الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْمُعَلُّ)
أي هذا مبحثه وهو النوع الثاني والثلاثون من أنواع علوم الحديث، وهو من أعل الرباعي، وهو أولى وأجود من تعبير غيره بالمعلل بلامين لأنه قياس مفعول أعل بخلاف الثاني فإنه مفعول علل.
وقد وقع في عبارة كثير من المحدثين تسميته بالمعلول كالترمذي وابن عدي والدارقطني وأبي يعلى الخليلي والحاكم وغيرهم وأنكره ابن الصلاح والنووي وقال إنه لحن، وأنكره أيضاً العراقي والحريري في درة الغَوَّاص، والأحسن أن يقال فيه معل بلام واحدة لا معلل فإن الذي بلامين يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء شغله به، وأكثر عبارات المحدثين في الفعل أن يقولوا أعله فلان بكذا فقياسه معل أفاده العراقي في التقييد.
قال الجامع: لكن قال في المصباح عُلَّ الإنسان بالبناء للمفعول مرض، ومنهم من يبنيه للفاعل من باب ضرب فيكون المتعدي من باب قتل فهو عليل، وأعله الله فهو معلول قيل من النوادر التي جاءت على غير قياس وليس كذلك فإنه من تداخل اللغتين، والأصل أعله الله فَعُلَّ معلول أو من عله فيكون على القياس، وجاء معل على القياس لكنه قليل الاستعمال. اهـ باختصار.
فأفاد أن قول المحدثين معلول جار على اللغة، وليس بلحن، ويؤيده أيضاً استعمال أبي إسحاق الزجاج اللغوي لفظ معلول في العروض قال ابن
سيده بعد نقله: فلست منها على ثقة لأن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم مجنون ومسلول من أنهما جاءا على جننته وسللته ولم يستعملا في الكلام واستغنى عنهما بأفعلت قال: وإذا قالوا جُنَّ وشلَّ فإنما يقولون جعل فيه الجنون والسل كما قالوا حُزِنَ وفُسِلَ أفاده في اللسان.
ثم إن هذا النوع من أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها وإنما يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل، كابن المديني وأحمد والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني. قال الحاكم: وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، والحجة في التعليل عندنا بالحفظ والفهم والمعرفة لا غير، وقال ابن مهدي: لأن أعرف علة حديث أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثاً ليس عندي. أفادهُ في التدريب. قال رحمه الله:
220 -
وَعِلَّةُ الْحَدِيثِ: أَسْبَابٌ خَفَتْ
…
تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ، حِينَ وَفَتْ
221 -
مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرُهُ السَّلامَهْ
…
فَلْيَحْدُدِ الْمُعَلَّ مَنْ قَدْ رَامَهْ
222 -
مَا رِيءَ فِيهِ عِلَّةٌ تَقْدَحُ فِي
…
صِحَّتِهِ بَعْدَ سَلامَةٍ تَفِي
223 -
يُدْرِكُهَا الْحَافِظُ بِالتَّفَرِّدِ
…
وَالْخُلْفِ مَعْ قَرَائِنٍ، فَيَهْتَدِي
224 -
لِلْوَهْمِ بِالإِرْسَالِ أَوْ بِالْوَقْفِ أَوْ
…
تَدَاخُلٍ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ حَكَوْا
225 -
بِحَيْثُ يَقْوَى مَا يَظُنُّ، فَقَضَى
…
بِضَعْفِهِ، أَوْ رَابَهُ فَأَعْرَضَا
(وعلة الحديث) أي الأشياء التي توجب كون الحديث معلاً، مبتدأ خبره قوله (أسباب) جمع سبب، لغة: ما يتوصل به إلى غيره، واصطلاحاً ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته (خفت) بفتح الخاء والفاء على لغة من قال بَقَى يَبْقى بالفتح فيهما، وهم طيء، فإنهم يفتحون ما كان معل اللام على فعل بكسر العين تخفيفاً كبَقِىَ وفَنِىَ وخَفِىَ، والجملة صفة أسباب، أي أسباب خفية غير واضحة إلا للحذاق الماهرين بِالْفَنِّ. قال الصنعاني: وكان هذا تعريف أغلبي للعلة، وإلا فإنه سيأتي أنهم قد يعلون
بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة، ويعلون بما لا يؤثر في صحة الحديث اهـ.
