الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامِسُ
نهاية الدولة المرابطية في المغرب
الدولة المرابطية في طور الاحتضار. ولاية الأمير أبى إسحاق إبراهيم والخلاف حولها. مسير عبد المؤمن إلى وجدة ودخولها في الطاعة. مسيره إلى أجرسيف واقتحامها. زحفه على فاس ونزوله بالمقرمدة. خروج المرابطين بقيادة الصحراوي، واشتباكهم مع الموحدين. مسير عبد المؤمن إلى وادي سبو ونزوله في عقبة البقر. احتلاله لجبل العرض. إرساله حملة لمحاصرة مكناسة. خروج المرابطين منها وفتكهم بالموحدين. مسير عبد المؤمن بنفسه إلى مكناسة. محاصرة الموحدين لفاس. قطعهم للنهر وإغراق مياهه للوادي. اتصال الجياني المشرف على المدينة بالموحدين. غدره بالصحراوي وفتحه باب المدينة. دخول الموحدين فاس وفرار الصحراوي. قدوم عبد المؤمن من مكناسة ودخوله فاس. قتله لأشياخ المرابطين وهدمه لأسوار المدينة. مسيره إلى مكناسة ثم إلى سلا. سقوط مكناسة في أيدي الموحدين. مسير عبد المؤمن إلى وادي أم الربيع وخضوع صنهاجة ودكالة. وفود ابن ميمون قائد الأسطول المرابطي ودخوله في الطاعة. وفود رسل أهل سبتة. مسير عبد المؤمن في قواته إلى مراكش. نزوله فوق جبل إيجليز. محاصرة الموحدين لمراكش. حالة المرابطين داخل المدينة. خروجهم لقتال الموحدين. هزيمة المرابطين وارتدادهم إلى الداخل. وفود أشياخ القبائل على عبد المؤمن. وفود الأندلس إليه. توحيد إسحاق بن ينتان. امتداد الحصار وصمود المدينة. استعمال الموحدين للسلالم واقتحامهم الأسوار. دخول الموحدين مراكش ومقاومة أهلها اليائسة. اقتحام القصبة والقبض على الأمير إبراهيم وآله وخاصته. استباحة الموحدين لمراكش، وقتلهم الذريع لأهلها. مقتل إبراهيم بن تاشفين وأمراء وأشياخ لمتونة. دخول عبد المؤمن المدينة ثم عوده إلى محلته. منع الدخول والخروج من المدينة. اعتبارها مدينة رجسة وتطهيرها وهدم جوامعها. جمع السبي والأسلاب، وصف مراكش في هذا العهد. دخول الموحدين قصبة تلمسان. وفود وفد إشبيلية على عبد المؤمن.
- 1 -
لم يكن ثمة شك، بعد أن انهار سلطان المرابطين، في المغرب الأوسط، وفي المغرب الشمالي، على هذا النحو الجارف، وبسط الموحدون الظافرون سلطانهم، على سائر القواعد الجنوبية، فيما خلا مراكش، وسائر الثغور الشمالية، فيما خلا الركن الشمالي الغربي - لم يكن ثمة شك في أن الدولة المرابطية، كانت تسير إلى نهايتها المحتومة بسرعة مذهلة.
وكان تبدد قوى الدولة المرابطية، واستنفاد مواردها، خلال هذه المعركة
الطويلة التي استمرت منذ قيام محمد بن تومرت المهدي، زهاء عشرين عاماً،
وتوالى الهزائم على الجيوش المرابطية، معركة بعد أخرى، وتمزق صفوفها، وفناء عديدها، وهبوط روحها المعنوي، من جراء هذا الإدبار المستمر - كان ذلك كله مما يؤذن بأنه مهما كانت المقاومة المريرة اليائسة، التي يمكن أن تبذل في المرحلة الأخيرة، من ذلك الصراع الرهيب، فإنها لن تغني شيئاً، ولن تحول دون وقوع الكارثة المرتقبة، التي أخذت طوالعها تبدو قوية في الأفق، ولاسيما بعد مصرع الأمير تاشفين بن علي، وتبدد جيوشه الضخمة على هذا النحو الشامل.
والواقع أن الدولة المرابطية لم تعد بعد هذه الضربة القاضية، سوى شبح هزيل. ففي مراكش، كان يمثل الفصل الأخير من مأساة الدولة المحتضرة، وذلك حينما بويع في مراكش، على أثر مصرع تاشفين، لولده الأمير أبى إسحاق إبراهيم، وكان أبوه قد ولاه ولاية عهده، منذ وفوده عليه في تلمسان في أواخر سنة 538 هـ حسبما تقدم، ثم وجهه إلى مراكش، وذلك قبيل وفاته بنحو شهر.
