المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

‌الفصل الثالث

الثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

خواص الثورة في شرقي الأندلس. بلنسية مركز الثورة في الشرق. فرار واليها عبد الله بن غانية. اختيار القاضي ابن عبد العزيز لولايتها. القتال بين المرابطين أهل بلنسية. استيلاء ابن عبد العزيز على شاطبة. استيلاء ابن عياض على مرسية. تمرد الجند. فرار ابن عبد العزيز وسقوطه في يد ابن غانية. ولاية ابن عياض لبلنسية وعبد الله بن سعد لمرسية. مصير ابن عبد العزيز ووفاته. حوادث مرسية. تدخل ابن هود في شئونها. قيام القاضي ابن أبى جعفر بولايتها. مسيره لإنجاد ابن حمدين ومصرعه. تطور شئون الرياسة في مرسية. تقديم أبى عبد الرحمن بن طاهر لولايتها. السعي إلى خلعه. دخول ابن عياض مرسية. اعتزال ابن طاهر وعبوره إلى المغرب. دعوة ابن عياض لرياسة ابن هود في بلنسية ومرسية. مقدم ابن هود إلى مرسية. خروجه وابن عياض لمقاتلة النصارى. مقتل ابن هود وعبد الله ابن سعد. موقعة البسيط. ظروفها وبواعثها حسبما تصورها الرواية النصرانية. سيف الدولة بن هود. شخصيته وأعماله. خضوعه لتوجيه ملك قشتالة. أدبه وشعره. ابن عياض يدعو لنفسه في بلنسية. نائبه محمد بن سعد بمرسية. القائد عبد الله الثغري. نجاحه في انتزاع مرسية. استرداد ابن عياض لمرسية ومصرع الثغري. إمارة ابن عياض بمرسية وبلنسية. مصرعه والخلاف حول ذلك. محمد بن سعد ابن مردنيش يخلفه في بلنسية ثم في مرسية. محمد بن سعد وحقيقة أصله. ولعه بمصادقة النصارى والتشبه بهم. يبسط سلطانه على شرقي الأندلس. سياسته نحو الممالك النصرانية. عقده لمعاهدات صلح مع أمير برشلونة وجمهوريتي بيزة وجنوة. إقدامه وشجاعته. حليفه ابن همشك. أصله ونشأته. أعماله وظهوره. تغلبه على مدينة شقورة. محالفته ومصاهرته لمحمد بن سعد. استيلاء النصارى على قواعد الثغر الأعلى. موقف ابن مردنيش من ذلك الحادث. استيلاء النصارى على ألمرية وقلعة رباح. استيلاء ابن همشك على شقورة. بيعة ابن مردنيش ببلنسية ومرسية استيلاؤه على بسطة ووادي آش. مواجهته للموحدين في أواسط الأندلس.

لم تكن تلك الثورات التي نشبت ضد المرابطين في أواسط الأندلس وفي غربيها، سوى جانب فقط من الثورة العامة، التي اضطرمت بها الأندلس من أقصاها إلى أقصاها. ذلك أن ريح الثورة قد اجتاحت في الوقت نفسه شرقي الأندلس كله، من بلنسية إلى ألمرية، وكانت الثورة في شرقي الأندلس، أعرق مثلا، وأعمق جذوراً. وأشد مراساً منها في الغرب، وكانت تُسيرها منذ البداية فكرة قومية عميقة، هي الفكرة الأندلسية الخالصة، فكانت تضطرم ضد

ص: 353

المرابطين والموحدين معاً، بنفس العنف والإصرار، وكانت العوامل الجغرافية والعسكرية، تشد من أزرها، وتضاعف مقدرتها على المقاومة، فقد كانت قواعدها الرئيسية، بعيدة عن متناول الجيوش الموحدية، وكان اتصالها بالبحر يمدها بوسائل وموارد خاصة، وكان وقوعها على مقربة من الممالك النصرانية، يفتح لها باب الاتصال المستمر بالملوك النصارى، ومحالفتهم، والاستنصار بهم، وكانت هذه الوسيلة بالرغم مما يحيط بها من ملابسات ذميمة، تعتبر في تلك الآونة من الخطط المشروعة، في مقاومة الغزاة المحتلين، مرابطين كانوا أو موحدين.

وثمة عامل آخر، في استفحال الثورة وصمودها في شرقي الأندلس، هو انحصار زعامتها، وتركيزها مدى أعوام طويلة، في شخصية واحدة قوية، كانت تجتمع حولها خيوط المقاومة، وكان يحدوها إيمان عميق بالفكرة الأندلسية، تتحطم عليه سائر الاعتبارات الدينية: تلك هي شخصية محمد بن سعد بن مردنيش، أعظم ثوار الأندلس ضد الموحدين، وأشدهم مراساً، وأعنفهم كفاحاً.

- 1 -

وكانت بلنسية تحتل في شرقي الأندلس، نفس المكانة، التي تحتلها قرطبة في الوسط، وإشبيلية في الغرب، باعتبارها قاعدة لسلطان المرابطين، ومركزهم الدفاعي في هذا القطاع من الأندلس. وكان للمرابطين عناية خاصة بتأمين ثغر بلنسية، لموقعه الدقيق على مقربة من الثغر، والممالك النصرانية، يولونه الصفوة من القرابة والخاصة، فكان ضمن ولاتها الأمير مزدلي بن تيولتكان، محررها من الغزاة النصارى، والأمير أبو الطاهر تميم بن يوسف، ومحمد بن يوسف ابن يدِّر، والأمير أبو زكريا يحيى بن غانية. وكان على ولايتها حينما اضطرمت الثورة في غربي الأندلس، وفي قرطبة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي أخى يحيى بن غانية، وقاضيها يومئذ أبو عبد الملك مروان بن عبد الله بن مروان ابن عبد العزيز، وكان قد ولاه منصب القضاء الأمير تاشفين بن علي في ذي الحجة سنة 538 هـ.

فلما نشبت الثورة في قرطبة، بعد نشوبها في الغرب، ونادى ابن حَمْدين بخلع نير المرابطين، طافت ريح الثورة بقواعد شرقي الأندلس، وهاجت الخواطر في بلنسية وغيرها، واجتمع واليها عبد الله بن محمد بن غانية، وقاضيها

