المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولألفونسو المحارب وأوراكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الأولألفونسو المحارب وأوراكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

‌الفصْل الأوّل

ألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

الممالك الإسبانية النصرانية عند مقدم المرابطين. ألفونسو السادس بعد الزلاّقة. إفتتاحه لشنترين. موقعة أقليش ومصرع الإنفانت سانشو. موت ألفونسو السادس. الكونت ريمون البرجوني وأخوه الكونت هنري. زواج الأول من أوراكا ابنة ألفونسو الشرعية. زواج الثاني من تريسا ابنته غير الشرعية. وصية ألفونسو السادس عن وراثة العرش وما يقترن بذلك من الشروط. موافقة الكورتيس عليها. أوراكا ملكة قشتالة، زواج ألفونسو المحارب من أوراكا. التنافس والشقاق بين الزوجين. أوراكا وصفاتها وموقفها. ألفونسو وأهبته. محاصرته لأوراكا. هنري البرجوني وموقفه. الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس. الدسائس من حوله. فرار أوراكا وتصرفاتها. الحرب بين الفريقين وهزيمة قوات قشتالة. ألفونسو ريمونديس ملك جليقية. الحرب بين أهل جليقية وألفونسو. فرار الأسقف خلمريث بالأمير الطفل. حشده لقوات جليقية، وانضمام الكونت هنري إليه. انسحاب ملك أراجون. الأسقف خلمريث وصفاته وأطماعه. انقسام اسبانيا النصرانية. تفاقم الخلاف بين أوراكا وألفونسو. محاولة الصلح ومعارضة الأسقف خلمريث. إعلان بطلان الزواج. معارضة ألفونسو في ذلك. استهتار الملكة أوراكا. الأسقف يؤيد ألفونسو ريمونديس في جليقية. استياء أوراكا من مسلكه وسيرها لمحاربته. تدخل الملكة تريسا. ثورة أهل شنت ياقب ضد الأسقف. التجاؤه إلى حماية أوراكا. الصلح بين الأم وولدها. مسير أوراكا إلى شنت ياقب ومقاومتها. عودها إلى مهاجمة المدينة بقوات مجتمعة. تغلبها على المدينة وإخضاعها. عودة الأسقف وارتقاؤه إلى المطرانية. الحرب بين أوراكا وتريسا. الصلح بينهما. أوراكا تقبض على المطران ديجو وإخوته. غضب الشعب والبابا. أوراكا تطلق سراحه. الحرب بين المطران وبين الملكة. الصلح بين الملكة وابنها والمطران. سعي البابا إلى تحقيقه. وفاة أوراكا. صفاتها واختلاف المؤرخين في الحكم عليها. ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة وليون. الصراع بينه وبين ألفونسو المحارب. اهتمامه بالقضاء على سلطان الأشراف. أسرة لارا ومطاردتها. مسيره لمحاربة الملكة تريسا. خضوع البرتغال. زواج ألفونسو ريمونديس من ابنة رامون برنجير. اهتمامه بمحاربة الأندلس. الغزوات المتبادلة بين المسلمين والنصارى.

تتبعنا فيما تقدم، في كتابنا " دول الطوائف "، عن تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية خلال القرن الحادي عشر الميلادي، حتى وفاة ألفونسو السادس ملك قشتالة، عقب موقعة أقليش في يونيه سنة 1108 (شوال سنة 501 هـ).

ونود الآن أن نستأنف تاريخ هذه الممالك النصرانية، خلال العصر المرابطي، وحتى مقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة.

ص: 476

حينما قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة لإنجاد دول الطوائف، ورد عدوان اسبانيا النصرانية عنها، كانت الممالك الإسبانية النصرانية ثلاث، هي مملكة قشتالة، وهي أكبرها رقعة، وأوفرها قوة وموارد، ومملكة أراجون، وإمارة برشلونة أو قطلونية، وهي أصغرها. وكانت مملكة نافارا القديمة (نبرة)، قد اختفت يومئذ، مذ تآمر على اقتسامها سانشو راميريس ملك أراجون، وألفونسو السادس ملك قشتالة، واستولى الأول على نصفها الشرقي مما يلي جبال البرنيه واستولى الثاني على نصفها الغربي مما يلى نهر إيبرو، وذلك في سنة 1076 م، ولم تظفر باسترداد استقلالها، والعود إلى استئناف دورها في شبه الجزيرة كمملكة مستقلة إلا بعد ذلك بنحو نصف قرن، وذلك عقب وفاة ألفونسو المحارب ملك أراجون في سنة 1134 م. وكان ألفونسو السادس، عميد الممالك الإسبانية النصرانية وقطبها، حين قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة، وحين اشتبك معهم في موقعة الزلاّقة العظيمة، على رأس الجيوش النصرانية المتحدة، ولقى فيها هزيمته الساحقة (479 هـ - 1086 م)، بيد أنه نهض من غمار الهزيمة، وعاد يقود الجيوش القشتالية مرة أخرى، لمقاتلة المسلمين وغزو أراضيهم. ولبثت قواته في حصن لييط حيناً تعيث في أحواز مرسية ولورقة، إلى أن حاصره المرابطون وقوات الطوائف، ولم تستطع اقتحامه، حتى عاد ألفونسو لإنجاد فلول حاميته، ثم أخلاه (1089 م).

ثم غزا شنترين من قواعد ولاية الغرب واستولى عليها سنة 1093. واشترك بعد ذلك في حوادث بلنسية، عقب وفاة السيد الكمبيادور، وعاث في أنحائها، ثم غادرها حينما شعر بتفوق القوات المرابطية المتأهبة لاستردادها (1102 م).