على أن هذه البيعة التي تمت في أدق الظروف التي كانت تواجهها الدولة المرابطية، لم تقع دون خلاف. فإن إسحاق بن علي عم الأمير إبراهيم، خرج عليه ودعا لنفسه بالإمارة، ووقع الجدل والتطاحن بين الفريقين داخل العاصمة المرابطية، وكان الموحدون في ذلك الوقت نفسه يقتربون من فاس، والوفود والحشود، تترى من كل صوب على عاهلهم عبد المؤمن، فتزيد جموعه، وتعزز قواه، ويصف لنا البيذق، مؤرخ الحملة ومرافقها، مسير عبد المؤمن، فيقول لنا إنه نزل على وجدات (وجدة) فأخذها، ووحد أهلها (1). هذا في حين أن صاحب البيان المغرب يذكر لنا أن الموحدين استولوا على وجدة قبل ذلك بعامين (538 هـ)(2). وسار عبد المؤمن بعد ذلك إلى أجرسيف، وهي تقع في منتصف المسافة بين تلمسان وفاس، فنزل عليها، ولقي الموحدون بعض المقاومة من بعض زعماء تلك الناحية، فجرد عليهم عبد المؤمن بعض قواته، فمزقت جموعهم وقتلتهم، ودخل أجرسيف، ثم غادرها إلى فاس، ونزل بالمقرمدة التي تقع على مقربة من جنوب شرقي فاس، وكان يحيى بن أبي بكر الصحراوي، قد قدم
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 98.
(2)
البيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر (هسبيرس ص 108).
إليها في جموعه من تلمسان كما تقدم، وأخذ ينظم خطط الدفاع عنها. وكان عبد المؤمن يتوق إلى الوقوف على مدى استعداد المدينة للدفاع، ومبلغ القوى المدافعة عنها. ذلك أنه بالرغم من وفرة جموعه التي تتألف حسبما تقول الرواية، من ثمانين ساقة على عدد القبائل والوفود، كان يريد التحوط للمفاجآت، ويرمي إلى الاستيلاء على فاس، بأقل التضحيات الممكنة. فبعث ألفاً من المشاة نصفهم من صنهاجة، والنصف الآخر من هسكورة، بقيادة أبي بكر بن الجبر، فعبر بهم نهر سَبو، وصعد إلى جبل زالاغ الذي يشرف على فاس من الشمال، وأوقد الموحدون النيران ليلا فوق الجبل، فلما رأى أهل فاس نيران الموحدين على مقربة من مدينتهم، اضطربوا وماجوا، وخرج الصحراوي في قواته لقتال الموحدين، وفي صباح الغد نشب القتال بين الفريقين، وقدر الموحدون قوة أعدائهم بنحو ألف وخمسمائة، ما بين لمتونة وأهل فاس، وفي العصر ارتد الصحراوي بقواته إلى داخل المدينة.
وفي الليلة التالية، عاد الموحدون إلى إيقاد النيران، ولكن الصحراوي لم يخرج إلى القتال في تلك المرة. وفي صباح اليوم التالي، سار عبد المؤمن في قواته إلى وادي نهر سبو، ونزل في موضع يسمى " عقبة البقر " فملأت حشوده السهل الوعر، هذا والصحراوي وأهل فاس، يشهدون هذه الجموع الجرارة من فوق الأسوار، فيملأهم منظرها رهبة وروعاً. وفي اليوم التالي، تحرك عبد المؤمن في قسم منتخب من جيشه، إلى موضع يعرف " بمنزل الحاج " وخرج الصحراوي في خيله إلى جبل العرض، الواقع في شمال غربي المدينة، يفصله عن الموحدين واد يسمى " بسد رواغ ". ولم يقع في ذلك اليوم قتال بين الفريقين. وارتد الموحدون إلى السهل الشاسع، وبقي عبد المؤمن في " منزل الحاج " على قدم الأهبة، في ثلاثة آلاف وخمسمائة من رجاله. وارتد الصحراوي بخيله ثانية إلى المدينة.
وفي صباح اليوم التالي، غادر عبد المؤمن في قواته السهل، واحتل جبل العرض، مشرفاً منه على المدينة. وقطع الموحدون الأشجار، وعملوا منها حول محلتهم حاجزاً من الخشب، ثم بنوا حائطاً من وراء الحاجز حماية لأنفسهم، ولدوابهم، واستعدوا لحصار طويل. وبعث عبد المؤمن قسماً من جيشه لمحاصرة مكناسة، الواقعة على قيد ستين كيلومتراً غربي فاس، وكان في مكناسة نحو
ثلاثة آلاف فارس من قوى لمتونة من الحشم والروم وغيرهم، هذا عدا من انضم إليهم من رجال القبائل القريبة الموالية. فخرجت هذه القوة من مكناسة بقيادة يدِّر بن ولجوط اللمتوني واستطاعت أن ترد الموحدين، وأن تثخن فيهم، وتفنى معظمهم، فعول عبد المؤمن عندئذ أن يسير بنفسه إلى مكناسة، وخرج ليلا في قسم منتخب من جيشه، وعهد بحصار فاس إلى أبى بكر بن الجبر، وأبى إبراهيم، وأبى حفص عمر بن يحيى الهنتاني. ولما وصل إلى مكناسة، ضرب حولها الحصار المرهق، ولبث ينتظر الحوادث.