ص: 354

أبو عبد الملك مروان بن عبد العزيز، وتفاهما، بالرغم مما كان بينهما من المنافسة الباطنية، على الائتلاف والتعاون على حفظ النظام وضبط المدينة، واجتمع الناس في المسجد الجامع في أواسط رمضان سنة 539 هـ، فخطب فيهم مروان، وذكرهم بجهاد اللمتونيين ضد النصارى، ونصرهم لقضية الأندلس، وتحريرهم لبلنسية من أيدي القشتاليين، وحثهم على التمسك بدعوتهم والوفاء لهم. وتكلم الوالي بمثل ذلك، وذكرهم بأيام عمه يحيى بن غانية، وبما انعقد بينهم وبينه من التعاطف والمودة. بيد أن هذا التفاهم الظاهر بين زعيمي المدينة، لم يكن سوى ستار لما يضطرم في الأنفس الثائرة، وسرعان ما توجس الوالي عبد الله ابن غانية من نيات زميله وحليفه القاضي، ومما قد يجيش به الشعب نحوه ونحو اللمتونيين من المقاصد الخطرة، فبعث أهله وأمواله خفية إلى شاطبة، ثم لحق بهم في صحبه في اليوم التالي، واستطاع، بالرغم مما وقع بينه وبين جند بلنسية من مناوشة، أن يلوذ بالفرار، وأن يصل إلى شاطبة. فلما استقر بها، أخذت سرياته اللمتونية تغير على أحواز بلنسية، وتثخن فيها، وتعتدي على الأموال والأنفس، فتقدم الجند والعرب وأعيان المدينة إلى ابن عبد العزيز، بأن يتولى أمرهم، فأبى، وقال لهم اختاروا لولايتكم من ترون من شيوخكم، فوقع الاختيار على بعض زعماء لمتونة، ممن بقي منهم بالمدينة، وأراد هذا الزعيم الجديد أن يقبض على ابن عبد العزيز، فلم يستطع، ثم تولاه الخوف والروع، ففر إلى شاطبة، ومعه بقية أشياخ لمتونة، ووقع إجماع الناس على اختيار القاضي ابن عبد العزيز للولاية، فاستتر منهم، فسعى إلى الانفراد به، أبو محمد عبد الله ابن عياض قائد الثغر، وعبد الله بن مردنيش، وأقنعاه بقبول الإمارة، فقبلها مكرهاً وبويع له في اليوم الثالث من شوال من نفس السنة، وولي عبد الله بن عياض الثغر وما والاه، واستمر المرابطون خلال ذلك في غاراتهم وعيثهم في أحواز المدينة، فحشد ابن عبد العزيز جنود الثغر وسار إلى شاطبة، فخرج المرابطون من قصبتها إلى المدينة، وعاثوا فيها وسبوا النساء، والتقى جند بلنسية بالمرابطين، ونشبت بين الفريقين موقعة هزم فيها المرابطون، فعادوا إلى الامتناع بالقصبة، وقدم عسكر من مرسية بقيادة قاضيها ابن أبى جعفر محمد بن عبد الله لإنجاد ابن عبد العزيز، وتعاونا على حصار شاطبة، وكلاهما يضمر في نفسه أن يفوز بها، ثم وصل ابن عياض في جند الثغر، وأدرك عبد الله بن محمد بن غانية، الوالي

ص: 355

السابق، أنه لا طاقة له بهذه القوى، ففر من شاطبة في نفر من خاصته، واستطاع أن يلحق بألمرية، وهنالك لقى محمد بن ميمون قائد الأسطول في تلك المنطقة وكان قد بقى على طاعة المرابطين، فجهزه إلى ميورقة، حيث كان أبوه محمد ابن غانية يتولى أمر الجزائر، فاستقر إلى جانبه، وكان من أمر بني غانية، ودولتهم بالجزائر الشرقية أيام الموحدين، ما سوف نذكره في موضعه (1).

واستولى ابن عبد العزيز على شاطبة صلحاً، وحصنها وعين لها قائداً، وانضمت إليه لَقَنت وما يجاورها، فاتسعت إمارته، وضخم أمره، ثم عاد إلى بلنسية حيث جددت له البيعة، وذلك في شهر صفر سنة 540 هـ. وانصرف ابن أبى جعفر إلى مرسية، ثم خرج منها بعد ذلك لإنجاد ابن أضحى في غرناطة، وقتل حسبما تقدم، في المعركة التي نشبت بينه وبين المرابطين.

ولكن ابن عبد العزيز لم يلبث أن آنس متاعب جمة من تمرد الجند، وعجز الجباية، وقصوره عن الوفاء بأجور الجند، وما تتطلبه المصالح العامة، فخاطب الجند ابن عياض، يستعجلونه في الوصول إليهم للاضطلاع بزمام الأمور، وكان عندئذ بمرسية، بعد استيلائه عليها، من واليها السابق أبى عبد الرحمن بن طاهر، وذلك في جمادى الأولى سنة 540 هـ (1145 م). وفي أثناء ذلك، أحاط الجند بقصر الإمارة فشعر ابن عبد العزيز بالخطر، وغادر القصر خفية، وتدلى من سور بلنسية ليلا، وسار حتى لحق بألمرية، وهنالك قبض عليه ابن ميمون أمير البحر، ودفعه إلى عدوه السابق عبد الله بن غانية، وكان ما يزال بألمرية، فاحتمله معه عبد الله مصفداً إلى ميورقة.

وعلى أثر اختفاء ابن عبد العزيز، قدّم الجند للرياسة عبد الله بن محمد بن سعد بن مردنيش صهر ابن عياض نائباً عنه، وأسكنوه قصر بلنسية. وفي آخر جمادى الأولى، قدم ابن عياض إلى المدينة، وقد وصلته بيعة أهلها، وهو في طريقه إليها، فأقام بها حيناً ينظم شئونها ويحصن ثغورها. ثم عاد إلى مرسية، وترك صهره عبد الله بن سعد بن مردنيش أميراً عليها من قبله، وهو عم محمد ابن سعد بن مردنيش زعيم الشرق فيما بعد، ويعرف بصاحب البسيط، لأنه استشهد، في موقعة البسيط مع ابن هود حسبما نذكر بعد (2).

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 212 - 214، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 256.

(2)

الحلة السيراء ص 215.

ص: 356

وأما ابن عبد العزيز، فقد لبث يرسف في سجنه بميورقة لدى بني غانية نحو عشرة أعوام، وهو يعاني أمر ضروب العذاب والمهانة، حتى قيض الله له الخلاص في النهاية، بواسطة الوزير أبى جعفر بن عطية، وكان والي ميورقة يومئذ إسحق بن محمد بن غانية، وليها بعد مقتل أبيه محمد وأخيه عبد الله، وجنح إلى مهادنة الموحدين، فأطلق سراحه، وبعث به إلى ثغر بجاية، وذلك في سنة 548 هـ فسار إلى مراكش، وهنالك عاونه ابن عطية على أن ينتظم في مجلس الخليفة العلمى، بيد أنه لم يرع لابن عطية، شكر الصنيعة، ونظم في حقه أبياته المشهورة في التحريض عليه، ومطلعها:

قل للإمام أطال الله مدته

قولا تبين لذي لب حقائقه

فكانت هذه الأبيات حسبما نذكر بعد، من أقوى الأسباب في نكبة ابن عطية، وظل ابن عبد العزيز مقيماً بمراكش في خمول ونسيان حتى توفي سنة 578 هـ (1182 م) في الثالثة والسبعين من عمره (1).

- 2 -

ونود قبل أن نمضي في تتبع مصاير الثورة في بلنسية وتطوراتها، أن نتناول ما وقع من الأحداث في مرسية، وباقي أعمال الشرق.

ْكانت مرسية ثاني قواعد الشرق بعد بلنسية، وكانت تحتل في النصف الجنوبي من شرقي الأندلس، نفس المركز الدفاعي، الذي تحتله بلنسية في النصف الشمالي، ومن ثم فإنا نجد في فترات الثورة، واضطراب الأحداث السياسية والعسكرية، دائماً صلة وثيقة بين ما يقع في هاتين القاعدتين من أحداث وتطورات، وقد كان هذا شأنهما أيام الطوائف، ثم كان شأنهما حينما اجتاحت ريح الثورة ضد المرابطين سائر قواعد الأندلس في الغرب والشرق معاً.