وجملة (تقدح) أي تلك العلة، صفة ثانية لأسباب، يقال قدح فلان في فلان قدحاً من باب نفع عابه وتنقصه، أفاده في المصباح، أي تنتقص تلك العلة (في صحته) أي صحة ذلك الحديث الذي وجدت هي فيه (حين وفت) أي وجدت العلة، متعلق بتقدح، أي تقدح العلة في صحة الحديث وقت وجودها فيه (مع) بسكون العين لغة قليلة في فتحها (كونه) أي الحديث (ظاهره السلامه) مبتدأ وخبر، والجملة خبر كونه، ويحتمل أن يكون ظاهرِهِ مجروراً بَدَلَ اشتمال من الضمير والسلامة بالنصب خبر كون.
والمعنى: أن علة الحديث هي أسباب غامضة خفية قادحة في الحديث مع كون ظاهره السلامة منها وهذا تعريف العلة.
وأما تعريف الحديث المعل فأشار إليه بقوله: (فليحدد) الفاء فصيحية، واللام لام الأمر، ويحدد بالبناء للفاعل، أي يعرف الحديث (المعل) بالنصب على المفعولية، والفاعلُ قوله (من) أي الشخص الذي (قد رامه) أي قصد حده، أي معرفة حقيقته بأنه (ما) أي الحديث الذي (رىء) بكسر الراء بوزن قيل أصله رُءِيَ مغيرَ صيغةِ رَأى دخله القلب المكاني بأن قدمت اللام على العين فصار " رُي أ " ثم نقلت كسر العين إلى الفاء فصار " رِيْءَ " بكسر الراء وسكون الياء للوزن، أي اطلع (فيه) بعد التفتيش التام (علة) نائب فاعل رىء أي خفية، من العلل الآتية، في سنده، أومتنه (تقدح) أي تنتقص (في صحته) أي صحة ذلك الحديث (بعد سلامة) من تلك العلة ظاهراً، لجمعه شروط القبول الظاهرة، وقوله (تفى) من الوفاء أي تحصل وتوجد، والجملة صفة لسلامة أي بعد سلامة وافية، ووصفها بها إشارة إلى أن سلامة ذلك الحديث هو الظاهر لمن رآه حيث اجتمعت فيه الشروط إلا أنه بعد التفتيش اطلع فيه على علة.
وحاصل المعنى: أن المعل هو الحديث الذي ظاهره السلامة لكن اطلع فيه بعد التفتيش على علة قادحة.
ثم ذكر طريق معرفة تلك العلة بقوله (يدركها) أي العلة القادحة (الحافظ) أي الضابط المتقن ذو المعرفة التامة (بالتفرد) متعلق بيدرك أي بسبب تفرد الراوي بذلك الحديث وعدم المتابعة عليه، فإن ذلك مما يورث الشك، ولذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذى اليدين لتفرده به حتى وافقه غيره من الحاضرين عليه بعد أن سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أفاده بعض (1) المحقيقين (والخلف) بالجر عطفاً على ما قبله، أي وبسبب مخالفة الراوي غيره ممن هو أحفظ وأضبط وأكثر عدداً (مع) بالسكون لغة في الفتح (قرائن) بالصرف للضرورة جمع قرينة فعيلة بمعنى فاعلة لغةً مأخوذة من المقارنة، واصطلاحاً أمر يشير إلى المطلوب قاله الجرجاني في التعريفات، أي مع ضم القرائن إلى ما ذكر من التفرد والمخالفة. وحاصل المعنى أن العلة يدركها الحافظ بأحد أمرين، إما بتفرد الراوي، وإما بمخالفة غيره له مع قرائن تضم إلى ذلك، (فيهتدى) ذلك الحافظ بمجموع ذلك (للوهم) أي إلى وهم الراوي، يقال: وَهَمْتُ في الصلاة وهْماً كوعد وعداً، وَوَهمَ كوَجِلَ كلاهما بمعنى سها، أفاده في اللسان، وبعض اللغويين يقول وَهِمَ كغلط وزنا ومعنى، وَوَهَم إليه كوعد ذهب وهمه إليه وفي " ق " وَهِمَ في الحساب كوَجِلَ غَلِطَ، وفي الشيء كوَعَدَ ذهب وهمه إليه وهو يريد غيره وأوهم كذا من الحساب أسقط أو وَهَم كوَعَدَ ووَرِثَ وأوْهَمَ بمعنى واحد. اهـ بزيادة من التاج، فأفاد ضبط الوَهْم بسكون الهاء.
والجار والمجرور متعلق بما قبله، واللام بمعنى إلى أي يهتدي الحافظ بسبب ما ذكر إلى وهم الراوي، (بالإرسال) في الموصول (أو بالوقف) في المرفوع (أو بتداخل بين حديثين) أي دخول حديث في
(1) هو العلامة ابن الوزير صاحب تنقيح الأنظار.