ولما توفي يوسف بن تاشفين، وخلفه ولده علي، عبر إلى شبه الجزيرة، معتزماً أن يستأنف عهد الجهاد، وعبرت معه قوات مرابطية ضخمة، ونفذت الجيوش المرابطية مرة أخرى إلى أراضي قشتالة، يقودها الأمير أبو الطاهر تميم ابن يوسف، والتقت في ظاهر أقليش بقوات قشتالة، وكان الملك الشيخ - ألفونسو - قد تخلف عن قيادتها لضعفه، وبعث معها ولده الطفل سانشو ليبث فيها روح الإقدام والحماسة. وشاء القدر أن تكون موقعة أقليش " زلاقة " أخرى سحقت فيها الجيوش القشتالية، وقتل فيها الإنفانت الصبي سانشو، وحيد ألفونسو وولي عهده، وعدة من قادة قشتالة وأكابرها (29 مايو سنة 1108 م) وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه. ولم يعش ألفونسو بعد هذه الضربة طويلا،

ص: 477

وتوفي في 29 يونيه من العام التالي، وقد أشرف على الثمانين من عمره، بعد حكم دام أربعة وأربعين عاماً، ودفن بدير ساهاجون.

وقد تحدثنا من قبل عن أعمال ألفونسو السادس وإصلاحاته الداخلية، وعن تكوين المجتمع القشتالي في عصره، وعن سير التشريع، وما تميز به عهده من ظهور نفوذ البابوية، وبدأ مزاولة رياستها الروحية على الملوكية الإسبانية (1)، فلا محل لأن نعود هنا إلى ذكر هذه الموضوعات. بيد أن الذي يهمنا هنا هو ما انتهى إليه أمر وراثة العرش. ذلك أن ألفونسو السادس توفي دون وارث للعرش، بعد مقتل ولده الوحيد سانشو في معركة أقليش. وكان مما تميز به عهد ألفونسو، مقدم كثير من الفرسان الفرنسيين الذين تحدوهم الروح الصليبية إلى اسبانيا، ليشتركوا مع القوات القشتالية في محاربة المسلمين. وكان من بين هؤلاء إثنان من الأشراف من أقارب الملكة كونستانس زوجة ألفونسو الأولى، هما الكونت ريمون البرجوني، وابن عمه الكونت هنري، وقد اشترك كلاهما، إلى جانب ألفونسو، في كثير من المعارك التي خاضها ضد المسلمين، وظهر فيها بإقدامه وبسالته، فرأى ألفونسو إثابة لهما أن يزوجهما من ابنتيه أوراكا وتريسا (سنة 1092 م)، فتزوج الكونت ريمون بأورّاكا، وهي ابنة الملك الشرعية من زوجته الملكة كونستانس، وتزوج الكونت هنري بتريسا، وهي ابنة غير شرعية لألفونسو من خليلته خمينا نونيس، ومنح ألفونسو أوراكا وريمون إمارة ولاية جليقية، ومنح تريسا وهنري إمارة الأراضي التي انتزعها من المسلمين في ولاية لوزيتانيا (شمالي البرتغال). وهي التي غدت فيما بعد مهداً لقيام مملكة البرتغال الجديدة في شبه الجزيرة. وهكذا بدأ النفوذ الفرنسي يتسرب إلى شئون قشتالة السياسية، بعد أن تسرب إلى شئونها الدينية على يد الرهبان الدومنيكانيين، وعميدهم المطران برنار، مطران طليطلة ورئيس الكنيسة الإسبانية.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن المُلْك في قشتالة كان وراثياً. وقد واجهت ألفونسو بعد مصرع ولده الوحيد سانشو في موقعة أقليش مشكلة صعبة، هي مشكلة وراثة العرش. ومن ثم فقد عنى بحلها في وصيته التي وضعها قبيل وفاته.

وكان الكونت ريمون البرجوني، قد توفي منذ سنة 1107 م، بعد أن أنجب

(1) راجع كتاب دول الطوائف ص 387 - 390.

ص: 478

من زوجه أوراكا ولدين، هما ألفونسو وسانشا. وقد نصت وصية ألفونسو أن تتولى عرش قشتالة بعد وفاته إبنته أوراكا، أرملة الكونت، ورأى في الوقت نفسه تقوية لجانب العرش وسعياً إلى توحيد اسبانيا النصرانية، أن تتزوج أوراكا من ألفونسو الأول المحارب ملك أراجون ونافارا. وعلى أثر وفاة الملك الشيخ اجتمع نواب المملكة (الكورتيس) من الأشراف والأساقفة ورجال الدين وحكام الولايات والفرسان في مدينة ليون، وأقروا وصية الملك الراحل، وكان أشراف قشتالة، بالرغم من تخوفهم من جرأة ملك أراجون، يخشون ألاّ تقوى أورّاكا وحدها على تحمل أعباء الملك، والدفاع عن المملكة، وأنه لابد أن يكون إلى جانبها أمير قوي يستطيع أن يرد هجمات المسلمين، ومن ثم فقد وافقوا على هذا الزواج. ووافقت أوراكا رغم ارادتها تنفيذاً لوصية أبيها، وتقرر أن تحل مسألة العرش على النحو الآتي: أن تكون أوراكا ملكة قشتالة وليون وأشتوريش وأن يمنح ولدها الطفل ألفونسو ريمونديس، (أي ابن ريمون) مملكة جليقية مع بقائها تحت سلطان قشتالة، وأن يمنح الكونت هنري زوج أختها تريسا إمارة البرتغال كتابع لعرش قشتالة. فإذا لم تعقب أوراكا من زواجها بألفونسو ملك أراجون، فإن المملكة كلها تؤول بعد وفاتها، إلى ولدها ألفونسو ريمونديس، أعني إلى حفيد ألفونسو السادس.

وتم زواج ألفونسو الأول وأوراكا في حصن منيون في أكتوبر سنة 1109 م.

وفي العام التالي (1110 م)، سارت الملكة في قوات قشتالة مع زوجها الملك، إلى أراضي ناجرة وسرقسطة الإسلامية. وكان المرابطون قد احتلوا يومئذ سرقسطة، فعاث ألفونسو في تلك المنطقة ولكنه لم ينل مأرباً. وسرعان ما دب الشقاق بينه وبين زوجه أوراكا، وظهر الخلاف واضحاً بين الزوجين في كل شىء.

