المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثسقوط سرقسطة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الثالثسقوط سرقسطة

‌الفصل الثالِث

سقوط سرقسطة

سرقسطة وخواص موقعها. موقف أمرائها من الملوك النصارى. إستيلاء المرابطين عليها. أطماع قشتالة وأراجون نحوها. تربض ألفونسو ملك أراجون بها. ولاية الأمير أبى بكر بن ابراهيم لسرقسطة. حكمه اللامع ووفاته. ندب عبد الله بن مزدلي لولاية سرقسطة. أهبة أراجون وحلفائها من النصارى الصليبيين لافتتاحها. محاصرة النصارى لسرقسطة. اختلاف الروايات الإسلامية حول حوادث الحصار. رواية ابن عذارى عن القتال بين أهل سرقسطة والنصارى. عبد الله بن مزدلي ومدافعته للنصارى. صمود المدينة واستمرار الحصار. نضوب الموارد ووفاة ابن مزدلي. مقدم المرابطين بقيادة الأمير تميم. استغاثة أهل سرقسطة بالأمير وإحجامه. الرسالة التي وجهها قاضي سرقسطة إلى الأمير بالاستغاثة واللوم. ما تدلة به هذه الرسالة. بواعث إحجام المرابطين وعوم الاعتداد بها. اضطرار أهل سرقسطة إلى طلب الهدنة. الإتفاق على تسليم المدينة، وشروط هذا التسليم. تسليم سرقسطة، وتحويلها إلى مدينة نصرانية. هجرة أهلها المسلمين. الآثار المترتبة على سقوط سرقسطة. استيلاء ألفونسو المحارب على طرسونة وقلعة أيوب. اهتمام علي بن يوسف بهذه الحوادث. سير الجيوش المرابطية لمقاتلة الأراجونيين. موقعة كتندة وهزيمة المسلمين. سقوط قلعة دروقة.

- 1 -

مضت ثلاثة وثلاثون عاماً، مذ سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وجاشت الأندلس بهزتها العنيفة، التي تمخضت عن مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة نصرة لإخوانهم في الدين، وإحرازهم لنصرهم الباهر في الزلاّقة (479 هـ)، ثم استقرارهم بعد ذلك سادة في الأندلس. ثم شاء القدر، بعد أن لمعت الجيوش المرابطية في غير موقعة وغزوة في أراضي اسبانيا النصرانية، أن تفجع الأمة الأندلسية مرة أخرى، بفقد قاعدة جديدة من قواعدها العظيمة، هي سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى.

كانت سرقسطة - وقد اشتق اسمها العربي من اسمها الروماني Caesar Augusta - تمثل منذ عهد الإمارة، زعامة الأسر العربية، والرياسة المحلية، في الثغر الأعلى، واستمرت هذه الزعامة قائمة خلال القرن الخامس الهجري، أولا في بني هاشم التجيببيين، ثم في خلفائهم بني هود، حتى وضع مقدم المرابطين حداً

ص: 86

لحياة دول الطوائف، وكانت سرقسطة حسبما تقدم من قبل، آخر القواعد التي سقطت في أيديهم، وذلك في أواخر سنة 503 هـ (1110 م).

وقد أشرنا من قبل إلى ما يمتاز به موقع سرقسطة الخاص من الناحيتين الإستراتيحية والقومية. فأما من الناحية الإستراتيجية، فقد كان بُعد سرقسطة عن موسّطة الأندلس، ومركز الحكومة الرئيسية، وموقعها الحصين على الضفة اليسرى لنهر إيبرو (إبرة)، ومناعة أسوارها العالية، تعاون المنتزين بها على تحدي الحكومة المركزية، وتوطيد استقلالهم المحلي، وكانت من جهة أخرى تجعلها حاجزاً طبيعياً بين أراضي المسلمين، وأراضي النصارى. وأما من الناحية القومية، فإن وقوع مملكة سرقسطة المسلمة بين المالك النصرانية - بين إمارة برشلونة من الشرق ومملكتي أراجون ونافار (نبرّة) من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب - كان يحتم عليها أن تتبع نحو جيرانها النصارى، سياسة خاصة، يغلب عليها طابع السلم والتهادن، والملق والخضوع أحياناً في صورة أداء للجزية، وذلك ْحتى تأمن شر أولئك الجيران الطامعين الأقوياء، وكان ملوك سرقسطة فوق ذلك يستخدمون في جيوشهم كثيراً من النصارى المرتزقة، ومن هؤلاء أحياناً قادة مبرزون مثل السيِّد الكمبيادور، وأحياناً كانوا يعتمدون على التحالف مع الملوك النصارى. وهكذا كانت مملكة سرقسطة تُحمل بموقعها وظروفها الخاصة، على اتباع سياسة، تجعلها في شبه عزلة عن باقي الإمارات المسلمة.

وقد كان هذا شأنها، حينما قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة الإسبانية، وحينما بدأت جيوشهم تستولي تباعاً على قواعد الأندلس الوسطى، ثم الشرقية.

ودخل المرابطون مدينة سرقسطة حسبما قدمنا، في أواخر سنة 503 هـ، (1110 م)، استجابة لصريخ أهلها، وكانت آخر القواعد الأندلسية التي استولوا عليها.

وشعر المرابطون منذ الساعة الأولى بهذا المركز الدقيق، الذي تحتله سرقسطة في قلب هذا المعترك من الإمارات النصرانية المتوثبة، وشعروا بفداحة مهمتهم في حمايتها والاحتفاظ بها. وكانت مملكة أراجون القوية جارة مملكة سرقسطة من الشمال قد استطاعت أن تنتزع منها بعض قواعدها الشمالية الهامة مثل مونتشون، والمنارة، ووشقة، وبربشتر، ولم يبق لسرقسطة من قواعدها، سوى تطيلة ولاردة وإفراغة، وثغرها على البحر المتوسط طرطوشة.

ص: 87

وكانت مدينة سرقسطة هدفاً لأطماع قشتالة وأراجون معاً. ففي صيف سنة 1085 م (478 هـ) حاصرها ألفونسو السادس ملك قشتالة على أثر استيلائه على طليطلة، محاولا الاستيلاء عليها، ولم يرفع الحصار عنها إلا حينما وافته الأنباء بمقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة. فغادرها على عجل ليجمع سائر قواته، وليقي هزيمته في الزلاّقة في شهر رجب 479 هـ (أكتوبر 1086 م). ولما رأى المستعين ابن هود ملك سرقسطة يومئذ، اشتداد ضغظ النصارى على مملكته، ورأى جهة أخرى انسياب الجيوش المرابطية إلى شرقي الأندلس، واقترابها من الثغر الأعلى، اعتزم أن يتقرب من المرابطين، وأن ينضوي تحت لوائهم، فبعث إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سفارتين متواليتين، وكان يوسف يرى أن تترك سرقسطة، حاجزاً بين المرابطين والنصارى، وبهذا أوصى ولده علياً قبيل وفاته، ولكن الحوادث تطورت فيما بعد، وانتهت باستيلاء المرابطين على سرقسطة وباقي قواعد الثغر الأعلى.

