المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

‌الفصل الرابع

أعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

ابن مردنيش ينتزع جيان ويحاصر قرطبة. خديعته ومسيره إلى إشبيلية. إخفاقه وارتداده. غزو ابن همشك لأراضي قرطبة. هزيمة الموحدين ومقتل قائدهم. مسير ابن همشك إلى قرمونة وتغلبه عليها. الوزير ابن عبد السلام الكومي. سوء مسلكه وطغيانه. مصرعه. تكسير الإمبراطورية الموحدية. كتب عبد المؤمن بالفتح. اهتمامه بشئون الأندلس. مشروعه لتحصين جبل طارق وإنشاء مدينته. بناء المدينة ووصفها وفقاً لرواية ابن صاحب الصلاة. عبور عبد المؤمن إلى جبل طارق. الاحتفال بافتتاح المدينة. وفود الأعيان والكبراء. مدائح الشعراء. عبد المؤمن ينظم شئون الأندلس. عبوره إلى المغرب وعوده إلى مراكش. استرداد الموحدين لقرمونة. مهاجمة ابن همشك لغرناطة ودخوله إياها. محاصرته للموحدين بالقصبة. مقدم الأمداد الموحدية. موقعة مرج الرقاد. هزيمة الموحدين وفرارهم. عبد المؤمن يرسل جيشاً إلى الأندلس. مسير ابن مردنيش لإمداد ابن همشك. موقعة السبيكة. هزيمة ابن همشك وحلفائه النصارى. استرداد الموحدين لغرناطة. ارتداد ابن همشك وابن مردنيش. تحصين الموحدين لغرناطة. نقل قاعدة الحكم الموحدي إلى قرطبة. إصلاح قرطبة وتنظيم شئونها. استعداد عبد المؤمن للجهاد بالأندلس. زيارته لتينملل. مسيره إلى رباط الفتح. اجتماع الجيوش الموحدية. بحث خطة الغزو بالأندلس. مرض عبد المؤمن. تنحيته لولده محمد عن ولاية العهد واختياره لولده يوسف. وفاة عبد المؤمن. عقد البيعة لولده يوسف. تولى أخيه أبى حفص الوزارة. روايات أخرى عن تولية يوسف. عبقرية عبد المؤمن. إنشاؤه للدولة الموحدية الكبرى. إنشاؤه للخلافة الزمنية. عبد المؤمن أعظم خلفاء الغرب الإسلامي. قائد من أعظم قواد عصره. نظام حركة الجيوش الموحدية. تنظيم عبد المؤمن لطبقات الموحدين. تنظيمه للجيوش الموحدية. طوائف العرب وتقلبها. نظم الحكم والإدارة الموحدية حسبما وردت في رسالة لعبد المؤمن. حبه للعلم والعلماء. عنايته بأمر الطلبة وتدريبهم. علمه وأدبه. الجراوى الشاعر. صرامة عبد المؤمن الدينية. تشدده في معاملة النصارى واليهود. قسوته وسفكه للدماء. قواده وكتابه ووزراؤه وقضاته. سياسته في فرض الضرائب والجبايات. مسحه لبلاد المغرب. أولاده. صفة شخصه.

- 1 -

لما تم لعبد المؤمن فتح المهدية في العاشر من المحرم سنة 555 هـ، وإجلاء الفرنج الصقليين عن إفريقية، ثم القضاء عقب ذلك على طوائف العرب الذين تصدوا لمقاومته، كانت حوادث الأندلس، قد أخذت تشغل معظم تفكيره،

ص: 373

وكانت حوادث شرقي الأندلس بالأخص، قد تطورت خلال ذلك، بصورة تدعو إلى القلق. ذلك أنه في الوقت الذي كانت جيوش عبد المؤمن، تعسكر فيه تحت أسوار المهدية، كان زعيم الشرق محمد بن سعد بن مَرْدَنيش، قد خرج من مدينة مرسية، بجيش مختلط من قواته، ومن حلفائه القشتاليين، وسار إلى مدينة جيّان، فلم يبد واليها الموحدي محمد بن علي الكومي أية مقاومة، وسلمها إليه، وانضوى تحت لوائه، وهو ما تعتبره الرواية الموحدية خيانة منه، ونكثاً لبيعته للموحدين. ثم سار ابن مردنيش من جيان إلى قرطبة، ونازلها بشدة، وعاث في ربوعها، وأتلف زروعها، فخرج إليه واليها أبو زيد عبد الرحمن ابن يكيت (أو يخيت) في قواته، واشتبك معه في معركة شديدة، ثم ارتد إلى المدينة، وامتنع بها، فضرب ابن مردنيش الحصار حول قرطبة، ولبث يرقب فرصة الاستيلاء عليها، ولكن ابن يكيت، وقاضي المدينة أخيل ابن إدريس لجآ إلى حيلة أو خدعة حربية، فكتبا على لسان سيدراي بن وزير إلى ابن مردنيش كتاباً، وبعثا به إلى ابن مردنيش، على يد رسول متنكر في صفة زيات من أهل الشرق، وفيه يحث ابن وزير، ابن مردنيش، بأن يسرع بالإقلاع من قرطبة، والسير إلى إشبيلية لأنها دون دفاع. فآمن ابن مردنيش بالخدعة وبادر في الحال بالسير إلى إشبيلية، وسبقه من قرطبة جاسوس موحدي إلى إشبيلية، فأخطر ولاة الأمر بما حدث، واعتقد هؤلاء في صحة ما نسب إلى ابن وزير، فقبض عليه واعتقل. ووصل ابن مردنيش بقواته إلى إشبيلية، ونزل بظاهرها بموضع يعرف بألفونت، ونازلها ببعض قواته حتى وصل إلى باب قرمونة في شمالها الشرقي، وأقام أمامها ثلاثة أيام، وقد شاع الاضطراب في المدينة، وتوجس الناس شراً، وأبدى واليها السيد أبو يعقوب منتهى الحزم واليقظة في الدفاع عن المدينة، بمعاونة الأشياخ والطلبة والحفاظ الموحدين، ومعهم طائفة من جند الأندلس بقيادة أبى العلاء بن عزون صاحب شريش، وكان أشياخ إشبيلية وأعيانها يسهرون طول الليل فوق الأسوار، ويحرصون كل الحرص على ثقاف أبواب المدينة. واتخذ الموحدون داخل المدينة اجراءات صارمة، فقتلوا عدداً ممن لحقت بهم ريبة الغدر، واعتقلوا الكثير من الناس. وأدرك ابن مردنيش أمام ذلك كله، أنه قد خدع بما جاء في الخطاب المزور، وأن إشبيلية ليست بغية هينة، فغادرها وارتد على عقبيه، دون أن يفوز بطائل.

ص: 374

ووقعت هذه الأحداث التي نستقيها من رواية كاتب معاصر، وشاهد عيان، هو عبد الملك بن صاحب الصلاة، مؤرخ الدولة الموحدية (1)، في سنة 554 هـ (1159 م).

بيد أنه لم تمض بضعة أشهر أخرى حتى عاد ابن مردنيش إلى مهاجمة الموحدين، فبعث جيشاً (في أوائل سنة 555 هـ) تحت إمرة قائده وصهره إبراهيم بن هَمُشك، فسار إلى قرطبة واجتاح أراضيها، وانتسف زروعها، ونازلها وقتاً، ثم أقلع عنها، ورتب كمائنه على مقربة منها في قرية تسمى " أطابة "، فخرج الموحدون من قرطبة بقيادة واليها عبد الرحمن بن يكيت لاستطلاع الأحوال، فخرجت عليهم كمائن ابن همشك، وأثخنت فيهم، وقتل ابن يكيت فيمن قتل، وارتد الموحدون إلى المدينة فاعتصموا بها. وسار ابن همشك بعد ذلك في قواته إلى مدينة قَرْمونة، وهي حصن إشبيلية من الشمال الشرقي، فهاجمها، واستولى عليها بمعاونة زعيم من زعمائها يدعى عبد الله بن شراحيل وذلك في شهر ربيع الأول سنة 555 هـ (مارس 1160 م). وامتنع الموحدون الذين بها بقصبتها. ولما وقف السيد أبو يعقوب والي إشبيلية على ذلك، وكان على أهبة السفر لملاقاة والده الخليفة، بادر فأرسل عسكراً إلى قرمونة لإنجاد حاميتها، وانتظر حيناً يرقب الحوادث (2).

وفي خلال ذلك، وعقب إتمام فتح المهدية، وقع في المعسكر الموحدي حادث يتصل بصميم الشئون الموحدية الداخلية، وهو مصرع الوزير محمد ابن عبد السلام الكومي. ويبدو من أقوال ابن صاحب الصلاة، أن عبد المؤمن ندب هذا الوزير لخدمته في شهر شوال سنة 553 هـ، عند خروجه إلى غزو إفريقية وافتتاح المهدية (3). ولكنا قد رأينا مما تقدم، أن هذا الوزير قد لعب وفقاً لرواية ابن عذارى وابن الخطيب (4)، دوراً كبيراً في مصرع الوزير

(1) في كتابه " تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين، بأن جعلهم الله أئمة، وجعلهم الوارثين "، (السفر الثاني) وهو المخطوط الذي سبق التعريف به في بيان المصادر لوحة 2 أوب. وسوف يكون هذا المخطوط منذ الآن فصاعداً من أثمن مصادرنا. وراجع أيضاً البيان المغرب - القسم الثالث - ص 40.

(2)

تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط سالف الذكر لوحة (5 و 14)، والبيان المغرب القسم الثالث ص 43 و 45.

(3)

تاريخ المن بالإمامة - المخطوط السابق ذكره (لوحة 20 أ).

(4)

البيان المغرب - القسم الثالث - ص 35، والإحاطة (1956) ج 1 ص 273.

ص: 375

ابن عطية، وأنه في الوقت الذي كان فيه ابن عطية، يقوم بمهمته في الأندلس، كان ابن عبد السلام، يتولى الوزارة، ويتزعم خصوم ابن عطية، في مطاردته، وتدبير الوسائل الكفيلة بسحقه، وأنه لما عاد ابن عطية من الأندلس مسرعاً لمناهضة سعي خصومه، انتهى الأمر باعتقاله، ثم إعدامه مع أخيه وذلك في شهر صفر سنة 553 هـ. وإذن فمن المرجح أن يكون ابن عبد السلام، قد تولى الوزارة لعبد المؤمن قبل هذا التاريخ ببضعة أشهر. وعلى أي حال، فقد شاء القدر أن يلقي ابن عبد السلام نفس المصير الذي لقيه زميله ابن عطية. وذلك أنه لما خرج عبد المؤمن إلى غزوة المهدية، وعرج في طريقه على سلا، كان ابن عبد السلام في ركابه، فوجهه عبد المؤمن إلى الأندلس ليستطلع أحوالها بسرعة. فسار الوزير إلى إشبيلية، ثم إلى قرطبة وغرناطة، وتفقد أحوالها، وأبلغ إلى الأشياخ والطلبة ما كان لديه من الأوامر والتوجيهات ثم عاد إلى الخليفة، وكان ما يزال بمحلته في سلا، وأبلغه نتيجة مهمته. ثم تحرك عبد المؤمن إلى تلمسان، واستدعى معه واليها وهو ولده السيد أبو حفص، ثم سار إلى بجاية، واستدعى معه كذلك واليها، وهو ولده السيد أبو محمد عبد الله. وكان الوزير ابن عبد السلام، عندئذ في ذروة سلطانه ونفوذه يهيمن على سائر الشئون، ويراقب أحوال السادة أبناء الخليفة، وينقل أخبارهم إليه، وكان مما نقل إليه أنهم يشربون الخمر، ويعكفون على اللهو، ويأتون فعالا قبيحة، فتأثر الخليفة لذلك، وعهد إلى بعض أشياخ الموحدين بتحقيق هذا الأمر، فقاموا بالمهمة، وراقبوا السادة، وانتهوا إلى التحقق من بطلان التهم الموجهة إليهم، فأدرك عبد المؤمن عندئذ تحامل وزيره، وأسرها له. ولما حدث أثناء حصار المهدية من زحف الموحدين على قابس، كان ابن عبد السلام، على رأس الجيش المهاجم.