واستمر حصار الموحدين لفاس زهاء سبعة أشهر أو تسعة حسبما يروي البيذق (1)، وفي داخلها يحيى بن أبى بكر بن علي الصحراوي في قواته، ومعه أهل فاس صامدون وراء الأسوار، يخرجون إلى قتال الموحدين من آن لآخر، ثم يعتصمون بمدينتهم. وأخيراً لجأ الموحدون إلى عملية استراتيجية بارعة. ذلك أنهم قطعوا مجرى النهر الذي يدخل إلى المدينة، وأقاموا عليه سداً منيعاً من الحطب والخشب والتراب، فسالت مياه النهر في الوادي، وتعالت حتى صارت بحراً تتلاطم أمواجه، وانهارت بعض أقسام السور من ضغط الماء المتزايد، وسقط معها باب السلسلة (2). فبادر الصحراوي وجموعه إلى إصلاح ما تهدم من السور، واجتمع المدافعون فوق الأسوار، ونشبت بينهم وبين الموحدين معارك عديدة.
وقد كان حرياً أن يطول حصار فاس، لولا أن عجل بنهايته ما حدث داخل المدينة ذاتها. ذلك أنه حدث بين يحيى بن علي، وبين أبى محمد عبد الله بن خيّار الجياني المشرف على المدينة، خلاف من جراء اشتداد يحيى في مطالبة الجياني بالأموال، بطريقة أرهقته، وحملته على أن يتصل سراً بقائد الموحدين أبى بكر ابن الجبر، وأن يعده بفتح أبواب المدينة، وكانت لديه مفاتيحها. وساعدت الظروف الجياني على تحقيق مشروعه. ذلك أن يحيى الصحراوي، أعرس بامرأة من قومه. فبعث إليه الجياني بهدايا جليلة من الطعام والشراب، وشغل الصحراوي في تلك الليلة بعرسه وطعامه وشرابه (3). وفي صباح اليوم التالي، أوفى الجياني
(1) أخبار المهدي ابن تومرت سنة 102.
(2)
روض القرطاس ص 123.
(3)
الحلة السيراء في القسم الذي نشره المستشرق ميللر، ضمن مجموعة بعنوان:( Beitrage zur Geschichte des Westlichen Araber) ص 315 - 318.
بوعده، وفتح " باب الفتوح "، فتدفق منه الموحدون إلى داخل المدينة، وخرج الجياني فانضم إليهم. ولما شعر الصحراوي بوقوع الكارثة، بادر بالفرار مع نفر من صحبه، واخترق الوادي دون أن يلوى على شىء، حتى وصل إلى طنجة. وكان دخول الموحدين مدينة فاس، حسبما يروى ابن صاحب الصلاة، في صباح اليوم الثاني عشر من شهر ذي القعدة سنة 540 هـ (26 أبريل سنة 1146 م)(1).
وظاهر مما يرويه البيذق وابن عذارى، أن عبد المؤمن لم يكن حاضراً، وقت دخول الموحدين فاس، وأنه كان عندئذ على حصار مكناسة (2)، وهذا ما يقرره ابن صاحب الصلاة وابن خلدون بطريقة واضحة (3). ولكن صاحب الحلل الموشية من جهة أخرى، يذكر أن الجياني اتصل بعبد المؤمن ذاته، وأدخله المدينة من باب الفتوح (4). بيد أنه من الواضح أن الرواية الأولى، وهي التي يؤيدها البيذق مرافق الحملة، وابن صاحب الصلاة مؤرخ الموحدين، هي الرواية الراجحة. ولما علم عبد المؤمن، وهو بمكناسة، بسقوط فاس، قدم إليها بسرعة ودخلها، وولي عليها أبا إسحاق بن جامع (5) ومشرفها الجياني، وأمر بقتل كل من قبض عليهم من أشياخ المرابطين، إلا عمر بن ينتان وزير علي
ابن يوسف السابق، وهو الذي تعرض لحماية المهدي ابن تومرت، وصرف علي ابن يوسف عن إيذائه، حسبما تقدم في موضعه، وكان المهدي نفسه قد نهي عن قتله وقتل ذريته، فاكتفى عبد المؤمن باعتقاله (6).
وأمر عبد المؤمن بهدم أسوار فاس، فهدم معظمها، وصرح عبد المؤمن بأن الموحدين لا يحتاجون إلى أسوار، وإنما الأسوار هي سيوفهم، وبقيت فاس بلا أسوار عصراً، حتى قام بتشييدها من جديد، حفيده الخليفة
(1) البيان المغرب، القسم الثالث، ص 20.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 101، والبيان المغرب (القسم الثالث) ص 19.
(3)
البيان المغرب عن ابن صاحب الصلاة، القسم الثالث، ص 20، وابن خلدون ج 6 ص 232.
(4)
الحلل الموشية ص 101.
(5)
هذا ما ورد في البيان (القسم الثالث ص 20)، وابن خلدون ج 6 ص 232. ولكن البيذق يذكر لنا أن الذي ولي على فاس، هو أبو عبد الله محمد بن يحيى الكدميوي (أخبار المهدي ابن تومرت ص 102).
(6)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 102.
يعقوب المنصور، ثم ولده الناصر، وذلك في سنة 600 هـ (1203 م)(1).