- 2 -

لما استقر المرابطون في سرقسطة تحت إمرة قائدهم محمد بن الحاج أول ولاتها من اللمتونيين، كانت حوادث الثغر الأعلى، تنذر باقتراب الخطر الداهم، وكان النصارى قد أنشأوا منذ سنة 1091 م (484 هـ) على ضفة نهر إيبرو اليسرى شمالي سرقسطة حصناً قوياً، يقع على قيد أربعة فراسخ فقط منها، واتخذوه قاعدة للضغط عليها، وإرهاقها من آن لآخر، وكان ألفونسو الأول ملك أراجون الملقب بالمحارب El Batallator ، والمسمى " ابن رذمير " في الرواية العربية، يترقب الفرص لمهاجمة سرقسطة، وسبر غور المدافعين عنها، وكانت قواته قد وصلت شرقاً حتى ظاهر لاردة، وأحتلت قلعة تاماريت القريبة منها وذلك في سنة 1107 م.

ولما احتل المرابطون سرقسطة، سار إليها ألفونسو في العام التالي (504 هـ - 1111 م) وحاول مهاجمتها، فردته عنها القوات المرابطية بقيادة ابن الحاج ومحمد ابن عائشة والي مرسية. ثم شغل ألفونسو بعد ذلك حيناً بالحرب التي نشبت بينه وبين زوجته أورّاكا ملكة قشتالة، وانتهز المرابطون، من جهة أخرى، تلك الفرصة، فقاموا ببعض الغزوات المخربة في أراضي إمارة برشلونة، وحاصروا الثغر العظيم ذاته حسبما فصلنا ذلك من قبل. ولما قتل ابن الحاج حين عودته من

ص: 88

تلك الغزوة (508 - 1114 م)، خلفه في ولاية سرقسطة الأمير أبو بكر بن ْابراهيم بن تافلوت المسّوفي والي مرسية، وهو ابن عم أمير المسلمين علي بن يوسف وصهره - زوج أخته - فلبث في ولايتها زهاء عامين. وقد كان هذا الأمير من خيرة أمراء الدولة المرابطية، كرماً وجوداً وشجاعة، وظهوراً في ميدان الفضائل، وقد أقام خلال عهده القصير بسرقسطة بلاطاً فخماً كبلاط الملوك، واستوزر الفيلسوف الشهير أبا بكر بن الصائغ المعروف بابن باجّة، وخاض حياة باذخة فخمة، ومن حوله الأدباء والندماء، وانهمك في اللذات والشراب، وذلك كله بالرغم مما كانت تجوزه سرقسطة يومئذ من ظروف حرجة واحتمالات خطرة.

بيد أنه يبدو من إشارة لابن عذارى، أنه سار في سنة 510 هـ، إلى حصن روطة وغزاه، وأنه غزا كذلك برجة وبها عماد الدولة بن هود؛ ويبدو من إشارة أخرى لابن الخطيب، أنه قد خاض خلال تلك الفترة مع النصارى، بعض معارك دفاعية، كان لهم فيها التفوق على القوات المرابطية. ويبدو من جهة أخرى أن ألفونسو ملك أراجون، هو الذي كان يضطلع بهذه الغزوات المرهقة (1). ثم توفي الأمير أبو بكر سنة 510 هـ أو في سنة 511 هـ، على قول آخر (2). ولما اتصل نبأ وفاته بالأمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف، أخى أمير المسلمين علي بن يوسف، وهو يومئذ والى مرسية، بادر بالسير إلى سرقسطة فنظر في شئونها، وضبط أحوالها، ولما اطمأن إلى توطيد أمورها عاد إلى مرسية مقر ولايته (3).

وإنه لما يلفت النظر أنه لم يعين في تلك الآونة العصيبة، التي لاح فيها الخطر داهماً على سرقسطة، والٍ جديد يخلف على الفور واليها المتوفى، خصوصاً وقد كان أمير المسلمين علي بن يوسف موجوداً في تلك الفترة بالذات (511 هـ - 1117 م) في شبه الجزيرة، عقب جوازه الثالث إليها. وأعجب من ذلك هو أن علي بن يوسف، بدلا من أن يتجه بجيوشه الجرارة العابرة معه، إلى مواطن الخطر في الثغر الأعلى، يؤثر أن يضطلع بغزوات عقيمة في أراضي البرتغال، يستولي

(1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة، هسبيرس ص 78)، والإحاطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 416، حيث يقول في ترجمة الأمير أبى بكر " توفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة، بعد أن ضاق ذرعاً بطاغية الروم، الذي أناخ عليه بكلكله ".

(2)

يقول بالرواية الأولى ابن الخطيب (الهامش السابق). ويقول بالثانية ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة التي عثر بها المؤلف في مكتبة جامع القرويين بفاس).

(3)

البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر).

ص: 89

خلالها على مدينة قُلُمرية، ثم يتركها عقب افتتاحها. وعلى أي حال، فإنه بعد أن لبثت سرقسطة حيناً دون والٍ، نُدب عبد الله بن مزدلي والى غرناطة ليكون والياً لبلنسية وسرقسطة، وذلك فيما يبدو في أواخر سنة 511 هـ (أواخر 1117 م)(1).

وهنا يحيق الغموض بحركات النصارى وحركات والي سرقسطة الجديد.

ذلك أنه من المسلم به، ومن المتفق عليه في الروايتين العربية والإفرنجية، أن حصار النصارى لسرقسطة بدأ في شهر صفر سنة 512 هـ، الموافق لشهر مايو سنة 1118 م.

ونقول هنا حصار النصارى بصفة عامة، لأن الجيش المحاصر لم يكن مكوناً فقط من الأرجونيين، أعداء سرقسطة الأصليين، بل كان يضم طوائف عديدة أخرى من الفرنج. والواقع أننا نجد أنفسنا في هذا الموطن أمام حملة صليبية حقيقية. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه ملك أراجون ألفونسو المحارب، يوالي الضغط على سرقسطة، ويجد في انتزاع حصونها الأمامية حتى أنه استولى على تطيلة في سنة 1117 م، ووصل في أوائل سنة 1118 م إلى موريلا القريبة منها، كان صدى دعواته وحركاته ضد المسلمين يعمل عمله في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وكانت الحرب الصليبية الأولى، قد انتهت قبل ذلك بعشرين عاماً في الشرق باستيلاء الصليبيين على بيت المقدس (1099 م) وازدادت الروح الصليبية اضطراماً، في فرنسا وفي اسبانيا. ففي سنة 1117 م، عبرت حملة قوية من الفرنج أهل بيارن بقيادة جاستون دي بيارن وأخيه سانتولو - وكانا قد اشتركا بالمشرق في الحرب الصليبية الأولى -، إلى اسبانيا، لتشترك مع الأرجونيين في افتتاح سرقسطة.

