الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل
يوسف بن تاشفين
خواص إمارته ولامع خلاله
يوسف بن تاشفين وبداية زعامته. أبو بكر بن عمر اللمتوني. المرابطون ينشرون الإسلام في غانة ومالي. يوسف يتسمى بأمير المسلمين. ظروف تسميته بهذا اللقب. اعترافه بطاعة الخليفة العباسي. رواية ابن خلدون. ما يؤيد هذه الرواية. رواية ابن العربي عن رحلته. فتوى الإمام الغزالي عن موقف أمراء الطوائف وعن حق يوسف في استصدار المرسوم الخلافي. كتاب الإمام الغزالي ليوسف. كتاب أبى بكر الطرطوشي. اخيار يوسف لولده على لولاية العهد. المرسوم الصادر بذلك. كتاب البيعة والتولية. خلال يوسف ومناقبه. بساطته المؤثرة. براعته العسكرية. عدله وإيثاره للفقهاء. موقفه من الضرائب والمكوس. سيادة الأمن والرخاء في عهده. وزيره عبد الرحمن بن أسباط. كاتبه ابن القصيرة. مرض يوسف ووفاته. تحقيقه لوحدة المغرب والأندلس. الدولة المرابطية الكبرى.
- 1 -
كان مما اقتضاه سياق الكلام عن تاريخ دول الطوائف، أن نتحدث عن نشأة الدولة المرابطية وقيامها في المغرب، والتجاء أمراء الطوائف، حينما لاح خطر اسبانيا النصرانية قوياً على الأراضي والقواعد الإسلامية في شبه الجزيرة، وحينما جاء سقوط طليطلة في شهر صفر سنة 478 هـ (مايو سنة 1085 م) نذيراً بتفاقم هذا الخطر، - التجائهم إلى إخوانهم فيما وراء البحر، إلى المرابطين، يطلبون منهم الإنجاد والغوث، ثم عن عبور بطل المرابطين يوسف بن تاشفين في جيوشه الجرارة المتوثبة إلى الأندلس، وخوض الجيوش الإسلامية المتحدة - المرابطية والأندلسية - لمعركة الزلاّقة ضد الجيوش النصرانية المتحدة، في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م)، وإحرازها لانتصارها الباهر الذي قمع عدوان اسبانيا النصرانية إلى حين، وأخيراً عن انقلاب المرابطين من منقذين إلى فاتحين، واستيلائهم على إمارات الطوائف تباعاً، وضم الأندلس إلى الدولة المرابطية الكبرى.
وقد تتبعنا خلال ذلك كله حياة زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين، منذ
نشأته، حتى فوزه بإنشاء الدولة المرابطية في المغرب، وما تلا ذلك من عبوره إلى شبه الجزيرة غير مرة، وفوزه بملك الأندلس، ثم وفاته في مستهل شهر المحرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر سنة 1106 م) بعد حياة حافلة بعظائم الحوادث، وجلائل الأعمال.
ولسنا نجد بعد أن استعرضنا ذلك كله، بتفاصيله الشاملة في كتابنا " دول الطوائف "، مجالا لتكرار الكلام في هذه الموضوعات. بيد أنه لا يسعنا، ونحن نزمع الكلام هنا عن عصر المرابطين في المغرب والأندلس، إلا أن نرتد بأبصارنا إلى بعض ما تقدم من المواطن، وأن نستزيدها فيما أوجزنا فيه منها، حتى ينتظم السياق، وتكمل وحدة الموضوع.
وأول ما يعرض لنا في ذلك، هو العود إلى بعض مواطن، في حياة البطل المغربي العظيم، يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين، ونبدأ في ذلك بصفته وألقابه الملوكية، وهو ما تناولناه فيما تقدم بطريقة عابرة.
كانت رياسة المرابطين الزمنية، حينما أنشأ الفقيه عبد الله بن يايسن الجزولي، طائفة المرابطين في أول أمرها، لزميله وصديقه يحيى بن إبراهيم الكدالي، ولما توفي هذا الرئيس ندب عبد الله بن ياسين مكانه للرياسة الأمير يحيى بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني ليتولى شئون الحرب والجهاد. وكانت هذه أول مرحلة في رياسة لمتونة الزمنية لطائفة المرابطين. ولما توفي الأمير يحيى في سنة 447 هـ، عين مكانه للقيادة أخوه أبو بكر بن عمر. ولما وضع المرابطون خططهم لافتتاح بلاد السوس في سنة 448 هـ، ندب الأمير أبو بكر ابن عمه يوسف بن تاشفين ليكون قائداً لمقدمة الجيش المرابطي. وهذه هي أول مناسبة تاريخية، يذكر فيها اسم البطل المرابطي، ولم يكن له يومئذ من الرياسة، سوى صفة القيادة لجناح من أجنحة الجيش المرابطي. وهنا ظهرت براعته العسكرية، فيما اضطلع به المرابطون يومئذ من الفتوحات المتوالية في أنحاء المغرب، وهي التي فصلنا أطوارها فيما تقدم. ولما توفي عبد الله بن ياسين قتيلا في بعض المعارك التي نشبت في أراضي برغواطة في سنة 451 هـ (1059 م)، استأثر الأمير أبو بكر اللمتوني بزعامة المرابطين الروحية والزمنية معاً، وتحققت بذلك رياسة لمتونة، وبدأت الدولة المرابطية اللمتونية، وقوام سلطانها، ما تم يومئذ من فتوح المغرب.
ولما وقع الخلاف بين لمتونة ومسّوفة وغيرها من القبائل المرابطية، في بلاد القبلة قاعدتهم بالصحراء، واعتزم أبو بكر أن يسير بنفسه لتلافي الأمر، عهد بشئون المغرب إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين (453 هـ)، وقسمت الجيوش المرابطية عندئذ إلى قسمين، تولى يوسف إمرة أحدهما ليتم به إخضاع المغرب، وسار أبو بكر إلى الصحراء في القسم الآخر. وقد أشرنا من قبل إلى خاتمة أبى بكر، وكيف أنه حينما عاد بعد إتمام مهمته في الصحراء إلى المغرب ولقي يوسف (سنة 465 هـ)، ورأى من عظمة سلطانه وقوته، ما أدرك معه أن كل أمل قد غاض في استرداد إمارته على المغرب، قد ارتد ثانية إلى الصحراء، وهنالك اخترق مشارف الصحراء الكبرى، ودخل منطقة النيجر الوسطى، ولبث حيناً يقوم بغزوات متوالية في قلب مملكة السودان، وعاصمتها يومئذ مدينة غانة، وفي مملكة مالي، وهو يعمل على نشر الإسلام بين تلك القبائل السود، التي كانت يومئذ تدين بالنصرانية، والتي تضع الرواية تاريخ إسلامها في سنة 469 هـ (1076 م)(1). واستمر يتابع الجهاد والغزو حتى توفي قتيلا في بعض المعارك في سنة 480 هـ (1087 م). أما يوسف فقد عني من جانبه بإتمام فتوح المغرب واستطاع أن يخضع معظم نواحيه، وأنشأ مدينة مرّاكُش (462 هـ - 1069 م) لتكون قاعدة لملكه، وعاصمة للأقطار المغربية المترامية التي تم له افتتاحها (2).