وكان التنافس بين الزوجين على السلطان مصدر الخلاف الرئيسي. وكانت أوراكا امرأة وافرة الكبرياء والطموح، فحاولت أن تستأثر بجميع السلطات في قشتالة والأراضي التابعة لها، وعمدت إلى إبعاد سائر الرجال الذين يشك في ولائهم المطلق لها، ورفعت من اصطفتهم إلى أرفع مناصب الدولة. فثار ألفونسو غضباً لذلك، وصمم على ألا يتنازل عن حق من حقوقه الملكية. يقول المؤرخ لافونتي: " لقد اقترنا دون حنان، وكان الأمير الأرجوني موهوباً يتمتع بصفات الجندي الخشنة، أكثر منه بالخلال التي تجعل منه زوجاً رقيقاً. وكانت الملكة من جانبها لا تراعي

ص: 479

العناية والحزم في بعض أعمالها الخارجية، فانتهى الأمر، بأن نبذ الملك كل اعتبار لزوجته، وأخذ يسيىء معاملتها، لا بالكلم فقط، ولكن بالفعل أيضاً، فكان يصفعها ويركلها برجليه. ورأى الأساقفة الذين لم يرقهم هذا الزواج منذ البداية، أن أفضل مخرج من هذا الموقف المزري هو الطلاق، وأصغت الملكة إلى هذا الاقتراح، لأنها كانت فضلا عما تلقاه من سوء المعاملة، تشك في صحة هذا الزواج.

وكانت من جهة أخرى ترنو إلى الزواج من الكونت جومث دي كاند سبينا، وكان أيام حياة أبيها يتطلع إلى ذلك، وكانت بينه وبينها علائق مريبة " (1).

- 1 -

وهنا تبدأ تلك الحرب الأهلية الشهيرة، التي لبثت أعواماً طوالا، تمزق اسبانيا النصرانية، والتي كان بطلاها الرئيسيان، ألفونسو ملك أراجون، وأوراكا ملكة قشتالة.

أدرك ألفونسو منذ البداية ما تنطوي عليه زوجه من رياء وخديعة، وما يشين سمعتها الأخلاقية. من شائعات مريبة، فاعتزم أمره واتخذ من حجة الدفاع عن طليطلة ذريعة، ووضع في معظم قلاع قشتالة ومدنها الرئيسية حاميات أرجونية.

ولم يحجم عن محاصرة الملكة ذاتها في قلعة كاستلار (سنة 1111 م) بحجة أنها تحاول بث الثورة، وأنها بسوء سلوكها تصدع من هيبة العرش.

وكانت عناصر أخرى تتأهب لدخول المعركة. ذلك أن الأمير هنري الأرجوني أمير البرتغال، وزوج تريسا أخت أوراكا، كان يطمح إلى عرش قشتالة، ويأتمر بها، ومن أجل ذلك عبر إلى فرنسا ليبحث عمن يساعده في محاربته لأوراكا، ثم عاد إلى اسبانيا بطريق أراجون، واتفق مع ألفونسو على أن يعمل معه لاتحاد أراضي ليون وقشتالة ثم يقتسمانها فيما بعد.

وكانت المؤامرات تحاك في نفس الوقت حول الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس، وكان يعيش في ضيعة صغيرة في جليقية تحت رعاية وصيه الكونت بيدور دي ترافا. فلما تزوجت أمه أوراكا بملك أراجون، أراد الوصي أن يعلن الأمير الصغير ملكاً على جليقية وفقاً لوصية جده. وكان هنري أمير البرتغال يؤيد هذا المشروع. ولكن أوراكا حينما سجنت في قلعة كاستيلار، بادرت فأرسلت رسلها إلى جليقية يطالبون إعلانها ملكة لها. ولكن أشراف جليقية خشوا من انتقام ملك أراجون.

(1) M. Lafuente: Historia General de Espana، T. III، p. 217

ص: 480

وكثرت الأهواء والدسائس، وحاول بعض أشراف جلِّيقية الثوار أن يختطفوا الملك الطفل من مقامه في قلعة " سانتا ماريا "، حيث كانت الكونتة دي ترافا تسهر على حمايته. ولكن الكونتة دافعت عنه ببسالة، وعاونها في ذلك ديجو خلمريث أسقف شانت ياقب، وفشلت المحاولة. وفي تلك الأثناء نجحت أوراكا في الفرار من معتقلها بقلعة كاستلار، فالتف حولها معظم أشراف قشتالة، وقد ساءهم عنف ملك أراجون وتحديه. وأطلقت أوراكا العنان لأهوائها، وحبت باصطفائها اثنين من الأشراف هما جومث جونثالث. وبيدرو جونثالث دي لارا، وكان كلاهما من عشاقها، وكلاهما يؤمل الوصول إلى العرش متى تم طلاقها.

وكان ملك أراجون يضطرم سخطاً لعذا الاصطفاء المريب، ويبث عيونه على الملكة الخئون في كل خطواتها. وهكذا أضحى من المتعذر التوفيق بين زوجين يمقت كل منهما صاحبه، ولم يلبث أن تحول النزاع المستمر بينهما إلى حرب علنية.

وكان هنري أمير البرتغال، يؤازر ملك أراجون في هذا النزاع، تحقيقاً لأطماعه. وكان ألفونسو قد استولى خلال ذلك على طليطلة، وحاكمها يومئذ ألبار هانيس. وهكذا دوت صيحة الحرب الأهلية، وتحركت قوات ليون وقشتالة، لمؤازرة أوراكا، وتحركت قوات أراجون والبرتغال، والتقى الفريقان في " كامبودى سبينا " بالقرب من سيبولفيدا من أعمال ولاية شقوبية. وكان يقود قوات قشتالة الكونت بيدرو دي لارا، ولكنه ما لبث إزاء عنف هجوم الأرجونيين أن تخلى عن المعركة، وفر إلى برغش، وخلفه في القيادة زميله الكونت جومث. وأسفرت المعركة في النهاية عن فوز قوات أراجون، وكان الكونت وكثير من أشراف قشتالة بين القتلى (نوفمبر سنة 1111 م).

وعلى أثر ذلك اخترق الجيش الأرجوني قشتالة، وهو يعيث في أراضيها نهباً وتخريباً، وعُزل الأساقفة من أنصار الملكة، واعتدى الجند على الكنائس.

وعندئذ خشي أشراف جليقية العاقبة، فانضموا إلى الملكة، وأعلنوا الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس ملكاً على جليقية، وقرروا أن ينقلوه لدى أمه في قشتالة، صحبة وصيه الكونت دي ترافا والأسقف خلمريث، ومعهم فرقة قوية من الجند.