وفي العام التالي (1118 م) عقد بمدينة تولوز (تولوشة) مؤتمر من أساقفة آرل، وأوش، ولاسكار، وبنبلونة، وببشتر، وتقرر فيه أن ترسل حملة صليبية أخرى إلى اسبانيا يقودها الكونت دي تولوز، وحشدت فوق ذلك قوات كبيرة من البشكنس، ومن قطلونية، ومن أورقلة تحت إمرة سادة هذه المناطق، وكان بين المقاتلين كثير من الأساقفة ورجال الدين (2). وتنوه الرواية الإسلامية بضخامة هذه الحملات الفرنجية التي اشتركت في حصار سرقسطة وافتتاحها، وتصفها إحدى الروايات بأنها كانت أمماً كالنمل والجراد، أو أنها أقبلت في عدد لا يحصى أكثره من

(1) روض القرطاس ص 105.

(2)

يراجع في ذلك مقال عن افتتاح سرقسطة بقلم الأستاذ Mar'a Lacarra J. نشر بمجلة الأندلس Al-Andalus (1947) Fas. I. p. 78-80

ص: 90

خريطة:

الثغر الأعلى وما يليه مواقع حروب المرابطين والنصارى حتى موقعة إفراغة سنة 528 هـ.

ص: 91

من الجند والرماة (1)، وفي روية أخرى أن الفرنج بلغوا خمسين ألف فارس (2).

- 2 -

وهكذا اجتمعت الجيوش النصرانية المتحدة من الأرجونيين والفرنج، وسارت لافتتاح سرقسطة، وفي بعض الروايات أن الذي بدأ بالحصار هو الجيش الفرنجي الذي يقوده جاستون دي بيارن، وأن ألفونسو المحارب قدم بعد ذلك في قواته من قشتالة (3). وبدأ حصار سرقسطة وفقاً للرواية الإسلامية في مستهل شهر صفر سنة 512 هـ (4)، ويوافق ذلك يوم 22 مايو سنة 1118، وهو التاريخ الذي تضعه الرواية الفرنجية. وهنا يبدأ الغموض في تعقب حوادث الحصار، ونجد أنفسنا أمام طائفة من الروايات المتناقضة، فهناك أولا القول بأن سرقسطة انتهت بعد حصار دام أشهراً، أو دام بالتحديد تسعة أشهر، بالتسليم صلحاً.

وهذه رواية ابن الكردبوس في " الإكتفا " وابن عبد المنعم الحميري في الروض المعطار (5). بيد أن هذه رواية ضعيفة أو بعبارة أخرى رواية ناقصة. وأما الروايات الأخرى وهي عديدة، عربية وإفرنجية، فإنها تتفق في أنه وقعت خلال الحصار معارك عديدة بين المسلمين والنصارى، وأن سرقسطة لم تسلم صلحاً، وإنما أرغمت على التسليم إرغاماً، بعد أن برّحت بأهلها أهوال الحصار، وبعد أن هزم أهلها في غير معركة، وهزم المرابطون الذين تصدوا للدفاع عنها.

وتقدم إلينا الرواية الإسلامية تفاصيل مختلفة عن حوادث الحصار، والمعارك التي سبقته أو اقترنت به، فيقول لنا صاحب روض القرطاس، إن عبد الله بن مزدلي لما ولي سرقسطة في سنة 511 هـ، سار إليها من غرناطة، فوجد ابن رذمير قد أذاق أهلها شراً، فاشتبك معه عبد الله في عدة معارك شديدة حتى هزمه، وأخرجه من البلدة، ولبث عبد الله بعد ذلك عاماً آخر في سرقسطة ثم توفي، فبقيت دون أمير " فأتاها ابن رذمير فنزلها، وأتى ألفنش أيضاً في أمم لا تحصى من قبائل الروم، فنزل لاردة من بلاد الجوف، فاتصل الخبر بأمير المسلمين علي

(1) روض القرطاس ص 106، والبيان المغرب (من الأوراق المخطوطة السالفة الذكر).

(2)

الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 98.

(3)

مقال الأستاذ لاكارا السالف الذكر ص 80.

(4)

ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر).

(5)

ابن الكردبوس (مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة 164 ب) والروض المعطار ص 97 و 98.

ص: 92

ابن يوسف، فكتب إلى أمراء الأندلس بالمسير إلى أخيه تميم، وكان والياً على شرق الأندلس، ليسيروا معه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة، فقدِم على تميم، عبد الله بن مزدلي، وأبو يحيى بن تاشفين صاحب قرطبة، بعساكرهما، فخرج تميم بن يوسف من بلنسية مع أمراء لمتونة، فقصد نحو لاردة، وكان بينه وبين ألفنش قتال عظيم، أقلعه عن لاردة خاسئاً خاسراً بعد أن بذل جهده في قتالها، وفقد عليها من جيوشه ما يزيد على العشرة آلاف رجل، ورجع تميم إلى بلنسية " (1).

وربما كانت رواية ابن عذارى أكثر وضوحاً واتساقاً. فهو يقول لنا إنه في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ولّى أمير المسلمين علي بن يوسف أخاه الأمير أبا الطاهر تميماً إمرة بلاد شرقي الأندلس لما ضيق العدو عليها، وأعمل عزمه وحزمه إليها، وذلك أنه لما رأى " أذفونش " ضعف سرقسطة، وتفرق الجيش عنها، بعد موت الأمير أبى بكر بن إبراهيم، جد في الحشد إليها واستجاش للإفرنجة، فأقبلت في عدد لا تحصى، أكثرهم جند ورماة، فاحتل سرقسطة مستهل صفر من هذه السنة (512 هـ) فخرج المسلمون إليهم، ونشبت الحرب بينهم، فحمل الروم عليهم، فانهزم الناس، وهم في أثرهم إلى ربض الدباغين، إلى القنطرة، فازدحموا بها، وقد حصل الروم معهم فيها. فبادر المسلمون بإلقاء النار عليها، فاحترقت القنطرة إلى أقصاها، ولولا المناجزة بين الربض والمدينة لكانت الحالقة، وبات الناس على الأسلحة، وخمسوا أبواب المدينة، واتصل الحصار وتواترت الحرب، وكان أذفونش قد تخلف عن .. فلحق بعد نصف شهر، فتعاضد العدو، وقد أمد، وزاد كلبه واشتد، ولنحو الشهر تغلبوا على قصر

بالجعفرية، وهو قبيل ميل من سرقسطة، وكان عبد الله بن مزدلي أوان نزول الروم على سرقسطة بالعسكر، على جيان لحماية ذلك الثغر عن عدو طليطلة ".