فلما افتتحها الموحدون، استاثر الوزير بجمع الأسلاب والغنائم والأموال، واحتجز

وأخفى منها ما شاء. وفي أثناء غيبته تكلم أشياخ الموحدين في حقه، وشكوا من استعلائه عليهم، ورغبوا إلى الخليفة أن يكون ابنه أبا حفص، هو صلة الوصل بينه وبينهم، فاستجاب الخليفة إلى رغبتهم. ولما تم فتح المهدية، وتمزيق طوائف العرب في إفريقية، ارتد عبد المؤمن في قواته إلى تلمسان ومعه وزيره ابن عبد السلام. وهناك ارتفعت الشكوى للخليفة من عمال ابن عبد السلام، وظلمهم، وتعديهم على الرعية، ومن قرابته كومية، وتجرئهم على سلب

ص: 376

الأموال، ومضاعفة الجباية، وغير ذلك من المظالم الفادحة بممالأة ابن عبد السلام، وتشجيعه، وحمايته، فأمر الخليفة بجمع المتظلمين وأشياخ الموحدين وطلبة الحضر والقاضي، لسماع أقوالهم، فأفاضوا في التظلم والشكوى، وكرروا اتهاماتهم، ونقلت أقوالهم إلى عبد المؤمن، فأبدى دهشته مما يحدث، ومن كثرة الأموال التي تجمع، وكونها لا تصل إليه، وقلة ما بيده منها، وعجزه عن أن يمد أجناده الموحدين بالعطاء المجزي، هذا مع أن لمتونة لم تكن تملك مثل إمبراطوريته الشاسعة، كانت بالنسبة لأجنادها أكثر بذلا وإنصافاً. وغادر الخليفة مجلسه مغضباً، وكان ابن عبد السلام حاضراً ذلك المجلس، فتوجس شراً، ولم يأت ظهر ذلك اليوم حتى تحققت مخاوفه، وقبض عليه في مجلسه، وسيق إلى المطبق. ولما غادر الخليفة تلمسان، أوعز بقتل ابن عبد السلام، فقدم إليه طعام مسموم توفي عقب تناوله، وكفّر بذلك عما أثم به في حق زميله الوزير ابن عطية، وكان ذلك فيما يرجح في أواسط سنة 555 هـ (1160 م)(1).

وكان من الأعمال البارزة التي قام بها عبد المؤمن، عقب افتتاح المهدية، وتوطد سلطانه في سائر نواحي إفريقية والمغرب، البدء بتكسير الإمبراطورية الموحدية أعني مسحها من برقة إلى السوس الأقصى، ومن شاطىء البحر المتوسط إلى مشارف الصحراء، على أن يسقط من التكسير الثلث في الجبال والوهاد والأنهار والسبخات والطرق، وما بقى يفرض عليه الخراج، وأن تلزم كل قبيلة بأداء قسطها من الزرع والوِرْق أي المال، وكان عبد المؤمن هو أول من قام بمثل هذا الإجراء من ملوك المغرب (2).

- 2 -

وهكذا شعر عبد المؤمن بعد افتتاح المهدية، واستكمال سيادة الموحدين على سائر نواحي إفريقية، أن الأندلس تتطلب مزيداً من عنايته واهتمامه. ولم ينس أن الحركة التي قام بها ابن مردنيش بالاستيلاء على جيان، وتهديد قرطبة وإشبيلية، قد تتفاقم وتقضي على سيادة الموحدين الفتية في شبه الجزيرة. ومن ثم فقد حزم أمره على أن يعبر البحر إلى الأندلس، لينظر في شئونها، ولينظم وسائل الدفاع عنها.

(1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط المشار إليه لوحة 22 أ، والبيان المغرب القسم الثالث - ص 43 و 44.

(2)

روض القرطاس ص 129.

ص: 377

وكان عبد المؤمن عقب افتتاح المهدية، قد أرسل إلى الأندلس كتبه بالفتح، وفي مقدمتها كتابه إلى ولده السيد أبى يعقوب والى إشبيلية، وفيه يشرح حوادث الفتح، وما وقع من إجلاء النصارى، وما قام به العرب، من ضروب التمرد والمقاومة، ثم يقرنه بقصيدة يوردها لنا ابن صاحب الصلاة ومما جاء فيها:

ولما قضينا بالمشارق أمرنا

وتم مراد الله في كل مطلب

وأشرقت الشمس المنيرة فوقنا

وأصبح وجه الجو غير محجب

وطهر هذا الصقع من كل كافر

وعاد به الإسلام بعد تغيب

وكسرت الصلبان في كل بيعة

ونادى منادي الحق في كل مرقب

أشرنا بأعناق المطي إليكم

فطار بها شأو السرور بمغرب

ووصل كتاب عبد المؤمن بالفتح إلى إشبيلية في صفر سنة 555، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، إن السيد أبا يعقوب أمر أن يكتبه الناس والطلبة، وأن يحفظوه، وأن يتلى من فوق المنابر، وأمر كذلك بقرع الطبول، وإقامة المآدب للأجناد والناس كافة، واستمر قرع الطبول، والإطعام ثلاثين يوماً، والبشر يعم أنحاء المدينة، والشعراء ينشدون قصائدهم بالتهنئة، في مختلف المناسبات والمواطن (1).

ولم يكدر صفو هذا البشر الشامل، سوى ما وقع في هذه الآونة بالذات من منازلة ابن همشك لقرطبة، ومصرع واليها ابن يكيت، ومحاصرة قصبة قرمونة، ومن ثم فقد كان رد السيد أبى يعقوب على كتاب الفتح، يتضمن شرحاً لهذه الحوادث، وتضرعاً إلى والده الخليفة، بأن يعجل بالإنجاد والغوث.

وكانت خطة عبد المؤمن لتنظيم شئون الأندلس وإتمام فتحها، وإذكاء حركة الجهاد بها، تتضمن فضلا عن مضاعفة البعوث العسكرية إلى شبه الجزيرة، تحصين قاعدة جبل طارق، وإنشاء مدينة كبرى بها. ومن حسن الحظ أننا نجد أدق شرح وأوفى تفصيل لهذا المشروع الضخم، في رواية بن صاحب الصلاة، وقد كان فضلا عن اطلاعه على الكتب والوثائق المتعلقة بذلك، شاهد عيان وثيق الصلة ببلاط الخليفة، وبالسيد أبى يعقوب والى إشبيلية، والسيد أبى سعيد والي غرناطة، وهما اللذان عنيا بتنفيذ المشروع. وبالرغم من أنه يقرن روايته في معظم

(1) كتاب المن بالامامة على المستضعفين - المخطوط السالف الذكر، لوحة 25.

ص: 378

خريطة:

جبل طارق والمضيق

الأحيان، بكثير من عبارات الدعاء والتبجيل والملق، التي تفصح عن طبيعة علائقه بالبلاط الموحدي، فإنه يقدم إلينا في نفس الوقت كثيراً من المعلومات والتفاصيل النفيسة، التي لا توجد في أي مصدر آخر.

أرسل السيد أبو يعقوب رسالة بطلب الإنجاد إلى والده الخليفة، وإشبيلية تسودها ريح التوجس والقلق، فسرعان ما وصل رد الخليفة من معسكره المظفر، على مقربة من قسنطينة، بتاريخ ربيع الأول سنة 555 هـ " يعرف فيه بصحيح الآيات، وما ثنى فيه من أعنة خيل الله لهذه الأصقاع، وحماية ذلك الجناب "، فاطمأن الموحدون لما وعد به الخليفة، من سريع العون وبالغه، واستبشروا بالنصر القريب، وقرىء كتاب الخليفة على المنابر، وساد البشر بين الناس.

ووصل في نفس الوقت كتاب آخر من الخليفة، مؤرخ في التاسع من ربيع الأول من نفس العام، ومتضمن " للأمر العزيز"، بإنشاء مدينة كبرى في جبل طارق، ذلك الجبل الذي يصفه ابن صاحب الصلاة " بالجبل الميمون القديم البركة، على جزيرة الأندلس السامق الشاهق، المفتتح منه دانيها وقاصيها، وطايعها وعاصيها "، ولتكون هذه المدينة منزلا للأمير عند إجازته بالعساكر، ومستقراً تتقدم منه " الرايات المظفرة، والأعلام المنشورة إلى بلاد الروم ". وكان الكتاب

ص: 379

يتضمن أمراً مشدداً من الخليفة إلى ولده السيد أبى سعيد عثمان والي غرناطة، بأن يسير بنفسه من غرناطة مع صحبه وبعض عسكره إلى جبل طارق، وأن يجتمع فيه بالطلبة الوافدين من إشبيلية، وبالشيخ أبى حفص عمر، وأبى إسحق برّاز ابن محمد، والحاج يعيش المالقي، والقائد عبد الله بن جيار، وأن يدرس الجميع خطط المدينة الجديدة، وأين يكون موقعها من الجبل. فصدع السيد أبو سعيد بأمر الخليفة ونهض في صحبه إلى جبل طارق، للعمل على تنفيذ الخطة المطلوبة، وطُلب في الكتاب إلى السيد أبى يعقوب والى إشبيلية أن يحشد جميع العمال البنائين والجيارين والنجارين والعرفاء، من جميع بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وأن يعجلوا بالسير إلى الجبل، لتنفيذ الأمر الكريم، فنهض السيد أبو يعقوب بما طلب إليه، وسار من إشبيلية العريف أحمد بن باسُه، ومعه حشد كبير من العمال من بنائين وغيرهم من مختلف الحرف إلى جبل طارق، ووصل إليه في نفس الوقت جمهرة من القواد والكتاب وأهل الحساب، لتنظيم النفقة على الأعمال المطلوبة، ورصدها، وتم ذلك كله في سرعة ونظام وحزم.

قال ابن صاحب الصلاة: " وابتدأوا البناء في الوضع الذي وقع الجميع عليه، والاتفاق من نواحيه، بسيف البحر، مما يلاصقه ويليه، وزادت الآمال بأهل الأندلس إلى ما تقدم إليهم من الأمل، وتحققوا اليمن والسعد والفتح في بنيان هذا الجبل، وكان من أشغال السيد الأعلى أبى يعقوب بإشبيلية في إزعاج الفعلة والرجال للبناء المذكور، وأحكم البناءون فيه بناء من القصور المشيدة والديار، واخترعوا في أسسها طيقاناً وحنايا، لتعتدل بها الأرض، مبنية بالحجر المنجور والجيار، بما هو عجيب في الآثار. . وهذا شريف البقعة كريم التربة، عظيم المنعة، باسق مع أعشار السماء، تكاد في المسامتة إلى الجوزاء، وكل ما استودع في أرضه من البطحة المنبسطة، من بعضه، مما زكى وفضل وجل، وأثمر عن قرب لغرسه وأكمل، واستقل من جميع الفواكه، كشجر التين والعنب والتفاح والكمثرى، والسفرجل والمشموم والاجاص والأترج والجوز وغير ذلك، على ضيق ضفته الممتدة كالجبل، المستمدة من الظل والوبل، وماؤه عذب زلال، مروق سلسال. وكان الحاج يعيش المهندس مدة إقامته للبناء على ما ذكرته فيه، فوضع في أعلاه رحى تطحن الأقوات بالريح، عاينها الثقات مدة البناء المذكور، فلما رجع إلى مراكش عند إكمال ما أمر به فسدت الرحى، لعدم الاهتبال بها،

ص: 380

واتصل بهذا العمل من بناء الدور القصور، بناء السور والباب المسمى بباب الفتوح في الفرجة التي كان يدخل منها إلى الجبل، بين البحر المحدق به من كلا جانبيه، فجاء فرداً في المعاقل التي لا يتمكن لطامع فيه طمع، ولا يخطر على خاطر ساكنه جزع، من بر ولا بحر " (1).

واستمر العمل شهوراً بهمة مضاعفة، والسيد أبو يعقوب والي إشبيلية، يشرف على تنفيذ أوامر الخليفة، دون هوادة ولا كلل، والمهندسون والعرفاء، والعمال من كل ضرب، يبذلون أقصى جهدهم في إتمام المشروع، حتى كمل على أحسن وجه، وتم بناء المدينة الجديدة في شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (ديسمبر سنة 1160 م) وابتنى بها جامع، وقصر للخليفة، ودور لأبنائه وحاشيته، وغُرست الحدائق على طولها حذاء البحر، وجُلب إليها الماء العذب، وجدد الحصن والأسوار القديمة، وعنى بتحصين الصخرة، أكمل عناية، وسمي الجبل بأمر الخليفة جبل الفتح أو مدينة الفتح، وكانت المراسلات أثناء ذلك تتردد بين السيد أبى يعقوب ووالده الخليفة، بتحديد موعد عبوره، واستعداداً للاحتفال بهذا الحادث الجلل. وكان السيد أبو يعقوب يعتزم العبور إلى المغرب، وليعاين أثناء مسيره ما تم من الأعمال في جبل طارق، ولكنه ما كاد يركب السفينة التي أعدت بالنهر لعبوره، حتى وصلته أنباء استيلاء ابن همشك على قرمونة، وامتناع حاميتها الموحدية بالقصبة، فارتد من فوره إلى المدينة، وقد اضطربت بها الأحوال، ووجه فرقة من العسكر لإنجاد الحامية، ومقاتلة أهل قرمونة، وكان ذلك حسبما تقدم، في شهر ربيع الأول سنة 555 هـ (مارس سنة 1160 م)، وهو الشهر الذي وصلت فيه رسالة الخليفة بإنشاء مدينة جبل طارق.

