الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادِس
الدولة الموحدية في سبيل التوطد
اختتام الغزوة الموحدية الكبرى. اضطرام الثورة في بلاد السوس. زعيمها الهادي أو الماسي. اتساع نطاقها وخلع القبائل لطاعة الموحدين. مسير الموحدين لقمع الثورة بقيادة الشيخ أبى حفص عمر. لقاء الموحدين وقوات الماسي في وادي ماسة. هزيمة الماسي ومصرعه وتمزيق جموعه. الجندي الكاتب أبو جعفر بن عطية ورسالته عن الموقعة. إعجاب أبى حفص بها. إعجاب الخليفة واستدعاؤه لابن عطية، وتقليده خطة الكتابة. مطاردة أبى حفص للقبائل الخارجة وتمزيقها. غزوه لأراضي برغواطة. نزول يحيى الصحراوي في سبتة. غدره بابن ميمون وقتله. دور القاضي عياض في حوادث سبتة. انتقاض أهل سبتة ومقتل واليها الموحدي. مسير الصحرأوى من سبتة إلى سلا ثم إلى أراضي برغواطة. اجتماع برغواطة ودكالة ورجراجة وحاحة حوله. عبد المؤمن يرسل إلى برغواطة حملة جديدة بقيادة يصلاسن. مسير يصلاسن إلى سلا واقتحامها وخضوعها. ثم إلى بني وراغل وإخضاعهم. مسيره إلى طنجة واقتحامها، ثم إلى سبتة. مبادرة أهل سبتة إلى الخضوع والعفو عنها. عبد المؤمن يجهز الحشود لمقاتلة برغواطة والصحراوي. خروجه في قواته من مراكش ومسيره صوب دكالة، ثم أزمور. مهاجمته لحشود الثوار وتمزيقهم. فرارهم نحو البحر وغرق الكثير منهم. فرار يحيى الصحراوي وصحبه إلى السوس ثم إلى الصحراء. استيلاء عبد المؤمن على أسلاب برغواطة ودكالة. إذعان برغواطة إلى التوحيد. عودة عبد المؤمن إلى مراكش. نزعة الموحدين إلى القمع الدموي. حادث الاعتراف وقتل المارقين والمعاندين. الجرائد الدموية لمختلف القبائل وعدد القتلى من كل منها. تأملات حول موقف عبد المؤمن من هذا السفك المروع. إخماد ثورة أخرى في برغواطة. مسير عبد المؤمن في قواته إلى سلا. إنشاؤه لقصبة رباط الفتح. استقباله لوفود الأندلس. اعتزامه فتح بجاية وبواعث هذا القرار. مسيره صوب بجاية من طريق ملتوية. استيلاؤه على جزائر بني مزغنة. بنو حماد أصحاب بجاية والقلعة. قلعة بني حماد وموقعها. انتقالهم إلى بجاية. استيلاء عبد المؤمن على بجاية وما يقال في ذلك. استيلاء عبد الله بن عبد المؤمن على القلعة. سقوط بونة وقسنطينة في أيدي الموحدين. مسير يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية صحبة عبد المؤمن إلى مراكش. وصف بجاية في هذا العهد. الصدام بين الموحدين والعرب في هذه المنطقة. هزيمة العرب وتمزيق حشودهم. ثورة صنهاجة قرب بجاية وإخمادها. مسير عبد المؤمن إلى تلمسان ثم إلى فاس ومكناسة وسلا فمراكش. مؤامرة أخوى المهدي بمراكش. إخمادها وإعدام المتآمرين. قيام عبد المؤمن بحركة تطهير جديدة. عبد المؤمن يدبر مصرع القائد يصلاسن. ثورة جديدة في السوس. مسير أبى حفص لإخمادها. سحق القبائل الثائرة وأخذ غنائمها وتوحيد بعضها. مسير عبد المؤمن من مراكش إلى تينملل.
- 1 -
وهكذا اختتمت تلك الغزوة الكبرى، التي اضطلع بها عبد المؤمن بن علي، مذ خرج في حشوده الموحدية الجرارة، من تينملل في سنة 535 هـ (1140 م)،
واستمر زهاء سبعة أعوام يثخن في أنحاء المغرب، من الجنوب إلى الشمال، ثم إلى الشرق ثم إلى الجنوب، ويوقع بالجيوش المرابطية مرة بعد أخرى، ويستولي تباعاً على قواعد المغرب - اختتمت تلك الغزوة الكبرى باستيلاء الموحدين على حضرة مراكش، والقضاء على الدولة المرابطية في المغرب.
على أن تحقيق هذه الغاية الجوهرية، لم يكن نهاية الصراع الذي كان على الموحدين أن يضطلعوا به، لتوطيد دولتهم، والقضاء بصورة نهائية، على كل مقاومة لدعوتهم الدينية، وسلطانهم السياسي، وذلك أولا في المغرب، حيث قامت دعوتهم، وانتظمت دولتهم.
ثم كان عليهم بعد ذلك، أن يتابعوا فتوحهم، فيما وراء البحر، في الأندلس حيث كانت الدولة المرابطية، مازالت تحتفظ ببقية سلطانها، في شبه الجزيرة، وفي بعض قواعد الأندلس، وتحتفظ في نفس الوقت ببقية من قواتها العسكرية، ونفر من أكابر قادتها وزعمائها.
وفي الوقت الذي لاح فيه أن الموحدين، بفتح مراكش، قد وصلوا إلى ذروة سلطانهم، اضطرمت أول ثورة خطيرة ضد دعوتهم الدينية وسلطانهم السياسي، وكان ذلك في بلاد جزولة، غربي بلاد السوس، حيث قام ثائر يدعى محمد بن عبد الله بن هود وتسمى بالهادي. وأصل هذا الرجل من سلا، وكان قصّاراً، فلما ذاعت الدعوة الموحدية، واستولى الموحدون على سلا، ادعى الهداية، وسمى نفسه بالهادي، ثم سار جنوباً إلى أرض جزولة ونزل برباط ماسة، وذلك في شوال سنة 541 هـ، ومن ثم اشتهر كذلك باسم الماسي (1)، فتبعه كثير من الناس من مختلف القبائل، وذاعت دعوته بسرعة مدهشة، وسرعان ما استولى على بلاد تامسنا، وبلاد المصامدة، وانضمت إليه عدة من القبائل التي كانت تدين بالتوحيد مثل حاحة، ورجراجة، وهزميرة وهسكورة ودكالة، وخلعت معظم القواعد التي توحدت الطاعة، حتى لم يبق تحت سلطان عبد المؤمن وطاعته، في وسط المغرب وجنوبه، سوى فاس ومراكش. وكان استفحال الثورة، واتساع نطاقها على هذا النحو، دليلا على أن الدعوة الموحدية، لم تكن قد تمكنت بعد في نفوس معتنقيها، وأنهم لم يدينوا بها إلا تحت سلطان الضغط
(1) الحلل الموشية ص 110، والبيان المغرب القسم الثالث ص 26. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الماسي حضر فتح مراكش مع عبد المؤمن وبايعه ثم خرج عليه (ص 123).
والإرهاب المادي. والواقع أن وسائل الموحدين في نشر دعوتهم لم تكن حسبما رأينا مما فصلناه من قبل، رفيقة ولا إنسانية، بل كانت قائمة على الخضوع الأعمى للدعوة والإرهاب المطلق، وسفك الدم السريع. ومن ثم كان ارتداد القبائل الموالية، بمثل السرعة التي توحدت بها، وانضمامها إلى راية الدعيّ الجديد.
