المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

‌الفصل الثاني

الصراع بين المرابطين والموحدين

المرحلة الأولى

علي بن يوسف يرسل جيشاً لمحاربة المهدي. تحصن المهدي بجبل إيجليز. نزول الموحدين للقاء المرابطين. هزيمة المرابطين وفرارهم. أمير المسلمين يرسل جيشاً آخر لمحاربة الموحدين. هزيمة المرابطين للمرة الثانية، ثم للمرة الثالثة. أثر هذا الظفر في توطيد أمر المهدي وتقوية شيعته. المهدي يوجه رسالة إلى المرابطين. غزوات المهدي للمرابطين ثم للقبائل الخارجة. افتتاحه لجبال ْدرن. انتقاله من جبل إيجليز إلى تينملل. رواية عن استيطان المهدي لتينملل، وفتكه بقبيلة هزميرة. استعداد المهدي لمرحلة جديدة من الصراع ضد المرابطين. تمييزه لأصحابه عن يد محمد البشير. قصة البشير ومعجزاته المزعومة. بعث المهدي قواته لغزو المرابطين. غزوها لكيك وأغمات. هزيمة المرابطين في الموقعتين. حشد المهدي لسائر قواته. يعهد بقيادتها إلى محمد البشير وعبد المؤمن بن علي. زحف الموحدين على مراكش. تفاصيل عن المعارك التمهيدية بين الموحدين والمرابطين. استعداد علي ابن يوسف للدفاع. اللقاء الأول بين المرابطين والموحدين تحت أسوار مراكش. هزيمة المرابطين والتجاؤهم إلى داخل المدينة. حصار الموحدين لمراكش. اجتماع الحشود المرابطية من سائر الأنحاء. نشوب معركة جديدة بين الفريقين في بقعة البحيرة. هزيمة الموحدين وتمزيق قواتهم. مصرع قائدهم البشير ومعظم زملائه. انسحاب عبد المؤمن في فلوله، وفتك القوات المرابطية بها. ارتداد الموحدين إلى تينملل. فداحة النكبة التي أصابت الجيش الموحدي. الخلاف حول تاريخ معركة البحيرة. مرض المهدي ووفاته. صفاته وخلاله وأحكامه. سفكه للدماء. خداعه واستغلاله لسذاجة الجماهير. تصدي ابن خلدون للدفاع عن صفته ونسبه وعن صحة دعوته. بواعث هذا الدفاع، وما يتسم به من سقم وتناقض. مثل الداعية المخاتل الساعي إلى انتزاع السلطان. حكومة المهدي التيوقراطية. الإتفاق على خلافة عبد المؤمن. قبر المهدي في تينملل.

- 1 -

كان واضحاً، أن محمد بن تومرت أو المهدي حسبما نسميه منذ الآن، كان مذ شعر بتوطيد أمره، وتضخم أنصاره وجموعه، يتأهب لمحاربة المرابطين.

وهو قد أعلن ذلك لأنصاره " الموحدين " بالفعل مذ تمت بيعته وتسمى بالمهدي، وأخذ الموحدون في التأهب للحرب، بعد أن رتبهم المهدي، وجعل لكل عشرة منهم نقيباً. وسنرى فيما بعد كيف تنتظم الجيوش الموحدية وفق منهاج جديد، وتتخذ لها في الحروب خططاً مبتكرة، كانت من أهم أسباب ظفرها.

وقد رأينا فيما تقدم، كيف اضطر أمير المسلمين علي بن يوسف أن يعبر

ص: 177

البحر إلى الأندلس في أوائل سنة 515 هـ، حينما سمع بأمر الفتنة التي حدثت بقرطبة، وكيف أنه لم يمكث عندئذ طويلا بالأندلس، ولم يضطلع بأية أعمال أو غزوات جديدة، لما بلغه من تفاقم حركة ابن تومرت في بلاد السوس، وكان قبل ذلك بأشهر قلائل فقط قد سرحه، عقب المناظرة التي وقعت بينه وبين الفقهاء، واكتفى بإبعاده عن حاضرته مراكش، فسار ابن تومرت إلى بلاد السوس، وهنالك كشف عن حقيقة نياته ومشاريعه البعيدة المدى.

ولما عاد أمير المسلمين إلى مراكش حاول أن يستدرك ما فاته، وأن يدبر أمر القبض على ابن تومرت، ولكن الأمر كان أخطر من ذلك وأعظم، ولم يكن أمامه سوى محاربة الرجل، الذي تحول في فترة قصيرة من فقيه متواضع يدعو إلى تغيير المنكر، إلى داعية سياسي خطر، يتشح بثوب الإمامة المهدية، ويجمع تحت لوائه قوى جرارة.

فبعث لقتاله والي السوس أبا بكر بن محمد اللمتوني، وقيل إبراهيم بن تيعشت في جيش من الأجناد والحشم، فقصد إلى السوس الأقصى، وكان المهدي قد صعد عندئذ إلى جبل إيجليز من شعب جبال المصامدة، وتحصن فيه مع أنصاره، وكان لهذا الجبل طريق واحد ضيق وعر لا يستطيع أن يسلكه سوى فارس واحد، وتصعب مهاجمته على أية قوة محاربة، فلما قدم المرابطون نزلوا في شرقي الجبل بمكان وعر، فخرج المهدي من معقله، وعقد مجلساً لأصحابه ووعظهم، وقال لهم: أنظروا إلى أعدائكم، واعلموا أن كل ما جاءوا به من خيل وعدة، إنما هو هدية من الله تعالى لكم، على غربتكم وفقركم، فأعطاكم وأغناكم. ثم جهز لقتالهم جيشاً من أنصاره من أهل هرغة وهنتانة وتينملل، وزوده بالأعلام البيض، وندب لقيادته محمداً البشير الوانشريشي أحد أصحابه العشرة، فنزل الموحدون من الجبل، وما كاد اللقاء يقع بين الجيشين حتى هزم المرابطون وركنوا إلى الفرار، واستولى الموحدون على أسلابهم من الخيل والسلاح، وطاردوهم حتى مدينة مراكش، ووقع هذا النصر الأول لجيوش المهدي، في شهر شعبان سنة 516 هـ (أغسطس سنة 1123 م)(1).

وكان لهذا النصر أثر بالغ في ذيوع أمر المهدي، وتضاعف صيته، وتضخم

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 37 أ)، والحلل الموشية ص 80، وروض القرطاس ص 114، وابن خلدون ج 6 ص 228.

ص: 178

شيعته، وكان له بالأخص أثره في تقوية الروح المعنوية لدى جموع الموحدين.