- 3 -

وكان عبد المؤمن يرتقب إتمام المدينة الجديدة بجبل طارق، ليعبر إلى شبه الجزيرة، فلما كملت، وكان عندئذ في أحواز فاس، سار إلى سبتة في جموع ضخمة من الموحدين والعرب من بني رياح، وبني جشم، وبني عدى وغيرهم.

ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مناظر احتشاد الناس على الشاطىء لرؤية موكب الخليفة، وجيشه في ذلك اليوم المشهود، في قوله: " وبرز إليه يوم إجازته

(1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط السالف الذكر لوحة 13 و 14.

ص: 381

البحر من الناس، النظارة على سيف البحر عالم لا يحصيهم إلا خالقهم. وكان يوماً مذكوراً مشهوداً، ظهر فيه من فخامة الملك والأمر، ما لم يتقدم في سالف الأزمان، ولا تخيل مرآه في الأذهان ".

وكان عبور عبد المؤمن إلى شبه الجزيرة، ونزوله في جبل طارق، في شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (يناير سنة 1161 م). وكان في استقباله في الجبل، ولداه السيد أبو يعقوب والى إشبيلية، وقد غادرها مع وفد كبير من أشياخ الموحدين، ورؤساء الأندلس وقادتها وعلى رأسهم أبو العلاء بن عزون، وأعيان إشبيلية وشيوخها وقاضيها أبو بكر الغافقي، وكبير علمائها الحافظ أبو بكر ابن الجَدّ، وسائر من بها من الكبراء والشعراء؛ والسيد أبو سعيد والي غرناطة، مع من بها من أشياخ الموحدين والحفاظ، وأكابر غرناطة وعلماؤها، وكذلك أعيان قرطبة وعلماؤها، وأعيان غرب الأندلس وعلماؤها؛ وأعيان مالقة ورندة، وشريش، وعلى الجملة سائر أعيان الأندلس الموحدية وكبراؤها، وعلماؤها وأدباؤها وشعراؤها. وندب عبد المؤمن ولده ووزيره السيد أبا حفص لكي يتولى أمر الوفود، ويقودها إلى مجلسه للسلام وتجديد البيعة، فأدخلوا بترتيب معين، وأدوا التحية للخليفة الموحدي، وأكدوا له البيعة والطاعة، وكان القضاة يتقدمون الوفود. وتعاقب الخطباء بين يدي الخليفة، فخطب أبو الحسين ابن الإشبيلي وصاحبه أبو محمد بن جبل، وأبو محمد المالقي وغيرهم، وكانت خطبهم تدور كلها حول وجوب البيعة، وما يوجبه الشرع من العهود والرسوم، والوفاء بالطاعة لولي الأمر، ثم أذن لهم " بتقبيل اليد المباركة "(1).

وجاء بعد ذلك دور الشعر، فأمر عبد المؤمن باستدعاء الشعراء، ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك اليوم، إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم. وكان يوماً عظيماً من أيام الشعر والشعراء. وكان بين هذه الوفود الحاشدة، عدة من أقطاب الشعر بالمغرب والأندلس، ذكر لنا ابن صاحب الصلاة، وصاحب المعجب أسماءهم، فكان منهم شاعر المغرب أبو عبد الله محمد بن حبوس من أهل فاس، والوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرُّصافي، نزيل مالقة، وأحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، والقرشي القرطبي المعروف بالطليق، وأبو الحسن عبيد الله محمد بن صاحب الصلاة الباجي، وأبو بكر

(1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط - لوحة 15 و 16.

ص: 382

صورتي:

منظر جبل طارق من البر الإسباني (من الجزيرة الخضراء).

بقايا الحصن الأندلسي قائمة فوق سطح صخرة طارق.

ص: 383

ابن المنخل الشلبي، وابن سيد الإشيبلي المعروف باللص وغيرهم.

وكان أول من أنشد شعره بين يدي الخليفة، أبو عبد الله بن حبوس، وهو الذي يشبهه صاحب المعجب في طريقته بابن هانىء الأندلسي في تخير الألفاظ الرائعة، فأنشد قصيدة هذا مطلعها:

بلغ الزمان بكم ما أملا

وتعلمت أيامه أن تعدلا

وبحسبه ان كان شيئاً قابلا

وجد الهداية صورة فتشكلا

وأنشد القرشي المعروف بالطليق قصيدة مطلعها:

ما للعدي جنة أوقى من الهرب

كيف المفر وخيل الله في الطلب

لو بدلوا قد ما زلت بقادمه

لأصبح الكل طياراً من الرعب

وأنشد أبو الحسن عبيد الله بن صاحب الصلاة الباجي قصيدة هذا أولها:

تلألأ من نور الخلافة بارق

أضاءت به الآفاق والليل غاسق

وأشرقت الدنيا به فكأنها

من البشر في كل الجهات مشارق

بسعدك يبري السيف ما عز قطعه

وينفذ حد السهم ما هو راتق

ولا زال أمر الله للدين هادياً

وأنت لدين الكفر ماح وماحق

وأنشد الوزير الكاتب الشاعر أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي قصيدة طويلة في نيف وستين بيتاً هذا مطلعها:

لو جئت نار الهدى من جانب الطور

قبست ما شئت من علم ومن نور

من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها

ليلا لسارٍ ولم تثبت لمغرور

فيضية القدح من نور النبوة أو

نور الهداية تجلو ظلمة الزور

ومنها وصف مدينة الجبل:

يا دار دار أمير المؤمنين بسفـ

ـح الطود طود الهدى بوركت في الدور

ذات العمادين من عز ومملكة

على الأساسين من قدس وتطهير

ما كان يأتيك الواني الكرامة عن

قصر على مجمع البحرين مقصور

وفي وصف الجبل:

لله ما جبل المفتحين من جبل

معظم القدر في الأجيال مذكور

من شامخ القدر في سحنائه طلس

له من القيم جيب غير مزرور

ص: 384

معبراً بذراه عن ذري ملك

مستمطر الكف والأكناف ممطور

تمشي النجوم على أكليل مفرقه

في الجو حائمة مثل الدنانير (1)

بيد أنه قد ظهر في هذا اليوم، إلى جانب أكابر الشعراء، شاعر حَدَث، لم يبلغ العشرين من عمره، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، سليل بني سعيد أصحاب قلعة يحصب من أعمال غرناطة (2)، وكان قد حضر إلى جبل طارق مع أبيه وإخوته وقومه ضمن وفد غرناطة، ومثل بين يدي الخليفة ضمن الشعراء. ولما جاء دوره، أنشد قصيدة لفتت الأنظار بروعتها، وكانت فاتحة مجده الشعري، وقد نقل إلينا ابن الخطيب منها الأبيات الآتية:

تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر

وما لسواك اليوم نهي ولا أمر

ورُمْ كل ما قد شئته فهو كائن

وحاول فلا برٌّ يفوت ولا بحر

وحسبك هذا البحر فألاً فإنه

يقبِّل تُرْباً داسه جيشُك الغَمْر

وما صوته إلاّ سلام مردَّد

عليك وعن بِشْرٍ بقربك يفترُّ

بجيش لكي يلقي أمامك مَنْ غَدَا

يُعاند أمراً لا يقوم له أمر

أطلّ على أرض الجزيرة سعدُها

وجدّد فيها ذلك الخبَرَ الخُبرُ

فما طارقٌ إلا لذلك مُطرق

ولابن نُصير لم يكن ذلك النصر

هما مَهّداها لكي تَحُل بأرضها

كما حلّ عند التِّم بالهالة البدرُ

فوقعت هذه القصيدة من الخليفة أجمل موقع، وأثنى على ناظمها الفتى، وهنأ به والده عبد الملك. وحظى أبو جعفر هذا فيما بعد لدى السيد أبى سعيد والي غرناطة، فاستوزره حيناً إلى أن فسد ما بينهما، بسبب تنافسهما في حب الشاعرة الأندلسية الجميلة حفصة بنت الحاج الرّكوني، فقبض عليه، واتهم بالاشتراك في فتنة ابن مردنيش، وأعدم وذلك في سنة 559 هـ (3).

ولبث عبد المؤمن في جبل طارق زهاء شهرين، وسماه " جبل الفتح " حسبما تقدم، واستمرت إقامة الوفود والاحتفال بها، وغمرها بالضيافات وقضاء

(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في المعجب للمراكشي ص 119 - 122، وفي أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 266 - 268.

(2)

وهو أحد مؤلفي كتاب " المغرب " الشهير الذي تعاقب في تأليفه بنو سعيد، واختتم تصنيفه ابن أخيه موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد. وقلعة يحصب أو قلعة بني سعيد هي اليوم القرية المسماة القلعة الملكية Alcala la Real الواقعة شمال غرناطة.

(3)

ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 223 و 225 و 226.

ص: 385

الحوائج، عشرين يوماً، حتى ختام عيد الأضحى لسنة 555 هـ، وعندئذ أذن للوفود بالانصراف، فانصرف الناس إلى مواطنهم. وكان عبد المؤمن خلال ذلك يدرس شئون الأندلس مع الأشياخ والقادة، وينظر في المظالم ويقضي فيها، ويبذل لمختلف الوفود وعوده ببذل كل معونة لحماية الأندلس ومجاهدة أعدائها، وقد خصص لإنجادها بالفعل جيشاً مختلطاً من الموحدين والأندلسيين قوامه ثمانية عشر ألف فارس، وجعل على قيادة الموحدين ابن الشرقي وعلى قيادة الأندلسيين ابن صناديد (1)، وأعاد تعيين ولده السيد أبى يعقوب والياً لإشبيلية، وندب لمعاونته جماعة من أشياخ الموحدين ذوي المكانة والرأي، وولده السيد أبى سعيد والياً لغرناطة، وندب لولاية قرطبة الشيخ أبا حفص عمر اينتي، أو عمر ابن يحيى الهنتاني (2). ولما فرغ من تنظيم شئون الأندلس على هذا النحو، عبر البحر إلى سبتة، عائداً إلى المغرب، وذلك في فاتحة سنة 556 هـ (فبراير سنة 1161 م) وسار توًّا إلى حاضرته مراكش. وكانت هذه الفترة القصيرة التي قضاها عبد المؤمن في جبل طارق، أو جبل الفتح، من مواسم الأندلس وأيامها المشهودة، بما تخللها من روعة السلطان، وعظائم الأمور.

- 4 -

على أثر مغادرة الخليفة لجيل طارق، عائداً إلى المغرب، غادره السيد أبو سعيد إلى غرناطة، والسيد أبو يعقوب إلى إشبيلية.

وكان الموقف ما يزال في منطقة إشبيلية على خطورته، وأهل قَرْمونة على تمردهم بزعامة عبد الله بن شراحيل، ومحالفتهم لابن هَمْشك، ومحاصرتهم للحامية الموحدية بقصبتها، فجهز السيد أبو يعقوب لمحاربتهم حملة من الموحدين بقيادة الشيخ أبى محمد عبد الله بن أبى حفص بن علي. وسار الموحدون بقيادة ابن أبى حفص من قلعة جابر شمالا إلى قرمونة، ومعه أبو العلاء بن عزون في قوة من الجند الأندلسيين، وضربوا الحصار حول قرمونة. وكان ابراهيم ابن همشك، خلال ذلك قد غادر قرمونة إلى جيان ولم يعبأ بأمرها. وضيق الموحدون على قرمونة، وأرهقوها بالغارات المتوالية، حتى استطاعوا التفاهم سراً مع رجل من أهلها، على أن يفتح لهم باب البرج الأكبر، فتم ذلك، ودخل الموحدون

(1) الحلل الموشية ص 118، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 46.

(2)

المراكشي في المعجب ص 124.

ص: 386

قرمونة بغتة، وذلك في المحرم سنة 557 هـ (ديسمبر سنة 1161 م)(1)، وقُبض على عبد الله بن شراحيل، وأخذ مكبولا إلى إشبيلية مع نفر من أتباعه، وصلبوا هنالك في الميدان العام تحت قصر ابن عباد.

وهكذا عادت قرمونة إلى سلطان الموحدين بعد أن لبثت على خروجها نحو عامين منذ اقتحمها ابن همشك في ربيع الأول سنة 555 هـ.