ويزيد ابن عذارى على ذلك، أنه لما توالى تضييق العدو على سرقسطة وحصارها وهزيمة أهلها، وتحريق قنطرتها، ونزول العدو على قصرها المعروف بالجعفرية، اتصل الخبر بعبد الله بن مزدلي، فسار الجيش إليها ولحق به مدد من جيش قرطبة، فقويت نفوس أهل سرقسطة، ولحق الجيش بطرسونة،

(1) روض القرطاس ص 105 و 106، ويلاحظ ما في هذه الرواية من تناقض أولا في القول بموت عبد الله بن مزدلي ثم مثوله ثانية للقتال مع الأمير تميم، وثانياً في التفرقة بين ابن رذمير وألفنش وابن رذمير هو ألفونسو المحارب، وهما شخص واحد.

ص: 93

وقد شد العدو غارته عليها، فجد في اتباعه وأدركه غير بعيد، فهزم الله العدو، وأظهر على يد عبد الله بن مزدلي عجائب في هذه الغزوة لم يعهد مثلها، منذ مدة بعيدة قبلها. ثم احتل بتطيلة، وتلوم بها، وأقلع الفرنج عن سرقسطة، فرأى الأمير عبد الله بعد تلومه أن ينهض إليها، فترك الحمولة ومدد قرطبة، وانتخب أنجاد العسكر، وصمم إلى سرقسطة، فدخلها في أوائل جمادى الآخرة، وقد استنشق أهلها ريح الحرب. وفي خلال ذلك اعتل الأمير عبد الله المذكور، فتوفي في رجب، فكتم وفاته أياماً، ثم انبث الخبر وعلم به رذمير، ففغر على البلد فمه، وألقى عليه زوره. وقد نفدت الأقوات، وبلغ الميقات، فدخله بالمعاهدة والأمنة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان المعظم من السنة المؤرخة (أعني 512 هـ) " (1).

وعلى أي حال، فإنه بالرغم مما يوجد بين الروايتين من اختلاف في الوقائع والتفاصيل، يمكننا أن نستخلص منهما حقيقتين هامتين: الأولى أنه وقعت قبل حصار سرقسطة، أو خلال الحصار، معارك شديدة بين المسلمين والنصارى، والثانية هو أن عبد الله بن مزدلي، آخر ولاة سرقسطة المسلمين، قد اشترك بقواته في هذه المعارك وأبلى فيها. وثمة مسألة أخرى، ينفرد بها صاحب روض القرطاس، وهي أن القوات المرابطية المشتركة، سارت لاستنقاذ سرقسطة بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم، واشتبكت عند لاردة في موقعة شديدة مع ألفونسو المحارب، وأنزلت به هزيمة ساحقة، وأن تميماً عاد على أثر ذلك إلى مقر ولايته بلنسية، وهذه مسألة سوف نعود إلى مناقشتها.

- 3 -

بدأ حصار سرقسطة حسبما قدمنا، في مستهل شهر صفر سنة 512 هـ (22 مايو سنة 1118 م)، وطوقتها قوات كثيفة من الفرنج والأرجونيين، والبشكنس والقطلان وغيرهم. وكانت سرقسطة، فضلا عن حصانتها الطبيعية بموقعها جنوبي نهر إيبرو على ضفته اليسرى، تعتمد في الدفاع على أسوارها العالية القوية، وهي ترجع إلى أصل روماني، وعلى قلعتها المنيعة، وكان قصرها الشهير المسمى بالجعفرية، نسبة إلى مؤسسه أبى جعفر المقتدر بن هود، يقع خارج الأسوار، غربي سرقسطة على قيد نحو ميل منها، وعلى مقربة من النهر، ومن ثم فقد احتله

(1) البيان المغرب من الأوراق المخطوطة التي عثر بها المؤلف في مكتبة جامع القرويين بفاس.

ص: 94

النصارى لأول مقدمهم. وجاء المحاصرون معهم بأبراج خشبية عالية تجري على بكرات لكي يستطيع المهاجمون بها محاذاة الأسوار العالية، لينصبوا فوقها الرعدات، وجاءوا كذلك بعشرين منجنيقاً ضخمة لدك الأسوار (1)، وكان الذي يشرف على آلات الحصار واستعمالها، طائفة من أهل بيارن ممن اشتركوا في حصار بيت المقدس. وتمرسوا في استعمال هذه الآلات.

واستمر حصار سرقسطة سبعة أشهر. والظاهر أنه استطال أكثر مما قدر ألفونسو المحارب وحلفاؤه. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه أهل سرقسطة، يعانون ويلات الحصار داخل الأسوار، كان المعسكر النصراني منذ مقدم الخريف، يعاني من نقص المؤن، ويهدده الجوع بشبحه المروع، حتى لقد فكر قادة الجيش النصراني في رفع الحصار، لولا أن شجعهم أسقف وشقة وزملاؤه، ووضعوا تحت تصرفهم ذخائر عدة من الكنائس يجلبون بثمنها الأقوات (2). أما في داخل سرقسطة، فقد كانت الأقوات تنضب يوماً بعد يوم، خصوصاً وأن أهل المدينة المحصورة لم يتمكنوا من جني محاصيلهم لتبكير النصارى في فرض الحصار، وكان من العسير عليهم أن يتلقوا أية مؤن من الخارج، لإحكام الحصار حول المدينة، من ناحية النهر وناحية البر. ومضت الأشهر تباعاً والحال تشتد شيئاً فشيئاً، حتى " فنيت الأقوات، وفنى أكثر الناس جوعاً "(3). ووقع خلال ذلك حادث زاد في وجوم أهل المدينة، وارتباك تدابير الدفاع، هو وفاة واليها عبد الله بن مزدلي، في أوائل جمادى الآخرة (سبتمبر 1118 م). والظاهر أنه لم يخلفه في الرياسة أحد من أهل المدينة، فترك الأمر فوضى وأخذت الخاتمة المروعة تدنو شيئاً فشيئاً.