ولم يمكث عبد المؤمن في فاس سوى أربعة أيام قام فيها بتنظيم شئون المدينة المفتوحة، ثم غادرها في جموع الموحدين إلى مكناسة، وهنالك عهد بمتابعة حصارها لقائده أبى زكريا بن يومور. ثم غادرها إلى سلا. وضيق الموحدون على مكناسة، وبنوا حولها سوراً، وحفروا أمامه خندقاً، وتركوا فيهما ثغرات لمهاجمة المدينة، ومقاتلة المدافعين عنها، فلم تلبث أن سقطت في أيديهم. وعين عبد المؤمن ابن يومور والياً لها. ويبدو من رواية البيذق أن عبد المؤمن حضر سقوط مكناسة. ثم يقول لنا إنه غادرها إلى تادلا، وهنالك ميز جنوده، وانضمت إليه هسكورة وصنهاجة، ثم سار في قواته إلى وادي أم الربيع، واخترقه شرقاً حتى ثغر أزمّور، وهنالك حملت إليه صنهاجة المؤن، واستدعى أشياخ دُكّالة جيرانهم في الجنوب، فوفدوا عليهم وأعلنوا خضوعهم الأول. ثم هبط بعد ذلك إلى مراكش (2).
هكذا يصف لنا البيذق مسير عبد المؤمن إلى مراكش. ولكن سائر الروايات الأخرى تجمع على أن عبد المؤمن، حينما غادر مكناسة، سار منها أولا إلى سلا، وافتتحها بعد مقاومة قصيرة، وذلك في اليوم السابع من شهر ذي الحجة سنة 540 هـ.
واستولى كذلك على قصبة الرِّباط التي كان قد بناها الأمير تاشفين، وعين والياً لسلا عبد الواحد الشرقي، وبعد أن مكث بها أربعة أيام غادرها إلى مراكش (3).
وكان عبد المؤمن حين وجوده تحت أسوار فاس (سنة 540 هـ)، قد وفد عليه قائد الأسطول الأندلسي المرابطي على بن عيسى بن ميمون، وقدم طاعته، ثم عاد إلى الأندلس، وأقام الخطبة للموحدين بجامع قادس، وهي مركز قيادة الأسطول في تلك المنطقة. ثم وفدت على عبد المؤمن خلال مسيره إلى سلا، رسل أهل سبتة يحملون إليه بيعتهم. فتقبلها منهم، وندب للولاية على سبتة يوسف بن مخلوف التينمللي من مشيخة هنتانه (4).
(1) روض القرطاس ص 133.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 102.
(3)
الحلل الموشية ص 102، والبيان المغرب القسم الثالث ص 20، وابن خلدون ج 2 ص 23.
(4)
البيان المغرب القسم الثالث ص 21، وابن خلدون ج 6 ص 232.
وكان عبد المؤمن قد بعث في نفس الوقت قبل مسيره إلى مراكش حملة بقيادة أبى حفص عمر بن يحيى الهنتاني لغزو قبائل برغواطة، النازلة على الشاطىء شمالي أزمّور وجنوبها، فاقتحم ديارهم، واستاق غنائمهم، ثم ارتد أدراجه، فالتقى بعبد المؤمن، وهو في طريقه إلى مراكش، فقسم الغنائم على الموحدين، ثم تابع سيره إلى العاصمة المرابطية.
ولما وصل جيش الموحدين إلى ظاهر مراكش، خرج إليه جمع كبير من طلائع لمتونة، فلما رأوا كثرة الموحدين، سرى إليهم الرعب وبادروا إلى الفرار نحو أسوار المدينة، فأدركهم الموحدون وقتلوا عدداً كبيراً منهم. وعلم عبد المؤمن كذلك أن قوات كبيرة من قبيلة لمطة، قد وفدت على المدينة نصرة للمدافعين عنها، فطاردهم الموحدون، وأثخنوا فيهم، وانتزعوا منهم آلافاً من الدواب وغيرها من الغنائم (1).
- 2 -
وكان نزول الموحدين على مراكش في فاتحة شهر المحرم سنة 541 هـ (13 يونيه سنة 1146 م). وفي الحال احتل عبد المؤمن بقواته جبل إيجليز الواقع غربها، وضرب فوقه قبته الحمراء، وبني الموحدون حولها محلة أو مدينة كبيرة يتوسطها مسجد وصومعة عالية، تشرف على مراكش، ونزلت فيها القبائل، كل قبيلة في الموضع الذي حدد لها (2). وكان إقامة هذه المدينة دليلا على ما كان يتوقعه الموحدون من طول المدافعة والحصار.
وضرب الموحدون الحصار حول العاصمة المرابطية. وكانت مراكش تموج بجموع المدافعين عنها، من بقايا الجيوش المرابطية الكبرى، من مختلف الحشود والقبائل. وكان منهم قوة من النصارى المرتزقة، هي بقية الحرس الملكي القديم.
بيد أن هذه الجموع الحاشدة، كانت تنقصها القيادة الحازمة، وكانت تعاني من هبوط قواها المعنوية، وكان على عرش مراكش في تلك الآونة الدقيقة، صبي حَدَث لم يجاوز السادسة عشرة من عمره، هو أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن علي.
وكان يقود هذه المعركة الأخيرة نفر من أشياخ لمتونة، مثل سير بن الحاج،
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 21 و 22، وابن خلدون ج 6 ص 232.
(2)
الحلل الموشية ص 102.