وقد رأينا كيف نشبت الثورة في بلنسية في الوقت الذي اضطرمت فيه بقرطبة، وقام القاضي ابن حمدين بدعوته، ففي هذه الآونة بالذات تضطرم الثورة أيضاً في مرسية، ويختار أهلها لرياستهم زعيماً منهم، يدعى أبو محمد بن الحاج اللورقي، ودعا اللورقي لابن حمدين، ولكنه لم يلبث في رياسته سوى بضعة أسابيع، خلال شهري رمضان وشوال سنة 539 هـ، ثم رغب في التخلي عن منصبه لما آنسه من صعاب ومتاعب لا قبل له بها. وكان سيف الدولة بن هود، قد غادر عندئذ

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 215 و 216، وكذلك في التكملة (القاهرة) رقم 1751.

ص: 357

مقره على مقربة من طليطلة، وأخذ يترقب فرص الحوادث هنا وهنالك. فلما نمى إليه ما وقع في مرسية، بعث إليها قائداً من قواده يدعى بعبد الله بن فتوح الثغري، فأخرج منها ابن الحاج ودعا لابن هود، ولكنه لم يلبث أن أخرج منها بدوره، وقدم الفقيه القاضي أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبى جعفر الخشني، وذلك في آخر شوال من السنة المذكورة، فلبث في منصبه حتى أوائل سنة 540 هـ (1145 م)، وكان يتبرم بالإمارة ويقول: إنها " ليست تصلح لي، ولست بأهل لها، ولكني أريد أن أمسك الناس بعضهم عن بعض حتى يجىء من يكون لها أهلا ". ولما سار القاضي مروان بن عبد العزيز أمير بلنسية إلى شاطبة لمقاتلة من امتنع بها من اللمتونيين، سار الفقيه ابن أبى جعفر في بعض قواته لمعاونته "، ثم سار من مرسية في قواته مرة أخرى لمعاونة القاضي ابن أضحى زعيم الثورة في غرناطة على قتال الملثمين ويقال إن قوات أبى جعفر، بلغت في هذه الحملة اثنى عشر ألفاً من خيل ورجل، فخرج الملثمون إلى لقائه في جموع كثيفة، ونشبت بين الفريقين في ظاهر غرناطة، موقعة عنيفة، هزم فيها ابن أبى جعفر وقتل، وذلك حسبما فصلنا من قبل في أخبار الثورة في غرناطة. ونقل إلينا ابن الأبار عن ابن صاحب الصلاة رواية أخرى، خلاصتها، أن عبد الله الثغري كان قائداً بمدينة كونكة، فلما سمع بقيام ابن حمدين بقرطبة، سار إليه والتحق بخدمته، وفي خلال ذلك جاءت الأنباء من مرسية بقيام ابن الحاج ثم تبرمه من الرياسة، فبعث ابن حمدين إليهم الثغري والياً، فقدّم الفقيه ابن أبى جعفر قاضياً، وذلك في منتصف شهر شوال سنة 539 هـ، فأبدى شغفاً شديداً بالظهور والتعلق بالرياسة، وحشد الناس لقتال المرابطين في أوريولة، وغدر بهم عند نزولهم بالأمان، وقتلهم، فذاع صيته. ثم داخل أهل مرسية في أن يؤمروه، وأن يُقدم للقضاء أبو العباس ابن الخلال، ولقيادة الخيل عبد الله الثغري، فوافقوه على ذلك. ولما عقدت له البيعة، نبذ طاعة ابن حمدين، ودعا لنفسه وتلقب بالأمير الناصر لدين الله، ثم قبض على الثغري وعلى صهريه، ابني مسلوقة، وعين لقيادة الخيل زعنون أحد وجوه الجند، ثم سار إلى شاطبة لنصرة ابن عبد العزيز في مقاتلة المرابطين بها، فثارت العامة خلال غيبته بمرسية، وأطلقوا سراح الثغري وصهريه. فسار إلى مرسية على عجل، وأخمد الهياج، وفر الثغري إلى كونكة. وعاد ابن أبى جعفر إلى متابعة القتال في شاطبة. ثم عاد بعد هزيمة الملثمين، وفرار أميرهم عبد الله بن غانية إلى

ص: 358

مرسية، وذلك في صفر سنة 540 هـ. ثم غادرها مرة أخرى في قواته إلى غرناطة لإنجاد ابن أضحى وقتل حسبما تقدم في الموقعة التي نشبت بينه وبين المرابطين (1).

ولما عادت فلول عسكر مرسية بعد مقتل أميرها، أجمع أهل مرسية على تقديم أبى عبد الرحمن بن طاهر للرياسة، وذلك في أواخر شهر ربيع الأول سنة 540 هـ، فانتقل إلى القصر، ودعا لابن هود ثم لنفسه. وأبو عبد الرحمن هذا، هو محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي، سليل بني طاهر أمراء مرسية أيام الطوائف. وقد سبق أن تحدثنا في أخبار مملكة مرسية عن أصلهم وعراقة بيتهم، في الوجاهة والسراوة والعلم. وكان جده أبو عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية، من أعظم علماء عصر الطوائف وكتابه، وقد أشاد بذكره وروعة أدبه ابن بسام صاحب الذخيرة (2)، وكان هو أي أبو عبد الرحمن بن طاهر الحفيد، صنو جده في العلم والأدب والبراعة في الترسل.

تولى أبو عبد الرحمن بن طاهر الإمارة، وقدم أخاه أبا بكر على الخيل. وكان ابن حمدين حينما اضطربت الأحوال في مرسية، قد وجه إليها قوة وبقيادة ابن عمه المعروف بالقلفلي، ومعه أبو محمد بن الحاج وغيره من أعيان مرسية اللاجئين إلى قرطبة، فردت هذه القوة كسابقتها. وهكذا بدأ ابن طاهر إمارته، في جو مكفهر، والدسائس تضطرم من حوله. ولم تمض أيام قلائل على رياسته، حتى خاطب بعض أهل مرسية، أبا محمد عبد الرحمن بن عِياض قائد جند الثغر في بلنسية في القدوم إليهم وتقلد الرياسة، فبادر بالسير إلى مرسية، وتلقاه في طريقه والى أوريولة، وهو القائد زعنون الذي تقدم ذكره، وسلمه إياها، ثم سار إلى مرسية، ومعه عدة من وجوه أهل مرسية، الذين خرجوا إلى لقائه والسير في ركابه، كل ذلك وابن طاهر يعمل هادئاً في قصره، ولا يدرى بما يدور حوله من الأحداث. ثم دخل ابن عياض مرسية، وقد برز الناس إلى لقائه، وابن طاهر، مستمر على سكوته وعلى حسن ظنه، ودخل ابن عياض القصر، لا يدفعه عند أحد، فلم يشعر ابن طاهر، إلا وقد نُزع من رياسته، فانتقل إلى داره، وعف ابن عياض عن دمه، توقيراً له، وإشفاقاً لضعفه. وتم هذا الإنقلاب في العاشر من جمادى الأولى سنة 540 هـ (أكتوبر سنة 1145 م).

(1) الحلة السيراء ص 218.

(2)

راجع كتابي " دول الطوائف " ص 175.

ص: 359

ولم تمض أيام قلائل على ذلك حتى طورت الحوادث في بلنسية، وخلع مروان ابن عبد العزيز من الإمارة، واستدعى الجند ابن عياض لتولي الرياسة مكانه، فسار ابن عياض إلى بلنسية في آخر سهر جمادى، وقد فر عنها ابن عبد العزيز مخلوعاً، وبويع بالإمارة، ودعا لابن هود، وأقام بها حيناً ينظم شئونها، ثم غادرها إلى مرسية، بعد أن أقر عليها صهره عبد الله بن سعد بن مردنيش عنه في رياستها حسبما تقدم من قبل.