وشعر عبد المؤمن وأشياخ الموحدين، أن الأمر سوف يخرج من أيديهم، إذا لم تسحق ثورة الماسي بسرعة. فبعث عبد المؤمن لقتاله حملة بقيادة ابن يكيت ويحيى المسّوفي المعروف بأنجمار، فلقيهم الماسي في قواته وهزمهم وأثخن فيهم فعندئذ جهز عبد المؤمن لقتاله حملة ضخمة مختارة، تضم طائفة من الروم، أي النصارى المرتزقة، والرماة وغيرهم، من المقاتلة المدربين، وعلى رأسها الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني وعدة من أشياخ الموحدين. وكان بين الجند الرماة فتى يمتُّ إلى الأدب بصلة، هو أبو جعفر أحمد بن عطية القضاعي، وهو من أهل مراكش، ولكنه يرجع إلى أهل الأندلس، وأصله القديم من طرطوشة ثم من دانية (1)، وقد كان ضمن كتاب علي بن يوسف، ثم كتب عن ابنه تاشفين ثم عن حفيده إبراهيم، وكان على حداثة سنه من أحظى كتاب الدولة اللمتونية. فلما سقطت مراكش أخفى نفسه، ودخل في غمر الناس، وانضم إلى كتائب الموحدين، لا يعلم بحقيقته أحد. وكانت الحملة الموحدية تضم نحو ستة آلاف فارس ومثلهم من الرجالة. وكان جيش الماسي يضم نحو الستين ألفاً، ليس فيهم من الفرسان سوى سبعمائة. وسار الموحدون صوب تامسنا بوادي ماسه، والتقوا بقوات الماسي، وذلك في السادس عشر من شهر ذي الحجة سنة 542 هـ (7 مايو 1148 م)، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، قاتل فيها جند الماسي بشجاعة، ولكنهم هزموا في النهاية، وقتل الماسي، قتله الشيخ أبو حفص بيده، ومُزق جنده شر ممزق، وحمل الموحدون جثته فوق بغل، حيث صلبت على باب الشريعة بمراكش. وكان نصراً باهراً، انهارت على أثره ثورة الماسي وانفضت جموعه (2).
وحدث على أثر انتهاء المعركة بظفر الموحدين، أن بحث الشيخ أبو حفص
(1) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 271.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 106، والبيان المغرب القسم الثالث ص 26، والحلل الموشية ص 110، وروض القرطاس ص 134.
عن كاتب بارع يقوم بإعلام الخليفة بما أتاه الله من نصره، في رسالة قوية بليغة، فأرشد إلى فتى من الجند الرماة، يجيد الشعر والترسل، فاستحضره، وكان هو أبو جعفر بن عطية، فعهد إليه بأن يكتب عنه إلى الخلافة رسالة يصف فيها المعركة، فنزل أبو جعفر عند رغبته مرغماً، وكتب رسالته الشهيرة، في نصر الموحدين في ذلك اليوم، فجاءت قطعة من البلاغة المتدفقة، والبيان الرائع، وهي الرسالة التي رفعت إسمه وقدره، لدى الخليفة، وبين سائر الموحدين، وكانت سبيله إلى الوزارة، وإلى النفوذ والسلطان. وقد أورد لنا ابن الخطيب نص هذه الرسالة. وإنه ليكفي أن ننقل منها هاتين الفقرتين.
جاء في الديباجة ما يأتي:
" كتبنا هذا من وادي ماسة، بعدما تزحزح من أمر الله الكريم، ونصر الله المعلوم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فتح بمسرى الأنوار إشارقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه للأماني القائمة جفوناً وأحداقاً، واستغرق غاية الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسنة كنه وصفه إدراكاً ولا لحاقاً، جمع أشتات الطب والأدب، وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب.
فتح تفتّح أبواب السماء له
…
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وتقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة. كان أولئك الضالون المرتدون، قد بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معنى وإسماً، وأملى الله لهم ليزدادوا إثماً ".
ومنها في وصف مصرع أنصار الماسي: " فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وأذنت الآجال بانقراض آمالهم، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم، فلم يُعاين منهم إلا من خر صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقى من وقع الهنديات أمراً فظيعاً، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي، فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه، ويسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً زعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثجه، قضى عليه شرقه، وألوى فرقته غرقه "(1).
(1) ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة أبى جعفر بن عطية ج 1 ص 277.
يقول لنا ابن الخطيب، إن الشيخ أبا حفص حين قرئت عليه رسالة هذا الجندي الأديب، اشتد إعجابه بها، وأحسن إلى كاتبها، واعتقد أنه ذخر يتحف به عبد المؤمن، وأنها لما قرئت بعد ذلك على الخليفة بمحضر من أكابر الدولة عظُم مقدارها، ومقدار منشيها، وبعث في طلبه معززاً مكرماً.
ولما وفد ابن عطية على عبد المؤمن، بالغ في إكرامه، وقلده خطة الكتابة، وأسند إليه وزارته، ثم فوض إليه فيما بعد النظر في أموره كلها، فنهض بأعباء منصبه خير نهوض. ولكن القدر كان يتربص به، وكان يدخر له تلك الخاتمة المؤسية، التي سنقص سيرتها فيما بعد.
وعلى أثر هزيمة الماسي ومصرعه، وانهيار حركته، خرج الشيخ أبو حفص في قواته لمطاردة القبائل الخارجة، فسار أولا إلى هسكورة، وأثخن فيها، ومزق شملها، وسبى أهلها، واستاق غنائمها. ثم سار إلى أرض نفيس، ثم أرض هيلانة، فمزق جموعهم، وفرض عليهم الخضوع والطاعة. وسار بعد ذلك إلى سجلماسة فاستولى عليها، وأمّن أهلها. وعاد إلى مراكش فاستراح بها قليلا، ثم خرج غازياً إلى أرض برغواطة، وكانوا مازالوا على دعوة الماسي، فنشب بينهم وبينه قتال مرير، ومعارك متوالية، استمرت حيناً، وهزم الموحدون في نهايتها. واستمرت برغواطة ومن يجاورها من القبائل في ثورتهم وخروجهم فترة أخرى.
وكان يحيى بن أبى بكر بن علي الصحراوي، أو ابن الصحراوية، حينما فر من فاس، عند سقوطها في أيدي الموحدين، قد غادرها إلى سبتة ليحاول أن يجعل منها قاعدة للمقاومة، وجمع أشتات الفلول المرابطية. وهنا تختلف الرواية في شأن ما تلا من الحوادث التي وقعت في سبتة. ذلك أن البيذق قدم إلينا رواية خلاصتها أن الصحراوي حينما نزل بسبتة، حاصره بها على بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول الأندلسي في منطقة قادس، وهو الذي انحاز إلى الموحدين حسبما تقدم، فتودد إليه الصحراوي، وأوهمه أنه يريد أن يبايع الموحدين، وأن يكون توحيده على يديه، وفي اليوم التالي نزل ابن ميمون من سفينته إلى البر، فاستقبله الصحراوي ثم هاجمه فجأة وطعنه برمحه فأرداه، وصلب جثته في برج المدينة، ثم غادر الصحراوي على أثر ذلك سبتة إلى طنجة (1).
