الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تحمل الحديث)
أي هذا مبحثه وهو النوع الثامن والثلاثون من أنواع علوم الحديث.
344 -
وَمَنْ بِكُفْرٍ أَوْ صِباً قَدْ حَمَلا
…
أَوْ فِسْقِهِ ثُمَّ رَوَى إِذْ كَمَُِلا
345 -
يَقْبَلْهُ الْجُمْهُورُ وَالْمُشْتَهِرُ
…
لا سِنَّ لِلْحَمْلِ بَلِ الْمُعْتَبَرُ
346 -
تَمْيِيزُهُ أَنْ يَفْهَمَ الْخِطَابَا
…
قَدْ ضَبَطُوا وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
347 -
وَمَا رَوَوْا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلِ
…
وَنَجْلِ هَارُونَ عَلَى ذَا نَزِّلِ
348 -
وَغَالِبًا يَحْصُلُ إِنْ خَمْسٌ غَبَرْ
…
فَحَدُّهُ الْجُلُّ بِهَا ثُمَّ اسْتَقَرْ
349 -
وَكَتْبُهُ وَضَبْطُهُ حَيْثُ اسْتَعَدّ
…
وَإِنْ يُقَدِّمْ قَبْلَهُ الْفِقْهَ أَسَدّ
(وَمَنْ) موصولة أو شرطية مبتدأ (بِكُفْرٍ) متعلق بحمل، والباء بمعنى في، أو بمعنى مع أي في حالة كفره، أو مع كفره، (أو صبا) بكسر ففتح مقصوراً الصغر، أي في حالة صغره، (قد حملا) بالبناء للفاعل والألف للإطلاق، أي نقل الحديث (أو) حمل في حال (فسقه ثم روى) ما حمله (إذ كملا) أي وقت كماله بالإسلام، والبلوغ والتوبة، وميم كمل مثلثة والألف إطلاقية وجملة قوله (يقبله الجمهور) خبر مَنْ، أو جوابه، أي يَقْبَلُ روايته أكثرُ أهل الحديث.
والجُمْهُور بالضم الخَلْقُ العظيم جمعه جماهير، سموا به لكثرتهم، وأصله الرَّمْلَة المشرفة على ما حولها سميت به لعلوها وكثرتها.
وحاصل المعنى أن من تحمل الحديث في حال كفره، أو صغره، أو فسقه ثم أداه بعد كمال الأهلية قَبِلَهُ الجمهور.
أما الكافر فقبول روايته اتفاق كما قاله السخاوي، خلافاً لما أفاده في النظم من أنه قول الجمهور، لأن كَماَلَ الأهلية لا يشترط حين التحمل عندهم، واحتجوا بأن جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر قبل أن يسلم فسمعه حينئذ يقرأ في المغرب بالطور، قال جبير: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وفي لفظ فأخذني من قراءته الكَرْب، وفي آخر فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن، وكان ذلك سبباً لإسلامه، ثم أدى هذه السنة بعد إسلامه، وحملت عنه.
وأما الفاسق فإنه إذا تحمل في حال فسقه ثم زال فسقه وأدى فإنه يقبل عندهم من باب أوْلَى.
وأما الصبي: فإن الجمهور على قبوله إذا أدى بعد البلوغ، وشذ قوم فلم يقبلوه لأن الصبا مظنة عدم الضبط، ورد بالإجماع على قبول حديث جماعة من الصحابة مما تحملوه في الصغر، كالسبطين الحسن والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابن الزبير، وابن عباس، وغيرهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده، وكذلك كان أهل العلم من المحدثين سلفاً وخلفاً يُحضِرُون الصبيان مجالس العلم، ثم يقبلون رواياتهم بعد البلوغ.
ولما اختُلِفَ في وقت طلب الحديث للصبي ذكره بقوله:
(والمشتهر) من أقوال العلماء الذي صوبه المحققون مبتدأ خبره جملة قوله: (لا سن للحمل) أي عدم اعتبار سن معين في تحمل الحديث، والرابط كون الخبر في المعنى نفس المبتدإ (بل المعتبر) في ذلك مبتدأ خبره قوله:(تمييزه) أي كون الصبي مميزاً، وإن كان دون خمس، وإلا لم يصح، وإن كان ابن خمسين، ثم فسر التمييز، فقال:(أن) مصدرية (يفهم) الصبي (الخطابا) بألف الإطلاق، أي مخاطبة النَّاس له وأن وصلتها في تأويل المصدر بدل من تمييز، أو خبر لمحذوف، أي هو فهمه الخطاب وقوله:(قد ضبطوا)
جملة معترضة بين المتعاطفين أي ضبط العلماء وقت التحمل بفهم الخطاب، ورده الجواب، وقوله (ورده الجوابا) عطف على أن وصلتها والألف إطلاقية، أي رده جواباً لمن خاطبه.
