأسور، وصاحب الحائط مقهور، ولم نزل نوسعهم قتالا، ونوسعهم ضراً ونكالا مسافة اليوم، إلى أن جزر النهار مده، وبت الليل جنده، فعدنا إلى محلتنا، وقد أمل الكالّ أينه، وغلبت الساهر عينه، وكنت لم آل احتراساً للمحلة بطلائع تحرس جهاتها، وتدرأ آفاتها، وفي القدر ما يسبق النذر، ويفوت الحذر، لاكن كفاية الله خير من توقينا. وكان الطاغية زاده الله ذلا، قد حشد أقطاره وحشر أنصاره، وأبعد في الاستصراخ مضماره، وعبأ جيشاً قد أسرا إلى ذمر، وانطوى على

ص: 535

غمر، فأقدم وصمَّم، وبئس ما تيمم، فاستسلمت جماعتهم على ابن الطاغية أذفونش، وشيخهم وزعيم فرسانهم غرسية أرذونش، وصاحب شوكتهم ألبر هانس، والقمط بقبدره وقواد بلاد طليطلة وصاحب " قلعة النسور " و" قلعة عبد السلام "، وكل قاص ودان، وعاجل ووان، أخزى الله جميعهم، وطلّ نجيعهم، ولا أقام صريعهم.

وهذا دعاء لو سكتُّ لكفيتُه

لأني سألت الله ربي وقد فعل

وطرقوا من طرف مجتمعهم يريدون الغرة، ويظهرون صلفاً تحت الغرة، وتقدموا فتندموا، ودنوا فهووا، ووصلوا فحصلوا، وأرسل الله تعالى من جنده فتى كانوا قد سبوه صغيراً واقتنوه أسيراً، ولله تعالى فيه خبأة أعدها من عنده، وبعثها من جنده، ونزع الفتى إلينا من معسكرهم منبئاً بهم دالا عليهم، وكاشفاً بهم على النبأ العظيم، ومطلعاً منهم على المقعد المقيم، فعند ذلك ثارت ثائرتنا، ودارت على مركز التوفيق دائرتنا، وقام القاعد، وأشار البنان والساعد، وتضام القريب والمتباعد، والليل قد هدأ، والصبح قد بدأ، والدياجير ممدودة السرادق، مجموعة الفيالق، ولا جار إلا الغاسق، ولا مار إلا السما والطارق، وكنت قد استدنيت القائدين المجربين، ذوي النصيحة والآراء الصحيحة، أبا عبد الله محمد بن عائشة، وأبا محمد عبد الله بن فاطمة وليّيّ أعزهما الله، فجالا في مضمار وساع واضطلاع، بذرع وذراع، فاجتمعنا على كلمة الله متعاقدين، وخضعنا إلى حكمه مستسلمين، فعند ذلك حل يده المجتبي، وقيل يا خيل الله اركبي، فعادت الآراء بالرايات، وحكمت النهي في النهايات، والأسنة تجول في آمادها، والنصول تصول في أغمادها. وثرنا كما ثار الشهم بفرصته، وطار السهم لفوضته، وأمرت رجالا بلزوم المحلة، فسدوا فرج أبوابها، ولاذوا بأوتادها وأسبابها، فداروا كما دور السوار، وانتظموها انتظام الأسوار، قد شرعوا الأسنة من أطرافها، وأجالوا البواتر في أكنافها، وأضاقوا الأفنية، وقاربوا بين الأخبية.

وعبأنا الجيش يمناه ويسراه، وصدره ولهاه، وساقته وأولاه، ونهضنا بجملتنا من محلتنا، والصبر يفرغ علينا لامه، والنصر يبلغ إلينا سلامه، وتوجهنا إلى الله نقتفي سبيله، ونبتغي دليله، فما رفع الفجر من مُجابه، ولا كشر الصبح عن نابه، حتى ارتفعت ألوية الدين سامية الأعلام، واتسعت أقضية المسلمين ماضية الأحكام، وقيض الليل خمسه، وفضح الصبح نفسه، ولسن السنان لمعان،

ص: 536

ولشباب العراك ريعان، ولأنفاق الإعلام ضراب أو طعان. وعند ذلك نجم " العجم " في سواد الليل وإزباد السيل، يهبطون إلى داعيهم، ويهرعون إلى ناعيهم، في دروع كالبواري، ورماح كالصواري، كأنما شجروا باللديد، وسجنوا في الحديد، يزحفون والحين يعجلهم، ويركبون والحتف يزحلهم، يتلمظون تلمظ الحيات، قد تحالفوا أن لا يتخالفوا، وتبايعوا أن يتشايعوا، ووصلوا إلى مقدمتنا، وكان هناك القائد " أبو عبد الله محمد بن أبي زنغي " مع جماعة، فصدمهم العدر بصدور غِرّة وقلوب أشرة، فانحوا بكلكل ورموا بجندل، وشدوا فما ردوا، وصادروا فما صدوا، وتقهقر القائد " أبو عبد الله " غير مول، وتراجع غير مخل إلى أن اشتد منا بطود، وزحم من جيشنا بعود. فتراءى الجمعان، وتدانا العسكران، وأمسكنا ولا جبن، ووقفنا والأناة يمن، فعند ذلك ثار النصر فمد يمناه، وأناط الصبر فأشرق محياه، ونزلت السكينة، وأخلصت القلوب المستكينة، واهتزت الفيالق مائجة، وهدرت الشقائق هائجة، وجحظت العيون غضباً، وطلبت البواتر سبباً، وأذن الحديد بالجلاد، وبرزت السيوف عن الأغماد، وتصاهلت الخيول، وتصاولت القيول، فعند ذلك تواقف القوم كوقفة العير، بين الورد والصدر، فبرز فارس من العرب، فطعن فارساً منهم فأذراه من مركبه، ورماه بين يدي موكبه، فانتهج، ما أرتج، وانفتح المبهم، وأفصح المعجم، فعند ذلك اختلطت الخيل، بل سال السيل، وأظلم الليل، واعتنقت الفرسان، واندقت الخرصان، ودجا ليل القتام، وضاق مجال الجيش اللهام، واختلط الحسام بالأجسام، والأرماح بالأشباح، ودارت رحى الحرب تغر بنكالها، وثارت ثائرة الطعن والضرب تفتك بأبطالها، فلثغر الصدور ابتراد، ولجزم القلوب انتهاد، فما وضح النهار، ولا مسح الغبار، حتى خضعت منهم الرقاب، وقبلت رؤوسم التراب، واتصل الهلك بالشرك، وعادت الضالة إلى الملك، وقلم ظافر الكفر، وطالت إيمان الإيمان، وفر الصليب سليباً، وعجم عود الإسلام فكان طيباً، وغمرهم الحيف فهمدوا، واطفأهم الحين فخمدوا، ومات جلهم بل كلهم، وما نجا إلا أقلهم، وحانوا فبانوا، وقيل كانوا، وكشفت الهبوات، وأنجلت تلك الهنات، عن رسوم جسوم قد قصفتها البواتر، ووطئتها الحوافر، خاضعة الخدود، عاثرة الجدود، وأخذت ساقتنا في الطلب، وضم السلب إلى السلب. وملئت الأيدي بنيل وافي الكيل،

ص: 537

خيلا وبغالا وسلاحاً ومالا، ودروعاً، أكلّهم حملها، وأثقلهم جملها، فساءت ملبساً وصارت محبساً، فطرحوها كأنهم منحوها، وألقوها كأنهم أعطوها، احتزناها نهباً، وأخذناها كأن لم تكن غصباً، لقطة ولا نكر، وعطية ولغيرهم شكر، ثم أمرت بجمع الرؤوس، فاحتزت الدانية وزهد في جمع النائية، فكان مبلغها نيفاً على ثلاثة آلاف منهم غرسية أرذونش والقومط وقواد بلاد طليطلة، وأكابر منهم لم يكمل الآن البحث عنهم، وكانت كالهضب الجسيم، بل الطود العظيم، وأذن عليها المؤذنون، يوحدون الله ويكبرون، فلما جاء نصر الله، ووهب لنا فتح الله، شكرنا مولى النعم ومُسديها، ومُعيد المنن ومُهديها، وصدرت غانماً، وأبت سالماً، وبقى القائدان محاصرين لحصن أقليش آخذين بمخنّقهم، مستولين على رمقهم.

فخاطبت أمير المسلمين أدام الله سروره، ووصل حبوره، معلماً بالأمر، مهنياً بالنصر، لنحمد الله عز وجل، على ما وهب، ونشكره على ما سنى وسبب، والله يتكفل بالمزيد ويشفع القديم بالجديد، ويمن بالظفر والتأييد، فهو ولي الامتنان، والملبي الفضل والإحسان، لا رب غيره ولا معبود سواه.

3

رسالة

كتب بها قاضي سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين حين حاصرها ابن رذمير واستغلبها أعادها الله

(منقولة عن المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 55 أ - 61 ب).

من ملتزمي طاعة سلطانه، ومستنجديه على أعداء الله، ثابت بن عبد الله، وجماعة سرقسطة من الجمل فيها من عباد الله.

أطال الله بقاء الأمير الأجل، الرفيع القدر والمحل، لحرم الإسلام يمنعه، ومن كرب عظيم على المسلمين، يزيحه عنهم ويدفعه.