وهنا يتشح يوسف بن تاشفين بثوب الملك السياسي والإمارة الفعلية. وقد كان مذ ندب لقيادة الجيش المرابطي، وتوالت على يديه فتوح المغرب، يتشح بثوب الرياسة والإمارة القَبَلي. وهنا تختلف الرواية في أصل ألقابه الملوكية، وأوضاعها. والتاريخ يعرف يوسف بن تاشفين " بأمير المسلمين، وناصرالدين ".
فمتى كان اتخاذه لهذا اللقب؟ وفي أي ظروف وقع ذلك؟
(1) الحلل الموشية (طبع تونس) ص 7.
(2)
هذا هو التاريخ الذي يضعه ابن عذارى لإنشاء مراكش في البيان المغرب (من أوراق مخطوطة وجدت بمكتبة جامع القرويين بفاس، ونشرت أخيراً بعناية الأستاذ هويثي ميرانده في مجلة Hespéris عدد سنة 1961 ص 55). ويتابعه صاحب الحلل الموشية فيضع تأسيسها في نفس التاريخ (الحلل الموشية ص 6). ويضع الشريف الإدريسي تاريخ إنشاء مراكش في سنة 470 هـ (راجع المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس المنشور بعناية دوزي ص 67). ويضع صاحب كتاب " الاستبصار " تاريخ إنشائها في سنة 459 هـ (ص 208). ويضع صاحب روض القرطاس تاريخ إنشائها في سنة 454 هـ، (طبعة تورنبرج ص 89)، ويتابعه في ذلك ابن خلدون (كتاب العبر ج 6 ص 184).
هنالك روايتان في ذلك. الأولى خلاصتها أن يوسف بن تاشفين لما كثرت فتوحه، وترامت أطراف مملكته، وكان يقتصر عندئذ على التسمى " بالأمير " اجتمعت إليه أشياخ لمتونة، وأعيان دولته، وقالوا له أنت خليفة الله في أرضه، وأن حقه يسمو على لقب الإمارة، واقترحوا عليه أن يتسمى " بأمير المؤمنين " فأبى واعتذر بأن هذا اللقب إنما يتسمى به خلفاء بني العباس، سلالة النبي، وأصحاب الحرمين، وأنه يعتبر في المغرب رجلهم والقائم بدعوتهم، ولكنه استجاب إليهم في التسمي " بأمير المسلمين " و " ناصر الدين " وكان ذلك في سنة 466 هـ، وخُطب له بذلك في المنابر، وخوطب في العُدوتين، وخرج بذلك كتابه إلى النواحي، وهذا نصه بعد الديباجة:
" أما بعد حمد الله، أهل الحمد والشكر، ميسر اليسر، وواهب النصر، والصلاة على محمد المبعوث بنور الفرقان والذكر، وإنا كتبنا إليكم من حضرتنا بمراكش حرسها الله في نصف محرم سنة ستة وستين وأربعمائة، وأنه لما منّ الله علينا بالفتح الجسيم، وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا وهداكم إلى شريعة نبينا محمد المصطفي الكريم، صلى الله عليه أفضل السلام، وأتم التسليم، رأينا أن نخصص أنفسنا بهذا الاسم، لنمتاز به على سائر أمراء القبائل، وهو أمير المسلمين وناصر الدين، فمن خطب الخطبة العلية السامية، فليخطبها بهذا الاسم إن شاء الله تعالى، والله ولي العدل، بمنه وكرمه، والسلام "(1).
ولكن هذه الرواية تعارضها رواية أخرى ربما كانت أكثر قبولا. ذلك أنه يوجد لدينا أكثر من نص يؤيد القول، بأن تلقب يوسف بن تاشفين بهذا اللقب، وقع عقب انتصاره في موقعة الزلاّقة، وهذا ما يوضحه لنا صاحب " روض القرطاس " إذ يقول، إن يوسف كان يُدعى أولا بالأمير، فلما فتح الأندلس وصنع غزاة الزلاّقة، وأذل الله تعالى بها ملك الروم، بايعه في ذلك اليوم أي عقب النصر، ملوك الأندلس وأمراؤها الذين شهدوا معه تلك الغزاة، وكانوا ثلاثة عشر ملكاً، وسلموا عليه " بأمير المسلمين ". وخرجت كتبه مصدرة عنه بذلك إلى
(1) هذه هي رواية صاحب الحلل الموشية ص 16 و 17، وكذلك ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 60). وفي بعض الروايات المتأخرة أن يوسف بن تاشفين تسمى بالفعل بأمير المؤمنين وخطب له بهذا الاسم ولبنيه من بعده (المؤنس في أخبار إفريقية وتونس) لابن دينار ص 99، وهي رواية ضعيفة.
العُدوة وبلاد الأندلس، فقرئت على المنابر، وفيها يخبرهم بما فتح الله عليه من النصر والظفر والفتح العظيم. ثم يزيد على ذلك بأن يوسف هو أول من تسمى بأمير المسلمين من ملوك المغرب (1). وهذه الرواية يؤيدها ابن الخطيب في الإحاطة إذ يقول لنا بإيجاز في ترجمة يوسف:" تسمى بأمير المسلمين لما احتل الأندلس، وأوقع بالروم وكان قبل يدعى الأمير يوسف "(2). ونحن نرجح هذه الرواية الأخيرة لأنها أكثر اتفاقاً مع منطق الحوادث ودلالتها.
أما اعتراف يوسف بن تاشفين بطاعة الخليفة العباسي، فمسألة تتفق عليها معظم الروايات. ويقول ابن الأثير، وهو من أقدم مصادرنا في ذلك، إن يوسف بعد أن تم له افتتاح ممالك الطوائف، والاستيلاء على الأندلس، وعاد إلى حضرة ملكه مراكش، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فذكروا له أنه ينبغي أن تكون ولايته صادرة من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، وأنه يجب أن يأتيه منه تقليد بحكمه للبلاد، ويُرجع ابن الأثير هذا النصح إلى علماء الأندلس خاصة، ويقول لنا إن يوسف أرسل على أثر ذلك إلى الخليفة المقتدي بأمر الله، فوافته الخلع والأعلام والتقليد، ولُقب بأمير المسلمين وناصر الدين. ومعنى ذلك أن يوسف تسمى بهذه الألقاب الملوكية، أو أنها خلعت عليه فقط حينما أتاه المرسوم أو التقليد العباسي بذلك. وفي ذلك تختلف رواية ابن الأثير عن باقي الروايات (3).
ومن جهة أخرى فإن ذلك لابد أن يكون قد وقع قبل سنة 487 هـ (1094 م) وهي السنة التي توفي فيها الخليفة المقتدي بأمر الله. ويبدو من كلام صاحب " روض القرطاس " وابن الخطيب ما يؤيد ذلك، وأن صدور هذا التقليد العباسي ليوسف قد وقع عقب انتصار الزلاّقة (479 هـ)، وأن يوسف قد ضرب السّكة عقب ذلك، وأصدر الدينار المرابطي الجديد وفي أحد وجهيه " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " وتحت ذلك " أمير المسلمين يوسف بن تاشفين "، ونقش في مداره:" ومن يتبع غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين " وكتب في الوجه الآخر " الإمام عبد الله أمير المؤمنين العباسي "(4).
(1) روض القرطاس ص 88، وراجع وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق) ج 2 ص 488.