وإسحاق بن ينتان، ومحمد بن حواء، ومحمد بن يانجالا وغيرهم، وكان الشعور عاماً بأن مصير الدولة المرابطية أضحى أمراً مقضياً، وأنها لم تكن سوى معركة يأس، تمليها غريزة الاحتفاظ بالنفس، والتعلق بأوهى الاحتمالات والآمال.
وهكذا فإن الموحدين، ما كادت تستقر حشودهم حول العاصمة المرابطية، حتى اعتزم المرابطون أن يخرجوا لقتالهم. وخرجت قوة مرابطية قوامها نحو خمسة آلاف وخمسمائة فارس، وحشود لا تحصى من المشاة، يقودها إسحاق ابن ينتان، ومحمد بن حواء، ومحمد بن يانجالا، وسارت إلى محلة الموحدين.
ويقول لنا البيذق إن القتال الذي نشب بين الفريقين، استمر أربعة أيام. وفي اليوم الخامس، رتب عبد المؤمن من جنده عدداً من الكمائن المستورة، وخرج المرابطون إلى القتال كالعادة، فلقيهم الموحدون في حشود قليلة، واغتر المرابطون بتفوقهم، بيد أنه ما كاد يتعالى النهار، حتى خرجت الكمائن الموحدية من أماكنها، وحملت على المرابطين بشدة، فانهزموا في الحال، وارتدوا على أعقابهم نحو الأسوار، والقتل مثخن فيهم، حتى وصلوا إلى باب دُكّالة، أو باب الشريعة على قول البيذق، فقتل منهم عدد جم، واستولى الموحدون على نحو ثلاثة آلاف من خيلهم وامتنعت فلولهم بداخل المدينة (1).
وفي خلال ذلك كانت الوفود والحشود، تترى على جيش عبد المؤمن، ويفد عليه أشياخ القبائل وزعماؤها موحدين معلنين لطاعتهم. وكان ممن وفد عليه في تلك الفترة بعض زعماء الأندلس الثائرين على سلطان المرابطين، مثل أبى الغمر بن غرون الثائر بشريش، وابن حَمْدين الثائر بقرطبة. وأرسل عدد آخر من زعماء الأندلس الذين شعروا بانهيار سلطان المرابطين، كذلك رسلهم إلى عبد المؤمن (2). ولم تقع بعد هزيمة المرابطين الكبيرة في ظاهر باب دُكّالة، بين الفريقين معارك ذات شأن، اللهم إلا ما يقصه علينا البيذق، من خروج ابن ينتان لقتال الموحدين من آن لآخر. ثم ما وقع بعد ذلك من إرسال الموحدين زعيم بني ينتان الذي كان قد " وحّد " إليه أعني إلى إسحاق بن ينتان، وتقدم إسحاق بطاعته وتوحيده، وخروجه من المدينة مع أنصاره، وانضمامه إلى الموحدين (3).
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 102 و 103، والبيان المغرب (عن ابن صاحب الصلاة) القسم الثالث ص 22، والحلل الموشية ص 103.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 22.
(3)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 103.
واستطال حصار مراكش أكثر من تسعة أشهر، وشدد الموحدون في تطويق المدينة، وقطع علائقها مع الخارج، حتى أضحى من المتعذر، أن يدخلها داخل أو يخرج منها خارج. كل ذلك والمدينة صامدة في وجوه المحاصرين. والظاهر أن الموحدين لم يقوموا خلال تلك الفترة بهجمات شديدة على المدينة، وأنهم كانوا يكتفون بالمحاولات الجزئية. والظاهر أيضاً أنه لم تنجح كذلك، أية محاولة من هذه المحاولات، في اقتحام أية ناحية من المدينة، أو ثلم أية ناحية من الأسوار.
وفي خلال ذلك كان أهل المدينة يعانون ويلات الحصار، وتنضب الموارد والمؤن تباعاً، حتى نفدت الحبوب والمواد الغذائية، وفنيت الدواب، وخلت المخازن السلطانية من مخزونها، وتساقطت الألوف العديدة من الجوع. وتقدر الرواية عدد من هلك جوعاً من أهل مراكش في تلك المحنة بنيف ومائة وعشرين ألفاً، وعجز الجند عن الحركة والدفاع، وأضحت النهاية المحتومة على الأبواب. ولما شعر عبد المؤمن بأن الضيق بلغ ذروته بالمحصورين، وأن المدينة أصبحت عاجزة عن كل دفاع، اعتزم أن يضرب الضربة الأخيرة. وكان قد مضى على الحصار عندئذ تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وتختلف الرواية فيما اقترن بتلك الخطوة الأخيرة. ويقول لنا البيذق وهو من شهود الحصار، إن الخليفة أمر باستعمال السلالم لصعود الأسوار، وقسمها على القبائل، وأن الموحدين دخلوا المدينة على أثر ذلك. بيد أن صاحب الحلل الموشية يقدم لنا عن ابن اليسع الذي عاش قريباً من العصر، رواية أخرى مفادها أن جيش الروم أو النصارى المرتزقة الذين كانوا داخل المدينة، اتصلوا بعبد المؤمن واستأمنوه، فمنحهم الأمان، واتفقوا معه على أن يُدخلوه المدينة من " باب أغمات " الواقع في جنوبها الشرقي، وعندئذ أمر عبد المؤمن بعمل السلالم. وفي يوم السبت الثامن عشر من شوال سنة 541 هـ (24 مارس 1147 م) دفع الموحدون السلالم إلى الأسوار، وخُصت القبائل كل قبيلة بباب معين، وأقبل أهل مراكش يبذلون آخر محاولة للدفاع. وكانت بالطبع محاولة يائسة. فاقتحم الموحدون المدينة، ودخلوها من كل صوب، فدخلت هنتانة، وأهل تينملل من باب دُكّالة، في شمالها الغربي، ودخلت صنهاجة وعبيد المخزن من باب الدباغين في شرقها، ودخلت هسكورة مع القبائل الأخرى من باب يينتان. ولم يأت الظهر حتى استولى الموحدون على مراكش. ولجأ الأمير إبراهيم ابن تاشفين وجماعة من الخاصة والأعيان، إلى القصبة الداخلية المعروفة " بقصر
الحجر " وهي قلعة منيعة، فاستمر القتال حتى الزوال، وكثر القتل في المدافعين وأهل المدينة، واقتحم الموحدون القصبة، وقبضوا على الأمير إبراهيم ومن معه من الأمراء والكبراء، والأهل والولد، وأخذوهم إلى محلة عبد المؤمن، فوق تل إيجليز، لتقرير مصيرهم (1).
