الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
ْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي
القسم الأول
المرابطون والحركة الفكرية. إزدهار التفكير الأندلسي أيام الطوائف، احتفاظه بنشاطه أيام المرابطين. رعاية الدولة المرابطية لكتاب الأندلس. استخدامهم في البلاط المرابطي. أبو بكر بن القصيرة. بنو القبطرنة. ابن عبدون. ابن الجد الفهري. أبو عبد الله بن أبى الخصال، أدبه ونثره وشعره. أبو جعفر بن عطية. ابن خاقان. ابن الصيرفي. أخيل بن إدريس. علي بن عبد العزيز الأنصاري. الحركة الفكرية في ظل المرابطين امتداد لها منذ الطوائف. العلماء والأدباء والشعراء في هذه الفترة. أبو عبد الرحمن بن طاهر. رسالة الكافية. مروان بن عبد العزيز وشعره. أبو جعفر الوقشي. تنويه ابن الأبار بمكانته. شىء من شعره. ابن الأزرق. علي بن أحمد الشلطيشي. على بن مسعود الخولاني. الأدباء المؤرخون. ابن بسام الشنتريني وكتابه الذخيرة. الحجارى صاحب المسهب. أبو محمد عبد الله الرشاطي. أبو عامر الطرطوشي. أبو بكر الشلبي. أبو القاسم بن بشكوال. بعض الشعراء المتخصصين. أحمد بن عبد الملك بن سعيد. محمد بن عبد الرحمن العقيلي. ابن سيد اللص. أمير الزجل أبو بكر بن قزمان.
لم يطل عهد المرابطين بالأندلس أكثر من نصف قرن، أنفق معظمه في أعمال الجهاد، ومدافعة النصارى. ولم تكن الدولة المرابطية، سواء بالمغرب أو الأندلس، سوى دولة دينية عسكرية قبل كل شىء، ولم تكن بطبيعتها البدوية الخشنة، تميل إلى الأخذ بأساليب التمدن الرفيعة، أو تتجه إلى رعاية العلوم والآداب، أو أن عهدها القصير لم يفسح لها مجالا للأخذ بمثل هذه الأساليب، وبذل مثل هذه الرعاية، ومن ثم فإنه يمكن القول، بأن الحركة الفكرية بالأندلس، لبثت خلال العهد المرابطي، في حالة ركود نسبي، ولم تحظ باندفاع خاص، أو بازدهار يلفت النظر، بل يمكن أن يقال أيضاً، إن ما عمدت إليه الحكومة المرابطية من مطاردة البحوث الكلامية والفلسفية، كان له أثره في صد الحركة الفكرية، وفي تأخرها.
بيد أنه يجب ألا ننسى، أن الحركة الفكرية بالأندلس، كانت في عهد دول الطوائف، وقبل مقدم المرابطين، تجوز حركة اندفاع قوي، وأن العلوم
والآداب قد ازدهرت في ظل قصور الطوائف، ورعاية ملوكها، ازدهاراً يدعوا إلى الإعجاب، وإذاً فقد كان من الطبيعي، أن يستمر هذا الاندفاع وقتاً آخر قبل أن يخبو، وأن تحتفظ الحركة الفكرية بقوتها مدى حين، وذلك بالرغم مما فقدته في ظل العهد الجديد - العهد المرابطي - من عوامل الرعاية والتشجيع، التي كانت تغذيها أيام الطوائف.
وهذا ما يمكن أن نفسر به تلك الظاهرة، وهي أن الحركة العلمية والأدبية بالأندلس، لبثت خلال العهد المرابطي، تحتفظ بكثير مما كان لها أيام الطوائف من قوة وحيوية، وأن النصف الأول من القرن السادس الهجري، وهو الذي يستغرق عهد المرابطين، يحفل بجمهرة كبيرة من رجال العلم والأدب، ومنهم بعض الأقطاب البارزين.
ثم إنه يجب ألاّ ننسى إلى جانب ذلك، أن الدولة المرابطية، قد بذلت رعايتها لطائفة كبيرة من العلماء والأدباء الأندلسيين، واستخدم بلاط مراكش، والأمراء والحكام المرابطون بالأندلس، كثيراً منهم في مناصب الوزارة والكتابة، أسوة بما كانت تجرى عليه قصور الطوائف من حشد أعلام التفكير والبلاغة بها، ليزدان بهم بلاط الأمير، وليكونوا لسانه البليغ في تدبيج الأوامر والمراسيم، وفي مخاطبة الكافة. بيد أنه مما تجب ملاحظته، هو أن الدولة المرابطية، إذا كانت في حاجة لأن تستخدم كتاب الأندلس البلغاء، للإعراب عن رغباتها ومخاطباتها، فإنها لم تكن تعني بأمر الشعر أو تقدره قدره، ولم يستهوها رنينه وروعته، اللهم إلا في أواخر عهدها، حيث بدأ الشعراء ينظمون مدائحهم لعلي بن يوسف وولده تاشفين، ومما يذكر في ذلك ما لاحظه الشقندي في رسالته عن يوسف بن تاشفين من أنه " لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه، ما أجروا له ذكراً، ولا رفعوا لملكه قدراً، وأنه حينما أنشده الشعراء مدائحهم سأله المعتمد أيعلم أمير المسلمين ما قالوه، قال لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخير "(1).
وسنحاول في هذا الفصل، أن نستعرض تلك الجمهرة من العلماء والأدباء الأندلسيين، الذين ظهروا في تلك الفترة القصيرة - فترة العصر المرابطي - ويأتي في مقدمة هؤلاء تلك الصفوة من الكتاب والأدباء، الذين ظهروا في أواخر عهد
(1) راجع رسالة الشقندى في فضائل الأندلس، وقد نشرها المقري في نفح الطيب (القاهرة، ج 2 ص 140).
الطوائف، واستدعتهم الدولة المرابطية لخدماتها، بعد أن زالت قصور الطوائف، وأصبحت الأندلس جزءاً من الإمبراطورية المرابطية الكبرى.