وعلم ملك أراجون بذلك، فخرج لصدهم، ونشبت بين الفريقين على مقربة من أسترقة معركة حامية، وكل يحاول أن ينتزع الملك الطفل. وهزم الجلالقة، ولكن الأسقف خلمريث استطاع خلال المعركة أن يحمل الطفل وأن يفر به ناجياً

ص: 481

إلى حصن " أوسيون " حيث كانت أمه، ثم حمله الإثنان خلال الجبال إلى شنت ياقب.

وغدا الأسقف خلمريث عندئذ روح كل مقاومة ضد ملك أراجون، وأصدر نداء إلى أهل جليقية المخلصين، واستطاع أن يضم إليه المنشقين منهم في جبهة واحدة، ولم يمض سوى قليل حتى استطاع هو والملكة أن يجمعا قوة كبيرة، ونجح الأسقف أيضاً في أن يستميل إلى جانبه هنري أمير البرتغال، وكان قد بدأ يخشي سطوة ملك أراجون. وسارت القوات المشتركة إلى أسترقة لإنقاذ الجلالقة المحصورين بها. فلما شعر ملك أراجون بتفوق خصومه، غادر أسترقة، وارتد في قواته صوب بلد الوليد، وهنالك حاول القشتاليون والجلالقة والبرتغاليون محاصرته، ولكنه استطاع أن يقضي على محاولتهم، وأن يرتد ظافراً إلى بلاده (أبريل سنة 1112 م).

ولابد لنا أن نذكر كلمة عن هذا الأسقف المغامر المحارب، ديجو خلمريث، فقد كان أسقفاً لشنت ياقب منذ سنة 1101 م، وكانت سيادته لهذه الأسقفية الهامة المتمدنة، واحتكامه على ما بها من ثروات وموارد طائلة وأتباع عديدين، تجعل منه عاملا هاماً في ذلك الصراع السياسي الذي تجوزه قشتالة. وكان الأسقف فوق ذلك رجلا رفيع المواهب، شديد الحزم، كثير الأطماع، متحفزاً، شغوفاً بتوسيع سلطانه وحقوق كنيسته، قليل الاكتراث بالوسيلة، وهو ما كان يتفق مع ضعف الخلق السياسي في هذا العصر، الذي كان ينتقل فيه الناس بسهولة ودون حرج من حزب إلى حزب، ويحنثون في كل وقت بالعهد أو بالصداقة المعقودة. وهكذا كان دون ديجو ممثلا بارزاً لأهل عصره، وللطبقة السائدة التي كانت تضم الأشراف ورجال الدين، وهكذا، سوف نراه صديقاً للملكة أوراكا ثم عدواً لها، وصديقاً لتريسا ملكة البرتغال ثم عدواً لها، وصديقاً للملك الصبي ألفونسو، ثم خصماً له. وسوف نراه يحارب إلى جانبهم ثم يحارب ضدهم طوراً بعد طور (1).

وتعاقبت الحوادث والقلاقل في الأعوام التالية، وانقسمت اسبانيا النصرانية إلى ثلاثة أحزاب، كان أولها وأقواها من حيث البلاد والموارد حزب ملك أراجون،

(1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola Barcelona (1900) V. I. p. 357 & 358

ص: 482

وثانيها حزب قشتالة الذي ينضوي تحت لواء الملكة أوراكا، ويؤازره رجال الدين في قشتالة وليون وجليقية ومن ورائهم الشعب، وثالثها حزب الأشراف، وهو يعارض حكم الملكة وحكم ملك أراجون، ويعقد آماله على الملك الطفل ألفونسو ريمونديس ملك جليقية، ويؤازره معظم الفرسان في سائر أنحاء المملكة.

وكان من الواضح أن الخلاف بين الملكة وزوجها قد وصل إلى حدود لم تعد تنجح معها أية محاولة للتوفيق، وقد بذلت مثل هذه المحاولة بالفعل على يد كبراء قشتالة، وعقد صلح اتفق فيه على توزيع البلاد والحصون على الملكين. ولكن ألفونسو ما لبث أن استولى على كثير من الحصون التي أعطيت للملكة. وعندئذ غضب القشتاليون لذلك، وأعلنوا أن أورّاكا هي ملكة قشتالة الشرعية. ونهضت الملكة، وسارت في قواتها وقوات جليقية لمحاربة ألفونسو. وبعث ألفونسو سفراءه في طلب الصلح من جديد. ومال الأشراف إلى ذلك حقناً للدماء.

ولكن الأسقف ديجو خلمريث، عارض في عقد الصلح أشد معارضة، وأعلن بطلان الزواج المعقود بين الملك والملكة، وخصوصاً بعد أن أعلن البابا أنه " عشرة محارم " وذلك بسبب القرابة الشديدة بين الزوجين. ولم تمض أشهر قلائل حتى أعلن رسول البابا في مجلس عقد في بالنسيا بطلان الزواج بصفة رسمية، واغتبطت الملكة لذلك القرار. ولكن ملك أراجون أعلن بطلان القرار البابوي، ثم قرنه بإعلان الحرب على قشتالة، والاستيلاء على ولاية ريوخا.

وفي خلال ذلك، كانت الفتن والقلاقل تتعاقب، أحياناً في صف أورركا، وأحياناً ضدها. وكانت أورّاكا ماضية في مسلكها المشين لا تني على شىء، وقد فاق استهتارها كل حد، وتركت لخليلها الكونت بيدرو دي لارا كل الشئون، وأضحت علائقها الغرامية فضيحة عامة، يجري ذكرها على كل لسان. وكان الأسقف ديجو من جهة أخرى يعمل بكل ما وسع لتوطيد مركز ألفونسو ريمونديس في جليقية، وذلك بالتعاون مع الكونت دي ترافا مؤدب الملك وزملائه الثوار من أشراف جليقية. فثارت الملكة لمسلكه، وسارت في بعض قواتها إلى شنت ياقب التي غدت عندئذ مركزاً لهذه المحاولات، فاضطر الأسقف إلى إعلان توبته وطاعته. ولكن حدث عندئذ، أن سار الكونت دي ترافا، وتريسا ملكة البرتغال في قواتهما إلى شنت ياقب، وحاصرا الملكة أوراكا. وكانت تريسا، قد كسبت بانضمامها إلى الثوار، دفع حدودها الى أراضي مدينتي

ص: 483

توي، وأورنسي. ولم تستطع أوراكا مغادرة شنت ياقب إلا بصعوبة، فسارت منها إلى مدينة ليون. وبقيت تريسا في جليقية حيناً، حتى علمت بأن المسلمين يزحفون على أراضيها الجنوبية فعادت إلى البرتغال لتعني بمدافعتهم.