وهكذا اقتحم الموحدون مراكش، ودخلوها بالسيف على النحو الذي تصفه لنا الرواية المعاصرة، ويضيف مؤرخ معاصر آخر هو ابن الأشيري إلى ذلك قوله، إن أهل مراكش بعد هزيمة باب دكالة، أيقنوا بالهلاك، وأن المحلة الموحدية انتقلت إلى دار الفتح وسط البحيرة (أي البستان)، في صدر شوال سنة 541 هـ، فلم تزل هناك، وأمر المدينة في كل يوم يزداد ضعفاً، وأحوالها ترق، إلى أن كان يوم السبت السابع عشر من شوال، ففتحت مراكش ودخلها الموحدون (2).
بيد أن ابن خلدون يقدم إلينا رواية أخرى خلاصتها، أنه لما أجهد الحصار أهل مراكش، وفتك بهم الجوع، برزوا إلى قتال الموحدين، فوقعت عليهم الهزيمة، وتتبعهم الموحدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة. ومعنى ذلك أن مراكش سقطت على أثر معركة، نشبت خارج الأسوار، بين المرابطين والموحدين (3).
ويبدو من مختلف التفاصيل، أن مراكش لم تسقط في أيدي الموحدين إلا بعد دفاع مرير، بذل فيه المرابطون وأهل المدينة جهوداً رائعة، بالرغم مما كان يحيط بهم من الظروف الأليمة، وقتل فيه من المرابطين والمدنيين، حسبما يقول لنا ابن اليسع نيف وسبعون ألف رجل (4). ومن المواقف الرائعة الجديرة بالإعجاب، ما قصه علينا البيذق من أن فانّو بنت عمر بن يينتان، وهي فتاة بارعة الحسن، وافرة الجرأة، كانت تقاتل الموحدين أمام القصر (القصبة) في ثياب فارس.
وكان الموحدون، حسبما يقص علينا البيذق يتعجبون من قتالها، ومن شدة ما أعطاها الله من الشجاعة، ولم يعرفها الموحدون حتى قتلت وتبين أنها امرأة في ثياب رجل (5).
(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 103، والبيان المغرب القسم الثالث ص 33، والحلل الموشية ص 103 و 104. وراجع خريطة مراكش السابق نشرها في ص 187.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 23 و 24.
(3)
ابن خلدون ج 6 ص 232.
(4)
الحلل الموشية ص 104.
(5)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 103.
ولم يكتف الموحدون، بما أوقعوا من الفتك الذريع بالمرابطين وأهل المدينة، ولكنهم أعلنوا استباحة مراكش فيما يصفه ابن الخطيب " بالمحنة العظمى ". وذلك أنهم قرروا استباحة دماء كل من اشتملت عليه من الذكور البالغين. واستمر ْبها القتل الذريع ثلاثة أيام أخرى، ولم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره. وطورد اللمتونيون بالأخص أشد مطاردة، واستئصلوا أينما وجدوا. ثم أعلن عبد المؤمن بعد ذلك عفوه عن أهل المدينة المفتوحة. قال ابن الخطيب " فظهر من جميع الخلق بها، ما يناهز السبعين رجلا، وبيعوا بيع أسارى المشركين، هم وذراريهم، وعفي عنهم "(1). وقال صاحب البيان المغرب، إن مراكش أبيحت لقتل من وجد فيها من اللمتونيين مدى ثلاثة أيام، ثم عفا عنهم عبد المؤمن، واشتراهم من الموحدين، وأعتقهم وأطلقهم.
واستولى عبد المؤمن على ذخائر تاشفين وجميع أمراء لمتونة، مما لا يحيط به حصر ولا وصف ولا بيان.