(2)
الإحاطة في أخبار غرناطة، مخطوط الإسكوريال (رقم 1673 الغزيري) لوحة 393.
(3)
تاريخ ابن الاثير ج 10 ص 52 و 145.
(4)
روض القرطاس ص 88، وابن الخطيب في مخطوط الإحاطة السالف الذكر لوحة 393.
على أن ابن خلدون يقول لنا بالعكس إن يوسف قد كتب في شأن تقليده إلى الخليفة المستظهر بالله، ولد المقتدي بالله وخلفه، وأنه بعث إليه في ذلك الغرض سفارة على رأسها عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبو بكر وهو الحافظ الشهير فيما بعد " فتلطفا في القول، وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا إلى الخليفة أن يعقد ليوسف على المغرب والأندلس " فصدر له عهده بذلك، وعاد السفيران يحملان التقليد بولاية يوسف على ما تحت نظره من الأقطار والأقاليم، وأذيعت محتويات هذا التقليد بين الناس. وكذلك كتب الإمام الغزالي، والقاضي الطرطوشي إلى يوسف يحضانه على العدل والتمسك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف (1).
ولقد وقفنا نحن على ما يؤيد هذه الرواية الأخيرة - رواية ابن خلدون - تأييداً قاطعاً، وحصلنا على نص الرواية التي سجلها ابن العربي عن مهمته، وعن لقائه بالإمام الغزالي في بغداد، وما استصدره من الفتوى الخاصة بموقف يوسف من أمراء الطوائف، ومن الخلافة، كما حصلنا على النص الكامل للخطاب الذي كتبه الإمام الغزالي عن هذا الموضوع، إلى يوسف بن تاشفين، وحمله الفقيه ابن العربي معه عند عوده إلى الأندلس.
ونحن نعرف أولا أن الفقيه ابن العربي وولده أبا بكر، قد رحلا إلى المشرق في مهمتهما المذكورة في مستهل ربيع الأول سنة 485 هـ، وإن كانت رحلتهما قد اتخذت يومئذ طابع السفر لطلب العلم (2). وكان يوسف قد اشترك بعد الزلاّقة، مع أمراء الطوائف في حصار حصن لييط Alédo في سنة 481 هـ (1088 م) وشهد عندئذ من تمردهم، ونفاقهم، وجنوحهم إلى ممالأة النصارى، ما أحفظه عليهم. ثم جاز جوازه الثالث إلى الأندلس في سنة 483 هـ (1090م)، وكان عندئذ قد اعتزم أمره في افتتاح ممالك الطوائف، وأخذ يستولي عليها تباعاً، وكان يهمه إلى جانب الحصول على المرسوم الخلافي، أن يحصل على سند شرعي يبرر تصرفه نحو أولئك الأمراء. فلما وصل الفقيه أبو محمد العربي وولده أبو بكر إلى بغداد، لقى الإمام أبا حامد الغزالي، قطب فقهاء المشرق يومئذ، وشرح له
(1) ابن خلدون - كتاب العبر - ج 6 ص 188. وقد ورد في هذا النص أن يوسف خاطب " المستنصر العباسي ". ونحن نعتقد أن ذلك تحريف من الناسخ، وأن المقصود هو الخليفة المستظهر.
(2)
ابن بشكوال في " الصلة " في ترجمة ابن العربي رقم 1297.
أحوال الأندلس، وخلال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وما اضطلع به من أعمال الجهاد وإعزاز الدين، وما كان عليه ملوك الطوائف من تفرق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين.
فلما قام بحصار النصارى، عقب جوازه الثاني، في حصن لييط، تخلف بعض رؤساء الشرق عن معاونته، وقالوا إن طاعته ليست بواجبة لأنه ليس إماماً شرعياً من قريش. ووقف يوسف على رسالة وجهت من بعضهم إلى العدو، يشجعه على المقاومة والصمود، وكان جواب يوسف لأولئك الزعماء المتمردين، أنه خادم أمير المؤمنين المستظهر، وأن الخطبة تجري باسمه على أكثر من ألفي منبر، وتضرب السكة باسمه. وطلب الفقيه ابن العربي إلى الإمام الغزالي أن يزوده فيما تقدم بفتوى تبين حكم الشرع فيه، وأن يزوده بكتاب إلى أمير المسلمين. فأما الفتوى فقد جاء فيها " أن يوسف كان على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر (1)، وأن هذا هو الواجب على كل ملك، استولى على قطر من أقطار المسلمين، وإذا نادى الملك المشمول بشعار الخلافة العباسية، وجبت طاعته على كل الرعايا والرؤساء، ومخالفته مخالفة للإمام، وكل من تمرد واستعصى، فحكمه حكم الباغي، ومن حق الأمير أن يرده بالسيف، وأن يقاتل الفئة المتمردة على طاعته، لاسيما وقد استنجدوا بالنصارى، وهم أعداء الله، في مقاتلة المسلمين، وهم أولياء الله، وأن يستمر في قتالهم حتى يعودوا إلى طاعة الأمير العادل، المتمسك بطاعة الخلافة العباسية، ومتى تركوا المخالفة، وجب الكف عنهم، وذلك عن المسلمين منهم دون النصارى. وأما ما يظفر به من أموالهم فمردود عليهم وعلى ورثتهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في القتال مهدورة لا ضمان فيها، وحكمهم بالجملة في البغي على الأمير المتمسك بطاعة الخلافة، المستولى على المنابر والبلاد بقوة الشوكة، وحكم الباغي على نايب الإمام، فإنه وإن تأخر عنه صريح التقليد لاعتراض العوايق المانعة، من وصول المنشور بالتقليد، فهو نايب بحكم قرينة الحال، إذ يجب على إمام المصر أن يأذن لكل مسلم عادل، استولى
(1) عثرنا على نص رواية ابن العربي، وعلى نص فتوى الإمام الغزالي في المخطوط رقم 1275 ك (المكتبة الكتانية) المحفوظ بخزانة الرباط وعنوانه " مجموع أوله كتاب الأنساب "(لوحة 128 و 129)، كما عثرنا فيه على نص كتاب الإمام الغزالي إلى يوسف بن تاشفين. ويبدو من ذكر الخليفة المستظهر في رواية ابن العربي وفي فتوى الغزالي أنهما يرجعان إلى سنة 487 هـ، وقد تولى المستظهر الخلافة بعد وفاة أبيه المقتدي في 16 المحرم سنة 487 هـ.
على قطر من أقطار الأرض، أن يخطب له، وينادي بشعاره، ويحمل الخلق على العدل والنصفة، ولا ينبغي أن يظن بالإمام توقف في الرضا بذلك والإذن فيه، وأن توقف في كتبه المنشور، فالكتب قد يعوق عن انشايها، وإيصالها المعاذير. وأما الإذن والرضى بعدما ظهر حال الأمر في العدل والسياسة، وابتغاء المصلحة للتفويض والتعيين، فلا رخصة في تركه، وقد ظهر حال هذا الأمير بالاستفاضة ظهوراً لا يشك فيه. وإن لم يكن عن إيصال الكتب وانشايه عايق، وكانت هذه الفتنة لا تنطفي، إلا بأن يصل إليهم صريح الإذن والتقليد بمنشور، مقرون بما جرت العادة بمثله في تقليد الأمراء، فيجب على حضرة الخلافة بذل ذلك، فإن الإمام الحق عاقلة الإسلام، ولا يحل له أن يترك في أقطار الأرض فتنة ثايرة، إلا ويسعى في إطفائها بكل ممكن ".
