المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

‌الفصل الثاني

الممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

ألفونسو المحارب. أعماله وخلاله. وصيته. رفض الشعبين الأرجوني والنافاري لها. انفصال نافارا واستقلالها. اختيار أراجون الراهب راميرو ملكاً لها. غزو ملك قشتالة لنافارا. احتلاله لسرقسطة. اعتراف راميرو بطاعته. ألفونسو ريمونديس يتخذ لقب الإمبراطور. قرارات مجلس ليون. ما يحققه اللقب الإمبراطوري لملك قشتالة. محالفة راميرو لملك قشتالة. ألفونسو ريمونديس يغزو نافارا. ارتداده لمحاربة البرتغاليين. زواج الكونت رامون أمير برشلونة من إبنة راميرو. تنازل راميرو عن العرش. الكونت رامون أمير أراجون. الكونت رامون برنجير الثالث وجهوده في سبيل التعاون مع أراجون. رامون برنجير الرابع وإتمام الوحدة بين أراجون وقطلونية. مسير ألفونسو ريمونديس لمحاربة البرتغال. الصلح المفاجىء بين الملكين. مسير ألفونسو لغزو الأندلس. فتك المرابطين بإحدى فرقه. مسيره لافتتاح حصن أوريخا. إسراع المرابطين إلى نجدته. تسليم الحصن بالأمان. تحالف ألفونسو ريمونديس ورامون برنجير على غزو نافارا. مدافعة غرسية راميريس ملكها للغزاة. سعيه إلى طلب الصلح. اعترافه بسيادة الإمبراطور. استمرار الحرب بين أراجون ونافارا. عقد الصلح بينهما. غزو ألفونسو ريمونديس للأندلس. استيلاؤه على قورية. غزوة قشتالة للأندلس. موقعة بين المسلمين والنصارى. هزيمة النصارى ومصرع قائدهم. ملك قشتالة يغزو الأندلس مرة أخرى. معاونته للثوار ضد المرابطين. احتلاله قرطبة. استيلاء النصارى على ألمرية. سقوط القواعد الإسلامية بالثغر الأعلى. غزو نافارا لأراجون ومراميه. المؤتمر الكهنوتي. وفاة الملكة برنجيلا. وفاة غرسية راميريس ملك نافارا. تجديد التحالف ضد نافارا بين أراجون وقشتالة. تطور الحوادث. الزيجات الملكية. الحرب بين نافارا وأراجون. تجدد الاتفاق بين أراجون وقشتالة على تقسيم نافارا. عود ملك قشتالة إلى غزو الأندلس. استيلاؤه على حصنى أندوجر والبطروج. استردادهما على يد الموحدين. استرداد الموحدين لألمرية، وفشل القيصر في إنجادها. وفاة ألفونسو ريمونديس. خلاله وأعماله. برنامجه في مهاجمة الإسلام. مواظبته على غزو الأندلس. المونت رامون برنجير وأعماله الأخيرة. وفاته وخلاله. تقسيم قشتالة بين ولدي القيصر سانشو وفرناندو. الحرب بين الأخوين. هزيمة فرناندو واعترافه بسيادة أخيه. أطماع سانشو ووفاته. ولده الطفل ألفونسو. الوصي جوتيرو دي كاسترو. سخط آل لارا. تسليم الأمير للكونت غرسية دى آينا. الكونت يسلمه لآل لارا. مطالبة آل كاسترو بإعادة الطفل. التجاؤهم إلى فرناندو ملك ليون. غزو فرناندو لقشتالة. إعلانه لوصايته على ابن أخيه. تسليم آل لارا للملك الطفل. اصطفاء فرناندو لآل كاسترو. الحرب بين الأسرتين. هزيمة آل لارا. اختطافهم للملك الطفل. تذرعهم بحماية قشتالة من أطماع فرناندو. استمرار الحرب الأهلية بين الفريقين. مقتل عميد آل لارا. تحول أهل قشتالة إلى مخاصمة فرناندو. استيلاء آل لارا على طليطلة. إعلانهم

ص: 492

لولاية الملك الطفل ألفونسو. تأييد قشتالة ورجال الدين لتلك الحركة. انسحاب فرناندو من قشتالة. قيام جماعات الفرسان الدينية في اسبانيا. جمعية فرسان المعبد. استقرارها في أراجون وقطلونية. قيام جمعية فرسان قلعة رباح. جماعة القديس ياقب.

1 -

وفاة ألفونسو المحارب وولاية أخيه الراهب راميرو

كان مصرع ألفونسو المحارب على ذلك النحو المفاجىء الذي حدث عقب موقعة إفراغة، نذيراً بوقوع تطورات هامة في مصاير اسبانيا النصرانية، على نحو ما كانت وفاة ألفونسو السادس ملك قشتالة قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً.

فقد توفي كلاهما دون وارث للعرش. وقد رأينا كيف تولت أورّاكا عرش قشتالة تنفيذاً لوصية أبيها، وما ترتب على ذلك من الحوادث والخطوب، وكذلك فقد كانت وفاة ألفونسو المحارب دون عقب، مثاراً لأحداث وتطورات جديدة حول عرش أراجون.

وكان ألفونسو المحارب من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية في العصور الوسطى، وقد استطاع خلال الأعوام الثلاثين التي حكمها منذ وفاة أخيه الملك بيدرو في سنة 1105 م، أن يجعل من أراجون أعظم ممالك اسبانيا النصرانية وأقواها، وإن لم تكن أضخمها رقعة، وغدا بزواجه من أوراكا ملكة قشتالة، أعظم عاهل لإسبانيا النصرانية كلها. وأنفق ألفونسو معظم جهوده الحربية في محاربة المسلمين، وانتزع قواعد مملكة سرقسطة الباقية من بني هود، ثم انتزع سرقسطة ذاتها من أيدي المرابطين، وقام بغزوته الشهيرة في قلب الأندلس، واخترقها من أقصاها إلى أقصاها، وأطل بقواته على شاطئها الجنوبي (520 هـ -1127 م).

وقد أظهرت هذه الغزوة الجريئة التي فصلنا حوادثها فيما تقدم، ضعف وسائل الدفاع عن الأندلس. وحقق المحارب بافتتاحه لسرقسطة، والقضاء عليها كحاجز دفاعي للمسلمين في الثغر الأعلى، ما حققه ألفونسو السادس بافتتاح طليطلة، من فتح طريق التاجُه، فأصبحت الأندلس معرضة للغزو النصراني من الشمال الشرقي، ومن الوسط، وسارت سياسة الإسترداد النصرانية La Reconquista من ذلك الحين في الاتجاهين دون عائق قوي، وتنوه الرواية الإسلامية ذاتها بشجاعة ألفونسو المحارب، وشديد بأسه. فيقول لنا ابن الأثير في وصفه: " وكان من أشد ملوك الفرنج بأساً وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين،

ص: 493

وأعظمهم صبراً، وكان ينام على طارقته بغير وطاء " (1). وأما عن خلال ألفونسو الشخصية، فتختلف الرواية النصرانية، فنراه يوصف في التواريخ الأرجونية بالإيمان والتقوى، والفروسية، ورعاية الكنائس والأحبار، ولكن التواريخ القشتالية تصفه بالعكس بالجبروت والغدر والإلحاد، وشغف العدوان على حرمة الكنائس والأديار، وعلى محتوياتها المقدسة، وأنه في- حروبه مع النصارى لم يكن يفر الأحبار ولا النساء من عدوانه. ولم يكن يكبح جماح جنده عن ارتكاب مختلف ضروب الإثم والمنكر (2).

وكان ألفونسو المحارب، قبيل وفاته بثلاثة أعوام قد كتب وصيته حول مصير مملكته، وكانت أغرب وصية يمكن تصورها. ذلك أنه أوصى فيها بأن تقسم مملكته الكبيرة إلى ثلاثة أقسام، الأول يخصص لسلام روح والده ووالدته، وللتكفير عن زلاته، ولكي يظفر بمكان في جنة الله، وللقبر المقدس وسدنته وخدمه، والثاني يخصص للفقراء وفرسان الأسبتارية ببيت المقدس. والثالث يخصص لفرسان المعبد (الداوية) باعتبارهم حماة النصرانية في معبد المسيح (3).

وقد ظهر فرسان الداوية قبل ذلك بأعوام قلائل في إمارة برشلونة، وكان أميرها رامون برنجير الثالث، أول من شجعهم على القيام في إمارته، وحاول ألفونسو المحارب قبل وفاته بقليل أن ينشىء جمعية فرسان دينية على غرار جماعة بيت المقدس، فلم ينجح لمعارضة الأشراف، ولكنه لبث يحتضن مشروعه حتى توفي حسبما بدا ذلك في وصيته.

(1) ابن الأثير ج 11 ص 23.

(2)

تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ. (الترجمة العربية، الطبعة الثانية ص 166 و 167).

(3)

كان فرسان المعبد Templares، وفرسان الأسبتارية Hospitallers من أشهر جماعات الفرسان الدينية التي قامت في العصور الوسطى في بداية الحروب الصليبية. والجماعة الأولى هي التي تعرف في الرواية الإسلامية بجماعة " الداوية " وقد أنشئت سنة 1119 م في بيت المقدس عقب سقوطها في يد الفرنج الصليبيين وذلك لحماية الحاج إلى قبر المسيح، وأفرد لهم ملك بيت المقدس جناحاً في قصره، ثم سلم إليهم المعبد المجاور له، ومنه اشتقوا اسمهم " فرسان المعبد ". ونمت هذه الجماعة بسرعة، واشتد ساعدها بمن انضم إليها من النصارى من سائر الأمم، ولعبت دوراً هاماً في حوادث الحروب الصليبية، واستمرت قائمة عصوراً. والأسبتارية هم أيضاً جماعة دينية من الفرسان، أنشئت عقب الجماعة الأولى، وخاضت أيضاً حوادث الحروب الصليبية، ولكنها كانت أضعف شأناً من جماعة " الداوية ".