- 1 -
بدأ استخدام البلاط المرابطي للكتاب الأندلسيين، منذ عهد يوسف بن تاشفين ذاته، فكان كاتبه قبل أن يعبر إلى شبه الجزيرة، أديب أندلسي من أهل ألمرية، هو عبد الرحمن بن أسباط، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. فلما توفي سنة 487 هـ، وكان يوسف قد افتتح ممالك اطوائف يومئذ، خلفه في منصب الكتابة، كاتب من أعظم كتاب الأندلس يومئذ، هو محمد بن سليمان الكلاعي الإشبيلي، ويكنى أبا بكر، ويعرف بابن القصيرة. فكان مثوله في البلاط المرابطي بداية لاحتشاد أعلام الكتابة الأندلسيين للخدمة فيه. وكان ابن القصيرة من وزراء بني عباد وكتابهم، خدم المعتضد ثم ولده المعتمد، وحظى لديه حتى غدا في أواخر عهده أعظم وزرائه نفوذاً وسلطاناً. ولما تحرجت الأمور، واشتد ألفونسو السادس ملك قشتالة في إرهاق الطوائف، كان ابن القصيرة ضمن سفراء الأندلس، الذين وفدوا إلى المغرب، لطلب الإنجاد والغوث من يوسف بن تاشفين.
ولما استولى يوسف على دول الطوائف، اعتزل ابن القصيرة وقتاً حتى استدعاه يوسف لكتابته، حسبما تقدم. وكان ابن القصيرة كاتباً بليغاً مبدعاً، ويصفه ابن الصيرفي بقوله " الوزير الكاتب الناظم، الناثر، القائم بعمود الكتابة، والحامل للواء البلاغة، اجتمع له براعة النثر وجزالة النظم ". ويصفه ابن بشكوال في الصلة بأنه " كان من أهل الأدب البارع، والتفنن في أنواع العلم ". وقد انتهت إلينا من آثار ابن القصيرة المنثورة، قطع عديدة، منها أولا نص المرسوم الصادر عن يوسف ابن تاشفين بإسناد ولاية العهد لولده علي، وهو مدبج بقلمه، وقد أوردناه من قبل في موضعه، ورسائل مختلفة أوردها لنا صاحب القلائد، وهي جميعاً تدل على قوة أسلوبه، وروعة بيانه. وكان ابن القصيرة شاعراً جزلا في نفس الوقت، وقد أورد لنا ابن الخطيب من شعره قصيدة في هجو ابن ذى النون، ومدح ابن عباد حينما استولى على قرطبة. وتوفي ابن القصيرة في جمادى الآخرة سنة 508 هـ (1114 م)(1).
(1) راجع في ترجمة ابن القصيرة. الصلة لابن بشكوال (القاهرة) رقم 1253، وقلائد العقيان ص 104 - 106، والإحاطة في مخطوط الإسكوريال السالف ذكره لوحة 64 و 65.
واحتشد في البلاط المرابطي إلى جانب ابن القصيرة، عدة من أعلام الكتاب وأئمة البلاغة في ذلك العصر، منهم بنو القبطرنة وهم أبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، وأخواه أبو الحسن وأبو محمد، وقد كانوا من أهل بطليوس، ومن كتاب دولة بني الأفطس، وقد كتب ثلاثتهم بعد ذهابها عن أمير المسلمين علي ابن يوسف، وكانوا جميعاً من أكابر الكتاب والشعراء. وكان أبو بكر المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) فيما يبدو عميدهم في النباهة والبلاغة، أو حسبما يصفه ابن بسام " علم بردهم، وواسطة عقدهم ". وقد ذكرهم صاحب القلائد، وأورد لنا طرفاً من منظومهم ومنثورهم، وكذا ابن الخطيب في الإحاطة، وابن سعيد في المغرب (1).
ومنهم وزير بني الأفطس وكاتبهم وصاحب مرثيتهم الغراء، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، وقد سبق أن أتينا على ترجمته في " دول الطوائف "(2).
وأبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجَد الفهري، وهو من أهل لبلة، برع في الفقه والأدب، وسكن إشبيلية، وخدم في بداية أمره دولة بني عباد. ولما ذهبت دولتهم، تولى خطة الإفتاء بلبلة، نم استُدعى للكتابة في بلاط علي ابن يوسف، واستمر في منصبه حتى توفي في سنة 515 هـ. وقد أورد لنا صاحب القلائد طرفاً من نظمه ورسائله، ومنها رسالة عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة، بولاية الأمير يحيى بن أبى بكر الصحراوي لفاس وسبتة، ورسالة إلى أبى محمد عبد الله بن فاطمة والي إشبيلية، يدعوه فيها إلى التزام الحق واتباع العدل، والرفق بالرعية، ورسالة إلى أهل إشبيلية يحثهم فيها على نبذ الشقاق والتطاحن (3).
وكان منهم أخيراً، أبو عبد الله بن أبى الخصال، وأخوه أبو مروان عبد الملك. وأبو عبد الله هو محمد بن مسعود بن خلصة، ابن أبى الخصال الغافقي، أصله من كورة جيان من أهل شقورة، ولد في سنة 465 هـ، وسكن قرطبة وغرناطة، وبرع في الحديث وعلوم اللغة والسير، وبرع في الكتابة والنظم،
(1) راجع قلائد العقيان ص 148 - 155، والإحاطة (1956) ج 1 ص 528 - 531، والمغرب في حلى المغرب ج 1 ص 367 و 368.
(2)
راجع كتابنا دول الطوائف ص 411.
(3)
ترجم ابن بشكوال لابن الجد في الصلة (القاهرة) رقم 1267، وقلائد العقيان ص 109 - 115.