وحاصل معنى البيت: أن المشهور من أقوال العلماء الذي صححه المحققون كابن الصلاح والنووي وغيرهما في وقت التحمل هو اعتبار التمييز فإذا فهم الخطاب ورد الجواب كان صحيح السماع وإلا فلا.
ومقابلهُ قول من قال حده عشرون سنة، وهو الذي عليه أهل الكوفة، قالوا لأنها مجتمع العقل، وقال أبو بكر الخطيب: قَلَّ مَن كان يكتب الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريباً منه إلا من جاوز حد البلوغ وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم وسؤالهم.
وقول من قال: إنه عشر سنين، وهو العادة لأهل البصرة، وقول من قال: إنه ثلاثون سنة وعليه أهل الشام، ومن قال إنه خمس سنين وعليه الجمهور كما يأتي.
وبقيت أقوال تركتها للطول.
(وما) موصولة مفعول مقدم لنَزِّلِ (رووا) أي نقل العلماء (عن) الإمام أبي عبد الله (أحمد) بن محمد (ابن حنبل) الشيباني وهو أنه سئل متى يسمع الصبي الحديث فقال: إذا عقل وضبط، فذكِرَ له عن ابن معين أنه قال: لا يجوز سماعه قبل خمسة عشر سنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد البراء وابن عمر رضي الله عنهم يوم بدر لصغرهم عن هذا السن، فأنكر قوله هذا، وقال: بئس القول فكيف يصنع بسفيان ووكيع ونحوهما ممن سمع قبل هذا السن؟ قال وإنما ذاك في القتال.
قال السخاوي على أن قول ابن معين هذا يوجه بحمله على إرادة تحديد ابتدإ الطلب بنفسه، أما من سمع اتفاقاً، أو اعتُنيَ به فسمع وهو صغير فلا، لا سيما، وقد نقل ابن عبد البر وغيره الاتفاق عَلى قبوله اهـ.
(و) كذا ما روى عن الحافظ أبي عمران بن المحدث أبي موسى، موسى
(نجل) أي ابن (هارون) بن عبد الله بن مروان الحمال البغدادي البزار محدث العراق ثقة حافظ قال عبد الغني بن سعيد: أحسن النَّاس كلاماً على الحديث ابن المديني في زمانه، وموسى بن هارون في زمانه، والدارقطني في وقته ولد سنة (214) ومات في شعبان سنة (294).
والمنقول عنه هو أنه سئل متى يسمع الصبي فقال: إذا فرق بين البقرة والحمار، وفي لفظ بين الدابة والبقرة، (على ذا) أي المذكور من أن المعتبر هو التمييز دون التحديد بسن مخصوص متعلق بقوله:(نزل) فعل أمر من التنزيل بمعنى الحمل.
والمعنى: احمل أيها المحدث ما روي عن الإمام أحمد وموسى بن هارون على أنهما أرادا التمييز والفهم.
ثم إن الذي استقر عليه عمل المتأخرين هو التحديد بخمس سنين لأنه يحصل فيه التمييز غالباً وإليه أشار بقوله:
(وغالباً) أي في غالب الأحوال، أو غالب النَّاس (يحصل) ما ذكر من التمييز (إن) شرطية (خمس) من السنين (غبر) أي مضى وهو من الأفعال المستعملة للأضداد يقال غبر: غبوراً من باب قعد: بقي، أو مضى.
وقيل عَبَرَ بالمهملة للماضي وبالمعجمة للباقي أفاده الفيومي، والمراد هنا معنى الماضي.
(فحده) أي من أجل أن حصول التمييز غالباً في الخمس حده أي وَقَّتَ السماعَ (الجُلّ) بالضم أي معظم أهل الحديث (بها) أي الخمس فقد نقل القاضي عياض أن أهل الصنعة حددوا أول زمن يصح فيه السماع للصغير بخمس سنين.
(ثم استقر) عليه عمل المتأخرين من أهل الحديث فيكتبون لابن خمس فصاعداً سمع، ولمن لم يبلغها حَضَرَ، أو أُحضِرَ، واحتجوا على ذلك بما رواه البخاري من حديث الزُّبَيدِيّ، عن الزهري، عن محمود بن الربيع قال:
" عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّة مَجّها في وجهي من دلو وأنا ابن خمس سنين "، وعليه بوب البخاري:" باب متى يصح سماع الصغير ".
وقال ابن رُشَيد: والظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مَظِنَّة لذلك لا أن بلوغها شرط لا بد من تحقيقه، ونحْوهُ قول غيره اعتبر الجمهور المَظِنَّة وهي الخمس فأقاموها مقام المَئِنَّة، وهي التمييز والإدراك والأولى أن تعتبر المَئِنَّة (1).
