الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(التدليس)
أي هذا مبحثه وهو النوع الرابع عشر من أنواع علوم الحديث.
والمناسبة بينه وبين سابقه واضحة مما ذكرناه في التمهيد.
واشتقاقه من الدلس بالتحريك وهو اختلاط الظلام كأنه لتغطيته على الواقف عليه أظلم أمره، قاله السخاوي وقال الصنعاني نقلاً عن الحافظ: إنه مشتق من الدلس وهو الظلام، قاله ابن السيد، وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطيته وجه الصواب، وقال البقاعي: إنه مأخوذ من الدلس بالتحرك وهو اختلاط الظلام الذي هو سبب لتغطيته الأشياء عن البصر، ومنه التدليس في البيع يقال دلس فلان على فلان أي ستر عنه العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر. اهـ كلام الصنعاني.
ثم إن التدليس على قسمين تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتحتهما أنواع يأتي تفصيلها فذكر الأول بقوله:
164 -
تَدْلِيسُ الاِسْنَادِ بِأَنْ يَرْوِيَ عَنْ
…
مُعَاصِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْهُ بِـ " أَنْ "
165 -
يَأْتِي بِلَفْظٍ يُوهِمُ اتِّصَالا
…
كَـ " عَنْ " وَ " أَنَّ " وكذاك " قالا "
166 -
وَقِيلَ: أَنْ يَرْوِيَ مَالَمْ يَسْمَعِ
…
بِهِ وَلَوْ تَعَاصُرًا لَمْ يَجْمَعِ
(تدليس الإسناد) مبتدأ أي النوع المسمى به (بأن يروي) الباء
للتصوير، والجار والمجرور خبر المبتدإ، يعني أن تدليس الإسناد مصور برواية شخص (عن معاصر) متعلق بيروي، أي شيخ معاصر له، أو ملاق كما زاده ابن الصلاح (ما) مفعول به ليروي، أي الحديث الذي (لم يحدثه) أي ذلك المعاصر، فالضمير المستتر يعود إلى معاصر، والبارز إلى ما يعني أن ذلك المعاصر، وكذا الملاقى لم يحدث ذلك الراوي بالحديث، وإنما حدثه رجل آخر عنه (بأن يأتي) الباء بمعنى مع متعلق بيروي، أي مع إتيان ذلك الراوي (بلفظ) من ألفاظ الأداء (يوهم) أي يوقع في الوهم أي الذهن (اتصالا) بذلك الشيخ ولكن لا يقتضيه (كعن) خبر لمحذوف، أي ذلك كلفظة عن، مثل عن فلان لشخص عاصره (و) كلفظة (أن) مثل أن فلاناً قال كذا، (وكذاك) أي مثل عن وأن في إيهام الاتصال بلا اقتضاء وهو خبر مقدم لـ (قالا) أي لفظة قال، مثل قال فلان كذا والألف يحتمل أن تكون إطلاقية، أو ضميراً للمثنى.
وحاصل معنى البيتين أن تدليس الإسناد هو أن يروي شخص عمن عاصره أو لقيه ما لم يسمعه منه موهماً سماعه بإتيانه بلفظ يوهم الاتصال ولا يقتضيه مثل عن فلان أو أن فلاناً أو قال فلان أو نحوها.
والحاصل أن شرط التدليس أمران الإتيان بلفظ محتمل غير كذب كما ذكرنا، والمعاصرة لأنه إن لم يعاصر زال التدليس وصار كذباً أو مرسلًا محضاً، وهذا هو المشهور في تعريف التدليس.
وقيل: لا تشترط المعاصرة وإليه أشار بقوله (وقيل) التدليس (أن) مصدرية (يروى) الرجل عن الرجل (ما لم يسمع) أي الحديث الذي لم يسمعه (منه) أي من المحدث المفهوم من المقام، وفي نسخة المحقق به بالباء بدل الميم، وعليه فالضمير يعود إلى قوله بلفظ يوهم الخ، والمعنى: أن التدليس هو أن يروي ما لم يسمعه بلفظ يوهم اتصالاً كعن الخ (ولو) كان الراوي (تعاصراً) مفعول مقدم ليجمع، أي معاصرة مع من روى عنه (لم يجمع) أي ولو لم يجمع المعاصرة وكسرت العين فيه وفي يسمع للوزن.
وحاصل المعنى: أن التدليس على هذا القول هو أن يحدث الرجل عن الرجل بما لم يسمعه منه بلفظ لا يقتضي تصريحاً بالسماع ولو لم يتعاصرا، وهذا القول نقله ابن عبد البر في التمهيد عن بعضهم. قال: وعلى هذا فما سلم من التدليس لا مالك ولا غيره.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، وكذا قال الحافظ أبو الحسن القطان في بيان الوهم والإيهام. قال: والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه ولما كان في هذا أنه قد سمع كانت روايته عنه بما لم يسمع منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشيء فلذلك يسمى تدليساً.
وارتض هذا القول الحافظ لتضمنه الفرق بين النوعين قال: ويؤيده كلام الخطيب في كفايته، وعبارتُهُ فيها: هو تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه أنه سمعه منه ويعدل عن البيان لذلك.
وقال: ولو بين أنه سمعه من الشيخ الذي دلسه عنه وكشف ذلك لصار بيانه مرسلاً للحديث غير مدلس فيه.
لأن الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعاً ممن لم يسمع منه وملاقياً لمن لم يلقه إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن الإرسال لا محالة لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة، وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط، وهو الموهن لأمره، فوجب كون التدليس متضمناً للإرسال والإرسال لا يتضمن التدليس لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا لم يذم العلماء من أرسل أي لظهور السقط، وذَمُّوا من دلس ذكره السخاوي في الفتح.