حديث. وقوله (حكوا) أي حكى العلماء ذلك، جملة أتى بها إشارة إلى أن هذه الأمور ذكرها العلماء في تعليل الحديث.
(بحيث يقوى) أي يغلب (ما يظن) ذلك الحافظ من كون الحديث معلا بما ذكر والجار والمجر ور يتعلق بقوله " يهتدي " أو بمحذوف نعتٍ لمصدر محذوف، أي اهتداء كائناً بحيث يقوى. (فقضى) أي حكم الحافظ (بضعفه) أي ضعف ذلك الحديث الذي وجدت فيه العلة، وإنما قال يظن لأن مبنى هذا النوع على غلبة الظن (أو رابه) عطف على يقوى أي أوقعه في الريب، وهو الشك والتردد، (فأعرضا) بألف الإطلاق، أي توقف عن القول بقبوله وعدمه احتياطاً، لتردده بين تعليله وبين عدمه، ولو كان ظن تعليله أنقص.
وحاصل معنى هذه الأبيات الثلاث أن العلة يدركها الحافظ الناقد بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك فيهتدي بذلك إلى اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث وغير ذلك من الأشياء القادحة كإبدال راو ضعيف بثقة بحيث غلب على ظنه ذلك فحكم بضعف ذلك الحديث أو تردد فيه فوقف عن الحكم بصحة الحديث أو وضعه احتياطاً.
قال الناظم وربما تقتصر عبارة المُعَلِّلِ عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في الدينار والدرهم، قال ابن مهدي: معرفة علل الحديث إلهام لو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة وكم من شخص لا يهتدي لذلك.
وقيل له أيضاً إنك تقول للشىء هذا صحيح، وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأل عن ذلك أو تسلم له الأمر؟ قال بل أسلم قال: فهذا كذلك بطول المجالسة والمناظرة والخبرة.
وسئل أبو زرعة ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته ثم تقصد ابن وَارَةَ فتسأله عنه فيذكر علته ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث فإن
وجدت بيننا خلافاً فاعلم أن كلًّا منا تكلم على مراده وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم فقال أشهد أنَّ هذا العلم إلهام. ذكره في التدريب.
ثم ذكر الطريق الموصل إلى معرفة علل الحديث فقال:
226 -
وَالْوَجْهُ فِي إِدْرَاكِهَا جَمْعُ الطُّرُقْ
…
وَسَبْرُ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَالْفِرَقْ
(والوجه) أي الجهة والطرق الموصلة (في إدراكها) أي إلى معرفة علة الحديث، وقوله الوجه مبتدأ خبره قوله (جمع الطرق) أي جمع أسانيد الحديث المشتملة على المتون واستقصاؤها من الجوامع والمسانيد والأجزاء (وَسَبْرُ) بفتح السين وسكون الباء، أي تتبع (أحوال الرواة) جمع راو (والفرق) جمع فرقة وهي الطائفة، والمراد هنا الرواة فالعطف للتفسير، وذلك بالنظر في اختلاف رواة ذلك الحديث ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط وهذا الذي قاله في النظم للخطيب، وعن علي بن المديني قال: الباب إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه.
ولذا قال الحافظ في شرح النخبة: وهذا الفن من أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً عالياً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة شافية، ولم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن، وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لِمَا جعل الله عز وجل فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك، ثم ذكر مواضع العلل فقال:
227 -
وَغَالِبًا وُقُوعُهَا فِي السَّنَدِ
…
وَكَحَدِيثِ " الْبَسْمَلَهْ " فِي الْمُسْنَدِ
(وغالباً) حال مقدم من قوله (وقوعها) أي وجود العلة في غالب الأحوال: وهو مبتدأ خبره قوله (في السَّند) أي كائن في سند الحديث، والمعنى أن العلة إنما توجد غالباً في سند الحديث، ثم إنها قد تقدح في المتن أيضاً كالإعلال بالإرسال في الموصول أو الوقف في المرفوع، أو بغير
ذلك من موانع القبول وقد لا تقدح كالإعلال بوهم الراوي في اسم أحد الرجال مع ثبوت الإسناد عن الثقات على الصواب من غير رواية ذلك الراوي الذي وهم.
قال البقاعي: الكلام الضابط أن يقال الحديث لا يخلو إما أن يكون فرداً أوله أكثر من إسناد، فالأول يلزم من القدح في سنده القدح في متنه، وبالعكس، والثاني لا يلزم من القدح في أحدهما القدح في الآخر.