وهنا وقبل أن نتحدث عن خاتمة سرقسطة الإسلامية، يحق لنا أن نتساءل أولا، ما الذي حدث خلال الحصار من الحوادث والوقائع؟ وهل نشبت بين المسلمين والنصارى عندئذ بعض المعارك؟ ثم ماذا كان موقف المرابطين، وهل حاولوا إنقاذ المدينة المحصورة؟ وفي أي الظروف؟

فأما ما وقع خلال هذه المرحلة الأخيرة من الحصار من الحوادث والوقائع، فإن معظم الروايات الإسلامية تلتزم الصمت إزاء ذلك. بيد أنها في موطن واحد

(1) روض القرطاس ص 106.

(2)

الأستاذ Lacarra في مقاله السالف الذكر بمجلة الأندلس والمراجع.

(3)

روض القرطاس ص 106.

ص: 95

تذكر لنا ما يؤيد هذه الحقيقة الهامة، وهي أن جيشاً مرابطياً بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم - وقد كان عندئذ حسبما تقدم والياً لشرقي الأندلس - وصل في أواخر أيام الحصار (نحو منتصف شهر شعبان الموافق شهر ديسمبر) إلى مقربة من سرقسطة، وذلك فيما يرجح بقصد محاولة إنقاذها، فخرج إلى الأمير تميم زعيمان من زعماء المدينة، هما الفقيه علي بن مسعود بن إسحق بن إبراهيم بن عصام الخولاني وهو من أكابر علماء سرقسطة وحفاظها وأدبائها، وكان متولياً قضاء ميورقة، والخطيب أبو زيد بن منتيال، وحدثاه باسم أهلها بمحضر أبى الغمر الشايب بن غرون، عن أهبات النصارى، ووجوب مناجزة العدو، ولكن الأمير تميماً " جبن عن ذلك " وكان انتقاله بالجيوش عن سرقسطة، حسبما يقول ابن الأبار صاحب هذه الرواية، سبباً في نجاح النصارى في الاستيلاء على المدينة (1).

بيد أن إحدى الروايات النصرانية، تقول لنا بالعكس إنه قد وقعت في يوم 6 ديسمبر سنة 1118 معركة عنيفة بين قوات ألفونسو المحارب، وجيش قوي من المرابطين انتهت بظفر النصارى، ولم تمض على ذلك أيام قلائل حتى سلمت المدينة، وذلك بعد أن انتهت المهلة الممنوحة للمحصورين (2).

على أنه توجد وثيقة مخطوطة هامة تؤيد ما جاء في الرواية الأولى وتؤكده، وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة مؤثرة، بل مبكية، كتبها قاضي سرقسطة ثابت ابن عبد الله، وجماعة من أهلها إلى الأمير تميم يتضرعون إليه، في عبارات مؤثرة، ولكن أبيه حازمة باسم الدين والوطن، أن يتقدم لإنجاد سرقسطة وإنقاذ أهلها، وألاّ ينكص على عقبيه أمام النصارى، وقد استهلت هذه الرسالة بالتاريخ الذي كتبت فيه، وهو يوم الثلاثاء السابع عشر من شعبان (512 هـ)، أعني لستة أشهر ونصف من بدء الحصار، وقبل تسليم المدينة بثمانية عشر يوماً فقط، وفيها يصف الكاتب ما عاناه أهل سرقسطة من أهوال الحصار والجوع، ثم يشير إلى مقدم الأمير، تميم بعساكره، ويلومه على إحجامه عن لقاء النصارى في قوله:

(1) وردت هذه الرواية خلال ترجمة ابن الأبار للفقيه علي بن مسعود الخولاني، وقد نشرت مع تراجم أخرى ملحقاً لتراجم " التكملة " وذلك في كتاب المستشرقين الإسبانيين G.Palencia و M. Alarcon، تحت عنوان Miscalanea de Estudios y Textos Arabes (Madrid 1916) p. 205 وعثرنا على نفس هذه الترجمة أيضاً في كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (المخطوط المصور المحفوظ بالخزانة العامة بالرباط) الجزء الأول.

(2)

أوردها الأستاذ Lacarra في مقاله السالف الذكر.

ص: 96

" وما كان إلا أن وصلت وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الحضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت، وما أدنيت، خايباً عن اللقاء، ناكصاً على عقبيك عن الأعداء، فما أوليتنا غَنَاء، بل زدتنا بلاء وعلى الداء داء، بل أدواء، وتناهت بنا الحال جهداً والتواءً، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين. فيالله وياللإسلام، لقد اهتضم حرمه وحماه أشد الاهتضام، إذ أحجمت أنصاره عن إعزازه أقبح الإحجام، ونكصت عن لقاء عدوه وهو في فئة قليلة، ولمة رذيلة، وطايفة قليلة ".

ثم يشير الكاتب بعد ذلك إلى أهمية سرقسطة الدفاعية وعواقب سقوطها الوخيمة على مركز المرابطين في شبه الجزيرة في قوله:

" فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار. والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطين، وإخواننا في ذات الله المؤمنين، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع منه المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقاً، وتجدون في ساير بلاد الأندلس عصمها الله، مسلكاً من النجاة أو طريقاً - كلا والله ليسومنّكم الكفار عنها جلاء وفراراً، وليخرجنّكم منها داراً فداراً، فسرقسطة حرسها الله هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله، استبيحت له أقطار وبلاد، فالآن أيها الأمير الأجل، هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار، فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية، فلتقدح عن زنادها، بانتضاء حدها، وامتضاء جدها، واجتهادها، وملاقاة أعداء الله وجهادها، فإن حزب الله هم الغالبون ".

ويتوجه الكاتب في ختام رسالته، بالضراعة إلى الأمير أن يقبل على سرقسطة، وألا يتأخر قبل وقوع الكارثة فيقول:

" ولن يسعك عند الله، ولا عند مؤمن، عذر في التأخر والارعواء من مناجزة الكفار والأعداء. وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد، وعند ساير العباد، في إسلامكم إيانا إلى أهل الكفر والإلحاد، ونحن مؤمنون، بل موقنون إجابتك إلى نصرتنا، وإعدادك إلى الدفاع عن

ص: 97

حضرتنا، وأنك لا تتأخر عن تلبية نداينا، ودعاينا إلى استنقاذنا من أيدي أعداينا. . فأقبل بعسكرك على مقربة من سرقسطة، عصمها الله، ليخرج الجميع عنها، ويبرأ إلى العدو وقمه الله منها، ولا تتأخر كيفما كان طرفة عين، فالأمر أضيق، والحال أزهق، فعدِّ بنا عن المطل والتسويف، قبل وقوع المكروه والمخوف، وإلا فأنتم المطالبون عند الله بدماينا وأموالنا، والمسئولون عن صبيتنا وأطفالنا، لإحجامكم عن أعداينا، وتثبطكم عن إجابة نداينا، وهذه حال نعيذك أيها الأمير الأجل عنها، فإنها تحملك من العار ما لم تحمله أحداً، وتورثك وجميع المرابطين الخزى أبدا. . ومهمى تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثار لنا منكم، ورب الانتقام، وقد بريتم بإسلامنا للأعداء، من نصر الإسلام، وعند الله لنا لطف خفي، ومن رحمته ينزل الصنع الخفي، ويغنينا الله عنكم، وهو الحميد المغني " (1).