أما ابن طاهر، فإنه لزم داره، وعاش في عزلة وهو يشهد تطور الحوادث في مرسية، وفي شرقي الأندلس، في ظل زعيمه وأميره فيما بعد محمد بن سعد ابن مردنيش، ويشهد صراعه المرير مع الموحدين، وهو يزداد، توجساً وحذراً، كلما تطورت الحوادث، وكلما تقدمت به السن، إلى أن توفي ابن مردنيش في سنة 567 هـ، فعندئذ دخل في طاعة الموحدين، وعبر البحر إلى المغرب، وتوفي بمراكش في سنة 574 هـ (1).

وقد أشرنا فيما تقدم، إلى ما كان من مقدم سيف الدولة بن هود إلى قرطبة، بدعوة أهلها، ثم تحولهم إلى خصومته، وقتلهم وزيره ابن الشماخ وطائفة من أصحابه، ومغادرته عندئذ قرطبة إلى جيان، وكان قد ثار بها قاضيها ابن جزى واستقل بحكمها، فتغلب عليه وانتزعها منه. ثم سار إلى غرناطة بدعوة أهلها، وخاض هناك بعض الوقائع إلى جانب القاضي ابن أضحى، ولكنه لم يوفق إلى الاستقرار بها، فغادرها في أواخر سنة 539 هـ عائداً إلى جيان. وسرعان ما ألفى في حوادث مرسية فرصة جديدة للتدخل والمغامرة، فبعث إليها أولا قائده عبد الله الثغري، فتغلب عليها، ولكنه أخرج منها بعد أيام قلائل، ثم توالت الحوادث على النحو الذي فصلناه من قبل، واستولى ابن عياض قائد جنود الثغر على مرسية، ثم على بلنسية، ودعا لابن هود في كلتا الحاضرتين. فبعث إليه ابن هود بولده أبى بكر، فخرج للقائه واحتفي به، واصطحبه معه إلى بلنسية، ثم سار ابن هود نفسه إلى مرسية، ودخلها ونزل بقصرها، فعجل ابن عياض في اللحاق به، وأعلن طاعته، والامتثال لأوامره، ونزل بالقصر الصغير، فعهد إليه ابن هود بالأمور كلها، وأسبغ عليه لقب الرئيس مكتفياً بلقب الإمارة ومظاهرها، وكان ذلك في أواخر رجب سنة 540 هـ (أوائل سنة 1146 م).

(1) الحلة السيراء ص 220.

ص: 360

وكان ابن عِياض جندياً عظيماً، وفارساً ذا نجدة، ورئيساً وافر العزم، وكان فوق ذلك رجلا صالحاً ورعاً، رقيق الحس والعاطفة، وكان النصارى يقدرون فروسيته وشدة مراسه، ويعدونه وحده بمائة فارس (1). وكان يقظاً لحركات النصارى في شرقي الأندلس، فلم تمض أيام قلائل، على مقدم ابن هود، حتى جاءت الأنباء باعتداء النصارى على أحواز شاطبة، ومبادرة عبد الله ابن سعد بعسكر بلنسية لقتالهم. فأسرع ابن عياض وابن هود في قواتهما لنجدته.

والتقى المسلمون والنصارى في موضع يسمى " باللج " في ظاهر بلدة البسيط (2) على مقربة من جنجالة، في يوم الجمعة العشرين من شهر شعبان سنة 540 هـ (فبراير سنة 1146 م) فوقعت الهزيمة على المسلمين، وقتل في الموقعة عبد الله ابن سعد بن مردنيش، وسيف الدولة ابن هود، ونجا ابن عياض. وكانت ضربة شديدة للمسلمين في شرقي الأندلس (3).

هكذا تصور لنا الرواية الإسلامية موقعة البسيط. بيد أنه يوجد ثمة شىء من الغموض في تلك الرواية الموجزة. ذلك أننا نعرف أن سيف الدولة بن هود، هو حليف النصارى، وصنيعة عاهلهم القيصر ألفونسو السابع أو ألفونسو ريمونديس وهم الذين دفعوه إلى خوض غمار الحوادث في الأندلس، وأمدوه بعونهم، فكيف انقلب إلى محاربتهم بين عشية وضحاها؟ والجواب على ذلك نجده في الرواية النصرانية المعاصرة، وهي المسماة " رواية ألفونسو السابع " فهي تقول لنا إن سيف الدولة، بعد أن فشلت محاولته في قرطبة بعث إلى ألفونسو السابع ملك قشتالة، يخبره بأن أراضي أبدة، وبياسة وقلاعها، وهي من أملاكه التي تغلب عليها، قد ثارت عليه ورفضت أداء الضرائب المطلوبة، فندب ألفونسو أربعة من الأشراف القشتاليين هم الكونتات مانريكي، وأرمنجود، وبانسيو، ومارتن فرنانديث، وأمرهم بأن يقوموا بإخضاع أراضي أبدة، وبياسة، وجيان وغيرها، لطاعته وطاعة سيف الدولة، فسار الكونتات في قواتهم، وأغاروا على تلك الجهات وأثخنوا فيها، وافتتحوا جيان وأبدة وبياسة، ونكلوا بسكانها المسلمين، وعندئذ استغاث المسلمون بسيف الدولة، وأعلنوا بطاعته، فاستجاب لدعوتهم، وسار

(1) المراكشي في المعجب ص 115.

(2)

وهي بالإسبانية Albacete

(3)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 226.

ص: 361

إليهم في جيش ضخم، وطلب إلى الكونتات النصارى أن يرفعوا أيديهم عن المسلمين، وأن يكفوا عن غزواتهم المخربة التي قاموا بها في الأراضي الإسلامية، بالتحالف مع القاضي الطموح عبد الله الطغرائي والي قونقة، فيما بين شاطبة وأبدة، وأخيراً أن يسلموا إليه الغنائم والأسرى. فرفض الكونتات مطالب سيف الدولة، وأجابوا بأنهم لم يفعلوا إلا ما أمر به عاهلهم، وما طلبه سيف الدولة ذاته.

وطال الجدل بين الفريقين، وعندئذ قرر سيف الدولة أن يلجأ إلى السيف، وسار الكونتات النصارى وحليفهم القاضي الطغرائي، بعد أن امتنعت عليهم شاطبة غرباً، وسارت قوات بلنسية ومرسية وسيف الدولة لقتالهم في نفس الوقت. والتقى المسلمون والنصارى في سهل البسيط على مقربة من جنجالة، فهزم المسلمون شر هزيمة، وقتل عبد الله بن سعد قائد جند بلنسية وأسر سيف الدولة، وقتله بعض الجند النصارى دون معرفة لشخصه، وارتد ابن عياض في فلول الجيش إلى بلنسية. ولما علم ألفونسو السابع بمصرع صديقه القديم سيف الدولة أسف كل الأسف وأعلن أنه برىء من دمه (1).