وبادر علي بن يوسف فجهز جيشاً آخر، أضخم عدة وعدداً، وسيره تحت إمرة الأمير أبى إبراهيم إسحاق، وكان الموحدون قد كثر جمعهم، وقويت نفوسهم، وتزودوا بما غنموه من المرابطين من الخيل والسلاح. فلما التقى الجمعان للمرة الثانية سرى إلى الحشم والجند المرابطين رعب مفاجىء، وانهزموا أمام الموحدين دون قتال، وقتل منهم عدد وافر، واستولى الموحدون على محلتهم، وسائر عُددهم، وكان لهذه الهزيمة الثانية أسوأ وقع في نفس علي بن يوسف، فجهز على الأثر جيشاً عظيماً ثالثاً، وعهد بقيادته إلى الأمير سير بن مزدلي اللمتوني، فلم يكن في قتال الموحدين أسعد حظاً من سابقيه، فأصيب كذلك بهزيمة شديدة وقتلت من جنده جملة وافرة، وكانت نكبة جديدة للمرابطين.

وبدا عندئذ، لعليّ بن يوسف على ضوء هذه الهزائم المتوالية لجيوشه، أن المسألة ليست فتنة محلية، وأن المهدي لم يكن ثائراً عادياً، بل إن الأمر أجل من من ذلك وأخطر، وأن محاربة الموحدين أضحت بالنسبة للدولة المرابطية، معركة حياة أو موت. وشعر المهدي من جهة أخرى أنه أضحى من حيث توطد أمره، ووفرة حشوده، وروح شيعته المعنوية، التي أذكاها الظفر، ندًّا قوياً للمرابطين، وأنه يسير قدماً في هزيمتهم وتحطيم دولتهم، وأنه لن يمضي سوى القليل، حتى ينزعهم سلطانهم، ويقيم دولته الموحدية الجديدة على أنقاض دولتهم، وكان من أثر هذه الثقة بالظفر النهائي، أن وجه المهدي إلى المرابطين، رسالة يدعوهم فيها إلى طاعته، وينذرهم فيها بسحقهم إذا لم يستجيبوا. وإليك نص هذه الرسالة التي يوردها لنا صاحب الحلل الموشية:" إلى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمن، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية، لمتونة، أما بعد، قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأن الدنيا مخلوقة للفناء، والجنة لمن اتقى، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن أديتموها كنتم في عافية، وإلا فنستعين بالله على قتالكم حتى نمحو آثاركم، ونكدر دياركم، ويرجع العامر خالياً، والجديد بالياً، وكتابنا هذا إليكم إعذار وإنذار، وقد أعذر من أنذر، والسلام عليكم، سلام السنة، لا سلام الرضى "(1).

(1) الحلل الموشية ص 81.

ص: 179

وقعت هذه المرحلة الأولى من الصراع بين الموحدين والمرابطين في سنة 516 هـ (1122 م) وربما كذلك في سنة 517 هـ. وقد ذكر لنا أبو بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، وقد كان حسبما يقرر لنا من حشم المهدي وخاصته، في روايته في باب غزوات المهدي، أو المعصوم كما يسميه، أن هذه الغزوات الأولى بلغت تسع غزوات متوالية كانت كلها ضد المرابطين، إلا واحدة منها، وهي الغزوة السابعة، فقد كانت لقبيلة هسكورة، وكان من أبرز الوقائع في مقاتلة المرابطين واقعتان، الأولى نشبت بين المرابطين أو الحشم حسبما ينعتهم ابن القطان، وبين الموحدين في بلدة تادرارت، وكانت معركة عنيفة هزم فيها الموحدون، وفني معظمهم أو قتلوا جميعاً حسبما يروى ابن القطان. ونشبت الموقعة الثانية في آنسا، وكانت الدائرة في هذه المعركة على الموحدين، فقتلت منهم جملة كبيرة. أما غزوة هَسْكورة، فلأنها كانت من القبائل المتخلفة عن بيعة المهدي، والاعتراف بطاعته، وفي هذه الغزوة اشترك المهدي بنفسه في القتال، وأصيب بجراح، وأسرع أنصاره بحمله وإنقاذه (1). والواقع أن المهدي لم يقتصر في بداية أمره على مقارعة المرابطين أو لمتونة، ولكنه شغل في نفس الوقت بمحاربة القبائل المجاورة المتخلفة عن بيعته وطاعته، مثل هسكورة، ورَجراجة، وهزرجة، وغجرامة، وكثير من بطون المصامدة، وكان بعض هذه القبائل مثل هزرجة وهسكورة من حلفاء لمتونة، فكان المهدي يشتد في قتالهم ويرغمهم على الطاعة قبيلة بعد أخرى، حتى دانت له سائر القبائل الخارجة، من المصامدة ومن غيرهم (2)، وجاز المهدي بعد ذلك إلى جبال دَرَن، فاحتوى على سائر بلادها ومحلاتها من بلدة تامبوت إلى ماغوصة إلى جنفيسة، تم جاز إلى تادرارت حيث وقعت هزيمة الموحدين الأولى، فأغار عليها الموحدون وقتلوا أهلها قتلا ذريعاً. وأنفق المهدي في تلك الحروب والغزوات المحلية زهاء ثلاثة أعوام، من سنة 516 إلى سنة 518 هـ (1122 - 1124 م)، وبذلك استطاع أن يبسط سلطانه المطلق على منطقة السوس كلها.

وفي سنة 518 هـ، غادر المهدي جبل إيجليز بعد أن أقام فيه ثلاثة أعوام،

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 74 - 78، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 46 أ).

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 228، وروض القرطاس ص 115، والزركشي ص 4.

ص: 180

خريطة:

المغرب البلاد ومنازل القبائل عند بداية الدولة الموحدية.

ص: 181

وسار في صحبه إلى تينملّل، وهي محلة صغيرة من عمل هرغة تقع فوق ربوة عالية في سفح جبل دَرَن من شعب جبال الأطلس على قيد نحو مائة كيلومتر من جنوب غربي مراكش، فقسم أرضها وديارها على أصحابه، وابتنى بها حصناً في قمة الجبل يشرف عليها من عل، وابتنى كذلك داراً ومسجداً، وأدار حول وهداتها سوراً. وكان اختيار المهدي لهذه البلدة يرجع بالأخص إلى حصانة موقعها الفائق، وكان الوصول إليها من الغرب من طريق ضيق لا يتسع إلا لفارس واحد، ومن الشرق كذلك من طريق في بطن الجبل تحت راكبها حافات وفوقه حافات، والسير فيها خطر شاق. وهكذا استقر المهدي في تينملّل، وجعلها مقر رياسته، ومركز جهاده، وبذلك أضحى على مسافة قليلة من العاصمة المرابطية الكبرى (1).

ويقدم إلينا اليسع بن أبى اليسع عن استيطان المهدي لتينملل رواية، خلاصتها أن أهلها بعثوا إليه بطاعة قبيلتهم هزميرة الجبل، وأن سكناه لديهم أصلح له، وأقرب إلى بث دعوته، فسار إليهم، ونزل بتينملل، فأكرمه أهلها أيما إكرام، وأكدوا له خضوعهم وطاعتهم، وبايعوه، فرأى المهدي من كثرتهم وحصانة بلدهم ما راق لديه، وكان يخرج إلى الشريعة في خارجها، ويجلس على حجر مربع أمام المحراب، ويعظ الناس، فلاحظ أن قبيلة هزميرة يحضرون دائماً متقلدين سلاحهم. فسألهم يوماً لم تمسكون سلاحكم، وإخوانكم الموحدون لا يمسكونه؟ فتركوا حمل السلاح مدة. وكان المهدي قد توجس من كثرتهم وقوتهم، ونظر في أمرهم. فجاءوا ذات يوم إلى سماع الوعظ دون سلاح.