هذا هو نص فتوى الإمام الغزالي لابن العربي عن حكم الشرع في موقف ملوك الطوائف، حسبما شرحه ابن العربي للإمام، وعن حق يوسف في الحصول على المرسوم الخلافي بولايته على ما فتحه من الأقطار بسيفه. وقد عاد الإمام الغزالي بعد ذلك، فكتب إلى يوسف كتاباً يعرض فيه بالتفصيل إلى قصة ملوك الطوائف، حسبما رواها له ابن العربي، وإلى ما كانت عليه الأندلس في ظل حكمهم من التخاذل والذل، والصغار والهوان، وإلى استطالة النصارى عليها، لما كان يسودها من تفرق الكلمة واختلاف الرأي، حتى انتهى النصارى بأن رتبوا الجزية على المسلمين. ثم يشير إلى صريخ الطوائف إلى يوسف، وإلى جوازه البحر للجهاد، وإلى ما وفقه الله من دحض شوكة النصارى، وأنه حينما طلب يوسف إلى ملوك الطوائف أن يرفعوا المظالم عن المسلمين، عادوا فجنحوا إلى ممالأة النصارى، فسأله المسلمون عندئذ إنزالهم عن البلاد، فاستجاب لرغبتهم، ورفع المظالم وقطع الفساد، وينوه بما أبداه يوسف من العمل بأحكام الله، ومن إيثار العلماء والاستماع لرأيهم فيما يفتون إليه من الأحكام، ثم يشير بعد ذلك إلى ما أصدره من فتوى في شأن ملوك الطوائف، وإلى ما كان ابن العربي بصدده من السعى إلى استصدار المرسوم الخلافي بولاية يوسف على جميع بلاد المغرب، وتمكين طاعته، وإلى ما كان يبثه ابن العربي من دعاية واسعة للإشادة بحكم يوسف وخلاله، سواء في العراق أو في المشاهد الكريمة بأرض الحجاز. ولم يثبت الغزالي بخطابه تاريخاً معيناً، ولكن يبدو من نصه أنه كتبه قبل " مسيره إلى سفر
الحجاز ". ونحن نعرف من حياة الغزالي أن ذلك كان في سنة 488 هـ (1).
وكذلك حصل ابن العربي من العلامة أبى بكر الطرطوشي، حين مروره على ثغر الإسكندرية، وهو في طريق العودة، على خطاب آخر برسم أمير المسلمين يوسف. ويسدي الطرطوشي في كتابه النصح إلى يوسف بأن يحكم بالحق وفقاً لكتاب الله، وأن يكون شفيقاً على رعيته شفقة الرجل على أهله، وأن يعمل لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجري الطرطوشي في إسداء نصحه على طريقته في إيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقاصيص الخلفاء والصحابة (2).
وتوفي الفقيه ابن العربي في ثغر الإسكندرية في فاتحة سنة 493 هـ (3)، وعاد ابنه أبو بكر دونه إلى الأندلس في نفس العام، وهو يحمل الرسالتين - رسالة الغزالي ورسالة الطرطوشي - وكذلك مرسوم الخليفة المستظهر إلى عاهل المرابطين.
وهكذا يبدو أنه مما لا مراء فيه، أن مؤسس الدولة المرابطية الكبرى، كان ينضوي من الناحية السياسية تحت لواء الخلافة العباسية وأنه كان يُدعى حتى قبل صدور هذا التقليد في الخطبة ليوسف بعد الدعاء للخليفة العباسي، في سائر نواحي المغرب والأندلس. وسنرى فيما بعد كيف أن هذه الرعاية الأدبية العباسية للدولة المرابطية، تمتد إلى ما بعد عهد يوسف، وأن الخليفة العباسي يسبغ في مراسلاته على عاهل المرابطين بعض الألقاب الخاصة.
- 2 -
عرفنا فيما سبق كيف آلت إمارة المغرب إلى يوسف بن تاشفين، مذ عهد إليه بشئونه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني في سنة 453 هـ (1061 م)، وكيف ارتد هذا الأمير إلى الصحراء وهنالك توفي، وخلصت إمارة المغرب نهائياً ليوسف، وقامت الدولة المرابطية الكبرى، بالمغرب والأندلس، في ظل عاهلها الكبير.
(1) ورد نص خطاب الغزالي في مخطوط المكتبة الكتانية المشار إليه (لوحات 130 - 133) وقد نشرناه كاملا في باب الوثائق.
(2)
ورد نص خطاب الطرطوشي في المخطوط المشار إليه (لوحة 133 و 134).
(3)
نفح الطيب ج 1 ص 337.
وأراد يوسف في أواخر حياته، وبعد أن تم له افتتاح الأندلس، أن يؤثل ملكه، وأن يطمئن لمصاير دولته العظيمة، وذلك باختيار ولي عهده. وكان ليوسف من البنين خمسة هم، أبو بكر سير، وعلي، وتميم، والمعز، وإبراهيم، ومن البنات ثلاث هن كوتة ورقية وتميمة (1). وكان أبو بكر أكبر بنيه وولي عهده فيما يظهر، وقد استخلفه أبوه على المغرب حينما عبر البحر لأول مرة إلى الأندلس، في شهر ربيع الأول سنة 479 هـ، استجابة لصريخ الطوائف. ولما انتهت معركة الزلاّقة بظفر المسلمين الباهر، وارتدت الجيوش المرابطية إلى إشبيلية في طريقها إلى العودة، تلقي يوسف نبأ وفاة ولده أبى بكر، وكان قد تركه مريضاً في سبتة، ويقول لنا صاحب القرطاس، إن هذا النبأ المحزن. وصل إلى يوسف في يوم النصر ذاته (2). وكان هذا الحادث سبباً في تعجيل يوسف بالعودة، بل يقال لنا أيضاً إنه كان سبباً في إحباط خطط يوسف، وتركه كل فكرة في مطاردة الجيوش النصرانية المنهزمة (3).
وفي سنة 495 هـ (1101 م)، قرر يوسف أمره في ولاية عهده، ووقع اختياره في ذلك على ولده أبى الحسن علي، ولم يكن علي أكبر أولاده، إذ كان أكبرهم عندئذ، أبو الطاهر تميم، ولكنه آثر علياً لما آنسه فيه من الورع والنباهة والحزم، وأصدر مرسومه بولايته لعهده في نفس العام، وإليك نص هذا المرسوم بعد الديباجة، وهو من إنشاء الوزير الفقيه أبى محمد بن عبد الغفور، وقد كان من أعلام البلاغة في هذا العصر:
" أما بعد فإن أمير المسلمين، وناصر الدين، أبا يعقوب يوسف بن تاشفين، لما استرعاه الله على كثير من عباده المؤمنين، خاف أن يسأله الله غدا عما استرعاه، كيف تركه هملا لم يستنب فيه سواه. وقد أمر الله بالوصية فيما دون هذه العظيمة، وجعلها من أوكد الأشياء الكريمة، كيف في هذه الأمور العائدة بمصلحة الخاصة والجمهور. وأن أمير المسلمين بما لزمه من هذه الوظيفة، وخصه الله بها من
(1) كانت الأميرة تميمة بنت يوسف بن تاشفين تشتهر بجمالها، ورجاحة عقلها، وأدبها، وكانت تنظم الشعر الجيد. سكنت فاس مدة (ابن الأبار في التكملة، وجذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس، ص 105 و 106).