كتبت هذه الرسالة المؤثرة قبيل سقوط سرقسطة بفترة يسيرة، وإنه لتبدو من تلك الفقرات التي نقلناها منها، حقيقة لا شك فيها، وهي أن جيشاً مرابطياً بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم، قدم إلى سرقسطة قبيل سقوطها لاستنقاذها من أيدي النصارى، وعسكر على مقربة منها، وتقول إحدى الروايات النصرانية، إن هذا الجيش قد وصل إلى حصن سانتا ماريا الواقع على بعد ثمانية عشر كيلومتراً من سرقسطة (2) ولكن ما الذي فعل هذا الجيش بالضبط؟ وهل بذل أية محاولة جدية لاستنقاذ سرقسطة والدخول مع النصارى في معركة حاسمة؟ إنه مع استثناء الرواية النصرانية التي أشرنا إليها من قبل، والتي تقول بأن معركة عنيفة وقعت بين

(1) نشرنا هذه الرسالة بأكملها في باب الوثائق. وقد نقلناها عن مخطوط الإسكوريال رقم 488 الغزيري، لوحة 59 أإلى 61 ب. هذا وقد نشر هذه الرسالة وانتفع بها من قبل صديقي الدكتور حسين مؤنس في بحث عنوانه " الثغر الأعلى الأندلسي في عصر المرابطين "(مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة - المجلد الحادي عشر الجزء الثاني ديسمبر سنة 1949). بيد أنه ذهب في التمهيد إليها (ص 133) إلى نتيجة نحسب أنها لا يمكن أن تدلي بها، فذكر أنها بالمقارنة بالوثيقتين الأخريين المنشورتين بعدها، قد كتبت في سنة 523 هـ أعني بعد سقوط سرقسطة بإحدى عشر عاماً. هذا في حين أن نص الرسالة وفقراتها المتوالبة تدلي قطعاً بأنها كتبت وقت حصار سرقسطة وقبيل سقوطها بقليل، في شهر شعبان سنة 512 هـ، ومن الواضح أنها دعوة يائسة موجهة إلى قائد المرابطين يومئذ الأمير أبى الطاهر تميم، بأن يتقدم بجنده، وقد كان على مقربة من سرقسطة، لإنجاد المدينة المحصورة وإنقاذها قبل فوات الوقت. وأقطع دليل على صحة هذا الرأي فضلا عن نص الرسالة ذاته، هو أن الأمير أبا الطاهر تميم قد توفي بقرطبة في سنة 520 هـ (روض القرطاس ص 106).

(2)

مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر، نقلا عن المؤرخ Zurita

ص: 98

المرابطين والنصارى، هزم فيها المرابطون، ثم سلمت المدينة على أثر ذلك، يبدو مما جاء في هذه الرسالة، أن الجيش المرابطي التزم الجمود والإحجام، ولم يبذل أية محاولة لإنقاذ المدينة، ثم ارتد بعد ذلك على أعقابه، وهذا ما يؤيده رواية ابن الأبار التي سبقت الإشارة إليها. ثم يؤيده أيضاً مع اختلاف في تصوير الوقائع، ما ورد في روض القرطاس، من أنه بعد سقوط سرقسطة، وصل من العدوة جيش من عشرة آلاف فارس، بعثه أمير المسلمين على لاستنقاذها، فوجدها قد فرغ منها وملكها العدو، ونفذ حكم الله فيها (1).

- 4 -

وإنه ليحق لنا أن نتساءل بعد ذلك عن البواعث التي حملت قائد الجيش المرابطي الأمير أبا الطاهر تميم، على اتخاذ هذا الموقف السلبي، في مثل هذه الآونة العصيبة من حياة المدينة المسلمة العظيمة، وحملت الجيش المرابطي على الإحجام عن لقاء العدو في محاولة يائسة لإنقاذها. فأما من الناحية العسكرية، فإنه يمكن أن يقال إن ذلك قد يرجع إلى تفوق النصارى في الكثرة على الجيش المرابطي، تفوقاً خشي معه الأمير تميم أن يدخل في معركة غير مأمونة العواقب. وتميمٌ لم يكن من أكابر القادة المرابطين، وإنما كان يقود الجيش بصفته الأميرية، ولم يكن انتصاره، في موقعة أقليش راجعاً إلى مقدرته وصفاته الخاصة، وإنما كان راجعاً بالأخص إلى شجاعة قائديه المجربين محمد بن عائشة، ومحمد بن فاطمة، ولولاهما لما اشتبك في المعركة ولآثر الارتداد. وكان الجيش المرابطي قد فقد إلى ذلك الحين معظم قادته العظام، أمثال سير بن أبي بكر، ومزدلي، وعبد الله بن فاطمة، ومحمد بن الحاج، ويمكن أن يقال أيضاً إن موقع سرقسطة بعيداً عن مراكز تموين الجيش المرابطي وإمداده في بلنسية ومرسية وقرطبة، لم يكن مما يشجع على القيام بأية محاولة عسكرية خطيرة.

على أن هذه الأعذار العسكرية وأمثالها، لم تكن تكفي لتبرير موقف الجيش المرابطي، وإحجامه عن القيام بعمل إنقاذ مشرف، واتقائه بذلك صدع هيبته في أنحاء شبه الجزيرة، ولوم التاريخ والأجيال. وإنما قد ترجع البواعث الحقيقة لتقاعس المرابطين عن المغامرة بإنقاذ سرقسطة، إلى أنهم كانوا يشعرون بأن الاحتفاظ بهذه المنطقة النائية من شبه الجزيرة - منطقة الثغر الأعلى - كان يلقي

(1) روض القرطاس ص 106.

ص: 99

عليهم مسئوليات عظيمة، لوقوعها بين أعداء أقوياء يتربصون بها باستمرار، وأن سرقسطة لم تكن بظروفها وروح شعبها كثيرة الولاء لحكمهم، ومن ثم فإن المرابطين لم يعنوا فيما يبدو، بأن يتجشموا في سبيل إنقاذها تضحيات عسكرية عظيمة.