وفي تلك الأثناء ثار أهل شنت ياقب بالأسقف ديجو، ففر إلى قشتالة، والتجأ إلى حماية الملكة، فاستقبلته بعطف، وعهدت إليه بأن يقوم بالسعي في عقد الصلح بينها وبين ولدها ومن يؤيدونه من أشراف جليقية، فدعا الأسقف إلى اجتماع عقد في ساهاجون يمثل مختلف الأطراف المتنازعة (كورتيس)، ووضع اتفاق بين الأم والإبن، وقعه ثلاثون شريفاً من كل من الفريقين، يقضي بأن تتولى الأم وولدها الحكم معاً في جليقية وليون وأشتوريش، وأن تنفرد الأم بالحكم حال حياتها في قشتالة، على أن يخلفها ولدها وفقاً لوصية ألفونسو السادس (سنة 1117 م).

ولما تم توقيع الصلح على هذا النحو سارت الملكة إلى جليقية لزيارة ولدها، ثم سارت إلى شنت ياقب لتعاقب أهلها على مناوأتهم للأسقف ديجو. فقاومها أهل المدينة بشدة، وهاجموها ومن معها بعنف، حتى اضطرت أن تلتجىء مع حاشيتها إلى الكنيسة الكبرى، فأضرم الثوار فيها النار غير مكترثين بصفتها المقدسة، ولما هرعت الملكة إلى الخارج طلباً للنجاة، تطاول عليها الثوار وأهانوها، ولم تستطع النجاة إلا بعد أن تعهدت لهم بأن تعين لهم أسقفاً آخر يوافق ْالملك على تعيينه، وأن تحكم البلدة وفقاً لرغبات أهلها. أما الأسقف ديجو، فاستطاع أن يفر متنكراً، ولكن أتباعه هلكوا في الكنيسة حرقاً.

وما كادت الملكة تغادر شنت ياقب حتى زحفت على المدينة قوات جليقية، وقوات الملكة وأصحاب الأسقف، واعتزمت الملكة أن تعاقب أهلها على جرأتهم عقاباً رادعاً. فارتاع أهل المدينة، وخرج كبراؤها من قساوسة ومدنيين، وتضرعوا إلى الملكة وإلى الأسقف بأن تصفح عنهم، وأن يُرفع عنهم النفي الكنسي الذي أعلنه الأسقف. وانتهى الأمر بأن اشترطت الملكة، أن يُنزع سلاح الجماعة الثائرة المسماة " جماعة الإخوة "، وأن يقسم الكبراء يمين الطاعة للملكة والأسقف، وأن يقدموا خمسين فتى من أبنائهم وأقاربهم رهينة، وقررت الملكة نزع أملاك خمسين من الثوار، وفرضت على المدينة غرامة فادحة. ثم دخلت إلى المدينة يصحبها الأسقف، وأعيد الأسقف إلى منصبه، وردت

ص: 484

التحف المنهوبة، وأصلحت الكنيسة والقصر الأسقفي المجاور لها على نفقة الثوار.

واستطاع الأسقف ديجو فوق ذلك أن ينال من البابا كالستوس الثاني رتبة المطرانية (الكردينال)، والبابا كالستوس هو أخو الكونت ريمون والد الملك الصبي ألفونسو، وكان منح الأسقف هذا اللقب ثمناً لمؤازرته للملك، واشتُرط في منحه أن يستمر الأسقف في مؤازرته.

خرجت الملكة أورّاكا بعد ذلك في قواتها، ومعها قوات شنت ياقب تحت قيادة المطران ديجو، لمحاربة أختها تريسا ملكة البرتغال واسترداد أراضي توي وأورنسي منها، ونفذت إلى أراضي البرتغال، وحاصرت تريسا في حصن لانيوسو، ولكن تريسا استطاعت الفرار بمعاونة بعض الأشراف الجلالقة، وربما أيضاً بمعاونة المطران الماكر، وقد أبدى رغبته فجأة في أن يعود بقواته إلى شنت ياقب، وهو ما حمل أوراكا على الشك في ولائه. وانتهت المفاوضات التي تلت بين الأختين عن نتيجة لم تكن متوقعة، هي أن تتنازل أوراكا لأختها عن أراضٍ من أحوات سمورة وطورو وشلمنقة، في نظير أن تتعهد تريسا بمعاونتها ضد جميع خصومها، مسلمين كانوا أو نصارى، وألا تعاون أحداً من الأشراف الثائرين ضدها. وعلى أثر ذلك عادت أوراكا على رأس حملتها الغازية إلى جليقية. ولكنها دبرت أن تعبر قوات شنت ياقب النهر أولا، وما كاد يتم عبورها، حتى أمرت بالقبض على المطران ديجو، وزجه إلى أحد الحصون، وقُبض كذلك على إخوته الثلاثة، وعلى صديقيه مطران براجا وأسقف أورنسي، وكانوا جميعاً مع الجيش.

وكان لهذه الإجراءات العنيفة أعمق وقع في شنت ياقب وفي رومة. ففي شنت ياقب ثار الشعب سخطاً، وبدا غضبه بأجلى مظاهره حينما قدمت الملكة إلى المدينة المقدسة لتشهد الاحتفال بعيد القديس ياقب. وأما عن موقف رومة، فقد أرسل البابا كالستوس إلى سائر مطارنة اسبانيا، بأن يعقدوا مجلساً دينياً، وأن يصدروا قراراً بنفي الملكة من الكنيسة، إذا لم تفرج عن المطران خلمريث، وترد إلى الكنيسة أملاكها المغصوبة. ومن جهة أخرى فقد ثار شعب شنت ياقب، وهدد الملكة بالويل إذا لم تفرج عن المطران، وزاد في حماستهم وثورتهم مقدم الملك الفتى ألفونسو ريمونديس على رأس قواته. وعندئذ اضطرت أوراكا، أن تطلق سراح المطران وزملائه المعتقلين. ولكنها لم تقم برد أملاك الكنيسة، وأملاك المطران المنزوعة.