وقال القاضي عياض: ولعل تحديد أهل الصنعة بالخمس إنما أرادوا أن هذا السن أقل ما يحصل به الضبط، وعَقْلُ ما يسمع وحفظه، وإلا فمرجوع ذلك العادة، ورُبَّ بليد الطبع غبي الفطرة لا يضبط شيئاً فوق هذا السن، ونبيل الجِبِلَّةِ ذَكِيّ القريحة يعقل دون هذا السن قاله السخاوي رحمه الله.
ولما بين أن وقت التحمل هو التمييز وأنه يحصل غالباً في الخمس شرع يبين وقت كتابته للحديث فقال:
(وكتبه) بفتح فسكون مصدر كتب مبتدأ خبره جملة " استعد "، أي كتابة الصبي الحديث (وضبطه) أي تحقيق الحديث (حيث استعد) أي عند كون الصبي مستعداً، ومتأهلًا لذلك، فلا يتعين بوقت مخصوص، والحاصل أن اشتغال الصبي بكتابة الحديث وتحصيلِهِ وضبطه وتقييده فمن حين يتأهل لذلك، ويستعد له، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في زمن مخصوص.
(وإن يقدم) الطالب (قبله) أي قبل اشتغاله بالحديث (الفقه) أي طلبه (أسد) أي أصوب خبر لمحذوف والجملة جواب " إن " بتقدير الفاء أي فهو أسد أي أكثر سَدَاداً بالفتح وهو الصواب.
وحاصل المعنى: أن تقديم طالب الحديث الاشتغال بالفقه أحسن من تقديم طلب الحديث، لأن الْفِقْهَ مع كونه ثمرة الحديث يوجد فيه من المسائل الاجتهادية التي لا يتيسر لكل أحد استخراجها من النصوص، وإن لم تخرج
(1) المئنة كالمظنة: العلامة. اهـ ق.
منها، فإذا اشتغل الإنسان في أول أمره بالفقه يسهل عليه فهم ما يجب عليه من صنوف العبادات، وأيضاً يتمرن كيف يستنبط المسائل من النصوص، لكن هنا دقيقة ينبغي أن يتنبه لها وهي أن لا يتعمق في الغوص على رأي بعض النَّاس بحيث يجعله أساساً يبني عليه غيره، فيجعل المذهب ميزاناً يزن به ما ورد من النصوص لأن ذلك يؤديه إلى التعصب ورد النصوص الصَّحِيحة، بل ينبغي أن يجعل النصوص ميزاناً لأراء العلماء يقبل منها ما وافق، ويرد منها ما خالف أيا كان القائل؟.
وبالجملة فهذا الأمر مَهْوَاة بعيدة، ومغلطة شديدة، وقع فيها كثير من أهل العلم فضلاً عن العوام، ولا سيما المتأخرون إلا من عصم الله نسأل الله السلامة والعافية، وينبغي له أن يتبحر مع ذلك في اللغة والصرف، وسائر علوم الأدب، فإنها تفتح له باب فهم النصوص.
وعلومُ الأدب، وتسمى علومُ العربية اثنا عشر علماً: النحو، والصرف، واللغة، والاشتقاق، والمعاني، والبيان (1)، والخط، والعروض، والقافية، وقرض الشعر (2)، وإنشاء الخطب والرسائل، والتاريخ (3)، ونظمت ذلك بقولي:
نَحْوٌ وَصَرْفٌ والاشْتِقَاقُ وَالُّلغَةُ
…
ثُمَّ اْلمَعَانِي كَذَا الْبَيَانُ قاَفِيَةُ
ثُمَّ الْعَرُوضُ وَقَرْضُ الشِّعْر خَطُّهُمُ
…
تَاريخُهُمْ بَعْدَهُ الِإنْشَاءُ خَاتِمَةُ
فَتِلْكَ عَشْرٌ مَعَ اثْنَتَيْنِ بِاْلأدَبِ
…
قَدْ سُمِّيَتْ فَاَحْوِهَا فَإِنَهَا رَايَةُ
(تَتِمَّة): الزيادات في هذا الباب قوله: " أو فسقه "، وقوله " نَزِّلْ "، وقوله " وإن يقدم " إلخ.
ولما أنهى الكلام على تحمل الحديث شرع يتكلم على وجوه التحمل متمماً للفوائد المتعلقة بالباب المتقدم فقال:
(1) وأما البديع: فذيل لهذين العلمين.
(2)
وهو الإتيان بالكلام الموزون المقفى.
(3)
هو معرفة أخبار الأمم الماضية، وتقلبات الزمن بمن مضى لتحصل ملكة التجارب، والتحرّز من مكائد الدّهْر.