وفي نفس الوقت وصل إلى إشبيلية، جيش موحدي جديد، بقيادة يوسف ابن سليمان، فاطمئنت الخواطر، وساد الهدوء في إشبيلية ومنطقة الغرب كلها، وسارت منه قوة تحمل العتاد والأقوات إلى قرطبة لشد أزرها، وتقوية وسائل دفاعها (2).

وكان ابراهيم بن همشك، حينما شعر بأن الجبهة الموحدية في إشبيلية وقرطبة، قد عززت، وأضحى من العسير مهاجمتها، قد اتجه وجهة أخرى ودبر خطة لمهاجمة غرناطة، وقد كانت أقرب إلى قواعده في جيان وهي التي عينه صهره ابن مردنيش لولايتها. ومن جهة أخرى فقد استطاع ابن همشك، أن يتفاهم سراً مع جماعة من يهود غرناطة، الذين أسلموا رغم إرادتهم، ومع حليفهم المسمى ابن دهري، وأن يتفق معهم على أن يسهلوا له دخول المدينة في ليلة معينة. وكانت غرناطة في الواقع دون دفاع قوي، وقد غادرها واليها السيد أبو سعيد إلى المغرب حسبما تقدم، ولم تبق بها سوى الحامية الموحدية. فسار إليها ابن همشك في بعض قواته، وفي ليلة من ليالي جمادى الأولى سنة 555 هـ، تمت الخيانة المدبرة، وكسر اليهود بإيعاز ابن دهري، باب الربض بغرناطة، وتنادوا بالصياح " يا للأصحاب "، فدخل ابن همشك وأصحابه المدينة، وفر أنصار الموحدين إلى القصبة، وكانت تموج بمن فيها من جند الموحدين. ولما رأى ابن همشك حصانة القصبة، وقوة الحامية الموحدية، بعث إلى صهره محمد بن سعد ابن مردنيش، وكان يومئذ بمرسية، يطلب إليه الإنجاد ويطمعه في أخذ غرناطة، فحشد ابن مردنيش قوة من جنده، وانضمت إليهم فرقة من الجند النصارى بقيادة ألبار ردريجس الأصلع أو الأقرع حسبما تسميه الرواية العربية، وهو حفيد القائد

(1) أخذنا في تاريخ استرداد قرمونة برواية صاحب البيان المغرب (القسم الثالث ص 46).

ويضع ابن صاحب الصلاة تاريخ أخذها في أوائل سنة 556 هـ، وهو لا يتفق مع منطق الحوادث حيث طال حصار قرمونة نحو عام.

(2)

ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة - المخطوط - (لوحة 24 أوب).

ص: 387

الشهير ألبارهانيس. وسار هذا الجيش إلى غرناطة لإمداد ابن همشك. وكان ابن همشك قد نزل بالقلعة الحمراء القائمة فوق تل السبيكة في مواجهة القصبة، وشرع في منازلتها، وضربها بالمجانيق. وكان ابن همشك جباراً قاسياً، فظاً غليظاً في حربه، فكان يعذب من يقع في يديه من الموحدين بأروع نكال، ويلقيهم في أفواه المجانيق، ويقذفهم من الشواهق، ويحرقهم بالنار، ولكن الموحدين صمدوا بالقصبة، وكانت لديهم مؤن وافرة، وبعثوا إلى الخليفة في طلب الإنجاد، وكذلك إلى الموحدين في إشبيلية. وكان الخليفة عبد المؤمن، قد خرج كعادته من مراكش إلى سلا، لتنظيم شئون الجهاد، فبلغته حوادث غرناطة، وهو في طريقه، فلما وصل إلى سلا بعث ولده السيد أبا سعيد فيمن معه على جناح السرعة، وعبر السيد البحر إلى مالقة، وبعث منها يستدعى الشيخ أبا محمد بن عبد الله ابن أبى حفص القائم على ولاية إشبيلية ليوافيه عند غرناطة، بجيش إشبيلية.

واجتمعت القوات الموحدية، في فحص غرناطة (1)، وتقدمت حتى الموضع المسمى " بمرج الرقاد " على قيد أربعة أميال من غرناطة (2)، وعندئذ خرج لقتالها ابن همشك في قواته وقوات مرسية من الأندلسيين والنصارى، وكانت تبلغ ألفي فارس. وليس في رواية ابن صاحب الصلاة ما يدل على أن ابن مردنيش قد اشترك في الموقعة التي تلت، ولكن ابن الخطيب يقول لنا إن ابن مردنيش قد مثل بنفسه في الموقعة، وكانت محلته قائمة فوق الربوة العالية المتصلة بربض البيّازين، وهي التي عرفت فيما بعد بكدية ابن مردنيش (3). واضطرم القتال في الحال بين الفريقين، وسرعان ما ظهر تفوق ابن همشك وحلفائه النصارى، فاختل نظام القوات الموحدية ودارت عليها الدائرة، وكثر القتل فيهم، وغرق منهم في سواقي المرج ومياهه عدد جم، وكان بين القتلى الشيخ أبو محمد عبد الله ابن أبى حفص والي إشبيلية، وعدة من أشياخ الموحدين، وأكابر الأندلسيين.

وفر السيد أبو سعيد في نفر من صحبه إلى مالقة. وكانت نكبة موحدية بالغة الخطورة. وارتد ابن همشك في قواته المظفرة إلى القلعة الحمراء، ومعه جملة من أسرى الموحدين أفحش في تعذيبهم، والتنكيل بهم، وإزهاقهم بمرأى

(1) وهو المرج أو مرج غرناطة الشهير La Vega.

(2)

كان هذا الإسم يطلق على موضع يقع على بضعة كيلومترات من قرية الطرف Atarfe في سفح جبل إلبيرة على مقربة من نهر شنيل ويطلق عليه اليوم اسم Majorrocal

(3)

الإحاطة ج 2 ص 89.

ص: 388

من إخوانهم المحصورين، وقد استمروا على حالهم من الاعتصام بالقصبة.

ووصلت أنباء هذه النكبة إلى عبد المؤمن، وهو ما يزال بسلا، وكانت الجيوش قد توافدت عليه في تلك الأثناء، فجهز جيشاً منتخباً من أنجاد الفرسان والجند، يضم زهاء عشرين ألف مقاتل، وجمهرة من أشياخ الموحدين (1) تحت إمرة ولده السيد أبى يعقوب يوسف، ومعه الشيخ أبو يعقوب يوسف ابن سليمان، زعيم أشياخ الموحدين، ومستشار عبد المؤمن الأثير في العظائم والخطوب، وهو الذي يصفه ابن الخطيب " بزعيم وقته وداهية زمانه ". وعبر هذا الجيش الموحدي البحر إلى الجزيرة الخضراء، ثم سار إلى مالقة حيث انضم إليه السيد أبو سعيد فيمن معه، وزود بالعلوفات والمؤن الكافية، وخرج الموحدون بعد ذلك من مالقة، وساروا إلى غرناطة. وكان ابن مردنيش قد وقف على تلك الأهبة الموحدية الضخمة، فسارت قواته، ومعه فرقة من حلفائه النصارى لإنجاد صهره ابن همشك، ونزل فوق الجبل المتصل بقصبة غرناطة على الضفة الأخرى لنهر حدرُّه، وبقي ابن همشك بقواته بالقصبة الحمراء فوق جبل السبيكة، ومعه حلفاؤه النصارى تحت إمرة قائدهم ألبار ردريجس الأصلع حفيد ألبارهانس، ومعه ابن كونت أورقلة (أرخل) وهم يبلغون نحو ثمانية آلاف مقاتل، وكان نهر حدرُّه يفصل بين محلة ابن همشك ومحلة صهره ابن مردنيش. واستمر الموحدون في سيرهم حتى وصلوا إلى قرية دلر على مقربة من غرناطة، ثم صعدوا إلى الجبل المطل على وادي شَنيل، قبالة جبل السبيكة والحمراء. وفي يوم الخميس السابع والعشرين من شهر رجب سنة 557 هـ (12 يوليه سنة 1162 م) جمع يوسف بن سليمان قائد الجيش الموحدي أشياخ الموحدين، وأشياخ الأجناد، من مختلف القبائل، ووعظهم وذكرهم بأن الجنة مثوى المجاهدين، وحثهم على التفاني في سبيل الله. وفي مساء هذا اليوم ركب الموحدون خيولهم، وساروا فوق الجبل وأمامهم المشاة والطلائع من المصامدة، وعلى ناصية ضفة شنيل المحاذية للسبيكة، وكانت ليلة منيرة صافية الأديم، وعند الفجر وصلوا إلى مقربة من محلات ابن همشك وحلفائه النصارى فوق جبل السبيكة، وفي الحال انقض الموحدون على أعدائهم على غرة، قبل أن يتم استعدادهم، بل وقبل أن يركب معظمهم خيولهم، واضطرمت بين الفريقين

(1) ابن الأثير ج 11 ص 106.

ص: 389

موقعة عنيفة هائلة، وأبلى الموحدون في قتال ابن همشك وحلفائه النصارى أعظم البلاء، وقتلوا منهم جموعاً غفيرة، ولم يأت الصباح، حتى مزق الوحدون أعداءهم تمزيقاً وشتتوا في كل ناحية، وقتل معظم قادتهم، وفي مقدمتهم ألبار ردريجس الأصلع وزميله ولد كونت أورقلة، ورفعت رأس الأصلع بعد أيام بمدينة قرطبة على باب القنطرة، وقتل كذلك معظم القادة الأندلسيين، ومنهم ابن عبيد صهر ابن مردنيش. وكان مما حز في نفس ابن مردنيش، وانفطر له فؤاده، أنه لم يستطع، وهو بقواته على الضفة الأخرى من نهر حدرُّه، أن يبادر لإنجاد صهره ابن همشك، فلبث يرقب تمزيق قواته جامداً، حتى تم الظفر للموحدين، وتمت الهزيمة الساحقة على ابن همشك. وتعرف هذه الموقعة بموقعة السبيكة. ودخل الموحدون غرناطة ظافرين، في ظهر ذلك اليوم - يوم الجمعة الثامن والعشرين من رجب سنة 557 هـ (13 يوليه 1162 م)، وخرج الموحدون المحصورون من القصبة، وقتلوا سائر خصومهم والمتحالفين مع أعدائهم من أهل غرناطة، وارتد ابن مردنيش وابن همشك كل بقواته، وسار الأول صوب مرسية، وسار الثاني في فلوله صوب جيان، والموحدون في أثره. وكان من أثر هذا النصر الموحدي، أن سارعت سائر النواحي في منطقة غرناطة، إلى إعلان الطاعة والتوحيد. وعنى السيد أبو يعقوب يوسف والقائد يوسف بن سليمان بالنظر في شئون غرناطة، وإصلاح قصبتها وأسوارها، وإثابة من كان من الموحدين المحصورين والإنعام عليهم. واستقرت الأمور بها، وسادتها السكينة والهدوء (1).

وسار الموحدون في أثر ابن همشك إلى قاعدته جيان، ولكنه لم يقف بها، بل ترك أمر الدفاع عنها إلى وزيره أبى جعفر الوقَشي، فامتنع بها، وحاصرها الموحدون حيناً دون جدوى، وعاثوا فيما حولها من الأراضي، وانتسفوا زروعها، ودمروا قراها، حتى أصبحت خراباً مطلقاً، ثم غادروها عائدين إلى قواعدهم (2).

وبعث السيد أبو يعقوب يوسف، والقائد ابن سليمان بأنباء النصر يوم الوقيعة، إلى الخليفة عبد المؤمن، وكان ما يزال برباط الفتح قبالة سلا،

(1) نقلنا تفاصيل هذه الموقعة الكبيرة عن ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " اللوحات 29 إلى 32. ويراجع ابن الأثير ج 11 ص 106، والإحاطة (1956) ج 1 ص 309 و 310، وج 2 ص 89 و 90، والبيان المغرب القسم الثالث ص 52 و 53، وهو يلخص أقوال ابن صاحب الصلاة.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 230.

ص: 390

فسر بها أيما سرور، وصدرت أوامره فيما يتعلق بشئون الأندلس بتحقيق أمرين، الأول أن يجعل من غرناطة وقصبتها مركز دفاع قوي، وأن تشحن بالعتاد ُوالأقوات، والثاني أن ينقل مركز الحكم الموحدي بالأندلس من إشبيلية إلى قرطبة، وأرسلت لتحقيق الأمر الأول، من شواطىء العدوة إلى ثغر المنكب عدة سفن مشحونة بالاقوات والسلاح، ونقلت حمولتها إلى غرناطة، وزودت قصبتها من ذلك بكميات كبيرة، وندب لتنظيم شئون الدفاع عن المدينة إلى جانب الموحدين، عدة من الزعماء الأندلسيين الموثوق بهم من أهلها، وكان القصد من ذلك أن تغدو غرناطة مركز الدفاع الرئيسي في جنوبي الأندلس، أو تغدو " سنام " الأندلس حسبما يقول ابن صاحب الصلاة.