وقال الحافظ: إذا وقعت العلة في الإسناد فقد تقدح وقد لا تقدح وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن، وكذا القول في المتن سواء فالأقسام على هذا ستة. فمثال ما وقعت فيه العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً ما يوجد مُدَلَّساً بالعنعنة فإن ذلك يوجب التوقف عن قبوله فإذا وجد من طريق آخر قد صرح فيه بالسماع تبين أن العلة غَيْرُ قادحةٍ.
ومثال ما وقعت فيه العلة في الإسناد ويقدح فيه دون المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان الثَّوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار " الحديث فهذا الإسناد متصل بنقل العدل عن العدل وهو معلل غير صحيح والمتن صحيح على كل حال، والعلة في قوله عن عمرو بن دينار إنما هو عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه فوهم يعلى بن عبيد وعدل عن عبد الله بن دينار وكلاهما ثقة، ومثال ما وقعت فيه العلة في المتن دون الإسناد ولا يقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصَّحِيحين إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنها.
ومثال ما وقعت العلة في متنه، واستلزمت القدح في الإسناد: ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ، والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي، فَيُعَلِّل الإسناد.
ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ما أشار إليه الناظم بقوله (وكحديث) نفي قراءة (البسملة) في الصلاة حال كونه مروياً (في) جملة
(المسند) أي الحديث المرفوع المتصل إذ معنى المسند كما تقدم هو المرفوع المتصل سنده يعني أن هذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم متصل سنده، وأشار الشارح إلى أن المراد بالمسند هو صحيح مسلم.
وحاصل المعنى أن العلة تقع بقلة في المتن دون الإسناد، مثاله حديث نفى قراءة البسملة في الصلاة الذي انفرد به مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول قراءة ولا في آخرها " ثم رواه من رواية الوليد عن الأوزاعي أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنساً يذكر ذلك وروى مالك في الموطأ عن حميد عن أنس قال: " صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقراء بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وزاد فيه الوليد بن مسلم عن مالك " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكلم الناظم رحمه الله تعالى في علل هذا الحديث في التدريب وأطال، وملخصها أن لهذا الحديث تسع علل: المخالفة من الحفاظ والأكثرين، والانقطاع، وتدليس التسوية من الوليد، والكتابة، وجهالة الكاتب، والاضطراب في لفظه، والإدراج، وثبوت ما يخالفه عن صحابيه، ومخالفته لما رواه عدد التواتر، قال الحافظ أبو الفضل العراقي: وقول ابن الجوزي إن الأئمة اتفقوا على صحته فيه نظر فهذا الشافعي والدراقطني والهبيهقي وابن عبد البر لا يقولون بصحته أوَلَا يقدح كلام هؤلاء في الاتفاق الذي نقله.
ثم إن الحاكم رحمه الله نوع في كتابه معرفة علوم الحديث أجناس العلل فذكر ذلك بقوله:
228 -
وَنَوَّعَ الْحَاكِمُ أَجْنَاسَ الْعِلَلْ
…
لِعَشْرَةٍ، كُلٌّ بِهَا يَأْتِي الْخَلَلْ
(ونوع) أي قسم (الحاكم) أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ
النيسابوري المشهور بابن البيع في كتابه معرفة علوم الحديث (أجناس العلل) أي أنواع علل الحديث التي إذا وجدت منها واحدة فيه يسمى معلاً (لعشرة) أي إلى عشرة أنواع (كل) مبتدأ خبره قوله: يأتي أي كل واحد من تلك الأنواع (بها) أي بسبب وجودها في الحديث متعلق بقوله: (يأتى الخلل) أي يوجد القدح في صحته.
وحاصل المعنى: أن الحاكم قسم أجناس العلل إلى عشرة أنواع أجملها في النظم، وتفصيلها بأمثلتها أن نقول " الأول ": أن يكون السَّند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه كحديث موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من جلس مجلساً فكثر لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك " فروي أن مسلماً جاء إلى البخاري وسأله عنه فقال: هذا حديث مليح إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن عون بن عبد الله قولهُ (1) وهذا أولى لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل فقام إليه مسلم وقبل يده.