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 107.
بيد أن هنالك رواية أوضح تفصيلا، هي رواية صاحب روض القرطاس، وابن خلدون، وهي رواية تدور حول الدور الخطير الذي قام به القاضي عِياض ابن موسى اليحصبي قاضي سبتة، في حوادث سبتة عندئذ. وكان القاضي عِياض من أعظم فقهاء العصر وعلمائه، وكان قد وُلّي قضاء سبتة شاباً، فاشتهر بنزاهته وغزارة علمه، فنقل إلى قضاء غرناطة (سنة 531 هـ)، ثم أعيد بعد ذلك إلى قضاء سبتة (539 هـ). فلما ظهر أمر الموحدين، بادر إلى الدخول في طاعتهم، وسار إلى لقاء الخليفة عبد المؤمن، وهو بسلا في أواخر سنة 540 هـ، فأكرمه عبد المؤمن وأجزل صلته، فعاد إلى سبتة واستمر في منصبه (1). بيد أنه لأسباب غير واضحة، تغير ضد الموحدين فجأة، ولم يلبث وفقاً للرواية المتقدمة، أن حرض أهل المدينة على الانتقاض والثورة، فثاروا بواليها الموحدي يوسف بن مخلوف التينمللي، وقتلوه ومن معه من الموحدين. ثم عبر القاضي عياض البحر إلى الأندلس، ولقى يحيى بن غانية المسّوفي، والى الأندلس المرابطي، وطلب منه والياً لسبتة، فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوي، وكان وفقاً لنفس الرواية قد عبر البحر إلى الأندلس، وانضم إلى ابن غانية. فقام الصحراوي بأمر سبتة، ثم كتبت إليه برغواطة تستنصر به على قتال عبد المؤمن، فغادر سبتة، وسار في صحبه إليهم، فبايعوه واجتمعوا تحت رايته (2). بيد أن البيذق، بعد ذكر ما تقدم من اغتيال الصحراوي لابن ميمون، يقدم إلينا عن خطط الصحراوي ومسيره إلى الجنوب، تفاصيل أخرى، خلاصتها أن الصحراوي لما غادر سبتة، سار منها إلى طنجة، وهنالك ألفي واليها يحيى بن تايشا المرابطي، ممتنعاً بأسوارها القوية، وعلى أهبة حسنة للدفاع، فغادرها إلى سلا، وكان بها الخياط والد الثائر الماسي، وكانت قد خرجت فيمن خرج على طاعة الموحدين.
ولكن الخياط لم يكن من أنصار لمتونة، فساء التفاهم بينه وبين الصحراوي، ولم يلبث أن وثب به الصحراوي وقتله، ووقعت هذه الحوادث كلها في أوائل سنة 543 هـ (1148 م)(3).
وكان يحيى الصحراوي جندياً عظيماً، وفارساً وافر الجرأة (4). وكان يعتزم
(1) ابن الخطيب في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال في ترجمة القاضي عياض لوحة 350.
(2)
روض القرطاس ص 124، وابن خلدون ج 6 ص 233.
(3)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 107.
(4)
المراكشي في المعجب ص 111.
أن ينزل إلى ميدان تضطرم فيه ثورة ضد الموحدين. وكانت المنطقة الساحلية الممتدة من سلا جنوباً، حتى أراضي برغواطة، ودُكالة، قد غدت كلها بعد هزيمة الموحدين أمام برغواطة، منطقة لمقاومة الدعوة الموحدية، ومحاولة تحطيمها، فإلى هذا الميدان نزل الصحراوي في صحبه القلائل، واجتمعت برغواطة ودكالة حول رايته، ثم قدمت إليه حشود رَجراجة وحاحة، وانضمت إليه، واجتمع من هؤلاء وهؤلاء، قوة يخشى بأسها.
فلما علم عبد المؤمن باجتماع هذه الحشود الضحمة الخصيمة وتأهبها لمقارعته، بعث لقتال الثوار حملة بقيادة يصلاسن، أحد خاصته. فسار يصلاسن أولا إلى تادلا، ومنها إلى سلا لمعاقبة أهلها على نكثهم، فاقتحمها، وغلب على قصبتها بالسيف، فعاد أهلها إلى الخضوع والطاعة، وعهد بولايتها إلى موسى بن زيري الهنتاني. ثم سار إلى أرض بني ورياغل، فيما بين سلا ومكناسة، وكانوا من الناكثين، فأخضعهم واستاق غنائمهم إلى مكناسة، فقسمت بين الموحدين، ثم اتجه شمالا صوب طنجة، وكانت ما تزال من معاقل لمتونة، فاقتحمها، وقتل واليها المرابطي يحيى بن تايشا. وسار منها بعد ذلك شرقاً إلى سبتة وحاصرها، ولكنه لم يدخلها، وعاد بقواته إلى مكناسة (1). وهنا لابد لنا أن نتساءل عن سر هذا الإغضاء عن معاقبة المدينة الثائرة أعني سبتة. والجواب على ذلك هو أن القاضي عِياض، حسبما يروي لنا البيذق، بادر فبعث إلى القائد الموحدي ببيعته وبيعة أهل سبتة للموحدين، وبذلك أنقذت المدينة (2). وفي رواية أخرى، أنه لما قدم الموحدون إلى سبتة، وشددوا في حصارها، سعى إليهم القاضي عياض، وتلطف في الاعتذار إليهم عما حدث، وفي استدرار عطفهم وصفحهم، فعفوا عنه، وملكوا البلدة، ولقى القاضي من القائد الموحدي يصلاسن بن المعز، كل عطف وإكرام، وأن القاضي عياض، سار بعد ذلك إلى مراكش (سنة 543 هـ)، ليستعطف الخليفة ويلتمس صفحه، فعفا عنه عبد المؤمن، وأمره بلزوم مجلسه، وأغدق عليه عطفه. ثم مرض القاضي غير بعيد، وتوفي بمراكش في ليلة التاسع من جمادى الآخرة سنة 544 هـ ودفن بها (1149 م)(3). وأخيراً يقول لنا
(1) أخبار المهدي ص 107 و 108.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 108.
(3)
وردت هذه الرواية خلال ترجمة للقاضي عياض يتضمنها مخطوط بالمكتبة الكتانية بخزانة الرباط عنوانه: " كتاب في التعريف بعياض "، ويحتفظ بها برقم 553 (لوحات 7 - 14).
صاحب القرطاس " إن أهل سبتة حينما رأوا ما نزل بالناكثين من صنوف الويل، بادروا بإعلان بيعتهم وطاعتهم، وحمل البيعة إلى عبد المؤمن أشياخ المدينة وطلبتها فتقبلها منهم، وعفا عنهم، وعن القاضي عياض، ولكنه أمره بمغادرة سبتة والإقامة بمراكش، فصدع بالأمر وسار إلى مراكش، وهنالك توفي بعد قليل في جمادى الأخرى سنة 544 هـ، وأمر عبد المؤمن كذلك بهدم أسوار سبتة فهدمت (1)، وأسندت ولايتها إلى حاكم موحدي هو عبد الله بن سليمان مع طائفة من الحفاظ، وعاد إليها الهدوء والسكينة.
واعتزم عبد المؤمن أن يخرج بنفسه ليقضي على الخارجين عليه في منطقة برغواطة ودُكالة، التي غدت بعد حلول الصحراوي بها مركزاً للمقاومة المرابطية.