وكان الموحدون بالعكس قد تقلدوا سلاحهم، فانقضوا عليهم، وأوسعوهم قتلا، فقتلوا منهم في ذلك اليوم وفقاً لرواية اليسع نحو خمسة عشر ألف، وسبيت نساؤهم، ونهبت أموالهم، وقسمت أراضيهم بين الموحدين. ثم ابتنى المهدي سوراً حول تينملل، وأقام في قمة الجبل حصناً يكشف ما وراءه. وأخذ يبعث بقواته إلى الأماكن المجاورة من أراضي قبيلة تينملل أو هزميرة فيغيرون عليها، ويقتلون أهلها، ويسبون ويغنمون.

ووقعت هذه الحوادث كلها، حسبما يخبرنا ابن القطان في سنة 518 هـ (2)(1124 م)

(1) أتيح لي خلال إحدى زياراتي للمغرب أن أزور بلدة تينملل، وأن أتأمل موقعها الحصين في سفح جبال الأطلس، وهي اليوم بلدة صغيرة تحتوي على مساكن قليلة وأمامها مسجد المهدي وهو في حالة خربة، وعلى مقربة منه موضع تظلله الأشجار، قيل لنا إنه قبر المهدي.

(2)

ابن القطان عن اليسع، في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 46 ب و 47 أوب).

ص: 182

وأخذ المهدي بعد ذلك يتأهب للمرحلة التالية، وربما الحاسمة، في صراعه مع المرابطين. وكان قد اعتاد أن يسميهم " بالمجسمين ". وترجع هذه التسمية إلى حديث نقله إلينا أبو بكر الصنهاجي في كلامه عن الغزوة التاسعة، وذلك أن المهدي سأل أنصاره الموحدين في هذه الغزوة، وكان مشاركاً فيها، عما يقوله المرابطون عنهم، فقالوا إنهم لقبونا بالخوارج، فقال المهدي " سبقونا بالقبيح " لو كان خيراً أحجموا عنه، لقبوهم أنتم، فإن الله ذكر في كتابه:" فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه "

قولوا لهم أنتم أيضاً " المجسمون ". ومن ذلك الحين يطلق الموحدون على خصومهم المرابطين لقب المجسمين، ويشير إليهم المهدي في سائر كتاباته بهذا اللقب (1).

ورأى المهدي، استعداداً لهذا الصراع، أن يستوثق من ولاء أنصاره، فأمر أن ينادي في الجيش بدعوة الناس كافة، وندب أبا محمد البشير لتمييز الناس، فكان يخرج قوماً عن يمينه ويسميهم أهل الجنة، ويخرج آخرين عن يساره ويسميهم أهل النار، وهم الذين يشك في ولائهم، وفي اعتقادهم أن ابن تومرت هو المهدي المعلوم. ويقول لنا ابن القطان، إن البشير كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن ليس لهم إلا القتل فلا يفر منهم أحد، وكان إذا اجتمع منهم كثير قتلهم قراباتهم، وقتل الأب ابنه، والابن أباه والأخ أخاه، ولم تقل لنا الرواية، ماذا كان مقياس الولاء أو المروق في هذا التمييز، ولكن المفروض أنه انتهى بسحق المنافقين والمثبطين من صفوف الموحدين (2).

ولمحمد البشير هذا، وهو كما نذكر من أصحاب المهدي العشرة، قصة ذكرها لنا ابن القطان نقلا عن اليسع في أخبار سنة 519 هـ، وهي التي وقع فيها التمييز. وذلك أن البشير كان منذ البداية يتظاهر بالبله، ويلتزم الصمت والعزلة، وتأخذه سنات من النوم، ففي ذات يوم خرج المهدي إلى الناس، وقال لهم، أتعرفون البشير، فقالوا ومن هو؟ فقال لهم هو الونشريشي، وأنتم تعلمون أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وتعرفون أنه لايثبت على آية، ولكن الله قد جعله مبشراً لكم، مطلعاً على أسراركم، وهو من آيات الله تعالى في هذا الأمر. وكان المهدي

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 77، وراجع كتاب ابن تومرت مهدي الموحدين أو كتاب أعز ما يطلب ص 258.

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 50 أ)، ونقل هذه الرواية ابن عذارى (في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر هسبيرس ص 82)، وابن خلدون ج 6 ص 228.

ص: 183

قد عنى سراً بتحفيظ القرآن للبشير، فاستعرضه أمامهم، وقرأه عليهم في أربعة أيام، وركب أمامهم حصاناً فأتقن ركوبه، ثم قال لهم المهدي، إن البشير هذا مطلع على الأنفس محدث، وأنه يوجد إلى جانب الموحدين، أقوام منافقون، وقف البشير على دخيلتهم، وأنه لابد من النظر في أمورهم حتى يتم العدل (1).

وفي العامين التاليين، وقعت بين الموحدين والمرابطين بضعة معارك، يصعب استجلاء تفاصيلها. وكان علي بن يوسف قد بعث جيشاً ليحاول اقتحام تينملل معقل المهدي ففشل وهزم. وكانت خطة المهدي، أن يلتزم الدفاع في معاقله الجبلية الوعرة، وألا يهبط إلى السهل، ليحمل أعداءه المهاجمين أن يصعدوا إليه إذا شاءوا قتاله (2)، وكانت هذه الخطة تكبد المرابطين مشقات جمة، وكان الفشل مصيرهم دائماً كلما حاولوا القيام بدور الهجوم.

وفي سنة 520 هـ بدأ المهدي في تنفيذ خطته من الاضطلاع بالهجوم، وغزو لمتونة على نطاق واسع، فبعث جيشاً ضخماً من الموحدين بقيادة أبى محمد البشير، فغزا بهم أراضي كيك شمالي تينملل وغربي أغمات، فبعث علي بن يوسف لردهم جيشاً كبيراً حسن الأهبة، بقيادة أخيه الأمير أبى الطاهر تميم، فالتقى الجمعان على مقربة من جبل كيك، فوقعت الهزيمة على المرابطين، وجد الموحدون في مطاردتهم حتى جبل وريكة قبلي أغمات، فلقيتهم هناك قوات مرابطية جديدة بقيادة أبى بكر بن علي بن يوسف، وقيل بقيادة يطي اللمتوني، وجموع غفيرة من أهل أغمات وغيرهم، فانهزم المرابطون مرة أخرى، ووصل الموحدون في زحفهم إلى أسوار مراكش، ثم ارتد قائدهم البشير بقواته عائداً إلى الجبل، وأمر علي بن يوسف أن تسد جميع الطرق الصاعدة التي ينزل منها الموحدون من الجبال إلى السهل، حتى يعرقل بذلك نزولهم، ويتقي حرب المفاجأة التي درجوا عليها (3). وكان خلال الأعوام الثلاثة التي قضاها المهدي بجبل إيجليز قد عهد بحراسة طرق الجبل إلى الفلاكي الأندلسي، وهو مغامر وقاطع طريق من أهل إشبيلية، كان قد ذاع صيته، وتاب ودخل خدمة الأمير، فقام بمهمته خير قيام، وأقام

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 49 أوب).