ولم يكن مصير الأمير الصبي إبراهيم آخر ملوك الدولة المرابطية، وزملائه من أشياخ لمتونة، بأقل روعة. ذلك أنهم اقتيدوا حسبما قدمنا، إلى قبة عبد المؤمن فوق تل إيجليز. وكان إبراهيم قد قبض عليه مع الآخرين في القصبة. وقيل إنه وجد مختفياً في إحدى غرف القصر في كومة من الفحم (2). فلما أخذ إلى عبد المؤمن، أشفق عليه ورثا لمحنته وصغر سنه، ومال إلى العفو عنه والإبقاء عليه. ويقص علينا البيذق وهو شاهد عيان، أن الأمير الفتى كان يتضرع إلى عبد المؤمن، ويقول له يا أمير المؤمنين ما لي في الرأي شىء، فيقول له وصيفه طلحة " أصمت عنا، هل رأيت ملكاً يتضرع لملك مثله ". وفي رواية أخرى أن سير بن الحاج أحد أشياخ المرابطين، لما رأى تضرع إبراهيم لعبد المؤمن، تفل في وجهه وقال له " أترغب إلى أبيك ومشفق عليك، اصبر صبر الرجال ". وعلى أي حال فقد تأثر عبد المؤمن لضراعة الأمير الفتى، وقال لأبى الحسن بن واجّاج (وهو من أهل خمسين)، وكان قد قتل بيده عدة من أمراء وأشياخ لمتونة عقب إحضارهم إلى تل إيجليز " أترك هؤلاء الصبيان، ما الذي تعمل بهم "، فصاح به أبو الحسن " ارتد علينا عبد المؤمن، يريد أن يربي علينا فراخ السبوعة "، فغضب الخليفة، وغادر
(1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 192.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 23.
مكانه وتبعه الموحدون إلا أبا الحسن، والشيخ أبا حفص، فاقتاد أبو الحسن الأمير إبراهيم وقتله، ثم جذبوا طلحة، وصيفه ليقتلوه، فلما اقترب من أبى الحسن، استل خنجراً كان يحتفظ به، وطعن أبا الحسن فقتله، وقتله الموحدون على الأثر، ويضيف البيذق إلى ذلك أن أبا الحسن كان قد أوثق زهاء ألف رجل من أبناء دُكّالة ليقتلهم، فلما قُتل أطلق سراحهم، وعفى عنهم (1).
وهكذا زهق أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين، صبياً في السادسة عشر من عمره، بعد أن حكم حكمه الإسمي المنكود مدى عامين، وزهق ضحية بريئة للحوادث، دون أن يضطلع منها بشىء، أو يعقد أو يحل منها أمراً ذا خطر، وقد كان حرياً برجل عظيم مثل عبد المؤمن أن يحقن دم هذا الأمير الصغير، لو أنه استعمل الصرامة والحزم مع أولئك الأتباع الظمئين إلى الدماء. وبموت إبراهيم اختتم ثبت ملوك لمتونة، وانهار عرش بني يوسف ابن تاشفين، بعد أن لبث منذ تأسيس مراكش في سنة 462 هـ، ثمانين عاماً، ترفرف أعلامه الظافرة على أنحاء المغرب، وخمسين عاماً ترفرف فوق جنبات الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب والأندلس.
ويصف لنا البيذق بعد ذلك مصير أبى بكر بن تيزميت خادم علي بن يوسف، وكيف أمر الخليفة بقتله، لأنه هو الذي قبض على المهدي أيام وجوده بمراكش وحمله إلى السجن، وكيف غرر أبو بكر بالموحدين، وزعم أن لديه بمنزله آنية ملأى بالذهب، يريد أن يسلمها للموحدين، فبعث معه الخليفة باثني عشر رجلا ليتسلموا الذهب فأغلق الدار عليهم وقتلهم، وهم يشتغلون بالحفر بحثاً عن الآنية المزعومة، فأخذ إلى الخليفة وأمر به فقتل (2).
وكان عبد المؤمن قد دخل مراكش على أثر افتتاحها، ثم عاد منها في الحال إلى محلته، ورتب الأمناء على أبوابها. وبقيت مراكش بعد ذلك ثلاثة أيام لا يدخلها ولا يخرج منها أحد. ذلك أن الموحدين، كانوا يرون، في غلوائهم الدينية، أن مراكش هي مدينة المجسمين وأهل اللثام، الذين لعنهم المهدي، وأفتى بشركهم وتكفيرهم، فهي إذن مدينة نجسة، لا تصلح لنزول الموحدين الأطهار. وقال أشياخ الموحدين فوق ذلك إن المهدي امتنع عن سكنى مراكش،
(1) أخبار المهدي ابن تومرت سنة 104، والبيان المغرب القسم الثالث ص 24.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 105.
لتشريق مساجدها عن القبلة المستقيمة، والتشريق والتحريف، لغير المسلمين من اليهود وغيرهم. فأشار الفقهاء الموحدون عندئذ بتطهير المدينة، تمهيداً لسكناها، ونصحوا بهدم جوامعها القائمة، بسبب تشريقها وتحريفها عن القبلة. وهكذا هُدم جامع علي بن يوسف هدماً جزئياً، وهدمت الجوامع الأخرى. وتولى الأمناء جمع السبي والأسلاب من الحلي والسلاح والمتاع وغيرها، وحملت كلها إلى المخازن، وبيع النساء في اليوم الرابع، بعد أن تم تطهير المدينة وجمعت أسلابها على هذا النحو، ودخل عبد المؤمن مراكش، وقسم أرزاقها ودورها على الموحدين، فسكنوها بضع أسابيع (1).