حتى نعت بإمام البلاغة، ووصفه ابن بشكوال بأنه " كان مفخرة وقته، وجمال جماعته ". وقال أبو القاسم الملاّحي لم يكن في عصره مثله. اتصل برجال الدولة اللمتونية، وتولى الوزارة والكتابة لعلي بن يوسف، وحظى لديه، حتى غدا أنبه كتابه، وأعلاهم مكانة، وآثرهم لديه، وكان يعاونه في ديوان الكتابة أخوه أبو مروان عبد الملك. وصدرت بقلم ابن أبى الخصال عن علي بن يوسف رسائل كثيرة في مختلف الأغراض، وانتهى إلينا الكثير منها، وهي تدل جميعاً على روعة أسلوبه وفيض بلاغته، واستمر على مكانه في البلاط المرابطي، حتى صدرت عنه بأمر علي بن يوسف رسالة موجهة إلى الجند المرابطين ببلنسية يلومهم فيها على تخاذلهم أمام العدو، فجاءت رسالة قاسية تفيض بالسباب المقذع، والطعن المهين (1)، فكانت سبباً في الوحشة بينه وبين الأمير، وترتب على ذلك أن استعفي أبو عبد الله من منصبه، فأعفاه علي بن يوسف، وعاد إلى قرطبة، ثم توفي بها بعد قليل في شهر ذي الحجة سنة 540 هـ (1146 م)، وتوفي أخوه عبد الملك قبله بمراكش في سنة 539 هـ (2).
وقد كتب أبو عبد الله بن أبى الخصال عدة مؤلفات قيمة منها كتاب " سراج الأدب " الذي صنفه على طريقة كتاب النوادر لأبى علي القالي، وزهر الآداب للحصري، وكتاب " ظل الغمامة وطوق الحمامة "، وهو في مناقب الصحابة.
وقصيدته الموسومة " بمعراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب " في نسب رسول الله. وجمعت رسائله في غير مجموع. وله أيضاً آثار شعرية كثيرة. وقد سبق أن أوردنا شيئاً من نظمه في مديح الأمير تاشفين (3).
(1) وردت هذه الرسالة في مجموعة الإسكوريال المخطوطة رقم 538 الغزيري، ونشر المراكشي في المعجب جزءاً منها (ص 98). ونشرها الدكتور حسين مؤنس كاملة في مجلة المعهد المصري بمدريد في العدد الثالث سنة 1955 ص 116 - 118.
(2)
راجع في ترجمة ابن أبى الخصال: الصلة لابن بشكوال (القاهرة) رقم 1294. والإحاطة مخطوط الإسكوريال السالف الذكر - لوحة 39، والمعجب ص 96، ونفح الطيب ج 2 ص 137، وكذلك P. Boigues: Historiadores y Geograficos Arabigo-Espanoles No 165
ونشر الدكتور محمود علي مكي عدة من رسائل ابن أبى الخصال الصادرة عن علي بن يوسف في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلدان السابع والثامن) ص 167 - 174.
(3)
أورد لنا ابن دحية في كتابه " المطرب من أشعار أهل المغرب " شيئاً من نظمه ص 187 - 189.
ومن شعره:
وافى وقد عظمت على ذنوبه
…
في غيبة قبحت بها آثاره
فمحى إساءته لنا إحسانه
…
واستغفرت لذنوبه أوتاره
وقوله يتشوق إلى قرطبة:
أسمت لهم بالغور والشمل جامع
…
بروقاً بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع
…
ورب غرام لم تنله المسامع
ويجب ألا ننسى، أنه كان يوجد إلى جانب هذه الصفوة من الكتاب
الأندلسيين، وزير وكاتب نابه من أصل أندلسي، ومن أعلام البلاغة وأئمة البيان في ذلك العصر، هو الوزير الكاتب، الناثر الشاعر، أبو جعفر أحمد بن عطية، الذي تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ خدم الدولة اللمتونية حتى سقوطها، ثم انتقل إلى خدمة الموحدين في الظروف التي شرحناها، حتى كانت نكبته على يد الخليفة عبد المؤمن بن علي.
وكتب عن أمراء الدولة اللمتونية أيضاً، كاتبان أندلسيان آخران هما أبو نصر الفتح بن خاقان، وابن الصيرفي. فأما الفتح بن خاقان، فهو إشبيلي من كتاب الطوائف الأعلام. وقد اشتهر بأسلوبه الأدبي البليغ المسجع، وهو الذي اتبعه في كتابيه " قلائد العقيان " و " مطمح الأنفس ". طاف في أول أمره بقصور الطوائف، واتصل بمعظم أمرائها. ثم خدم الأمير أبا إبراهيم أسحق بن يوسف بن تاشفين، أخا أمير المسلمين علي بن يوسف، وكتب له كتابيه " القلائد " مشتملا على تراجم أمراء الطوائف، وأعيان العصر وفقهائه وكتابه. وانتقل في أواخر حياته إلى مراكش وعاش بها، وكان خليعاً مدمناً، منحرف السلوك، فانتهى بأن توفي قتيلا في الفندق الذي يسكنه، وقيل إن الذي أشار بقتله هو علي بن يوسف (1).
وأما ابن الصيرفي، فهو يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الصيرفي. كان من أعلام العصر المرابطي في البلاغة والأدب والتاريخ، وكان من الكتاب المجيدين، والشعراء المطبوعين، كتب بغرناطة عن الأمير تاشفين بن علي، أيام أن كان والياً للأندلس، وألف في تاريخ الأندلس في العصر المرابطي كتاباً سماه " الأنوار الجلية في أخبار الدولة
(1) راجع ترجمة الفتح بن خاقان في ابن خلكان (ج 1 ص 515).
وكذلك: P. Boigues: ibid ; No 162
المربطية ". وكتاباً آخر سماه " قصص الأنباء وسياسة الرؤساء ". وهما مؤلفان لم يصلا إلينا مع الأسف. ولم يصلا إلينا من مؤلفه الأول سوى شذور نقلها المتأخرون، مثل ابن الخطيب وغيره، ومن ذلك روايته عن غزوة ألفونسو المحارب للأندلس، وهي واقعة كان من معاصريها وشهودها، وقد فصلنا حوادثها في موضعها. وتوفي ابن الصيرفي بغرناطة في سنة 570 هـ (1174 م)(1).