(2)

أخبار المهدي ابن تومرت ص 75.

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر) وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 87)، وابن خلدون ج 6 ص 228.

ص: 184

سلسلة من الحصون سد بها ثغرات الجبل، ثم كان له بعد ذلك شأن سوف نعود إليه.

وكانت الحركة التالية أعظم المعارك التي اضطرمت بين الموحدين والمرابطين، وفيها وضع المهدي خطته لافتتاح مراكش والقضاء على الدولة المرابطية في عقر دارها. وكان المهدي قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه ونفوذه بين قبائل المصامدة.

ونفذت طاعته إلى أعماق تلك الهضاب، وبلغت جموعه أعظم حد من الكثرة والتوثب والظمأ إلى القتال، وكانت الانتصارات المتوالية التي أحرزتها جموع المهدي على المرابطين، تذكي من عزمه وثقته في بلوغ النصر النهائي. وعندئذ وجه المهدي رسالة بخطه قرئت على الموحدين في سائر النواحي، ووجهت بالأخص إلى جزولة ولمطة وهنكيسة ودرعة وصنهاجة القبلة وهسكورة القبلة. وسائر القبائل المجاورة، وفيها يستدعيهم ويأمرهم بالقدوم عليه، وكان المهدي إلى جانب تسميته للمرابطين بالملثمين والمجسمين، والحشم، قد أسبغ عليهم عندئذ اسماً جديداً هو " الزراجنة " وذلك تشبيهاً لهم بطائر يقال له الزرجان، وهو طائر أسود البطن أبيض الريش، لأنهم أي المرابطين " بيض الثياب وسود القلوب "(1).

وهرعت الجموع إلى المهدي من كل صوب، وهي في غاية الاستعداد والأهبة، واجتمع منها جيش عظيم قوامه نحو أربعين ألف مقاتل، منهم أربعمائة فارس فقط، والباقي من الرجالة، وقدم المهدي على هذا الجيش أبا محمد البشير أعظم قواده، وعبد المؤمن بن علي. وجعل عبد المؤمن إمام الصلاة، ولم يصحب المهدي جيشه الجرار في هذه الغزوة لمرضه، ونزل الموحدون من سفوح الجبال إلى السهول يقصدون إلى مدينة مراكش.

وهنا تضطرب الرواية أولا في تحديد تاريخ هذا الزحف الموحدي على العاصمة المرابطية، وثانياً في ترتيب الوقائع. فأما من حيث التاريخ فإن اليسع يضع تاريخ هذا الزحف في سنة 521 هـ (1127 م)، ولكن ابن القطان يعارضه، ويقول إنه في سنة 524 هـ وهي السنة التي توفي فيها المهدي، وأن هذا هو قول سائر المؤرخين.

ويقدم إلينا ابن القطان تفاصيل بعض المعارك الأولى التي وقعت قبيل نشوب المعركة العامة تحت أسوار مراكش، فيقول إن معركة وقعت بين الموحدين وبين المرابطين بقيادة أبي بكر بن يندوج بكيك هزم فيها المرابطون، واستولى الموحدون على سائر سلاحهم ومتاعهم. ثم تلتها معركة ثانية، وكان المرابطون في جيش ضخم

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره).

ص: 185

بقيادة بكو بن علي بن يوسف، ومعه يطي بن اسماعيل، وكان الموحدون بقيادة محمد البشير، ووقعت المعركة في الجروبة، فانهزم المرابطون، وسقطت محلاتهم ومتاعهم ودوابهم وسائر أسلابهم في أيدي الموحدين؛ ثم وقعت معركة ثالثة أمام أغمات، وكان المرابطون قد جمعوا أشتات قواتهم واستعدوا للقاء الموحدين من جديد، وانضمت إليهم حشود عظيمة من أهل أغمات. وكانت القوات الموحدية عندئذ بقيادة عبد المؤمن بن علي وأبى حفص عمر بن أصناج، وأبى عمران موسى بن تماري. فنشبت بين الفريقين معركة هائلة، هزم فيها المرابطون، وقتل منهم ومن أهل أغمات جموع غفيرة، واستولى الموحدون على سائر محلاتهم وعتادهم وسلاحهم (1). ثم زحف الموحدون على مراكش، ورابطوا تجاه باب الشريعة، وكان علي بن يوسف قد حشد في تلك الأثناء قواته، واستعد للقاء الموحدين أعظم استعداد، وبلغ الجيش المرابطي يومئذ زهاء مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وكان تحت إمرة الزبير بن علي بن يوسف. والتقى الجمعان في ظاهر مراكش، فكتب عبد المؤمن تنفيذاً لتوصية المهدي، إلى علي بن يوسف يدعوه إلى ما يدعوا إليه المهدي، من قمع البدع، وإحياء السنة، والمبادرة إلى بيعة المهدي، فرد عليه أمير المسلمين يحذره عاقبة مفارقة الجماعة، ويذكره الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة (2)، فلم يلتفت عبد المؤمن لتحذيره، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، هزم فيها المرابطون، وقتلت منهم جموع غفيرة، وهرعت فلولهم مرتدة إلى المدينة، فازدحموا على الأبواب في الدخول، ومات منها في الزحام خلق كثير، وفر علي بن يوسف إلى داخل المدينة من باب المخزن، وأغلقت المدينة أبوابها فاحتاط بها الموحدون وضربوا حولها الحصار.

واستمر حصار الموحدين لمراكش زهاء أربعين يوماً. وكان ما يزال بداخل المدينة جموع ضخمة من القوات المرابطية ومنها زهاء أربعين ألف فارس، وأعداد لا تحصى من الرجالة، وكان المرابطون يخرجون من وقت لآخر لقتال الموحدين، وتنشب بين الفريقين تحت الأسوار معارك طاحنة، يفنى فيها الكثير من الجانبين، وكان من أعنف ما وقع من هذه المعارك، معركة هزم فيها المرابطون قبالة باب دُكّالة، وهلك منهم عدد جم خلال الزحام الهائل، الذي وقع عند دخولهم من هذا

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره).

(2)

المراكشي في المعجب ص 106 و 107.

ص: 186

خريطة:

أسوار مراكش وأبوابها في عهْد المرابطين.

ص: 187

الباب، وفرت منهم جموع لم يستطيعوا الدخول، حتى وصلوا إلى وادي أم الربيع، فلما عادوا بعد ذلك إلى المدينة أمر علي بن يوسف بحلق لحاهم، ومثل بهم ليكونوا عبرة لغيرهم (1).