وأما فيما يتعلق بنقل مركز الحكم إلى قرطبة، فقد بعث عبد المؤمن إلى ولده السيد أبى يعقوب يوسف، والشيخ أبى يعقوب سليمان " الأمر العزيز " باستيطان قرطبة، وأن تكون مقر الأمير، ومقر الحكم بالأندلس، إذ هي " مُوَسّطة الأندلس " كما تغدو مستقر الجيوش الموحدية. ووصل بهذا الأمر أبو اسحق برّاز بن محمد اللمتوني. وعلى أثر ذلك سار السيدان أبو يعقوب يوسف، وأبو سعيد، والدا الخليفة، ومعهما القائد يوسف بن سليمان، إلى قرطبة فوصلوا إليها في الخامس عشر من شهر شوال سنة 557 هـ، وخرج أهل قرطبة لاستقبالهم في جموع حاشدة حافلة، واستدعى إليها من إشبيلية عدة من أشياخها وأعيانها وكتابها، ومنهم أبو القاسم بن عساكر، وأبو بكر الخطار، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة، أنه كان من بين أولئك الكتاب المدعوين إلى العمل.

وطُلب كذلك أن تُنقل من إشبيلية إلى قرطبة سائر الدواوين والأموال، التي جمعت من القواعد المنزوعة من الثوار. وهكذا غدت قرطبة، بعد إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس، واستردت قرطبة بذلك رياستها وأهميتها وحيويتها القديمة، ورتبت بها الإدارات، واستعمل الكتاب والأشياخ في مختلف الأعمال، واختار أبو اسحق لحكم إشبيلية بعض أصحابه، وقام هو على النظر في شئون المخازن (الشئون المالية) في قرطبة وسائر البلاد الخاضعة للموحدين، ولم يزل قائماً بهذه المهمة حتى توفي في سنة 559 هـ (1).

واستقر السيدان أبو يعقوب وأبو سعيد حيناً بقرطبة، ومعهما القائد الشيخ

(1) ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 33 و 34.

ص: 391

أبو يعقوب. وقامت هذه الحكومة الجديدة لعاصمة الخلافة القديمة، بتنظيم شئونها المختلفة، وتعمير قصورها ودورها المهدمة، وإصلاح حصونها وأسوارها، وتأمين أهلها، فساد الهدوء والطمأنينة في أرجائها، بعد أن لبثت أعواماً طويلة، مسرحاً للفتن المخربة، والفورات المزعجة، وعاد إليها الكثير من أهلها الذين غادروها، مستبشرين بالعهد الجديد. ثم انصرف الشيخ أبو يعقوب عائداً إلى العدوة، واستمر السيدان من بعده فترة يسيرة، حتى فاتحة المحرم من سنة 558 هـ، وعندئذ وردت دعوة الخليفة إلى ولده السيد أبى يعقوب يوسف بالمثول إلى حضرته، فبادر بالسير إلى إشبيلية، ولم يقم بها سوى أيام قلائل، ثم غادرها إلى العدوة، ولحق بأبيه الخليفة، وبقى السيد أبو سعيد بقرطبة، قائماً على شئونها، متعهداً لمصالحها، وأضيف إليه النظر على إشبيلية، وكان يعاونه القائد القدير أبو إسحق براز ابن محمد المسوفي، وندب للنيابة على إشبيلية أبو داود بلول ابن جلداسن، وتولى شئون المخزن بها محمد بن المعلم، واستمر الأمر على ذلك فترة يسيرة أخرى.

- 5 -

في خلال ذلك كانت حوادث المغرب تنذر بتطورات خطيرة. وكان عبد المؤمن حينما تلقي نبأ انتصار الموحدين في موقعة السبيكة، وهو بعدوة سلا (الرباط) قد اعتزم أن يعد العدة لاستئناف الجهاد بالأندلس، في البر والبحر على أوسع نطاق ممكن، فأمر بكتب الكتب إلى سائر الجهات والقبائل، لاستنفار الناس، وحثهم على الجهاد في سبيل الله، وأمر بإنشاء الأساطيل (القطائع)، فأنشىء منها مائتا قطعة، وقيل أربعمائة، أعد منها في مرسى المعمورة على شاطىء وادي سبو، شمالي ثغر سلا، مائة وعشرون قطعة، وأعد الباقي في مختلف ثغور العدوة والأندلس، وأمر بإعداد الوفير من العتاد والمؤن والعلوفات، وكان قد أعد منها خلال سنة 557 هـ، أكداس هائلة في وادي سبو، في حمى الجبال المشرفة عليه، وجلبت الخيل من سائر أنحاء إفريقية والمغرب، وجلبت كذلك مقادير وفيرة من السهام والرماح الطوال، والدروع، والبيضات، والتروس، والبنود، والكسى، ووزع ذلك كله على طوائف الموحدين والعرب الموالين من سائر القبائل (1)؛ وأذكى هذا العزم على الجهاد في الأندلس، وأكده ما وقع

(1) ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 39 والمراكشي في المعجب ص 131.

ص: 392

في أواخر سنة 557، من غزو نصارى مدينة شنترين بالبرتغال لمدينة باجة، واستباحتها، واحتلالها في 22 شهر ذي الحجة هذا العام (أول ديسمبر 1162 م)، ومكثهم بها نحو أربعة أشهر، قبل أن يغادروها، بعد أن دمروا ربوعها، وخربوا أسوارها (1).

وأقام عبد المؤمن بمراكش فترة يسيرة، حتى أول عام ش 558 هـ، وهو يتابع بعناية تلك الاستعدادات الضخمة للجهاد في الأندلس. ثم خرج من حاضرته ليزور قبر المهدي في تينملل، وكان الفصل شتاء، والبرد قارساً، والأمطار والثلوج تنهمر بشدة، حتى غمرت سائر السهول والربى، ومع ذلك فقد شق الخليفة طريقه إلى تينملل بعزم، وجاز المياه والثلوج الغامرة، ولم يبال بما أصابه من البلل، وتبعه أشياخ الموحدين بصعوبة، ثم أدى زيارته المأثورة لقبر المهدي، وعاد إلى حاضرته، ليستأنف الاستعداد للجهاد.

وفي اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة 558 هـ (19 فبراير سنة 1163 م) خرج عبد المؤمن من مراكش، وسار إلى رباط الفتح، تتقدمه الجيوش الموحدية الجرارة، في تؤدة وهوادة، فلما وصل إلى رباط الفتح، كانت البقاع المجاورة فيما بين سلا والمعمورة، قد ضاقت بهذه الجيوش الضخمة التي يقدرها المؤرخ المعاصر بأكثر من مائة ألف فارس، ومائة ألف راجل (2). وتقدرها بعض الروايات الأخرى بأكثر من ثلاثمائة ألف فارس، من الموحدين والمرتزقة العرب والبربر.

ومن المتطوعة ثمانون ألف فارس ومائة ألف راجل (3)، وزعت عليهم جميعاً الأعطية والصلات السخية. وما كاد الخليفة يستقر في محلته، حتى استدعى إليه سائر القادة والأشياخ من الموحدين والعرب، وأهل الرأي، وعقد مجلساً حربياً عاماً، ليبحث خير الوسائل لتنفيذ الغزوة الأندلسية الكبرى وتوجيهها، سواء في البر أو البحر، وكان من بين الحاضرين أبو محمد سيدراي بن وزير، فشرح للخليفة أحوال الأندلس وما يحسن أن يعمله، واقترح ابن وزير ووافقه الأشياخ، أن تقسم الحملة الكبرى إلى أربعة جيوش، يسير أولها إلى البرتغال لمقاتلة ابن الرنك صاحب قلمرية (ألفونسو هنريكيز)، والثاني يسير إلى مملكة ليون، وملكها

(1) كتاب المن بالإمامة لوحة 117.

(2)

ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 41.

(3)

الاستقصاء ج 1 ص 158.

ص: 393

يومئذ فرناندو الثاني ولد القيصر ألفونسو ريمونديس، وهو الذي تعرفه الرواية العربية " بالببوج "، والثالث يسير إلى قشتالة، وملكها يومئذ ألفونسو الثامن طفل تحت الوصاية، والرابع يسير صوب مملكة أراجون وبرشلونة، وملكها يومئذ ألفونسو الثاني. واستحسن الخليفة اقتراح ابن وزير ووافق عليه.

ولم تمض أيام قلائل على ذلك حتى مرض عبد المؤمن مرضه الذي لم يبرأ منه. ولم توضح لنا الرواية نوع هذا المرض الذي حمل الخليفة إلى القبر، والذي يقتصر ابن صاحب الصلاة على وصفه، " بالوجع "، بيد أنه لبث يشتد ويتفاقم، حتى كان يوم الجمعة الثاني من جمادى الآخرة، وقد شعر الخليفة بدنو أجله، فأمر بإسقاط اسم ولده وولي عهده محمد من الخطبة، وكان هذا القرار يخفي مأساة عائلية، كان الحليفة يود أن يتلافى آثارها قبل موته. وذلك أنه نمى إليه أن محمداً يشرب الخمر، ويبدو مخموراً أمام الأشياخ والقادة في هيئة زرية، ويرتكب أموراً طائشة مخلة بالكرامة، وأنه يغلب عليه الخور وجبن النفس، وقيل أيضاً إنه كان مصاباً بالجذام (1). ومن ثم فقد رأى أنه لا يصلح للخلافة، وأنه يجب تنحيته وإبعاده، ودعا الأشياخ إلى سريره، وأخطرهم بتنحية ولده محمد وتولية يوسف، باعتباره أصلح من يتولى الخلافة، وأوصاهم بتنفيذ إرادته ومبايعته، ولاسيما الشيخ أبى حفص عمر الهنتاني عميد الأشياخ، واستوثق من ولده أبى حفص بتقديم شقيقه الأصغر يوسف، وكان أبو حفص يتولى الوزارة والحجابة لأبيه حسبما تقدم ذكره. وفي الأيام القلائل التالية تفاقم مرض الخليفة واشتد به الألم، وفي فجر يوم الثلاثاء الثامن من جمادى الثانية - وفقاً لرواية البيذق - توفي الخليفة عبد المؤمن بن علي. بيد أنه إذا أخذنا بهذه الرواية فلا بد أن الوفاة كانت في فجر اليوم السادس وهو الموافق ليوم الثلاثاء، حيث كان اليوم الثاني من جمادى الآخرة يوافق يوم الجمعة، وهو اليوم الذي أسقط فيه اسم محمد من الخطبة. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة إن عبد المؤمن توفي ليلة الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (15 مايو سنة 1163 م)، وهي رواية تبدو أرجح لانطباقها مع تسلسل الأيام والتواريخ (2). وكانت وفاته بمحلته في سلا، وكان عند وفاته في الثالثة والستين من عمره، وقيل في الرابعة والستين، وكانت

(1) المراكشي في المعجب ص 131، وابن خلكان ج 2 ص 493.

(2)

كتاب المن بالإمامة لوحة 45 أ.

ص: 394

ولايته، منذ وفاة المهدي في 25 رمضان سنة 524 هـ، ثلاث وثلاثون سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة وعشرون يوماً (1).

ولما توفي عبد المؤمن كتمت وفاته وقتاً، واستأثر ولده السيد أبو حفص بتدبير الأمور، وبادر إلى تنفيذ وصية أبيه في عقد البيعة بالخلافة لأخيه يوسف، وكان قد قدم من قرطبة، استجابة لدعوة أبيه، وبقي إلى جانبه حتى توفي.

والظاهر أن عبد المؤمن، كان عندئذ قد قرر أمره نحو مسألة الخلافة، وترشيح ولده يوسف لها، واستدعاه لهذا الغرض وأبلغ السيد أبو حفص، والشيخ أبو حفص الهنتاني وصية الخليفة الراحل لأشياخ الموحدين، فأقروها جميعاً، وبايعوا للسيد أبى يعقوب يوسف بالخلافة. ويقول لنا البيذق إن بيعة الخليفة الجديد، تمت في مدى يومين، في العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ وارتضى أبو عبد الله محمد ما تقرر من أمر خلعه، وبايع لأخيه راضياً، وتمت هذه البيعة في سلا في محلة الخليفة الراحل، ونفذ الأمر إلى الجيوش المحتشدة، بالانصراف إلى بلادها، في انتظار أوامر تصدر في فرصة أخرى. وتولى الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني وعظ الموحدين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، وذكرهم بما يجب عليهم من اتباع أوامر دينهم، وإكتمال ولائهم وطاعتهم واشتغالهم بأمورهم عن الأحاديث العقيمة والخزعبلات. ولما تمت البيعة حسبما تقدم، سار الخليفة الجديد مع أشياخ الموحدين إلى مراكش، ونزل في دار الخلافة، وتولى أخوه السيد أبو حفص الأمور السلطانية والحجابة على نحو ما كان مع أبيه، وعن رضى من أخيه الخليفة الجديد. وحمل جثمان الخليفة الراحل إلى تينملل، في يوم الجمعة أول شعبان، حيث دفن إلى جانب أستاذه وإمامه المهدي، وفقاً لوصيته (2).