وهكذا تركت سرقسطة لمصيرها، واضطرت بعد أن عانت من أهوال الحصار، وعصف الجوع والحرمان والمرض، أشنع الخطوب والمحن، وبعد أن يئس أهلها من إجابة صريخهم، وتلقي الإنجاد من أي مكان، أن يخاطبوا ألفونسو (ابن رذمير) أن يمنح أهلها هدنة مؤقتة (لم تعين لنا الرواية مدتها)، فإذا لم يأتهم الإنجاد المنشود، سلمت إليه المدينة، وتعاهد الفريقان على ذلك، ثم مضى هذا الأجل دون أن يتلقى المحصورون أية معونة، فاضطرت المدينة إلى التسليم (1).

وتلخص الرواية العربية الوحيدة - وهي رواية ابن الكردبوس - شروط هذا التسليم فيما يلي:

أن تسلم سرقسطة إلى ملك أراجون (ابن رذمير)، ومن أحب المقام بها من أهلها فله ذلك، على أن يؤدي جزية خاصة، ومن أحب أن يرحل إلى حيث شاء من بلاد المسلمين، رحل وله الأمان التام، وعلى أن يسكن الروم (الأرجونيون والفرنج) المدينة، والمسلمون ربض الدباغين، وعلى أن كل أسير يفلت للروم من المدينة ويحصل عند الإسلام، فلا سبيل لمالكه إليه ولا اعتراض له عليه.

وقد كان ربض الدباغين من أحياء سرقسطة المتطرفة، ويقع على ضفة النهر اليمني، حسبما يبدو ذلك من أقوال ابن عذارى التي تقدم ذكرها. وكانت سياسة الملوك النصارى، فيما يتعلق بمن يبقى من السكان المسلمين في المدن المفتوحة، هو أن يسمح لهم بالبقاء في منازلهم داخل المدينة لمدة سنة أو نحوها، ثم يلزمون بعد ذلك بالانتقال إلى الأرباض، وهي الأحياء المتطرفة أو الضواحي، وقد منح سكان سرقسطة وفقاً للرواية النصرانية هذا الامتياز بالبقاء في أحيائهم داخل المدينة مدى عام، ينتقلون بعده إلى ربض الدباغين، وغيره من الأرباض الخارجية، وهذا هو ما اتبع فيما بعد في عهود تطيلة وطرطوشة وغيرهما من قواعد الثغر المفتوحة.

ويضيف ابن الكردبوس إلى ما تقدم، أنه ما كاد ملك النصارى يستقر بالمدينة، حتى غادرتها كثرة أهلها المسلمين، وأنه لما شهد جموعهم الزاخرة ركب بنفسه إليهم، وأمرهم أن يبرزوا جميع ما لديهم، فأبرز الفارون أموالا لا تحصى، ولكنه

(1) روض القرطاس ص 106.

ص: 100

بعد أن رآها سمح لهم بالاحتفاظ بها، وتركهم يسيرون إلى حيث شاءوا في أمان، ووجه معهم من رجاله من يشيعهم إلى داخل أعماله، ولم يأخذ منهم سوى مثقال واحد عن كل أحد من الرجال والنساء والأطفال (1).

وتضح الرواية الإسلامية تاريخ تسليم سرقسطة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان سنة 512 هـ، وهو يوافق 18 ديسمبر سنة 1118 م (2)، وتضع الرواية النصرانية هذا التاريخ في يوم 11 ديسمبر، أو في 18 ديسمبر (3). ودخل ألفونسو الأرجوني وحلفاؤه المدينة، بعد أن قطع لأهلها المسلمين العهود المذكورة، وسمح لهم مدى فترة قصيرة باستبقاء قاضيهم ابن حفصيل، وبالإحتكام إلى شريعتهم. ولكن مسجد سرقسطة الجامع، حول منذ السادس من يناير سنة 1119 م إلى كنيسة سلمها ألفونسو المحارب إلى الرهبان البرنارديين، وسميت كنيسة لاسيو La Seo أي الكنيسة العظمى. وفي رواية أخرى أن مسجد سرقسطة الجامع لم يحول إلى كنيسة إلا بعد ذلك بثلاثة أعوام في أكتوبر سنة 1121 م، وأنه حول عندئذ إلى كنيسة سميت باسم " سان سالبادور " San Salvador (4) ، وجعلت سرقسطة عاصمة مملكة أراجون، وجعل منها مركز لأسقفية، ومنح سكانها النصارى امتيازات الأشراف، وعن الكونت جاستون دي بيارن " سيدا " للمدينة المفتوحة في ظل ألفونسو، وأقطع الحي الذي كان يقطنه النصارى المعاهدون، وعهد إليه بالإشراف على توزيع الغنائم على الجند الفاتحين، وكوفيء سائر الفرسان الذين عاونوا في الفتح (5).

وهكذا سقطت سرقسطة، بعد أن حكمها المسلمون منذ الفتح أكثر من أربعة قرون، وبعد أن لعبت في تاريخ الثغر الأعلى الأندلسي، أعظم دور، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية أو الحضارية.

ولما سقطت الحاضرة الإسلامية، ودخلها النصارى، غادرها معظم أعيانها

(1) ابن الكردبوس في كتاب " الاكتفاء "(مخطوط أكاديمية التاريخ لوحة 164 أ).

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 225، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السابقة الذكر). وذكر المقري أنه كان في يوم الأربعاء الرابع من رمضان (نفح الطيب ج 2 ص 585).

(3)

راجع مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر حيث يشير إلى الروايات النصرانية.

(4)

مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر.

(5)

M. Lafuente: ibid ; V. III. p. 238. وكذلك " تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين " ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، ص 145.

ص: 101

وأكابرها المسلمين، من الحكام والعلماء والقضاة وغيرهم، على نحو ما وقع عند سقوط طليطلة. ويقول لنا ابن الكردبوس، إن من غادرها من أهلها عند دخول النصارى بلغ خمسين ألفاً، بيد أنه يبدو هذا العدد مبالغ فيه. ولما رأى ملك أراجون كثرة المهاجرين من المسلمين فيما بعد، وخشى أن ينهار عمران المدينة، أصدر أمره بمنع هجرة المسلمين إلا بإذن خاص، وكان المهاجرون يقصدون بالأخص بلنسية، وقواعد شرقي الأندلس.