وفي تلك الأثناء كان علي بن يوسف قد استنفر سائر أمراء لمتونة وولاتها وقادتها، لموافاته بحشودهم، فقدمت إليه الأمداد من سائر النواحي، ووافاه بالأخص جيش ضخم حسن الأهبة، قام بحشده والى سجلماسة وانودين بن سير. وخرج علي ابن يوسف في قواته من المدينة، وانضمت إليه الأمداد الزاخرة، وتولى قيادة الجيوش المرابطية الشيخ أبو محمد وانودين بن سير. وكان الموحدون منذ بدء الحصار، قد ضربوا محلتهم خارج المدينة تجاه باب الدباغين وباب إيلان أمام بستان كبير، والبستان في اللغة المحلية يسمى بالبحيرة، ومن ثم فقد سميت المعركة التي تلت بموقعة البحيرة (2). ففي ظاهر تلك البقعة وقعت بين المرابطين والموحدين أعظم معركة نشبت في ذلك الصراع المروع، وكان المرابطون يتفوقون على الموحدين بكثرتهم تفوقاً ظاهراً، وكان الموحدون من جهة أخرى، قد أرهقتهم المعارك المتوالية التي اضطروا إلى خوضها خلال الحصار. وبدأ القتال بمعركة محلية نشبت بين جيش سجلماسة وحرس الأمير النصراني، وبين قوة من الموحدين، فهزم الموحدون في هذه الجولة الأولى، وكان لهذا النصر أثره في إذكاء روح المرابطين المعنوية، والتدليل على أن الموحدين ليسوا من المنعة كما بدوا في المعارك الأولى. ثم نشبت بين الفريقين معركة عامة، قاتل فيها الموحدون بشجاعة فائقة، ولكن المرابطين فضلا عن كثرتهم، كانت تحدوهم عندئذ، روح مضطرمة من التوثب والظمأ إلى الانتقام، فقاتلوا بشدة رائعة، حتى رجحت كفتهم وأصيب الموحدون بهزيمة شنيعة، وقتلت منهم جموع غفيرة يقدرها ابن القطان بأربعين ألفاً، ويقول إنه لم يسلم من الموحدين إلا أربعمائة بين فارس وراجل (3)، بل قيل بأن الجيش الموحدي، قد فني عن آخره ولم تبق منه سوى فلول يسيرة (4)، وسقط

(1) ابن عذارى عن ابن القطان في (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر هسبيرس ص 88).

(2)

ابن الأثير ج 10 ص 205.

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 50 أ). وراجع ابن عذارى (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 93).

(4)

الحلل الموشية ص 85، وهو أيضاً قول عبد الملك بن صاحب الصلاة مؤرخ الموحدين (أورده صاحب الحلل ص 86).

ص: 188

في الميدان أبو محمد البشير أعظم قادة الموحدين، وسقط معه معظم الرؤساء والقادة ومن هؤلاء غير البشير، أربعة من أصحاب المهدي العشرة، سليمان بن مخلوف الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تمارى الكدميوي، وأبو يحيى بن يكيت، وأبو عبد الله محمد بن سليمان. ومما هو جدير بالذكر أن البشير لم يعثر له بأثر، ولم توجد جثته، فذاع بين المتعصبين من المصامدة أنه رفع إلى السماء (1). ولكن الحقيقة هي أن عبد المؤمن بادر بدفنه في مكان سقوطه. ولم ينقذ البقية اليسيرة الباقية من الموحدين سوى دخول الليل وهطل الأمطار، فارتد قائدهم عبد المؤمن، وهو جريح قد أصيب في فخذه، في فلوله تحت جنح الظلام، متجهاً صوب أغمات، فطارده المرابطون، حتى أرض هيلانة، وهناك وقعت بينهما معركة أخرى، قاتل فيها الموحدون بشجاعة اليأس، ولكنهم هزموا مرة أخرى، وقتل منهم عدد جم يقدره ابن القطان بنحو اثني عشر ألفاً، وكان الموحدون قد عادوا فجمعوا أشتات قواتهم، وأوعبوا في الحشد. وارتد المرابطون بعد ذلك إلى مراكش، وسارت فلول الموحدين إلى تينملل. ويضع ابن القطان تاريخ هذه الهزيمة الساحقة للموحدين في يوم السبت الثاني من جمادى الأولى سنة 524 هـ (11 أبريل سنة 1130 م.

وكان المهدي ابن تومرت عندئذ مريضاً، فلما وقف على أخبار النكبة التي أصابت جيشه، سأل هل " عبد المؤمن في الحياة "، ولما أجيب بالإيجاب، قال " الحمد لله قد بقي أمركم ". ويقول لنا أبو بكر الصنهاجي إنه هو الذي تولى إبلاغ المهدي نبأ نجاة عبد المؤمن، وينقل لنا عبارات المهدي بألفاظها (2).

وهكذا أحرز المرابطون نصرهم الساحق على الموحدين، بعد أن منوا قبل ذلك بسلسلة من الهزائم المتوالية، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة أن هزائم المرابطين بلغت قبل موقعة البحيرة نحو أربعين هزيمة، وأن المهدي اشترك في أربع من هذه الغزوات الظافرة، كما يذكر لنا أن الموحدين في موقعة البحيرة " قتلوا أجمعين، ولم ينج منهم إلا نفر يسير ". وعذا القول من مؤرخ الموحدين، يدلنا على فداحة النكبة التي نزلت بجيوش المهدي، في تلك الموقعة الهائلة. ولكن سوف نرى أن إحراز المرابطين لهذا النصر لم ينجهم من قدرهم المحتوم، وأن ما وضعه المهدي

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 28.

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 79.

ص: 189

من الأمل والثقة في طالع تلميذه وزعيم أصحابه، عبد المؤمن بن علي، كان ينم عن تنبؤ صادق وفراسة دقيقة (1).

وقد سبق أن أشرنا إلى ما هنالك من خلاف حول تاريخ موقعة البحيرة، فإن اليسع يضع تاريخها في سنة 521 هـ، ويضعه ابن القطان في سنة 524، ويضع ابن خلدون تاريخها في سنة 522، ويقول لنا ان وقوعها كان لأربعة أشهر قبل وفاة المهدي، وهو يتفق بعد ذلك مع نفسه فيقول لنا إن المهدي توفي في نفس العام أي في سنة 522 هـ (2). ولكنه لما كان من المتفق عليه أن هزيمة الموحدين وقعت قبيل وفاة المهدي بأشهر قلائل، فإن هذه الرواية لا يمكن الأخذ بها، إذ أن المعول عليه أيضاً، هو أن المهدي توفي في سنة 524 هـ.