ثم إن تدليس الإسناد كما ذكرنا على أنواع فمنه تدليس القطع وإليه أشار بقوله:
167 -
وَمِنْهُ أَنْ يُسَمِّيَ الشَّيخَ فَقَطْ
…
قَطْعٌ بِهِ الأَدَاةُ مُطْلَقًا سَقَطْ
(ومنه) أي من تدليس الإسناد، وهو خبر مقدم (أن) مصدرية (يسمى) الراوي (الشيخ) أي يذكر اسم الشيخ (فقط) أي فحسب، يعني أنه ما ذكر صيغ الأداء كما بينه ما بعده، وأن وصلتها مبتدأ مؤخر، أي تسمية الشيخ بدون الصيغ كائن من تدليس الإسناد (قطع) خبر لمحذوف على حذف مضاف أي هو تدليس قطع يعني أنه يسمى (به) متعلق بسقط والباء بمعنى من أي من ذلك الحديث (الأداة) مبتدأ أي صيغ التحديث (مطلقا) حال من الأداة أي سواء كان حدثنا أو أخبرنا أو عن أو نحو ذلك وقوله (سقط) أي حذف من السَّند خبر المبتدإ، والجملة مستأنفة لتوضيح معنى فقط، أو حال من المبتدإ، ويحتمل أن يكون قوله منه خبراً مقدما وقطع مبتدأ مؤخراً، وقوله أن يسمى الخ خبر لمحذوف، والجملة معترضة بين المبتدإ والخبر، والتقدير ومنه تدليس قطع وهو تسميته الشيخ فقط، وجملة الأداة مطلقا سقط حال من تسيمة الشيخ.
وحاصل معنى البيت: أن من تدليس الإسناد ما يسمى تدليس القطعٍ سماه به الحافظ في تصنيفه في المدلسين، وهو أن يسقط أداة الرواية أصلاً مقتصراً على اسم شيخه ويفعله أهل الحديث كثيراً.
ومن أمثلته ما قال علي بن خشرم: كنا عند ابن عيينة فقال: الزهري فقيل له حدثك الزهري، فسكت ثم قال: الزهري، فقيل له أسمعته من الزهري، فقال لا لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أخرجه الحاكم، ونحوه أن رجلًا قال لعبد الله بن عطاء الطائفي، حَدِّثنا بحديث " من توضأ فأحسن الوضوء دخل من أيِّ أبواب الجنة شاء " فقال عقبة بن عامر: فقيل: سمعته منه قال لا حدثني سعد بن إبراهيم، فقيل لسعد فقال: حدثني زياد بن مخراق، فقيل لزياد، فقال: حدثني رجل، عن شهر بن حوشب يعني عن عقبة ذكره السخاوي.
ومن أنواع تدليس الإسناد أيضاً تدليس العطف وإليه أشار بقوله:
168 -
وَمِنْهُ عَطْفٌ، وَكَذَا أَنْ يَذْكُرَا
…
" حَدَّثَنَا " وَفَصْلُهُ الاِسْمَ طَرَا
(ومنه عطف) مبتدأ وخبر أي ومن تدليس الإسناد تدليس عطف أي ما يسمى به، زاده الحافظ أيضاً.
وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه ويكون قد سمع من أحدهما دون الآخر فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً وإنما حدث بالسماع عن الأول ونوى القطع فقال: فلان أي حدث فلان.
مثاله ما في علوم الحديث للحاكم قال اجتمع أصحاب هشيم فقالوا: لا نكتب عنه اليوم مما يدلسه ففطن لذلك فلما جلس قال حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم فحدث بعدة أحاديث فلما فرغ قال هل دلست لكم شيئاً قالوا: لا قال: بلى كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئاً انتهى.
ومن أنواع تدليس الإسناد أيضاً تدليس الحذف وإليه أشار بقوله: (كذا) أي مثل ما تقدم من تدليس القطع والعطف في كونه من أنواع تدليس الإسناد، وهو خبر مقدم عن قوله:(أن) مصدرية (يذكرا) بالبناء للفاعل أي الراوي والألف إطلاقية وقوله: (حدثنا) منصوب على المفعولية لقصد لفظه، أي لفظ حدثنا مثلاً (وفصله) مبتدأ أي فصل الراوي (الاسم) أي اسم الشيخ مفعول فصل، وقوله:(طرا) بقلب الهمزة ألفاً للوقف أي وقع وحصل، خبر المبتدإ، والجملة حال من فاعل يذكر، والتقدير ومثل ما تقدم من الأنواع ذكر الراوي ألفاظ الأداء والحال أن فصله اسم الشيخ عن صيغ الأداء طارئ بأن يسكت بعد ذكر الأداة ثم يذكر اسم الشيخ.
مثاله ما ذكر محمد بن سعيد عن أبي حفص عمر بن علي المُقَدَّمِيّ أنه كان يدلس تدليساً شديداً يقول: سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول
هشام بن عروة، الأعمش، وقال أحمد بن حنبل: كان يقول حجاج سمعته يعني حدثنا آخر.
وقال جماعة: كان أبو إسحاق يقول: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، فقوله: عبد الرحمن تدليس يوهم أنه سمعه منه قاله في التدريب. وفيه نظر.
(تنبيه): كان الأولى للناظم تقديم قوله وكذا أن يذكر إلخ قبل تدليس العطف لأنه من تدليس القطع فإنه كما قال السخاوي على نوعين:
الأول: إسقاط أداة الرواية مقتصراً على اسم شيخه كما قدمنا عن ابن عيينة أنه قال الزهري إلخ.
الثاني: أن يذكر الأداة مثل حدثنا ثم يسكت وينوي القطع ثم يذكر اسم الشيخ كما في المثال المذكور آنفا، ولو قال بدل البيتين:
ومنهُ إسقاطُ أداةٍ ذاكرا
…
اسْماً لِشَيخِهِ أو الفَصلُ جَرَى
قَطْعٌ وإِن يعَطِف على مَن سَمِعَا
…
سوَاهُ عَطفٌ دُلْسَةً قَد أُتبِعَا
لكان أوضح مع بيان تعريف تدليس العطف.
والمعنى أن من تدليس الإسناد إسقاط أداة التحديث مع ذكر اسم الشيخ وقولي: أو الفصل جرى، أي فصل الأداة عن اسم الشيخ وكلاهما يسمى تدليس القطع.
وتدليس العطف هو أن يذكر شيخاً سمع منه الحديث ويعطف عليه آخر لم يسمع منه ذلك الحديث.
وقولي: ودلسة بالضم اسم من الدلس بمعنى التدليس يعني أن كُلاً من القطع والعطف قد أتبع التدليس بمعنى أنه يضاف اليهما فيقال تدليس القطع وتدليس العطف.
(تنبيه): قسم الحاكم التدليس إلى ستة أقسام:
الأول: قوم لم يميزوا بين ماسمعوه وما لم يسمعوه.
الثاني: قوم يدلسون فإذا وقع لهم من ينقر عنهم ويُلحُّ في سماعاتهم ذكروا له، ومثله بما حكى ابن خشرم عن ابن عيينة.