ومن الكتاب الذين اتصلوا بالدولة اللمتونية، وكتبوا عنها أخيل بن إدريس الرُّندي، الذي تتبعنا مصايره من قبل خلال حديثنا عن حوادث الثورة بالأندلس، فقد كتب في بداية حياته للمرابطين، ولما قام القاضي ابن حمدين بقرطبة تولى الكتابة عنه، ثم لحق ببلده رندة، واستبد بحكمها حيناً، فلما انتزعها منه ابن عزون صاحب شريش، عبر البحر إلى مراكش واتصل بحكومة الموحدين، ثم ولي بعد ذلك قضاء قرطبة، فقضاء إشبيلية، حيث توفي بها في سنة 560 هـ (1165 م). وكان أخيل كاتباً بليغاً وشاعراً مطبوعاً. وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من شعره (2).
وكان من هؤلاء الوزراء الكتاب أيضاً، علي بن عبد العزيز بن الإمام الأنصاري، وهو سرقسطي الأصل، سكن غرناطة، وكان من الكتاب المجيدين وأهل البلاغة والفصاحة. وزر للأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف أيام ولايته لغرناطة، ثم كتب من بعده لأخيه الأمير علي بن يوسف (3).
كان اجتماع هذه الصفوة الممتازة من كتاب الأندلس في البلاط المرابطي، ظاهرة تدلى بأن المرابطين لم تفتهم أهمية القيم العلمية والأدبية، وأهمية الأساليب البليغة العالية، في عرض مراسيم الدولة، وأوامرها، والإفصاح عن رغباتها، ووجهات نظرها، بيد أنها كانت رعاية محدودة المدى، مقصورة على المجال الرسمي، ولم تكن تسيرها تلك النزعة المستنيرة، التي تعتبر الحركة العلمية والأدبية، من المقومات الحيوية، لأمة عريقة متمدنة، كالأمة الأندلسية.
- 2 -
يمكننا أن نعتبر الحركة الفكرية والأدبية بالأندلس، في العصر المرابطي،
(1) ترجمة ابن الصيرفي في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 415.
وقد سبق أن نقلناها في ص 110 من هذا الكتاب (الحاشية).
(2)
راجع ترجمة أخيل بن إدريس في الحلة السيراء ص 222 - 224.
(3)
ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 331.
هي امتداد لها منذ أيام الطوائف. ومع ذلك فإن هذه الحركة لم تخل من بعض عناصر القوة، التي نبتت وتأثلت في العصر المرابطي ذاته. وقد يرجع ذلك إلى أن الضغط الذي عانته الحركة الفكرية من الحكم المرابطي، لم يكن شاملا، ولم يكن بالأخص طويل الأمد.
وبالرغم من أن الحركة الفكرية الأندلسية لم تصل خلال العصر المرابطي، إلى ذلك المدى من الازدهار والفخامة والتنوع، الذي بلغته في ظل دول الطوائف، فإنا نستطيع مع ذلك أن نستعرض إلى جانب هذه الجمهرة من أكابر الكتاب الذين خدموا في البلاط المرابطي، جمهرة كبيرة أخرى من العلماء والأدباء والشعراء الذين ظهروا في تلك الفترة، ومنهم بالفعل عبقريات فذة، يمكن أن تزهو بها أية حركة عقلية.
ولنبدأ بذكر أعلام الأدباء من كتاب وشعراء، ولدينا منهم ثبت حاشد.
فمنهم أولا، أميران من أمراء بلنسية، هما أبو عبد الرحمن بن طاهر القيسي، وأبو عبد الملك مروان بن عبد العزيز. وقد سبق أن أتينا على سيرة كل منهما في الحكم، وما تقلب فيه من أحداث السياسة. فأما أولهما أبو عبد الرحمن بن طاهر، فقد كان صنو جده أبى عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية أيام الطوائف، وأحد أمراء البيان المبرزين في عصره، كان صنوه في العلم والأدب، وفي سحر البيان وروعته، وكان إلى جانب ذلك شاعراً مطبوعاً. عاش بعد خلعه من الإمارة على يد ابن عياض، حيناً بمرسية، في عزلة مطبقة، وهو يشهد تطور الحوادث في شرقي الأندلس. ولما توفي محمد بن سعد بن مردنيش زعيم الشرق، وانهارت بوفاته جبهة الثورة ضد الموحدين، دخل ابن طاهر في الدعوة الموحدية، ثم عبر البحر إلى المغرب، واستقر بمراكش، وتوفي بها في سنة 574 هـ (1).
ومن آثاره النثرية، رسالة يخاطب بها الخليفة عبد المؤمن، ويحاول فيها أن يثبت أمر الإمام المهدي بالأدلة التاريخية والمنطقية. وقد وضعها على طريقة المساجلة بالدليل والبرهان، بين النفس المطمئنة المؤمنة الراضية، والنفس النزوعية الثائرة. وتحمل النفس المطمئنة خلال حديثها على عهد المرابطين، وتصفه بعهد الضلال والفسق، وتحاول أن تؤيد صدق قضية المهدي وشرعية إمامته، وصحيح نسبته إلى آل البيت. وقد اقتنعت النفس النزوعية الأمارة بالسوء في النهاية بصدق
(1) أورد لنا ابن الأبار في الحلة السيراء ترجمة ضافية لابن طاهر (ص 216 - 222).
تدليل خصيمتها النفس المطمئنة. ويختتم ابن طاهر رسالته، وهي المسماة "بالكافية " بمديح الخليفة عبد المؤمن والدعاء له، والإشادة بمآثره (1).