ولدينا إلى جانب رواية ابن القطان رواية موحدية قاطعة، تضع تاريخ المعركة في سنة 524 هـ، هي رواية أبى بكر الصنهاجي أحد أصحاب المهدي الذين شهدوا الموقعة (3). ويأخذ بهذه الرواية ابن الأثير (4) وصاحب روض القرطاس (5)، والزركشي (6). وأما عن وفاة المهدي، فإن المتفق عليه، أنه كان مريضاً وقت موقعة البحيرة، وأن مرضه اشتد بعد وقوع الهزيمة، ولم يعش طويلا أو لم يعش بعد ذلك سوى أيام قلائل. وليس أدل على ذلك من أن الموحدين يسمون العام الذي توفي فيه المهدي وهو عام 524 هـ بعام البحيرة (7). ويصف لنا أبو بكر الصنهاجي، وقد كان شاهد عيان، تصرفات المهدي الأخيرة، فيقول لنا إنه استدعى الموحدين، فحشروا كلهم، ثم وعظ الناس حتى أضحى النهار، ثم دخل الدار فغاب ساعة، ثم خرج حاسر الرأس، وقال للناس إنني مسافر عنكم سفراً بعيداً، فضج الناس بالبكاء وودعوه، ثم دخل داره، ولم يره أحد بعد ذلك.

(1) تراجع تفاصيل موقعة البحيرة في نظم الجمان لابن القطان (المخطوط السابق ذكره لوحة 40 أوما بعدها)، وابن الأثيرج 10 ص 205، والحلل الموشية ص 84 - 86، وابن خلدون ج 6 ص 228 و 229، وأخبار المهدي ابن تومرت ص 78 و 79، والمعجب ص 107.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 229.

(3)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 28.

(4)

ابن الأثير ج 10 ص 204.

(5)

روض القرطاس ص 116.

(6)

الزركشي في تاريخ الدولتين ص 4.

(7)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 42 أ) وابن خلكان ج 2 ص 52.

ص: 190

والمعول عليه أن المهدي توفي في شهر رمضان سنة 524 هـ (أغسطس سنة 1130 م)، ويقول لنا أبو بكر الصنهاجي إنه توفي يوم الأربعاء أو يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان سنة 524 هـ (1)، وتؤيد هذه الرواية رواية موحدية أخرى، هي رواية عبد الملك بن صاحب الصلاة مؤرخ الدولة الموحدية، مع خلاف يسير في يوم الوفاة، وهي أن المهدي توفي يوم الأربعاء الثالث عشر من رمضان سنة 524 هـ (2)، وقال ابن القطان، ويتابعه صاحب الحلل الموشية إنه توفي يوم الاثنين الرابع عشر من رمضان سنة 524 هـ (3). وكان عمر المهدي عند وفاته، على قول ابن القطان، نحواً من خمسين سنة (4)، وعلى قول ابن الأثير إحدى وخمسين سنة أو خمساً وخمسين سنة (5) مما يرد تاريخ مولده في الحالة الأولى إلى سنة 474 هـ، وفي الثانية إلى سنة 473 هـ، وفي الثالثة إلى سنة 469 هـ، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا الخلاف في تاريخ مولد المهدي.

وكان المهدي ابن تومرت من أعظم الدعاة الدينيين، وأغزرهم علماً، وأشدهم دهاء، وأقواهم نفساً، وأشدهم تأثيراً في النفوس. وكان إلى جانب ذكائه ودهائه، يتمتع بمنطق قوي، ومحاجة قاطعة، وذلاقة مؤثرة. وكان خطيباً مفوهاً، فصيحاً في العربية والبربرية معاً، يستميل الجموع برائع بيانه ووعظه. وكان متمكناً من علوم القرآن والسنة ومن الأصولين، أصول الفقه وأصول الدين، شديد التقشف والزهد والورع، لم يلبس قط سوى ثياب الصوف من قميص وسراويل وجبة، وقد يرتدي الثياب المرقعة، ولا يقبل على شىء من متاع الدنيا، حتى قيل إنه كان يقتات من غزل أخت له في كل يوم، رغيفاً بقليل من سمن أو زيت، ولم يتحول عن ذلك حينما سما شأنه وأقبلت عليه الدنيا (6). وكان

(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 83، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 42 أ).

(2)

أورده روض القرطاس ص 117.

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 42 أ)، والحلل الموشية ص 86.

(4)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 33 أ). ونقله ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة سالفة الذكر - هسبيرس ص 94).

(5)

ابن الأثير ج 10 ص 205.

(6)

ابن القطان عن ابن صاحب الصلاة (في نظم الجمان المخطوط السابق ذكره لوحة 45 أ)، وابن خلكان (عن المغرب) ج 2 ص 52.

ص: 191

ظهوره في ذلك المجتمع البربري الساذج، الذي اختاره مسرحاً لدعوته، والذي كان يخيم عليه الجهل المطبق، وتعصف به الخرافات والأساطير، يتسم بصفات الزعامة الخارقة أو النبوة، ومن ثم فقد ألفى ابن تومرت الطريق ممهداً ليعلن دعوته، وليتشح بثوب المهدي المنتظر، وينتحل صفة الإمام المعصوم، وقد كان ابن تومرت من بين دعاة المهدية، أوفرهم عزماً وبراعة، وأشدهم تأثيراً وسحراً.

وكان يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، ويخبرهم بأنه تعالى قد فرض عليهم الصلوات الخمس في يومهم وليلتهم، وفرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، ويأمرهم بقراءة القرآن وحفظه، ولزوم الأحزاب التي ألفها لهم بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، وأمر المؤذنين، إذا طلع الفجر، أن ينادوا " أصبح ولله الحمد " إشعاراً بلزوم الطاعة وحضور الجماعة، وللغدو لكل ما يؤمرون به، وفرض عقوبة المخالفين.

ولكن ابن تومرت إلى جانب هذه الصفات الخلابة، كان يتسم بطائفة من الصفات المثيرة، فقد كان شديد التعصب، صارم النفس، سفاكاً للدماء، غير متورع فيها ولا متحوط، يهون عليه سفك دم عالم من الناس في سبيل رأيه وبلوغ مقصده، لا تأخذه شفقة ولا رحمة في دماء خصومه، ويستحل سبي نسائهم وأولادهم ونهب أموالهم (1)، ويسبغ على هذا السفك المروع، صفة الشرعية، لما يزعمه من مخالفة خصومه لأحكام الكتاب والسنة، أو لمبدأ التوحيد الذي اتخذه شعاره. وقد رأينا فيما تقدم من مراحل صراعه مع خصومه أمثلة عديدة من هذا الإسراف المغرق في سفك الدماء، وربما كان فيما ذكر عن المهدي من أنه " كان حصوراً لا يأتي النساء "(2) ما يفسر بعض عوامل هذه القسوة المروعة، وهذا الظمأ إلى سفك الدماء.

ويلاحظ العلامة جولدسيهر بهذه المناسبة أن ابن تومرت كان يبث في أذهان أنصاره بتدرج غير محسوس، فكرة محاربة المرابطين، وأنه حينما كان في بداية أمره، يقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتبع ما يقضي به الدين من العمل على حقن الدماء، ولكنه منذ اتشح بصفة المهدي، أخذ يشهر الحرب،

(1) روض القرطاس ص 117.

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 14 ب و 33 أ)، ونقله ابن خلدون ج 6 ص 229.

ص: 192

ويدعو إلى سفك الدماء، ويقول إن المحاربين الذين يسقطون في هذه المعارك، إنما هم شهداء في سبيل الله (1).