فأرسل الكتب إلى سائر الأنحاء، وجاءت إليه حشود تترى من كل مكان، وكان في مقدمتهم يوسف بن وانودين، وقد وافاه بعساكر النواحي الشرقية، ولكنه توفي خلال الطريق بفاس، فخلفه في القيادة تاشفين بن ماخوخ وآخرون من الزعماء، ووفدت حشود المناطق الغربية وعلى رأسها عبد الله بن خيّار الجيّاني، الذي عرفناه من قبل مشرفاً على فاس، وقد لعب دوره في تسليمها إلى الموحدين، ثم حشود زناتة، بقيادة عبد الله بن شريف وثلاثة آخرين من الزعماء، وحشود غُمارة بقيادة عبد الله بن سليمان، وحشود صنهاجة بقيادة أبى بكر ابن الجبر وأبى يدِّر بن ومصال، وحشود جَراوة بقيادة عبد الله بن داود، واجتمعت هذه الحشود كلها تحت راية عبد المؤمن، فخرج من مراكش في عسكر جرار، وسار شمالا نحو أراضي دُكالة. وكانت حشود برغواطة ودكالة ويحيى الصحراوي قد اجتمعت عندئذ على مقربة من ساحل المحيط جنوبي ثغر أزمّور، وفي بعض الروايات أن هذه الجيوش التي اجتمعت لقتال عبد المؤمن بلغت زهاء عشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل، وهو تقدير يحمل طابع المبالغة. ويقدم إلينا ابن خلدون تقديراً أكثر اعتدالا، فيقول إنهم كانوا في نحو ستين ألفاً من الرجالة وسبعمائة من الفرسان (2). بيد أنها كانت خالية من فرق الرماة، التي امتازت بها الجيوش الموحدية. والظاهر أيضاً مما تذكره الرواية المذكورة أن عبد المؤمن لجأ إلى خطة لم يحسب حسابها خصومه، وفاجأهم بالهجوم، فاختل
(1) روض القرطاس ص 124.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 232.
نظامهم، وتبدد شملهم، واضطروا إلى مغادرة مراكزهم الحصينة نحو البحر، فغرقت منهم جموع غفيرة، وتمت عليهم الهزيمة الساحقة (1)، ومزقت بالأخص حشود دكالة، وفر زعماؤها ومعهم يحيى الصحراوي إلى السوس، فسار في أثرهم يصلاسن حتى أراضي رجراجة، ومزق جموعها حتى أذعنت إلى التوحيد، وفر يحيى إلى الصحراء. وفي رواية أخرى أنه بعث إلى عبد المؤمن يستأمنه فأمنه وبايعه وحسنت طاعته (2). واستولى عبد المؤمن على أسلاب برغواطة ودكالة، وسبى نساءهم وأولادهم وبيعوا رقيقاً. وأذعنت برغواطة إلى التوحيد، واسترد الموحدون منها ما سبق أن غنموه من أبى حفص حين هزيمته من السلاح والعتاد، وكذلك رُد إليه ولده وجاريته، وانتشر الموحدون في تلك المنطقة، وأخمدوا عدة ثورات محلية صغيرة. ووقعت هذه الحوادث حسبما يقص علينا البيذق في سنة 543 هـ (1148 م)(3)، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش ظافراً بعد أن قضى في تلك الغزوة ستة أشهر.
- 2 -
وهكذا هدأت الثورة ضد الموحدين في مختلف النواحي، وأرغمت معظم القبائل والقواعد الثائرة، بقوة السيف، والسيف وحده، على العودة إلى الخضوع والطاعة. ولكن ما بثته هذه الثورات المضطرمة، من أقوام كان معظمهم قد آمن بدعوة المهدي، وانضوى تحت لوائها، في نفوس الموحدين من المرارة والسخط، كان نذيراً بفورة دموية جديدة. ولقد رأينا فيما تقدم، من مراحل الصراع بين الموحدين والمرابطين، كيف كان هذا الصراع يتميز في كثير من المواطن، بألوانه الدموية المثيرة، وكيف كان الموحدون يتبعون نحو المهزومين والعزّل من خصومهم، خطة التقتيل الشامل، وسفك الدماء دون تحفظ، وهي خطة كانت حسبما رأينا شعار المهدي ابن تومرت في محاربة خصومه. والظاهر أن هذه النزعة الدموية استمرت في الموحدين أجيالا، حتى بعد أن توطدت دولتهم بمدة طويلة، فإن المراكشي مثلا، وهو من مؤرخي الموحدين،
(1) الحلل الموشية ص 111.
(2)
روض القرطاس ص 124.
(3)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 109. وفي ابن خلدون أنها وقعت في سنة 542 هـ.
كتاب العبر ج 6 ص 233.
ينوه في كتابه بما جبل عليه المصامدة، وهم عماد الجيوش الموحدية، من ميل إلى سفك الدماء، وكيف أنه وهو في بلاد السوس (في أوائل القرن السابع) مهد المصامدة، قد شهد من ذلك العجب (1).
والآن نقف أمام صفحة دموية جديدة كتبها الخليفة عبد المؤمن وصحبه الموحدون، عقب انتصارهم على القبائل الثائرة، وهي صفحة يقدم إلينا البيذق تفاصيلها الرهيبة فيما يسميه " الاعتراف " أعني الاعتراف بطاعة التوحيد.
وذلك أن الخليفة عبد المؤمن، عقب عوده ظافراً إلى مراكش، عقد للموحدين مجلساً، ووعظهم وكتب لهم الجرائد بالوعظ والاعتراف، ووزعها على أشياخ الموحدين، وأمرهم باستعمال السيف في تنفيذها. ومؤدي ذلك أنه عهد إلى أشياخ مختلف القبائل وزعمائها، كل بجريدة أو قائمة، تحتوي على مئات من أسماء المارقين، والمشكوك في ولائهم، أو من يصفهم البيذق " بأهل التخليط والمعاندين " ووجوب قتلهم، وتطهير القبائل والبطون منهم، ونحن نكتفي بأن ننقل مما يورده لنا البيذق من الأسماء والتفاصيل الكثيرة، أسماء القبائل، وعدد من أعدم منها، على الوجه الآتي:
أعدم من قبيلة هزميرة خمسمائة، وأعدم من رجراجة ثمانمائة، وأعدم من حاحة ثمانمائة، وأعدم من أهل السوس ستمائة من أهل إيجلي، وستمائة من أهل إينجيست، وأعدم من أهل جزولة مائتان في تاعجيزت وثلاثمائة في هشتوكة، وأعدم من هسكورة ثمانمائة، وهوجمت بقية بطونهم حتى بلغ عدد القتلى ألفين وخمسمائة، وأعدم من أهل تادلا خمسمائة في محلة نظير، ثم هوجم منهم أهل تيفسيرت وقتلوا، وأخذت غنائمهم ونساؤهم، وقتل من صنهاجة وجراوة ألف في موضع يسمى بالعمري، وقتل من زناتة ستة آلاف بأرض فازاز، وقتل من صاربوه وبني ماكود اثنا عشر ألفاً، وقتل من غمارة في تطاوين ثمانمائة، وقتل في مكناسة مائتان، وفي فاس ثمانين، وقتل في تامسنا ستمائة من أهل برغواطة، وقتل من دكالة ستمائة، ومن هيلانة ثمانمائة، ومن وريكة وهزرجة مائتان وخمسون، ومن لجاعة مائة وخمسون، ومن درعة ستمائة. ونجا أهل سجلماسة بدعاء عابد فيهم استجاب الله دعاءه (2).