ومن نظمه قوله:
هجرت من الدنيا لذيذ نعيمها
…
لأنك لا ترضاه إلا مخلدا
وقضيتَ شهر الصوم بالنية التي
…
رقيتَ بها في رتبة القدس مصعدا
وودع عن شوق إليك مبرح
…
فلو كان ذا جفن لبات مسهدا
وأما مروان بن عبد العزيز، فقد كان فقيهاً عالماً وأديباً كبيراً، وشاعراً جزلا، وكان قبل توليه إمارة بلنسية، يلي قضاءها. وقد تتبعنا فيما تقدم أطوار حياته السياسية، ثم محنته بعد أن خُلع من الإمارة، وألقى إلى ظلام السجن أعواماً طوالا. وذكر لنا ابن الأبار أنه نظم في محنته قصيدة هذا مطلعها:
يا نفس دونك فاجزعي أو فاصبري
…
طلع الزمان بوجهه المتنمِّر
ولما أطلق سراحه بواسطة الوزير أبى جعفر بن عطية، وانتظم في مجلس الخليفة عبد المؤمن، نظم في حق الوزير المحسن إليه، وفي التحريض على نكبته، تلك القصيدة التي أوردناها فيما تقدم والتي مطلعها:
قل للإمام أطال الله مدته
…
قولا تبين لذي لب حقائقه
ومن شعره في وصف بلنسية:
كأن بلنسية كاعب
…
وملبسها السندس الأخضر
إذا جئتها سترت نفسها
…
بأكمامها فهي لا تظهر
وتوفي ابن عبد العزيز بمراكش سنة 578 هـ (1182 م).
وكان من الوزراء الأدباء الشعراء، أبو جعفر بن عبد الرحمن الوقشي (2)، وزير ابن هَمُشك وكاتبه ونائبه بمدينة جيان. وكان ابن همشك حينما هزم في موقعة السبيكة بأراضي غرناطة (سنة 557 هـ)، قد فر منسحباً إلى الشرق، وطارده الموحدون، وحاصروا مدينة جيّان، وكان بها الوزير الوقّشي فامتنع بها ودافع
(1) تسمى هذه الرسالة باسمها الكامل " الكافية في براهين الإمام المهدي رضى الله عنه تعالى عقلا ونقلا "، وقد أورد لنا ابن القطان نصها الكامل في " نظم الجمان " وهي تستغرق منه عدة صفحات (المخطوط لوحة 20 أإلى 30 ب).
(2)
راجع ترجمة مروان بن عبد العزيز في الحلة السيراء ص 212 - 216، والتكملة (القاهرة) رقم 1751. وراجع أيضاً المغرب من أشعار أهل المغرب ص 80 و 108.
عنها، حتى أقلع الموحدون عنها دون طائل. ولما وقع الشقاق بين ابن همشك، وبين حليفه وصهره محمد بن سعد بن مردنيش، ودخل ابن همشك في دعوة الموحدين (562 هـ)، بعث وزيره الوقشي إلى بلاط مراكش ليسعى في إنجاده ضد صهره. وينوه ابن الأبار بمكانة الوقّشي الأدبية، ويقول لنا إن له " تحقق بالإحسان، وتصرف في أفانين البيان " ويشير إلى أن الشاعر ابن غالب الرصافي، قد مدحه في ديوانه " وأعرب عن جلالة شأنه " ثم يقارنه بأبى جعفر بن عطية، وقد كان كلاهما، من مفاخر الأندلس " وكانا متعاصرين في الكفاية متكافئين، ولذاك في النثر مزية هذا في الشعر ". وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من شعر الوقّشي، ومن ذلك قوله يصف الشقائق:
وشقائق لاحت على الأغصان
…
مثل الخدود تزان بالخيلان
يهفو النسيم مع الأصائل والضحى
…
فيهز منها معطف النشوان
فكأنها قضب الزمرد ألصقت
…
بالمسك فيها أكؤس العقيان (1)
وذكر ابن عبد الملك في التكملة، أن الوقّشي مدح الأمير أبا يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن بقصيدة مطلعها:
أبت غير ماء النخيل ورودا
…
وهاجت به عذب الحمام مرودا
وقالت لحاديها أتم زيادة
…
على العشر في وردي له فأزيدا
ومنها في الحث على الجهاد:
ألا ليت شعري هل يُمد لي المدى
…
فأبصر خيل المشركين طريدا
وهل بعد يقضي في النصارى بنصرة
…
تغادرهم للمرهقات حصيدا
ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب
…
يعيد عميد الكافرين عبيدا (2)
وتوفي الوقّشي بمالقة في سنة 574 هـ (1178 م).
ومن أعلام الأدب الذين ظهروا في العصر المرابطي، أبو الحسن عبد الملك ابن عباس بن فرج بن عبد الملك المعروف بابن الأزرق، وهو من أهل قرطبة، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مقتدراً، كتب عن قاضي الجماعة أبى القاسم بن حمدين في أواخر عهد المرابطين، ولما ثار أبو جعفر بن حمدين وانتزع الرياسة لنفسه، خشى ابن الأزرق العاقبة، وفر إلى إشبيلية، وانقطع إلى العبادة، في بعض
(1) أورد لنا ابن الأبار في الحلة السيراء ترجمة ضافية للوقشي (ص 230 - 236).
(2)
الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (الجزء الأول من مخطوط باريس لوحة 16).
قرى إشبيلية. ثم استدعاه أبو إسحق برّاز بن محمد المسّوفي عامل إشبيلية الموحدي للكتابة، فتولى منصبه على كره منه، ثم كتب من بعده للأمير أبى حفص ابن عبد المؤمن، ثم كتب عن عبد المؤمن نفسه، بعد مقتل كاتبه ابن عطية، ثم عن ولده أبى يعقوب يوسف، وقت ولايته لإشبيلية، وتوفي في سنة 568 هـ (1172)(1).