(2)
روض القرطاس ص 98.
(3)
F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides en Espana (Zaragoza 1899) p. 2
النظر في هذه الأمور الدينية الشريفة، قد أعز الله رماحه وأحدّ سلاحه، فوجد ابنه الأمير الأجل، أبا الحسن أكثرها ارتياحاً إلى المعالي واهتزازاً، وأكرمها سجية وأنفسها اعتزازاً، فاستنابه فيما استرعى، ودعاه لما كان إليه دعى، بعد استشارة أهل الرأي على القرب والنأي، فرضوه لما رضيه، واصطفوه لما اصطفاه، ورأوه أهلا أن يسترعي فيما استرعاه، فأحضره مشترطاً عليه الشروط الجامعة بينها وبين المشروط، فقبل ورضى، وأجاب حين دعى، بعد استخارة الله الذي بيده الخيرة، والاستعانة بحول الله الذي من آمن به شكره. وبعد ذلك مواعظ ووصية، بلغت من النصيحة مرامي قصية، يقول في خاتمة شروطها، وتوثيق ربوطها، كتب شهادته على النائب والمستنيب، من رضى إمامتهما على البعيد والقريب، وعلم علماً يقيناً بما وصاه في هذا الترتيب، وذلك في عام خمسة وتسعين وأربعمائة " (1).
وكان من الشروط التي اشترطها يوسف على ولده وولي عهده علي، فيما يختص بالدفاع عن الأندلس، هو ألاّ يعين في مناصب الحكام والقضاة في الولايات والحصون والمدن إلا المرابطين من قبيلة لمتونة، وأن ينشىء بها جيشاً مرابطياً ثابتاً، قوامه سبعة عشر ألف فارس، توزع على مختلف القواعد، فيرابط منها بإشبيلية سبعة آلاف، وبقرطبة ألف، وبغرناطة ألف، وفي شرقي الأندلس أربعة آلاف، وتوزع الأربعة آلاف الباقية على الثغور والحصون المتاخمة لأراضي العدو.
هذا ويحسن أن يعهد إلى الأندلسيين بحراسة الحدود النصرانية، فهم أكثر خبرة بأحوال النصارى، وأكثر دربة على قتالهم من المرابطين. وفي سنة 496 هـ، (1102 م)(2) جاز يوسف بن تاشفين إلى الأندلس جوازه الرابع والأخير، ومعه ولداه أبو الحسن على وأبو الطاهر تميم (3). وكان يوسف يقصد بهذا الجواز النظر في شئون الأندلس ومصالحها، وكان يقصد بالأخص أن ينظم البيعة لولده على الذي اختاره لولاية عهده. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن علياً لم يكن مع والده في هذا الجواز، وإنه بالعكس كان يقيم عندئذ في سبتة التي ولد بها
(1) أورد نص هذا المرسوم صاحب الحلل الموشية (ص 56 و 57).
(2)
وفي رواية أخرى أن هذا الجواز قد وقع في سنة 497 هـ (ابن خلدون - كتاب العبر ج 6 ص 188). ولكن التاريخ الذي يحمله كتاب التولية وهو ذو الحجة سنة 496 هـ، يؤكد صحة الرواية الأولى.
(3)
الحلل الموشية ص 55.
ونشأ (1). ونحن نرجح الرواية الأولى بحضور على مع والده إذ كان هو المقصود بتنظيم البيعة، ومن المعقول أن يكون حاضراً في حفل تنظيمها. وفي أواخر سنة 496 هـ، كان يوسف بقرطبة، عاصمة الخلافة، وكانت يومئذ قاعدة للحكم المرابطي في الأندلس، وجمع يوسف أعيان قبيلة لمتونة، وأشياخ المرابطين والفقهاء، وأخذ البيعة عليهم جميعاً لولده علي، وصدر كتاب التولية والبيعة عن يوسف لولده، مدبّجاً بقلم وزيره وكاتبه أبى بكر بن القصيرة علم البلاغة، وإمام النثر والترسل يومئذ، وإليك نص الكتاب المذكور:
" هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، صدرت على الرضا قواعده، وأكدت بيد التقوى معاقده، وسددت إلى الحسنى مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده، أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين أدام الله أمره، وأعز نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين، موضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبى الحسن عليّ ابنه، المتقبل هممه وشيمه، المتأثل حلمه وتحلمه، الناشىء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرف بين يدي تخريجه وتدريبه، أدام الله عزه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمم، بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدو المتقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين، واعتام في النصاب الرفيع، واختار واستنصح أولي الرأي والدين، واستشار فلم يوقع بعد طول تأمل وتراخي مدة، وتمثل اختياره في اختيار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحنكة، واستشارة [الأعلية] ولا صار بدونهم الارتياد والاجتهاد إلا إليه، ولا التقى رواد الرأي والتشاور إلا لديه، فولاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي والقبض والبسط بعده، وجعله خليفته الساد في رعاية مسده، وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة، في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماة الحدب والخوف بالإضطجاع، ولا يتلين دون معلن بشكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لدى بلوى، وأن ينتظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين
(1) روض القرطاس ص 101.
القريب والبعيد في إحصائه وتقديره. ثم دعا أدام الله تأييده لمبايعته، أدام الله عزه، من حضر و .. من المسلمين، فلبوا مسرعين وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة، ثم أمر بمخاطبة ساير أهل البلاد لتبايعه، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر، صفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغايب والشهيد، وتطمين من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة أقذائها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدعة، ويمهد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جد صالح وإقبال، والله يبارك بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وإيمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنهم فوق هذا من بيعته .. حمله عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطى صفقته طائفاً متبرعاً، وبالله التوفيق، وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة " (1).
- 3 -
وقد سبق أن عرضنا من قبل في كتاب " دول الطوائف " إلى لمحة من خلال يوسف وصفاته (2)، ونود هنا أن نبسط القول في ذلك.
إن شخصية البطل المرابطي العظيم تنطوي على كثير من الصفات اللامعة، التي جعلت من حياته المديدة الحافلة، نموذجاً مثالياً لهذا النوع من البطولة الساذجة الرائعة معاً. والواقع أن أروع ما في صفاته، تلك الهالة الوضاءة من البساطة المؤثرة، التي لبثت شعار حياته كلها، والتي لم تتأثر بتطورات الأحداث السياسية التي
(1) أورد لنا ابن الخطيب نص هذه الوثيقة في " الإحاطة " في ترجمته لأبى بكر بن القصيرة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 71 و 72). وفي بعض الروايات أن البيعة عقدت لعلي في غرناطة (كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء، لأبن الكردبوس، مخطوط أكاديمة التاريخ بمدريد لوحة 164 أ) وهذا ما ينقضه ختام الوثيقة.
(2)
كتاب دول الطوائف ص 302 و 303.