ص: 485

وهنا نهض المطران لمحاربة الملكة، ومن الغريب أن أهل شنت ياقب الذين خرجوا من قبل على المطران وكادوا يفتكون به، انضموا عندئذ إليه. وانضمت إليه كذلك قوات ألفونسو ريمونديس الجليقية. وسارت الملكة في قواتها لمقاتلة المطران الثائر وحلفائه، والتقى الفريقان في مكان يسمى " مونساكرو " ووقعت بينهما بعض المصادمات الدموية، وصدر في تلك الأثناء قرار المطارنة بنفي الملكة من الكنيسة تحقيقاً لرغبة البابا، وعندئذ لم تر الملكة مناصاً من الإذعان. وفي رواية أخرى أنه لم يقع قتال بين الفريقين، وأن المطران ديجو اقترح على الملكة أن تجري مفاوضات لعقد الصلح بينها وبين ابنها حقناً للدماء. وانتهت هذه المفاوضات إلى معاهدة صلح، قدمت الملكة لضمان تنفيذها ستين من فرسانها رهينة، وتعهدت بأن ترد سائر أملاك الكنيسة، وأن ترد إلى المطران سائر أملاكه ورواتبه.

وحاول البابا كالستوس الثاني أن يضع بتدخله حداً لتلك الحرب الأهلية التي طال أمدها، فأوفد إلى شبه الجزيرة سفيراً بعد سفير، وعقدت بدعوته عدة اجتماعات كنسية ونيابية للعمل على رد السكينة والنظام، والتوفيق بين الأحزاب المتنازعة. وانتهى الاجتماع الذي عقد في بلد الوليد في سنة 1124 م، بعقد الصلح، بين الملكة وولدها على أن يحكما سوياً كل الأراضي التي ورثتها أوراكا عن أبيها. ولكن النزاع بين الأشراف استمر على حاله، ولم تثمر في حسمه أية وسيلة، إذ كانت أهواء الملكة الشخصية تحول دون كل توفيق، وتذكي عوامل الخصومة والبغضاء في مختلف النفوس. وكان ولدها الملك الفتى، قد سار قبل ذلك ببضعة أعوام إلى قشتالة في فرقة قوية من فرسانه واستطاع أن يقبض على الكونت بيدرو دي لارا عشيق أمه، وأن يلقي به إلى السجن. ولكن الكونت فر من معتقله، والتجأ إلى حماية أمير برشلونة، ورفع هذا الحادث من سمعة الملكة وهيبتها مدى حين، وهدأت ثورة أشراف قشتالة، الذين كانوا ينقمون على أوراكا اصطفاءها الشائن لخليلها. ومع ذلك فإن هذه الملكة الماجنة استمرت على سلوكها الوضيع، وعلائقها الغرامية المشينة، حتى نهاية حياتها.

وقد جاءت النهاية أخيراً لتضع حداً لحياة ذميمة، فياضة بالفجور والفضائح والأهواء الجامحة، والخصومات المضطرمة، وتوفيت أوراكا ملكة قشتالة في سنة 1126 م. فتنفس الجميع الصعداء في سائر أنحاء اسبانيا النصرانية، ملوكاً، وأحباراً وأشرافاً، وفرساناً، وشعوباً، واختفت من حياة قشتالة العامة، شخصية

ص: 486

بغيضة لم تحظ خلال حياتها، بشىء من الولاء الحقيقي، أو العطف الصادق أو التوقير والاحترام.

لبثت أورّاكا مدى عشرين عاماً ملكة قشتالة، وخلفت على العرش أباها العظيم ألفونسو السادس، فكان التباين في الوسائل والخلال من أبشع ما يمكن تصوره، وتحول الحكم القوي الحازم، إلى معترك من الشهوات والأهواء الخطرة.

وبدلا من أن يغدو زواجها بألفونسو المحارب دعامة لتوطيد العرش، وتسيير دفة الحكم، أضحى مصدراً خطراً للتنافس والشقاق المستمر، وعاملا في ضعف المملكة، واستنزاف مواردها التي كانت تدخرها لغزو الأندلس، وتخريب ربوعها في حروب أهلية منهكة. وكان وجود امرأة على رأس الحكم في مملكة قشتالة العريقة، في ذاته مظهراً جديداً لم يألفه الشعب القشتالي، الذي اعتاد أن يرى حكامه من الملوك الأقوياء، وأذكى من وقع هذا المظهر في نفوس الأشراف ونفوس الشعب، مسلك أوراكا المشين كملكة وامرأة معاً، لا تحرص على صون هيبة الملك، ولا كرامة المرأة المصون.

ومع ذلك فإن المؤرخين الإسبان يختلفون في الحكم على أوراكا، وعلى حقيقة تبعاتها التاريخية. ففريق يحكم عليها، ويدمغها بأقسى النعوت. ومن هؤلاء الأسقف ساندوفال. إذ يحمل عليها في تاريخه (1) بشدة، ويقول:" يجب علينا أن نسقط مثل هذه العصور من سلسلة تاريخنا القومي ". ويضع لوقا التويي، وأسقف طليطلة، وماريانا، مسئولية سائر المحن والخلافات التي حدثت على رأس ملكة قشتالة، ويصفونها بأنها " امرأة متهورة وشجاعة " ويتحدثون عن " خدعاتها المشينة المشبعة بالخيانة ". هذا بينما يرفض الأب فلورس (2) وغيره، كل ما نسب إلى أوراكا من " أعمال الطيش التي نسبت إليها " ويرجعون المسئولية في كل ما حدث من الشقاق والاضطرابات إلى الملك ألفونسو المحارب، وينسبون إليه أخبث النيات، وأشنع الأعمال اللادينية، ويصفونه بأنه زوج همجي ومسىء لزوجته، ومضطهد ومستبد للأساقفة ورجال الدين، وملوث ومخرب للمعابد، وناهب للأموال والآنية المقدسة، وبأنه لم يتورع عن محاولة اغتيال الأمير الصبي (3).