ومنهم على بن أحمد بن محمد بن عثمان الكلبي الشلطيشي، من أهل المغرب، سكن قرطبة، وكان فقيهاً متمكناً، وكاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً. ولما ثار أخوه أبو بكر محمد داعية المريدين بميرتلة، سنة 539 هـ، خاف على نفسه، واختفى أشهراً، ثم غادر قرطبة وتجول حيناً في مختلف القواعد الأندلسية، ثم عبر البحر إلى المغرب، ونزل بمراكش، وأقام بها حتى توفي سنة 566 هـ (1171 م)(2).
ومنهم أبو الحسن علي بن مسعود بن إسحق بن عصام الخولاني، من أهل سرقسطة، وكان فقيهاً بارعاً، حافظاً للمدونة، وله حظ وافر من الأدب، ولي قضاء ميورقة. ولما دهم النصارى سرقسطة في سنة 512 هـ، وبعث قاضيها بصريخه إلى الأمير أبى الطاهر تميم المرابط بجيشه على مقربة منها، كان أبو الحسن الخولاني، وزميله الخطيب أبو زيد بن منتيال، هما اللذان خرجا لمخاطبة الأمير تميم بالنيابة عن أهل سرقسطة، وناشداه الغوث والإنجاد، ولكنه لم يستجب إلى هذا الصريخ، وانتهت سرقسطة إلى التسليم (3).
- 3 -
ولمع في العصر المرابطي عدة من الأدباء المؤرخين، وأعلام الرواية المحققين، الذين ما زالت آثارهم من أقيم مصادرنا في تاريخ الأندلس، وتاريخ الأدب الأندلسي.
وكان في مقدمة هؤلاء قطبهم وعميدهم، أبو الحسن علي بن بسّام الشنتريني، صاحب كتاب " الذخيرة "، وهو من أقيم وأشهر كتب الأدب والتاريخ في هذا العصر، إن لم يكن أقيمها وأشهرها جميعاً. وابن بسام من أهل غربي الأندلس من مدينة شنترين البرتغالية، ولكنه غادرها في شبابه إلى إشبيلية حينما اضطربت
(1) الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر.
(2)
الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر.
(3)
الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر. وراجع ص 96 من هذا الكتاب.
بها الأحوال، واشتد خطر سقوطها في أيدي النصارى. ودرس ابن بسام في إشبيلية وقرطية، وكتب مؤلفه الضخم " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " بقرطبة، وانتهى من كتابته في سنة 503 هـ. ويصارحنا ابن بسام في مقدمته بالدافع النفسي، الذي دفعه إلى تصنيف كتاب " الذخيرة "، وهو أنه رأى انصراف أهل عصره وقطره، إلى أدب المشرق، والتزود منه والإعجاب به، وإهمال آداب بلدهم، فأراد بوضع الذخيرة، وجميع ما تضمنته من رائق المنثور والمنظوم، أن يبصّر أهل الأندلس بتفوق أدبائهم، وروعة إنتاجهم، وأن من حقهم أن يزهوا بأدبهم وأن يتذوقوه، وأن الإحسان ليس مقصوراً على أهل المشرق (1). وقد سبق أن أشرنا إلى أهمية الذخيرة كمصدر من أنفس مصادرنا التاريخية والأدبية والاجتماعية، ولاسيما عن عهد الطوائف وأمرائه وأدبائه وشعرائه (2). وإنه لما يدعو إلى الغبطة أن البحث قد استطاع أخيراً، أن يضع يده على النص الكامل لكتاب " الذخيرة " بأقسامه أو مجلداته الأربعة، بعد أن لبث مدة طويلة مفتقداً لبعض أجزائه. وكتب ابن بسام غير " الذخيرة " عدة مصنفات أخرى، منها كتاب في شعر المعتمد بن عباد، وكتاب في شعر ابن وهبون، ورسالة عنوانها " سلك الجواهر في ترسيل ابن طاهر " ومجموعة مختارة من شعر أبى بكر بن عمار. ويمتاز ابن بسام بأسلوبه المشرق، الذي يغلب عليه السجع، دون أن ينتقص من قوته وإشراقه، كما يمتاز بملاحظاته النقدية القوية، التاريخية والاجتماعية. ومما هو جدير بالذكر أنه لم يُعرف عن ابن بسام أنه خدم أحداً من أمراء عصره، أو تطفل على موائدهم أسوة بمعظم زملائه، كتاب العصر وأدبائه. وكانت وفاته بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م)(3).
ومنهم أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجاري، صاحب كتاب " المسهب " الشهير. وأصله من وادي الحجارة حسبما يدل على ذلك اسمه. ولما سقطت وادي الحجارة في أيدي النصارى، غادرها مع أهله، وطاف بعدة من بلاد الأندلس، ثم نزل مدينة غرناطة، وسار منها الى قلعة بني سعيد (أو قلعة يحصب)، وهنالك استقبله صاحبها عبد الملك بن سعيد، وهو من أقطاب علماء
(1) راجع مقدمة الذخيرة (المجلد الأول القسم الأول) طبعة جامعة القاهرة ص 2 و 3.
(2)
كتاب دول الطوائف ص 418.
(3)
راجع في ترجمة ابن بسام، مقدمة كتاب الذخيرة، وكذلك Pons Boigues: ibid ; No 171 والمراجع.
عصره، وأكرم وفادته، وقدر علمه وأدبه. وكان الحجاري أديباً كبيراً وشاعراً مطبوعاً، وكان يشتهر بنظمه في كل بلد نزل فيه. ثم غادر قلعة يحصب، وقصد إلى المستنصر بن هود بروطة، ومدحه، وسار معه في بعض وقائعه مع البشكنس، فوقع أسيراً ضمن الأسرى. ولما قيض له الخلاص من أسره، عاد إلى قلعة يحصب، وعاش في كنف حاميه عبد الملك بن سعيد. وأشهر آثار الحجاري كتابه " المسهب في فضائل (أو غرائب) المغرب " في ستة أجزاء. وقد ألفه تحقيقاً لرغبة ابن سعيد، وكان فيما بعد مستقى لأسرة بني سعيد في تأليف كتابها الشهير " المغرب في حلى المغرب " ومن أخصب وأقيم مصادرها، وفيه يتناول الحجاري تراجم رجال الأندلس وحوادثها منذ الفتح إلى سنة 530 هـ.