وكان أحمد بن يوسف بن هود، المتلقب بسيف الدولة، وبالمستنصر، شخصية غامضة. وبالرغم من أنه كان سليل أسرة بني هود أصحاب الثغر الأعلى، وحماته والمتفانين في الذود عنه ضد النصارى، فإنه لم يكن يتمتع بشىء من خلال أسرته الملوكية العريقة. وقد رأينا كيف تخلى عن روطة، آخر قواعد مملكة سرقسطة القديمة، لملك قشتالة، ألفونسو ريمونديس، وآثر أن يعيش في أراضيه وتحت كنفه، وأن يغدو آلة لخططه ودسائسه ضد المسلمين، يحقق بها إذا استطاع بعض مآربه في الضرب والتفريق بين أبناء الأمة الأندلسية، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أراضيها. ولم يكن اشتراك سيف الدولة في حوادث الثورة ضد المرابطين، وتدخله في شئون الرياسة بالقواعد الثائرة، مثل قرطبة وغرناطة وجيان ومرسية، محاولة اختيارية يشق بها طريقه إلى الرياسة، ولكنه كان يقوم بها بوحي ملك قشتالة، ومعاونته الفعلية بالمال والجند، لانتهاز الفرص السانحة، خلال هذا الاضطراب العام، الذي كان يسود الأمة الأندلسية، ولم تكن دعوات

(1) M. Gaspar Remiro، cit. Cronica del Emperador Alfonso (Murcia Musulmana) p. 180 & 181. وراجع أيضاً تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (وترجمة محمد عبد الله عنان) الطبعة الثانية ص 216.

ص: 362

الزعماء الثائرين له ليقدم عليهم، أو ليستظلوا بصفته الملوكية السابقة، إلا سراباً وخديعة لمواطنيهم، بتنصيب شخصية لا تخلص لقضيتهم. ولقد كان من رحمة القدر بذكرى هذا الأمير المنكود - صنيعة القشتاليين وخديمهم - أن قتل في غمرة الدفاع عن أمته ودينه، ضد حلفائه القدماء، في ظروف طارئة، لم تكن من تدبيره، وإنما استدرج إليها فكانت فيها خاتمته.

بيد أن سيف الدولة كان يتمتع بخلة العلم والتأدب شيمة آبائه وأجداده، وكان شاعراً ينظم الشعر الجيد، وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من نظمه فمن ذلك قوله:

يا باكياً عمر الطلول بدمعه

أسفاً على ذاك الدم المطلول

أودت بلبك لوعة صديت لها

صفحات ذاك الخاطر المصقول

وقوله من قصيدة طويلة:

خطرت خطرة الغرام على القـ

ـلب وحسب الفتى لها يستكين

أذكرتني بلجاء وُرْقٌ تجـ

ـاوبن بنجد حديثهن شجون

أطربتني أصواتهن على الأيـ

ـكة قد يطرب الحزين الحزين

يامَةَ القوم والمنا يضع المر

ء إذا ما استقل يوماً قطين

إن تكوني قد استقر بك الربـ

ـع فقلبي مع الرفاق رهين

أو تكوني سلوت عنا فلا واللـ

ـه تسْلُك الظباء العين

أين للشمس أن تنال محيا

ك وتعزي لمعطفيك الغصون

غرر لحن من دجى الشعر بيض

ما تجلت عن مثلهن الدجون (1).

* * *

وعلى أثر مقتل ابن هود، أعلن ابن عياض الدعوة لنفسه ببلنسية، وكان قد ترك في مرسية محمد بن سعد بن مردنيش نائباً عنه بها، وكان قد عهد في نفس الوقت إلى عبد الله الثغري الذي شهدناه من قبل، يشترك في حوادث مرسية باسم ابن هود، بأن يكون سفيره لدى الإمبراطور ألفونسو ريمونديس ليعقد معه السلم والتحالف ضد أمير برشلونة، فعاد من سفارته هذه، وزعم أن الإمبراطور قد منحه إمارة مرسية، واستعان على دخولها بطائفة من الخوارج

(1) راجع الحلة السيراء ص 226 و 227.

ص: 363

المشايعين له، فنجح في محاولته، وفر محمد بن سعد بن مردنيش نائب ابن عياض بمرسية، ولحق بثغر لقنت، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 540 هـ، (مايو سنة 1146 م). ولم تمض بضعة أشهر على ذلك، حتى زحف ابن عياض على مرسية لاستخلاصها من الثغري، وقتل الثغري في العركة التي نشبت بينهما، وذلك في السابع من رجب سنة 541 هـ (ديسمبر 1146 م). ويقدم إلينا الضبي تفاصيل مصرع الثغري، فيقول إنه لما نجح ابن عياض في دخول مرسية، وقع القتال بينه وبين ابن عياض في شوارع المدينة حتى هزم الثغري، وركن إلى الفرار، وخرج من الباب المسمى باب الفارقة، فألقى عليه من فوق السور حجر أصاب رأس جواده، فوثب الجواد جامحاً براكبه نحو مجرى النهر، وهنالك قتله رجل ممن كانوا يرابطون في هذا المكان.

وهكذا استعاد ابن عياض إمارته على مرسية، وأضحى يبسط سلطانه على سائر قواعد الشرق من بلنسية شمالا حتى أحواز قرطاجنة، جنوباً. واستمر في إمارته على تلك المنطقة بلا منازع مدى عام وتسعة أشهر وعشرين يوماً، إلى أن لقي مصرعه في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 542 هـ (21 أغسطس 1147 م). ويقول لنا ابن الأبار. إنه توفي قتيلا من جراء سهم أصابه في بعض حروبه مع القشتاليين (1). ويقول الضبي إنه قتل بالعكس خلال معركة نشبت بينه وبين بني جميل على مقربة من بلِّش وحمل جثمانه إلى بلنسية ودفن بها. وقام على مواراته صهره ونائبه في بلنسية محمد بن سعد بن مردنيش، وأعلن للناس أن ابن عياض قد أولاه عهده بالإمارة من بعده، فبايعوه على ذلك. ويقول المراكشي إن ابن عياض حين حضرته الوفاة، أشار إلى من اجتمع إليه من الأعيان والجند بتقديم محمد بن سعد للرياسة، وأبى أن يوصى برياسة ولده لأنه كان يشرب الخمر ويغفل الصلاة. وقيل أيضاً إن أهل بلنسية بايعوا ابن سعد، ونصبوه أميراً عليهم دون عهد سابق. وأما في مرسية فقد اختار أهلها للإمارة عليهم نائب ابن عياض أبا الحسن علي بن عبيد، ولكنه لم يمكث في الإمارة سوى فترة يسيرة حتى أواخر جمادى الأولى، ثم تخلى عنها لابن سعد أمير بلنسية. وهكذا نجح محمد بن سعد بن مردنيش في اجتناء تراث ابن عياض بأكمله، وخلفه في إمارة شرق الأندلس كله، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة 542 هـ (أكتوبر 1147 م)

(1) المراكشي في المعجب ص " 115 "، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 220.

ص: 364

وبقيام ابن مردنيش، في إمارة شرقي الأندلس، تتهيأ الظروف لصفحة جديدة من الصراع بين الأندلس الثائرة وبين الموحدين، وهو صراع عنيف يضطرم زهاء عشرين عاماً، وتخوضه منطقة الشرق كلها، بسائر مواردها وقواتها، تحت زعامة قوية موحدة، ويقتضي لمدافعته معظم جهود الموحدين في شبه الجزيرة، ثم لا تهدأ ثائرته وتطوى صفحته، إلا باختفاء مثير ضرامه من الميدان.

- 3 -

إن ابن مردنيش، الذي حمل لواء هذا الصراع الشهير ضد الموحدين، ولبث طيلة اضطرامه صامداً، كالصخرة الصلدة، لا تفتر له همة، ولا يهادن، ولا تلين قنانه، حتى طواه الموت، هو شخصية من أغرب شخصيات التاريخ الأندلسي، تمثل كل خلال العصر، ورذائله في نفس الوقت، ولو لم يبالغ ابن مردنيش في مداخلة النصارى، وربط قضيته بعونهم، لكان في وسعنا أن نعتبره بطل الوطنية الأندلسية، وحامل لوائها ضد الموحدين.