وقال الحافظ العراقي: هكذا أعل هذا الحديث بهذه الحكاية،
والغالب على الظن عدم صحتها، وأنا أَتهمُ بها أحمد بن حمدون القصار راويها عن مسلم فقد تكلم فيه. وهذا الحديث قد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ويبعد أن البخاري يقول أنه لا يعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث مع أنه قد ورد من حديث جماعة من الصحابة غير أبي هريرة وهم أبو برزة الأسلمي ورافع بن خَدِيج وجبير بن مطعم والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وعائشة وقد بينت هذه الطرق كلها في تخريج أحاديث الإحياء للغزالي اهـ.
(1) أي من قول عون وليس بمرفوع.
" الثاني ": أن يكون الحديث مرسلًا من وجه رواه الثقات الحفاظ ويسنده من وجه ظاهره الصحة كحديث قبيصة بن عقبة عن سفيان عن خالد الحذاء وعاصم عن أبي قلابة عن أنس مرفوعاً " أرحم أمتى أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر " الحديث قال فلو صح إسناده لأخرج في الصَّحِيح إنما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة مرسلاً.
" الثالث ": أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين كحديث موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه مرفوعاً " إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة " قال: هذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شروط الصَّحِيحين، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زَلَقوا إنما الحديث محفوظ من رواية أبي بردة عن الأغر المزنى.
" الرابع ": أن يكون محفوظاً عن صحابي ويروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحبته بل ولا يكون معروفاً من جهته كحديث زهير بن محمد عن عثمان بن سليمان عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقرأ في المغرب بالطور " قال: أخرج العسكري وغيره هذا الحديث في الوُحْدان وهو معلول، أبو عثمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه، وعثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، وإنما هو عثمان بن أبي سليمان.
(الخامس): أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه رجل دل عليه طريق أخرى محفوظة كحديث يونس عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن رجال من الأنصار " أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرمي بنجم فاستنار " الحديث قال وعلته أن يونس مع جلالته قصر به وإنما هو عن ابن عباس، حدثني رجال هكذا رواه ابن عيينة وشعيب وصالح والأوزاعي وغيرهم عن الزهري.
(السادس) أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد كحديث علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن عبد الله بن
بريدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: " قلت يارسول الله مالك أفصحنا " الحديث قال وعلته ما أسند عن علي بن خشرم حدثنا علي بن الحسين بن واقد، بلغني عن عمر فذكره.
(السابع): الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله كحديث الزهري عن سفيان الثَّوري عن حجاج بن فرافصة عن يَحْيَى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً " المؤمن غِرّ (1) كريم والفاجر خِبّ (2) لئيم " قال: وعلته ما أسند عن محمد بن كثير حدثنا سفيان عن حجاج عن رجل عن أبي سلمة فذكره.
قال المحقق ابن شاكرٍ: قول السيوطي كحديث الزهري خطأ غريب من مثله فإن الزهري أقدم جداً من الثَّوري ولم يذكر أحد أنه روى عنه، والصواب كحديث أبي شهاب عن سفيان الثَّوري وأبو شهاب هو الحَنَّاط بالنون، واسمه عبد ربه بن نافع الكناني والحديث عنه في المستدرك للحاكم جـ 1 ص 43 فاشتبه الاسم على السيوطي وظنه ابن شهاب فنقله بالمعنى وجعله الزهري وهذا من مدهشات غلط العلماء الكبار رحمهم الله ورضي الله عنهم - اهـ.
قلت في معرفة علوم الحديث للحاكم مذكور على الصواب حدثنا أبو شهاب عن سفيان الثَّوري.
وقال المحقق أيضاً ما معناه أن التعليل المذكور غير صحيح لأن أبا شهاب لم ينفرد عن الثَّوري بتسمية يَحْيَى بن أبي كثير.
فقد تابعه عليه عيسى بن يونس وَيَحْيَى بن الضريس وله أيضاً شاهد فرواه عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يَحْيَى بن أبي كثير بإسناده اهـ.
(1) قوله: غر بالكسر أي جاهل بالأمور وغافل عنها.
(2)
قوله خب بالكسر: الخداع، ويقال: خب بالفتح أيضاً تسمية بالمصدر، أفاده في المصباح.
(الثامن): أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه ولكنه لم يسمع منه أحاديث معينة فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلتها أنه لم يسمعها منه كحديث يَحْيَى بن أبي كثير عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا أفطر عند أهل بيت قال أفطر عندكم الصائمون " الحديث قال فيَحْيَى رأى أنساً وظهر من غير وجه أنه لم يسمع منه هذا الحديث، ثم أسند عن يَحْيَى قال حدثت عن أنس فذكره.