(1) المعجب للمراكشي ص 106.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 109 - 112.
يقول البيذق بعد إيراد ما تقدم " تم الاعتراف بحمد الله وعونه .. فهدّأ الله البلاد للموحدين، وأعانهم على الحق ونصرهم، وأقاموا الدين، ولم يتفرقوا فيه. وتمهدت الدنيا، وأزال الله ما كان فيها من التخليط. وهذا كان سبب الاعتراف "، ثم يضع تاريخ هذه الحوادث الدموية في سنة 544 هـ (1149 م)(1).
وإنه لمما يلفت النظر في هذا الحادث الدموي، أولا وقبل كل شىء، أنه وفقاً لأقوال البيذق، من عمل عبد المؤمن وتدبيره، وأنه يدمغ جهود عبد المؤمن وسياسته في توطيد الدولة الموحدية، بطابع بغيض. بيد أننا نشعر من جهة أخرى، أن هذا العمل وما تقدمه من تصرفات دموية عديدة، خلال هذا الصراع الديني والسياسي العظيم، لا يمكن أن تنسب إلى عبد المؤمن دون تحفظ.
ذلك أن عبد المؤمن إذا كان باعتباره خليفة الموحدين وقائدهم الأعلى، مسئولا عن هذه الأعمال المثيرة أمام التاريخ، فإنه يجب أن نذكر أيضاً أن عبد المؤمن، لم يكن بالرغم من رفيع مركزه، وسلطانه الظاهر، مطلق التصرف في كل ما يقوله أو يفعله، وأنه كان بالعكس مرغماً على أن يخضع في كثير من المواطن لضغط الأشياخ والقادة. فقد رأينا مثلا، كيف أنه حينما قُتل أخوه إبراهيم بيد بعض أكابر الموحدين، غلب على أمره، ومنع بتدخل أصحاب المهدي، من أن يقتص لمقتله من قاتله، ثم رأيناه بعد ذلك يُغلب على أمره مرة أخرى، حينما دخل الموحدون مراكش، وقُبض على إبراهيم بن تاشفين، وأتى به إلى عبد المؤمن فرقّ لحداثة سنه، وأراد أن يعفو عنه وأن يفره من القتل، فاعترض عليه بعض الأشياخ، وأخذ إبراهيم وقتل رغماً عن إرادته. ففي هذه الحوادث وأمثالها ما يدلى بوضوح بأن عبد المؤمن، لم يكن مطلق الحرية في سائر تصرفاته. وإنّا لنرتاب في أن يكون أمثال مذبحة الإعتراف، معبرة عن خلق عبد المؤمن وميوله الحقيقية، ونعتقد أنه لابد أن يكون وراءها، ووراء أمثالها من التصرفات الدموية المثيرة، ضغط الأشياخ والصحب، وقد كانوا في تلك المرحلة، هم أصحاب التوجيه الحقيقي، يزاولونه أحياناً بصورة ظاهرة، وغالباً من وراء حجاب.
- 3 -
بعد أن تم لعبد المؤمن سحق الثورة الكبرى، في أراضي برغواطة ودكالة، وبعد أن تم له تمييز القبائل، وقتل المارقين على النحو المتقدم، اعتزم أن يقوم
(1) أخبار المهدي بن تومرت ص 112.
بجولته الثانية لسحق ما تبقى من مواطن الثورة والمقاومة، وليتم افتتاح المغرب بافتتاح إفريقية. وكان قد قام في تلك الأثناء بتامسنا، عقب حرب برغواطة بقليل، ثائر جديد يدعى بابن تمركيد، فبايعه كثير من أهل برغواطة، وغيرها من القبائل، ولبث حيناً يتحدى الموحدين، ويشتبك معهم في معارك متوالية، إلى أن يهزم أخيراً، وقتل، وقتل معه كثير من أنصاره، وحمل رأسه إلى مراكش (سنة 544 هـ).
وخرج عبد المؤمن في قواته من مراكش سنة 545 هـ، مستخلفاً عليها أبا حفص عمر بن يحيى الهنتاني، وسار إلى مدينة سلا، وأمر بأن تنشأ قصبة وقصر فوق اللسان الممتد في البحر أمام سلا، وبأن ينشأ سرب يستمد الماء من عين غبولة القريبة لإمداد المحلة الموحدية، فتم ذلك، وجرى الماء، وغرست الحدائق والرياض، وأذن الخليفة للناس في التعمير والسكنى، فكان ذلك منشأ مدينة رِباط الفتح، التي غدت من ذلك الحين مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية الغازية.
ولبث الخليفة بسلا خمسة أشهر. وفي خلال ذلك، وفدت عليه وفود عديدة من الأندلس بلغت زهاء خمسمائة من الفقهاء والقضاة والزعماء والقادة، فاستقبلهم الوزير أبو إبراهيم والوزير أبو حفص، والكاتب الوزير أبو جعفر بن عطية، وأشياخ الموحدين. فأكرمت وفادتهم وأنزلوا خير منزل. ثم أخذوا لمقابلة الخليفة، وكان دخولهم عليه في غرة شهر المحرم سنة 546 هـ، وكان أول من تقدم بين يديه وفد قرطبة، فشرح قاضيها أبو القاسم ابن الحاج للخليفة، ما تعانيه قرطبة، من تهديد النصارى وضغطهم، وتلاه الكاتب أبو بكر بن الجد بخطبة بليغة، ثم تعاقبت الوفود في السلام والتهنئة، فشمل الخليفة الجميع بعطفه، وأجزل لهم الصلات كل على قدر مكانته، ثم أمرهم بالانصراف إلى بلادهم (1). ولا ريب أن تعاقب الوفود الأندلسية على المغرب على هذا النحو، كان له أثره في خطط عبد المؤمن المستقبلة، نحو افتتاح الأندلس، وتنظيم شئونها.
وغادر عبد المؤمن سلا في أوائل سنة 546 هـ، وسار إلى المعمورة، وهو يعتزم افتتاح بجاية وإفريقية. وكانت ثمة بواعث عديدة لها خطرها، قد حملته على
(1) هذه هي رواية صاحب روض القرطاس (ص 122)، ويمر البيذق على هذا الحادث بالصمت. ويشير إليه الزركشي في تاريخ الدولتين (ص 7)، ولكنه يضع تاريخه سنة 553 هـ، ويقول لنا إنه كان ضمن الوفد الأندلسي، الشاعرة الأندلسية الشهيرة حفصة بنت الحاج الركوني، وإنها أنشدت الخليفة شعراً، أعجب به، وأنه منحها إقطاع قرية ركانة.
اتخاذ هذا القرار، منها اضطراب الأمور في إفريقية واختلاف أمرائها، واستطالة العرب عليها؛ وعيثهم في أراضيها، حتى أنهم حاصروا مدينة القيروان. وأهم من ذلك كله ما حدث من اعتداء الفرنج الصقليين على الثغور الإفريقية، وافتتاحهم لمدينة المهدية (سنة 543 هـ)، وسيطرتهم على الشاطىء الإفريقي من طرابلس حتى مياه تونس. كل ذلك حمل عبد المؤمن على أن يضع خطته لافتتاح إفريقية (1).