وهو أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد الجذامي بن مرْدنَيش.

أصله من الثغر الأعلى، وولد في قلعة من قلاع طرطوشة المنيعة تسمى بُنُشْكُلَة، Peniscola (1) وذلك في سنة 518 هـ (2) وإذن فقد كان حينما تولى إمارة شرقي الأندلس، فتى في نحو الرابعة والعشرين من عمره. وقد كان أبوه سعد بن محمد ابن مردنيش والياً لإفراغة أيام المرابطين، حينما حاصرها ألفونسو المحارب ملك أراجون في أواخر سنة 527 هـ (يونيه سنة 1133 م)، وأبدى في مدافعة النصارى بسالة رائعة، واضطر المحاصرين أن يرفعوا الحصار غير مرة، إلى أن وفدت الأمداد المرابطية، ومعها الأمير يحيى بن غانية، وكان ما كان من انتصار المسلمين الباهر على النصارى وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه، وعمه عبد الله بن محمد بن سعد بن مردنيش صهر ابن عياض، ونائبه في بلنسية، وهو الذي سبقت الإشارة إليه فيما تقدم غير مرة.

وقد لفت محمد بن سعد أنظار الباحثين باسمه ولقبه، وصفاته الغريبة الفذة، وتساءل بعضهم عن حقيقة أصله ونسبه، فهو وفقاً لاسمه المدون جذامى، أو

(1) ومكانها اليوم قصر Peniscola الصغير الواقع جنوبي طرطوشة.

(2)

ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 492، في ترجمة أبى يوسف يعقوب المنصور.

وهو يضبط " مردنيش " وفقاً للشكل الموضوع عليها.

ص: 365

تجيبي وفقاً للبعض الآخر (1)، أو بعبارة أخرى عربي الأرومة. بيد أن في لقبه، وهو ابن مردنيش وفي صفاته وسلوكه أيضاً، ما يحمل على الريب في هذه النسبة. وأغلب الظن أنه ينتمي إلى المولدين أو بعبارة أخرى أنه إسباني الأصل، دخل أجداده في الإسلام، فأصبح من ذلك العنصر المسلم الدخيل، الذي كان يؤلف شطراً له خطره من الأمة الأندلسية، والذي لعب في تاريخها أعظم دور، ولاسيما في أيام الفتن والثورات القومية. ويرى البحث الحديث. أن مردنيش، هو تحريف للاسم الإسباني " مرتنيث " Martinez أو Martinizi أي (ابن مرتين)، وربما تحريف لاسم Mardonius وهو سليل البيزنطيين القدماء في منطقة قرطاجنّة (2). ومن جهة أخرى فإن صفات ابن مردنيش وسلوكه حسبما تصورها لنا الرواية العربية، تؤيد هذا الظن في انتمائه إلى عنصر المولدين. فقد كان شغوفاً بالتشبه بالنصارى (القشتاليين) في الزي والملابس والسلاح واللجم والسروج، وكان يجيد اللغة القشتالية، ويؤثر التحدث بها، وكان يدعو إلى جيشه كثيراً من النصارى المرتزقة، من القشتاليين والقطلان والبشكنس، يبتني لهم الأحياء والمعسكرات، ويزودها بأسباب الرفاهية والحانات، وكان يغدق عليهم الصلات الوفيرة من المال والإقطاعات، وذهب في ذلك إلى حد أنه أقطع أحد أكابر فرسان البشكنس، وهو المسمى بيدرو دي أثاجرا مدينة شنتمرية ابن رزين مع سائر مرافقها وأراضيها، وقد أنشأ بها هذا الفارس مركزاً لأسقفية (3). وقد كان من جراء هذا الإغداق الفياض على النصارى أن اشتط ابن سعد في فرض المغارم والرسوم المختلفة على رعاياه المسلمين (4). وكان النصارى يسمونه الملك لوبي (لب) Rey Lope أو Lobo أعني " الذئب ". وفي بعض الروايات النصرانية أن هذا الاسم الأخير أطلقه عليه النصارى لما أثر من إقدامه وشجاعته (5).

(1) ابن الخطيب في الإحاطة (طبعة القاهرة القديمة) ج 2 ص 85.

(2)

Dozy: Recherches (1881) V. I. p. 365-Codera: Decad. y Disp. de los Almoravides، p. 113 & 311

(3)

وهي شنتمرية الشرق المسماة بالإسبانية Albarracin. وقد كانت أيام عصر الطوائف قاعدة لمملكة بني رزين.

(4)

الإحاطة ج 2 ص 87؛ وأعمال الأعلام ص 261؛ وكذلك Dozy: Recherches. V. I. p. 366

(5)

A. Piles Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) p. 516

ص: 366

وأضحى محمد بن سعد بن مردنيش بتغلبه على بلنسية، ومرسية، سيد المنطقة الشرقية كلها، وامتد سلطانه من أحواز طرطوشة شمالا حتى قرطاجنة ولورَقة جنوباً. ولما كان من الواضح أنه لا يستطيع أن ينصرف إلى توطيد سلطانه في تلك المنطقة الشاسعة إلا إذا أمن جانب النصارى، وهم جيرانه من الشمال والغرب واستطاع بذلك أن ينصرف إلى مقارعة الموحدين، الذين جازت جيوشهم الأولى إلى شبه الجزيرة، فقد رأى أن تكون مسالمة الممالك النصرانية، شعاره الذي لا يحيد عنه، وأن يعقد معها التحالف كلما سنحت بذلك الفرص ودعت الضرورات.

ومن ثم فقد عقد لأول ولايته مع أمير برشلونة الكونت رامون برنجير الرابع صلحاً لمدة أربعة أعوام، وعقد معاهدة صلح أخرى مع ملك قشتالة الإمبراطور ألفونسو السابع (ألفونسو ريمونديس). وكان يؤدي لكل منهما في السنة جزية قدرها خمسون ألف مثقال من الذهب. ولم تقف هذه السياسة في مصانعة النصارى ومصادقتهم، عند حدود شبه الجزيرة، بل شملت الدول النصرانية في خارجها.

ففي العام الثاني من حكمه، أعني في سنة 543 هـ (1149 م) عقد ابن مردنيش مع جمهورية بيزة معاهدة صلح مدتها عشرة أعوام، ثم عاقد معاهدة أخرى مع جمهورية جنوة، يتعهد فيها بأن يؤدي إليها إتاوة قدرها عشرة آلاف دينار مرابطية خلال عامين، وأن يبني للرعايا الجنويين الذين يقطنون في بلنسية ودانية فندقاً يزاولون فيه تجارتهم، وأن يمنحهم حماماً مجانياً في كل أسبوع، وتعهدت جمهورية جنوة من جانبها بأن لا تحدث أضراراً لأحد من رعايا الملك لوبو في طرطوشة وألمرية. وكان ابن مردنيش فضلا عما تقدم يراسل كثيراً من الملوك النصارى في مختلف أنحاء القارة، ويبعث إليهم بالهدايا القيمة. ومن ذلك أنه أرسل إلى هنري الثاني ملك انجلترا، هدية قيمة من الذهب والحرير والخيل والجمال، وبعث إليه ملك انجلترا هدية جليلة (1).