الثالث: قوم دلسوا عن مجهولين لا يدرى من هم ومثله بما روي عن ابن المديني قال: حدثني حسين الأشقر حدثنا شعيب بن عبد الله عن أبي عبد الله عن نوف قال: بت عند علي فذكر كلاماً، قال ابن المديني فقلت لحسين ممن سمعت هذا فقال: حدثنيه شعيب عن أبي عبد الله عن نوف فقلت لشعيب من حدثك بهذا فقال: أبو عبد الله الجصاص فقلت عمن قال عن حماد القصار فلقيت حماداً فقلت له: من حدثك بهذا قال بلغني عن فرقد السَّبَخِي عن نَوْفٍ فإذا هو قد دلس عن ثلاثة أبو عبد الله مجهول، وحماد لا يدرى من هو، وبلغه عن فرقد، وفرقد لم يدرك نوفاً.
الرابع: قوم دلسوا عند قوم سمعوا منهم الكثير وربما فاتهم الشيء فيدلسونه.
الخامس: قوم رووا عن شيوخ ولم يروهم فيقولون قال فلان فحمل ذلك عنهم على السماع وليس عندهم سماع، قال البلقيني: وهذه الخمسة كلها داخله تحت تدليس الإسناد وذكر السادس: وهو تدليس الشيوخ الآتي. انتهى. ونقله في التدريب ثم ذكر حكمه فقال:
169 -
وَكُلُّهُ ذَمٌّ، وَقِيلَ: بَلْ جَرَحْ
…
فَاعِلَهُ، وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَضَحْ
(وكله) مبتدأ أي جميع أنواع التدليس لا خصوص هذا القسم كما قاله السخاوي، وقال النووي في التقريب أما الأول فمكروه جداً ذمه أكثر العلماء. وأما الثاني فكراهته أخف. اهـ باختصار وقوله (ذم) يحتمل كونه فعلاً ماضياً مغيراً الصيغة أي ذمه العلماء، ويحتمل كونه مصدراً بمعنى اسم المفعول أي مذموم وهو الخبر.
والمعنى أن التدليس كله ذمّهُ أكثر العلماء كما في التقريب، ولم ير
به بأساً جماعة من المحدثين كما قاله يعقوب بن شيبة، قال السخاوي يعنى وهم الفاعلون له أو معظمهم.
وممن بالغ في ذمه شعبة بن الحجاج فروى الشافعي عنه أنه قال: التدليس أخو الكذب، وقال غندر عنه: أشد من الزنا، ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إليَّ من أن أدلس، وقال أبو الوليد الطيالس عنه: لأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحب إليَّ من أن أقول زعم فلان ولم أسمع ذلك الحديث منه، وكذا قال ابن المبارك وزاد: إن الله لا يقبل التدليس، وممن أطلق على فاعله الكذب أبو أسامة، وكذا قرنه به بعضهم، وقرنه آخر بقذف المحصنات، وقال سليمان بن داود المنقري: التدليس والغش والغرور والخداع والكذب تحشر يوم تبلى السرائر في نِفَار واحد (بالمعجمة أي طريق).
وقال عبد الوارث بن سعيد: إنه ذل يعني لسؤاله أسمع أم لا، قال ابن معين: إني لأزين الحديث بالكلمة فأعرف مذلة ذلك في وجهي فأدعه، وقال حماد بن زيد: هو متشبع بما لم يُعطَ، ونحوه قول أبي عاصم النبيل: أقل حالاته عندي أنه يدخل في حديث " المتشبعُ بما لم يعط كلابس ثوبي زور " وقال وكيع: الثوب لا يحل تدليسه فكيف الحديث، وقال بعضهم: أدنى ما فيه التزين. وقال يعقوب بن شيبة: وكرهه جماعة من المحدثين ونحن نكرهه. زاد غيره وتشتد الكراهة إذا كان المتروك ضعيفاً فهو حرام ولكن اختص شعبة منه مع تقدمه بالمزيد كما ترى على أن شعبة قد عيب بقوله: لأن أزني أحب إليَّ من أن أحدث عن يزيد بن أبان الرقاشي. فقال يزيد بن هارون: راوي ذلك عنه ما كان أهون عليه الزنا.
قال الذهبي: وهو أي التدليس داخل في قوله عليه السلام " من غشنا فليس منا ". لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل وفيه انقطاع، هذا إن دلس عن ثقة فإن كان ضعيفاً فقد خان الله ورسوله، بل هو كما قال بعض الأئمة حرام إجماعاً: وأماما نقله ابن دقيق العيد عن الحافظ أبي بكر أنه قال:
التدليس اسم ثقيل شنيع الظاهر لكنه خفيف الباطن سهل المعنى، فهو محمول على غير المحرم منه، ذكر ذلك كله العلامة السخاوي رحمه الله.
ثم إن فريقا ممن ذمه جرحوا بسببه فاعله كما أشار إليه بقوله (وقيل) أي قال فريق من أهل الحديث والفقهاء زيادة على ذمه (بل) للإضراب الانتقالي (جرح) بالبناء للفاعل، والفاعلُ ضمير يعود إلى التدليس وقوله (فاعله) مفعوله أي جرح التدليس فاعلَه، ويحتمل ضبط جرح بالبناء للمفعول وفاعِلُهُ نائب الفاعل أي جرح فاعل التدليس بسببه فردت روايته كلها (ولو) للتقليل كما في " التمس ولو خاتماً من حديد " (بمرة) واحدة (وضح) أي ظهر التدليس قال الشافعي رحمه الله: من عُرِف بالتدليس ولو مرة لا يقبل منه ما يقبل من أهل النصيحة في الصدق حتى يقول حدثني أو سمعت اهـ قال السخاوي: وبيان ذلك أنه بثبوت تدليسه مرة صار ذلك هو الظاهر من حاله في معنعناته، كما أنه إذا ثبت اللقاء مرة صار الظاهر من حاله السماع، وكذا من عرف بالكذب في حديثٍ واحدٍ صار الكذب هو الظاهر من حاله وسقط العمل بجميع حديثه مع جواز كونه صادقاً في بعضه. اهـ كلام السخاوي.