خاضها، والفتوح العظيمة التي حققها، والتي جعلت من الدولة المرابطية الكبرى، في ظله، أعظم دولة قامت في المغرب الإسلامي، من حيث المدى الإقليمي، ومن حيث القوى والموارد الزاخرة، إذ كانت تمتد من تونس شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن ضفاف نهر الإيبرو والتاجُه في شبه الجزيرة الإسبانية شمالا، إلى قلب الصحراء الإفريقية الكبرى جنوباً. فقد لبث البطل المرابطي، عاهل هذه الدولة الشامخة، على حالته الأولى، مذ كان زعيماً محلياً من زعماء الصحراء، بدوياً متقشفاً يرتدي الصوف الخشن، ولا يلبس غيره قط، ويقتصر في طعامه على الشعير ولحوم الإبل وألبانها، لا يأكل سواها قط (1)، ولم يتأثر طول حياته، بأية نزعة من ترف القصور، ولا عيشها الناعم ولا مغرياتها المفسدة، بالرغم من هذا الملك الباذخ، وهذه الدنيا العريضة التي كانت تحت أقدامه. ويكفي أن نتأمل مدى لحظة عابرة، ما كانت عليه قصور الطوائف الأندلسية من الفخامة والبذخ الطائل، وما كان يغرق فيه أمراؤها الأصاغر من العيش الرخو الوثير المترف، تتألق ثيابهم الفخمة بالذهب والجوهر، وتحيط بهم أكواب الشراب وأسراب الغلمان والجواري والفتيات - يكفي أن نتأمل ذلك، لنرتفع بحياة البطل المرابطي، إلى ذرى الإكبار والإجلال والإعجاب.
وقد كانت هذه البساطة المؤثرة التي طبعت حياة يوسف بن تاشفين، تقترن في نفس الوقت بطائفة من الصفات المعنوية النبيلة، التي تجعل من صاحبها عماداً حقيقياً للملك، وتتوطد بها أسس الدولة العظيمة. فقد كان يوسف يتمتع بكثير من الذكاء والفطنة، والعزم والشجاعة والحزم، والكرم والجود، وكان فضلا عن ذلك كثير التقى والورع. وإلى ذلك يشير ابن الصيرفي مؤرخ الدولة المرابطية بقوله:" كان رحمه الله خائفاً لربه، كتوماً لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، مديماً للاستغفار "(2). ويلحق بذلك شغف يوسف بالجهاد، فقد كان بطلا مجاهداً حقاً، وقد أنفق من عمره أعواماً طويلة في الجهاد في سبيل الله، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة المرابطين. وقد تجلت هذه النزعة للجهاد فيما بعد بصورة رائعة، في استجابته لصريخ الطوائف، وفي موقعة الزلاّقة العظيمة، وفيما خاضته الجيوش المرابطية، في مختلف
(1) روض القرطاس ص 87.
(2)
ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 393).
أنحاء الأندلس، ولاسيما في الولايات الشرقية في بلنسية وسرقسطة من معارك عديدة، ضد الجيوش النصرانية، ولم يكن غريباً في مثل الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، من تخاذل أمراء الطوائف وتنابذهم، وتراميهم على أعتاب الملوك النصارى، وإشفاق البطل المرابطي، أن ينتهي الأمر باستيلاء النصارى على الأندلس، أن ينفذ يوسف مشروعه في القضاء على ممالك الطوائف، ووضع الأندلس تحت حماية جيوشه القوية المظفرة، ولم يكن في ذلك ما يصدع من نزعة الجهاد، التي كانت من أبرز صفات يوسف، والتي لبثت الجيوش المرابطية تضطرم بها من بعده عصراً.
وكان يوسف بن تاشفين جندياً عظيماً، وقائداً من أعظم قواد العصور الوسطى، وقد أبدى في سائر فتوحه المتوالية لأقطار المغرب، كفاية عسكرية واضحة، ولم يكن ظفره المستمر راجعاً إلى كثرة جيوشه ومقدرتها، بقدر رجوعه إلى براعته في تنسيق الخطط، وتنظيم القيادة، وانتهاز الفرص السانحة. وأشد ما تبدو هذه البراعة في حوادث موقعة الزلاّقة وتطوراتها، فإن النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش المرابطية والأندلسية، في هذه الموقعة، يرجع بالأخص إلى شجاعة يوسف وثباته، وبراعة خططه، وقد كان من حسن طالع يوسف، أنه استطاع أن يعتمد في حروبه ومشاريعه العسكرية، على معاونة طائفة من أقدر القواد وأشجعهم، مثل سير بن أبى بكر، وداود بن عائشة، والأمير مزدلي، ومحمد بن الحاج وغيرهم ممن سبق ذكرهم في مختلف المواطن والحوادث.
وإلى جانب براعته العسكرية، كان يوسف يمتاز بمقدرة إدارية فائقة، وكان هذا الزعيم الصحراوي الموهوب، يحكم الإمبراطورية المرابطية الضخمة، بحزم وكفاية تدعو إلى الإعجاب، وكان إلى جانب ورعه وتقواه، صارماً شديد الوطأة، حريصاً على استتاب النظام والأمن، دائباً على تفقد بلاده وشئون رعيته. ويلخص لنا ابن الصيرفي طريقة يوسف وصرامته في قمع المعارضين والخوارج على القانون في قوله:" أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل، والضرب المبرح، إلا من انتزى أو شق العصا، فالسيف أحسم لانتشار الداء "(1). ويبدو من ذلك أن يوسف لم يكن يلجأ إلى تطبيق عقوبة
(1) ابن الخطيب نقلا عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 393). وكذلك الحلل الموشية ص 59، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر، هسبيرس ص 65).
الإعدام إلا في حالة العصيان أو الثورة، وأنه فيما عدا ذلك فإن أقصى عقوبة تطبق في الجرائم العادية، هي " الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل "، وهو ما تعبر عنه القوانين الجنائية الحديثة، بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.
وقد نوهت معظم الروايات بحب يوسف للعدل وإيثاره، والعمل على توطيده، كما نوهت باحترامه لأحكام الشرع، والحرص على تطبيقها، وتعظيمه للعلماء والفقهاء، والرجوع إليهم والأخذ بآرائهم وفتاويهم. وهو ما يجمله ابن الصيرفي في قوله:" يواصل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه، وغيره بفتياهم، ويحض على العدل، ويصدع بالحق، ويعضد الشرع "(1). وقد رأينا فيما تقدم في غير موطن، كيف كان يوسف يلجأ إلى رأى الفقهاء في أخطر الأمور، ومن ذلك استشارته إياهم، أولا في مسألة العبور إلى الأندلس، واستجابة صريخ الطوائف، وثانياً في خلع ملوك الطوائف، وانتزاع ممالكهم، ولم يكتف يوسف في ذلك بفتاوى فقهاء المغرب والأندلس، بل لجأ في نفس الوقت الى فقهاء المشرق، وحصل على آراء أعلام مثل أبى حامد الغزالي، وأبى بكر الطرطوشي (2). ومما يروى في ذلك أن الإمام الغزالي كان يعجب بورع يوسف وجميل صفاته، وميله إلى أهل العلم، حتى أنه اعتزم الرحلة إلى المغرب وزيارة هذا الأمير الأمثل. ولكنه لما وصل إلى الإسكندرية وأخذ في التأهب للسير إلى المغرب، ورد إليه الخبر بوفاة أمير المسلمين، فارتد عن عزمه وعاد من حيث أتى (3). وكان من أبرز مظاهر تمسك يوسف بأحكام الشرع، وآراء الفقهاء، موقفه من الضرائب والمغارم التي يسوغ للأمير فرضها على رعيته، فهو قد ألغى الضرائب والمكوس، التي لم يجز الدين فرضها، واكتفى بفرض ما يجيزه الشرع من ذلك، مثل الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم، وجزية أهل الذمة. وقد كان لهذه السياسة الضريبية الرفيقة، بالأخص في الأندلس، أطيب الأثر، إذ كان ملوك الطوائف يرهقون رعيتهم بالفروض،
(1) ابن الخطيب نقلا عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال). وراجع الحلل الموشية ص 59.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188. ويلاحظ أن الطرطوشي كان في الأصل من فقهاء الأندلس ولكنه نزح إلى المشرق (راجع كتاب دول الطوائف ص 284).