كذلك تنوه الرواية بما جبل عليه ابن تومرت من الخداع والكيد والمكر، وكيف أنه لجأ إلى هذه الصفات في استهواء الجماهير وخداعها، واستغلال جهلها، وسذاجتها، حتى ذاعت دعوته، وتمكن أمره (2).

ومن الغريب الذي يلفت النظر في هذا الشأن موقف العلامة الفيلسوف ابن خلدون من ابن تومرت ودعوته، فهو يدافع عن المهدي، وعن صحة دعوته وصدق إمامته، في نبذة طويلة يقول فيها:

" ويلحق بهذه المقالات الفاسدة، والمذاهب الفائلة، ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين، ونسبته إلى الشعوذة، والتلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق، والنعي على أهل البغي قبله، وتكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك، حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت، وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه، ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه، فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم، ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي، مسموع القول، موطأ العقب، نفسوا عليه ذلك، وغضوا منه بالقدح في مذاهبه، والتكذيب لمدعياته، وأيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك لمتونة، أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم، لما كانوا عليه من السذاجة، وانتحال الديانة، فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة، والانتصاب للشورى كل في بلده، وعلى قدره في قومه، فأصبحوا بذلك شيعة لهم، وحرباً لعدوهم، ونقموا على المهدي، ما جاء به من خلافهم، والتثريب عليم، والمناصبة لهم، تشيعاً للمتونة، وتعصباً لدولتهم ". ثم يقول دفاعاً عن المهدي: " وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم، وخالف اجتهاده فقهاءهم، فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه، فاقتلع الدولة من أصولها، وجعل عاليها سافلها، أعظم ما كانت قوة، وأشد شوكة، وأعز أنصاراً وحامية، وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها، قد بايعوه على الموت، ووقوه بأنفسهم من الهلكة، فتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة،

(1) جولدسيهر في مقدمته الفرنسية السالفة الذكر لكتاب " أعز ما يطلب " ص 100.

(2)

روض القرطاس ص 114 و 117.

ص: 193

والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم، ودالت بالعدوتين من الدول، وهو بحالة من التقشف والحصر، والصبر على المكاره، والتقلل من الدنيا، حتى قبضه الله، وليس على شىء من الحظ والمتاع في دنياه .. فليت شعري، ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله. ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره، وانفسحت دعوته، سنة الله التي قد خلت في عباده " (1).

وابن خلدون يقدم إلينا هذا الدفاع عن المهدي في معرض كلامه عن أخطاء المؤرخين وأوهامهم ودعاويهم المغرضة. وهو يقدم إلينا منها نماذج، يصاحبه التوفيق في بعضها ويخطئه في البعض الآخر. ونحن نرى أن التوفيق قد أخطأه في هذا الدفاع عن المهدي ابن تومرت، وعن صدق دعوته. وقد استعرضنا فيما تقدم من حديثنا عن حياة المهدي، ما يحملنا على الشك أولا، في صدق انتسابه إلى آل البيت، وثانياً في انتحاله دعوة المهدية، وهي دعوة نشك أيضاً في صدقها من الناحية الدينية والتاريخية. ونحن نعتقد أن مفكراً عظيماً، ومؤرخاً فيلسوفاً، وضعي

العقلية، كابن خلدون، لا يمكن أن يؤمن بصدق هذه الدعوة، وإنما حمل ابن خلدون على الدفاع عن المهدي ودعوته، بواعث خاصة، أولها أن بني خلدون - أسرة المؤرخ - كانت مذ غادرت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري - قد نزلت بتونس، وعاشت في رعاية بني حفص ملوك الدولة الحفصية الموحدية التي أسسها الأمير أبو يحيى زكريا بن عبد الواحد بن أبى حفص عمر الموحدي، وتولى أجداد المؤرخ في ظلهم مناصب النفوذ والثقة، وبدأ هو حياته العامة في ظلهم، وعاش في كنفهم ردحاً من الزمن، وأهدى أول نسخة من مقدمته وتاريخه للسلطان أبى العباس الحفصي (سنة 784 هـ)، فلم يكن من المعقول أن يجاهر المؤرخ في مقدمته، بالطعن في إمامة المهدي ودعوته، وهي التي كانت أساساً لقيام الدولة الموحدية. وثانياً أنه ليس من المنطق السليم، أن يكون نجاح دعوة المهدي ابن تومرت، وما ترتب عليه من قيام الدولة الموحدية، دليلا على صدق هذه الدعوة، لأن النجاح السياسي والعسكري لداعية أو متغلب لم يكن قط في ذاته دليلا على صدق إمامة أو دعوة دينية، وثالثاً أن إنكار صدق دعوة المهدي ابن تومرت لم يكن قاصراً على الفقهاء المرابطين، الذين يعلل ابن خلدون طعنهم في هذه الدعوة بما كان يجيش في صدورهم من حقد على رجل يتفوق عليهم

(1) ابن خلدون - المقدمة (بولاق) ص 22.

ص: 194

بعلمه، ويغض بهذا التفوق من مكانتهم ونفوذهم القديم لدى الدولة اللمتونية، بل شمل هذا الإنكار كثيراً من المؤرخين.

ولا يكتفي ابن خلدون بالدفاع عن صحة دعوة المهدي، بل يقرن ذلك بالدفاع عن نسبه في آل البيت، وهو هنا في تدليله أضعف منطقاً، حينما يقول أنه لا دليل يعضد إنكار هذه النسبة، والناس مصدقون في أنسابهم. وهو إذ يشعر هنا بضعف منطقه، يقول لنا إن ظهور المهدي لم يكن يتوقف على نسبته، وإنما قام أمره بعصبيته القبلية في هرغة ومصمودة، وأن هذا النسب الفاطمي، كان أمراً خفياً عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم (1).

ويذكرنا موقف ابن خلدون في الدفاع عن دعوة المهدي ابن تومرت ونسبه، بموقفه عن نسب بني عبيد الخلفاء الفاطميين، فهو يتصدى لتأييده وإثباته، ويعتبر الطعن فيه من " الأخبار الواهية " التي عنى بتفنيدها في مقدمته، وأن هذا الطعن يرجع بالأخص إلى الأحاديث التي لفقت لبني العباس خصوم الفاطميين تزلفاً إليهم، ويعتمد هنا على نفس النظرية التي لجأ إليها في الدفاع عن دعوة المهدي، وهو أن ظهور الفاطميين، وقيام الدولة الفاطمية المترامية الأطراف، واتصال أمرها نحواً من مائتين وسبعين عاماً، كل ذلك لا يمكن أن يتم لدعيّ (2).

وهي طريقة معكوسة في التدليل، ونظرية واضحة الضعف والسقم، إذ كان على بن خلدون أن يقدم لنا الأدلة المباشرة، على صحة نسب الفاطميين لآل البيت، كما قدم خصومهم الأدلة على بطلان هذه النسبة.