ذلك هي الرواية الراجحة في شأن تولية السيد أبى يعقوب يوسف للخلافة.

(1) ينقل صاحب روض القرطاس عن تاريخ وفاة عبد المؤمن، روايتي البيذق وابن صاحب الصلاة (الثامن من جمادى الآخرة والعاشر منه)، ويضعها ابن الأثير في العشرين من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (ج 11 ص 109). ويضعها ابن خلكان في العشر الأخيرة من جمادى الآخرة (ج 1 ص 391)، ويضعها المراكشي في السابع والعشرين من جمادى الآخرة (المعجب ص 131).

ويضعها الزركشي في ليلة العاشر من جمادى الآخرة متفقاً مع ابن صاحب الصلاة. تاريخ الدولتين ص 29.

(2)

أخبار المهدي ابن تومرت ص 83، وابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 45 والبيان المغرب القسم الثالث ص 58 و 59.

ص: 395

وهي الرواية الموحدية التي يقول بها مؤرخا الموحدين المعاصران، البيذق، وابن صاحب الصلاة. بيد أن هناك رواية أخرى، يقدمها إلينا ابن الأثير، وهي أنه لما توفي عبد المؤمن بسلا، كتمت وفاته، وحمل من سلا إلى مراكش فوق محفة، وكأنه مريض، ولما وصل إلى مراكش استبد ابنه أبو حفص بشئون الحجابة، وكان يصدر أوامره باسم أبيه، ويقول للناس أمير المؤمنين أمر بكذا، واستمر على ذلك حتى كملت البيعة لأخيه يوسف، في سائر البلاد والنواحي، واستقرت الأمور، وعندئذ أظهر موت أبيه (1). وينقل إلينا ابن خلكان رواية أخرى، ينفرد بها في شأن محمد وأخيه يوسف في قيول إنه لما توفي عبد المؤمن خلفه ولده محمد، وتولى الأمر مدة خمسة وأربعين يوماً حتى شعبان سنة 558 هـ، ولكن سرعان ما اضطربت الأمور، وظهر منه من اختلال الرأي وكثرة الطيش، وجبن النفس، ما أدى إلى خلعه، وكان الذي سعى في خلعه أخواه أبو حفص عمر ويوسف. ولما تم خلعه، انحصر الأمر بين أخويه المذكورين، فتأخر عمر، وسلم الأمر إلى أخيه يوسف فبايعه الناس، واتفقت عليه الكلمة (2).

وينقل إلينا المراكشي هذه الرواية في المعجب (3). بيد أنه يبدو، إزاء ما تؤكده لنا الرواية الموحدية المعاصرة، أنها رواية ضعيفة لا سند لها.

- 6 -

كان الخليفة عبد المؤمن بن علي، عبقرية فذة، تنطوي على طائفة من أبدع الخلال التي تصاغ منها العظمة والبطولة، وقد شادت هذه العبقرية دولة من أعظم الدول الإسلامية، تمتد من أواسط شبه الجزيرة الإسبانية شمالا حتى مشارف الصحراء الإفريقية الكبرى جنوباً، ومن طرابلس الغرب شرقاً حتى شواطىء المحيط الأطلنطي غرباً، وشادتها في ظروف صعبة، وفي غمر الكفاح المضني، من إمارات وقبائل بربرية متنابذة متفرقة الكلمة، لم تعرف خلال حياتها الطويلة معنى للنظام والاتحاد، ولم تأنس لأي نوع من الخضوع والطاعة،

(1) ابن الأثير ج 11 ص 109.

(2)

ابن خلكان ج 2 ص 493. ويقول لنا ابن خلكان إنه نقل هذه الرواية من كتاب بخط العماد بن جبريل أخى المعلم المصري ناظر بيت المال بالديار المصرية، فيه فوائد من أخبار المغاربة وغيرهم.

(3)

المعجب ص 131.

ص: 396

فصاغ عبد المؤمن بعزمه، وقوة نفسه، وبراعته العسكرية والسياسية، من هذه العناصر المضطرمة الخصيمة، كتلة متناسقة متعاونة متحدة، وأنشأ منها الدولة الموحدية الكبرى، أعظم الدول المغربية إطلاقاً، واستطاع أن يجعل من الدعوة المهدية أو الدعوة الموحدية، ناموساً دينياً، ودستوراً نظامياً، تقوم عليه وتستمد منه، مقوماتها السياسية والعسكرية.

وقد رأينا أن عبد المؤمن، نشأ طالب علم متواضع، تجتمع آماله حول التقدم في هذا المضمار، والتقى بالمهدي ابن تومرت، في بداية أمره، وقبل أن تلوح لدعوته وتعاليمه أية بارقة أمل، في التقدم أو الرسوخ. ومع ذلك فقد ثبت إلى جانبه وشاطره كل آلامه ومحنه، وكل آماله ومشاريعه، وغدا ساعده الأيمن في كفاحه. وكان هذا الاختصاص بالمهدي وإيثار المهدي لتلميذه الوفي، من أهم العوامل، التي مهدت لعبد المؤمن، عند وفاة أستاذه وإمامه، سبيل الاحتواء على تراثه وخلافته. ولم تخب فراسة المهدي في تلميذه، حينما قال لصحبه وهو في مرض موته عقب هزيمة البحيرة الساحقة، إنه ما دام عبد المؤمن قد سلم، فسوف يبقى أمرهم. وقد شاء القدر أن يقوم عبد المؤمن بالمهمة الكبرى، مهمة سحق الدولة المرابطية، وإنشاء الدولة الموحدية الكبرى على أنقاضها، وأنقاض الإمارات الإفريقية. وقد استمرت الدولة الموحدية حيناً، تحتفظ بطابعها الروحي، وأساسها الديني، حتى عمد عبد المؤمن بعد أن تضخم ملكه، وتوطد سلطانه ونفوذه، بين سائر الطوائف والقبائل، إلى إنشاء السلطة الزمنية الوراثية، بتعيين ولده لولاية العهد. وكانت هذه الخطوة أعظم تطور حدث في طبيعة الدولة الموحدية، التي تغدو من ذلك الحين، خلافة زمنية سياسية، ويتضاءل أساسها الروحي. ويمكننا أن نعتبر الخلافة الموحدية المؤمنية، أعظم خلافة قامت في الغرب الإسلامي، وإن كانت خلافة قرطبة الأموية تتفوق عليها بخواصها التمدنية والحضارية، وأن نعتبر عبد المؤمن أعظم خلفاء الغرب الإسلامي، وإن كان عبد الرحمن الناصر يتفوق عليه بخواصه المصقولة وخلاله الإنسانية، بل نستطيع أن نعتبر أن عظمة الدولة الموحدية الكبرى تنحصر في عصر عبد المؤمن، وولده أبى يعقوب يوسف، وحفيده أبى يوسف يعقوب المنصور (524 - 595 هـ)، وهي حقبة من سبعين عاماً، تستنفذ الدولة الموحدية فيها كل مصادر قوتها، وعظمتها.

هذا وربما كان عبد المؤمن بخلاله العلمية، وحياته العسكرية الحافلة بالغزوات

ص: 397

والفتوحات المظفرة، أكثر الرؤساء شبهاً بالمنصور بن أبى عامر، فإن هاتين الصفتين هما أبرز ما في حياة كل من هذين الرجلين العظيمين، وإن كانت غزوات المنصور تتسم قبل كل شىء بطابع الجهاد في سبيل الله.

ولم تحل نشأة عبد المؤمن العلمية دون تحوله في ميدان الحرب، إلى قائد من أعظم قواد عصره، وأشدهم فروسة، وأوفرهم شجاعة، وإقداماً. كان عبد المؤمن بصيراً بطرائق الحرب، وأساليب القتال، وقد أنفق في غزواته وحروبه أكثر من ربع قرن، ذرع فيها وهاد المغرب وقفاره، من أقصاه إلى أقصاه، شرقاً وغرباً، وشمالا وجنوباً، وخرج مكللا بغار الظفر في معظم هذه الغزوات والحروب، ولم يجتمع لملك من ملوك المغرب أو خليفة من خلفائه، مثل ما اجتمع لعبد المؤمن من الجيوش الجرارة، التي كانت تضم مئات الألوف من الفرسان والرجالة، من مختلف القبائل البربرية والعربية، وكان عبد المؤمن خلال الحروب والغزوات جندياً بمعنى الكلمة، يشاطر جنده مشاق السير الوعر، وتقشف حياة الميدان، وكانت عادته في أسفاره أن يرحل بعد صلاة الصبح، بعد أن يُضرب طبل ضخم ثلاث ضربات إيذاناً بالرحيل، وكانت حركة الجيوش الموحدية تجرى عندئذ وفق النظام الذي رسمه المهدي لمسيرها، فيتقدمها اللواء الموحدي الأبيض مع فرقة من الرجالة يكون بينها وبين الأمير نحو ربع ميل، ثم يسير الأمير أو الخليفة خلف اللواء المذكور تحف به خاصته ووزراؤه، ثم تتبعهم الرايات الكبار والطبول وجند الساقة، ثم جند كل قبيل بترتيب خاص (1).

وكان عبد المؤمن في معظم الأحيان يرسم خطط المعارك بنفسه، وربما قاد جنده، واشترك معهم في القتال.

وكان عبد المؤمن إلى جانب هذه الصفات العسكرية البارزة، من أعقل أهل عصره وأوفرهم ذكاء وحكمة، وكان حازماً سديد الرأي حسن السياسة، واسع الحيلة، يعالج الأمور الصعبة بكثير من الفطنة والكياسة.

وكان مما فعله عبد المؤمن لتنظيم أصحاب المهدي وطوائف الموحدين، بعد تعاقب الحوادث، وفقد الكثير من أهل الجماعة وأهل خمسين وأهل سبعين، أن استدعى أشياخ القبائل الموحدية من المصامدة وغيرهم إلى مراكش، ولما اكتمل دورهم، أعلن تصنيف الموحدين إلى ثلاث طوائف أو طبقات، الأولى،

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 43 ب).

ص: 398

هم " السابقون الأولون " الذين بايعوا الإمام المهدي وصحبوه وغزوا معه، وصلوا خلفه، والذين شاهدوا واقعة البحيرة واشتركوا فيها، ويتلو هذه الطبقة من آمن بالتوحيد، ودخل في زمرة الموحدين من بعد البحيرة إلى فتح وهران (سنة 539 هـ)، وتتكون الطبقة الثالثة ممن انتظم في سلك الموحدين من فتح وهران إلى ما هلم جراً، وقد تم هذا التصنيف الجديد بعد أن روعيت فيه كل الاعتبارات، من الزلف والقرب والعدالة وغيرها، لتعرف كل طبقة مكانتها ومركزها (1).

وقد أسبغ عبد المؤمن بسياسته في تأليف القبائل المختلفة، وإدماجها في الجيش الموحدي الضخم، على هذا الجيش وحدة وتناسقاً، لم تعرفها الجيوش المغربية من قبل. بيد أنه لم يكن موفقاً في سياسته لتأليف القبائل العربية، وضمها للقوات الموحدية. ذلك أن هذه الفرق العربية التي استمرت عصراً تكون جناحاً هاماً في الجيوش الموحدية بالمغرب والأندلس، كانت متعثرة الولاء كثيرة التقلب، لا تدين بمبدأ ولا عقيدة، سوى انتهاز الفرص، والكسب المادي الرخيص، وكان تقاعسها وتقلبها في حروب إفريقية، فيما بعد أيام الخليفة أبى يعقوب يوسف وولده يعقوب المنصور من أهم الأسباب، في نجاح ثورة بني غانية في إقريقية، وتغلبهم على معظم نواحيها، وفي تخاذل الجيوش الموحدية في معظم المعارك التي خاضتها إلى جانبها.