بيد أنه لم يسر في ذلك الاتجاه تواً، بل سار إلى سبتة متظاهراً بقصد الجواز إلى الأندلس برسم الجهاد. وهنالك استدعى وجوه الأندلس وفقهاءها وقوادها، فوفدوا إليه، فحدثهم في مسائلهم، وألقى عليهم توصياته ثم صرفهم، وغادر سبتة متجهاً في الظاهر إلى طريق مراكش، ولكنه سلك طريقاً أخرى غير مطروقة، وأمر في نفس الوقت بمنع السفر في الطرق المسلوكة، في المغرب الأوسط، من سلا إلى مكناسة، ومن مكناسة إلى فاس ومن تلمسان إلى فاس. ثم اتجه نحو الشرق، مبالغاً في إخفاء وجهته، وسار مسرعاً صوب بجاية، واستولى في طريقه على جزائر بني مزغنة (وهي التي صارت مدينة الجزائر فيما بعد)، ففر منها عاملها القائم بن يحيى إلى بجاية، ونبأ أباه يحيى بن العزيز بالله الصنهاجي، سليل بني حماد، بمقدم الموحدين. وكان بالجزائر في نفس الوقت، الحسن بن علي الصنهاجي صاحب المهدية، وابن عم صاحب بجاية، وكان الفرنج الصقليون قد استولوا على المهدية في أوائل سنة 543 هـ (1148 م) حسبما تقدم، فخرج منها ملتجئاً إلى ابن عمه يحيى، فأنزله بالجزائر منزلا سيئاً، فلما دخلها الموحدون، بادر إلى عبد المؤمن فبايعه، وصحبه مستظلا برعايته.
ويجدر بنا أن نذكر هنا كلمة عن مدينة بجاية هذه، وهي التي سوف يتردد ذكرها منذ الآن فصاعداً، في مواطن ومناسبات تاريخية كثيرة. وكان إنشاؤها نتيجة لما حدث من الشقاق، بين بني زيري أمراء إفريقية. وذلك أنه قام خلاف بين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية، وبين ابن عمه الناصر ابن علناس، ففارقه الناصر، وخرج في أصحابه، ودله بعضهم على موضع بجاية، وقد كان به منازل قليلة للبربر، وبين له مزاياه من المنعة، والمرسى الذي يمكن أن يغدو مركزاً هاماً لرسو السفن، وترويج التجارة، فأمر باختطاط مدينة بهذا الموقع، وهو في حماية جبل شاهق، وكان ذلك في حدود سنة
(1) ابن خلدون ج 6 ص 235.
457 هـ (1065 م)(1). وفي رواية أخرى أن بناء بجاية جاء نتيجة لتوغل العرب في إفريقية وعيثهم فيها، وأنهم لما قاموا بتخريب القيروان، ومعظم مدن إفريقية، فر منهم صاحب القيروان، وخرج لنصرته ابن عمه المنصور بن حماد، فهزمه العرب هزيمة شديدة، ففر إلى قاعدته بالقلعة، ولكن العرب جدوا في أثره، وطاردوه، فبحث عن موضع يختط فيه لنفسه محلة جديدة لا يلحقه فيها شر العرب، فدله بعض أصحابه على موقع بجاية، وكان مرسى قديماً، فاختطها فيه، ونقل إليها مركز حكمه، واتخذها دار ملكه (2). ومن ذلك الحين سارت بجاية في طريق التقدم، وغدت من أغنى وأزهر الثغور الإفريقية.
وكان بنو حماد هؤلاء أصحاب بجاية والقلعة، وما يليها من ثغور المغرب الأوسط، بونة وقسنطينة والجزائر، هم فرع من بني زيري بن مناد ملوك إفريقية الصنهاجيين، الذين بسطوا عليها سيادتهم مذ غادرها بنو عبيد الفاطميون إلى مصر، في أواخر القرن الرابع الهجري، وكانوا يستظلون في البداية بسلطان الخلافة الفاطمية، ثم أعلنوا استقلالهم، وضخم ملكهم بإفريقية. وفي أوائل القرن الخامس خرج حماد بن يوسف بن زيري على ابن أخيه باديس بن المنصور ابن يوسف، واستقل بالمناطق الغربية، أعني الزاب والمغرب الأوسط، وكان والياً عليها من قبل ابن أخيه، وأسس بها إمارة جديدة عرفت بمملكة بني حماد.
ولما توفي حماد في سنة 419 هـ، تعاقب بنوه من بعده في الملك، وكان مركزهم في البداية بالقلعة، وهي محلة في غاية المناعة والحصانة، اختطها منشىء دولتهم حماد في بقعة حصينة، تقع جنوبي بجاية على مقربة من بلدة أشير، وقد كانت وفقاً لقول الإدريسي من أكبر البلاد في تلك المنطقة وأكثرها خلقاً، وأغزرها خيراً، وأوسعها أموالا، وأحسنها قصوراً ومساكن، وأعمها فواكه وخصباً، وهي في سند جبل سامي العلو، صعب الارتقاء، وقد استدار سورها بجميع الجبل، ويسمى تاقربست. ويقول لنا ياقوت في وصفها، من جهة أخرى، " وليس لهذه القلعة منظر ولا رواء حسن، إنما اختطها حماد للتحصن والامتناع "(3).
(1) ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة بجاية.
(2)
الاستبصار في عجائب الأمصار المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول (الإسكندرية 1958) ص 128 و 129.
(3)
الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 86، وراجع ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة " قلعة حماد ".
ثم انتقل بنو حماد، بعد ذلك إلى بجاية منذ اختطها وأنشأها الناصر بن علناس بن حماد وذلك في سنة 457 هـ، وجعلوها قاعدة ملكهم. وكانت مملكة بني حماد، حينما زحف الموحدون على بجاية في حالة اضطراب وتفكك، وكان ملكها يحيى ابن العزيز بالله أميراً ضعيفاً يعشق اللهو والصيد. وكان وزيره القائد أبو محمد ميمون بن علي بن حمدون هو حاكمها الحقيقي، فلما وصل الموحدون إلى بجاية ضربوا حولها الحصار. واتصل ابن حمدون سراً بعبد المؤمن، وفتح له أبواب المدينة، فدخلها الموحدون (1). وفي الوثائق الموحدية ما يؤيد هذه الرواية. ففي الرسالة، التي وجهها عبد المؤمن بعد فتح بجاية إلى أهالي قسنطينة يدعوهم إلى التوحيد، ما يفيد بأن القائد ابن حمدون كان ضالعاً في السر مع الموحدين، وأنه عقب فتح بجاية انضم إليهم، وخدمهم هو وأخوه الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن حمدون (2). بيد أن هناك رواية أخرى تقول إن ابن حمدون بالعكس خرج في قوات بجاية، وهي تزيد على العشرين ألف فارس، واشتبك في ظاهرها مع الموحدين في معركة هزم فيها، ودخل الموحدون المدينة على أثرها (3). وزحفت في نفس الوقت قوة موحدية بقيادة عبد الله ولد الخليفة عبد المؤمن، على القلعة - قلعة بني حماد الشهيرة - وقد كانت من أعظم وأمنع قلاع المغرب، وكانت معقل بني حماد الأعظم، ومهد ملكهم الأول، فاستولت عليها، وقتلت بها عدة ألوف من الصنهاجيين. ولما دخل الموحدون بجاية فر عنها صاحبها يحيى بن العزيز بالله إلى بونة، وفر أخواه الحارث وعبد الله إلى صقلية حيث استظلا بحماية الفرنج.