(1) Sandoval: Historia de los Reyes de Castilla y de Leon

(2)

في تاريخه Florez: Historia de la Reinas Catolicas

(3)

M. Lafuente: Historia General de Espana، T. III، p. 215

ص: 487

- 2 -

لما توفيت الملكة أوراكا، أعلن ولدها ألفونسو ريمونديس ملكاً لقشتالة وليون وسائر الأراضي التي حكمها جده ألفونسو السادس، باسم ألفونسو السابع، وكان ألفونسو منذ وفاة جده، وفي حياة أمه ملكاً لجليقية حسبما تقدم. وكان هذا الملك الفتى الذي لم يجاوز الحادية والعشرين من عمره، قد نشأ وترعرع في غمار الخطوب والمحن التي توالت على المملكة أيام حكم والدته، وكان يشعر بكل ما يواجهه من تبعات خطيرة، وما يستلزمه ذلك من يقظة وحزم. وكان أشراف قشتالة وليون يشعرون ويشعر الشعب القشتالي نفسه، بأن تولى ألفونسو ريمونديس الملك يبشر بإنهاء عهد الاضطراب والفوضى، وقيام عهد جديد من السلام والرخاء.

على أنه كان واجباً قبل أن يتحقق هذا الأمل، في عود السكينة والسلام، أن يتحقق أمران، الأول أن تُسوى المسائل المعلقة بين قشتالة وأراجون، والثاني أن يتم إخضاع الأشراف والخوارج في بعض أنحاء المملكة بصورة نهائية.

فأما عن الأمر الأول، فإن ألفونسو ملك أراجون، كان ما يزال يتمسك ببقية من دعاويه القديمة، وكانت جنوده، ما تزال تحتل عدداً من الحصون داخل أراضي قشتالة. فلما توفيت أوراكا زوجه القديمة، وقام ولدها في الملك، أخذ يتطلع إلى مهاجمة قشتالة والمحافظة على ما بيده من حصونها، وأخذ ألفونسو ريمونديس من جانبه يتطلع إلى القضاء على دعاوي ملك أراجون، وتحرير أرض قشتالة من هذا الاحتلال، وأخذ كل من الملكين يتأهب لمقاومة خصيمه. وكان ملك أراجون هو البادىء بالعدوان، فنفذ بقواته إلى أراضي قشتالة حتى صار على مقربة من بالنسيا، وهنالك التقى بقوات قشتالة وكان يقودها الكونت دي لارا ولكن لم يقع بين الفريقين التحام ولا قتال. وسرعان ما تدخل بينهما الأساقفة، وعقدت الهدنة، تعهد ملك أراجون بأن يسلم الحصون التي تحتلها قواته في مهلة معينة، ثم عاد إلى أراضيه (1127 م).

ولكن ملك أراجون لم ينفذ ما وعد به، ولم يمض عامان آخران حتى عاد إلى غزو قشتالة. وسار ألفونسو ريمونديس في قواته إلى لقائه. والتقى الجيشان على مقربة من " ألماسان ". وهنا تدخل الأساقفة مرة أخرى، وتكرر السعي القديم في عقد الهدنة، وكان التعهد هذه المرة من جانب ملك قشتالة، في أن يرد إلى المحارب الحصون التي كانت له في قشتالة.

ص: 488

على أن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً، ولم يمض سوى قليل، حتى عاد النزاع، وعاد لقاء الفريقين في ميدان الحرب، واستولى ملك قشتالة في تلك الحملة على قلعة كاسترو شريش، وهي أهم القلاع التي كان يحتلها أنصار ملك أراجون، واستمر هذا الصدام وقتاً، وكلما هم الفريقان بالاشتباك، هرع الأساقفة بالتدخل ودعوا إلى حقن دماء النصارى، وتحويل الحرب إلى وجهة أخرى هي محاربة المسلمين. وأخيراً وفق الأحبار في جهودهم، وعقدت بين الملكين هدنة، نزل بمقتضاها ملك أراجون عن سائر الحصون التي كانت له في قشتالة، ونزل ألفونسو ريمونديس نظير ذلك عن ولاية " ريوخا " التي كانت من قبل من أراضي نافارا، وانتزعها منها ألفونسو السادس (سنة 1130 م).

وشغل ألفونسو المحارب من ذلك الحين أولا بحرب صغيرة نشبت فيما وراء البرنيه بين بعض الأمراء الفرنسيين. والظاهر أن ألفونسو تدخل في هذه الحرب ليحمي بعض الكونتات من أتباعه في ولايتي بيارن وبجور، من بعض خصومهم من أمراء الشمال، ومن ثم فقد حاصر ألفونسو مدينة بيونة واستولى عليها (سنة 1131). ثم شغل بعد ذلك بمحاربة الأمراء المسلمين في طرطوشة ومكناسة وإفراغة، وفي موقعة إفراغة كانت هزيمته الساحقة، ثم مصرعه في يوليه سنة 1134 م، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.

وأما الأمر الثاني الذي شغل به ألفونسو ريمونديس في مستهل حكمه، فهو القضاء على سلطان الأشراف الخوارج وثوراتهم التي توالت منذ عهد أمه أوراكا.

وكان أشد الخوارج بأساً في قشتالة أسرة لارا، التي كانت تناهض العرش أحياناً، وأحياناً تعضده بقواتها وثرائها، ونفوذها البالغ. وكان عميدها بيدرو جونثالث دي لارا عشيق الملكة أوراكا أو زوجها السري، وأخوه ردريجو، وكان ألفونسو ريمونديس قد استطاع من قبل أن يقبض على عشيق أمه، وأن يعتقله، ولكنه فر إلى قطلونية، ثم عاد إلى قشتالة عقب موت أوراكا، واستطاع أن يستولي على بالنسيا بمعاونة ملك أراجون، فبادر ألفونسو بالسير إلى بالنسيا، واستولى عليها، وقبض على الأشراف الثائرين، وفي مقدمتهم الكونت بيدرو دي لارا، ولكن أخاه ردريجو تمكن من الفرار إلى منطقة الأسترياس (أشتوريش).