وقد تناول كاتب مشرقي من كتاب النصف الأول من القرن الثامن الهجري هو الحسن بن عبد الله العباسي في كتابه " آثار الأول وترتيب الدول " مَثَل ابن تومرت وقصة ظهوره، في معرض الكلام عن الزهاد، والمغالطين باسم الزهد، والدعاة الذين يعمدون إلى الطعن في أحوال الملك، وإثارة الجماهير، وخطر تركهم، وأنه " ينبغي للملك أن ينظر في حالة هذه الطائفة، ويميز محقهم من مبطلهم، ويفرق بين الزاهد والمتزهد، وفيهم أصناف من أهل الغلط في طريق الزهد والمغالطة لأغراض أخر، منهم صنف يغلب عليهم محبة الرياسة والإمرة، ويتفق إعراض الملك عنهم وانقباضه لمخالفة طبعه لطباعهم "، وأن ذلك مما يحملهم على الطعن

(1) ابن خلدون في المقدمة ص 23.

(2)

ابن خلدون في المقدمة ص 17 و 18.

ص: 195

على أحوال المَلِك، وإهماله لضوابط الشريعة، ثم يجمعون حولهم الجموع، ويقصون عليهم من الأمور، " ما يحركون به عزائمهم لتغيير المنكر، ونصرة الحق، فإن أهمل الملك أمرهم عظم وتفاقم، وكان منهم خطر عظيم ".

ويعتبر هذا الكاتب مَثَل ابن تومرت، هو أقرب ما جرى في هذا المعنى، معنى الداعية المتزهد المخادع الذي يبطن انتزاع الرياسة، وأنه تذرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعه طائفة يسيرة، حتى اشتهر أمره، ولم يعن الملك بشأنه، ولم يدر بخلده أنه قد يغدو خطراً على ملكه، حتى كثرت جموعه واشتدت شوكته، وانتهى بالاستيلاء على البلاد وقيادة الجيوش (1).

وقد نجح المهدي في إقامة نوع من الحكومة الثيوقراطية (الدينية)، وكان الجماعة أو أصحابه العشرة الأوائل هم أعضاء وزارته، يبحث معهم جلائل الأمور، وعندئذ يخلو بهم ولا يحضر معه أحد سواهم. فإذا جرى البحث في أمور أقل أهمية، حضر الخمسون من الصحب في هيئة جمعية استشارية، وإذا جرى البحث في الشئون العادية حضر معهم السبعون. ومن جهة أخرى فقد ذكر لنا اليسع أسماء سبعة رجال، قال إنهم كانوا للمهدي رجال مشورته، وهم أبو سليمان من هرغة، وأبو الحسن، وأبو وزغيغ بن ياموهل بن ياوجان، وأبو دايور يغور ميوركن، من أهل تينملل؛ وقطران بن ماغليفة، وأبو محمد سكانة، وأبو عمران موسى بن واحمدين من أهل هنتانة (2).

واتخذ المهدي شعاراً لجيوشه علماً أبيض كتب على أحد وجهيه، " الواحد الله. محمد رسول الله. المهدي خليفة الله "، وكتب على الوجه الثاني " وما من إله إلا الله. وما توفيقي إلا بالله. وأفوض أمري إلى الله "(3).

وأما عن شخصه، فقد كان المهدي، حسبما تصفه الرواية، رجلا ربعة حسن التكوين، مفلج الثنايا، عظيم الهامة، أسمر مشوب بحمرة، غائر العينين، حديد البصر، أقنى، خفيف العارضين، له شامة سوداء في كفه الأيمن (4).

(1) كتاب " آثار الأول وترتيب الدول " المنشور على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي (القاهرة سنة 1305 هـ) ص 61 و 62.

(2)

هذا ما نقله إلينا ابن القطان عن اليسع في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 10 ب و 33 ب).

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط في لوحة 43 ب).

(4)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 14 ب)، وكذلك ابن خلكان ج 2 ص 52، وروض القرطاس ص 117.

ص: 196

صورة:

تينملل: محراب جامع المهدي ابن تومرت.

صورة:

تينملل: إحدى واجهات جامع المهدي وأمامها لفيف من قبيلة جندافة.

ص: 197

ولما توفي المهدي، كتم أصحابه الأقربون موته حيناً تختلف الرواية في مداه.

ويذهب ابن القطان، ويتابعه صاحب روض القرطاس، إلى أن هذا الكتمان استمر زهاء ثلاثة أعوام حتى سنة 527 هـ (1)، وهي رواية تحمل طابع المبالغة. وعلى أي حال، فقد كتمت وفاة المهدي حتى اتفق أصحابه على اختيار من يخلفه منهم، وقد كان هذا الخليفة الأول لدولة الموحدين هو عبد المؤمن بن علي، تلميذ المهدي وأحب أصحابه إليه، وكان أول ما عمله أن قام بمواراة المهدي في مثواه الأخير. ويقول لنا ابن القطان، وهو من أوثق مؤرخي الموحدين، إن المهدي دفن بتينملل دون تخصيص للمكان، ويقول لنا ابن خلدون إن عبد المؤمن قام بدفن المهدي في مسجده الملاصق لداره (2)، الكائن بتينملل. وقد أتيح لنا أن نزور تينملل، وأن نشهد مسجد المهدي. وتينملل اليوم محلة صغيرة (مدشر) تقع على سفح التل المنحدر إلى الوادي، وتظللها من الوراء البعيد آكام الأطلس العالية، ومن بينها قمة " طبوتقال " الشهيرة التي يزيد ارتفاعها على أربعة آلاف متر، وبها مساكن قليلة، ولا يعدو سكانها مائة من الأنفس، ولكنها مازالت تشتهر بكونها بلد المهدي ابن تومرت، وأما المسجد فهو قائم في سفح الجبل، وهو اليوم طلل دارس لا تقام فيه الشعائر، ولكن جدرانه وعقوده مازالت قائمة، وله محراب جميل.

ولم نجد به ضريح المهدي حسبما تشير إلى ذلك الرواية التاريخية.

بيد أنه توجد على قيد نحو ستين متراً من المسجد، بقعة صغيرة تظللها الأشجار، وتقع فوق ربوة منحدرة، فهذه البقعة تعينها الرواية المتواترة، وهي رواية قبيلة جندافة، التي تقطن هذه الناحية منذ أجيال، بأنها تضم رفات المهدي وبها قبره، وإن لم يك ثمة ما يدل على وجود قبر بها، ولا تميزها سوى بضعة أحجار زرقاء ظاهرة الرؤوس، يقال إنها شواهد القبر. وربما كانت هذه الرواية المتواترة في تعيين قبر المهدي، تتفق مع ما يقوله لنا ابن خلكان، من أن المهدي " قد دفن بالجبل، وان قبره هناك مشهور يزار "(3). وعلى أي حال فإن المتفق عليه هو أن المهدي يثوى ثواءه الأخير بتينملل مبعث دعوته، ومهد دولته، وذلك سواء داخل مسجده أو في بقعة قريبة منه.

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره)، وروض القرطاس ص 119، وابن خلدون ج 6 ص 229.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 229.

(3)

ابن خلكان ج 2 ص 52.

ص: 198