كتابنا أيدك الله بتقواه، ووفقك لاشترا دار حسناه، بمجاهدة عداه، يوم الثلاثاء السابع عشر من الشهر المبارك شعبان، عن حال قد عظم بلاؤها، وادلهمت ضراؤها، فنحن في كرب عظيم، وجهد أليم، قد حل العزا والخطب،

ص: 538

وأظلنا الهلاك والعطب، فياغوثاه، ثم ياغوثاه إلى الله، دعوة من دعاه، وأمله لدفع الضرر ورجاه، سبحانه المرجو عند الشدائد، الجميل الكرم والعوايد، ويالله، وياللإسلام، لقد انتهك حماه، وفضت عراه، وبلغ المأمول من بيضته عداه، ويا حسرتا على حضرة قد أشفت على شفي الهلاك، طالما عمرت بالإيمان، وازدهت بإقامة الصلوات وتلاوة القرآن، ترجع مراتع للصلبان، ومشاهد ذميمة لعبدة الأوثان، ويا ويلاه على مسجد جامعها المكرم، وقد كان مأنوساً بتلاوة القرآن المعظم، تطؤه الكفرة الفساق بذميم أقدامها، ويؤملون أن يدنسوه بقبيح آثامها، ويعمروه بعبادة أصنامها، ويتخذوه معاطن لخنازيرها، ومواطن لخماراتها ومواخيرها، تم يا حسرتاه على نسوة مكنونات عذارى، يعدن في أوثاق الأسارى، وعلى رجال أضحوا حيارى، بل هم سكارى، وما هم بسكارى، ولاكن الكرب الذي دهمهم شديد، والضر الذي مسهم عظيم جهيد، من حذرهم على بنيات قد كن من الستر نجيان الوجوه، أن يروا فيهن السوء والمكروه، وقد كن لا يبدون للنظار، فالآن حان أن يبرزن إلى الكفار، وعلى صبية أطفال قد كانوا نشئوا في حجور الإيمان، يصيرون في عبيد الأوثان، أهل الكفر وأصحاب الشيطان، فما ظنك أيها الأمير بمن يلوذ به بعد الله الجمهور، بأمة هي وقايد هذه العظام الفادحة، والنوائب الكالحة، هو المطالب بدمايها، إذا أسلمها في آخر ذمايها، وتركها أغراضاً لأعدايها، حين أحجم عن لقايها، فإلى الله بك المشتكا، ثم إلى رسوله المصطفى، ثم إلى ولي عهده أمير المسلمين المرتضي، حين ابتعثك بأجناده، وأمدك بالجم الغفير من أعداده، نادباً لك، إلى مقارعة العدو المحاصر لها وجهاده، والذب عن أوليائه المعتصمين بحبل طاعته، والمتحملين السبعة الأشهر الشدايد الهايلة في جنب موالاته ومشايعته، من أمة قد نهكهم ألم الجوع، وبلغ المدى بهم من الضر الوجيع، قد برح بهم الحصار، وقعدت عن نصرتهم الأنصار، فترى الأطفال بل الرجال جوّعاً يجرون، يلوذون برحمة الله ويستغيثون، ويتمنون مقدمك بل يتضرعون، حتى كأنك قلت أخسئوا فيها ولا تكلمون. وما كان إلا أن وصلت وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الحضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت، وما أدنيت، خايباً عن اللقاء، ناكصاً على عقبيك عن الأعداء.

ص: 539

فما أوليتنا غناء، بل زدتنا بلاء وعلى الداء داء، بل أدواء، وتناهت بنا الحال جهداً والتواء، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين، فيالله ويا للإسلام، لقد اهتضم حرمه وحماه أشد الاهتضام، إذ أحجمت أنصاره عن إعزازه أقبح الإحجام، ونكصت عن لقاء عدوه وهو في فئة قليلة، ولمة رذيلة، وطايفة كليلة، يستنصر بالصلبان، والأصنام، وأنتم تستنصرون بشعار الإسلام، وكلمة الله هي العليا ويده الطولا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وإن من وهن الإيمان، وأشد الضعف، الفرار عن الضِّعف، فكيف عن أقل من النصف، فيا قبح من رضى بالصغار وسما خطة الخسف، فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار. والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطين، وإخواننا في ذات الله المؤمنين، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع منه المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقاً، وتجدون في ساير بلاد الأندلس عصمها الله، مسلكاً من النجاة أو طريقاً، كلا والله ليسومنكم الكفار عنها جلاء وفراراً، وليخرجنّكم منها داراً فداراً، فسرقسطة حرسها الله، هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله، استبيحت له أقطار وبلاد، فالآن أيها الأمير الأجل، هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار، فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية، فلتقدح عن زنادها بانتضاء حدها، وامتضاء جدها واجتهادها، وملاقاة أعداء الله وجهادها، فإن حزب الله هم الغالبون، وقد ضمن تعالى لمن يجاهد في سبيله أن ينصره، ولمن حامى عن دينه أن يؤيده ويظهره، فما هذا أيها الأمير الأجل، ألا ترغب في رضوانه، واشترا جنانه، بمقارعة حزب شيطانه، والدفاع عن أهل إيمانه، فاستعن بالله على عدوه وحربه، واعمد ببصيرة في ذات الله إلى إخوان الشيطان وحزبه، فإنهم أغراض للمنايا والحتوف، ونهر للرماح والسيوف، ولا ترض بخطة العار، وسوء الذكر والصيت في جميع الأمصار. ولا تك كمن قيل فيه:

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزوا

ولا يرزأ من العدو فتيلا

ولن يسعك عند الله، ولا عند مؤمن، عذر في التأخر والارعواء عن مناجزة الكفار والأعداء. وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد، وعند ساير العباد، في إسلامكم إيانا، إلى أهل الكفر والإلحاد،

ص: 540

ونحن مؤمنون، بل موقنون إجابتك إلى نصرتنا، وإعدادك إلى الدفاع عن حضرتنا، وأنك لا تتأخر عن تلبية نداينا، ودعاينا إلى استنقاذنا من أيدي أعدائنا، فدفاعك إنما هو في ذات الله، وعن كَلِمه، ومحاماة عن الإسلام وحزبه، فذلك الفخر الأنبل لك في الأخرى والدنيا، ومورثٌ لك عند الله المنزلة العليا، فكم تحيى من أمم، وتجلى من كروب وغمم، وان تكون منك الأخرى، وهي الأبعد عن متانة دينك، وصحة يقينك، فاقبل بعسكرك على مقربة من سرقسطة، ْعصمها الله، ليخرج الجميع عنها، ويبرأ إلى العدو وقمه الله منها، ولا تتأخر كيفما كان طرفة عين، فالأمر أضيق، والحال أزهق، فعدِّ بنا عن المطل والتسويف، قبل وقوع المكروه والمخوف، وإلا فأنتم المطالبون عند الله بدماينا وأموالنا، والمسئولون عن صبيتنا وأطفالنا، لإحجامكم عن أعداينا، وتثبطكم عن إجابة نداينا، وهذه حال نعيذك أيها الأمير عنها، فإنها تحملك من العار ما لم تحمله أحداً، وتورثك وجميع المرابطين الخزى أبدا، فالله الله أتقوه، وأيدوا دينه وانصروه، فقد تعين عليكم جهاد الكفار، والذب عن الحرم والديار، قال الله، يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة الآية، ومهما تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثار لنا منكم، ورب الانتقام، وقد بريتم بإسلامنا للأعداء، من نصر الإسلام، وعند الله لنا لطف خفي، ومن رحمته ينزل الصنع الخفي، ويغنينا الله عنكم، وهو الحميد الغني. ومن متحملي كتابنا هذا، وهم ثقاتنا تقف من كنه حالنا على ما لم يتضمنه الخطاب، ولا استوعبه الإطناب بمنه، وله أتم الطول في الاصغاء إليهم واقتضاء ما لديهم، ان شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

4

رسالة

كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير الأجل أبى محمد بن أبى بكر بهزيمة " القلعة " رحمهما الله

(منقولة عن المخطوط 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 71 ب - 72 أ).

كتابنا وفق الله رأيك وحسن هديك، ولا أمال عن الهدى والرشد سعيك.

من حضرة مراكش حرسها الله في السابع من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين

ص: 541

وخمس مائة. وقبله وافى كتابك تذكر فيه المثيلة التي كانت للعدو- دمره الله - عليك في اليوم الذي واجهتموه فيه، بعد ان كان لكم صدره، وأتيح لكم نصره، فأواخر الأمور أبدا أوكد وأهم، والعواقب هي التي تحمد أو تذم، وإذا حسنت خواتم الأعمال فالصنع أبْها وأتم، وإن لسان العذر لتلك الحال لقصير، وإن الله على ذلك المشهد المضيع لمطلع بصير: توافقتم مع عدوكم، وأنتم أوفر منه عدة وأكثر جمعاً، وأحرى أن تكونوا أشد عن حريمكم منعاً، وأقوى دونه دفعاً، فثبت وزللتم، وجدّ ونكلتم، وشد عقد عزيمته وحللتم، وكنتم في تلك الوقعة قرة عين الحاسد، وشماتة العدو الراصد، وقد كانت نصبة توليكم بين يديه بشيعة هائلة، ودعامتكم لولا إنثناؤه عنكم ماثلة، فشغله عنكم من غررتموه من الرّجل الذي أسلمتموه للقتل، وفررتم، ونصبتموهم دريئة للرمح ثم طرتم، ولولا مكان من أوردتموه من المسلمين ولم تصدروه، وخذلتموه من المجاهدين ولم تنصروه، لانكشف دون ذلك الرماح جنتكم ووقاؤكم، وأصيبت بها ظهوركم وأقفاؤكم، عاقبكم الله بما أنتم أهله، فأنتم أشجع الناس أقفاء وظهوراً، وأجبنهم وجوهاً ونحوراً، ليس منكم من تدفع به كريهة، ولا عندكم في الرشد روية ولا بديهية، فمتى وأي وقت تفلحون، ولأي شىء بعد ذلك تصلحون؟ ونحمد الله عز وجهه كثيراً، فقد دفع بفضله الأهم الأكبر، وأجرى بأكثر السلامة القدر. فاكشفوا بعد أغطية أبصاركم، وقصروا حبل اغتراركم، وألبسوا منه جنة حذاركم، واعلموا أن وراء مجازاتنا إياكم جزاء توفونه، ويوماً عصيباً تلقونه، فكونوا بعد هذه الهناة لداعي الرشد بين مطيع وسامع، ومن كلمة الاتفاق والتآلف على أمر جامع، فإنكم لو خلصت غيوبكم، وحسنت سريرتكم، واطمأنت على التقوى قلوبكم، لظهر أمركم وعلا جدكم، ولما ذهب ريحكم ولا فل حدكم، فتوخوا في سبيل الله وطاعته أخلص النيات، وأصدق العزمات، واثبتوا أحسن الثبات، وكونوا من الحذر والتقوى على مثل ليلة البيات. وقد ذُكر أن للعدو دمره الله مدداً يأتيه من خلفه، والله يقطع به، فلتضعوا على مسالكه عيوناً تكلأ، ولتكن آذانكم مصيغة لما يطرأ، فإن كان له مدد كما ذكر، قطعتم به السبيل دون لحاقه، وأقمتم الحزم على ساقه، والله تعالى يفتح لكم فيهم الأبواب، ويأخذ بأزمتكم إلى الصواب، إنه الحميد المجيد، لا إله غيره.