وأما عن نظم الحكم والإدارة، فقد كان عبد المؤمن، وهو مؤسس الدولة الموحدية الحقيقي، أول من وضح القواعد والنظم التي يسترشد بها في تسيير دفة الحكم، وفي تطبيق السياسة الشرعية، وفي جباية الأموال. وقد انتهت إلينا في ذلك رسالة هامة من إنشاء الكاتب أبى جعفر بن عطية، وجهها الخليفة من تينملل في السادس عشر من ربيع الأول سنة 543 هـ، إلى الطلبة والمشيخة والأعيان والكافة بالأندلس، وفيها يبسط ما يمكن أن يسمى بالأسس الدستورية لنظم الحكم الموحدي، ونحن نورد فيما يلي ملخصاً لما احتوته هذه الرسالة الدستورية الهامة، التي ينفرد ابن القطان بإيرادها.

1 -

يقول الخليفة، إنه اتصل به أن بعض العمال ممن لا يخافون الله، يتسلطون بأهوائهم على الأموال والإبشار، ويستحلون حرمات المسلمين، وينقضون

(1) راجع الرسالة الثانية عشرة من " رسائل موحدية " ص 53 و 54.

ص: 399

أحكام الشرع، ويبتدعون مظالم شنيعة، ويستنبطون من فواحش الآثام صنوفاً فظيعة، ويتسببون في قتل المسلمين، فضلا عن استباحة أموالهم وأعراضهم بتلبسات يسيئونها، ويمدون أيديهم بضرب الناس بالسياط وسيلة إلى أخذ أموالهم.

وهو ينذر هؤلاء بشر العقاب، ويقول، إن لمن يستوجب الضرب أو يستحقه حدود معلومة، ومواقف مرسومة، تقابل كلا بمقتضى جرمه.

2 -

وأنه قد ذكر له في أمر المغارم والمكوس والقبالات وتحجير المراسي وغيرها، مظالم وكبائر عظيمة، ثم يتساءل ألم يقم الأمر العالي لقطع أسباب الظلم وإجراء العدل.

ومن ذلك ما ذكر في أمر المسافرين الذين يريدون الرجوع إلى أوطانهم، فإن بعض هؤلاء الظلمة، يزعمون لهم أن للمخزن حقوق تمتد إلى جميع ما أتى به، ثم يضطروه بالوعيد إلى الخروج عن جزء كبير من ماله، ويسائل الخليفة الموحدين والطلبة، كيف تقع هذه الأمور، وهم يرصدون الشئون، وكيف تسفك الدماء على هذه الصورة، وتنتهك الحرمات، وهم لا يمتعضون.

3 -

وأنه ليجول بخاطره، أن أسباب تلك المنكرات، هو أن قوماً يتوسطون بينهم وبين الناس، وينقلون الأمور إليهم بطريق التدليس، وذلك ليبعدهم عن مباشرة الأمور، ثم ينصحهم بأن لا يتركوا مباشرة الأمور إلى أحد سواهم، وأنه يجب عليهم أن يباشروا الأحكام مباشرة تعهد وتفقد، وأنهم في ذلك يجب أن يتذرعوا بالحزم والاعتدال وسلوك الطريق الوسط، والتواضع لأمر الله تعالى وترك الاستعلاء المنتقد، وعليهم أن يبحثوا عن المتسببين في وقوع تلك القبائح، وأن يعرّفوه بأمرهم ليقوم بعقابهم.

4 -

ثم يقول الخليفة: " وقد استخرنا الله في سد تلك الذريعة، وصد تلك الأفعال الشنيعة، فرأينا أن ترفعوا إلينا أحكام المذنبين للكبائر، وتعلمونا بنبأ كل من ترون أنه يستوجب القتل بفعله الخاسر، دون أن تقيموا الحد عليه، أو تبادروا بالعقاب إليه، ولا سبيل لكم إلى قتل أحد من كل من هو في بلاد الموحدين وأنظارهم، ومن هو معهم داخل مضمارهم، وكل من ترون أنه يستوجب القتل، ممن يريد المكر في أمر الله تعالى والختل، فعرفونا بجلية أمره وتصحيحه، وخاطبونا بميز أمره ومشروحه، لينفذ فيه من قبلنا ما يوجبه الحق ويقتضيه، ونمضي في عقابه ما ينفذه الشرع ويمضيه. فإياكم من مخالفة أمرنا

ص: 400

هذا في قتل أحد ممن ذكرنا كائناً من كان، كبر ذنبه عندكم أو هان، ولتبادروا إلى إعلاننا بذنبه بعد سجنه وتثقيفه لنقابله بما نراه، ونجري الحق فيه مجراه ".

5 -

وأنه قد بلغه أنه يقع بيع النساء بصورة تخالف حكم الشرع، وأنه يوجد من يبتاع المرأة ثم يبيعها دون استبراء، وأنه لا يتحفظ في ذلك من مواقعة الزنا المحض، وأنه يجب ألا يتولى أمر بيع النساء إلا من اتصف بالدين والأمانة، فهو الذي يشرف على أسواق بيعهن. ثم إنه يجب التوقف عن بيع النساء في جميع من يغنمن منهن، حتى يخاطب بأصل أمرهن وكيفيته، ليرسم لهم فيها ما يجب اتباعه.

6 -

ويحض الخليفة على مطاردة الخمر، والاجتهاد في إراقتها وكسر دنانها، واختيار الأمناء الذين يسهرون على ذلك، وتعهدهم لمواضع " الرُّب " واعتصاره، وأن لا يبيحوا من ذلك إلا ما تجوز إباحته شرعاً.

7 -

وأنه قد ذكر له أن الراقصين (الرسل) الذين يردون بالكتب. ويصدرون، يأخذون الناس بالنظر في كلفهم، ويلزمونهم بزادهم وعلفهم في كل موضع، ويحلون بأفنية الناس حلولا شنيعاً، ويتحكمون عليهم بحكم المغرم، ويطلب إليهم المسارعة في قطع تلك العادة الذميمة، وتزويد الرسل بما يقوم بأودهم في المجىء والانصراف، ويقطع شأنهم من التكليف والإلحاف، وتحذيرهم من تكليف أحد من الناس بأي شىء.

8 -

وأنه قد ذكر له ما يقع من التحكم في الأموال، وعدم المبالاة بالتفريق فيها بين الحرام والحلال، وأن هناك من يفعلون بأموال الناس ما تقدم، وتمتد أيديهم إلى المخازن فيعيثون بها، ويجرؤون في التعدي عليها، ويطلب إليهم أن يتقوا الله في أموال " المخزن " ووجوب السهر على صونها، وحمايتها من التعدي عليها، إذ هي أموال الله المخزونة في أرضه، وأنه يجب عليهم ألا ينفذوا منها قليلا ولا كثيراً إلا بعد استئذانه وتعريفه.

9 -

هذا، وأنه يجب عليهم اتباع كل ما جاء في هذا الكتاب بدقة وأن يجمعوا لقراءاته والاطلاع عليه سائر الطلبة والعمال، وكافة المقدمين للأعمال، وأن تكتب منه نسخ لكل قبيلة من قبائل أقطار الموحدين، وكل كورة من الكور، وينذر من لم يتبع ما جاء فيه بشر العقاب.

ويختتم الخليفة كتابه بقوله، إنه لا غرض له إلا أن يحقق دعة المسلمين وأمانهم، وأنه يجب أن يعلموا أن الموحدين، مسئولون عن هذه الرعاية، وأنهم يجب أن

ص: 401

يكونوا إخواناً فضلاء، لعباد الله، وأن يعاملوا الناس بالحسنى، وأن يغدقوا عليهم المبرات، وأن هذا هو واجبهم، وأن هذه نصيحته، فليقبلوها.

وأنه كان مما دعاه إلى تنبيههم وتذكيرهم بما تقدم، ما وجده بحضرة مراكش من تلك الأنواع التي أحدثها أهل الابتداع مثل القبالة وما يجري مجراها، وأنه لم يكن يدور بخلده أن يسلك أحد مثل هذا المسلك، وأنه أنكر ما وجده منه، وقام بإزالة ما يحظره الشرع (1).

وقد لبث عبد المؤمن بالرغم من غلبة الحرب والجهاد على حياته، محتفظاً بسمته وخلاله العلمية. كان عبد المؤمن فقيهاً بارعاً حافظاً للسنة، وعالماً متمكناً من علوم الدين، ولاسيما علم الأصول الذي تلقاه عن المهدي ابن تومرت، وكان يقوم بإملاء علوم المهدي وقراءة العقائد، وكتاب الموطأ، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم، مقبلا على مجالستهم، محسناً إليهم، يستدعيهم من سائر البلاد ليسكنوا بالحضرة إلى جواره، ولينتظموا في مجلسه، ويجري عليهم الأرزاق السخية، ويعظم من شأنهم ومكانتهم. وكان في الوقت نفسه يعني أشد العناية بأمر الطلبة والحفاظ، ويقسمهم إلى طائفتين، طلبة الموحدين، وطلبة الحضر، والطائفة الأولى هي طلبة المصامدة، بعد أن سمى المهدي المصامدة بالموحدين، لخوضهم في علم الأصول، الذي لم يكن أحد من أهل هذه الأنحاء يخوض فيه (2). واستقدم عبد المؤمن في نفس الوقت صغار الصبيان النجباء من مختلف قواعد المغرب، والأندلس، من إشبيلية وقرطبة وفاس وتلمسان وغيرها - إلى حضرته، وكان منهم من إشبيلية وحدها خمسون صبياً، حضروا إلى مراكش مع أستاذيهم أبى الحسن وأبى بكر الحصار، وعنى الخليفة بأمر هؤلاء التلاميذ الصغار أتم عناية، وأنزلهم أكرم منزل، وأمر بأن يحفظوا القرآن، وكتب التوحيد وموطأ المهدي وصحيح مسلم وغيرها (3). وعنى عبد المؤمن بأمر الحفاظ أشد عناية، وأمر بأن يحفظوا كتابي الموطأ، وأعز ما يطلب، وغيرهما من آثار المهدي، وكان يستدعيهم في كل يوم جمعة إلى داخل القصر، وهم نحو ثلاثة آلاف حافظ،

(1) أورد لنا ابن القطان نص هذه الرسالة كاملا في " نظم الجمان " وهي تقع في عدة صفحات (المخطوط لوحة 56 ب إلى 65 أ). وسوف ننشرها في باب الوثائق.

(2)

المراكشي في المعجب ص 112، وروض القرطاس ص 133.

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 53 أ).

ص: 402

فيوجههم إلى ما يبغيه من سرعة الحفظ والتدريب، فيأخذهم يوماً بتعلم الركوب، ويوماً بالرمي بالقسى، ويوماً بالسباحة في بحيرة أنشأها لهم خارج بستانه، في مربع ضلعه نحو ثلاثمائة ذراع، ويوماً بالتدرب على إصابة الهدف، على قوار وخوازيق صنعها لهم بتلك البحيرة، وذلك لكي يجعل منهم رجالا مثقفين، مدربين مقتدرين. وكانت نفقتهم وسائر مؤنهم وخيلهم، وعُددهم، كلها من عنده. وفضلا عن ذلك، فقد قرر عبد المؤمن، بموافقة أشياخ الموحدين، أن يدفع لكل طالب من هؤلاء قرضاً يتجر به إسعافاً لهم، وصرف لكل منهم من مال المخزن قرضاً قدره ألف دينار، فتاجروا وأثروا، ولم يسترد منهم هذا القرض قط (1). ولما كمل تدريبهم، وأصبحوا طائفة يعتمد على علمها ودربتها وخبرتها، ندبهم لمختلف الأعمال والرياسة بدلا من أشياخ الموحدين، وقال لهم إن العلماء أولى منكم، واستبقى الأشياخ لمشورته (2). وقد رأينا فيما تقدم كيف ندب كثير من أولئك الحفاظ لأعمال الإدارة والرياسة، في كثير من القواعد الأندلسية المفتوحة، وهم سوف يشغلون من الآن فصاعداً حيزاً كبيراً، في أعمال الولاية والرياسة، في أنحاء الدولة الموحدية.

وكان عبد المؤمن فوق ذلك، كاتباً بليغاً، وأديباً ضليعاً، إماماً في النحو واللغة، حافظاً للتاريخ وأيام الناس، وشاعراً ينظم الشعر الجيد، وقد أورد لنا صاحب روض القرطاس له مطارحة شعرية مع وزيره ابن عطية (3)، وذكر صاحب الحلل الموشية، أن عبد المؤمن حينما هنأه أبو عبد الله الجياني يوم انتصاره على المرابطين بفحص مراكش بقصيدة أولها:

أضاءت لنا الأيام واتصل النجح

وكانت وجوه الدهر مسودة كلح

أجابه عبد المؤمن بقوله:

هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح

أصاب بني التجسيم من بأسه طرح

أتتنا به البشرى على حين غفلة

بمهلك قوم كان وعدهم الصبح

وكان ممن وفد على عبد المؤمن من أدباء العصر وشعرائه، أبو العباس أحمد

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 52 ب).