وحاصل المعنى: أن التدليس جرح لفاعله يرد به ما رواه مطلقا سواء بين السماع أم لا دلس عن الثقات أم لا ولو ظهر منه مرة واحدة، وهو منقول كما قال ابن الصلاح تبعاً للخطيب وغيره عن فريق من المحدثين والفقهاء حتى بعض من احتج بالمرسل لما فيه من التهمة والغش حيث عدل عن الكشف إلى الاحتمال وكذا التشبعُ بما لم يُعطَ حيث يوهم السماع لما لم يسمعه والعلو وهو عنده بنزول الذي، قال ابن دقيق العيد: إنه أكثر قصد المتأخرين به، وممن حكى هذا القول القاضي عبد الوهاب في المخلص وقيده ابن السمعاني في القواطع بما إذا استكشف فلم يخبر باسم من يروي عنه قال لأن التدليس تزوير وإيهام لما لا حقيقة له أما إذا أخبر فلا. قاله السخاوي.
والقول الثاني: القبول مطلقاً صرحوا أم لا حكاه الخطيب عن خلق كثيرين من أهل العلم قال وزعموا أن نهاية أمره أن يكون مرسلاً.
والثالث: وعزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث التفصيل، فمن كان لا يدلس إلا عن الثقات قبل ومن لا فلا قاله البزار، وبه أشعر قول ابن الصباغ وصرح به أبو الفتح الأزدي وأشار إليه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة وجزم أبو حاتم بن حبان وابن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال: إنه لا يوجد له تدليس قط إلا وجد بعينه قد بين سماعه فيه عن ثقة.
والرابع: إن كان وقوع التدليس منه نادراً قبلت عنعنته ونحوها وإلا فلا وهو مروي عن ابن المديني أفاده السخاوي.
قلت وهذان التفصيلان غير التفصيل المذكور في قوله:
170 -
وَالْمُرْتَضَى قَبُولُهُمْ إِنْ صَرَّحُوا
…
بِالْوَصْلِ فَالأَكْثَرُ هَذَا صَحَّحُوا
(والمرتضى) أي القول المرضى من أقوال العلماء في التدليس مبتدأ خبره (قبولهم) من إضافة المصدر إلى فاعله، أي قبول العلماء حديث المدلسين، أو من إضافة المصدر إلى مفعوله أي قبول المدلسين في روايتهم (إن) شرطية (صرحوا) أي المدلسون فيما رووه (بالوصل) أي بكون ما رووه موصولاً بالسماع بأن قالوا: سمعت أو حدثنا أو أخبرنا أو نحوها (فالأكثر) من أئمة الحديث والفقه والأصول مبتدأ خبره الجملة بعده (هذا) القول مفعول مقدم لقوله (صححوا) أي صحح أكثر العلماء هذا القول المفصل.
وحاصل معنى البيت أن الصَّحِيح المرضي من الأقوال في المدلسين هو التفصيل فما صرحوا فيه بالسماع مقبول محتج به وما رووه بلفظ محتمل فحكمه حكم المرسل ونحوه، وعُزِيَ هذا التفصيل إِلى الشافعي وابن المديني وابن معين وآخرين.
وممن صحح هذا القول الخطيب وابن الصلاح ونفى ابن القطان الخلاف فيه وكذا ابن عبد البر لكن نفي الخلاف مُنَتقَد بما مر من الخلاف.
وهذ التفصيل هو خامس الأقوال في المدلسين (واعلم) أن في رواة الصَّحِيحين جماعة من المشاهير بالتدليس كالأعمش وهشيم وقتادة والثَّوري وابن عيينة والحسن البصري وعبد الرزاق والوليد بن مسلم وغيرهم وإليه أشار العراقي حيث قال:
وفي الصَّحِيح عِدَّة كالأعمش
…
وكهشيم بعده ففتش
فقال النووي رحمه الله: إن ما فيهما وفي غيرهما من الكتب الصَّحِيحة بعن محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وإليه أشار بقوله:
171 -
وَمَا أَتَانَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِـ " عَنْ "
…
فَحَمْلُهُ عَلَى ثُبُوتِهِ قَمَنْ
(وما) شرطية أو موصولة مبتدأ أي الحديث الذي (أتانا) أي وصل إلينا عن المدلسين كقتادة والسفيانين (في الصَّحِيحين) حال من الفاعل أي حال كونه في كتابي البخاري ومسلم وكذا غيرهما ممن التزم الصحة (بعن) حال من الفاعل أيضاً أي حال كونه مروياً بصيغة تحتمل السماع وعدمه كعن ونحوها (فحمله) أي حمل ذلك الحديث مبتدأ (على ثبوته) أي ثبوت ذلك الحديث بالسماع له من جهة أخرى متعلق بقوله (قمن) أي حقيق قال في " ق " وشرحه القمين كأسير، والقمن ككتف، وجبل: الخليق، والجدير قال ابن سيده هو قَمِن بكذا وقَمِن منه، وقَمِينٌ: أي حَرِيٌّ وخَلِيق، وجَدِير، والمُحرَّكَةُ لا تثني ولا تجمع ولا تؤنث إن أريد بها المصدر يقال هما قمن وهم قمن وهن قمن، وإن أريد بها النعت تثنى وتجمع وتؤنث وكذا المكسورة الميم والتي فيها الياء. اهـ بتصرف. وهو خبر المبتدإ والجملة جواب الشرط، أو خَبَرُ المَوصُولِ ودخلت الفاء في الخبر لما في المبتدإ من معنى العموم.
وحاصل معنى البيت أن ما جاء في الصَّحِيحين ونحوهما من المدلسين بعن ونحوها فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وإنما اختار صاحب الصَّحِيح طريقة العنعنة على طريق التصريح بالسماع لكونها على شرطه دون تلك، وقال القطب الحلبي في القدح المُعلَّى: أكثرُ العلماء أن المعنعنات التي في الصَّحِيحين منزلة منزلة السماع.
قال السخاوي: يعني إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة أو عن بعض شيوخه أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها، ولذا استثنى من هذا الخلاف الأعمش وأبو إسحاق وقتادة بالنسبة لحديث شعبة خاصة عنهم فإنه قال: كفيتكم تدليسهم، فإذا جاء حديثهم من طريقه بالعنعنة حمل على السماع جزماً، وأبو إسحاق فقط بالنسبة لحديث القطان عن زهير عنه، وأبو الزبير عن جابر بالنسبة لحديث الليث خاصة، والثَّوري بالنسبة لحديث القطان عنه، بل قال البخاري: لا يعرف لسفيان الثَّوري عن حبيب بن أبي ثابت، ولا عن سلمة بن كهيل، ولا عن منصور، ولا عن كثير من مشايخه تدليس، ما أقل تدليسه، اهـ كلام السخاوي.