(3)
ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 488، وكتاب المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار ص 106.
والمغارم الفادحة، تغذية لقصورهم الفخمة، وبذخهم الطائل، وقد كان تماديهم في ذلك، من الأسباب التي التُمست لخلعهم والقضاء على سلطانهم. بيد أن يوسف كان يلجأ في بعض الأحيان إلى فرض الإتاوات على رعاياه، مساهمة منهم في نفقات الجهاد المستمر، الذي كان يضطلع به، وقد كان يلجأ في جواز ذلك أيضاً إلى فتاوى الفقهاء. ومن ذلك ما وقع له مع قاضي ألرية، أبى عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن الفراء، فإنه قرر بعد موافقة الفقهاء، أن يطالب أهل المغرب والأندلس بمعونة مالية للمساهمة في أعمال الجهاد. وكتب إلى قاضي ألمرية المذكور يأمره بتحصيل هذه الإتاوة وإرسالها، فأبى القاضي، وكتب إلى يوسف يطعن في شرعية هذه الإتاوة، وفي رأي الفقهاء الذين أجازوها، ويطالب يوسف، إن كانت خزائنه ناضبة حقاً، بأن يمثل في المسجد الجامع بحضرة أهل العلم، وأن يحلف علناً بأنه ليس لديه في بيت مال المسلمين درهم ينفقه عليهم، أسوة بما فعل عمر بن الخطاب، حين أراد فرض مثل هذه الإتاوة، وعندئذ يجوز له تحصيلها (1).
ومن جهة أخرى فإن يوسف لم يكن يحجم في بعض الأحيان، عن تحصيل الأموال بطرق استثنائية كفرض المغارم على اليهود والنصارى من آن لآخر، لظروف وأسباب خاصة. وقد ذكر لنا صاحب الحلل الموشية طرفاً من ذلك (2).
وكان المغرب يتمتع في ظل يوسف بكثير من الإستقرار والأمن والرخاء، بعد الفتن والحروب المضطرمة، التي لبثت قبل الفتح المرابطي، زهاء نصف قرن، تمزق أوصاله، وتودى بأمنه وسلامه. ولما تم استيلاء المرابطين على الأندلس، وشعرت الأمة الأندلسية أنها أصبحت في مأمن من عدوان اسبانيا النصرانية، أتيح لها أيضاً أن تتمتع بشىء من الاستقرار والسكينة، وذلك بالرغم مما كانت تشعر به من شدة وطأة الحكم المرابطي، وجفاء أساليبه، وخشونة حكامها الجدد من زعماء البربر، وبعدهم عن تلك الكياسة التي كان يمتاز بها الأمراء والحكام من مواطنيهم. وعلى أي حال فقد عرفت الأندلس في الأعوام الأخيرة من حياة يوسف، وقبل أن يشتد عليها ضغط النير المرابطي، وتستيقظ مشاعرها الوطنية الدفينة، فترة طيبة من الهدوء والاستقرار، يصفها لنا المؤرخ فيما يلي: " أقامت بلاد الأندلس في مدته (أي مدة يوسف) سعيدة حميدة في رفاهة عيش،
(1) وفيات الأعيان ج 2 ص 485، والإستقصاء للسلاوي (طبعة القاهرة) ج 1 ص 122، 123.
(2)
الحلل الموشية ص 13 و 59.
وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة، إلى حين وفاته " (1).
وكان يوسف فضلا عن حسن اختياره لقادته، يحسن اختيار معاونيه من الكتاب والوزراء. وكان كاتبه قبل أن يجوز جوازه الأول إلى الأندلس، أديباً أندلسياً من أهل ألمرية هو عبد الرحمن بن أسباط، أو أسبط. وكان قد نشأ أديباً مغموراً يشتغل في باب الديوان بألمرية أيام بني صمادح. وفي سنة 472 هـ عبر البحر إلى العدوة، ولحق بمراكش يبحث وراء طالعه، واتصل بحاشية الأميرة الحرة زينب زوجة يوسف، فأسند إليه منصب الكتابة. ولما توفيت الأميرة أقره يوسف لكتابته، فظهر في هذا المنصب، ونال حظوة وجاهاً عريضاً، " وكان رجلا حصيفاً سكوناً عاقلا " وكان يوسف يثق في مقدرته وحصافته، وحسن معرفته بشئون الأندلس. وقد لعب عبد الرحمن بن أسباط دوراً هاماً في تدخل يوسف في أحوال الأندلس، واستجابته لصريخ الطوائف، وهو الذي أشار عليه، حينما قرر الجواز إلى شبه الجزيرة، بأن يطالب ابن عباد بثغر الجزيرة ليكون مركزاً أميناً لجواز جيوشه وعودتها إلى العدوة (2). ومما هو جدير بالذكر أن يوسف بن تاشفين كان لا يعرف العربية، وكان ابن أسباط يجيد اللغة البربرية التي يتحدث بها يوسف (3) وكان هذا من أسباب حظوته. ولما توفي ابن أسباط في سنة 487 هـ، تولى الكتابة ليوسف من بعده، كاتب من أعظم كتاب الأندلس يومئذ، هو محمد بن سليمان بن القصيرة العروف بأبى بكر بن القصيرة، وهو الذي يصفه ابن الصيرفي بقوله:" الوزير الكاتب الناظم الناثر القائم بعمود الكتابة، والحامل للواء البلاغة، الذي لا يشق غباره، ولا تخمد أنواره، اجتمع له براعة النثر، وجزالة النظم "(4)، وهو الذي كتب عن يوسف حين مثوله بقرطبة في سنة 496 هـ، كتابه بتولية ولده علي ولاية عهده حسبما تقدم. ولما توفي يوسف استمر أبو بكر في الكتابة لولده علي حتى وفاته في سنة 508 هـ (1114 م)، وفي استخدام يوسف لهذين الكاتبين الأندلسيين البليغين، بالرغم من عدم معرفته بالعربية، ما يدل، على حصافته، وبعد نظره، وإدراكه لأهمية الأساليب العالية في الترسل، وقد
(1) الحلل الموشية ص 59.
(2)
الحلل الموشية ص 32.
(3)
ابن خلكان ج 2 ص 482.
(4)
ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوطة الإسكوريال السالفة الذكر).