وقد نقل إلينا المتأخرون منه الكثير ولاسيما المقري في نفح الطيب، حيث ينقل منه عشرات الشذور، في مختلف المواطن. وتوفي الحجاري في سنة 550 هـ (1155 م)(1).
ومنهم أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله اللخمي المعروف بالرُّشاطي، أصله من أهل أوريولة من شرقي الأندلس، وبها ولد سنة 466 هـ. ودرس على عدة من أعلام العصر ومنهم الحافظ أبو على الصدفي. ثم انتقل إلى ألمرية، وعاش بها. ونبغ الرشاطي في الحديث والرواية والتاريخ والأنساب. وكتب كتابه الشهير " اقتباس الأنوار، والتماس الأزهار، في أنساب الصحابة ورواة الآثار ".
وأخذ عنه كثير من علماء عصره. وتوفي بألمرية شهيداً حينما دخلها النصارى في يوم 20 جمادى الأولى سنة 542 هـ (أكتوبر سنة 1147 م)(2).
ومنهم أبو عامر محمد بن أحمد بن عامر الطرطوشي السالمي، من أهل طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، وسكن مرسية، وكان متقدماً في فنون عديدة من الأدب والشعر والتاريخ وغيرها. وكتب عدة مؤلفات أشهرها كتابه " درر القلائد وغرر الفوائد ". وهو كتاب تاريخي جغرافي. وكتاب " السلك المنظوم والمسك المختوم ". وتوفي في سنة 559 هـ (1163 م)(3).
(1) راجع ترجمة الحجاري في " المغرب في حلى المغرب " ج 2 ص 35 و 36، والمقري ج 2 ص 406، وكذلك Pons Boigues: ibid ; No 178
(2)
ترجمة الرشاطي في ابن خلكان ج 1 ص 337، والصلة رقم 651، وكذلك: P. Boigues: ibid ;No 169
(3)
ترجمته في التكملة لابن الأبار رقم 725. وكذلك في P. Boigues: ibid ; No. 187
ومنهم أبو بكر محمد بن يوسف بن قاسم الشِّلبي، وهو أديب ومؤرخ من أهل الغرب، ومن مدينة شلب، وكان تلميذاً للكاتب أبى وبكر بن القصيرة. ألف كتاباً في تاريخ المعتمد بن عباد لم يصل إلينا. وتوفي أوائل القرن السادس الهجري (1).
ومن الرواة وعلماء الأخبار الذين ظهروا في العصر المرابطي، محمد بن عبد الله ابن سيّداله التجيبي من أهل شاطبة، روى عن جمهرة من أعلام عصره. وكان عارفاً بالأخبار، حافظاً لأسماء الرواة. وقد ألف مجموعاً في رجال الأندلس، وصل به كتاب الصلة لابن بشكوال، وتوفي في سنة 558 هـ.
ونذكر أخيراً علماً من أعلام المؤرخين وأصحاب الأخبار المحققين، في العصر المرابطي، هو العلامة المؤرخ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال القرطبي، ولد بقرطبة سنة 494 هـ، ودرس بها على أشهر أساتذة العصر، وكان حافظاً، شغوفاً بالأخبار والسير، ولاسيما أخبار الأندلس، محققاً واسع الرواية، حجة في تحقيقها، كتب عدة مؤلفات، أشهرها كتابه " الصلة " الذي جعله تتمة لكتاب ابن الفرضي في " تاريخ العلماء والرواة بالأندلس "، والذي يضم أكثر من ألف وخمسمائة ترجمة لعلماء الأندلس ورواتها، ولاسيما علماء قرطبة، وقد فرغ من تأليفه بقرطبة في سنة 534 هـ، وجاء ابن الأبار بعده، فوضع له ذيلا سماه التكملة في مجلدين كبيرين. ثم جاء أبو جعفر بن الزبير فوضع له ذيلا آخر سماه " صلة الصلة ". ويعتبر كتاب " الصلة " إلى يومنا من أنفس وأوثق مصادر التاريخ الأندلسي. وكتب ابن بشكوال غير " الصلة " عدة مؤلفات أخرى، منها " كتاب الغوامض والمبهمات " وكتاب " الفوائد المنتخبة والحكايات المستغربة "" وكتاب المحاسن والفضائل "" وكتاب المستغيثين بالله تعالى عن المهمات والحاجات "، وغير ذلك من مصنفات بلغت نحو الخمسين مؤلفاً. وتوفي ابن بشكوال بقرطبة بعد حياة علمية حافلة، في رمضان سنة 578 هـ (أواخر سنة 1182 م)(2).
- 4 -
ولقد تحدثنا فيما تقدم عن علماء وأدباء لم يكن الشعر خاصتهم الأولى، وإن كانوا
(1) راجع ترجمته في P. Boigues: ibid ; No. 187
(2)
راجع ترجمة ابن بشكوال في التكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 831، وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 215.
مع ذلك قد لمعوا في ميدان الشعر، وكانت لهم فيه آثار طيبة. ونود الآن أن نذكر بعض الشعراء الذين نبغوا في العصر المرابطي، وكان الشعر خاصتهم الأولى.