ومما له مغزى بارز، ما يقصه علينا المراكشي، من أن عبد المؤمن حين دخوله مراكش، بحث عن قبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أشد البحث، فأخفاه الله عنه وستره، وكان ذلك حسبما يروي المؤرخ، دليلا على رعاية الله وعادته الحسنى مع الصالحين المصلحين (2).
ويقدم إلينا الإدريسي الذي تجول في أنحاء المغرب وقواعده في أواخر عهد المرابطين (حوالي سنة 530 هـ) وصفاً لمدينة مراكش عقب سقوطها في أيدي الموحدين، يقول فيه، إنها أي مراكش كانت دار إمارة لمتونة ومدار ملكهم، وكان بها قصور لكثير من الأمراء والقواد وخدام الدولة، وأزقتها واسعة، ورحابها فسيحة، ومبانيها سامية، وأسواقها مختلفة، وسلعها نافقة، وكان بها جامع بناه أميرها يوسف بن تاشفين، فلما كان في هذا الوقت، وتغلب عليها المصامدة، وصار الملك لهم، تركوا ذلك الجامع معطّلا مغلق الأبواب، ولا يرون الصلاة فيه، وبنوا لأنفسهم مسجداً جامعاً يصلون فيه، برهد أن نهبوا الأموال وسفكوا الدماء، وأباحوا الحُرم، كل ذلك بمذهب لهم يرون ذلك فيه حلالا. وشُرب أهل مراكش من الآبار، ومياهها كلها عذبة، وآبارهم قريبة معينة. وكان علي بن يوسف قد جلب إلى مراكش ماء من عين بينها وبين المدينة أميال، ولم يستتم ذلك،
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 105 و 106. والبيان المغرب القسم الثالث ص 25.
(2)
المعجب ص 113. ولو صحت رواية المراكشي، فإن المرجح هو أن يكون المرابطون، قد اصطلحوا على إخفاء قبر يوسف وتجهيله، حتى لا يخربه الموحدون، ويعتدوا على رفات البطل المرابطي. ولقد أرشدت في بعض زياراتي لمراكش إلى زاوية صغيرة، بها صبيان يقرأون، وقيل لي إن بها قبر يوسف بن تاشفين. ولكني لم أجد أي شاهد أو نقش أو دليل يحمل على الاعتقاد في صحة هذا القول.
فلما تغلب المصامدة على الملك، تمموا جلب ذلك الماء إلى داخل المدينة، وصنعوا به سقايات بقرب دار الحجر، وهي الحظيرة التي فيها القصر منفرداً متحيزاً بذاته، والمدينة بخارج هذا القصر، وطولها أشف من ميل، وعرضها قرب ذلك، وعلى ثلاثة أميال من مراكش نهر لها يسمى تانسيفت، وليس بالكبير لكنه دائم الجري (1).
وفي نفس الوقت الذي افتتحت فيه مراكش، دخل الموحدون قصبة تِلِمسان، وذلك في الخامس عشر من شوال سنة 541 هـ، أعني قبل سقوط مراكش بثلاثة أيام. ووفد على عبد المؤمن عندئذ من أشياخ الموحدين، يحيى بن إسحاق المسّوفي المعروف بأنجمار أمير تلمسان السابق، وكان قد دخل في طاعة الموحدين، فشمله عبد المؤمن برعايته، واحتُرمت داره وزوجته زينب بنت علي بن يوسف، وسائر أصحابه وأسرهم (2).
وحدث خلال وجود عبد المؤمن بمراكش أن قدم عليه من الأندلس وفد إشبيلية وعلى رأسه القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، بعد مقتل ولده عبد الله في حوادث إشبيلية، والخطيب أبو عمر بن الحجاج، وأبو بكر بن الجد الكاتب، وأبو الحسن الزهري، وأبو الحسن ابن صاحب الصلاة، وغيرهم من زعماء إشبيلية ووجوهها، فاستقبلهم عبد المؤمن، وألقى القاضي أبو بكر وبعض زملائه بين يديه خطباً بليغة، ورفعوا إليه بيعة أهل إشبيلية مكتوبة بخطوطهم، فاستحسن عبد المؤمن موقفهم، وقبل طاعتهم، وأغدق عليهم الجوائز والصلات، وكان ذلك في أوائل سنة 542 هـ. ولما عاد الوفد إلى الأندلس، توفي القاضي ابن العربي، خلال الطريق، ودفن بفاس في جمادى الآخرة من نفس السنة. وكان مقدم هذا الوفد البارز، وهو يمثل أعظم حواضر الأندلس، من الدلالات الواضحة، على تحول ولاء الأندلس بسرعة، إلى جانب الموحدين. وكان له أثره فيما بعد، في إيثار الموحدين لإشبيلية، واتخاذها حاضرة الأندلس في عهدهم (3).
(1) وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (المأخوذ من كتاب نزهة المشتاق) للإدريسي (طبعة دوزي) ص 68، 69.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث - ص 25.
(3)
الحلل الموشية ص 111 و 112، والزركشي في تاريخ الدولتين ص 6.