(تنبيهات): الأول: قد اعترض استثناءَ ما في الصَّحِيح صدرُ الدين بن المُرَجَّل في كتاب الإنصاف فقال في هذا الاستثناء غصَّة لأنها دعوى لا دليل عليها لا سيما أنا قد وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصَّحِيحين أو أحدهما بتدليس رواتها وكذلك استشكل ذلك قبله المحقق ابن دقيق العيد فقال: لا بد من الثبوت على طريق واحدة إما القبول مطلقاً في كل كتاب أو الرد مطلقاً في كل كتاب وأما التفرقة بين ما في الصَّحِيح من ذلك وما خرج عنه فغاية ما يوجه به أحد أمرين: إما أن يُدَّعَى أن تلك الأحاديث عَرَفَ صاحب الصَّحِيح صحة السطع فيها، قال: وهذا إحالة على جهالة وإثبات أمر بمجرد الاحتمال، وأما أن يُدَّعى أن الإجماع على صحة ما في الصَّحِيحين دليل على وقوع السماع في هذه الأحاديث وإلا لكان أهل الإجماع مجمعين على خطأ وهو ممتنع، قال: لكن هذا يحتاج إلى إثبات الإجماع الذي يمتنع أن يقع في نفس الأمر خلاف مقتضاه، قال: وهذا فيه عسر، قال: ويلزم على هذا أن لا يستدل بما جاء من رواية المدلس خارج الصَّحِيح ولا نقول هذا على شرط مسلم مثلاً لأن الإجماع المدعى ليس موجوداً في الخارج انتهى، نقله الصنعاني في التوضيح.
الثاني: قد سال الإمام تقي الدين السبكي شيخه أبا الحجاج المِزِّيَّ عما وقع في الصَّحِيحين من حديث المدلسين معنعنا هل نقول إنهما اطلعا على اتصالها؟ قال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما يوجد من غير تلك الطريق التي في الصَّحِيح، ذكره في التوضيح أيضاً.
الثالث: قال الحافظ: ليست الأحاديث التي في الصَّحِيحين بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط، وأما ما كان في المتابعات فيحتمل التسامح في تخريجها كغيرها. اهـ ذكره في التوضيح أيضاً.
ثم ذكر شر أقسام التدليس وهو التجويد فقال:
172 -
وَشَرُّهُ " التَّجْوِيدُ " وَالتَّسْوِيَةُ
…
إِسْقَاطُ غَيْرِ شَيْخِهِ وَيُثْبِتُ
173 -
كَمِثْلِ " عَنْ " وَذَاكَ قَطْعًا يَجْرَحُ
…
.................
(وشره التجويد) مبتدأ وخبر أي شر أقسام التدليس النوع المسمى عند المتقدمين بالتجويد حيث يقولون: جوده فلان، أي ذكر من فيه من الأجواد وحذف غيرهم (و) هو (التسوية) سماه به أبو الحسن بن القطَّان فمن بعده فقال سَوَّاة فلان، وهذه تسوية، فالتجويد والتسوية اسمان لمسمى واحد، وهو الذي عرفه بقوله:(إسقاط) خبر لمحذوف أي هو إسقاط (غير شيخه) أي حذف الراوي من السَّند غير شيخه كشيخ شيخه أو من فوقه لكونه ضعيفاً أو صغيراً وقوله (ويثبت) خبر لمحذوف أي وهو يثبت والجملة حالية (1) كما قال ابن مالك.
وذاتُ واوٍ بعدها انو مبتدا
…
له المضارعَ اجعلنَّ مُسنَدا
(1) وصاحبها الراوي الفاعل للإسقاط.
أي يذكر في محل الإسقاط (كمثل عن) أي لفظا محتملاً للسماع كعن ونحوها فالكاف زائدة ومثل مفعول به ليثبت.
وحاصل المعنى: أن أفحش أنواع التدليس ما يسمى بالتجويد والتسوية، وصورته كما قال العراقي: أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة وذلك يرويه عن ضعيف عن ثقة فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط الضَّعِيف الذي في السَّند ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات، ولهذا سمى تدليس التسوية، وإنما كان شر أقسام التدليس لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفاً بالتدليس ويجده الواقف على السَّند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة وفي هذا غَرَر شديد، ولذا صار من يفعله مجروحاً كما أوضحه بقوله:(وذاك) أي التجويد والتسوية المذكور مبتدأ خبره جملة يجرح (قطعاً) حال من ذاك على رأي، أو مفعول مطلق، أي جرحاً قطعاً، أي مقطوعاً به بين العلماء، يعني أنه لا خلاف فيه (يجرح) بالبناء للفاعل، ومفعوله محذوف أي فاعله، أو بالبناء للمفعول، واسم الإشارة عائد على المجود (1) المفهوم من التجويد أي المجود مجروح بلا خلاف بين العلماء.
وحاصله أن هذا النوع قادح في عدالة فاعله لأنه خيانة لمن ينقل إليهم وغرور.
قال الحافظ: لا شك أنه جرح وإن وصف به الثَّوري والأعمش فأحسن ما يعتذر به عنهما أنهما لا يفعلان ذلك إلا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفاً عند غيرهما.
قال: ثم إن ابن القطان إنما سماه تسوية بدون لفظ التدليس، قال والتحقيق أن يقال متى قيل تدليس التسوية لا بد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم
(1) بكسر الواو بصيغة اسم الفاعل.
بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه كما فعل مالك فإنه لم يقع في التدليس أصلاً، ووقع في هذا فإنه يروي عن ثور بن زيد عن ابن عباس وثور لم يلقه، وإنما رَوَى عن عكرمة عنه فأسقط عكرمة لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع بأن شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفاً فهو منقطع خاص قاله في التدريب وقال الحافظ أيضاً: فتعريف العراقي المتقدم غير جامع بل الحق أن يقول هو أن يجيء الراوي ليشمل المدلس وغيره إلى حديث قد سمعه من الشيخ وسمعه ذلك الشيخ عن آخر فيسقط الواسطة بصيغة محتملة فيصير الإسناد عالياً وهو في الحقيقة نازل، ثم ذكر أن من التسوية في اصطلاحهم أن يسقط من السَّند واحد وإن كان ثقة فيكون عالياً مثلاً فلا تختص التسوية بإسقاط الضَّعِيف ذكره في التوضيح.