كان ثمة بين يوسف وبين الخلافة العباسية، وبينه وبين أكابر فقهاء المشرق مراسلات كثيرة. ومن جهة أخرى فقد كانت المراسيم المرابطية، تصدر في أحيان كثيرة باللغتين البربرية والعربية، لتقف عليها الكثرة الغالبة من الرعايا، وهي المتكلمة بالعربية، ومما زاد في أهمية منصب الكتابة في الدولة المرابطية، وشغله بأعلام الكتاب البلغاء، فتح الأندلس، وخضوعها للحكم المرابطي، ووجوب مخاطبتها بنفس الأساليب العربية العالية التي كانت سائدة فيها.
وأما عن شخص يوسف، فإن الرواية تصفه بأنه كان معتدل القامة، أسمر اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، رقيق الصوت (1).
- 4 -
في سنة 498 هـ، مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واستمر يعاني من مرضه حتى اشتدت به العلة في العام التالي، ومازالت حالته تسوء شيئاً فشيئاً، حتى حم القضاء، وتوفي في يوم الإثنين مستهل شهر المحرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر سنة 1106 م)، بقصره بمراكش، عن مائة عام كاملة، وبعد أن وصلت الدولة المرابطية الكبرى على يديه إلى ذروة عظمتها وقوتها.
فكان لوفاته وقع عظيم في المغرب والأندلس، ورثاه جماعة من شعراء العصر، منهم أبو بكر بن سوار، وقد أنشد على قبره مرثية مؤثرة جاء فيها:
ملك الملوك وما تركت لعامل
…
عملا من التقوى يشارك فيه
يا يوسف ما أنت إلا يوسف
…
والكل يعقوب بما تطويه
اسمع أمير المؤمنين وناصر الـ
…
ـدين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيراً عن رعيتك التي
…
لم ترض فيها غير ما يرضيه
وصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً
…
حتم القضاء بكل ما تقضيه
ويجىء ما دبرته كمجيئه
…
فكأن كل مغيّب تدريه
متواضعاً لله مظهر دينه
…
في كل ما يبديه ويخفيه (2)
وقد ترك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين عند وفاته إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي حكمها الإسلام، تشتمل على قطرين من أعظم وأهم الأقطار
(1) وفيات الأعيان ج 2 ص 488.
(2)
ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها، هسبيرس ص 64 و 65 و 66).
الإسلامية في العصور الوسطى، هما المغرب والأندلس، وتمتد فيما بين تونس شرقاً، والمحيط الأطلنطي غرباً، وفيما بين نهر التاجُه في قلب اسبانيا شمالا، وبلاد السودان ونهر النيجر جنوباً. ويكفي لكي نقدر روعة المعجزة العسكرية والسياسية، التي حققتها عبقرية يوسف، أن نرتد نصف قرن فقط إلى ما قبل وفاته، وأن نلقي نظرة عابرة على ما كان عليه المغرب والأندلس يومئذ. فقد كان المغرب عندئذ فريسة لأشنع ضروب التفرق والفوضى، تتقاسم أقطاره وقواعده التالدة، عدة كبيرة من الزعامات القَبَلية، وتقوم فيه إمارات عديدة، متخاصمة متنابذة، وتجتاح الحروب الأهلية الصغيرة مروجه وبواديه، ويسود الفقر والاختلال والفوضى سائر نواحيه. وقد كان قيام المرابطين في جنوبي المغرب، وانتظامهم إلى قوة مصلحة غازية، في هذه الآونة، وسيرهم لافتتاح أقطار المغرب وقواعده، وظفرهم بالتغلب على إماراته وقواعده المتفرقة، وضمها تحت لوائهم في وحدة متماسكة ودولة موحدة، كان ذلك في الواقع عمل إنقاذ قومي من أعظم ما وقع في تاريخ المغرب. وقد اضطلع يوسف بن تاشفين في ذلك كله حسبما رأينا بأوفر نصيب. وكان له في تحقيقه أعظم الفضل. ولما قامت الدولة المرابطية الكبرى، تتوسطها عاصمتها العظيمة مراكش، وتوطدت دعائم الحكم المرابطي، ساد في المغرب نوع من النظام والأمن، لم يكن له به عهد منذ بعيد، وعم الرخاء، واستطاع الناس أن ينعموا بكثير من الاستقرار والهدوء.
ووقعت نفس المعجزة في الأندلس، فبعد أن لبثت زهاء نصف قرن، تعاني في ظل أمراء الطوائف، وفي ظل دولهم الضعيفة المتنابذة، مصائب التفرق، والحروب الأهلية المتوالية، وبعد أن استطال عليها النصارى ومالوا على دول الطوائف، فأذلوها واستباحوا حماها، واستصفوا أموالها، وبدأوا بانتزاع قواعدها، وبعد أن لاح لأهل الأندلس أن الآخرة قد دنت، وأنه لن يمضي سوى القليل، حتى تقضي اسبانيا النصرانية على دول الطوائف كلها، وتنتزع سائر قواعدها وأراضيها، وتسقط الأندلس كلها في يد العدو الخالد، وينطفيء نور الإسلام من تلك الديار العزيزة، بعد ذلك كله جاء جواز يوسف بن تاشفين وجيوشه المرابطية إلى الأندلس، نذير الإنقاذ، وانقشاع الخطر الداهم، وكُتبت لإسبانيا المسلمة حياة جديدة. ثم كان افتتاح المرابطين لدول الطوائف، وبسط سيادتهم على الأندلس، فرُدت إليها وحدتها الإقليمية القديمة، وبالرغم مما اقترن
بهذا الفتح المرابطي من مظاهر العنف والقسوة، وبالرغم مما كان ينطوي عليه بالنسبة للأمة الأندلسية من معاني الافتئات والاغتصاب، وسيطرة القبائل البربرية على حريات الأندلس ومصايرها، فإنه كان أيضاً عمل إنقاذ لاشك فيه، وكانت سيطرة المرابطين على اسبانيا المسلمة في تلك الفترة العصيبة من حياتها، هي أوكد ضمان بصونها، والذود عنها، وحمايتها من عدوان اسبانيا النصرانية.
وهكذا استطاع يوسف في مدى نصف قرن أن يحقق وحدة المغرب، وأن يحقق وحدة الأندلس معاً، وأخيراً أن يحقق الوحدة بين الدولتين الإسلاميتين العظيمتين في ظل الدولة المرابطية الكبرى.
ولما توفي يوسف كانت هذه الدولة المرابطية الكبرى تمثل بشطريها - المغرب والأندلس - وفقاً لقول المؤرخ " مُلكاً مؤسساً، وجنداً مجنداً، وسلطاناً قاهراً ومالا وافراً "(1).
بيد أن هذه الدولة العظيمة بالرغم مما كان يبدو من توطدها وقوتها ورخائها، كانت تحمل في ثنيتها بعض عوامل الوهن الخفية، التي تسترها المظاهر الخادعة، وهي كانت تدين بوحدتها وقوتها قبل كل شىء إلى عبقرية مؤسسها العظيم. فلما اختفى يوسف من الميدان، فقدت الدولة المرابطية أعظم قادتها وحماتها: فقدت تلك اليد الموجهة المرشدة، التي كانت تقودها دائماً نحو التوطد والظفر، وتلك العقلية الراجحة، التي كانت تستشف الحوادث البعيدة من خلال الحجب، وتعمل على تداركها، وتوجيهها إلى الغاية المرغوبة.
(1) ابن الخطيب عن ابن عذارى في الإحاطة في ترجمة علي بن يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 292).