(التاسع): أن تكون طريق معروفة يروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق بناء على الجادة فيقع من رواه من تلك الطريق في الوَهَم كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي عن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم وبحمدك " الحديث قال أخذ فيه المنذر طريق الجادة، وإنما هو من حديث عبد العزيز حدثنا عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبد الله بن أبي رافع عن علي.
(العاشر): أن يروى الحديث مرفوعاً من وجه وموقوفاً من وجه كحديث أبي فروة يزيد بن محمد حدثنا أبي عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعاً " من ضحك في صلاته يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء " قال: وعلته ما أسند وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان قال سئل جابر فذكره.
ثم قال الحاكم فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناس وبقيت أجناس لم نذكرها، وإنما جعلتها مثالاً لأحاديث كثيرة معلولة ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم اهـ معرفة علوم الحديث ص 119.
ونظم الشارح الترمسي هذه الأنواع فقال بعد بيت الناظم:
أولها ما ظاهرُ الإسناد له
…
صحتُهُ وباطناً من نقله
لم يُعرَفِ السماعُ ممن قد رَوَى
…
ثم الذي أرسَلَ مَن حفظا حَوَى
وهو صحيح مُسنَد في الظاهر
…
ثالثها مروى صحب فاخبُرِى
إن كان هذا عن سواه يُؤثَر
…
بخُلفِ بُلدانِ الرواةِ يُذكَرُ
ورابعٌ ما كان مَحفوظاً عَنِ
…
صَحابةٍ وَوَاهِم مَن يَقْتَنِي
بِمَا اقَتَضَى الصحةَ مع أنه لا
…
يكون عُرْفاً جِهَةً فِيمَا انجَلَى
خامسها معنعن فقد سقط
…
رَاوٍ بالاتضاحِ لِلَّذِي انضبط
سَادِسُها اختلاف نَحوِ السَّنَدِ
…
لِرَجُلٍ مُقَابَل ذُو العَمَدِ
ثم اختلاف شيخه عليه
…
اسماً كذا تجهيلُهُ لَدَيهِ
يَلِيه أن يكون مَن رَوَى سَمِع
…
عَنِ الذي أدركَ لكن ما سَمِعْ
عنه الأحاديثَ التي قَد عُيِّنَتْ
…
فَإِن بِلَا وَسْطٍ فَعِلَّةٌ وَفَتْ
تَاسِعُهَا كون الحديث قد عُرِفْ
…
طريقُهُ فواحِدُ مِمَن ألِفْ
رَوَى حديثاً مِن سِوَى طريقٍ
…
قَد وَهِمَ الباني عَلَى الطَّرِيق
ثُمَّةَ ما رَفْعاً وَوَقْفاً عَاشِرٌ
…
وَبَقِيَتْ هُنَاكَ مَا لَا نَذْكُرُ
ثم إنه تقدم لنا أن العلة تنقسم إلى أقسام فمنها ما يقدح في صحة الإسناد والمتن كالتعليل بالوقف والإرسال، ومنها ما يقدح في صحة الإسناد فقط وإليه أشار بقوله:
229 -
وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِقَادِحٍ، كَأَنْ
…
يُبْدِلَ عَدْلاً بِمُسَاوٍ، حَيْثُ عَنْ
(ومنه) أي العلة ذكر الضمير باعتبار أنه سبب، وهو خبر مقدم عن (ما) أي العلة التي (ليس) ذكر الضمير نظراً للفظ ما، أو لما ذكرنا (بقادح) أي منتقص في صحة المتن وذلك (كأن يبدل) الراوي (عدلاً) في السَّند (بـ) راو (مساو) له في الحفظ والإتقان (حيث عن) أي ظهر متعلق بمساو، أي أنه يساويه في الحفظ والإتقان في جميع شيوخه وإنما قيده به لأن بعض الرواة يكون ضابطاً لحديث بعض شيوخه دون بعض.
وحاصل المعنى: أن العلة قد توجد في السَّند من غير أن تقدح في متن الحديث كما تقدم في حديث " البيعان بالخيار " فإنه أبدل فيه عدل وهو
عبد الله بن دينار بعدل نظيره وهو عمرو بن دينار، فالسَّند معل غير صحيح، والمتن صحيح، وهذا البيت يتعلق بقول وغالباً وقوعها في السَّند، فكان الأولى ذكره عقيبه، فكأنه يقول إن العلة التي يحكم بها المجتهد بالضعف أو يتوقف تقع غالباً في السَّند فتقدح فيه وفي متن الحديث إلا إذا كان القدح بسبب إبدال راو ثقة بثقة مثلِهِ فحينئذ يقدح في المسند فقط. ثم إن العلة تطلق على غير مقتضاها الذي قدمناه من الأسباب القادحة وإليه أشار بقوله:
230 -
وَرُبَّمَا أُعِلَّ بِالْجَلِيِّ
…
كَالْقَطْعِ لِلْمُتَّصِلِ الْقَوِيِّ
231 -
وَالْفِسْقِ وَالْكِذْبِ وَنَوْعِ جَرْحِ
…
.................