وممن نقل عنه أنه يفعل هذا النوع بقية بن الوليد والوليد بن مسلم إذا أتى بعن عن الأوزاعي وابن جريجٍ.
(تنبيه): هذا النوع زاده العراقي على ابن الصلاح وجعله قسماً ثالثاً ولكن الأولى كما قال الحافظ أنه نوع من تدليس الإسناد وليس قسماً مستقلاً فالتحقيق أنه ليس إلا قسمان: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، ولكن قال البقاعي: إن تدليس التسوية يدخل في القسمين فتارة يسقط الضعفاء فتكون تسوية السَّند، وتارة يصف الشيوخ بما لا يعرفون به من غير إسقاط فتكون تسوية الشيوخ، نقله عنه في التوضيح، ونقل في التدريب عن الحافظ مثله.
ثم ذكر القسم الثاني: وهو تدليس الشيوخ فقال:
..................
…
وَدُونَهُ تَدْلِيسُ شَيْخٍ يُفْصِحُ
174 -
بِوَصْفِهِ بِغَيْرِ وَصْفٍ لا يُعْرَفُ
…
فَإِنْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ يُضَعَّفُ
175 -
فَقِيلَ: جَرْحٌ أَوْ لِلاسْتِصْغَارِ
…
فَأَمْرُهُ أَخَفُّ كَاسْتِكْثَارِ
(ودونه) أي دون تدليس الإسناد بأنواعه وإنما فصله عنه كما قال السخاوي: لعدم الحذف فيه وإنما كان دون الأول لأنه قد زال الغرر فإن شيخه الذي دلس اسمه إما أن يعرف فيزول الغرر أو لا يعرف فيكون في الإسناد مجهول قاله في التنقيح، والظرف خبر مقدم لقوله (تدليس شيخ) من شيوخ الراوي أي ما يسمى بذلك وقوله (يفصح) بالبناء للمفعول أي يُبَيَّن وُيذكرُ ذلك الشيخ يقال: أفصح عن الشيء بينه وكشفه، والجملة صفة شيخ أي يظهر في السَّند، ولا يحذف، أو بالبناء للفاعل أي يظهره الراوي ولا يحذفه (بوصفه) متعلق بيفصح، والباء بمعنى مع أي مع وصفه (بصفة) من صفاته (لا يعرف) بها بين النَّاس، وفي نسخة المحقق بوصفه بغير وصف يعرف والمعنى واحد.
وحاصل المعنى أن تدليس الشيوخ هو أن يصف المدلس شيخه الذي سمع منه بصِفةٍ لا يعرف بها من اسم أو كنية أو قبيلة أو بلد أو صنعة أو نحو ذلك لكي يوعر الطريق إلى معرفة السامع له.
من أمثلته قال: أبي بكر بن مجاهد المقرئ حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله يريد به الحافظ أبا بكر بن أبي داود صاحب السنن الحافظ.
وقوله أيضاً: حدثنا محمد بن سند يريد به أبا بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش نسبة لجد له، قال الحافظ: ليس قوله بصفة لا يعرف بها قيداً بل إذا ذكره بما يعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً، كقول الخطيب: أخبرنا علي بن أبي علي البصري، ومراده بذلك أبو القاسم علي بن أبي علي الحسن بن علي التنوخي وأصله من البصرة فقد ذكر بما يعرف به لكنه لم يشتهر بذلك وإنما اشتهر بكنيته واشتهر أبوه باسمه واشتهرا بنسبتهما إلى القبيلة لا إلى البلد ولهذا نظائر كصنيع البخاري في الذهلي فإنه تارة يسميه فقط فيقول حدثنا محمد وتارة يقول محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده وتارة يقول محمد بن خالد فينسبه إلى والد جده وكل ذلك صحيح إلا أن شهرته بمحمد بن يَحْيَى الذهلي ذكره في التوضيح.
قال ابن الصلاح وفيه أي في تدليس الشيوخ تضييِع للمروي عنه بعدم معرفة عينه ولا حاله، وقال العراقي: وللحديث أيضاً بأن لا يتنبه له فيصير بعض رواته مجهولًا فهذه مفسدة عظيمة قاله الصنعاني.
ثم إن هذا الفعل يختلف في الكراهة باختلاف القصد الحامل له على ذلك فشره أن يكون لضعفه وإليه أشار بقوله: (فإن يكن) أي التدليس (لكونه) أي ذلك الشيخ (يضعف) أي يحكم عليه بالضعف (فقيل) أي قال بعضهم هذا (جرح) أي جارح فاعله، أو مجروح فاعله.
والمعنى أن السبب الحامل للتدليس إن كان لضعف المروي عنه فيدلسه حتى لا يظهر روايته عن الضعفاء فهذا يَجرَح فاعله لكونه غَشًّا للمسلمين.
وهذا القول لابن الصباغ فإنه جزم في العدة بأن من فعل ذلك لكون شيخه غير ثقة عند النَّاس فغَيَّره ليقبلوا خبره يجب أن لا يقبل خبره وإن كان هو يعتقد فيه الثقة لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو (1)، وقال الآمدي: إن فعله لضعفه فجرح أو لضعف نسبه أو لاختلافهم في قبول روايته فلا، وقال ابن السمعاني إن كان بحيث لو سئل عنه لم يبينه فجرح وإلا فلا.
والأصح أنه ليس بجرح، بل منع بعضهم إطلاق اسم التدليس عليه، فقد روى البيهقي في المدخل عن محمد بن رافع قال: قلت لأبي عامر كان الثَّوري يدلس قال: لا قلت: أليس إذا دخل كُورَة يعلم أن أهلها لا يكتبون حديث رجل قال: حدثني رجل إذا عُرِفَ الرجل بالاسم كناهُ وإذا عرف بالكنية سماه، قال: تزيين ليس بتدليس أفاده في التدريب.
وقال في التنقيح: وشرحه إذا كان يعتقد أن ضعف من دلسه ضعف يسير يحتمل وعرفه بالصدق والأمانة واعتقد وجوب العمل بخبره لما له من
(1) وقد اعترض كلام ابن الصباغ هذا في التنقيح فانظره فإنه كلام منقح.