ص: 542

5

رسالة

وله (أي لأمير المسلمين) إلى الفقيه القاضي وسائر الفقهاء والوزراء والأعيان والكافة ببلنسية عند نزول ابن رذمير عليها

(منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 72 - 73 أ).

كتابنا أبقاكم الله، وأمدكم بتقواه، ووفقكم لما يرضاه، ولا أخلاكم من لطايف رضاه، وعوارف نعماه، من حضرة مراكش حرسها الله، لسبع خلون من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين وخمس مائة. وقد وصل إلينا كتاب الفقيه الخطيب القاضي أبى الحسن منكم أعزه الله بتقواه، مضمناً من ذكر ما بلغه الوجل من نفوسكم، ما لا نزال نتوخاً بحسبه ان شاء الله ما يفي بترفيهكم وتأنيسكم، فلا يذهبن بكم الجزع لما كان من انكشاف المسلمين هناك عن مراكزهم، وتصييرهم ما صيروه من محلتهم، فرصة لمناهزتهم، وانهزامهم بغير سبب سوى تخاذلهم المعتاد، مع ما كانوا عليه من تكاثر الأعداد، وتظاهر الأجناد، فحسبناهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولشد ما وعظناهم في ذلك وذكرناهم، فما نجعت فيهم الموعظة، ولا نفعتهم الذكرى. وبعد فإنا لا ندعكم بحول الله لضياع، ولا نألوكم إلا اهتبالا يذهب بمشيئة الله ما نالكم من توقع وارتياع، فطيبوا أنفساً، واطمئنوا قلوباً، والله يجعل من دون ما توقعتموه فتحاً قريباً، إنه هو الفتاح العليم المنان الكريم، لا رب غيره. واعلموا أنه قد نفذت الآن كتبنا ثانية، إلى ولاة أعمالنا كلأهم الله وإياها، نأمرهم بتسريب الأقوات، وتعجيل إنفادها نحوكم من كل الجهات، وسيرد عليكم منها الكثير الموفور لأقرب الأوقات، ثم لا تزالون من بالنا بأحق مكان من المراعاة والمحاماة، ان شاء الله تعالى، وهو سبحانه يوفقنا لصالح نتوخاه من لم شعثكم، وسد خللكم، وإذهاب مكترثكم، وحسم عللكم، ويقضي بما يضم نشرهم، ويشد أزرهم، ويصلح أمرهم، ويسد ثغرهم، ويحفظ الألفة عليهم، ويربي النعمة لديهم برحمته، وتبلغوا أبقاكم الله سلاماً كثيراً أثيراً خطيراً موفوراً.

ص: 543

6

رسالة

وله (أي لأمير المسلمين) إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير إياهم في " القلاعة "

(منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 73 ب).

كتابنا أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، وكنفكم بعصمته وجعلكم في حماه، وأسبغ عليكم عوارفه ونعماه، من حضرة مراكش حرسها الله في الحادي عشر من شعبان المكرم من سنة ثلث وعشرين وخمس مائة، غب ما وافانا كتابكم الأثير مضمناً وصف اليوم الذي جرت به خزيه المقادير، فاستعرضناه وتقرر لدينا جميع ما حواه، وفي علمه سبحانه موقع ذلك لدينا وعزازة شأنه علينا، لكن لا مخرج عن القضاء وحكمه، ولا محيد عن القدر وحتمه، ولن يرد حول محتال ما سبق في علمه، وما ألونا، وهو عز وجهه أعدل الشاهدين، جداً وعزماً وكدحاً لإعلاء كلمة الإسلام، وحزماً ببذل الأموال وتخير الرجال، واعتيام الأسلحة والأفراس، والجمع بين الإيحاش والإيناس، في الوعد والوعيد والتخصيص والتأكيد، وعرض الآراء المتخيل فيها السداد، وبلوغ مدة جهاد في منحو والاجتهاد، لو كان العون موجوداً، ولم يكن التعذير

حاضراً عتيداً، والله يخزى كل خاين ماين بأسخاطه تعالى داين جزاه، ويرد به برد مضمره ورداه، ويوشك مقارضته وارداه بحوله وطوله، وبالله القسم الأعظم لو أمكننا ان نكون لديكم حاضرين، لأسرعنا بذلك مبادرين، ولما ثنانا عن حمايتكم بأنفسنا ثان، ولا قعد بنا عن معالجة نصركم تراخ ولا توان. وقد جددنا الآن أحث نظر، ونحن نردفه بما يكون عليكم ألم وارد، وأسرع منتظر، فلتهدأ ضلوعكم ويسكن مروعكم، فمالنا والله يشهد هم سوى الذياد عنكم والدفاع، والانفراد لذلك والاستجماع، والاجتهاد، والتوفر عليه أتم الاضطلاع، والله عز وجل المعين المنجد، فم يزل يعضد على ما يرضيه ويؤيد، لا إله الا هو.

ص: 544

7

رسالة

وجهها أمير المسلمين علي بن يوسف بتقريع قادته وجنده عقب هزيمتهم أمام ابن رذمير (ألفونسو المحارب) في أراضي بلنسية

(منقولة عن المخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 13 أ - 13 ب).

" من أمير المسلمين وناصر الدين، أما بعد،

يا فرقة خَبُثتْ سرايرها، وانتكثت مرايرها، وطايفة انتفخ سحرها، وغاض على حين مرَّة بحرها، فقد آن للنِّعم أن تفارقكم، وللأقدام أن تطأ مفارقكم، حين ركبتموها جلواء عارية، وأصبحتم في ادِّراع عارها أمثالا سواسية، واختلط المرعى منكم بالهمل، فما يتبين الأنقص من الأكمل، فطأطأتم لها رءوس عشايركم، وقضيتم بالفسولة على سايركم. لا جرم أن قد صرتم سمر الندى، والأحاديث المُلِعنة بالغداة والعشي، بما خامركم من الجبن والخور، واستهواكم من لقاء عدوكم بالجانب الأزور، لا تواجهونهم طرفة عين، ولا تعاطونهم حُمَة حين، بل تعطونهم الظهر هنياً مرياً، وتتخذونهم وراءكم ظهرياً، والرماح نحوكم لم تشرع، والخيل لم تسرع، والنفوس في حياض المنية لم تُكرع، فإنكم ثلة ذيابهم وفريسة أنيابهم، قد نعموا في بوسكم، وناهضوكم بلبوسكم، وحاربوكم عاماً على إثر عام، حتى ألزقُوكم، وتركوكم أسلح من حُبارى، وأشرد من نعام.

فالآن حين ملأتم أيديهم متاعاً، وواديهم سلاحاً وكراعاً، قد غزوكم في عقركم، وأذاقوكم وبال أمركم، فلذتم بالجدران، وبؤتم بالندامة والخسران.

بابغايا بني الأصفر، وسجايا ذوات الدَّلِّ والخفر، أكرهتم زَحَافهم، وكنتم - علم الله - أضعافهم؟ أفما لكم بالمعذرة، وأين؟ وقد فرض الله الواحد منكم بالإثنين، فقال:" إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ". هذا، وعلمتكم العليى، وحلوبتكم الحياة الدينى، ماشئتم من صارم، وطرف ونحض وركايب وسوام، ونضايد وخيام.

فيا أسفاً للحق يدمغه الباطل، والحالي يبهره العاطل. لا بالحنيفية تحرّزتم، ولا إلى الحفيظة والإنابة تحيزتم. ليت شعري بماذا تقلدتموها هندية واعتقلتموها سمهرية خطية، وركبتموها جرداً سوابق، وملكتموها مغارب ومشارق؟

ص: 545

ثاوين في غير عدادكم، منتزين على أضدادكم، يؤدون الإتاوة إليكم حين أشرقنموهم بالهوان، وأنتم فيهم غرباء الوجه واليد واللسان، وصيروكم عبيد العصى، ولستم بالأكثرين منهم حصى، بل شرذمة قليل نفعها، كثير نجعها. فيا عجباً لذهولكم، شبانكم وكهولكم، تأكلون تمرها، ولا تَصْلون جمرها، وتذهبون بحلوائها، ولا تصبرون على لأوائها؟ أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، إلى م يريعكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد:

إلى م يريعكم الناقد

ويردكم الفارس الواحد

ألا هل أتاها على نأيها

بما فضحت قومها غامد

تمنيتم مائتي فارس

فردكم فارس واحد

فليت لكم بارتباط الخيول

ضئاناً لها حالب قاعد

ومن لرعاة الإبل بالجد المقبل؟ لقِدماً ما أذهبتم التالد والطارف، وعجباً عجيباً من جذامي المطارف، وأنتم قد قدحتم في ملكنا، وأذِنتم بانتثار سلكنا، فلولا من لدينا من ذويكم، وضراعتهم إلينا فيكم، لألحقناكم عجلا بصحرايكم، وطهرنا الجزيرة من رُحَضايكم، بعد أن نوسعكم عقاباً، ونحدُّ أن لا تلووا على وجه نقاباً. فاللؤم تحت عمايمكم، والوهن والفشل، طي عزايمكم، لاكن ما جبلنا عليه من الأناة، وتوخيناه قدماً من إيقاظ ذوي الملكات، يكفنا عن استيصالكم، ويحملنا على شحذ نصالكم.