فمن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد، من بني سعيد العنسي سادة قلعة بني يحصب من أعمال غرناطة، وهو بيت من بيوتات الأندلس المشهورة، وينتمي إليه قواد ووزراء وقضاة وكتاب وشعراء، ومنهم مؤلفو كتاب " المغرب في حلى المغرب ". وشغف أبو جعفر بالأدب والشعر منذ حداثته " وحفظ الكثير من أشعار القدماء، وظهرت مواهبه الشعرية لأول مرة حينما وفد مع أبيه وأهله لمقابلة الخليفة عبد المؤمن، وهو بجبل طارق في سنة 556 هـ، وألقى بين يديه قصيدته التي مطلعها:
تكلم فقد أصغى إليك الدهر
…
وما لسواك اليوم نهي ولا أمر
وقد كانت هذه القصيدة التي نقلناها فيما تقدم، فاتحة مجده الشعري. ولما ولي غرناطة السيد أبو سعيد ولد عبد المؤمن، استوزر أبا جعفر، وحظى لديه.
ثم فسد ما بينهما بسبب تنافسهما في حب الشاعرة الحسناء حفصة بنت الحاج الرَّكوني، وأخذ السيد أبو سعيد يترقب الفرص لنكبته، وأبو جعفر يتحفظ كل التحفظ، وفي حالته تلك يقول:
من يشتري مني الحياة وطيبها
…
ووزارتي وتأدبي وتهذبي
بمحل راع في ذرى ملمومة
…
زويت عن الدنيا بأقصى مرتب
فلقد سئمت من الحياة مع امرىء
…
متغضب متغلب مترتب
الموت يلحظني إذا لاحظته
…
ويقوم في فكري أوان تجنبي
وانتهى الأمر بأبى جعفر إلى أن ائتمر مع أخيه وبعض أقاربه على الانضمام إلى ابن مردنيش، ولحق أخوه وأقاربه بقلعتهم في بني يحصب. ولكنه جبن وتأخر، ثم فر إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى بلنسية، ولكن عمال السيد اكتشفوا أمره وقبضوا عليه، فأمر بقتله صبراً، وكان مصرعه في جمادى الأولى سنة 559 هـ (1164 م).
ولأبى جعفر كثير من الشعر الرقيق الجيد. فمن ذلك قوله:
أتاني كتاب منك يحسده الدهر
…
أما حبره ليل، أما طرسه فجر
به جمع الله الأماني لناظري
…
وسمعي وفكري فهو سحر ولا سحر
ولا غرو أن أبدى العجايب ربّه
…
وفي ثوبه بر، وفي كفه بحر (1).
ومنهم محمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي من أهل وادي آش. سكن غرناطة، وكان أديباً مشاركاً في علوم جمة، ولاسيما الطب، كما كان شاعراً جزلا مطبوعاً. ومن قوله يمتدح أمير المسلمين علي بن يوسف:
رحلوا الركايب موهنا
…
فأذاع عرفهم السنا
والحلي قد أغرى بهم
…
لما ترغم معلنا
كم دب حول حماهم
…
من كل خطّار القنا (2).
ومنهم أحمد بن علي بن محمد بن عبد الملك بن سليمان بن سيد الكناني النحوي، من أهل إشبيلية، وقد عرف " باللص " لما نسب إليه في صغره من إغارته على أشعار الآخرين. وكان أديباً، متقناً للعربية، شاعراً جزلا مجيداً. ولد سنة 503 هـ، وتوفي في سنة 577 هـ (1181 م.). ومن نظمه قوله:
وقائلة والضنا شاملي
…
على م سهرت ولم ترقد
وقد ذاب جسمك فوق الفراش
…
حتى خفيت عن العوّد
فقلت وكيف أرى نائما
…
وراعي المنية بالمرصد (3).
ومنهم أبو بكر بن قزمان، أمير الزجل الأندلسي، وهو محمد بن عيسى ابن عبد الملك بن قزمان الزهري من أهل قرطبة، برع في الشعر والأدب، وبرع بنوع خاص في نظم القصائد الهزلية بلغة عوام الأندلس أو بعبارة أخرى في نظم الزجل. يقول ابن الخطيب " وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وبلغ فيها أبو بكر مبلغاً حجره الله عن سواه فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وحارسها المعلم، والمبتدى فيها والمتمم ". ويصفه ابن خلدون بأنه " إمام الزجالين على الإطلاق ". وخدم ابن قزمان في شبابه المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس ونال لديه حظوة وجاهاً.
فلما انتهت دولتهم، عاد إلى قرطبة وتردد بينها وبين غرناطة. ولما قام ابن حمدين في قرطبة، تعرض ابن قزمان لمطاردته ونكاله، وذلك بسبب " شكاسة
(1) راجع ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 222 - 227.
(2)
ابن الخطيب في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال رقم (1673 الغزيري) لوحة 56.
(3)
ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 212.
أخلاق كان موصوفاً بها، وحدة شقى بسببها ". وتوفي ابن قزمان بقرطبة في رمضان سنة 555 هـ (1160 م).
وقد اشتهرت أزجال ابن قزمان في الأندلس والمغرب، وجمعت في ديوان خاص متداول، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى القشتالية، وكان لها أثر عميق في صوغ الأناشيد الشعبية القشتالية، ثم الأناشيد البروفنسية. وقد أبدى البحث الحديث، أن كثيراً من الأغاني الشعبية في إسبانيا وغيرها من الأمم النصرانية المجاورة، اشتق من أزجال ابن قزمان.
ونحن نكتفي بأن نورد هذين النموذجين من أزجال ابن قزمان:
قدر الله وساق الخناس
إلى وادي على عيون الناس
ولعبنا طول النهار بالكاس
وجاء الليل وامتد مثل القتيل
وقوله يصف عريشاً أمامه تمثال أسد من رخام يصب الماء من فمه على صفائح مدرجة من الحجر:
وعريش قد قام على دكان
…
بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان
…
في غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنسان
…
فيه الفواق
وانطلق يجري على الصفاح
…
ولقى الصباح (1).
(1) راجع في ترجمة ابن قزمان: قلائد العقيان ص 187، والإحاطة في مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 59 - 61. وقد أورد لنا ابن الخطيب كثيراً من أزجاله ورسائله النثرية.
وكذلك ابن خلدون في المقدمة ص 524.