ثم سار يحيى من بونة إلى قسنطينة، فامتنع بها مع أهله وقرابته، وهنالك حاصره الموحدون، فلما ضاق بالحصار ذرعاً، أرسل أخاه وشيوخ صنهاجة وقسنطينة، إلى عبد المؤمن يعلنون خضوعه، وإذعانه إلى التسليم ويطلبون الأمان فأجابهم عبد المؤمن إلى ما طلبوه. ولما غادر عبد المؤمن بجاية سار معه يحيى في أهله وولده إلى مراكش، وهنالك عاش في كنف الخليفة في عزة وسعة من الرزق، ولبثوا بمراكش حتى انقرض بيتهم. وكان استيلاء
(1) روض القرطاس ص 126.
(2)
راجع رسائل موحدية، المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1941) الرسالة السابعة ص 20.
(3)
ابن الأثير ج 11 ص 59.
خريطة:
إفريقية مواقع غزوات الخليفة عبد المؤمن لافتتاح بجاية سنة 547 هـ وافتتاح المهدية سنة 555 هـ.
الموحدين على بجاية في شهر ذي القعدة سنة 547 هـ (يناير سنة 1153 م)(1).
وكانت بجاية في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، الذي زارها قبل ذلك بنحو عشرين عاماً، قاعدة المغرب الأوسط، وميناؤها عامرة بالسفن الواردة والصادرة، والبضائع تتدفق إليها براً وبحراً، وأهلها تجار مياسير، وبها من الصناعات والصناع ما ليس بكثير من البلاد، ولأهلها معاملات مع تجار المغرب الأقصى، وتجار الصحراء، وتجار المشرق، وبها تحل الشدود وتباع البضائع بالأموال الوفيرة، ولها بواد ومزارع، والحنطة والشعير يوجدان بها بكثرة، وكذلك سائر الفواكه، وبها دار صناعة لإنشاء الأساطيل والمراكب والسفن الحربية، يمدها الخشب الكثير الموجود في جبالها وأوديتها، والزفت البالغ الجودة والقطران الموجود في أقاليمها، وبها أيضاً معدن الحديد الطيب، وهي مركز هام للمواصلات إلى بلاد إفريقية. وهذا كله فضلا عن حصانتها الطبيعية، سواء من ناحية البر أو البحر (2).
وكانت جموع من العرب من بطون أثبج وزغبة ورياح وغيرها، تحتل المنطقة الشاسعة، الواقعة جنوبي بجاية، وتعيش في ظل بني حماد، وتحت حمايتهم.
فلما استولى الموحدون على مملكة بني حماد، شعر أولئك العرب بما يهددهم من فقد أوطانهم وأرزاقهم، فاحتشدوا لمقاومة الموحدين، وأخذوا يغيرون على مؤخراتهم، ويزعجون محلاتهم، فاعتزم عبد المؤمن أن يطهر هذه المناطق من عيثهم، وسار في قواته إلى سطيف، وجهز لقتالهم حملتين، الأولى بقيادة صهره وزوج ابنته عبد الله بن وانودين، والثانية بقيادة يصلاسن بن المعز، ولكن ثار بين القائدين خلاف، تعدى فيه يصلاسن على زميله صهر الخليفة وأهانه. ثم تركه وحده في مواجهة العرب. فانتهز العرب هذه الفرصة وهاجموا قوات عبد الله بن وانودين وهزموه وأسروه ثم قتلوه. فاستشاط عبد المؤمن لذلك غضباً، وحشد كافة الموحدين لمقاتلة العرب. فلما شعر العرب بشدة وطأة الموحدين، افترقت كلمتهم، وأذعن بعض زعمائهم إلى التوحيد، وشدد عبد المؤمن
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 113 و 114، والحلل الموشية ص 112 و 113، وروض القرطاس ص 128 و 129، والمعجب ص 113 و 114. وراجع الرسالة الثامنة من رسائل موحدية ص 24 و 25، وكذلك المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ص 111.
(2)
الإدريسي في وصف المغرب وأرض السوادن ومصر والأندلس ص 90 و 91.
في قتال من تبقى منهم، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، دامت يوماً وليلة، وهزم العرب في نهايتها شر هزيمة، ومزقت جموعهم، وقتل وأسر منهم عدد جم.
وكان في مقدمة القتلى ألمع زعمائهم هلال بن عامر. واستولى الموحدون على غنائمهم من العتاد والدواب، وكانت وفيرة هائلة. ثم طاردوهم مدى ثلاثة أيام أو أربعة في مختلف الأنحاء، حتى قضوا على معظم فلولهم. وحدثت هذه الموقعة الحاسمة في شهر ربيع الأول سنة 548 هـ (يونيه 1153 م)(1).
وبينما كان عبد المؤمن في بجاية، إذ اجتمعت حشود غفيرة من صنهاجة يقودها زعيم يدعى أبو قصبة من بني زالدوي، وانضمت إليها كذلك جموع كثيرة من كتامة ولواتة وغيرهما، وسارت هذه الجموع لقتال الموحدين، فبعث عبد المؤمن لردهم حملة قوية بقيادة أبى سعيد يخلف، وهو من أصحاب خمسين، فالتقوا في عرض الجبل شرقي بجاية، فانهزمت صنهاجة وحلفاؤها، وقتل معظمهم، وأخذت أسلابهم ونساؤهم (2). ويقول لنا البيذق إن الذي قام بمدافعة صنهاجة هو عبد المؤمن نفسه، وقد كان في قلة من جنده وحشمه، ولكنه خرج ليردهم بنفسه، واشترك في قتالهم، مع أنه لم يمتشق السيف منذ موقعة البحيرة عام 524 هـ (3).
وغادر عبد المؤمن بجاية، بعد أن نظم شئونها، وندب لولايتها ولده أبا محمد عبد الله، وسار في جيشه الظافر، أولا إلى تلمسان، ثم سار إلى فاس، ومكناسة، ثم إلى سلا، ووزع الغنائم والسبي على هذه البلاد. ثم غادر سلا إلى مراكش، وفي ركبه عدة من زعماء العرب - أو سلاطينهم حسبما يصفهم البيذق - الذين خضعوا في تلك الحركة. ولما وصلوا إلى مراكش، زودهم بالأموال ورد إليهم نساءهم وأولادهم، وصرفهم إلى بلادهم.
- 4 -
وصل عبد المؤمن إلى مراكش ليواجه آثار مؤامرة دبرت في غيبته، وكادت أن تصدع صرح حكومته، لو لم تخمد في مهدها.
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 114 و 115، ورسائل موحدية، في الرسالة التاسعة ص 32 - 35.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 60.
(3)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 115.