ص: 494

على أن الشعبين الأرجوني والنافاري أبى كلاهما، أن يحترم وصية ترمي إلى التصرف في مصايرهم، ومصاير بلادهم، على هذا النحو الغريب. وقد انتهز النافاريون بالأخص هذه الفرصة ليعملوا على استرداد استقلالهم القومي، الذي فقدوه منذ استولى سانشو راميريس ملك أراجون، ووالد ألفونسو المحارب على بلادهم في سنة 1076 م أعني منذ ستين عاماً، وكان من المتفق عليه منذ البداية بين الأرجونيين والنافاريين أن يرفضوا أية دعوى لملك قشتالة في السيادة على بلادهم، وقد كان بوسع ألفونسو ريمونديس أن يشهر هذه الدعوى باعتباره سليل سانشو الكبير من ناحية أمه. ومن ثم فإن الأرجونيين والنافاريين بعد أن أعلنوا رفضهم لوصية الملك المتوفى، قرروا أن يجتمع ممثلو الشعبين من الطبقات الثلاث، أعني رجال الدين والأشراف ونواب الشعب، لاختيار الملك الجديد. واجتمع النواب في بلدة جاقة في مؤتمر وطني، وقر رأى الأرجونيين على أن يختاروا للعرش أخا الملك المتوفى دون راميرو الراهب، وكان قد انتظم في سلك الكهنوت قبل ذلك بمدة طويلة، وأقام في دير منعزل على مقربة من ثغر أربونة، ولكن النافاريين لم يوافقوا على هذا الاختيار، فانفصلوا عن الأرجونيين، وأعلنوا في بنبلونة عاصمتهم القديمة، استقلالهم، واختاروا لهم ملكاً، هو غرسية راميريس حفيد ملكهم سانشو، الذي قتل غيلة في سنة 1076، وبذا انفصلت نافارا عن أراجون، وعادت تشغل مركزها القديم، كدولة مستقلة من دول اسبانيا النصرانية.

واجتمع ممثلو أراجون من جهة أخرى، في مونتسون، في مجلس نيابي (كورتيس) وقرروا الموافقة على اختيار الراهب راميرو ملكاً لأراجون، وقبل راميرو هذا العرض، وحصل على إذن بتحريره من عهد الرهبنة، وتولى العرش، وتزوج بموافقة البابا من الأميرة إنيس ابنة كونت بواتييه وأخت دوق أكوتين. وهكذا استحالت مملكة أراجون، بعد أن كانت في عهد ألفونسو المحارب مملكة مترامية الأطراف، إلى مملكة صغيرة محدودة الموارد والقوى، وزادت الممالك الإسبانية النصرانية مملكة جديدة هي مملكة نافارا المستقلة.

وكان ملك قشتالة يرقب هذه التطورات الجديدة بمنتهى الاهتمام، ويدبر خططه ليخرج منها بأوفر غنم. فما كاد الوضع الجديد يستقر في أراجون ونافارا، حتى خرج من قشتالة، في جيش ضخم، واتجه نحو ضفاف الإيبرو، واستولى على ناجرة وقلهرة، ثم سار إلى سرقسطة بحجة حمايتها من المرابطين، ولم يجرؤ

ص: 495

ملكا نافارا وأراجون على المقاومة لما آنساه من عزم ملك قشتالة، وضخامة قواته.

ودخل ألفونسو ريمونديس سرقسطة دون مقاومة، وكان بها الملك الراهب راميرو. فسلمه المدينة وكل أراضي أراجون الواقعة على ضفة الإيبرو اليسرى، وأعلن اعترافه بأنه يحكم أراجون في ظل قشتالة، ثم انسحب إلى وشقة، مكتفياً بلقب ملك أراجون وسوبرابي وريباجورسا. واجتمع بألفونسو ريمونديس في سرقسطة صهره رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، وكونت أورقلة، وعدة من كونتات ولايات البرنيه الفرنسية، وعقد الجميع معه عهود الصداقة والتحالف، ثم غادر ألفونسو ريمونديس سرقسطة بعد أن ترك بها حامية، وعاد إلى ليون، وهناك وفد عليه غرسية راميريس ملك نافارا، ينشد عونه ومحالفته، ويعترف بحمايته (1).

وأضحى ملك قشتالة، بعد أن بسط سيادته أو حمايته السياسية على بقية الممالك النصرانية المتاخمة لقشتالة، سيد إسبانيا النصرانية كلها، على نحو ما كان عليه جده ألفونسو السادس، ومن ثم فقد اتخذ مثله لقب الإمبراطور، ومنح هذا اللقب بصفة رسمية في مجلس قومي (كورتيس) عقد في ليون في ربيع سنة 1135 م، ثم توج بالتاج الإمبراطوري في الكنيسة الكبرى، وأضحى ألفونسو ريمونديس من ذلك الحين يلقب بالإمبراطور، أو القيصر ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع. وصدرت في مجلس ليون هذا، عدة قرارات هامة، منها موافقة الإمبراطور على تأييد سائر الحقوق والامتيازات التي منحت للكنيسة على يد الملوك السابقين، وتمت الموافقة بمسعى المطران ريمون الذي حل محل المطران برنار في رياسته للكنيسة، ومنها قرار يقضي بتطبيق القوانين والحقوق البلدية Buenos Fuaros في جميع أنحاء قشتالة والولايات التابعة لها، وهي القوانين والحقوق التي كانت في عصر ألفونسو السادس، وترتب على هذا القرار إلغاء كثير من التصرفات السابقة، وإلغاء بعض الإمتيازات التي انتزعها الأشراف لأنفسهم دون حق، كذلك صدر قرار بإنشاء نوع من الجند الاحتياطي من بين سكان الحدود، يحشد فيه كل رجل قادر على حمل السلاح، وذلك لرد غارات المسلمين، وقرار آخر يقضي بعقاب كل مجرم مهما كان شخصه ومقامه؛ بيد أنه لم يكن من الميسور أن تطبق مثل هذه القرارات العادلة، في عصر كان

(1) راجع تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الطبعة الثانية) ص 176، وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 251 ; R. Altamira: ibid ; Vol. I. p. 361 & 362

ص: 496

يسود فيه حكم القوة، ويعتبر الأشراف أنفسهم سلطة خاصة، تقرر ما تشاء وفق أهوائها، متى كان لها سند من القوة والإرغام، ولم يكن في مقدور العرش دائماً، أن ينفذ من جانبه بالقوة سائر القوانين والقرارات التي يصدرها.

ويعلق الأستاذ ألتاميرا على اتخاذ ألفونسو السابع للقب الإمبراطور بقوله، إنه كان يرمي بالاتشاح بهذا اللقب إلى مثل ما كان يرمي إليه امبراطرة الدولة الرومانية المقدسة منذ كارل الأكبر (شارلمان) والإمبراطور أوتو الألماني، من بسط سيادته على باقي ملوك الجزيرة، كما كان أولئك الامبراطرة يدّعون بسط سيادتهم على باقي ملوك القارة الأوروبية. والواقع أن ألفونسو السابع، استطاع بواسطة انتصاراته في نافارا (نبرّة) وأراجون أن يبسط سيادته على ملوك هاتين الدولتين، وقد اعترف له بالتبعية إلى جانبهم كونتات برشلونة وتولوشه وغيرهما، وكانت هذه الصفة الإمبراطورية تختلف عن مثيلتها الأوربية، بانحصارها في شبه الجزيرة الإسبانية (1).

وهكذا حققت قشتالة بارتفاع ملكها إلى مرتبة القيصر، سيادتها الأدبية، والفعلية، في معنى من المعاني، على ممالك اسبانيا النصرانية. بيد أن الخلاف لبث على أشده بين مملكتي أراجون ونافارا، ولاسيما على الحدود والألقاب الملوكية، وكاد الأمر بينهما يصل إلى الحرب. وفكر ملك أراجون الراهب بأن يعوض ضعفه بالاستعانة بملك قشتالة ضد نافارا، ونزل له عن قلعة أيوب ومواضع أخرى من التي كان ألفونسو المحارب قد افتتحها من المسلمين، واقترح أن يقدم ابنته الطفلة، بترونيلا، عروساً لسانشو ولي عهد قشتالة. وكانت سياسة راميرو هذه تلقي أشد معارضة من أشراف أراجون، إذ كانوا يرون فيها خطراً على استقلال بلادهم. وقيل إن راميرو استدعى نفراً من هؤلاء المعارضين ذات يوم إلى قصره، ودبر مصرعهم بطريقة غادرة، وهي رواية يشك في صحتها. وكان ملك نافارا، من جهة أخرى ينظر إلى مشاريع راميرو بعين التوجس والغضب، إذ كان يطمح أن يؤول إليه عرش أراجون، وكان ملك قشتالة من جانبه يخشى أن يشتد ساعد نافارا، وأن تغدو عاملا يهدد سيادته. ومن ثم فقد اعتزم ألفونسو ريمونديس أن يشهر الحرب على نافارا، وزحف عليها بالفعل في جيش ضخم، وذلك في سنة 1136 م. وانتهز ملك البرتغال الفتى ألفونسو هنريكيز هذه الفرصة،

(1) R. Altamira: ibid ; Vol. I. p. 361 & 362

ص: 497

فزحف في قواته على جلِّيقية، ونشبت الحرب في الناحية الأخرى من مملكة قشتالة. وبالرغم مما أحرزه ألفونسو ريمونديس من انتصارات محلية على النافاريين، فإنه رأى نفسه مرغماً على الانسحاب والارتداد إلى الناحية الأخرى، ليرد القوات البرتغالية عن جليقية. هذا إلى أن المسلمين كانوا في نفس الوقت يهددون حدود قشتالة الجنوبية. وهكذا قيض لنافارا أن تنجو من الخطر المحدق بها وأن تحافظ على استقلالها.

وفي تلك الأثناء كانت الأمور في أراجون تسير إلى وجهة جديدة. ذلك أن الملك راميرو برم بمتاعب الملك واعتزم أن يرتد إلى حياة العزلة والدير، لاسيما وقد أصبح لعرش أراجون وريث هي ابنته الطفلة بترونيلا، ومن الممكن أن يكون لها زوج يضطلع دونه بأعباء الملك ومشاقه. ومن ثم فقد دعا كبراء المملكة إلى اجتماع عقد في بربشتر (في أغسطس سنة 1137) وتقرر فيه أن تزوج بترونيلا من الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة. وكان معظم أشراف أراجون يحبذون هذا الاختيار، أولا لتجاور الشعبين الأرجوني والقطلوني وتقاربهما في العوايد والتقاليد، وثانياً لما يتصف به الكونت رامون من الخلال الملوكية الرفيعة، وثالثاً لأن هذا الاختيار لا يمكن أن يلقي معارضة من قشتالة نظراً لما يربط الكونت بمليكها من رباط المصاهرة. ورحب الكونت رامون بهذا العرض الذي يتيح له الفرصة لاعتلاء عرش أراجون، وعًقد القران الملكي في بربشتر بالرغم من أن الأميرة لم تكن تجاوز العامين من عمرها، وأعطى الكونت بمقتضى هذا القران حق السيادة على مملكة أراجون، وتلقب رامون برنجير الرابع بكونت برشلونة وأمير أراجون، وأقسم كبراء المملكة يمين الطاعة للملك الجديد.