وكان سقوط سرقسطة، بعد سقوط طليطلة، ضربة جديدة قاصمة للأندلس، وكان نذيراً بسقوط باقي قواعد الثغر الأعلى في يد مملكة أرجوان، التي لم تكن منذ ربع قرن تشغل سوى رقعة صغيرة في شمالي مملكة سرقسطة، ثم أخذت تنمو بسرعة على حساب المملكة الإسلامية، ثم كان نذيراً في نفس الوقت بتصدع الجبهة الدفاعية في شمالي شرقي الأندلس، وهي التي كانت سرقسطة معقدها المنيع، ومن ذلك الحين تواجه منطقة بلنسية، خطر العدوان النصراني المباشر من الشمال، كما كانت تواجهه من الغرب. وأخطر من ذلك كله ما أصاب هيبة المرابطين العسكرية بسبب هذه الضربة من تصدع وانهيار، وقد كانت هذه الهيبة، منذ الزلاّقة ثم أقليش في أوج قوتها، ثم أخذت منذ أقليش تخبو شيئاً فشيئاً، حتى جاء سقوط سرقسطة فأصابها بأول ضربة حقيقية، هزت من أركانها في أنحاء شبه الجزيرة، ومن ذلك الحين تضطرم اسبانيا النصرانية ضد المرابطين بروح مضاعف من التحدي والعدوان والثقة بالنفس.

- 5 -

وما كاد ألفونسو المحارب يستقر في سرقسطة وينظم شئونها، حتى اعتزم أن يتابع ظفره بافتتاح ما بقي من قواعد الثغر الأعلى ومعاقله، وكانت تطيلة قد سقطت في يده قبيل سقوط سرقسطة بنحو عامين في سنة 1117 م (511 هـ)، فسار في قواته نحو طرسونة الواقعة جنوب غربي تطيلة واستولى عليها، وأعاد بها مركز الأسقفية القديمة، ثم سار منها إلى برجه (1) الواقعة في جنوب تطيلة، واستولى عليها، وافتتح عدة أخرى من الحصون والبلاد الواقعة في تلك المنطقة، ومنها ألاجون، ومالن، ومجايون وأبيلا وغيرها، وتمت هذه الفتوح كلها في سنة 1120 م

(1) طرسونة هي بالاسبانية Tarazona وبرجه هي Borja

ص: 102

(513 هـ)(1). ثم عبر ألفونسو جبال سييرا مولينا التي تفصل بين أراجون وقشتالة، وزحف على قلعة أيوب وكانت من أمنع ما بقي من معاقل الثغر الأعلى، فاستولى عليها كذلك. وكانت أنباء هذه المحن المتوالية، التي نزلت بمسلمي الثغر الأعلى، وتوالى سقوط قواعده في أيدي النصارى، قد وصلت إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فاهتم لها، وكتب إلى أخيه الأمير أبى إسحق ابراهيم بن يوسف، والي إشبيلية منذ وفاة واليها السابق القائد محمد بن فاطمة في سنة 511 هـ، بتجهيز الجيوش، والمبادرة إلى السير لقتال ملك أراجون (ابن رذمير)، ووضع حد لعدوانه، وكتب في نفس الوقت إلى القادة والرؤساء بالأندلس أن ينهضوا بقواتهم مع أخيه، وأن يكونوا تحت إمرته. فحشد إبراهيم قواته، ووافته قوات قرطبة بقيادة واليها ابن زيادة، وقوات غرناطة بقيادة واليها الأمير محمد بن تينغمر اللمتوني، وقوات مرسية بقيادة أبى يعقوب ينتان بن علي، وجماعة أخر من الرؤساء والقادة، وعدد كبير من المتطوعة. وسار الأمير إبراهيم في هذه القوات الجرارة صوب الشمال. وكان ألفونسو قد انتهى وفقاً لبعض الروايات من افتتاح قلعة أيوب، وسار منها لافتتاح دروقة قرينتها في المنعة والأهمية، والواقعة في جنوبها. وفي رواية أخرى أنه لم يكن قد انتهى بعد من افتتاح قلعة أيوب، حينما اقتربت منه الجيوش المرابطية. وكان ألفونسو حينما علم بتحرك المرابطين وسيرهم إلى قشتالة قد استقدم سائر قواته، واجتمع له وفقاً لأقوال الرواية الإسلامية زهاء اثنى عشر ألف فارس، غير المشاه والرماة وهم جموع غفيرة لا تحصى. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى في ظاهر بلدة صغيرة تسمى كَتُندة أو قَتُندة على مقربة من دورقة، وذلك في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول - وعلى قول آخر ربيع الثاني - سنة 514 هـ (يونيه أو يوليه سنة 1120 م). ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، كانت الدائرة فيها على المسلمين، فهزموا هزيمة شديدة، أو " هزيمة منكرة " على قول ابن الأثير وكثر القتل فيهم، وسقط منهم في ميدان القتال، وفقاً لأقوال الرواية الإسلامية نحو عشرين ألفاً من المتطوعة، وتنوه الرواية الإسلامية بنوع خاص بمن استشهد في الموقعة من العلماء والفقهاء، وفي

(1) روض القرطاس ص 106، وكذلك M. Lafuente: ibid ; V. III. p. 238. ونقل ْالمقري عن ابن اليسع أن تطيله وطرسونة قد سقطتا في أيدي النصارى في سنة 524 هـ (1130 م) وهذا مناقض لما يذكره روض القرطاس وتؤيده الرواية النصرانية من أن سقوط طرسونة وغيرها من معاقل الثغر الأعلى كان في سنة 513 هـ (1120 م).

ص: 103

مقدمتهم العلامة أبو علي الصدفي، وأبو عبد الله بن الفراء قاضي ألمرية، وارتد الأمير إبراهيم بن يوسف في فلول الجيش المرابطي إلى بلنسية (1). وكانت نكبة جديدة ساحقة لاسبانيا المسلمة، ولهيبة المرابطين العسكرية. ومما هو جدير بالذكر أن الأمير إبراهيم هذا الذي قاد المرابطين في تلك الموقعة، هو الذي ألّف الفتح بن خاقان باسمه كتابه " قلائد العقيان " وأهداه إليه في مقدمته، في عبارات فخمة رنانة (2).

وعلى أثر الموقعة استولى ألفونسو على قلعة دروقة، وأنشأ على مقربة منها، عند منابع نهر " خلوكا " محلّة جديدة محصنة، سميت قلعة " مونريال "، لتكون حاجزاً لصد الجيوش الإسلامية، التي تنساب من طرق مرسية وبلنسية، ولتكون في نفس الوقت منزلا لجمعية دينية جديدة من الفرسان، أسست لحماية الدين.

(1) تراجع في حوادث موقعة كتندة، ابن الأثير ج 10 ص 208، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر) والمقري في نفح الطيب ج 2 ص 580. وكذلك ابن الأبار في كتابه " المعجم في أصحاب الإمام القاضي أبى علي الصدفي " (المكتبة الأندلسية - المجلد الرابع ص 7). ومن المراجع القشتالية: F. Codera: ibid ; p. 262-267، M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 239

(2)

كتاب قلائد العقيان - المقدمة - ص 3 و 4.

ص: 104