وكان بطلا هذه المؤامرة أخوا المهدي ابن تومرت، أبو موسى عيسى، وأبو محمد عبد العزيز، وكانا مذ ظفر عبد المؤمن بخلافة المهدي واجتناء تراثه، يرقبان الفرص لبث الاضطراب والشغب، ويظاهرهما كثير من أهل هرغة، قبيلة المهدي، وكان عبد المؤمن بالرغم من وقوفه على ما يضمره الأخوان له من البغض والكيد، وما جنحا إليه من الانحراف، ومخالطة أهل السوء، يغضي عن سلوكهما، ويجزل لهما الصلات والنفقة، براً بذكرى المهدي وقرابتهما الوثيقة له، ويكتفي بإسداء النصح إليهما. فلما سار المهدي إلى غزاته لافتتاح إفريقية، شعر الأخوان بأن الفرصة قد سنحت لتدبير الإنقلاب المنشود، وكانا يقيمان بفاس، ويلتف حولهما نفر من الناقمين. فسارا في صحبهما من فاس إلى مراكش، وهنالك استطاعا تحريك بعض الجموع، واضطرمت بالمدينة فتنة، قتل خلالها والى المدينة عمر بن تَفْراجين حين خروجه في الفجر إلى الجامع، وكاد يستطير شررها. وعلم عبد المؤمن بما حدث وهو في سلا (أواخر سنة 545 هـ)، فبعث الوزير ابن عطية على عجل ليستدرك الأمر، فوصل إلى مراكش بعد يومين، واستطاع في الحال أن يخمد الفتنة، وأن يقبض على زعيميها عيسى وعبد العزيز.
ويقول لنا البيذق إن الخليفة، أمر بقتل المخالفين من هرغة وأهل تينملّل، ولكنه أبقى على حياة أخوي المهدي وبعثهما إلى فاس حيث اعتقلا هناك تحت إشراف واليها الجيّاني (1). ولكن صاحب البيان المغرب يقول لنا إنهما قتلا وصلبا ضمن من قتلوا وصلبوا من الخوارج، فقتل عيسى قرب باب الدباغين، وقتل عبد العزيز بباب أغمات (2). ويؤيد هذه الرواية ما ورد في خطاب الخليفة الرسمي عن الحادث من الإشارة غير مرة إلى مصرع المخالفين، وفتك العامة بهم وصلبهم خارج المدينة (3).
وما كاد عبد المؤمن يصل إلى مراكش حتى قام بحركة تطهير شاملة، قُبض خلالها على كثير من الخوارج وأهل التخليط، حسبما تصفهم الرواية، من سائر القبائل، وألقوا إلى ظلام السجن. ثم أصدر الخليفة أمره بأن يتولى الموحدون المخلصون، من كل قبيلة، قتل المارقين من قبيلتهم بأنفسهم. فامتثل الموحدون
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 116.
(2)
البيان المغرب، القسم الثالث ص 38.
(3)
الرسالة الحادية عشرة من رسائل موحدية (ص 32 و 45 و 46).
لما أمروا به، وتولوا الإجهاز بأيديهم، كل جماعة على أبناء قبيلتها، وكان الخليفة أثناء هذه المذبحة الجديدة، يجلس في البرج القائم في أعلى قصره، قصر الحجر، ليشهد التنفيذ بنفسه. ويقول المؤرخ معلقاً على ذلك " فطرقت للموحدين في هذا الوقت وحشة من الخجل والوجل، ودهشة من قبيح ما ظهر من الغادرين المذكورين، من نكوث العهد، في السهل والجبل، فتراموا على خليفتهم راغبين في العفو وإزالة الكدر، وجلب ما تعودوه من الخلوص والظفر، فقبل منهم ما أملوا، وتعطف عليهم على عادته بما سألوا ". وبعث الخليفة بهذه المناسبة، إلى مختلف البلدان، رسالة من إنشاء الوزير ابن عطية، تفيض بلاغة وبياناً، يفصل فيها ما حدث، ويوضح موقفه ويلتمس الأعذار لتبريره (1).
وكان من الحوادث البارزة في هذه الحركة الدموية مصرع القائد يصلاسن، ابن المعز الهرغي. وكان يصلاسن أو يصليتن حسبما يسمى في رواية أخرى من زعماء قبيلة هرغة، ومن أهل الدار، أعني من أقرباء المهدي (2). وقد رأينا فيما تقدم كيف اختلف مع زميله القائد عبد الله بن وانودين صهر الخليفة، وتركه في قواته ليواجه وحده العرب، وكيف كان ذلك سبباً في هزيمته ومصرعه. وكان عبد المؤمن يتوق إلى معاقبة يصلاسن على سوء تصرفه. ومن جهة أخرى، فإنه يبدو أن يصلاسن كان ضالعاً مع خصوم عبد المؤمن، ومؤيداً لحركة أخوي المهدي. فلما عاد عبد المؤمن إلى مراكش، كان يصلاسن في سبتة، فأرسل الخليفة إلى واليها عبد الله بن سليمان بأن يدبر حيلة للقبض على يصلاسن وإرساله، فدعا عبد الله يصلاسن إلى نزهة بحرية في إحدى السفن، في مياه سبتة، فلما توسط البحر، انقض عليه وكبله بالحديد، ونبأ عبد المؤمن بما تم، فأمره بإعدام يصلاسن وصلبه بعد الإشهاد عليه بالذنب، فقام عبد الله بما أمر به (3). وفي رواية روض القرطاس، أن عبد الله أرسل يصلاسن مكبولا إلى مراكش، وأنه أعدم بها وصلب على بابها تنفيذاً لأمر الخليفة (4).
واضطرمت الثورة في نفس الوقت بأرض السوس، وارتدت قبيلة جزولة
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 28 و 29.
(2)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 29.
(3)
أخبار المهدي ابن تومرت ص 115 و 116.
(4)
روض القرطاس ص 126.
عن الطاعة، وبعثوا إلى يحيى بن أبى بكر الصحراوي، فوفد عليهم مع زعيم آخر من خصوم الموحدين يدعى الحاج بن مركونة، وارتدت كذلك قبيلة لمطة وتزعم ثورتها محمد بن آمرجال، ثم ارتدت قبيلة إيت ييغز، وساروا إلى تازاجورت واقتحموها، وقتلوا حاكمها الموحدي، وامازير بن حواء الهنتاني، فاهتم عبد المؤمن لهذه الحوادث، وسير الشيخ أبا حفص في حملة قوية لإخماد الثورة، فخرج إلى السوس، وقاتل بني ييغز، ففروا إلى حيث كان الصحراوي، ثم سار إلى سيروان، حيث هزم بني واوزجيت، وقسمهم إلى قسمين: قسم ضمه إلى أهل تينملل وقسم ضمه إلى هنتانة، ثم عاد إلى مراكش حيث أمر الخليفة بحشد قوات جديدة، وخرجت هذه القوات بقيادة أبى حفص، وأربعة آخرين من أكابر القادة الموحدين، هم وسنار، وعبد الله بن أبى بكر بن ونكي، وعبد الله بن فاطمة، وعمر بن ميمون، وسارت كل قوة منها إلى منطقة من المناطق الثائرة، وهوجمت قبائل لمطة، وهشتوكة، وتاسريرت وآهوكار وغيرها من القبائل الثائرة، وهزمت جميعاً، وأذعن بعضها إلى التوحيد، وأخذت غنائمها وسبيها إلى مراكش، وبلغ نصيب الخليفة من تلك الغنائم، ثمانمائة ناقة (1)، ووقعت هذه الحوادث، فيما يرجح في أوائل سنة 549 هـ (سنة 1154 م).
ولما تم إخضاع القبائل الثائرة والمرتدة على هذا النحو، غادر عبد المؤمن مراكش إلى تينملّل، وهناك زار قبر المهدي، وفرق في أهلها أموالا كثيرة وأمر ببناء مسجدها، وتوسيع خططها (2).
(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 117.
(2)
روض القرطاس ص 126.