وأفرج ألفونسو بعد ذلك عن الكونت بيدرو، فغادر قشتالة مرة أخرى، إلى أراجون، شاعراً بأنه فقد كل مكانته ونفوذه السابق، واشترك مع ملك أراجون

ص: 489

في حملته إلى بيونة، وقتل أمام أسوارها. أما أخوه الكونت ردريجو، فقد طارده ألفونسو، وضيق عليه، حتى أذعن إلى طلب الأمان والعفو، وأقسم أنه سوف يلتزم منتهى الولاء والإخلاص، فعفا عنه ألفونسو وعينه حاكماً لطليطلة، وأبدى الكونت غيرة في خدمة العرش. وتتبع ألفونسو في نفس الوقت باقي الأشراف الثائرين فأخضعهم، واحتل حصونهم تباعاً، وأبدى في معاملتهم إغضاء ورفقاً. وبذلك استطاع أن يحقق السكينة والسلام في ربوع قشتالة.

ولم يبق أمام ألفونسو لاستكمال سلطانه، سوى استرداد الأراضي والحصون التي انتزعتها خالته دونيا تريسا ملكة البرتغال، وكانت ما تزال متمسكة بما اقتطعته من أراضي جليقية وحصونها، بل كانت تحاول الاستيلاء على أرض أخرى، وكانت عندئذ قد وثقت علاقتها الغرامية بالكونت فرناندو بيرث ولد الكونت دي ترافا مؤدب ألفونسو السابق، وأضحت هذه العلائق فضيحة ملكية على نحو ما كانت علائق الملكة أوراكا بخليلها الكونت دي لارا، وكان لها أسوأ الأثر. فسار ألفونسو ريمونديس في قواته ومعه خلمريث مطران شنت ياقب، ونفذ إلى أراضي جليقية والبرتغال، وقضى على كل مقاومة ومعارضة، سواء من جانب أشراف جليقية أو من جانب قوات تريسا. وكان البرتغاليون ينقمون على ملكتهم تهورها واستهتارها، وتركها أمور المملكة لخليلها الكونت بيريث، ويطالبون بتقديم ولدها الأمير الصبي ألفونسو هنريكيز. ولما آنس القواد البرتغاليون ضعفهم، وحرج مركزهم أمام ضغط ملك قشتالة، أعلنوا باسم ألفونسو هنريكيز، أنهم يعتبرون البرتغال مستظلة بحماية ليون، ومليكها ألفونسو ريمونديس، وهكذا عاد ألفونسو ريمونديس ظافراً، بعد أن قضى على مشاريع خالته تريسا العدوانية.

وكان ألفونسو ريمونديس قد تزوج أثناء ذلك من دونيا برنجيلا، ابنة رامون برنجير الثالث أمير برشلونة (سنة 1128 م)، وكان هذا الزواج عاملا في توثيق علائق المودة والتحالف بين قشتالة وإمارة برشلونة، واستطاعت هذه الأميرة الحسناء الموهوبة، أن تحرز برقتها وذكائها في بلاط قشتالة، أعظم نفوذ، وأن تغدو لزوجها الملك الشاب مستشاره الأول، يصغي إلى نصحها في سائر شئون المملكة والحكم، معتمداً في ذلك على ذكائها وحسن إدراكها للأمور (1).

وفي سنة 1133 م، قام ألفونسو بإخضاع بعض ثورات محلية في منطقة

(1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 247

ص: 490

الأسترياس، وفي خلال هذه الحملة، علق بحب فتاة حسناء تدعى كونترودا هي ابنة الكونت بيدرو دياث، وأعقب منها فيما بعد ابنة سميت أوراكا، عهد بتربيتها إلى أخته دونيا سانشا. وهكذا غدت هذه المغامرات الغرامية الملوكية تقليداً راسخاً في بلاط قشتالة في هذا العصر.

وفي خلال ذلك لم ينس ألفونسو ريمونديس مهمته الأولى، كملك لقشتالة أولا، وعميد لملوك اسبانيا النصرانية ثانياً، وهي متابعة الحرب ضد اسبانيا المسلمة، وكانت هذه المهمة التي يحيطها ملوك قشتالة، بنوع من التقديس، قد تراخت نوعاً أيام والدته أوراكا، بسبب ما شغل قشتالة عندئذ من منازعات وحروب أهلية متوالية.

وشغلت الجيوش المرابطية من جانبها بمدافعة ألفونسو المحارب ملك أراجون، والاشتباك معه في معارك متوالية في شرقي الأندلس، وفي جنوبها، وفي الثغر الأعلى، وكان ملك أراجون، بعد وفاة ملك قشتالة القوي ألفونسو السادس، هو الذي يضطلع يومئذ بمهمة الصراع الذي تشهره اسبانيا النصرانية على اسبانيا المسلمة.

على أن ملك قشتالة الفتى ألفونسو ريمونديس، ما كاد يسوى نزاعه مع ملك أراجون، وما كاد يطمئن إلى استقرار السكينة والسلام في مملكته، حتى استدعى مجلساً في بالنسيا (كورتيس) لكي يبحث خطط الحرب ضد المسلمين (سنة 1130 م). وكانت الغزوات المرابطية، قد أخذت قبل ذلك بقليل تتوالى في أراضي قشتالة، ولاسيما مذ ولي الأمير تاشفين بن علي بن يوسف شئون الأندلس في سنة 522 هـ (1128 م). وقد فصلنا نحن من قبل تفاصيل الغزوات التي قام بها المرابطون يومئذ في أراضي قشتالة، والغزوات التي قام بها القشتاليون في أراضي الأندلس، فلا حاجة بنا إلى أنا نعود إلى ذكرها هنا. بيد أنه مما تجب ملاحظته أن هذه الفترة التي توالت فيها غزوات القشتاليين لأراضي الأندلس الوسطى، هي نفس الفترة التي اشتدت فيها وطاة ألفونسو المحارب ملك أراجون على شرقي الأندلس والثغر الأعلى. وقد سبق أن فصلنا كيف أحرز ألفونسو نصره على المرابطين في موقعة القلاعة جنوبي بلنسية في سنة 523 هـ (1129 م) وكيف غزا ألفونسو بعد ذلك أراضي بلنسية، وعاث فيها، ثم عاد فهاجم مكناسة من قواعد الثغر الأعلى، واستولى عليها في سنة 527 هـ (1133 م) ثم كان حصاره لإفراغة ونكبته تحت أسوارها، وموته على أثر تلك النكبة، وذلك في شهر يوليه سنة 1134 م (رمضان سنة 528 هـ).

ص: 491