التوابع والشواهد وخاف من إظهار الرواية عنه وقوع فتنة من غَالٍ مقبولٍ عند النَّاس يَنْهَى عن حديث هذا الْمُدَلَّسِ ويترتب على ذلك سقوط جملة من السنن النبوية فله أن يفعل مثل هذا ولا جرح عليه لأنه قصد بتدليسه نصح المسلمين في الحقيقة وإيثار المصلحة على المفسدة، وقد دلس عن الضعفاء إمام أهل الرواية والدراية ومن لا يُتَّهَمُ في نصحه للأمة سفيان بن سعيد الثَّوري فمَنْ مِثلُ سفيان في منقبة واحدة من مناقبه؟ أو من يَبْلُغُ من الرُّواة إلى أدنى مراتبه؟ ولولا هذا العذر ونحوه من الضروريات ما دلس الحديثَ أكابرُ الثقات من أهل الديانة والأمانة والنصيحة للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع أهل الإسلام.
وقد روى أن رواة الحديث وأهل العلم في بعض أيام بني أمية وبعض بلدانهم كانوا لا يقدرون على إظهار الرواية عن عليٍّ عليه السلام. اهـ، ما في التنقيح وشرحه التوضيح.
قلت هذا كلام منقح ورأى مصحح والله أعلم.
ثم ذكر ما هو أخف مما قبله وهو ما كان الحامل له على التدليس الاستصغار أو الاستكثار فقال (أو) يكن التدليس لأجل (الاستصغار) أي عد المروي عنه صغير السن إما بأن يكون أصغر منه أو أكبر لكن بيسير أو بكثير لكن تأخرت وفاته حتى شاركه في الأخذ عنه من هو دونه، والجار والمجرور عطف على قوله لكونه (فأمره) أي شأن هذا التدليس وحكمه وهو مبتدأ خبره قوله:(أخف) أي أسهل مما قبله، والجملة عطف على الجواب السابق عطف معمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه خلاف مشهور.
وحاصل المعنى أنه إذا كان الحامل على هذا التدليس كون المروي عنه صغيراً في السن أو غيره فهو أسهل مما كان الحامل له ضعفه.
وقد ذكر العراقي نقلاً عن ابن الصباغ أنه إذا كان لصغر سنه يكون رواية مجهول لا يجب قبول خبره حتى يُعْرَفَ من رَوَى عنه. فتعقبه الحافظ، فقال: فيه نظر، لأنه يصير مجهولاً عند من لا خِبْرَةَ له بالرجال وأحوالهم
وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم وحرفهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا فمن أحاط علماً بذلك لا يكون الرجل المدلَّس عنده مجهولًا وتلك أنزل مراتبه.
وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفاظ امتحنوا طلبتهم المهرة بمثل ذلك فشُهِدَ لهم بالحفظ لَمَّا تسارعوا إلى الجواب عن ذلك.
وأقرب ما وقع من ذلك أن بعض أصحابنا كان ينظر في كتاب العلم لأبي بكر بن أبي عاصم فوقع في أثنائه حدثنا الشافعي حدثنا ابن عيينة فذكر حديثاً فقال لعله سقط منه شيء فالتفت إلي فقال ما تقول؟ فقلت الإسناد متصل وليس الشافعي هذا محمد بن إدريس الإمام بل هذا ابن عمه إبراهيم بن محمد بن العباس ثم استدللت على ذلك بأن ابن أبي عاصم معروف بالرواية عنه وأخرجت من الكتاب المذكور روايته عنه وقد سماه ولقد كان ظن الشيخ في السقوط قوياً لأن مولد ابن أبي عاصم بعد وفاة الشافعي الإمام بمدة، وما أحسن ما قال ابن دقيق العيد: إن في تدليس الثقة مصلحةً وهي امتحان الأذهان في استخراج ذلك وإلقاؤه إلى من يُراد اختبار حَفظه ومعرفته بالرجال، وفيه مفسدة من حيث إنه قد يخفى فيصير الراوي المُدَلَّس مجهولًا لا يُعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلا في نفس الأمر.
قال الحافظ: وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع لكن مفسدته أن يوافق على ما يدلس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح، وعكس هذا في حق من يدلس الضَّعِيف ليُخْفِيَ أمره فينتقل من رتبة من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن أخذ ذلك الراوي عنه فمفسدته أشد كما وقع لعطية العوفى تكنيتُهُ محمد بنَ السائب الكلبي أبا سعيد فكان إِذا حدث عنه يقول: حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري لأن عطية كان قد لقيه وروى عنه وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ انتهى وقد نقله في التوضيح.
(كاستكثار) أي كما يكون أخف إذا كان الحامل له على ذلك استكثار الشيوخ أي طلب كثرتهم عند السامعين موهماً لهم كونه يروى عن مشايخ كثيرين بحيث يظن الواحد ببادىء الرأي جماعة.
قال السخاوي: وإلى ذلك أشار الخطيب بقوله أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة فلا يحب تكرار الرواية عنه فغير حاله لذلك.
وقال السخاوي قلت: ولكن لا يلزم كون الناظر قد يتوهم الإكثار أن يكون مقصوداً لفاعله بل الظن بالأئمة خصوصاً من اشتهر إكثاره مع ورعه خلافه لما يتضمن من التشبع والتزين الذي يراعى تجنبه أرباب الصلاح والقلوب ولا مانع من قصدهم به الاختبار لليقظة والالتفات إلى حسن النظر في الرواة وأحوالهم إلى آخر ما قدمناه عن الحافظ.
وفي التنقيح مع التوضيح: وهذا يعنى إيهام كثرة الشيوخ مقصد يلوح على صاحبه بمحبته الثناء وشوب الإخلاص إذ إيهام كثرة الشيوخ دال على محبته لمدحه بكثرة ملاقاة من أخذ عنه وهمته ورغبته، مع أن له محملاً صالحاً إذا تؤمل وهو أن يكون كثير الشيوخ أجل قدراً مع من لا يميز الأكثرون فيكون ذلك داعياً لهم إلى الأخذ عن الراوي وذلك يشتمل على قربة عظيمة وهي إشاعة الأخبار النبوية.
(تنبيه): وممن اشتهر بتدليس الشيوخ الخطيب فقد كان لَهِجاً به في تصانيفه، قال الحافظ: ينبغي أن يكون الخطيب قدوة في ذلك وأن يستدل بفعله على جوازه (1) فإنه إنما يعمى على غير أهل الفن، وأما أهله فلا يخفى ذلك عليهم لمعرفتهم بالتراجم، ولم يكن الخطيب يفعل ذلك إيهاماً للكثرة فإنه مكثر من الشيوخ والمروياتِ والناسُ بعده عيال عليه وإنما يفعل ذلك تفننا في العبارة أفاده في التوضيح.