وظهر ابن مردنيش منذ البداية بفائق عزمه وشجاعته وإقدامه، كما ظهر بوافر شهامته وجوده. ويقول لنا ابن الخطيب إنه " كان له يومان في الأسبوع، يوم الاثنين والخميس، يشرب مع ندمائه، ويجود على قواده وخاصته وأجناده، ويذبح الأبقار في المواسم، ويفرق لحومها على الأجناد، ويتخلل ذلك لهو كثير،

(1) F. Codera: Decad. y Disp، de los Almoravides، p. 115 & 120-128

ص: 367

حتى ملك القلوب من الجند، وعاملوه بغاية النصح، وربما وهب المال في مجالس أنسه " (1).

وينوه المقري بشجاعة ابن مردنيش، ويقول إنه كان من أبطال عصره، وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها شقاً، يميناً وشمالا، منشداً:

أكرُّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها (2).

وجمعت الأقدار بين ابن مردنيش وزعيم يشبهه في كثير من صفاته وميوله، وكان له أكبر عضد في مضاعفة صولته، وتوطيد سلطانه، وهو إبراهيم ابن محمد بن مفرج بن همشك، وهو مثل ابن مردنيش شخصية تتميز بصفاتها الخاصة، وهو من أصل نصراني صريح، فجده مفرج أو همشك نصراني نزح إلى سرقسطة، وأسلم على يد أحد ملوك بني هود في أواخر أيامهم، وكان مقطوع إحدى الأذنين، فكان النصارى إذا رأوه في القتال عرفوه وقالوا " هامشك "، ويقول لنا ابن الخطيب أن معنى هذه العبارة في لغتهم " ترى المقطوع الأذن "(3) وأصل العبارة في القشتالية هو ا He Mochico وبالتفصيل He aqui el Mocho pequeno، El desorejado menor. ومعناها مقطوع الذيل الصغير، ومقطوع الأذن (4). ولما سقطت سرقسطة في أيدي النصارى، وغادرها بنو هود، تحول إبراهيم بن همشك إلى قشتالة، وخدم ملكها حيناً، ثم ترك خدمة النصارى، ونزح إلى الأندلس، وخدم اللمتونيين بعد أن أعلن توبته، وشفع فيه بعض الأكابر. ولما ندب يحيى بن غانية لولاية قرطبة من قبل تاشفين بن علي بن يوسف في سنة 538 هـ (1143 م) التحق بخدمته.

ولما ثار القاضي ابن حمدين بقرطبة في العالم التالي، وتسمى بأمير المسلمين، وكان ابن غانية يومئذ في منطقة الغرب يطارد ثوارها، بعثه ابن غانية رسولا إلى قرطبة لمحاولة عقد الصلح بينه وبين ابن حمدين. ولكن الحوادث اتخذت يومئذ في قرطبة وجهة أخرى، ثم اتسع نطاق الثورة بالأندلس، وتوالت الإنقلابات في قواعد الشرق، فاتصل ابن همشك بابن عياض، وقد تغلب يومئذ على بلنسية، ولم يمض وقت طويل على ذلك حتى سنحت لابن همشك فرصة لاحتلال حصن شقوبش،

(1) ابن الخطيب في الإحاطة ج 2 ص 83.

(2)

نفح الطيب (القاهرة) ج 2 ص 322.

(3)

الإحاطة (1956) ج 1 ص 305.

(4)

M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana، p. 166

ص: 368

ثم تغلب بعد ذلك على مدينة شقورة (1) الواقعة على مقربة من شمال شرقي أبدة، فقوى أمره، وفي رواية أخرى أنه تغلب على شقورة فيما بعد حينما ندبه لذلك ابن مَرْدَنيش، ولما آلت بلنسية ومرسية إلى محمد بن سعد اتصل به، وعقد معه ابن سعد صهراً على ابنته، فتوثقت بينهما العلائق، وغدا ابن همشك من أعظم أعوان ابن سعد وقادته، وكان ابن همشك في الواقع من أقدر قواد العصر، وأوفرهم جرأة وشجاعة وإقداماً، وقد خاض ضد الموحدين فيما بعد، عدة من الحروب والوقائع الهامة (2).

- 4 -

ليست لدينا تفاصيل شافية عن حوادث شرقي الأندلس في الأعوام الأولى لحكم ابن مردنيش، بيد أنه وقع عقب تولى ابن مردنيش حكم بلنسية ومرسية بقليل، حادثان خطيران، الأول في شمال شرقي الأندلس، والثاني في جنوبي شرقها.

أما الحادث الأول، فهو استيلاء النصارى على ما بقي بأيدي المسلمين من قواعد الثغر الأعلى. ونحن نعرف أن النصارى، منذ استولوا على سرقسطة في سنة 512 هـ (1118 م) لبثوا يتربصون الفرص لانتزاع القواعد القليلة الباقية في هذا الركن النائي من الأندلس. وقد صدتهم هزيمة إفراغة المروعة (528 هـ) عن مشاريعهم حيناً. فلما انفجر بركان الثورة في الأندلس ضد المرابطين، وشغلت الحاميات المرابطية في كل قاعدة، بالذود عن نفسها، وشغل الزعماء الثائرون كل بتوطيد سلطانه، شعر النصارى في الثغر الأعلى، بأن الفرصة قد سنحت لتحقيق مشروعهم. وكانت القواعد الباقية، داخل الثغر الأعلى تنحصر في لاردة وإفراغة ومكننسة (مكناسة) ثم في ثغر طرطوشة الواقع عند مصب نهر إيبرو (إبرة)، وكانت جميعها تقع على حدود إمارة برشلونة. وكانت طرطوشة أولى القواعد التي سقطت عندئذ في أيدي النصارى. وكانت قد غدت في أواخر عهدها الإسلامي مثوى للمجاهدين والمغامرين من رواد الحملات البحرية، التي تثخن في شواطىء الأمم النصرانية المجاورة، فدعا البابا أوجين الثالث إلى حملة صليبية لفتحها، واجتمعت قوات النصارى من الأرجونيين والقطلان والبيزيين والجنويين وفرسان المعبد بقيادة الكونت رامون برنجير أمير برشلونة، وضربت

(1) وهي بالإسبانية Segura de Sierra

(2)

ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 306 و 307.

ص: 369

الحصار حول طرطوشة من البر والبحر، ودافع المسلمون عن المدينة بمنتهى البسالة، وصمدوا للحصار أربعين يوماً، مؤملين أن ترد إليهم أمداد من بلنسية أو غيرها، فلما يئسوا من كل عون، اضطروا إلى تسليم المدينة صلحاً في آخر. سنة 1148 م (16 شعبان سنة 543 هـ). مشترطين الاحتفاظ بأملاكهم ومساجدهم. بيد أنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بمساجدهم أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً، وهاجمت القوات النصرانية المتحالفة وعلى رأسها الكونت رامون برنجير مدينة لاردة بعد ذلك بقليل وكان طبيعياً ألا تصمد طويلا بعد سقوط طرطوشة، فسقطت في أيدي المهاجمين وذلك في 24 أكتوبر سنة 1149 م (544 هـ) وعبر واليها المرابطي ابن هلال البحر ملتجئاً إلى أمير ميورقة محمد بن غانية، وسقطت معها في نفس الوقت، بل وفي نفس اليوم حسبما تروى التواريخ القطلانية، مدينتا إفراغة ومكناسة، ويقول لنا ابن الخطيب إن القشتاليين استولوا في نفس الوقت على حصن أقليش وحصن سرانية (سنة 543 هـ)(1).