(2)

الحلل الموشية ص 114.

(3)

روض القرطاس ص 133.

ص: 403

ابن عبد السلام الجراوي الشاعر، وهو ينتمي إلى قبيلة جَراوة البربرية، التي توجد منازلها على مقربة من مليلة، وكان أديباً بارعاً وشاعراً جزلا فحظى لديه، ثم لدى أولاده من بعده، وغدا شاعر البلاط الموحدي الأثير، وظهر بمدائحه للخلفاء المتعاقبين حتى عهد الناصر، وألف للخليفة المنصور كتابه " صفوة الأدب " حسبما نذكر بعد.

ووجه أبو عبد الرحمن بن طاهر صاحب مرسية المخلوع إلى عبد المؤمن رسالته الشهيرة " الكافية " في إثبات أمر المهدي بالدليل والبرهان في صورة مناقشة بين النفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء. وقد أورد لنا ابن القطان نص هذه الرسالة، وسوف نعود إلى ذكرها.

وكان عبد المؤمن شديداً صارماً، في تطبيق أحكام الدين، ولاسيما في تأدية الصلاة في أوقاتها، وفي إيتاء الزكاة، وتحريم الخمر، وإقامة الحد على شاربها، وكان يذهب في صرامته إلى قتل تارك الصلاة أو شارب الخمر، وكان فوق ذلك ورعاً، كثير التلاوة والخشوع.

وكان متزمتاً صارماً في سياسته نحو النصارى واليهود. ونحن نعرف أن الدولة الموحدية قامت على أسس دينية خالصة، وكان من الطبيعي، وهي تحارب خصومها من المسلمين الخارجين على عقيدة التوحيد، أن تكون شديدة الوطأة على النصارى واليهود. ولما توطدت الدولة الموحدية بالمغرب، وبسطت سيادتها على معظم قواعد الأندلس، أصدر عبد المؤمن قراراً بوجوب خروج النصارى واليهود من أراضي الدولة الموحدية، وحدد لهم فيه أجلا لمغادرة البلاد، إلا من أسلم منهم، فهؤلاء يصبحون رعايا، لهم ما للمسلمين الخلص وعليهم ما عليهم، ومن بقي من النصارى أو اليهود بعد الأجل المضروب ولم يعتنق الإسلام، فقد حل دمه وماله. وكان من جراء هذا القرار أن غادر المغرب والأندلس كثير من النصارى واليهود المخفِّين أي الذين لا تثقلهم أعباء الأسرة والأعمال، وبقي منهم من ثقلت أعباؤه، وتظاهروا باعتناق الإسلام إنقاذاً لأنفسهم وأموالهم، ومما يذكر أنه كان بين هؤلاء العلامة الفيلسوف والطبيب اليهودي الكبير موسى بن ميمون، وكان من أهل قرطبة، فتظاهر عند صدور القرار باعتناق الإسلام، والقيام بأداء شعائره، حتى مكنته الفرصة من مغادرة الأندلس مع أهله، فقصد إلى مصر،

ص: 404

وخدم في بلاطها، وعين طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وتوفي بالقاهرة سنة 602 هـ (1205 م)(1).

وكان عبد المؤمن بالرغم من نشأته وسمته الفقهية المتواضعة، رئيساً وافر الهيبة والجلال، وهو ما يشير إليه المراكشي في قوله:"كان عبد المؤمن في نفسه سري الهمة، نزيه النفس، شديد الملوكية، وكأنه كان ورثها كابراً عن كابر، لا يرضى إلا بمعالي الأمور "(2).

* * *

ولكن عبد المؤمن كان إلى جانب هذه الخلال البديعة كلها، يتسم بالقسوة وسفك الدماء. وهذا ما ينوه به مؤرخ ناقد مثل ابن الأثير، إذ يقول لنا: إن عبد المؤمن كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير (3). وقد سبق أن أشرنا إلى هذه الصفة القاتمة من صفات عبد المؤمن، وسردنا خلال استعراضنا لمراحل حياته، كثيراً من الحوادث الدموية التي سالت فيها الدماء غزيرة على يديه، وقد كان أروع ما وقع منها حادثة الاعتراف الشهيرة، التي تم فيها تطهير القبائل، وفقاً لجرائد أعدها عبد المؤمن بنفسه، وتضمنت ألوفاً مؤلفة من الضحايا، التي أعدمت تنفيذاً لأوامره (سنة 554 هـ). وقد سبق أن علقنا على هذه الحادثة وأمثالها، من الصفحات الدموية، التي توالت في عهد عبد المؤمن وعلى يديه. ونود أن نضيف هنا، أن هذه الظاهرة الدموية، كانت أصلا راسخاً من أصول الدعوة المهدية، وأن المهدي ابن تومرت، كان من أشد الدعاة دعوة إلى سفك دماء خصومه، وقد أبدى في تطبيقها قسوة تدنو إلى الوحشية. ومن وجهة أخرى فإنه يمكن القول بأن سفك الدماء وسيلة مأثورة من وسائل تدعيم الطغيان، يلجأ إليها الطغاة في كل عصر، وكل قطر، وقد كان عبد المؤمن طاغية من أعظم طغاة العصور الوسطى، فليس بمستغرب أن يكون القتل الذريع وسيلة لتأييد سلطانه المطلق، وإن يكن قد ذهب في ذلك إلى حدود مثيرة مروعة.

* * *

(1) القفطي في إخبار العلماء بأخبار الحكماء في ترجمة موسى بن ميمون (القاهرة 1326 هـ) ص 209.

(2)

راجع المعجب ص 112.

(3)

ابن الأثير ج 11 ص 109.

ص: 405

وقد اعتمد عبد المؤمن في تنظيم دولته، وتسيير حكومته، وقيادة عسكره، على طائفة مختلطة من الكتاب والقادة من مختلف القبائل، وأهل المغرب والأندلس.

وقد كان من الواضح أن أصحاب المهدي وأشياخ الموحدين من المصامدة، وغيرهم من القبائل البدائية الموالية، وإن كان يمكن الاعتماد عليهم في شئون الدعوة وفي بعض القيادات العسكرية، فإنه لا يمكن أن يعتمد عليهم وحدهم في بناء الدولة الموحدية، وتوطيد قواعدها. ومن ثم فإن عبد المؤمن لم يتردد في أن يستخدم في حكومته وفي قيادته، كثيراً من أولياء الدولة المرابطية السابقة من لمتونة ومسّوفة، ومن أهل الأندلس، مثل على بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول المرابطي السابق، وبرّاز بن محمد المسّوفي، وقد كان من أبرز القادة المرابطين، ومثل الكاتب أبى جعفر بن عطية وأخيه عقيل بن عطية، وقد كانا من كتاب الدولة اللمتونية، وميمون الهواري. واستخدم عبد المؤمن من أهل الأندلس لكتابته أخيل بن إدريس الرُّندي صاحب رندة السابق، وقد كان أيضاً من كتاب الدولة اللمتونية، وأبا الحسن بن عياش القرطبي، وأبا بكر بن ميمون القرطبي، والخطيب أبا الحسن بن الإشبيلي، وصاحبه الخطيب أبا محمد عبد الله بن جبل. وقد كان الاعتماد على معاونة الوزراء والكتاب الأندلسيين، في بلاط مراكش، مبدأ مقرراً منذ أوائل الدولة المرابطية، وذلك لما كانوا يمتازون به في هذا الميدان من المواهب والصفات المصقولة، ولما كان لأعمال الوزارة وشئون الكتابة بالأندلس من التقاليد الجليلة الراسخة، والأساليب المشرقة العالية. وسوف نرى فيما بعد، كيف يمثل أقطاب الكتاب والعلماء والمفكرين بالأندلس، بقية القرن السادس الهجري، بين وزراء الدولة الموحدية وكتابها البارزين.

وقد وزر لعبد المؤمن الكاتب أبو جعفر بن عطية، ثم أبو محمد عبد السلام ابن محمد الكومي، ثم ولده السيد أبو حفص، ومعاونه أبو العلا إدريس ابن ابراهيم بن جامع، وهو الذي تولى الوزارة بعد وفاته، لولده الخليفة الجديد أبى يعقوب يوسف.

وتولى القضاء في عهده، صهره أبو عمران موسى بن سليمان الضرير من أهل تينملل ومن أصحاب خمسين، وأبو الحجاج يوسف بن عمر.

وعنى عبد المؤمن بالشئون المالية بنوع خاص، ولقي في تنظيمها صعاباً ومتاعب. وكانت مسألة الفروض أو " الجبايات " التي يتكون منها دخل الحكومة

ص: 406

الموحدية من المسائل الدقيقة، التي واجهت عبد المؤمن. وقد كانت مسألة المكوس والمغارم التي تفرضها الدولة المرابطية على رعاياها، من المسائل التي شهر بها المهدي ابن تومرت، وعددها بين مثالب المرابطين، باعتبارها مغارم غير شرعية يحرمها الكتاب والسنة. وكانت الدولة الموحدية في البداية تحرص على ألا تحيد عن تطبيق هذا المبدأ في فرض الجبايات، وتلغى سائر المغارم المحرمة، وتكتفي بتحصيل الزكاة والأعشار، وهذا ما يسجله الخليفة عبد المؤمن في رسالته التي بعث بها عقب فتح بجاية سنة 547 هـ، إلى أهل قسنطينة، يدعوهم إلى الطاعة، ويذكرهم بما هو مفروض عليهم منذ أيام " أهل الاختلاق والابتداع " من " القبالات والمكوس والمغارم وسائر تلك الأنواع "، وأن الله قد أراح الناس بالتوحيد، من تلك المغارم، وأنه سوف لا يطلب إليهم إلا ما أوجب الله، وما توجبه السنة من " الزكوات، والأعشار "(1). وقد كان ما استولى عليه الموحدون من ثروات الدولة المرابطية وذخائرها، في المغرب والأندلس، وما كانوا يحصلونه من غنائم خصومهم المهزومين، يكفي في البداية لمواجهة نفقات الحرب والإدارة. بيد أنه لما اتسع نطاق الغزوات والفتوحات في المغرب والأندلس، وتضاعف عدد الجيوش الموحدية الغازية، اضطر عبد المؤمن إلى التماس مصادر أخرى للنفقة، فكان مما استحدثه، ما نقله إلينا صاحب روض القرطاس، من أنه أمر بمسح بلاد إفريقية والمغرب من برقة، إلى السوس الأقصى، بالفراسخ، والأميال، طولا وعرضاً، وأسقط من هذه المساحة مقدار الثلث مقابل الجبال والأنهار والطرقات وغيرها من التوالف، وما بقي فرض عليه الخراج، وألزمت كل قبيلة بأن تؤدي قسطها من الزرع والمال، وهكذا تحررت السياسة المالية الموحدية، من الجمود الذي فرضته عليها تعاليم المهدي، ولتتطور مع مقتضيات ما تحتاج إليه الدولة من ضروب النفقة العسكرية والإدارية.

* * *

وترك عبد المؤمن من الولد ستة عشر من البنين، وهم أبو يعقوب يوسف الخليفة من بعده، وأبو حفص عمر، وأبو عبد الله محمد المخلوع من ولاية العهد، وأبو محمد عبد الله والي بجاية، وأبو سعيد عثمان والي غرناطة وقرطبة، وأبو علي الحسن، وأبو علي الحسين، وأبو الربيع سليمان، وأبو زكريا يحيى،

(1) مجموعة الرسائل الموحدية - الرسالة السادسة - ص 21 و 22.

ص: 407

وأبو إبراهيم اسماعيل، وأبو إسحق إبراهيم، وأبو يوسف يعقوب، وأبو زيد عبد الرحمن، وأبو سليمان داود، وأبو موسى عيسى، وأبو العباس أحمد، وترك من البنات اثنتين هما صفية وعائشة (1).

هذا ولدينا عن أوصاف شخص عبد المؤمن، فقرتان، نقل إلينا أولاهما، ابن خلكان عن مؤلف في سيرة عبد المؤمن، وفيها أن عبد المؤمن، " كان شيخاً معتدل القامة، عظيم الهامة أشهل العينين، كث اللحية، شثن الكفين، طويل القعدة، واضح بياض الأسنان، بخده الأيمن خال "(2).

ويقول في الثانية صاحب روض القرطاس: " كان أبيض اللون مشرباً بحمرة، أكحل العينين، أجعد، تام القد، له وفرة تبلغ شمة أذنه، أزج الحاجبين، ملائم الأنف، عريضه، مستدير اللحية "(3).

(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 42 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 56.

(2)

ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 1 ص 391.

(3)

روض القرطاس ص 133.

ص: 408