وأعلن راميرو تنازله عن الملك بمدينة سرقسطة أمام كبراء المملكة، ووافق ملك قشتالة ألفونسو ريمونديس على هذه التصرفات كلها. وقدم دليلا على تأييده ورضاه بإخلاء مدينة سرقسطة وسائر الحصون التي كان يحتلها على ضفة الإيبرو لملك أراجون الجديد. وأقسم الكونت رامون من جانبه يمين الطاعة لألفونسو.

وارتد الملك الراهب راميرو إلى عزلة الدير مرة أخرى، وأقام بدير سان بيدرو بوشقة حتى توفي في سنة 1154 م.

وهكذا اختتمت مملكة أراجون الكبرى حياتها القصيرة، بعد أن لمعت حيناً

ص: 498

في عهد ألفونسو المحارب، وغدت كبرى الممالك النصرانية الإسبانية، واختُتم بوفاة المحارب عهد الملوك الأقوياء الذين قضوا على سلطان المسلمين في الثغر الأعلى، وانتزعوا قواعد مملكة سرقسطة. ولكن شاء القدر أن تعود مملكة أراجون فتنهض من عثارها الذي أصابها على يد الراهب راميرو، وتغدو باندماجها مع إمارة قطلونية، مملكة قوية كبرى.

2 -

اتحاد أراجون وقطلونية

والواقع أن إمارة برشلونة أو قطلونية الصغيرة، بموقعها على البحر، وثغرها العظيم، كانت تبدو من الناحية الجغرافية بالنسبة لأراجون، عضداً طبيعياً، وشطراً مكملا، أبلغ خطراً وأهمية من مملكة نافارا. وكان سير الحوادث في قطلونية وأراجون بالنسبة للكفاح ضد المسلمين يتخذ وجهة مماثلة، ويرى إلى هدف واحد، هو القضاء على مملكة سرقسطة الإسلامية. وقد اضطلعت قطلونية في هذا الكفاح بنصيب بارز، ولاسيما منذ عهد أميرها رامون برنجير الثالث المعروف " بالكبير " وهو الذي ولى الحكم منذ سنة 1092 م. ورأى الكونت رامون أن يقوي نفسه ضد المرابطين بالتحالف مع كونت أرقلة، وكونت باليارش، وكونت أربونة وغيرهم من الأمراء المجاورين. ولما غزا ابن الحاج والي سرقسطة المرابطي أراضي قطلونية في سنة 508 هـ (1114 م) فاجأته قوات الكونت رامون وحلفائه في جبال قطلونية، واشتبكت معه في معركة دامية قتل فيها ابن الحاج ومعظم جنده (1). فعندئذ بعث أمير المسلمين علي بن يوسف صهره الأمير أبا بكر بن إبراهيم والى مرسية في جيش كبير، لغزو برشلونة والانتقام لمصرع ابن الحاج، فاخترق أبو بكر أراضي قطلونية وهو يثخن فيها، وحاصر ثغر برشلونة، فخرج إليه أميرها الكونت رامون وحلفاؤه الفرنج، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة، قتل فيها كثير من الفريقين، وارتد المرابطون دون أن يحققوا نتائج حاسمة.

وفي سنة 1112 م تزوج الكونت رامون، عقب وفاة زوجه الأولى،

(1) سبق أن أشرنا إلى رواية ابن عذارى التي تقول إن ابن الحاج لم يقتل في هذه الموقعة وإنما قتل بعد ذلك بعام في موقعة نشبت بين المرابطين والقشتاليين على مقربة من قرطبة في سنة 509 هـ (راجع ص 72 و 75 من هذا الكتاب).

ص: 499

من دونيا دولثيا وارثة ولاية بروفانص الفرنسية، وكان لانضمام هذه الولاية الفرنجية القديمة المتمدنة، إلى إمارة قطلونية، أثر كبير في حضارتها، وفي تقدمها الفكري. وكذلك ضمت إلى قطلونية بضعة إمارات صغيرة أخرى فيما وراء البرنيه، سواء بموت أصحابها أو باتفاقات سابقة، وكان منها أتونة، وقرقشونة، وبذلك اتسعت رقعة مملكة قطلونية اتساعاً كبيراً.

واشترك الكونت رامون برنجير الثالث في حملة الغزو الكبرى إلى الجزائر الشرقية (1114 م)، وهي التي جهزتها جمهوريتا بيزة وجنوة، وتم استيلاء النصارى على ميورقة في العام التالي. ولكن أمير المسلمين علي بن يوسف بعث لاسترداد الجزائر أسطولا ضخماً، فاضطر النصارى إلى مغادرتها، واحتلها المرابطون وذلك في أواخر سنة 509 هـ (1116 م)، وعادت الجزائر الشرقية إلى حظيرة الإسلام، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه.

واستمر الكونت حيناً في صراعه ضد المرابطين، وقام بمعاونة البيزيين، والجنويين بمحاولات فاشلة لافتتاح طرطوشة، ومدينة لاردة. ولما شغل ألفونسو المحارب بغزواته الكبرى للأندلس، وصراعه المتصل بعد ذلك مع المرابطين، اشتد ضغط المرابطين على إمارة برشلونة، ولقي الكونت في مدافعتهم متاعب شديدة. وتتحدث الرواية عن هزيمة شنيعة لحقت بالقطلان على أيدي المرابطين أمام حصن " كورتيس " على مقربة من لاردة. ثم تفاقمت الأمور على الكونت برنجير بقيام أمير تولوشة بمهاجمة مقاطعة " بروفانص " التي كانت من أقاليم قطلونية فيما وراء البرنيه، واضطر الكونت أن ينزل عن سيادة نصف الولاية، وأن يؤول سيادة النصف الآخر إذا مات أحد الشريكين دون وارث، إلى الشريك الذي بقي على الحياة.

كان الكونت برنجير يرى دائماً أن يوحد جهوده مع ملك أراجون القوي، كلما سنحت الفرص. وكان ألفونسو المحارب يؤمن من جانبه بفائدة هذا التعاون.

وقد التقى الإثنان بالفعل، واتفقا على أن يعقدا نوعاً من التحالف يكون خطوة تمهيدية لعمل اتحاد فعلى أتم وأوثق بين المملكتين. وكان لكل من المملكتين فائدة محققة من عقد مثل هذا الاتحاد. فقد كانت مملكة أراجون بالأخص مملكة برية، تعتمد في قوتها على الجيوش البرية، ومن ثم فقد كان في وسعها أن تتفرغ لمقاومة ملك قشتالة القوي ألفونسو ريمونديس، وكبح جماح أطماعه. وكانت قطلونية

ص: 500

تعتمد بالأخص على قواتها البحرية، وكان بوسع الكونت برنجير، اعتماداً على هذه القوات، أن يؤمن مركز بلاده في البحر، وأن يقاوم في بعض الأحيان مطامع جمهورية جنوة. وفي سنة 1127 م عقد الكونت تحالفاً مع الدوق روجر (رجّار) ملك صقلية تعهد فيه بأن يمد الدوق بخمسين سفينة من أسطوله، وهو ما يدل على ما كانت تتمتع به إمارة قطلونية يومئذ، من قوى بحرية لها خطرها في تلك المياه.

ثم تطورت الحوادث، وتغير موقف قطلونية فجأة من مملكتي أراجون وقشتالة، وذلك بزواج ملك قشتالة ألفونسو ريمونديس من الأميرة برنجيلا إبنة الكونت رامون برنجير الثالث (سنة 1128 م). وقد كان لذلك أثره في تقوية مركز قطلونية من جهة، وفي علائقها بمملكة قشتالة من جهة أخرى. وكان الكونت رامون قد شاخ يومئذ، ولحقته أوصاب الشيخوخة، فجنح إلى الزهد والورع، واعتنق مبادىء فرسان المعبد (الداوية). وكان بعض أقطاب الداوية قد وفدوا قبل ذلك بقليل من المشرق إلى برشلونة ليسعوا في إنشاء فرع الجماعة في قطلونية، فرحب الكونت بمقدمهم، ومنحهم حصن " جرانينا " على مقربة من لاردة، وذلك ليعاون الفرسان في افتتاح هذه المدينة من أيدي المسلمين.

ثم توفي الكونت بعد ذلك بقليل في يوليه سنة 1131، بعد أن حكم مملكة قطلونية زهاء أربعين عاماً.

وكان الكونت رامون برنجير الثالث، أعظم أمراء تلك الأسرة التي حكمت قطلونية دهراً، مذ بدأت إمارة صغيرة تضم برشلونة، وأحوازها، وفي عهده نمت قوة قطلونية البحرية نمواً عظيماً، وازدهرت تجارتها، وعم بها اليسر، والرخاء، وازدهرت بها في نفس الوقت حركة تمدنية وفكرية ملحوظة، وكانت مملكة قطلونية تضم عند وفاته، ولايات برشلونة، وفيش، ومزيسه، وجيرندة (جيرونه) وسردانية، وقرقشونة، وبروفانص، وكانت حدودها الغربية تمتد حتى ريباجورسا.

وخلفه في إمارة قطلونية وسائر ممتلكاتها، ولده الأمير رامون برنجير الرابع، ما عدا ولاية بروفانص فقد منحت لولده الثاني برنجير رامون. وكان الأمير الجديد قرين أبيه كفاية وعزماً، فسار في نفس الطريق الذي رسمه أبوه، وبدأ بأن عمل على تحقيق فكرته في إقامة جمعية فرسان المعبد (الداوية) بقطلونية، وتقرر

ص: 501

ذلك بصفة رسمية في مجلس ديني عقد برياسة المطران أولاجير، وأعطى الفرسان حصن بربيره، في جبال براديس المشرفة على لاردة وطرطوشة (سنة 1133 م).

وسنعود فيما بعد إلى التحدث عن قيام هذه الجماعات الحربية الدينية في إسبانيا.

وفي العام التالي، أي في سنة 1134 م (528 هـ) نشبت موقعة إفراغة بين المرابطين وألفونسو المحارب، تحت أسوار إفراغة، وشاء القدر أن يسحق فيها النصارى، وأن يموت المحارب بعد وقوعها بأيام قلائل، وترتب على ذلك ما سبق أن فصلناه من انقسام مملكة أراجون الكبرى، عقب ارتقاء الراهب راميرو عرش أراجون، وعودة نافارا، إلى استقلالها القديم، ثم ما حدث بعد ذلك من زواج برنجير الرابع أمير قطلونية من الأميرة الطفلة بترونيلا إبنة راميرو، وانضمام مملكة أراجون إلى قطلونية، بعد أن تنازل عن عرشها راميرو، وارتد إلى عزلة الدير، وقيام مملكة قطلونية وأراجون المتحدة بموافقة ملك قشتالة وتأييدها وما كان يحدو ذلك المشروع من عوامل الانسجام والنجاح، وذلك كله في سنة 1137 م.

3 -

غزوات القيصر ألفونسو ريمونديس وحروبه

أخذت مملكة قشتالة في عهد ملكها الفتى ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع، تجوز عهداً من القوة والسلطان، كذلك الذي عرفته في عهد جده ألفونسو السادس. وكان ملك قشتالة، مذ صفا له الجو، ووضع على رأسه تاج الإمبراطور، يتطلع إلى إخماد كل نزعة إلى الخروج على سلطانه، وكان هذا موقف نافارا والبرتغال، حيث كانت كلتاهما تحرص على استقلالها، وتعرض عن كل اعتراف بسلطانه. وكانت البرتغال بالأخص، وهي المملكة التي نشأت إمارة متواضعة، في ظل قشتالة، وتحت حمايتها، ثم أخذت بمساعي خالته تريسا، في تحدي قشتالة، والإغارة على أراضيها، وتوسيع رقعتها شيئاً فشيئاً. وكان ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال وهو ابن تريسا، كأمه في تحدي سلطان قشتالة، وفي الحرص على استقلال مملكته. وكان مما يشغل ألفونسو ريمونديس، اتصال ملك البرتغال بالثوار الجلالقة، واعتداؤه بمعاونتهم على بعض أراضي جلِّيقية.

وقد وقع بالفعل حادث من هذا النوع في أوائل سنة 1137 م، حينما ثار اثنان من أشراف جليقية، هما جومث نونيو، وردريجو بيريث فيوزو، وكانا يحكمان " توي " فسلماها إلى ملك البرتغال، وتمكن ملك البرتغال فضلا عن ذلك من

ص: 502

خريطة:

الممالك الإسْبانية النصْرانيّة في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس (الموافق لعصر الخليفة عبْد المؤمن).

ص: 503

السيطرة على مناطق جليقية الجنوبية، فعندئذ تأهب ألفونسو ريمونديس لغزو البرتغال ووضع حد لعدوان ملكها، ولكن حدث نفس الوقت الذي تمت فيه أهبة الغزو، واجتمع القادة والزعماء ومنهم المطران خلمريث حول ملك قشتالة، أن وقعت مفاوضات سريعة بين الملكين، انتهت فجأة بعقد الصلح بينهما، وتعهد ألفونسو هنريكيز في هذا الصلح أن يكون صديقاً مخلصاً للقيصر، وأن يحترم أراضي الإمبراطورية، وأن يعاون القيصر في غزواته سواء ضد المسلمين أو النصارى، وأبرم هذا الاتفاق في مدينة توي في يوليه سنة 1137 م، وكان واضحاً من نصوصه أن البرتغال أضحت تحت حماية قشتالة. ويمكننا أن نفسر خضوع ملك البرتغال على هذا النحو الفجائي، بما كان يعانيه يومئذ من اشتداد ضغط المسلمين على أراضيه، وتوالي غزواتهم المخربة فيها. بيد أن ألفونسو هنريكيز لم يكن ينظر إلى ذلك الصلح، إلا على اعتبار أنه ضرورة مؤقتة، أملتها الظروف القاهرة، وأنه سوف ينقضه عاجلا أو آجلا.

وعندئذ اتجه ألفونسو ريمونديس إلى غزو الأندلس، فسار في قواته إلى منطقة جيان وبياسة وأبّدة وأندوجر، وهو يعيث فيها تخريباً وقتلا وسبياً ونهباً ولم يلق النصارى من المرابطين مقاومة شديدة في البداية، ولكن حدث أن فرقة من النصارى عبرت نهر الوادي الكبير لتتابع النهب والسبي، ولكنها لم تستطع العود إلى اقتحام النهر لهطل الأمطار الغزيرة، وفيضان الماء، ففتك بها الجند المرابطون وأبادوها جميعاً أمام أعين الإمبراطور وجنده (سنة 1138 م)، فارتد القيصر إلى طليطلة وهو يضطرم سخطاً. وحاول بعد ذلك بقليل أن ينتقم لهذا الحادث بمحاصرة قورية، فدافع عنها المسلمون أشد دفاع، وكان فشلا آخر حز في نفس الإمبراطور (1).

وفي العام التالي، خرج ألفونسو لغزو حصن أورليا أو أوريخا Oreja وهو الذي تسميه الرواية العربية بحصن " أرنبة " على مقربة من طليطلة، وكان أمنع الحصون الإسلامية في منطقة الحدود، فهرعت القوات المرابطية من قرطبة ومن مرسية وإشبيلية لإنجاده بقيادة الأمير يحيى بن غانية، وكان ألفونسو ريمونديس يرابط بقواته إزاء الحصن المحصور، في انتظار القوات الإسلامية، وكانت زوجه الملكة برنجيلا تشرف في غيابه على الحامية الموكلة بالدفاع عن طليطلة.

(1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 287

ص: 504

فحدث، حسبما تقصه علينا الرواية النصرانية، أن الجنود المرابطية حينما وصلت في طريقها إلى ظاهر طليطلة، أن أطلت عليها الملكة برنجيلا ووصيفاتها من شرفة القصر، وبعثت إلى ابن غانية رسولا، يؤنبه بلسانها على أنه يحاول أن يهاجم مكاناً تدافع عنه امرأة، في حين أن القوات القشتالية تنتظره بقيادة الإمبراطور عند حصن أوريخا، فارتد القواد المسلمون أمام هذا التأنيب، ولم يقوموا بأية محاولة لإزعاج القشتاليين، وسقط حصن أوريخا في يد الإمبراطور بالأمان، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في موضعه. ولم تشر الرواية الإسلامية إلى هذا الحادث الذي يتسم بالفروسية، بيد أنها تضع حصار حصن أوريخا وسقوطه في سنة 525 هـ (1130 م)، بينما تضعه الرواية النصرانية، في سنة 1137 م، أو سنة 1139 م (1).

وكانت الخطوة التالية تفاهم ألفونسو ريمونديس وصهره رامون برنجير الرابع أمير قطلونية وأراجون، على الإيقاع بمملكة نافارا. وعقد الملكان اتفاقاً بهذا الشأن في كريون، يقضي بتحالفهما على محاربة غرسية راميريس، واقتسام أراضي نافارا، وأن يختص ملك قشتالة بولاية ريوخا وكل الأراضي الواقعة شرقي نهر إيبرو، وهي التي كان يملكها جده ألفونسو السادس، وأن يستولي أمير قطلونية على سائر أراضي أراجون، التي كان يملكها سانشو وبيدرو ملكا أراجون من قبل. أما منطقة بنبلونة فإن القيصر يستولي على ثلثها، ويستولي رامون برنجير على باقيها مع اعترافه بسيادة قشتالة على هذا الجزء، على نحو ما كان عليه الشأن أيام ألفونسو السادس. وتنفيذاً لهذا الاتفاق زحف الكونت رامون بقواته على نافارا من ناحيتها الجنوبية، وزحف عليها القيصر في قواته من ناحية الشمال الغربي، ولكن غرسية راميريس ملك نافارا استطاع في كثير من الشجاعة، والبراعة، أن يرد القوات الأرجونية، أما القوات القشتالية فقد استطاعت أن تخترق نافارا، وأن تطوق عاصمتها بنبلونة، واكتفى غرسية راميريس بأن يلتزم خطة الدفاع، حتى يطيل أمد المعركة وينهك قوى خصومه. وكان غرسية راميريس أعقل من أن يغامر بالدخول في معارك حاسمة مع القوات القشتالية، فلجأ إلى رجال الدين في طلب الإنجاد بالمفاوضة وعقد الصلح، وعاون في اتخاذ

(1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 228 - Ibars: Valencia Arabe p. 482 - 484 وراجع ما سبق أن أوردناه عن هذا الحادث (ص 151 من هذا الكتاب).

ص: 505

هذه الخطوة الكونت جوردان أمير تولوشه، الذي جاء حاجاً إلى شنت ياقب. وعقدت معاهدة الصلح بين غرسية راميريس والإمبراطور في قلهُرّة في أكتوبر سنة 1140 م، وهي تقضي بأن يعترف ملك نافارا بسيادة الإمبراطور، وأن تتزوج الأميرة بلانكا إبنة غرسية من الأمير سانشو ولد الإمبراطور الكبير، وأن تُسلم نظراً لصغرها إلى الإمبراطور، حتى تربى وتكبر في بلاط قشتالة.

وهكذا أُنقذت نافارا إلى حين.

غير أن هذا التصرف لم يرق الكونت رامون، وسخط الشعب الأرجوني على الإمبراطور لأنه لم يحسب حساباً لاتفاق كريون. ومن ثم فقد عول الكونت أن يعمل لحساب نفسه، وأن يشهر الحرب وحده على نافارا بقوات أراجون وقطلونية. واضطرمت الحرب ضد نافارا من جديد. ولكن غرسية هزم الأرجونيين، وتوغل في أراضي أراجون، واستولى على عدة من البلاد، والحصون، وأخذ يفكر في خلع طاعته للإمبراطور. وعندئذ خشي ألفونسو ريمونديس عاقبة هذا الظفر الذي أحرزه غرسية، وسار في قواته لإنجاد الكونت رامون، وزحفت القوات المشتركة على نافارا كرة أخرى (سنة 1143 م).

وهنا تذرع غرسية بالحكمة، وبادر بالإذعان والتسليم، وأخلى سائر الأماكن التي انتزعها من أراجون، وعقد الصلح بين الفريقين من جديد، واتفق أن يتزوج غرسية، الذي توفيت زوجته منذ أعوام، بالأميرة أوراكا ابنة القيصر غير الشرعية، وعقد هذا الزواج الملكي بالفعل في مدينة ليون في يونيه سنة 1144 م في حفلات باذخة، اشتهرت بين أحداث هذا العصر، ووضع بذلك حد للنزاع بين نافارا وجارتيها أراجون وقشتالة.

وفي خلال ذلك كانت قشتالة تتابع كفاحها ضد المسلمين، وذلك سواء بالعمل على صد غزواتهم، والقيام في أراضيهم بغزوات مماثلة، أو محاولة انتزاع ما يمكن انتزاعه من قواعد الحدود. وكان المرابطون قد استولوا على قلعة " مورة " المنيعة الواقعة جنوبي طليطلة، وذلك في سنة 1140 م، واتخذوها قاعدة للإغارة على أراضي قشتالة المجاورة، فحشد ألفونسو ريمونديس جيشاً ضخماً، وبعث حاكم طليطلة ردريجو فرنانديث على رأس بعض قواته إلى منطقة وادي يانة " فعاثت في أحواز قرطبة وإشبيلية ". وسار الإمبراطور بنفسه في حملة أخرى إلى قلعة قورية، وحاصرها مدى شهرين حتى سقطت في يده في يونيه سنة

ص: 506

1142 م (536 هـ) وذلك بعد أن يئست حاميتها المسلمة من تلقي أية نجدة.

وتقص علينا الرواية النصرانية، قصة غزوة قام بها القشتاليون بقيادة نونيو ألفونسو حاكم مورة السابق، في الأراضي الإسلامية، وأسفرت المعركة التي نشبت بين القشتاليين وبين قوات إشبيلية وقرطبة، عن هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة، ومصرع والي إشبيلية وقرطبة، ورُفع رأساهما في طليطلة على رمحين، واستولى القشتاليون على كثير من الغنائم والأسرى، وذلك في أواخر سنة 1142 م (537 هـ). ولم نجد في المراجع الإسلامية أي ذكر لمثل هذه الموقعة.

وكذلك لم نجد بها أي ذكر لما تقصه الرواية النصرانية بعد ذلك من أن القيصر أرسل في العام التالي أعني في سنة 1143 م (538 هـ) حملة جديدة بقيادة مارتن فرنانديث ونونيو ألفونسو، لتحول دون قيام المسلمين بتحصين قلعة مورة، فخرج والي قلعة رباح في قواته - وتسميه الرواية النصرانية فرج - واشتبك مع القشتاليين في معركة هزم فيها القشتاليون، وفر مارتن فرنانديث جريحاً، وقتل نونيو فوق تل قريب يسمى " صخرة الوعل " مدافعاً عن نفسه، فاحتز رأسه، وقطعت ذراعه اليمنى، ورجله اليمنى، وأرسلتا إلى قرطبة وإشبيلية، لتعرضا على أرملتي الواليين القتيلين تعزية لهما، ثم أرسلت بعد ذلك إلى أمير المسلمين تاشفين بن علي بمراكش (1).

فأثارت هذه الهزيمة في نفس الإمبراطور أيما ألم وسخط، وأقسم بالانتقام لمصرع قائده، فخرج في العام التالي (1144 م) في قواته إلى أراضي الأندلس؛ وأثخن في أحواز قرطبة وإشبيلية، وانتسف الزروع وأحرق القرى، ووصل في سيره المخرب حتى أراضي غرناطة، وألمرية، ثم عاد إلى بلاده، مثقلا بالغنائم والأسرى.

ثم كانت ثورة القواعد الأندلسية على المرابطين، وكان من الواضح أن هذه الغزوات النصرانية المخربة، وما يقترن بها من القتل والسبي والنهب، وعجز المرابطين عن ردها، كانت من العوامل التي أذكت سخط الأمة الأندلسية على المرابطين، ورغبتها في التخلص من نيرهم، وقد رأينا كيف استغل القيصر ألفونسو ريمونديس هذه الفرصة السانحة، في بسط عونه لمن لجأ إليه من الثوار الأندلسيين

(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 183 و 184 وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 291

ص: 507

أمثال ابن حمدين، وابن هود، ثم قدم عونه لزعيم المرابطين ابن غانية، حينما علم بعبور الموحدين إلى الأندلس، وعاونه على الاحتفاظ بسلطانه على قرطبة، ووصل الأمر بعد ذلك إلى أن احتل القيصر عاصمة الخلافة القديمة لأمد قصير، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في موضعه.

وكانت أعظم ضربة نزلت بالأندلس يومئذ، واشترك فيها القيصر ألفونسو ريمونديس، افتتاح ثغر ألمرية العظيم، على يد الحملة الصليبية البرية والبحرية التي اشتركت في تجهيزها ممالك اسبانيا النصرانية، قشتالة ونافارا وأراجون ومعها جنوة وبيزة، ونجحت خلال الاضطراب العام الذي أصاب الأندلس يومئذ، في الاستيلاء على ألمرية، وذلك في شهر أكتوبر سنة 1147 م (542 هـ)، وقد بقي الثغر الإسلامي في أيدي النصارى عشرة أعوام كاملة، وكانت للقيصر وحاميته القشتالية فيه اليد العليا، حتى افتتحه الموحدون في أواخر سنة 1157 م.

ونكبت الأندلس في نفس الوقت بفقد قواعدها الباقية في الثغر الأعلى.

واستولت عليها كذلك حملة صليبية من جنود قطلونية وأراجون وبيزة وجنوة بقيادة الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، فاستولت أولا على ثغر طرطوشة، وذلك في آخر سنة 1148 م (شعبان 543 هـ)، ثم استولت على مدينة لاردة في أكتوبر من العام التالي (544 هـ)، واستولت كذلك، على إفراغة، ومكناسة وبذلك انتهت سيادة المسلمين في الثغر الأعلى، وقد سبق أن تناولنا هذه الحوادث كلها تفصيلا.

وانتهز غرسية راميريس ملك نافارا فرصة انشغال خصمه القديم الكونت رامون بافتتاح قواعد الثغر الأعلى، فغزا ولايات أراجون المجاورة. وتفسر لنا الرواية النصرانية سر هذا العدوان بقولها إن غرسية كان يرمي إلى إرغام الكونت على أن يتزوج من ابنته بلانكا، وأن يجعل ذلك شرطاً لعقد السلام بين أراجون ونافارا، وذلك بالرغم من أن دونيا بلانكا كان قد تقرر زواجها من سانشو ولي عهد قشتالة، وأن الكونت رامون كان قد عقد زواجه التمهيدي بالأميرة الطفلة بترونيلا ابنة الملك الراهب راميرو، وقد اضطر الكونت رامون أن يشتري سلام بلاده بالخضوع لهذه الرغبة، وأن يتعهد في معاهدة الصلح التي عقدت بأن يتزوج من إبنة ملك نافارا (يوليه سنة 1149 م). بيد أنه ما كاد يشعر بانقشاع الخطر عن أراجون، حتى هرع إلى الكنيسة يجثو أمام هيكلها مع عروسه

ص: 508

بترونيلا، يجدد العهد بارتباطه معها برباط الزواج المقدس. وتصف الرواية القطلونية هذا التصرف بأنه عمل فريد من الختل والخديعة يذكر في حياة الكونت.

وشغل القيصر ألفونسو ريمونديس، أو ألفونسو السابع، في ذلك الوقت بحادثين داخليين، أولهما عقد المؤتمر الكهنوتي في بالنسيا في سنة 1148 م، ليعني ببحث المسائل الدينية والكنسية، وثانيهما وفاة زوجه الملكة برنجيلا، في سنة 1149 م. وكانت وفاة هذه الملكة الموهوبة الحازمة ضربة أليمة للقيصر أثارت في نفسه أيما حزن وشجن. وكان القيصر منذ حين قد فوض لولديه سانشو الذي خصه بلقب ملك قشتالة، وفرناندو الذي خصه بلقب ملك ليون، توقيع الأوامر والمراسيم العامة، متشبهاً في ذلك بجديه ألفونسو السادس، وسانشو ْالكبير، في تقسيم كل منهما المملكة بين أولاده، حال حياته، ثم بعد مماته، وهي السياسة التي كانت تنتهي دائماً باضطرام الحرب الأهلية بين الممالك النصرانية.

وفي سنة 1150 م توفي غرسية راميريس ملك نافارا، وخلفه ولده سانشو الملقب بالعالم، فرأى القيصر في ذلك فرصة جديدة للإيقاع بنافارا، وفي الحال اجتمع بحليفه القديم الكونت رامون برنجير في تطيلة، وجددت بينهما معاهدة التقسيم التي عقدت من قبل في كريون، ولم يكتف الملكان بالاتفاق على تقسيم نافارا، ولكنهما اتفقا في نفس الوقت على تقسيم القواعد والأراضي الإسلامية التي لم تفتح بعد، فاختص ملك أراجون بكل أراضي بلنسية، ومرسية، وتعهد دون سانشو ولد القيصر، أن يعاون الكونت في افتتاح نافارا، وتعهد الكونت من جانبه بأنه في حالة موت القيصر، يعترف بكل ما يحكمه سانشو، وإذا توفي الأب والابن، فإنه يعترف لأخيه فرناندو بسيادته على أراضي المملكة.

بيد أن تطور الحوادث قضى بنجاة نافارا من هذه المؤامرة إلى حين. وذلك أنه قد تم زواج دونيا بلانكا أخت ملك نافارا بالدون سانشو ملك قشتالة في العام التالي (1151 م)، واحتفل بعقده بمدينة قلهرّة بحضور الملوك الثلاثة، ملوك قشتالة وأراجون ونافارا. وفي نفس العام عقد زواج القيصر الأرمل ألفونسو ريمونديس من الأميرة ريكا إبنة لادسلاو ملك بولونيا، وقدمت إلى قشتالة في العام التالي، واستقبلها زوجها القيصر في بلد الوليد في مظاهر واحتفالات باذخة.

وتم زواج سانشو ملك نافارا من دونيا سانشا ابنة القيصر من زوجه الملكة برنجيلا (سنة 1153). وفي العام التالي تزوجت ابنة القيصر الثانية، دونيا

ص: 509

كونستنزا من لويس السابع ملك فرنسا، وكان قد طلق زوجه الأولى إليونور دي جيان. وحدث بعد عقد هذا الزواج أن ثارت بعض الريب حول أرومة الملكة كنستنزا، وقيل بأنها ليست ابنة شرعية للقيصر من زوجه الملكة برنجيلا، وأنها بالعكس ابنة غير شرعية من خليلته كوندرادا. ورأى الملك لويس أن يتحقق بنفسه من الأمر، فسافر إلى اسبانيا محتجاً بزيارة قبر القديس ياقب في شنت ياقب (سنة 1155 م). ولم يكن القيصر يجهل السبب الحقيقي لمقدم صهره، فرتب لاستقباله في برغش، ثم في طليطلة حفلات باذخة، ظهر فيها البلاط القشتالي في أفخم مظاهره وأروعها، وحضرها ملك نافارا، والكونت رامون برنجير ملك أراجون، وأثار القيصر أمام الملوك مسألة ابنته كونستنزا، وخاطب لويس بقوله: لقد زوجتك ابنتي كونستنزا إبنة الملكة برنجيلا أخت هذا الأمير الكونت رامون. والتفت رامون إلى لويس قائلا: أجل إن زوجتك هي ابنة أختي، فعاملها بالاحترام والتكريم، وإلا فانتظر مقدمي في باريس مع القيصر كعدوين. وعندئذ اقتنع لويس بأصل زوجته الملكي الرفيع، وعاد إلى بلاده مغتبطاً راضياً (1).

وكان الكونت رامون برنجير، قد عقد في نفس الوقت زواجه الفعلي بالأميرة بترونيلا الأرجونية، وكانت قد بلغت عندئذ الثامنة عشرة من عمرها، ولما شعرت هذه الأميرة باقتراب وضعها الأول، عملت وصية مفادها، أنه إذا كان المولود ذكراً، فإنه يرث مملكة أراجون على نحو ما كانت عليه في عهد ألفونسو المحارب، وأن يكون لزوجها الكونت رامون إدارة المملكة خلال حياته، وإذا مات الولد، وبقي الكونت حياً، فإنه يغدو الملك المطلق للمملكة كلها. أما إذا كان المولود أنثى، فكل ما ترغبه بشأنها هو أن يعني والدها بأن يزوجها وأن يمهرها بسخاء. وبعد ذلك وضعت الأميرة ولداً سمي رامون طول حياة والده، ثم غير اسمه بعد وفاته، إلى ألفونسو، فكان هو وارث المملكتين قطلونية وأراجون.

ولم يمض قليل على ذلك حتى شهر سانشو ملك نافارا الجديد الحرب على أراجون يبغي تحقيق أطماع والده غرسية راميريس، واضطر الكونت رامون،

(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 233 و 234 وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 278

ص: 510

أن يعود مسرعاً من غزوة كان يقوم بها في بيارن، فيما وراء البرنيه، وعندئذ سار القيصر ألفونسو ريمونديس إلى لاردة، وذلك ليقوم بالتدخل بين الملكين المتحاربين في الظاهر، ولكنه اجتمع بالكونت رامون، وجدد معه الاتفاق القديم على تقسيم نافارا، ولم تمنعه وشائج المصاهرة الوثيقة بينه وبين ملك نافارا زوج ابنته. وأخ زوجة ولده سانشو، من الائتمار به على هذا النحو، وتم الاتفاق في الوقت نفسه بين القيصر والكونت على تزويج دون رامون الصغير ولد الكونت، وكان في الرابعة من عمره، من دونيا سانشا ابنة القيصر من زوجه الجديدة الملكة ريكا، وكانت في الثانية من عمرها.

4 -

أعوام القيصر الأخيرة ووفاته ووفاة رامون برنجير الرابع

ومما هو جدير بالذكر، أن هذه الفترة من الحفلات والزيجات الملوكية المتوالية، قد عاقت عاهل قشتالة فترة قصيرة، عن متابعة غزواته لأراضي الأندلس، فهو مذ قام في سنة 1151 م (546 هـ) بغزوته، لمدينة جيان ونهبها، وقد كانت يومئذ بأيدي الموحدين، لم يعد إلى مهاجمة الأندلس إلا في سنة 1155 م (550 هـ)، وذلك حينما نجح في الاستيلاء على أندوجر وحصن البطروج، واحتلتهما القوات القشتالية لفترة يسيرة، ثم عاد الموحدون بقيادة ابن يكيت والي قرطبة، فاستردوهما، واستولوا على بعض الحصون النصرانية المجاورة، وذلك حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل في موضعه.

وكانت آخر المعارك الخطيرة التي خاضها القيصر مع الموحدين، هي معركة ألمرية. وكان الموحدون بعد استيلائهم على قرطبة وغرناطة، قد وضعوا خطتهم لاسترداد ألمرية، التي افتتحها النصارى منذ سنة 1147 م، (542 هـ). وقد سبق أن فصلنا حوادث افتتاح النصارى لهذا الثغر الإسلامي العظيم، ثم حوادث استرداده على أيدي الموحدين. وكان القيصر ألفونسو ريمونديس قد سار لإنجاد حاميته النصرانية في جيش كثيف، وسار معه حليفه محمد بن سعد بن مردنيش أمير شرقي الأندلس في قواته، ولكن جهود القيصر وحليفه المسلم ذهبت عبثاً، واضطر النصارى إلى تسليم ألمرية إلى الموحدين، بعد حصار دام سبعة أشهر، وذلك في أواخر سنة 1157 م (أواخر سنة 552 هـ). وارتد القيصر في قواته

ص: 511

إلى بلاده، وقد حطم هذا الفشل الأخير قواه المعنوية. وفي طريق العودة أصابته حمى شديدة، فاضطر إلى التوقف في مكان بالقرب من بلدة مورتلة (موردال)، وهنالك تلقى القداس، وأسلم الروح، وذلك في 21 أغسطس سنة 1157 م، وهو في سن الحادية والخمسين.

وكان القيصر ألفونسو ريمونديس، أو ألفونسو السابع، أو ألفونسو الثامن إذا اعتبرنا أن ألفونسو المحارب ملك أراجون، كان أيضاً وقت زواجه بالملكة أوراكا ملكاً لقشتالة، من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، وكان هو أول ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة، الذين ينتمون إلى الأسرة البرجونية الملوكية، الذين حكموا قشتالة حتى القرن الخامس عشر. وكان يتسم بكثير من الحزم والقوة، وقد أمدته التجارب القاسية التي شهدها خلال صباه، أيام الخصومات والحروب الأهلية التي اضطرمت بين أمه أوراكا وزوجها ألفونسو المحارب من جهة، وبين أمه وبين الأشراف الخوارج من جهة أخرى، بكثير من الخبرة والمقدرة على معالجة شئون الملك، والذود عن العرش، ومن ثم فقد استطاع أن يقمع ثورات الأشراف الخارجين، وأن يحد من سلطانهم ونزعاتهم الثورية، واستطاع منذ وفاة ألفونسو المحارب أن يحتل السيادة والصدارة بين ملوك اسبانيا النصرانية. وقد رأينا كيف كان ألفونسو ريمونديس، يعلق على صفة الإمبراطورية نتائج ضخمة، وبالرغم من أن هذه الصفة لم يكن لها بالنسبة لباقي ممالك اسبانيا النصرانية سوى طابع أدبي، فإنه كان يحرص على سلطانه كإمبراطور، وكان (وفقاً لقول النقد الإسباني)" يحلم بإمبراطورية حقيقية، تشتمل على كل إمكانيات التوسع الإسباني، وكل العوامل التاريخية للوطن الإسباني، وتمتد جذورها إلى تراث العالم الروماني، وإلى وحدة العرش القوطي، وكان منذ اتشح بالثوب الإمبراطوري في سنة 1135 م، يسير وفق برنامج مدروس راسخ، وكان هذا البرنامج يقوم على شقين، الأول الإصلاح الداخلي في الناحيتين الإدارية والقضائية، والثاني، وهو الناحية السياسية الخارجية يقوم على المحافظة على سمعة الإمبراطورية، بكافة الوسائل السلمية والعسكرية ".

" وغاية هذا البرنامج النهائية، هو الهجوم العام على الإسلام، وكان الاندفاع نحو فتوح الاسترداد Reconquista يستمد قوته من مصادر كثيرة، من نفس النظرية الإمبراطورية، ومن توحيد مختلف الأراضي والجهود،

ص: 512

والخلاف القائم بين المسلمين في شبه الجزيرة، وضرورة حماية هيبة الإمبراطورية ومكانتها إزاء البابوية والعالم الخارجي، كل ذلك كان يخلق اندفاعاً قوياً ومستمراً، يضع الإسلام في شبه الجزيرة في موقف من أدق مواقفه. وقد أكد ألفونسو السابع نيته في متابعة هذه الحرب المستمرة على الإسلام، عقب التتويج الإمبراطوري مباشرة، في إخطاره لأهل مملكته ولسكان الحدود، بأن يشهروا الحرب على المسلمين في كل سنة، وأن يزعجوهم بلا هوادة، وألا يفروا من بلادهم أو حصونهم، وأن ينتزعوا منهم كل شىء في سبيل الله، ومن أجل الدين المسيحي " (1).

وتشيد الرواية النصرانية بخلال ألفونسو ريمونديس، وتقول لنا إنه من القلائل من ملوك اسبانيا النصرانية، الذين يستحقون صفة القيصر بجدارة، وتشيد كذلك بفروسته وشجاعته وعدله وتقواه، ورعايته للكنائس والأديار.

بيد أنه ليس من ريب في أن ألفونسو ريمونديس كان ملكاً جشعاً، وافر الأطماع، وكان لا يفرق في تحقيق أطماعه بين الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، وقد رأينا موقفه من مملكة نافارا الصغيرة الشجاعة الأبية، وكيف أن وشائج القرب والمصاهرة لم تمنعه من الائتمار باستقلالها غير مرة. أما سياسة ألفونسو ريمونديس نحو الأندلس المسلمة، وهي السياسة التي صورها لنا النقد الإسباني فيما تقدم، فلم تكن تختلف في شىء عن سياسة أسلافه: سياسة التربص والغدر والعدوان المستمر، وسياسة الضرب والتفريق بين المتوثبين والمتخاذلين من زعمائها، وانتهاز الفرص للإيقاع بها، وانتزاع أراضيها بكل الوسائل. والواقع أن الجيوش القشتالية أيام ألفونسو ريمونديس لم تترك للمسلمين في شبه الجزيرة أية هدنة.

ففي سنة 1133 م، قام ألفونسو بغزوته الكبرى خلال الأندلس، ووصل في زحفه إلى شريش وأرض الفرنتيرة، ولم تستطع الجيوش المرابطية أن تقف في سبيله. وهو مذ تقلد التاج الإمبراطوري في سنة 1135، دائب الغزو لأراضي الأندلس، فإذا لم تكن ثمة غزوة كبيرة، فقد كانت ثمة غارات مخربة على الحدود. وفي سنة 1139 افتتح حصن أوريخا (أرنبة). وفي سنة 1142 م، افتتح قورية. وفي سنة 1146، دخل قرطبة استجابة لدعوة ابن حمدين،

(1) وردت هذه الملاحظات، ضمن تصوير لعهد ألفونسو السابع، قدم به الأستاذ العميد S. Montero Diaz لمحاضرته La Orden de Calatrava y su perspectiva universal المنشورة في كتاب: La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) p. 8

ص: 513

ثم ندب لحكمها ابن غانية. وفي سنة 1147 استولى على قلعة رباح، واشترك مع الجيوش النصرانية الأخرى في الاستيلاء على ألمرية، وهكذا استمر الصراع على أشده بين الجيوش القشتالية الغازية والجيوش المسلمة، مرابطية أو غيرها، طوال أيام ألفونسو السابع.

ويعرف ألفونسو ريمونديس في الرواية الإسلامية بألفنش بن رمند أي ألفونسو بن ريموند وهو اسم أبيه الكونت ريموند البرجوني، ويعرف كذلك بالسليطين أي الملك الصغير لأنه حكم منذ طفولته.

وحكم الكونت رامون برنجير الرابع بضعة أعوام أخرى، وشغل في الأعوام الأخيرة من حكمه. بمنازعات ومعارك مختلفة فيما وراء البرنيه، في ولاية بروفانص، وهي التي كان يحكمها أخوه الكونت برنجير رامون، حتى نازعه فيها بعض الأمراء المحليين، وقتل مدافعاً عن ولايته. وقد نجح الكونت يومئذ في إرغام أشراف بروفانص على الاعتراف بطاعته وتلقب بلقب كونت دي بروفانص مضافاً إلى ألقابه. ولكن بعض الأمراء المحليين عادوا فأثاروا الاضطراب في بروفانص، منضوين تحت حماية القيصر فردريك الأول امبراطور ألمانيا.

وأخيراً تحول القيصر إلى مناصرة الكونت رامون، ومنحه عهد الجزية على بروفانص وعلى عاصمتها آرل، كما كان الأمر من قبل. ثم سافر الكونت رامون وابن أخيه برنجير إلى تورينو حيث كان يقيم القيصر، ليتلقيا منه عهد الجزية، فمرض الكونت وتوفي خلال الطريق، وذلك في السادس من أغسطس سنة 1162 م.

وكان رامون برنجير الرابع، من أعظم أمراء اسبانيا النصرانية في ذلك العصر، الذي تعددت فيه الممالك الإسبانية، ومن أوفرهم ذكاء وعزماً ومقدرة.

وفي وسعنا أن نعتبره مؤسس عظمة مملكة أراجون الحقيقي. وكان سبيله إلى ذلك إدماج قطلونية وأراجون في مملكة قوية موحدة، وكان حكمه يتسم بالقوة والحكمة والعدل، وقد استطاع بسياسته المستنيرة أن يتقى كثيراً من الحروب والمنازعات، وأن يحافظ على سلام مملكته ورخائها. بيد أنه كان كسائر أقرانه ملوك اسبانيا النصرانية يضطرم تعصباً ضد المسلمين، ولا يدخر جهداً محاربتهم، وقد استطاع أن ينتزع آخر القواعد الإسلامية في الثغر الأعلى، وأن يقضي بذلك نهائياً على سلطان المسلمين، في هذا الركن من اسبانيا.

ص: 514

5 -

قشتالة بعد وفاة ألفونسو ريمونديس والحرب الأهلية بين أسرتي كاسترو ولارا

لما توفي القيصر ألفونسو ريمونديس في أغسطس سنة 1157 م، قسمت مملكته بين ولديه، وذلك وفقاً للنظام الذي وضعه في أواخر حياته، فاختص ولده سانشو الثالث بعرش قشتالة والأراضي التابعة لها في أعالي التاجُه، وعاصمتها طليطلة، مع حق الجزية على مملكتي نافارا وأراجون. واختص ولده الصغير فرناندو بمملكة ليون وجليقية وأشتوريش، مع حق السيادة على مملكة البرتغال، وبهذا التقسيم الجديد لمملكة قشتالة الكبرى، أصبحت الممالك الإسبانية النصرانية خمساً هي مملكة أراجون وقطلونية المتحدة، ونافارا، وقشتالة، وليون والبرتغال.

وكان هذا الوضع الجديد للممالك الإسبانية نذيراً بتطور الحوادث، وبانهيار سيادة قشتالة، التي استطاع القيصر ألفونسو ريمونديس، أن يفرضها على باقي الممالك الإسبانية، وبدأت الأمور كالعادة بنشوب الحرب الأهلية بين الأخوين، ملكي قشتالة وليون. وذلك أن فرناندو ملك ليون بدأ حكمه باضطهاد سائر الكبراء والأشراف المخلصين لقشتالة، فجردهم من مناصبهم وأملاكهم، وأخرجهم من مملكته اتقاء لمؤامراتهم ودسائسهم، فالتجأ هؤلاء إلى أخيه سانشو ملك قشتالة، فسار سانشو في قواته ومعه الأشراف المبعدون، وغزا ليون، وأرغم أخاه على أن يرد المبعدين إلى مناصبهم، وأن يرد إليهم أملاكهم ومكانتهم، وأرغمه فوق ذلك على أن يعترف بسيادته وأن يؤدي له الجزية.

وفي خلال ذلك حاول سانشو ملك نافارا، أن يرفع نير قشتالة عن مملكته، وأن يسترد ولاية ريوخا القديمة، ولكن سانشو الثالث بادر بإرسال حملة قوية إلى نافارا، فخشى ملكها العاقبة، وآثر أن يعقد الصلح على أن تبقى الأوضاع القديمة على حالها.

وكان سانشو الثالث يجيش بأطماع كثيرة، وكان يطمع بالأخص إلى أن ينظم مع باقي الممالك الإسبانية حلفاً مشتركاً لمحاربة الموحدين، الذين سيطروا على غرب الأندلس وأواسطها، وأضحوا يهددون أرض قشتالة، ولكن هذه

ص: 515

الآمال تحطمت كلها، إذ توفي سانشو فجأة في آخر أغسطس سنة 1158 م، بعد أن حكم عاماً فقط، ولم يترك لوراثة عرشه سوى طفل في الثالثة من عمره، هو ألفونسو الذي لقب فيما بعد بالنبيل، واختار في وصيته للولاية على ولده والقيام بمهام الحكم، مؤدبه الكونت جوتيرو فرنانديث سليل أسرة كاسترو القوية، وكان لهذا الاختيار أثره في مجتمع الأشراف، وفي اضطرام المنافسة بين أسرة كاسترو، وخصيماتها من الأسر الشريفة، وعلى رأسها أسرة لارا، وقد كانت تضارع آل كاسترو، قوة وعصبية ومحتداً.

سخطت أسرة لارا لما خصت به أسرة كاسترو من الوصاية على الملك الطفل، وخشي الكونت جوتيرو عاقبة سخطها ووعيدها، فعهد بتربية الملك الطفل إلى الكونت غرسية دي آنيا قريب آل لارا، والمتصل بهم بأوثق الصلات، وذلك كوسيلة لتجنب الخصام والمحافظة على السلم، ولكن غرسية ما لبث أن برم بهذه التبعة الثقيلة، فسلم الطفل إلى الكونت ألمانريش كبير آل لارا، فثار الكونت جوتيرو لهذا التصرف، وأصر أن يعاد إليه الطفل، وهدد بالحرب، ولكنه لم يلبث أن توفي، فتابع أبناء أخيه المطالبة، وأصروا على استعادة الملك الطفل استناداً إلى الوصية الملكية، فلما أصر آل لارا على موقفهم، لجأ آل كاستروا إلى فرناندو ملك ليون، عم الملك الطفل، لكي يحمي ابن أخيه، فسار ملك ليون في الحال إلى قشتالة في جيش ضخم، واحتل معظم قواعدها، وأعلن أنه يتولى الحكم والوصاية على ابن أخيه، واعترف بطاعته معظم الشعب القشتالي (سنة 1159 م).

واشتد فرناندو في مطاردة آل لارا، حتى أرغموا أخيراً على تسليم الملك الطفل. وعمد فرناندو بعد ذلك إلى اصطفاء آل كاسترو، وتجريد آل لارا من أملاكهم ومناصبهم وألقابهم، وترتب على ذلك أن ثارت بين الفريقين حرب دموية، خربت فيها الضياع، وأحرقت القرى، وقاتل ملك ليون إلى جانب آل كاسترو، حتى أرغمت أسرة لارا أخيراً على التسليم، وأعلنوا أنهم يعودون إلى الطاعة، وأنهم يقسمون بالتزامها إذا أعيد إليهم الطفل الملكي قبل ذلك. واتفق الفريقان على أن يجتمع لذلك الغرض مجلس في بلدة " سُرية " يشهده آل لارا والملك فرناندو، ومعه ابن أخيه الطفل. ولكن حدث خلال انعقاد هذا المجلس، أن اختطف الطفل فارس جرىء من رجال آل لارا، وسرعان ما عمد زعماء آل لارا وفي مقدمتهم الكونت ألمانريش إلى الفرار من

ص: 516

المجلس دون أن يقسموا يمين الطاعة، وأدرك فرناندو، بعد فوات الوقت، ما دبره خصومه من غدر وخديعة.

ووضع آل لارا الطفل الملكي في قلعة إستبان دي جورمت المنيعة، وأذاعوا في طول البلاد، وعرضها أنهم يعملون على حماية الملك الطفل، وحماية استقلال قشتالة. من مطامع الملك فرناندو، وانضم إليهم فريق كبير من أهل قشتالة.

ومع ذلك فقد بقي التفوق إلى جانب فرناندو وأنصاره آل كاسترو، وكان يؤيده بالأخص رجال الدين، وعلى رأسهم مطران طليطلة. واستمرت هذه الحرب الأهلية بين الفريقين أعواماً، وبذل فيها آل لارا جهوداً عنيفة، وقتل زعيمهم الكونت ألمانريش في إحدى المعارك. وكان وجود الملك الطفل في أيديهم، يساعدهم على حشد الأنصار والموارد. وأخيراً رجحت كفتهم على قوات ليون، واضطر الملك فرناندو، إلى أن يطلب العون من خصميه القديمين، ملك نافارا، وملك البرتغال. وكانت الأحوال خلال ذلك تتطور في قشتالة، وأخذ الشعب يتحول عن آل كاسترو وعن قضيتهم، ويرى في بقاء ملك ليون وجنوده خطراً على استقلال البلاد. ومن جهة أخرى، فإن ملك ليون لم يحظ بالعون المنشود من محالفة البرتغال ونافارا، وزاد في متاعبه أن قامت ثورة محلية في أراضي استرامادوره، وثارت مدينتا آبلة وشلمنقة على سلطانه، وأخذ آل كاسترو في نفس الوقت يفقدون هيبتهم ونفوذهم، لما ارتكبوه من عسف ومظالم.

وانتهزت أسرة لارا فرصة هذا التحول، فسارت في أنصارها إلى طليطلة عاصمة قشتالة، واستولت عليها عنوة، ونادت بقيام حكم الملك الطفل ألفونسو، وكان قد بلغ عندئذ الحادية عشرة من عمره، ودعت جميع القشتاليين إلى الالتفاف حول الملك الشرعي، ومقاومة الليونيين وآل كاسترو. وكان ذلك في سنة 1166 م.

واتجهت قشتالة كلها عندئذ إلى تأييد ملكها الصبي، الذي لقب بألفونسو النبيل، واستأثر آل لارا بجميع السلطات، وتحول رجال الدين أخيراً عن ملك ليون، ليؤيدوا الملك الشرعي، وعقدت قشتالة الهدنة مع نافارا، وعقدت حلفاً مع أراجون. وأيقن فرناندو ملك ليون أخيراً أنه لا أمل في مثل هذا الموقف وآثر أن ينسحب من أراضي قشتالة، وأن يترك حلفاءه آل كاسترو لمصيرهم، واضطر آل كاسترو عندئذ إلى مغادرة قشتالة، والالتجاء إلى أراضي المسلمين، وهنالك أخذوا يرقبون الفرص للعودة والانتقام، وأسدل الستار بذلك مدى

ص: 517

حين على صراع هاتين الأسرتين القشتاليتين الكبيرتين (1).

6 -

قيام جماعات الفرسان الدينية

وقد امتاز هذا العصر - النصف الأول من القرن الثاني عشر - وهو عصر ألفونسو المحارب، وألفونسو ريمونديس، بظهور قوة جديدة في ميدان الصراع بين اسبانيا النصرانية واسبانيا المسلمة، هي جماعات الفرسان الدينية.

وكانت هذه الجماعات قد ظهرت في المشرق على أثر اضطرام الحروب الصليبية، وسقوط بيت المقدس في أيدي الفرنج الصليبيين، وظهرت طلائعها في اسبانيا، في عصر ألفونسو المحارب. وكانت أول جماعة قامت في أراجون من هذا النوع هي جمعية الفرسان الدينية التي أنشأها ألفونسو المحارب في سنة 1120 م، على أثر موقعة كتندة، في قلعة " مونريال " على مقربة من دروقة، وظهر فرسان الداوية أو فرسان المعبد بعد ذلك في إمارة برشلونة، وشجعهم أميرها الكونت رامون برنجير الثالث على القيام في مملكته، ومنحهم حصن " جرانيينا " على مقربة من لاردة، ليكون مقراً لهم، ثم انتظم في سلكهم قبيل وفاته في سنة 1131 م.

ولما توفي ألفونسو المحارب، خص فرسان المعبد في وصيته بثلث مملكته، باعتبارهم حماة النصرانية في بيت المقدس، كما خص فرسان الأسبتارية، كذلك بنصيب آخر من مملكته. وقد رأينا فيما تقدم كيف رفض الشعب الأرجوني أن ينفذ هذه الوصية حرصاً على سلامة الوطن الأرجوني. وقد رأى الفرسان أنفسهم استحالة تنفيذ مثل هذه الوصية، لأنها مسألة لا تحل إلا بقوة السلاح، ومن ثم فقد نبذوا باختيارهم هذه الحقوق، واكتفوا بالمطالبة، بأن يعوضوا عنها بما يعاونهم على الاستقرار، وتأدية مهمتهم في حماية الدين. ومن ثم فقد رأى أمير أراجون فيما بعد الكونت رامون برنجير الرابع، تعويضاً لفرسان المعبد (الداوية) أن يمنحهم عدة حصون في أراجون ومنتشون وكلامير وغيرها مع ما يلزم لها من المرافق والغلات التي تساعدهم على العيش، وكذلك حصل الفرسان على حق الإعفاء من الخضوع لقضاء الملك، وعلى أن يعطوا نصيباً معيناً في المدن التي انتزعت من المسلمين مثل وشقة وبربشتر وسرقسطة، وقلعة أيوب وغيرها، وفي مقابل ذلك يتعهد الفرسان بأن يكرسوا حياتهم لحماية النصرانية في تلك

(1) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 321 - 324

ص: 518

الأنحاء، وتم هذا الاتفاق في اجتماع عقد في مدينة جيرنده (1) في سنة 1143 م، وشهده مندوب من البابا، وكثير من الأساقفة وأشراف أراجون وقطلونية.

وهكذا تم لجمعية فرسان المعبد الشهيرة أن تستقر في أراجون وقطلونية.

وسرعان ما نمت واشتد ساعدها، وظهرت أهمية العون الذي يبذله أعضاؤها في محاربة المسلمين، ولاسيما في الدفاع عن القواعد والحصون الواقعة على الحدود.

وألفى هذا المثل صداه في قشتالة، عقب وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس، وقيام ولده سانشو. وكانت قلعة رباح، في مقدمة هذه المعاقل الأمامية التي تحمى مداخل قشتالة، وكانت فضلا عن أهميتها الدفاعية، تسيطر على مقاطعة جيان الأندلسية، وكان ألفونسو السابع قد عهد بالدفاع عنها إلى فرسان الداوية، وكانت القوات الموحدية تزحف على هذه القلعة من آن لآخر وترهقها بهجماتها العنيفة. ولما استولى الموحدون على ألمرية، جددوا هجومهم في سنة 1158 م على قلعة رباح، ولم يستطع فرسان الداوية إنقاذها من السقوط الا بشق الأنفس، فلما أيقنوا بعجزهم عن القيام بمهمتهم الفادحة، غادروا القلعة وسلموها إلى سانشو ملك قشتالة، ليعني هو بأمر الدفاع عنها. وألفى سانشو نفسه في مأزق حرج. وكان ثمة في طليطلة راهب ورع هو ريموندو أو رامون رئيس دير فتيرو، ومعه راهب ورع من أسرة نبيلة يدعى ديجو بلاسكيث، وكان فارساً مقداماً ظهر في ميدان الحرب، فتقدم الراهبان إلى الملك سانشو، بأن يعهد إليهما بمهمة الدفاع عن قلعة رباح، فأجابهما الملك إلى ما طلبا. وأيد مشروعهما يوحنا مطران طليطلة، وألقى عظات وعد فيها بالغفران لكل من يتقدم للدفاع عن القلعة، فلم يمض سوى قليل حتى استطاع الراهب ريموندو أن يجمع حوله في قلعة رباح عشرين ألف مقاتل، وأمده كثيرون ممن لم يشتركوا في الدفاع بالخيل والدواب والمال. وكان لهذه الحركة القوية أثرها في رد الموحدين عن مهاجمة القلعة. وفي الحال رأى الراهب رامون أن يؤلف من أولئك الذين يرغبون أن يكرسوا حياتهم للدفاع عن النصرانية جمعية من الإخوة. وهكذا قامت جمعية " فرسان قلعة رباح "(سنة 1161 م).

وانتخب الراهب ريموندو أول رئيس لها، وصادق البابا على قيامها، وطبقت عليها النظم الحربية، وأخذت تنمو باضطراد، وتؤدي مهمتها في مدافعة المسلمين بهمة وحماسة. ولما توفي أستاذ الجمعية الأول، ريموندو دي فتيرو في سنة 1163 م

(1) هي بالإسبانية Gerona، وهي تقع شمال شرقي برشلونة على مقربة من البرنيه.

ص: 519

خلفه في رياستها الراهب غرسية النافاري، ووضع للجمعية نظاماً جديداً، أقره البابا اسكندر الثالث. ثم وضع البابا إنوصان الثالث بعد ذلك الجمعية تحت حمايته، وذلك في سنة 1199 م (1).

وقامت في جليقية، بعد قيام جمعية قلعة رباح بثلاثة أعوام جمعية محاربة جديدة باسم " جماعة القديس ياقب " وشعارها محاربة أعداء الدين، والدفاع عن الحاج الذين يقصدون زيارة قبر القديس ياقب، ونظمت على منهج القديس أوغسطين، واتخذت طابعاً حربياً، وأبيح الزواج لأعضائها، خلافا لفرسان قلعة رباح، وتوالت عليها الهبات، وسرعان ما نمت واشتد ساعدها.

وسوف تضطلع هذه الجمعيات الدينية المحاربة منذ الآن فصاعداً بدور بارز في الصراع بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة.

(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية ص 268) والاستاذ S. Montero في La Orden de Calatrava، p. 16 & 17

ص: 520