سقطت هذه القواعد الإسلامية الشمالية الأخيرة في أيدي النصارى، وانتهت بذلك سيادة المسلمين في الثغر الأعلى. وقد كانت هذه القواعد، تابعة من قبل لمملكة سرقسطة، فلما سقطت سرقسطة في أيدي الأرجونيين، أصبحت تابعة لولاية بلنسية، كما كانت منذ بداية العهد المرابطي، وإذن فقد كانت هذه القواعد خاضعة لسيادة ابن مردنيش، من الناحية الإسمية على الأقل. بيد أن ابن مردنيش لم يكن في وسعه أن يحميها أو أن ينجدها، وكان ارتباطه برباط الصداقة والمهادنة مع الكونت برنجير أمير برشلونة، يحول دون أية محاولة لإنقاذها، تفسد علائقه مع الممالك النصرانية، ومن جهة أخرى فقد كان الدفاع عن هذه القواعد النائية الواقعة في قلب الأراضي النصرانية عملا غير ميسور. ومن ثم فإن ابن مردنيش لم يحرك ساكناً، إزاء هذا الحدث المؤلم، وإن كان قد لبث يعتبر نفسه حامياً للرعايا المسلمين، في تلك القواعد المنزوعة، يدل على ذلك أنه حينما عقد معاهدة الصداقة مع جمهورية جنوة، قد اشترط فيها أن تتعهد جنوة بألا توقع أية أضرار برعايا الملك لوبو في طرطوشة وألمرية، وقد كانت جنوة ضمن البلاد التي اشتركت في افتتاح طرطوشة.

(1) ابن الأثير ج 11 ص 52. وراجع روض القرطاس ص 176، والإحاطة ج 2 ص 89. وراجع أيضاً: Codera: ibid ; p. 124-126

ص: 370

وأما الحادث الثاني فقد وقع في نفس الوقت، الذي ظفر فيه ابن مردنيش بولاية بلنسية ومرسية، وهو استيلاء النصارى على ثغر ألمرية. وكانت ألمرية في الواقع شجى في عيون الدول النصرانية القريبة مثل قطلونية وجنوة وبيزة، بما كانت تقوم به الحملات البحرية الخارجة منها في شواطىء هذه الدول من ضروب العيث والتخريب. ففي غمرة الإضطراب العام، الذي شمل الأندلس عقب انهيار سلطان المرابطين، رأت الدول النصرانية، وعلى رأسها البابا، أن تقوم بانتزاع هذا الثغر الغني الحصين من أيدي المسلمين، وبادر ألفونسو السابع ملك قشتالة بانتهاز الفرصة السانحة، ونظمت حملة برية وبحرية مشتركة من قوات قشتالة، وقطلونية، ونافار، وجنوة، وبيزة، وبعض حشود فرنسية من وراء البرنيه، وسارت هذه الحملة الصليبية المشتركة إلى ألمرية، وحاصرتها من البر والبحر بقوات كثيفة، واستمر الحصار ثلاثة أشهر، حتى نضبت موارد المدينة، واضطر المسلمون في النهاية إلى تسليمها للنصارى، وذلك في العشرين من جمادى الأولى سنة 542 هـ (17 أكتوبر سنة 1147 م)(1). وقد كان سقوط هذا الثغر الأندلسي الهام في أيدي النصارى حادثاً جللا، بيد أن أصداءه المحزنة قد تبددت خلال المحنة العامة التي كانت تعانيها الأندلس يومئذ، من تفرق كلمتها وتبدد قواها ومواردها، وكان استرداده من أهم ما عنى به الموحدون، مذ ثبتت أقدامهم في شبه الجزيرة.

وكان ألفونسو السابع ملك قشتالة قد استولى في نفس الوقت على معقل من أهم معاقل الأندلس الوسطى، وهو قلعة رباح، وذلك في أواخر سنة 541 هـ (1147 م)، وذلك قبل استيلائه على ثغر ألمرية بأشهر قلائل. وقد أحدث القشتاليون باستيلائهم على هذا المعقل المنيع ثغرة خطيرة في خطوط الدفاع الأندلسية، وسنرى فيما بعد أي دور خطير تلعبه هذه القلعة الشهيرة في حوادث الصراع بين الموحدين والنصارى.

في ذلك الحين كان ابن مَرْدَنيش يعمل على توطيد سلطانه، وقد كان حريصاً على ألا ينتقص من أطرافه معتد خارجي أو داخلي، حتى لقد بلغه خلال سيره إلى بلنسية ليتولى سلطانه بها، أن النصارى هاجموا حصن " حلال " فكر إليه،

(1) ابن الأثير ج 11 ص 46، وروض القرطاس ص 176. وراجع: Lafuente: Hist General de Espana T. III. p. 294

ص: 371

واسترده من أيديهم، ثم عاد إلى بلنسية فتلقى بها البيعة (1). ولما سار إلى مرسية ليستخلصها من يد نائبها ابن عبيد، بعث قائده ابن همشك إلى مدينة شقورة، وقد كان يعتبرها من متعلقات بلنسية، لينتزعها من صاحبها ابن سوار، فاستولى ابن همشك عليها (2)، ثم عاد إلى مرسية لمعاونة ابن مردنيش على السيطرة على مرسية وتلقى بيعتها.

فلما تم له الأمر غادرها إلى بلنسية، وترك ابن همشك نائباً عليها. وكان ابن مردنيش، قد عين أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد، منذ البداية نائباً له ببلنسية.

ولسنا نعلم الكثير عن أعمال ابن مردنيش في الأعوام الأولى لولايته. وأول ْما تحدثنا عنه الرواية من ذلك هو استيلاؤه في سنة 546 هـ (1151 م) على مدينتي بسطة ووادي آش. وقد سبق أن ذكرنا ما كان من قيام ابن ملحان الطائي بوادي آش، وتغلبه عليها وعلى بسطة. وكان الموحدون قد عبروا إلى شبه الجزيرة قبل ذلك ببضعة أعوام، واستولوا على إشبيلية، في شهر شعبان سنة 541، وذلك بعد أن استولوا على شَريش، وقواعد الغرب، التي كانت أولى القواعد الثائرة ضد المرابطين، ثم استولوا على قرطبة سنة 543 هـ، ثم على جيان وبياسة وأبدة.

وهكذا وصلت طلائع الموحدين إلى أواسط الأندلس، وأضحت تشرف من ناحية الشرق على أملاك ابن مردنيش. والظاهر أن ابن مردنيش كان يستعين في حملته ضد بسطة ووادي آش بجنود من القشتاليين أرسلها ألفونسو السابع لمعاونته (3).

ولما رأى ابن ملحان أنه لا طاقة له بمقاومة الغزاة أعلن طاعته للموحدين، ثم غادر وادي آش في أهله وأمواله، وعبر البحر إلى المغرب حسبما ذكرنا من قبل في موضعه. وأضحى ابن مردنيش باستيلائه على بسطة ووادي آش يواجه القواعد الموحدية في جيان وبياسة وأبدة من الجنوب كما يواجهها من الشرق، وهكذا أخذت تجتمع عناصر ذلك الصراع المضطرم الذي لبث ابن مردنيش، ومن ورائه قوى الأندلس الشرقية كلها، يضطلع به ضد الموحدين أعواماً طوالا، والذي كان يمثل في كثير من نواحيه ثورة الأندلس القومية ضد غزاتها من رواء البحر، أعني المرابطين والموحدين.

(1) الإحاطة ج 2 ص 85.

(2)

M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana p. 188. وقد سبق أن أشرنا إلى رواية ابن الخطيب في تغلب ابن همشك على شقورة قبل اتصاله بابن مردنيش.

(3)

F. Codera: ibid ; p. 138

ص: 372