ثم إن من أقسام التدليس ما هو عكس هذا كما أشار إليه بقوله:
(1) في استدلاله بفعل الخطيب على الجواز نظر، إذ الجواز حكم، والحكم لا يثبت إلا بنص. فتأمل.
176 -
وَمِنْهُ إِعْطَاءُ شُيُوخٍ فِيهَا
…
اسْمَ مُسَمًّى آخَرٍ تَشْبِيهَا
(ومنه) أي من تدليس الشيوخ خبر مقدم لقوله (إعطاء شيوخ فيها) أي في الأسانيد (اسم مسمى) مفعول ثان لإعطاء، وقوله:(آخَرٍ) صفة لمسمى، وصرف للضرورة، أي إعطاء شيخ من شيوخ الإسناد اسم شخص آخر وذلك الشخص مشهور (تشبيها) مفعول لأجله أي لأجل تشبيه ذلك الشيخ بذلك الشخص المشهور.
وحاصل المعنى: أن من تدليس الشيوخ إعطاء شخص اسم آخر مشهور تشبيهاً، ذكر هذا ابن السبكي في جمع الجوامع قال كقولنا: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ يعني الذهبي تشبيهاً بالبيهقي حيث يقول ذلك يريد به الحاكم.
وكقول الناظم: حدثنا أبو الفضل الحافظ يعني ابن فهد تشبيهاً بالحافظ ابن حجرٍ حيث يقول ذلك ويريد به العراقي، وكذا إيهام اللقي والرحلة. كحدثنا من وراء النهر يوهم أنه جيحون ويريد نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، وليس ذلك بجرح قطعاً كما قاله جماعة من المحققين لأن ذلك من باب المعاريض لا من باب الكذب قاله الآمدي في الأحكام وابن دقيق العيد في الاقتراح.
(تنبيهات): الأول: قال الحافظ ويلحق بقسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد كما إذا قال المصري: حدثني فلان بالأندلس فأراد موضعاً بالقرافة، أو قال بزقاق حلب وأراد موضعاً بالقاهرة، أو قال البغدادي: حدثني فلان بما وراء النهر وأراد نهر دجلة، أو قال بالرقة وأراد بستاناً على شاطئ دجلة، أو قال الدمشقي: وحدثني بالكرك وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق، ولذلك أمثلة كثيرة، وحكمه الكراهة لأنه يدخل في باب التشبع، وإيهام الرحلة في طلب الحديث إلا أن تكون هناك قرينة تدل على عدم إرادة التكثر فلا كراهة انتهى كلام الحافظ. اهـ توضيح.
(الثاني): قال في التدريب: استدل على أن التدليس ليس بحرام بما أخرجه ابن عدي عن البراء قال: " لم يكن فينا فارس يوم بدر إلا المقداد "
قال ابن عساكر قوله فينا يعني المسلمين لأن البراء لم يشهد بدراً اهـ.
قلت في استدلاله بهذا على عدم الحرمة نظر إذ هذا قول صحابي لا يدل على الجواز ولا على عدمه.
(الثالث): قال الحافظ في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس: هم على خمس مراتب:
الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه في جنب ما روى كالثَّوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
الثالثة: من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقاً ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي.
الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد.
الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع إلا أن يوثق من كان ضعفه يسيرا كابن لهيعة اهـ.
ونظمت ذلك في منظومتي المسماة بالجوهر النفيس في نظم أسماء ومراتب ذوي التدليس، فقلت:
أولها من ليس يُوصف بذا
…
إلا بِنُدَرة فنِعْمَ ما احتَذَا
والثاني من تَحْتَمِلُ الأئمةُ
…
لكونه قَلَّلَ وَهْوَ قدوَةُ
ثالثُها من أكثروا فَأُهْمِلُوا
…
إلا إذا السماعُ منهم يُنقَل
ورَدَّهُم بعضٌ وبعض قَبِلَا
…
منهُم على الإطلاقِ فيهما انجَلَى
رابعُها مَن باتفاقٍ طُرِحُوا
…
إلا إذا السَّمَاعَ حقاً صَرَّحُوا
لِكَثرةِ التدليسِ عمن جُهِلَا
…
والضعفاءِ فَاحذَرَنْ لا تُنْقلَا
خامِسُها مَن ضَعفُهمُ قَدِ ارتَقَى
…
بِمَا سِوىَ التدليسِ فَاردُدْ مُطلَقا
إلَاّ إذا وُثّقَ مَن ضَعفُهُ قَلّ
…
فَاقبَل لِمَا سَمَاعُهُ نَصًّا حَصَلْ
الرابع: قال الحاكم أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي وخراسان
والجبال وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا نعلم أحداً من أئمتهم دلسوا قال: وأكثر المحدثين تدليساً أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة، قال وأما أهل بغداد فلم يذكر عن أحد من أهلها التدليس إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي فهو أول من أحدث التدليس بها ومن دلس من أهلها إنما تبعه في ذلك. وقد أفرد الخطيب كتاباً في أسماء المدلسين ثم ابن عساكر. اهـ تدريب.
وقال الحافظ في تعريف أهل التقديس ما حاصله قد أفرد أسماء المدلسين من القدماء الكرابيسي صاحب الشافعي ثم النسائي ثم الدارقطني ثم نظم الحافظ الذهبي أرجوزة في ذلك وتبعه في ذلك الحافظ أحمد بن إبراهيم المقدسي فزاد عليه ثم ذيل الحافظ العراقي كتاب العلائي المسمى " جامع التحصيل في أحكام المراسيل " ثم ولده الحافظ أبو زرعة في تصنيف مستقل ومن المتأخرين أيضاً برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي. اهـ ملخصاً.
قلت ثم جمع الجميع الحافظ في الكتاب المذكور فجملة ما فيه مائة واثنان وخمسون شخصاً.
ونظمت الكتاب في أرجوزة سميتها " الجوهر النفيس في نظم أسماء ومراتب ذوي التدليس " وعدتها مائة وثمانية عشر بيتاً.
(تَتِمَّة): الزيادات على العراقي من قوله: وقيل في البيت الثالث إلى قوله طرا، وقوله: وما أتانا في الصَّحِيحين البيت، ولفظ التجويد، وقوله إسقاط إلى قوله جرح، وقوله ومنه إعطاء شيوخ البيت.