(وربما) للتقليل كما هو الغالب في استعمالها عند البعض، وعبر العراقي بقوله: وَكَثُرَ التَعْلِيلُ، نظراً لكثرته في نفسه فلا ينافي كون الغالب في استعمال العلة هو الإطلاق على الأسباب القادحة (أُعِلَّ) بالبناء للمفعول وفي نسخة الشارح يعل، وقوله (بالجلي) نائب فاعله، أي الأمر القادح الظاهر الذي لا غموض فيه.
والمعنى: أنه ربما يعل المحدثون بغير ما مر من الأمور التي لا غموض فيها بل هي ظاهرة وذلك (كالقطع) أي مثل الإعلال بالانقطاع فالقطع مصدر قُطِعَ مغير الصيغة، وهو عدم الاتصال (للمتصل) أي للحديث الذي اتصل إسناده متعلق بحال محذوف أي حال كون الانقطاع كائناً للمتصل،
وقوله: (القوي) صفة للقطع لا للمتصل، لأنه إنما يعل المتصل بالانقطاع إذا كان أقوى منه، وأصرحُ من هذا عبارةُ العراقي حيث قال:
وَكَثُرَ التعليلُ بالإرسالِ
…
لِلْوَصل إن يَقْوَ عَلَى اتِصالِ
وحاصل معنى البيت: أنه ربما يعل المحدثون الحديث المتصل بالانقطاع إن كان قوياً على الاتصال، ومثله الوقف إن كان قوياً على الرفع، وذلك بكون راوي المنقطع والموقوف أضبط أو أكثر عدداً من رواة المتصل والمرفوع، وتوضيحه كما قال ابن الصلاح: إنه كثيراً ما يعللون الموصول
بالمرسل، مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول ويجيء أيضاً بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه.
(والفسق) بالجر عطف على القطع، أي وكالإعلال بفسق الراوي.
(والكذب) بالجر أيضاً، أي وكالإعلال بكذب الراوي، وهو بكسر الكاف وفتحها وسكون الذال، وهو المتعين للوزن، وإلا فأصله فتح الكاف وكسر الذال فخفف بكسر فسكون، قال بعضهم إذا جاء مع الصدق فالمخفف أولى ليوازن الصدق؛ قال في المصباح: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنة والإثم يتبع العمد.
(ونوع جرح) بالجر أيضاً أي وكالإعلال بأي نوع من أنواع الجرح فالتنوين للتكثير، وفي نسخة الشارح الجرح بالتعريف فأل للجنس أي أعلل بأنواع الجرح غير ما ذكر كغفلة الراوي، وسوء حفظه، مما هو قادح ظاهر من الأمور الوجودية.
وحاصل المعنى: أنهم قد يعلون الحديث بأنواع الجرح من الكذب والغفلة وسوء الحفظ وفسق الراوي من الأمور التي يأباها كون العلة خفية، ولهذا صرح الحاكم بامتناع الإعلال بالجرح ونحوه فإن حديث المجروح ساقط وَاهٍ ولا يُعَلُّ الحديث إلا بما ليس للجرح فيه مدخل.
قال السخاوي: ولكن ذلك منهم بالنسبة لما قبله قليل على أنه يحتمل أيضاً أن التعليل بذلك من الخفي لخفاء وجود طريق آخر ليجبر بها ما في هذا من ضعف فكان المعلل أشار إلى تفرده اهـ.
وحاصل ما أشار إليه الناظم أن ما تقدم في تعريف العلة من أنها عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث فأثرت فيه إنما هو أغلبي وإلا فقد يعلون بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة كالإعلال بهذه الأشياء المذكورة هنا.
وقد يعلون أيضاً بما لا يؤثر في صحة الحديث وإليه أشار بقوله:
...............