فاستنسروا يا بغاث الهيجا، واستيئسوا، بعد الرجا، واحذروا حلماً أغضبتموه، ووادياً من الصبر أنضبتموه، وتوقوا صدراً أحرجتموه، وليثاً من أجمته أخرجتموه، وأيم الله نقسم إنذاراً بكم، وإعذاراً لكم، لنوردنّ الفار منكم من الزحف، ما عافه من موارد الحتف، ولنتجاوزنّ السوط إلى السيف، ولنبدلنّ المعدلة فيكم بالحيف، فليعلم المقدم المحجم منكم عن الإقدام، أنه سلم من الحمام إلى الحمام، وتخطى مصرع الأسد الباسل إلى جذع مائل، وشهادة الأبرار إلى مشهد الذل والصغار، كما أن من أصيب منكم في حرب، أو أبلى بطعن أو ضرب، خلفناه في الأهل والولد، وبعناه الأثرة والكرامة يداً بيد، فاختاروا لأنفسكم وأعقابكم، وانضوا ثوب الخزي عن رقابكم، والسلام على من حمى الإسلام.

كمل ما كتب به الفقيه الأديب، الكاتب البليغ الأريب ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبى الخصال عن أمير المسلمين ".

ص: 546

8

رسالة

لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى أمير المسلمين علي بن يوسف تتعلق بشئون حصن أرلبة (أوريخا)

(منقولة عن المخطوط رقم 519 الغزيري. مكتبة الإسكوريال لوحة 104 ب و 105 أ).

" أطال الله بقاء أمير المسلمين وناصر الدين، مؤيداً بجنوده، معاناً بتوفيقه وتسديده، ولا زال عدله ينعش الأمم، وسعده ينهض الهمم. كتبت أدام الله تأييده، من قرطبة حرسها الله، لست بقين من جمادى الآخرة، وقبل بثلاث وافيتها من الوجهة التي صحبني ومن معي فيها يمن أمره، واكتنفتنا عزة نصره، بعد أن أودعنا حصن أرلبة حماه الله، قوتاً موفوراً، ومرفقاً كثيراً، وحطت عندهم الأسعار وعم الاستبشار، وتسلم أبو الخيار مسعود الدليل، سلمه الله، الحصن، واحتوى عليه، وصار أمره إليه، ووافينا فلاناً أبقاه الله، قد استاق غنيمة ظاهرة، وجملة بن البقر وافرة، وقتل من العدو، قصمه الله عدداً، وقضى وطراً، وشفى وجداً، فتيمن الناس هناك، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وبقيادة هذا القائد، الذي اقترن الفتح بمأتاه، وكانت [عند] مقدمنا هذا الحصن خيل طليطلة بددها الله، مجتمعة، فوقذهم الرعب وشملهم الصغار، والرغم، وتحققنا هناك أن مواشي تلك الجبال، قد أخذت في الإ

نبساط والإسهال، والدنو من الوادي في طلب الخصب، وتحوله من البرد إلى الدفيء، والله يجعلها للمسلمين طعمة، ويزيدهم بها قوة بعزته، وأنباء العدو، قصمه الله، الآن خامدة، وعزايمهم هامدة، وأيديهم جامدة، استأصل الله، بحد أمير المسلمين نعمتهم، وقطف قممهم، وأداخ بلادهم، وانتسف طارفهم وتلادهم، وألفيت الحضرة حرسها الله، وقد أخذ السرور من أهلها كل مأخذ، وسرى فيهم كل مسرى ومنفذ، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وكثر الدعاء لأمير المسلمين أيده الله، بما جدد لديهم من حسن نظر، وخلع عليهم من جمال سيرة، ولقيته فلقيت كل ما أبهج، وكان وفقاً لما انتشر، ومشاكلا لما استذاع وظهر، تمم الله النعمة، وظاهر عليه الكفاية والعصمة، ووافتنى كتبه الكرام بما بلغ الأمل، وحسم العلل، وأنا ممتثل في كل معنى ما يحره مجتهد، فيما يقيم ذلك الثغر ويسده، إن شاء الله عز وجل ".

ص: 547

9

رسالة

موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن علي بن يوسف إلى الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية

(منقولة عن المخطوط رقم 538 إسكوريال السابق ذكره لوحة 11 أ - 12 ب).

" بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً. من أمير المسلمين وناصر الدين تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين.

إلى وليه في الله تعالى، الأعز الأكرم الأحظى في ذات الله لديه، أبى زكريا يحيى بن علي، والفقيه القاضي أبى محمد بن جحاف، وساير الفقهاء والوزراء والأخيار والصلحاء، والكافة ببلنسية، حرسها الله، وأدام كرامتهم بتقواه.

سلام مبرور كريم، مردد عميم على جميعكم، ورحمت الله وبركاته، وبعد.

فإن كتابنا إليكم، كتبكم الله ممن آثر الحق واتبع سننه، وادّرع الحزم ولبس جننه، وسمع القول واتبع أحسنه، وحافظ على كتاب الله الذي يسره للذكرى وبينه، وجعلنا وإياكم ممن جمّله بتقواه وزينه، من مناخنا بكرنطة، في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، وبحمد الله من صحيفتنا هذه صدرها الأكرم، وكل قول فبعده يترتب ويتنظم. وقد جاء في الآثار: كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجذم.

وبعد أن نستوفي واجب الحمد والشكر، ونذكر نعمه السابغة، علينا أجل الذكر، فنسأل الله توفيقاً قايداً إلى الرشد، وقوة على طاعته نحمل بها من تلزمنا رعايته، على المنهج الأفضل والسنن الأحمد، ونستعيذه من قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع، وموعظة لا تنفع، وسجية لا تطاع، وهواً يتبع، ونصلي على محمد نبيه ورسوله الذي طهره تطهيراً، وأرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ رسالة ربه وهداه، وصبر على مشقة البلاغ وأذاه، ولم يخش أحداً إلا الله الذي رجاه، إلى أن بلغ الكتاب أجله والدين مداه، وانتهى ملك أمته إلى ما كان الله له زَواه، صلى الله عليه وعلى صحبه الذين ذبوا عن هذا الدين وحموا حماه، ووالوا من والاه، وعادوا من عاداه.

ص: 548

ولما كان، أعزكم الله، الدين ينعت بالنصيحة لله ولرسوله وللمسلمين، والذكرى تنفع المؤمنين، وجب أن نتخذ لكم من الموعظة به أنفسها الذي مُرُّها في العاقبة حلو، وأخفض مراتبها في الله علو، فاعلموا، أعلمكم الله، ولا أقامكم مقاماً يرديكم، أن أقرب الناس إلى الله أحناهم على عباده، وامحضهم للنصيحة لهم بمبلغ جده واجتهاده، وأن أولى الناس بنا من طاب خبره، وكرم أثره، وحسن مورده في الأمور ومصدره، وكذلك " العامل " منكم و " القاضي " وفقهما الله، إنما أقعدا بذلك المكان لخير يتوليانه وشر يردعانه، وعدل يقضيانه، فليقدما أولا تسديد أمرهما، ولينظرا في إصلاح أنفسهما، قبل إصلاح غيرهما، فمن لا يصلح أمر نفسه لا يصلح سواه، ومن لا يسدد أموره لا يسدد أمر من تولاه. وعليكم أجمعين بتقوى الله في السر والإعلان، والتمسك بعصم الإيمان، والاستعانة على حوايجكم بالكتمان، والتنزه عن فلتات اليد واللسان. ولم تخل أمة من جاهل وعليم، ومعوج وقويم، فليردع الجاهلَ العليم، ولينبه المعوجَ القويم، ولن يزال الناس بخير ما لم يتساووا، فإذا تساووا هلكوا.

وأهم أموركم الصلاة، التي هي سبيل النجاة لسالكها، ولا حظ في الإسلام لتاركها، فالزموها في جماعاتها، ولا تخلوا بشىء من مسنوناتها، ومفروضاتها، وأخلصوا فيها لله العلي الأكبر، واعلموا أنها كما قال سبحانه " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ".

وعليكم وفقكم الله بإصلاح ذات البين، واعتماد الحق المخلص في الدارين، وتخير الرفقا وانتخاب الجلسا، فإن مثل الجليس كمثل القين، والصاحب الصالح قوة في الدين، وقرة في العين.

وانتدبوا واندبوا من قبلكم للجهاد، الذي هو من قواعد الإيمان والرشاد، أمر الرحمن، وفرض على الكفاية والأعيان، واتصال الهدو بفضل الله وللأمان. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القايم الصايم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام ".

والذي نأخذ به عهد الله على العامل منكم الرفق بالرعية، والحكم بالتسوية، وإجراء أمورها على السبيل الحميدة المرضية، فهي العنصر الذي منه الاستمداد، والأصل

ص: 549

الذي بثبوته تعمر البلاد، وتتوفر الأجناد، ويتمكن الرباط في سبيل الله والجهاد، وليعلم أن العدل يقسطها، والجور يسخطها، وقلة المساواة تشتتها وتقنطها.

ولا سبيل أن يستعمل عليها إلا من يستَثَق جانبه وتحسن الأحدوثة عنه. وأن ظهر أحد منهم بنظر جميل فيه، وكان في نفسه ما يخفيه، فالبدار البدار إلى عزله وعقابه والتشديد فيما نأمر به.

واعلموا، رحمكم الله، أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى، في الحضر والبُدا، على ما اتفق عليه السلف الصالح، رحمهم الله، من الاقتصار على مذهب ْإمام دار الهجرة أبى عبد الله مالك بن أنس، رضي الله عنه، فلا عدول لقاض ولا مُفت عن مذهبه، ولا يأخذ في تحليل ولا تحريم إلا به، ومن حاد عن رأيه بفتواه، ومال من الأئمة إلى سواه، فقد ركب رأسه واتبع هواه، ومتى عثرتم على كتاب بدعة، أو صاحب بدعة فإياكم وإياه، وخاصة وفقكم الله، كتب أبى حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الإيمان من يتهم بكتمانها.

والخمر، نزهكم الله عن خبايث الأمور، التي هي جماع الإثم والفجور، والباب المفضي إلى سواكن الفسق والشرور، فاجتهدوا في شأنها، وأوعزوا في جميع جهاتكم بإراقة دنانها، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعن الله الخمر وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه ".

وكذلك نوكد العهد فيما نوصي به دايباً، مما أوجبه الله تعالى في حقوق المسلمين من الأعشار والزكوات، والأموال المفروضة للأرزاق المسماة، فليؤخذ ما فرض الله منها في نصابها المعلوم، وعلى سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم.

وكذلك نوكد عليكم أتم تأكيد أمر أهل الذمة ألا يتصرف أحد منهم في أمور المسلمين، لأنه من فساد الدين.

والسلام الأبر الأكرم الأخطر على جميعكم، ورحمة الله وبركاته، وعلى من هناك من المسلمين ".

(تمت الرسائل المرابطية)

ص: 550

1

صيغة التوحيد التي وضعها المهدي ابن تومرت لأتباعه توحيد الباري سبحانه

(منقولة عن كتاب " أعز ما يطلب " ص 240 و 241)

لا إله إلا الذي دلت عليه الموجودات، وشهدت عليه المخلوقات، بأنه جل وعلا، وجب عليه الوجود على الإطلاق، من غير تقييد ولا تخصيص، بزمان ولا مكان، ولا جهة ولا حد، ولا جنس ولا صورة ولا شكل، ولا مقدار ولا هيئة ولا حال، أول لا يتقيد بالقبلية، آخر لا يتقيد بالبعدية، أحد لا يتقيد بالأينية، صمد لا يتقيد بالكيفية، عزيز لا يتقيد بالمثلية، لا تحده الأذهان، ولا تصوره الأوهام، ولا تلحقه الأفكار، ولا تكيفه العقول، لا يتصف بالتحيز والانتقال، ولا يتصف بالتغيير والزوال، ولا يتصف بالجهل والاضطرار، ولا يتصف بالعجز والافتقار، له العظمة والجلال، وله العزة والكمال، وله العلم والاختيار، وله الملك والاقتدار، وله الحياة والبقاء، وله الأسماء الحسنى، واحد في أزليته، ليس معه شىء غيره ولا موجود سواه، لا أرض ولا سماء ولا ماء ولا هواء، ولا خلاء ولا ملاء، ولا نور ولا ظلام، ولا ليل ولا نهار، ولا أنيس ولا حسيس، ولا رز ولا هميس، إلا الواحد القهار، انفرد في الأزل بالوحدانية، والملك والألوهية، ليس معه مدبر في الخلق، ولا شريك في الملك، له الحكم والقضاء، وله الحمد والثناء، ولا دافع لما قضى، ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء، لا يرجو ثواباً، ولا يخاف عقاباً، ليس فوقه آمر قاهر، ولا مانع زاجر، ليس عليه حق، ولا عليه حكم، فكل منة منه فضل، ومنقمة منه عدل، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.

ص: 551

2

رسالة الخليفة عبد المؤمن بن علي

(منقولة عن مخطوط كتاب نظم الجمان لابن القطان لوحة 56 ب - 65 أ).

" أمره رضى الله تعالى عنه، بالأمر بالمعروف، ونهيه عن المنكر وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله "

(له رسالة جامعة لأنواع من الأوامر، خلدت في مآثره السنية، ووصاياه الحكيمة. وهي من إنشاء الكاتب أبى جعفر بن عطية، وهي بعد البسملة والصلاة).

من أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره، وأمده بمعونته، إلى جميع الطلبة الذين بالأندلس، ومن صحبهم من المشيخة، والأعيان والكافة، وفقهم الله تعالى، واستعملهم بما يرضاه.

سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد، فالحمد لله، وهو اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي بعدله قامت السموات والأرض وبه تقوم، وعلى محمد نبيه المصطفى الصلاة المباركة والتسليم، ولأمته المخلصة في عليين كتابها المرقوم، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الذي بعثه رحمة للمؤمنين، ينيلهم به الروح والنعيم، ويريهم رحيقها المختوم.

وكتابنا هذا - كتب الله تعالى لكم رأفة ورحمة، وسوغكم من اليمن والأمن أنعم نعمة، وجعلنا واياكم فيمن قدم لدار قراره ونعِمّه - من الحضرة العلية بتينملّل حرسها الله تعالى في سادس عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وقد وصلناها - والحمد لله - وجناح الرحمة منضوض، وطرف المكاره مغضوض، وفيض العدل والبذل منتشر مستفيض، وشأن الظلم - بإذن الله تعالى - مكفوف مقبوض، والحق أبلج لا كناية ولا تعريض.

وكان مقصودنا من هذه الوجهة المباركة زيارة قبر المكرم المهدي، رضى الله تعالى عنه، لتجديد عهد به تقادم، وشفاء شوق إليه لزم ولازم، والنظر في بناء مسجده المكرم تمتعاً ببركاته، ورجاء في تضاعف الأمر بكل لبنة من لبناته، وحرصاً على أن يتوافر به، حظ التوفيق وقسمه، ويعلو في الملأ الأعلى ذكره

ص: 552

ورسمه، ورغبة في رفع بيت من أفضل البيوت، التي أمر الله عز وجل أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، ولتنعم الجوارح، بمشاهدة هذه المشاهد المنعمة، والمواسم المعظمة، وتتزود بالتطوف على معاهد ما عهدته من العوارف المتممة، كل ذلك غرضاً في ذات الله تعالى غرضه، وأمر يستحب المرء إليه طلب ذلك الخير ويستنهضه.

وقد تم - بحمد الله تعالى - هذا الوطر، واقتضى الإياب إلى النظر في المصالح، والرأي الجميل النظر، وتفجرت - بحمد الله تعالى - منابع الخير وفاضت، وعادت روابض الأمر إلى أشرف حالاته وآضت، وانبعثت موارد البركات بعد ما غارت في غير هذا الزمن المذكور وفاضت، ونسأل الله تعالى عوناً على شكر هذه النعم التي عمت ملابسها، ووعت الأفئدة نفائسها، وخاب عن رحماها خاسر الكلمة وبائسها.

وان الله تعالى، قد قضى بأن يكون شرف صاحبه به وامتساكه، وبين العدل والجور حياة العالم وهلاكه، فالسعيد من لقي ربه مبرأ من اتباع الهوى سليماً، والشقي من أتى مليماً، باكتساب الكبائر ملوماً، " ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً "، والله سبحانه يهب الرحمة للمسترحمين، ويحب الرفق ويحل به كنفه الأمين، وفي الحض على ذلك يقول وهو أصدق القائلين " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " وبرحمته سبحانه بسط لعباده النعماء، وبرأفته كشف عنهم العماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يرحم الله من عباده الرحماء.

وقد اتصل بنا - وفقكم الله تعالى - أن من لا يتقي الله ولا يخشاه، ولا يراقبه في كبيرة يغشاها وتغشاه، ولا يؤمن بيوم الحساب فيما أذاعه من المنكر وأفشاه، يتسلطون بأهوائهم على الأموال والأبشار، وينتشرون بالقتل بأعراض الدنيا أقبح الانتشار، يستحلون حرمات المسلمين من غير حلها، ويسارعون إلى نقض عقد الشرع وحلها، ويصفون الشدة والغلظة بطراً ورياءً في غير محلها، ويبتدعون من وجوه المظالم ما تضعف شواهق الجبال عن حملها، ويستنبطون من فواحش الآثام ما تذهب نفوس المؤمنين لأجلها، ويتسببون إلى قتل المسلمين، فضلا عن استباحة أموالهم وأعراضهم بتلبسات يسيئونها، ومزورات يضيفونها إليهم وينسبونها، وينظرون إلى اهتضام حق الله تعالى فيهم بأباطيل

ص: 553

يعدونها ظلماً ويحسبونها، ويسعون في استئصال نفوسهم بكل قاطعة موجعة، ويعيثون فيهم بكل غاضبة للقلوب منتزعة، والنبي، صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم يقول:" من قتل عصفوراً بغير حق عبثاً، جاء يوم القيامة وله صراخ عند العرش يقول: يارب سل هذا فيم قتلني عبثاً من غير منفعة " ولا يلتفتون إلى عاقبته ولا ينظرون، ولا يحرون بآذانهم ما يفعل الله بأمثالهم ولا يخطرون " يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ".

هيهات هيهات، إنهم ساء ما كانوا يعملون، تالله ليأتينهم من العقاب الأليم في أقرب أمد ما يهدهم هداً، ويجعل بينهم وبن النجاة من اشتداد الهلكة سداً، ويتأصلهم بصواعق الانتقام فقد جاءوا شيئاً إداً. أما علموا أن الله تعالى يطلع على نجواهم، ويوقعهم في مهاوي بلواهم، ويلبسهم أردية سرائرهم فيما استهواهم الشيطان به. واستغواهم. أما علموا أن أمر المهدي رضى الله تعالى عنه تساوى في الحق به أضعف المسلمين وأقواهم، ألم يقل رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم:" المسلمون تنكفي دماؤهم ويسعى لذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ". لقد أمنوا مكر الله جرأة عليه وإقداماً، وأعمت الشهوات بصائرهم إذهاباً لنور الحق من نفوسهم وإعداماً، وتالله لو تعين لنا فاعل ذلك وتشخص، لما خرج من حياله مكروه ولا تخلص، ولسارع إليه من أسرع عقابنا ما يمحو رسمه محو الفنا، ويكتب يديه بما قدمتا من الخنا. ولقد ذكر لنا من تلك المظالم المستغرقة لأنواع المآثم، الموبقة لأهلها حين يقرع سن الندم النادم، أن أولياءك الخائضين في غمرات أبحرها، المثيرين لأسباب منكرها، الصارمين لعلق الشريعة، القاطعين لأبهرها، يمدون أيديهم إلى ضرب الناس بالسياط، إبلاغاً في الانتهاء بكثرتها وإمجاشاً، ويتسببون بذلك إلى أخذ أموال الناس إيغالا للصدور وإيحاشاً، وذلك أمر معاذ الله أن يرضى به مؤمن بالله، أو يتجه إليه حق بنوع من الاتجاه، ما أبعد العدل - أصلحكم الله تعالى - عن هذه الأمثال والأشباه.

وقد علمتم أن عادتنا فيما يستوجب الضرب أو يستحقه، ممن يظلم الأمر الشرعي أو يعقه بحدود معلومة، دون إفحاش ولا انتهاك، ومواقف مرسومة تقابل كلا بمقتضى جرمه من أثيم أو أفاك.

ولقد ذكر لنا في أمر المغارم والمكوس والقبالات، وتحجير المراسي وغيرها

ص: 554

ما رأينا أنه أعظم الكبائر جرماً وإفكاً، وأدناها إلى من تولاها دماراً وهلكاً، وأكثرها في نفس الديانة عبثاً وفتكاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. هل قام هذا الأمر العالي، إلا لقطع أسباب الظلم وعلقه، وسد سبيل الحق وطرقه، وإجراء العدل إلى غاية شأوه وطلقه. اللهم إنا نشهدك أن سبيلنا سبيلك، وإنا نستعيذك مما استعاذك منه محمد رسولك. روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أعوذ بالله من المغرم والمأثم " تنبيهاً على ما في أغرام الناس من الظلم المظلم. ولئن نقل إلينا - والله الشاهد - أن نوعاً من هذه الأنواع المحرمة أو صنفاً من تلك الأصناف المظلمة، يتولاه أحد هنالك من البشر أو يأمر بشىء من ذلك الفعل المستنكر، لنعاقبه بمحو أثره عقاباً يبقى [عظة] لمن اتعظ، وعبرة لمن تنبه لزاجر الحق واستيقظ.

وإن من ذلك الرأي الذميم والسعي المنقوم، ما ذكر لنا في أمر المسافرين، الذين يريدون الرجوع إلى أوطانهم وعمارتها، والطوائف المارة على البلاد لمعنى تجارتها، يتسبب إليه قوم من هؤلاء الظلمة الدخلاء، الذين يضعون الغش طي ما يوهمون به من النصيحة، ويستنبطون المكر في تصرفاتهم القبيحة، فيقولون للرجل منهم عندك من حقوق الله كيت وكيت، وإن للمخزن جميع ما به أتيت، ويقرنون بهذا من الوعيد والإغلاظ الشديد، ما يرضى له المذكور بالخروج عن جملة ماله، ويعتقد السلامة من ذلك الظالم الغاصب أعظم منالة، وإنها لداهية عاقرة، قاصمة للظهر فاقرة، ويا عجباً لكم معشر الطلبة والشيوخ وكافة الموحدين، فإنكم بذلك مطلوبون، وما حجتكم وما أنتم على حق، كيف تتكيف هذه الكبائر وأنتم للأمور هنالك رصد، أم كيف تجري هذه الظلمات وقد قام للحق أود، أم كيف تكون الدماء على هذه الصورة تسفك والحرمات تنتهك، ولا يمتعض لذلك منكم أحد، كلا ليعاقبنّ كل من جنى، وليظهرن ما قصد القاصد وما عنى، وإن من وراء قولنا لتتبعاً يبحث عن ذلك ويمحص، ونظراً يفرق بين المشكل منه ويخلص.

ولا شك - والله أعلم - في أن أسباب تلك المنكرات، ودواعي تغير تلك الأحوال المتغيرات، قوم يتوسطون بينكم وبين الناس، ويقولون ما لا يفعلون ذهاباً الى التدليس عليكم والإلباس، ويجعلون النفير بالظلم والعدوان بدلا من العقل والقول الجميل والإيناس، وذلك لغيب المباشرة ومباينتها، وبعدكم عن

ص: 555

مشاهدة الأمور ومعاينتهما، والتحجب عن مطالعة الأمور داعية كبرى لفسادها واختلالها، وسبب قوي في اننقاضها وانحلالها، وفرصة لوسائط السوء بانهماكها في البواطل واسترسالها، فلا تكلوا النظر فيها إلى أحد سواكم، ولا تبعدوا بغلظ الحجاب عما قصدكم من الخير ونواكم، وباشروا الأحكام هنالك مباشرة المتعهد المتفقد، وعليكم بالتواضع لأمر الله تعالى وترك الاستعلاء المنتقد، وتحفظوا في جانب المسلمين من كل خفيف المقال، كثير الاضطراب في الباطل والانتقال، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وتثبتوا وفقكم الله تعالى في الأحكام، التي لا بد لكم من النظر فيها تثبت الحث [البحث]، عن حقائق الأمور والاستقصاء، وتعهدوا الناس بالتحذير من اللدد في الخصام وبالغوا في الإيصاء.

ولا تظنوا أن الاجتهاد في الأمور يؤدي إلى الهجوم عليها والاقتحام، ويخرج النظر عن التثبت في القضايا والأحكام، فاذهبوا فيها مذهباً وسطاً، واقصدوا الاعتدال مقصداً مقسطاً، ولا تجتهدوا في شىء لا تعلمون فيه حكماً، وشاورونا فيما يخفي عنكم وجهه، لنرسم لكم فيه رسماً، فليس كل مجتهد مصيباً برأيه، ولا كل هاجم على رأى منجحاً في سعيه، وبين طرفي الأحوال واسطة جميلة فيها معقد السياسة ومناطها، وخير الأمور - قال عليه الصلاة والسلام أوساطها.

وعليكم أن تبحثوا بغاية جدكم عن أولئك المسببين لتلك القبائح، الساعين في صد ما يرضاه الله تعالى من المصالح، وتعرفونا بهم بعد تثقيفهم، لنشرد بهم من خلفهم، ونكف بعقابهم نوعهم الظالم وصنفهم، وقد استخرنا الله، في سد تلك الذريعة، وصد تلك الأفعال الشنيعة، فرأينا أن ترفعوا إلينا أحكام المذنبين للكبائر، وتعلمونا بنبأ كل من ترون أنه يستوجب القتل بفعله الخاسر، دون أن تقيموا الحد عليه، أو تبادروا بالعقاب إليه، ولا سبيل لكم إلى قتل أحد من كل من هو في بلاد الموحدين وأنظارهم، ومن هو منهم وداخل في مضمارهم، وكل من ترون أنه يستوجب القتل، ممن يريد المكر في أمر الله تعالى والختل، فعرفونا بجلية أمره وتصحيحه، وخاطبونا بميز أمره ومشروحه، لينفذ فيه من قبلنا ما يوجه الحق ويقتضيه، ونمضي في عقابه ما ينفذه الشرع ويمضيه، فإياكم من مخالفة أمرنا هذا في قتل أحد ممن ذكرنا كائناً من كان، كبر ذنبه عندكم أو هان، ولتبادروا

ص: 556

إلى أعلامنا بذنبه بعد سجنه وتثقيفه، لنقابله بما نراه، ونجري الحق في مجراه.

وأنه أعلمنا بأن من يرضي بتلك الفواحش بما يرضاه ويستبيحه، ولا يبالي أحسن الفعل فيه أم قبيحه، يبتاع المرأة ويبيعها دون استبراء، ويعبث في ذلك بكل إقدام على الله تعالى واجتراء، ولا يتحفظ من مواقعة الزنا المحض، ومخالفة الواجب مع الفرض، وأن في ذلك من اطراح ما أمر الله تعالى به من اتباع الشرع، وإفساد الأصل من السنة والفرع، ما لا يحل سماعه، ولا يستقر بنفس مؤمنة استطلاعه، فلا سبيل لأحد ممن هنالك أن يبتاع شيئاً منهن أو يبيع، حتى يستأذن الحاكم لأمره منكم والشيوخ، لئلا يذهب الحق في ذلك ويضيع، ولتقدموا للنظر في أسواقهن من ترضون دينه وأمانته، وتتحققون ثقته وصيانته، فمن أبيح له البيع والابتياع، أحضره الأمين المذكور ليرتفع بشهادته الشك والنزاع، وتجري السنة مجراها ويمتثل الأمر المطاع. وكذلك فليتوقفوا عن بيع النساء في جميع من تغنموه منهن في تلك الأرجاء، حتى تخاطبونا بأصل أمرهن وكيفيته، وتعلمونا من ذلك بجليته، لنرسم لكم فيه ما يكون عليه اعتمادكم، ويجري إليه اقتضاؤكم.

والله الله في البحث على الخمور، وتقديم النظر في أمرها، فهو من أهم الأمور، فإنها مفتاح الشرور، ورأس الكبائر والفجور، وهي رابطة أهل الجرم، وجامعة أشتات الظلم. قال النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم:" الخمر جماع الإثم " فجدوا في طلبها في المواطن المتهمة بشأنها، واجتهدوا في إراقتها وكسر دنانها، واعمدوا إلى السبب الذي يؤدي إلى التمكن منها، فارعوه، والحظوه، واطرحوا الإغفال لذلك والفظوه، وقدموا أمناء متخيرين للتطوف على مواضع الترتيب، يكون بالمحافظة على ذلك محل المكالىء الرقيب، ولا يكن منهم إلا من يفرق بين الحلال ويميز، ويعرف ما يجوز شربه، وما لا يجوز، ومروهم بالتعهد لمواضع بيع الرُّب واعتصاره، وخذوهم بتوقف جدهم على ذلك واقتصاره، فما حل منه أباحوه، وما كان غير ذلك قطعوه أصلا وفرعاً وأراقوه، (الحلال بيّن والحرام بيّن) ولقضايا الشرع نظام. قال رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم:" ما أسكر كثيره فالجرعة منه حرام ".

وإن من يسعى في نوع من أنواع الفساد، ويستصحب الاضرار بالمسلمين في الإصدار والإيراد، هؤلاء الراقصين الذين يردون بالكتب ويصدرون، ويمشون فيما بيننا وبينكم وينفرون، فإنه ذكر لنا أنهم يأخذون الناس بالنظر في كلفهم،

ص: 557

ويلزمونهم في زادهم من كل موضع وعلفهم، وهذا فعل كل فرقة منهم في سيرها، وسوء رأيهم بذلك في المخازن وغيرها، وأن من جملة ما حكى عنهم أنهم يتألفون في الطرق جموعاً، ويحلون بأفنية الناس حلولا شنيعاً، يكلفونهم مؤناتهم تكليف المجرم، ويتحكمون عليهم بحكم المغرم، حتى أنهم لا يرضون في ضيافاتهم إلا بأسمن الجزر، وناهيكم بهذا الاجتراء العظيم الضرر، فسارعوا وفقكم الله تعالى، إلى حسم هذه العلة من أصلها، وبادروا إلى قطع تلك العادة الذميمة وفصلها، وتخيروا لرسائلكم إرسالا، وانتقوا من أهل المقدرة على ذلك والثقة رجالا، وادفعوا إليهم زاداً يقوم بهم في المجىء والانصراف، ويقطع شأنهم من التكليف والإلحاف، وارسموا لهم أياماً معروفة العدد، معلومة الأمد، لينتهوا بها، إلى مواقف رسائلهم، ويوزعوها على مسافات مراحلهم، وحذروهم من تكليف أحد من الناس ولو مثقال ذرة، وأوعدوا من تسبب منهم إلى مسلم بمساءة أو مضرة، والله تعالى المستعان على دفع أسباب الجور، ونستعيذ به سبحانه من الخور.

وكذلك ذكر لنا - وفقكم الله تعالى - من التحكم في الأموال، وقلة المبالاة بالتفريق بين الحرام منها والحلال، أن أولئك الذين ذكرت خدعهم، ووصفت غرضهم الذميم ومنزعهم، يفعلون في أموال الناس ما تقدم ذكره، وشرح فكره، وتمتد أيديهم إلى المخازن هناك، فيعيثون فيها، ويتحكمون، ويجرؤون في التعدي عليها ملء شأوهم وأنفسهم يظلمون، واتقوا الله تعالى فيها، فإنها أمواله المخزونة في أرضه، وبادروا إلى كف كل معتد وقبضه، ولا سبيل لكم أن تنفذوا منها قليلا ولا كثيراً، إلا بعد استئذاننا وتعريفنا بالدقيق والجليل مما هنالك، وهذا أمر منا لكم، ولكل من وقف على كتابنا هذا من الطلبة والشيوخ والموحدين كافة أمراً دائماً لازماً، سنته بالاستمرار مستظلة، وصحته بفضل الله لا تدخلها تعله.

وقد خاطبنا بمثل ما خاطبناكم به، جميع الطلبة الموحدين، وكافة البلاد التي هي بالدعوة المهدية معمورة، وبكلمة الإيمان مشرقة منيرة، فأمرنا بجميع فصول كتابنا هذا إليكم ولسواكم شامل، وفي كافة أقطار الموحدين نافذ عامل، فمن خالفه بوجه من وجوه الخلاف، فقد تبين عناده وساء في العاجل والآجل مآله ومعاده، ومن لم يمتثله، بواجب الامتثال، ويكف يده عما رسمناه في كافة الأحوال، فقد تعرض لأشد العقاب وأوحاه، واستقبل من ارتكاب النهي ما يصده الانتقام به عن سواه منحاه، فاستصحبوا حدنا هذا استصحاباً مؤيداً،

ص: 558

واتخذوه في كافة أحوالكم مستنداً ومعتمداً، وعلى كل من إلى نظركم من أهل تلك البلاد المنتظمة في سلك التوحيد، الآخذة بالمذهب الرشيد، عون الأمير - أيده الله تعالى - على بسط العدل وإفاضته على الكل، ورفع العبد المثقل، وكل أن يسلكوا في جميع تصرفاتهم سبيل الاستقامة، ويستمروا على استعمال الحقائق والمواصلة لذلك والاستدامة، ويتجافوا عن مواقع الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وينقادوا للواجبات بداراً إليها وإسراعاً، ويكونوا في التساعد على الصلاح كالنفس الواحدة تألفاً واجتماعاً.

ولما كان هذا الأمر عندنا - وفقكم الله تعالى - أهم أمر وأوجبه، وأحق ما أدناه الحق وقر به، وكان اهتمامنا به، قد جعله على كل حالة مقدماً، وأنفذه بأمر الله تعالى إنفاذاً ملتزماً، رأينا أن نجعل في كتابنا هذا علامة بخط يدنا، وها هي قد رفعت الإشكال رفعاً بيناً، وأرتكم فرط اهتبالنا حقاً مبيناً، فبادروا إلى تلقيها بالامتثال والمسارعة، وصلوا ابتدار شأنها بالمواصلة والمتابعة، وأحضروا للاجتماع على هذا الكتاب جميع من في تلكم البلاد من الطلبة والعمال وكافة المقدمين للأعمال، ولا تقدموا أمراً من الأمور على إنفاذ جميع ما تضمنه، والاعتمال بكل ما شرحه وبينه، ولا تشتغلوا بشغل قبل الاشتغال بمعانيه، وبما أمركم به على قواعده ومبانيه، ومخاطبتنا بما يكون منكم في تلقيه، واتباع ما ينهيه إليكم ويلقيه، واقرأوه على الكافة أعالى المنابر، واستحضروا له وفود القبائل من البوادي والحواضر، وأسمعوا به افصاحاً وإعلاناً، وأشربوه قلوب الناس جماعات ووحداناً، وأحسنوا إيصال أغراضه إليهم، فإن الله تعالى يجزي الإحسان إحساناً.

فإذا تفرغتم من قراءته على الجماهير وبلغتم صحته بواجب التبليغ والتقرير، فاكتبوا منه نسخاً إلى كل قبيلة من قبائل ذلك النظر، وكل كورة من تلك الكور، وأكدوا عليهم فيما أكدنا عليكم فيه من تقديم العمل فيه على كل الوجوه، وامتثال مغنمه، على ما يحبه الله تعالى ويرتضيه، وحذروهم من التعرض لمخالفته، فلا عذر لمن لا يقصده على الفور ويأتيه، ونحن بمرصد التطلع والتسمع لما يكون منكم ومنهم، لنقابل بالواجب ما يصدر عنكم وعنهم.

وقد علم الله تعالى أن غرضنا بجميع المسلمين إشفاق وحنان، وجانبنا لهم دعة مستمرة وأمان، ولدينا من التراؤف بهم والرفق بجانبهم، شأن لا يفارقه من فضل الله تعالى شأن، وقد علمتم ذلك منا واختبرتموه، وجربتموه على مر الزمان

ص: 559

وصبرتموه، فلتتلقوا كل من استرعاكم الله تعالى أمره بكل طلاقة ويسر، ولتنشروا عليهم جناح الرحمة أكمل نشر، ولتعلموا - رعاكم الله - ان من شملته كلمة التوحيد، في العهد القريب أو البعيد، في مضمار واحد من العدل محمولون، وأنكم عن كل من هنالك مسئولون، ولفظ الموحدين بيننا وبينهم جميعاً، والحق يسلك بينهم من التناصف مسلكاً مشروعاً، وقد ألفت الكلمة العلية بينهم، فبعضهم لبعض في الخير أسوة، وقد قال الله تعالى " إنما المؤمنون إخوة " فاعتقدوا فيهم هذا الاعتقاد الجميل، قصداً إلى مرضاة الله تعالى وإيقاناً، وكونوا عباد الله إخواناً، وحسنوا بهم - رعاكم الله - ظناً، وعودوهم الخبر لفظاً ومعنى، وتخلقوا معهم بمحاسن الأخلاق، وقولوا للناس حسناً، واستألفوا الناس بالتي هي أحسن، وابذلوا لهم من المساعدة في ذات الله تعالى غاية ما يتمكن، وانهجوا لهم من المبرات منهجاً يبدو به مضمركم الجميل ويتبين، وسروا بصالح عملكم وبشروا ويسروا - كما قال عليه الصلاة والسلام ولا تعسروا وسكِّنوا، ولا تُنفِّروا.

واعلموا أن السعي في هذا الغرض واجب، والاعتمال في رفع ذلك المانع الحاجب، لا يتأتى لكم جملة واحدة، حتى تكون نفوسكم متآلفة عليه متساعدة، ْوتعاونوا على مرضاة الله تعالى تعاوناً يجمع في الصلاح آراؤكم، ويضمن التجمع التام لكم ولمن وراءكم، فعليكم بالمظافرة، والمناصرة والمؤازرة، فهي سواعد السعد وقواعد الود، وشيم الكرام المحافظين للعهد، وبها يعمر محل الرضا ونديه، وبه أوصى الله تعالى ورسوله ومهديه.

وقد نصحنا لكم فاقبلوها نصيحة، قصدت في ذات الله تعالى قصدها، وذكرنا لكم بهذه التذكرة، فاستقبلوها رشدها، ونبهناكم تنبيهاً بالغاً وللحال ما بعدها، جعلنا الله وإياكم ممن امتثل أمره المطاع بخالص نيته، وأفرغ الرحمة على قالب سجيته، وحفظ ما استرعاه الله تعالى، فكل راع مسئول عن رعيته.

وكان مما بعثنا - وفقكم الله تعالى - على تنبيهكم وإذكاركم، وإيقاظكم للنظر في تلك المصالح وإشعاركم، ما ألفيناه بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - من بعض تلك الأنواع، مما أحدثه فيها بعض أهل الابتداع، كنوع القبالة، وما يجري مجراها في وجوب الإزالة، والإحالة، فإنا كنا لا نبحث عن ذلك، لتخيلنا أنه لا يجرؤ أحد أن يسلك في هذا الأمر الذي أظهره الله تعالى تلك المسالك، فلما كان الحث

ص: 560

عما يجب، وأزال عن وجه المشاهدة ما كان يحتجب، طلعنا على ذلك فأنكرنا ما كان نكيراً، وأزلنا بعون الله تعالى ما كان محذوراً بالشرع محظوراً، حتى تطهر ثوب الأمن من دنسه، وتجلى الوجه الخالص عن ملتبسه، واقتبس نور الحق من مقتبسه، وجرت الأمور على ما عهدناها عليه من الاعتدال والقوام، بحكم ما أحكمه الإمام المهدي رضى الله تعالى عنه في القضايا والأحكام، وإذا كان الافتيات في شىء من هذا ونحن على اقتراب، فكيف الأمر فيمن هو في حكم بعد عنا واغتراب.

فانظروا هذا - وفقكم الله تعالى - نظرة أولي الألباب، ولتسعوا جهدكم في رفع ذلك العمل المستراب، ولتذهبوا إلى إظهار أمر الله سبحانه، على موجب الكتاب.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ص: 561

فهرست الموضوعات

مقدمة .............................................................. 3

بيان عن المصادر .................................................... 7

تمهيد: الأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية فى عصر المرابطين

والموحدين ........................................................ 25

الكتاب الأول

الدولة المرابطية فى أوج سلطانها

الفصل الأول: يوسف بن تاشفين. خواص إمارته ولامع خلاله ..... 36

الفصل الثانى: أمير المسلمين على بن يوسف وأحداث عصره ....... 57

الفصل الثالث: سقوط سرقسطة ................................. 86

الفصل الرابع: الصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين ....... 105

1 -

غزوة ألفونسو الكبرى للأندلس ........................... 105

2 -

التعتيب والأسوار ........................................ 114

3 -

موقعة القلاعة ............................................ 116

4 -

موقعة إفراغة ............................................. 120

5 -

خاتمة ملك بنى هود بالثغر الأعلى ......................... 126

الفصل الخامس: الأمير تاشفين بن على وغزواته وأعماله فى شبه الجزيرة 131

الفصل السادس: شرق الأندلس ............................... 148

الكتاب الثانى

المهدى محمد بن تومرت

والصراع بين المرابطين والموحدين

وقيام الدولة الموحدية بالمغرب

الفصل الأول: محمد بن تومرت، نشأته وظهوره ................ 156

الفصل الثانى: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الأولى. 177

ص: 562

الفصل الثالث: عقيدة المهدى ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية. 199

الفصل الرابع: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الثانية ..... 218

الفصل الخامس: نهاية الدولة المرابطية فى المغرب .................... 254

الفصل السادس: الدولة الموحدية فى سبيل التوطد .................. 268

الفصل السابع: فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية .............. 289

الكتاب الثالث

ثورة القوى الوطنية بالأندلس

وتغلب الموحدين على شبه الجزيرة

الفصل الأول: الثورة فى الأندلس وانهيار سلطان المرابطين .......... 304

الفصل الثانى: عبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة

وغرناطة وألمرية ................................................... 324

الفصل الثالث: الثورة فى شرقى الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش 353

الفصل الرابع: أعوام عبد المؤمن الأخيرة، وفاته وخلاله ............ 373

الكتاب الرابع

نظم الدولة المرابطية وخواص العهد المرابطى

الفصل الأول: طبيعة الحكم المرابطى وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية. 410

الفصل الثانى: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى -

القسم الأول ..................................................... 438

الفصل الثالث: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى -

القسم الثانى ...................................................... 455

الكتاب الخامس

الممالك الإسبانية النصرانية

خلال العصر المرابطى وأوائل العصر الموحدى

الفصل الأول: ألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة ............. 476

الفصل الثانى: الممالك الإسبانية النصرانية فى عصر القيصر ألفونسو

ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى ............................ 492

1 -

وفاة ألفونسو المحارب وولاية أخيه الراهب راميرو ........... 493

ص: 563

2 -

اتحاد أراجون وقطلونية .......................................... 499

3 -

غزوات القيصر ألفونسو ريمونديس وحروبه ...................... 502

4 -

أعوام القيصر الأخيرة ووفاته .................................... 511

5 -

قشتالة بعد وفاة ألفونسو ريمونديس .............................. 515

6 -

قيام جماعات الفرسان الدينية ..................................... 518

الفصل الثالث: قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز 521

وثائق مرابطية وموحدية

1 -

رسالة الإمام الغزالى إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين .......... 530

2 -

رسالة الوزير الكاتب ابن شرف إلى أمير المسلمين فى فتح أقليش .. 533

3 -

رسالة قاضى سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم

ابن يوسف حينما حاصرها ابن رذمير ................................. 538

4 -

رسالة كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير أبى محمد بن أبى بكر

بهزيمة القلعة ......................................................... 541

5 -

رسالة لأمير المسلمين إلى الفقيه القاضى وسائر الفقهاء والوزراء

والأعيان والكافة ببلنسية ............................................ 543

6 -

رسالة لأمير المسلمين إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير

إياهم فى القلاعة ..................................................... 544

7 -

رسالة وجهها أمير المسلمين على بن يوسف بتقريع قادته وجنده .. 545

8 -

رسالة لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى

أمير المسلمين على بن يوسف ......................................... 547

9 -

رسالة موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن على بن يوسف إلى

الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية ............................ 548

1 -

صيغة التوحيد التى وضعها المهدى لأتباعه ....................... 551

2 -

رسالة الخليفة عبد المؤمن بن على. أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر

وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله .................................... 552

ص: 564

فهرست الشعر والشعراء

رثاء يوسف بن تاشفين .... : ملك الملوك وما تركت لعامل ........... 54

أبو جعفر بن وضاح المرسى: شمرت برديك لما أسيل الموانى .......... 125

........................... : أما وبيض الهند عنك خصوم .......... 138

أبو بكر بن الصيرفى ....... : يا أيها الملأ الذى يتقنع ................ 139

المهدى ابن تومرت ........ : تكاملت فيك أوصاف خصصت بها .. 221

........................... : فتح تفتح أبواب السماء له .......... 271

أبو العباس التيفاشى ....... : ما هز عطفيه بين البيض والأسل ..... 296

أحمد بن قسىّ ............. : وما تدفع الأبطال بالوعظ عن حمى

330

ابن المنذر ................. : لئن غض منك الدهر يوماً بأزمة ..... 331

مروان بن عبد العزيز ...... : قل للإمام أطال الله مدته ............ 350

أبو جعفر بن عطية ........ : فعفواً أمير المؤمنين فمن لا ........... 351

ابن مردنيش .............. : أكر على الكتيبة لا أبالى ............. 368

أبو عبد الله بن حبوس .... : بلغ الزمان بكم ما أملا .............. 384

القرشى المعروف بالطليق .. : ما للعدى جنة أوقى من الهرب ...... 384

ابن غالب الرصافى ........ : لو جئت نار الهدى من جانب الطور. 384

أحمد بن سعيد ............ : تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر .... 385

الخليفة عبد المؤمن ........ : هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح ..... 403

أحمد بن سعيد ............ : من يشترى منى الحياة وطيبها ........ 452

.......................... : أتانى كتاب منك يحسده الدهر ...... 452

محمد بن عبد الرحمن الجراوى: رحلوا الركايب موهنا ............ 453

عبد الملك بن قزمان ...... : قدر الله وساق الخناس .............. 454

.......................... : وعريش قد قام على دكان .......... 454

أحمد بن حسن الجراوى

: وبين ضلوعى للصبابة لوعة ......... 465

أبو العباس بن العريف .... : سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم .... 466

ص: 565

ابن المنخل الشلبى ..... : تجاف عن الدنيا وعن برد ظلها ............. 467

أبو العباس بن الأقليشى: أسير الخطايا عند بابك واقف .............. 469

ابن السيد البطليوسى.: أخو العلم حى خالد بعد موته .............. 469

...................... : سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ........... 469

الفيلسوف ابن باجه .. : سلام وإلمام ووسمى مزنة ................... 471

...................... : ضربوا القباب على أقاصى روضة .......... 471

ابن أبى الصلت ....... : سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ............... 472

أبو العلاء بن زهر .... : يا راشقى بسهام ما لها غرض ............... 473

فهرست الخرائط والصور

الثغر الأعلى وما يليه - مواقع حروب المرابطين والنصارى ............ 91

خط سير الذهاب والعودة لغزوة ألفونسو المحارب للأندلس .......... 109

مواقع غزوات المرابطين التى قام بها على وتاشفين فى أراضى قشتالة

والبرتغال .......................................................... 137

المغرب - البلاد ومنازل القبائل عند بداية الدولة الموحدية ........... 181

أسوار مراكش وأبوابها فى عهد المرابطين ............................ 187

محراب جامع المهدى وإحدى واجهات الجامع ...................... 197

المغرب - موقع غزوة عبد المؤمن الكبرى .......................... 239

إفريقية - مواقع غزوات عبد المؤمن لافتتاح بجاية والمهدية .......... 283

جبل طارق وبر العدوة ........................................... 379

منظر جبل طارق من البر الإسبانى ................................. 383

بقايا الحصن الأندلسى أعلى الصخرة .............................. 383

الممالك الإسبانية النصرانية فى عهد القيصر ألفونسو ريمونديس ..... 503

ص: 566