…
وَرُبَّمَا قِيلَتْ لِغَيْرِ الْقَدْحِ
232 -
كَوَصْلِ ثَبْتٍ، فَعَلَى هَذَا رَأَوْا
…
صَحَّ مُعَلٌّ وَهْوَ فِي الشَّاذِ حَكَوْا
(وربما قيلت) أي أطلقت العلة على قلة توسعاً (لغير قدح) أي على شيء غير قادح في صحة الحديث، وذلك (كوصل ثبت) بسكون الباء، يقال: رجل ثَبْت متثبت في أموره وثَبْت الجنان، أي ثابت القلب، ويقال أيضاً: رجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلاً ضابطاً والجمع أثبات مثل سبب وأسباب أفاده في المصباح، والمعنى: كوصل ثقة ضابط حديثاً أرسله من هو دونه أو مثله ولا مرجح، وهذا الإطلاق منقول عن الشيخ أبي يعلى الخليلي، قال في كتابه الإرشاد: إن الحديث على أقسام: معلول صحيح، ومتفق على صحته، أي لا علة فيه، ومختلف فيها، أي بالنظر للاختلاف في استجماع شروطها، وإلى هذا أشار بقوله:(فعلى هذا) أي الإطلاق المذكور من أنه تقال العلة لغير قادح متعلق بقوله: (رأوا) أي المحدثون المطلقون (صح معل) صفتان لمحذوف أي حديث صحيح معل. والمعنى أنهم وصفوا الحديث الواحد بالصفتين باعتبار إطلاقهما عليه فيقولون حديث صحيح لاستجماع شروطه معل لوجود صورة العلة فيه.
مثاله حديث مالك رحمه الله في الموطأ أنه بلغه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " فقد أورده معضلاً ورواة عنه إبراهيم بن طهمان والنعمان بن عبد السلام موصولاً، أي عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الخليلي: فقد صار الحديث بتبيين الإسناد صحيحاً يعتمد عليه، قيل وذلك عكس المعل فإنه ما ظاهره السلامة فاطلع فيه بعد الفحص على قادح وهذا كان ظاهره الإعلال بالإعضال فلما فتش تبين وصله قاله في التدريب.
(وهو) أي نظير الإطلاق المذكور وهو إطلاق الصَّحِيح على غير ما
تقدم في بحث الصَّحِيح (في الشَّاذ حكوا) أي العلماء حيث يقولون من الصَّحِيح صحيح شاذ. والجملة خبر هو. وحاصل المعنى: أن بعض العلماء أطلق الصَّحِيح على الشَّاذ كما أطلقوا المعل فيما تقدم فقالوا من الصَّحِيح ما هو صحيح شاذ، وهذا القول منقول عن الخليلي والحاكم، وذلك كحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، وحديث النيات، وغيرهما، ومن أغرب ما ذُكِرَ من الإعلال جعل النسخ علة كما فعله الترمذي وإلى ذلك أشار بقوله:
233 -
وَالنَّسْخُ قَدْ أَدْرَجَهُ فِي الْعِلَلِ
…
التِّرْمِذِيْ، وَخَصَّهُ بِالْعَمَلِ
(والنسخ) مبتدأ خبره جملة قد أدرجه، أو منصوب على الاشتغال، أي نسخ الحديث (قد أدرجه) أي أدخله (في) أقسام (العلل) الحديثية (الترمذي) بسكون الياء للوزن فاعل لأدرج.
والمعنى أن الإمام الحافظ أبا عيسى الترمذي صاحب الجامع سمى النسخ علة من علل الحديث، ومعنى كلامه هذا أنه يريد أنه علة في الحديث للعمل به لا لصحته كما أشار إليه بقوله (وخصه) فعل أمر أي خص أيها المحدث عموم قول الترمذي هذا (بالعمل) أي بكونه علة في العمل بالحديث لا أنه يريد بذلك العلة الاصطلاحية بدليل أن الترمذي نفسه يصحح كثيراً من المنسوخ في جامعه وكذا وقوعه في الصَّحِيحين وغيرهما.
(تنبيه): قد ألف العلماء في العلل فمنهم ابن المديني وابن أبي حاتم والخلال وأجمعها كتاب الدارقطني وقد طبع قريباً.
وقد صنف الحافظ فيه الزَّهرَ المطلول في الخير المعلول، ولكنه ما طبع إلى الآن ولو طبع لفاق الجميع لأن الشيخ واسع الاطلاع بصير بالفن رزقنا الله من يتولى طبعه.
(تَتِمَّة): الزيادات قوله: والوجه في إدراكها جمع الطرق إلخ، وقوله:
ونوع الحاكم البيت. ولما أنهى الكلام على المعل الذي شَرطُ الحكم به ترجيح جانب العلة ناسب أن يردفه بذكر ما لم يظهر فيه ترجيح وهو المضطرب ولذا قال: