الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أقسام التحمل)
أي هذا مبحث أنواع تحملِ أي نقلِ الحديث عن الشيوخ، وهذا الباب مكمل للباب السابق وليس باباً مستقلاً بنفسه، ومجاميع هذه الأقسام ثمانية تأتي مفصلة مع الألفاظ التي يُؤَدِّي بها ما تحمله في كل قسم، فالقسم الأول ما ذكره بقوله:
350 -
أَعْلَى وُجُوهِ مَنْ يُرِيدُ حَمْلا
…
سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيْخِ أَمْلَى أَمْ لا
351 -
مِنْ حِفْظٍ اوْ مِنْ كُتُبٍ وَلَوْ وَرَا
…
سِتْرٍ إِذَا عَرَفْتَهُ أَوْ أَخْبَرَا
352 -
مُعْتَمَدٌ، وَرَدَّ هَذَا شُعْبَهْ
…
ثُمَّ " سَمِعْتُ " فِي الأَدَاءِ أَشْبَهْ
353 -
وَبَعْدَهُ التَّحْدِيثُ فَالإِخْبَارُ ثُمّ
…
" أَنْبَأَنَا "" نَبَّأَنَا " وَبَعْدُ ضُمّ
354 -
" قَالَ لَنَا " وَدُونَهُ " لَنَا ذَكَرْ "
…
وَفِي الْمُذَاكَرَاتِ هَذِهِ أَبَرّ
355 -
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: " سَمِعْتُ " أَخِّرَا
…
وَقِيلَ: إِنْ عَلَى الْعُمُومِ أَخْبَرَا
(أعلى) أي أرفع (وجوه) أي طرق (من يريد حملا) أي أخْذاً للحديث عن الشيوخ عند جمهور المحدثين وغيرهم، فقوله أعلى مبتدأ خبره قوله (سماع لفظ الشيخ) ويجوز العكس أي سماع الطالب تلفظ الشيخ بالحديث، وقوله (أملى) فعل ماض من الإملاء، لغة في أملل، يقال أمللت الكتاب على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمليته عليه إملاء بمعناه، والأولَى: لغة الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة بني تميم، وقيس، وجاء
الكتاب العزيز بهما، (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)(فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أفاده الفيومي.
وفي نسخة الشارح ضبط إملا بصيغة المصدر والقصر للوزن فيكون مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف، أي أملى الشيخ إملاء.
(أم لا) أي أم لم يُمْلِ، هي أم المعادلة لهمزة التسوية المقدرة كما قال ابن مالك:
وَرُبَّمَا أُسقِطَتِ الهمزةُ إِن
…
كان خَفَا المعنى بحذفها أمِنْ
(من حفظ أو من كتب) أي سواء كان تحديثه له من حفظه أو من كتبه.
وحاصل المعنى: أن أعلى وجوه تحمل الحديث أن يسمع الطالب لفظ شيخه سواء حدثه من حفظه أو من كتبه بإملاء، أو بغير إملاء.
فقوله: من حفظ، أو من كتب يتعلق بكل من الإملاء وعدمه، فقد يكون الإملاء من الحفظ أو الكتاب، وكذا غير الإملاء تارة يكون من الحفظ، وتارة من الكتاب كما تفيده عبارة التدريب وفتح المغيث.
قال السخاوي: لكنه في الإملاء أعلى لما يلزم فيه من تحرير الشيخ والطالب إذا الشيخ مشتغل بالتحديث والطالب بالكتابة عنه فهما لذلك أبعد عن الغفلة وأقرب إلى التحقيق، وتبيين الألفاظ مع جريان العادة بالمقابلة بعده، وإن حصل اشتراكه مع غيره من أنواع التحديث اهـ.
وإنما كان هذا النوع أرفع من الأنواع الآتية لأنه الغالب من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر النَّاس ابتداء وأسمعهم ما جاء به، وأما سؤال الصحابة رضي الله عنهم له، وكذا تقريره لما جرى في حضرته فمرتبة ثانية، ثم إنه لا تشترط رؤية الشيخ متى تحققه بوجه ما وإليه أشار إليه بقوله (ولو) كان الشيخ المُسمِعُ (ورا) بالقصر للوزن (ستر) بكسر فسكون أي حجابِ (إذا عرفته) بصوته (أو أخبرا) بألف الإطلاق أي أخبرك بأنه الشيخ الفلاني رجل
(معتمد) بصيغة اسم المفعول، أي ثقة من أهل الخِبْرَة بذلك الشيخ.
وحاصل المعنى: أنه إذا سمعت الشيخ يحدث وهو وراء الحجاب صح أن تروي عنه بشرط معرفتك له إما بصوته أو بإخبار ثقة به.
وهذا مذهب الجمهور من المحدثين وهو بخلاف الشهادة (ورَدَّ هذا)
أي السماع من وراء الستر (شعبة) ابن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي الواسطي نزيل البصرة، فإنه شرط رؤية الشيخ لاحتمال أنه شيطان تصور بصورة ذلك الشيخ يقول حدثنا وأخبرنا.
وهذا خلاف الصواب إذ تمثل الشيطان بصورة لا يختص في حالة الاحتجاب بل يجوز في العيان والمشاهدة أيضاً.
ولأن الصحابة والتابعين كانوا يسمعون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب ويروون عنهن، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باعتماد الصوت مع غيبة شخصه، فقال:" إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ".
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه شهادة الأعمى، وأمره، ونكاحه، وإنكاحه، ومبايعته، وقبوله في التأذين وغيره، وما يعرف من الأصوات، وأورد لذلك دلائل كثيرة فارجع إليه.
على أن بعضهم تأول قول شعبة هذا بأنه محمول على احتجاب الراوي من غير عذر مبالغة في كراهة احتجابه.
قال السخاوي: وأما النساء فلا خلاف في جواز الرواية عنهن مع وجوب احتجابهن اهـ. ثم ذكر صيغ الأداء المستعملة في هذا القسم فقال:
(ثم سمعت) أي هذا اللفظ مبتدأ لقصد لفظه (في الأداء) أي رواية ما تحمله بسماع لفظ الشيخ متعلق بقوله (أشبه) أي أولى بالتقديم مما يأتي بَعْدُ، وهو خبر المبتدإ.
وحاصل المعنى: أن قول من تحمل بسماع لفظ الشيخ سمعت في الأداء أولى مما يأتي، لأنه لا يكاد أحد يقول سمعت في الإجازة، والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه بخلاف حدثنا فقد استعملها في الإجازة فِطْرُ بن خليفةَ وغيره.
ورُوِي أن الحسن البصري كان يقول حدثنا أبو هريرة ويتأول أنه حدث أهل المدينة والحسن بها.
كما كان يقول خطبنا ابن عباس بالبصرة وبريد خطب أهل البصرة، كما كان ثابت يقول قدم علينا عمران بن حصين.
والجمهور على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً.
(وبعده) أي بعد سمعت، خبر مقدم لقوله (التحديث) أي اللفظ المشتق منه، وهو لفظ حدثني، وحدثنا، يعني: أن لفظ حدثني وحدثنا يلي سمعت لكونه يطلق في الإجازة بخلاف سمعت، (فـ) ـيلي (الإخبار) بكسر الهمزة أي ما اشتق منه كأخبرني، وأخبرنا، وهو كثير الاستعمال، حتى إن جماعة لا يكادون يستعملون فيما سمعوه من لفظ الشيخ غيره، (ثم) بعد الإخبار لفظ (أنبأنا ونبأنا) بتشديد الباء وهما قليلا الاستعمال فيما سمع من لفظ الشيخ وهذا قبل اشتهار استعمال " أنبأنا " في الإجازة، وأما بعده فقال العراقي: إن إطلاق أنبأنا بعد اشتهار استعمالها في الإجازة يؤدي أن نظن بما أداه بها أنه إجازة فيسقطه من لا يحتج بها، فينبغي أن لا يستعمل في السماع لِمَا حَدَثَ من الاصطلاح اهـ. (وبعدُ) بالبناء على الضم أي بعد أنبأنا ونبأنا (ضم) بالبناء للمفعول فعل ماض مغير الصيغة أو بصيغة الأمر.
وقوله (قال لنا) نائب فاعل على الأول ومفعول به على الثاني لقصد لفظه.
أي ضُمَّ قولَ القائل: قال لنا فلان، أو قال لي فلان إلى ما تقدم، أو ضمَّ أيها المحدث إلى ما تقدم قوله قال لنا إلخ (ودونه) أي دون ما تقدم
من أنبأنا ونبأنا، وليس المراد أنه دون قال لنا لأنهما في مرتبة واحدة، ولو قال: ومِثلهُ لكان أولى (لنا ذكر) أي هذا اللفظ فهو مبتدأ محكي لقصد لفظه خبره الظرف قبله.
يعني: أن قول الراوي ذكر لنا فلان، أو ذكر لي فلان دون قوله أنبأنا، فهي مثل حدثنا في كونه متصلًا لكنهم كثيراً ما يستعملون هذا فيما سمعوه في حال المذاكرات كما أشار إليه بقوله:(وفي المذاكرات) أي في حال المذاكرات مع الشيخ والمناظرة له متعلق بأبر (هذه) أي ذَكَرَ لنا، ولو قال: هذان إشارة إلى قال لنا، وذكر لنا لكان أولى، فقوله: هذه مبتدأ خبره قوله (أبر) أي أحسن.
وحاصل المعنى أن استعمال ذكر لنا وما أشبهه في أداء ما سمعه مذاكرة أحسن من حدثنا (وبعضهم) أي بعض العلماء، وهو ابن الصلاح مبتدأ خبره قوله (قال سمعت) أي استعمالها (أَخِّرَا) بالبناء للمفعول، والألف إطلاقية، يعني أن سمعت مؤخرة عن حدثنا، ونحوها، ويحتمل كونه فعل أمر والألف بدل من نون التوكيد، أي أخِّرَنْ أيها المحدث سمعت من حدثنا ونحوها، فقوله سمعت على الأول مبتدأ محكي خبره أَخِّرَا، وعلى الثاني مفعول مقدم لأَخِّرَا.
وحاصل المعنى: أن بعضهم قال إنّ سمعت مؤخرة عن نحو حدثنا لأنها لا تدل على أن الشيخ خاطبه بالحديث بخلاف حدثنا ونحوها كأنها تدل عليه، وقد سأل الخطيب شيخه الحافظ أبا بكر البرقاني عن السر في كونه يقول لهم فيما رواه عن أبي القاسم الأنبدوني سمعت، ولا يقول حدثنا، ولا أخبرنا، فذكر له أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عَسِراً في الرواية، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل، فلذلك يقول سمعت، ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا، لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده، قاله في التدريب.
(وقيل) أي قال بعضهم وهو الزركشي، والقطب القسطلاني، إنما تؤخر سمعت عن نحو حدثنا (إن) كان المحدث (على) وجه (العموم أخبرا) بألف الإطلاق أي أخبر النَّاس عموماً. يعني أنه إذا أخبر النَّاس على جهة العموم تكون حدثنا ونحوها أرفع من سمعت، وإلا فلا.
ولما أنهى الكلام على القسم الأول والصيغ المستعملة فيه شرع يذكر القسم الثاني، وهو القراءة فقال:
356 -
وَبَعْدَ ذَا قِرَاءَةٌ " عَرْضًا " دَعَوْا
…
قِرَأتَهَا مِنْ حِفْظٍ اوْ كِتَابٍ أَوْ
357 -
سَمِعَتَ مِنْ قَارٍ لَهُ وَالْمُسْمَِعُ
…
يَحْفَظُهُ، أَوْ ثِقَةٌ مُسْتَمِعُ
358 -
أَو ْأَمْسَكَ الْمُسْمَِعُ أَصْلاً أَوْجَرَى
…
عَلَى الصَّحِيحِ ثِقَةٌ أَوْ مَنْ قَرَا
(وبعد ذا) أي بعد القسم الأول وهو السماع من لفظ الشيخ في الرتبة، فالظرف خبر مقدم لقوله (قراءة) على الشيخ يعني: أن قراءة الطالب على الشيخ يلي في المرتبة السماع من لفظه وقوله (عرضا) بفتح فسكون مفعول لـ (دعوا) أي سموه عرضا يعني أن العلماء وهم أكثر المحدثين من الشرق وخراسان سموا القراءة عرضا بمعنى أن القارئ يَعْرِضُ الحديث على الشيخ كما يَعْرِض القرآن على المُقْرِئ، وكان أصله وضع شيء على عُرْض (1) شيء آخر لينظر في استوائهما وعدمه.
لكن قال الحافظ في شرح البخاري: بين القراءة والعرض عموم وخصوص لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعرض به الطالب أصل شيخه معه، أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة اهـ.
ثم إن القراءة تشمل القراءة بنفسه، أو بغيره، وهو يسمع من حفظه، أو كتابه وإليه أشار بقوله (قرأتها) أي الأحاديث بنفسك على الشيخ (من
(1) عُرْض بضم فسكون: جانبه. اهـ.
حفظ) أي من ظهر قلبك (أو كتاب) لك أو للشيخ أو لغيره يعني أن قراءتك الأحاديث من حفظ أو من كتاب لا فرق بينهما.
(أو سمعت) القراءة (من قار) أصله قارئ فخففت الهمزة بالقلب، ثم أعل كإعلال قاض. (له) أي للحديث (و) الحال أن (المسمع) بصيغة اسم المفعول، أي الشيخ الذي يُسمِعُهُ الطالبُ قراءته، أو بصيغة اسم الفاعل، أي الشيخ الذي تصدى لإسماع النَّاس الحديث، والأول أولى، لأنه في هذه الصورة يسمعه القارئ قراءته، وإن كان في الأصل هو الذي يسمع الطالب حديثه في الغالب، فتأمل. وهو مبتدأ خبره قوله (يحفظه) أي الحديث المقروء عليه (أو ثقة) بالرفع عطفاً على فاعل يحفظ لفصله بالضمير المنصوب أي أو يحفظه (ثقة مستمع) لتلك القراءة غير غافل، ومسألة حفظ الثقة زادها العراقي على ابن الصلاح قال: لا فرق بين إمساك الثقة لأصل الشيخ وبين حفظ الثقة لما يقرأ.
(أو أمسك) الشيخ (المسمع) بالضبط المتقدم للحديث (أصلًا) أي أصله الذي سمعه من شيخه (أو جرى) في إمساك الأصل (على الصَّحِيح ثقة) فاعل جرى (أو من قرا) عطف عليه أي أو جرى في أمساك الأصل القارئ الذي قرأ الحديث، يعني أنه لا يشترط حفظ ذلك الحديث الذي يقرؤه الطالب بل إذا أمسك الشيخ أصله أو أمسك ثقة أو القارئ نفسه جاز في صحة العرض بل هذا هو الأولى، ولذا قال الحافظ رحمه الله: ينبغي ترجيح الإمساك في الصُّوَرِ كلها على الحفظ لأنه خَوَّان.
وَشَرَطَ أحمدُ في القارئ أن يكون ممن يعرف ويفهم، وشرط إمام الحرمين في الشيخ أن يكون بحيث لو فُرِضَ من القارئ تحريف أو تصحيف لَرَدَّه وإلا فلا يصح التحمل بها قاله في التدريب.
ثم ذكر اختلاف العلماء في حكم هذا القسم فقال:
359 -
وَالأَكْثَرُونَ حَكَوْا الإِجْمَاعَا
…
أَخْذًا بِهَا وَأَلْغَوْا النِّزَاعَا
360 -
وَكَوْنُهَا أَرْجَحَ مِمَّا قَبْلُ أَوْ
…
سَاوَتْهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ: خُلْفٌ حَكَوْا
(والأكثرون) من المحدثين والفقهاء مبتدأ خبر قوله (حكوا الإجماعا) أي رووا إجماع العلماء وفي نسخة " قد حكوا إِجماعاً "(أخذا) منصوب بنزع الخافض أي على الأخذ (بها) أي بالقراءة.
وحاصل المعنى أن أكثر العلماء نقلوا إجماع السلف والخلف على صحة الرواية بالقراءة (وألغوا النزاعا) أي ردوا الخلاف المحكي في ذلك لكونه غير معتبر.
وهو ما حكي عن أبي عاصم النبيل، وعبد الرحمن بن سَلَّام الجمحي، ووكيع، ومحمد بن سلام، وغيرهم ممن كان يشدد من أهل العراق.
وممن قال بصحتها من الصحابة أنس وابن عباس وأبو هريرة ومن التابعين ابن المسيب، وأبو سلمة، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وابن هرمز، وعطاء، ونافع، وعروة، والشعبي، والزهري، ومكحول، والحسن، ومنصور، وأيوب.
ومن الأئمة ابن جريح، والثَّوري، وابن أبي ذئب، وشعبة والأئمة الأربعة، وابن مهدي، وشريك، والليث، وأبو عبيد، والبخاري، في خلق لا يحصون كثرة.
وعن إبراهيم بن سعد أنه قال: ألا تَدَعُون تَنَطُّعَكُم يا أهل العراق؟ العرضُ مثل السماع.
واستدل له أبو سعيد الحَدَّاد كما أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق ابن خزيمة سمعت البخاري يقول: قال أبو سعيد الحداد عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم فقيل له؟ فقال: قصة ضمام بن ثعلبة قال: آلله أمرك بهذا قال نعم، ورجع ضمام إلى قومه، فقال لهم: إن الله بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً، وقد جئتكم من عنده مما أمركم به ونهاكم عنه، فأسلموا عن آخرهم.
قال البخاري: فهذا قول ضمام آلله أمرك قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه أي قبلوه منه قاله السخاوي.
ثم إنهم اختلفوا هل هي أرجح من السماع أم مساوية له أو دونه، وإليه أشار بقوله:(وكونها) أي القراءة مبتدأ (أرجح مما قبل) أي من السماع من لفظ الشيخ (أو ساوته) أي صارت مساوية له في الرتبة (أو تأخرت) عنه (خلف) بضم فسكون خبر المبتدإ أي في هذه الوجوه اختلاف للعلماء (حكوا) صفة لخلف، أي محكى نقله العلماء عن المحدثين وغيرهم.
وحاصل معنى البيت أن العلماء في القراءة هل هي أرجح منه أو مساوية أو دونه اختلفوا على أقوال:
الأول: أنها أرجح، وهو محكي عن أبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وغيرهما، ورواية عن مالك، والليث، وشعبة وابن لهيعة، ويحيى بن سعيد، وَيَحْيَى بن عبد الله بن بكير، وغيرهم.
وعللوه بأن الشيخ لو غلط لم يتهيأ للطالب الرَّدُّ عليه إما لجهله، أو لهيبة الشيخ، أو لظنه فيما يكون فيه المحل قابلًا للاختلاف أن ذلك مذهبه.
الثاني: هو المساواة محكى عن مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومعظم أهل الحجاز، والكوفة، والبخاري، وغيرهم، وروي عن علي وابن عباس.
قال الناظم وعندي أن هؤلاء إنما ذكروا المساواة في صحة الأخذ بها رَدًّا على من أنكرها لا في اتحاد المرتبة اهـ.
والثالث: هو ترجيح السماع عليها محكي عن جمهور أهل المشرق وخراسان وهو الصَّحِيح.
قال السخاوي: لكن محله ما لم يَعْرِضْ عارض يُصَيِّرُ العرض أولى بأن يكون الطالب أعلم أو أضبط ونحو ذلك فالحق أن كل ما كان فيه الأمن من الغلط والخطأ أكثر كان أعلى مرتبة. وأعلاها فيما يظهر أن يقرأ الشيخ من أصله وأحدُ السامعين يقابلُ بأصل آخر ليجتمع فيه اللفظ والعرض اهـ.
ثم ذكر الصيغ المستعملة لأداء ما تحمله بالعرض فقال:
361 -
وَفِي الأَدَا قِيلَ " قَرَأْتُ " أَوْ " قُرِي "
…
ثُمَّ الَّذِي فِي أَوَّلٍ إِنْ تَذْكُرِ
362 -
مُقَيَّدًا قِرَاءَةً لا مُطْلَقًا
…
وَلا " سَمِعْتُ " أَبَدًا فِي الْمُنْتَقَى
(وفي الأدا) بالقصر للضرورة أي أداء ما تحمله بالقراءة متعلق بـ (قيل) أي قال الراوي، ولو عبر بقال لكان أنسب (قرأت) على فلان، إن قرأ بنفسه (أو) قال (قري) بالبناء للمفعول وتخفيف الهمزة على فلان، إن قرأ، لكن يُصَرَح الحال بقوله وأنا أسمع فأقر به للأمن من التدليس.
قال ابن الصلاح: وهذا سائغ من غير إشكال (ثم) يلي (الذي) تقدم (في أول) أي القسم الأول وهو السماع من التحديث والإخبار والإنباء وغيرها (إن) شرطية (تذكر) بكسر الراء للروي أيها المحدث (مقيداً) بصيغة اسم الفاعل، أو المفعول، حال من الفاعل، أو المفعول. (قراءة) منصوب بنزع الخافض أي بقراءة (لا مطلقا) كضبط مقيداً، وإعرابه.
وحاصل المعني: أنه يلي قَرات وقُرِئ ما تقدم من صيغ الأداء في القسم الأول لكن بشرط أن يكون مقيداً بالقراءة نحو حدثنا فلان بقراءتي عليه، أو قراءة عليه وأنا أسمع، أو أخبرنا فلان بقراءتي، أو قراءة عليه، أو أنبأنا، أو نبأنا فلان بقراءتي، أو قراءة عليه، أو قال لنا فلان بقراءتي، أو قراءة عليه أو نحو ذلك.
وتقول في الشعر أنشدنا قراءة عليه.
ولا يطلقه كحدثني فلان، أو حدثنا، أو أخبرني، أو أنبأني. إلخ.
وأما سمعت فلا يجوز ذكرها مطلقاً كما ذكره بقوله (ولا) تقل (سمعت) فلاناً يقول كذا (أبداً) أي مطلقاً يعني سواء قيدته بقراءة أو لا (في المنتقى) أي في القول المختار الذي صححه القاضي أبو بكر الباقلاني، واستبعد ابن أبي الدم الخلاف، وقال ينبغي الجزم بعدم الجواز لأن سمعت صريحة في السماع لفظاً.
وصرح أحمد بن صالح المصري بعدم جوازها أيضاً، ومثله عن غيره، ومقابل الأصح ما حكي عن مالك والسفيانين من تجويزهم سمعت أيضاً.
ثم ذكر الخلاف في حدثنا وأخبرنا فقال:
363 -
وَالْمُرْتَضَى الثَّالِثُ فِي الإِخْبَارِ
…
يُطْلَقُ لا التَّحْدِيثُ فِي الأَعْصَارِ
(و) القول (المرتضى) عند العلماء المحقيقين مبتدأ (الثالث) من الأقوال صفة للمرتضى، أو بدل منه (في الإخبار) بكسر الهمزة متعلق بالمرتضى، أو بالثالث، أو حال من أحدهما وجملة (يطلق) خبر المبتدإ أي يجوز إطلاقه.
وحاصل المعنى: أن القول المختار في أخبرنا من الأقوال الثلاثة جواز إطلاقه فيما تحمله بالعرض (لا التحديث) نائب فاعل لمحذوف أي لا يطلق التحديث أي ما تصرف منه، ولا يعطف على الضمير في يطلق لعدم الفصل، وقيل يجوز في الشعر، يعني أنه لا يجوز إطلاق حدثنا ونحوها في أداء ما تحمله بالعرض (في الأعصار) جمع عصر أي في جميع أعْصَارِ، أي زمان المحدثين حيث شاع بينهم، واصطلحوا عليه فجعلوا أخبرنا قائماً مقام قوله أنا قرأته، لا أنه لفظ لي به، والجار متعلق بيطلق.
وحاصل معنى البيت: أنهم اختلفوا في إطلاق حدثنا وأخبرنا في القراءة على ثلاثة مذاهب.
الأول: جواز إطلاقهما مقيدا قراءة وهو الذي تقدم في قوله الذي في أول إن تذكر مقيداً إلخ.
وهو مذهب ابن المبارك وَيَحْيَى بن يَحْيَى التميمي وأحمد بن حنبل والنسائي وغيرهم قال الخطيب: وهو مذهب خلق كثير من أصحاب الحديث، والثاني: الجواز مطلقاً وهو المطوي في قوله الثالث: وهو مذهب الزهري وأبي حنيفة وصاحبيه ومالك والثَّوري وابن عيينة وَيَحْيَى القطان، والبخاري، وجماعة من المحدثين، ومعظم الحجازيين، والنضر بن شميل ويزيد بن هارون، وأبي عاصم النبيل، ووهب بن جرير، وثعلب، والطحاوي، وغيرهم.
الثالث: المنع في حدثنا والجواز في أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج، وجمهور أهل المشرق، وقيل إنه مذهب أكثر المحدثين، عزاه لهم محمد بن الحسن التميمي الجوهري في كتاب الإنصاف، قال: فإن أخبرنا عَلَم يقوم مقام قائله أنا قرأته عليه، لا أنه لفظ به لي. وروي عن ابن جريح والأوزاعي وابن وهب وروي عن النسائي أيضاً.
وقال ابن الصلاح: وصار الفرق بينهما هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والاحتجاج له من حيث اللغة فيه عناء وتكلف، وخير ما يقال فيه أنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين، ثم خصص النوع الأول بحدثنا لقوة إِشعاره بالنطق والمشافهة اهـ.
وقال السخاوي: واستشهد له بعض الأئمة بأنه لو حلف أن من أخبره بكذا فهو حر ولا نية له فأخبره بذلك بعض أقاربه بكتاب أو رسول أو كلام عتق بخلاف ما لو قال من حدثني بكذا فإنه لا يعتق إلا إن شافهه زاد بعضهم والإشارة مثل الخبر.
وقال ابن دقيق العيد: حدثنا يعني في العرض بعيد من الوضع اللغوي بخلاف أنبأنا فهو صالح لما حدث به الشيخ، ولما قرئ عليه فأقر به فلفظ الإخبار أعم من التحديث فكل تحديث إخبار ولا ينعكس.
(فائدة): قول الراوي أخبرنا سماعاً أو قراءةً هو من باب قولهم أتيته سعياً وكلمته مشافهة وللنحاة فيه مذاهب:
أحدهما: وهو رأي سيبويه أنها مصادر وقعت موقع فاعل حالاً كما وقع المصدر موقعه نعتاً في زيد عدل وأنه لا يستعمل منها إلا ما سمع ولا يقاس، فعلى هذا استعمال الصيغة المذكورة في الرواية ممنوع لعدم نطق العرب بذلك.
الثاني: وهو للمبرد أنها ليست أحوالاً بل مفعولات لفِعْل مضمر من لفظها وذلك المضمر هو الحال، وأنه يقاس في كل ما دل عليه الفعل المتقدم، وعلى هذا تُخَرَّجُ الصيغة المذكورة، بل كلام أبي حيان في تذكرته يقتضي أن أخبرنا سماعاً مسموع، وأخبرنا قراءة لم يسمع، وأنه يقاس على الأول على هذا القول.
الثالث: وهو للزجاج قال بقول سيبويه فلا يضمر لكنه مقيس.
الرابع: وهو للسيرافي قال: هو من باب جلست قعودا منصوب بالظاهر مصدر معنوياً. اهـ تدريب.
ثم ذكر كيفية الأداء من حيث الإفراد والجمع فقال:
364 -
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ " حَدَّثَنِي "
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ " أَخْبَرَنِي "
365 -
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً " حَدَّثَنَا "
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا " أَخْبَرَنَا "
366 -
وَحَيْثُ شُكَّ فِي سَمَاعٍ أَوْ عَدَدْ
…
أَوْ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ وَحِّدْ فِي الأَسَدّ
(واستحسنوا) أي كافة العلماء كما عزاه الخطيب إليهم (لِمُفْرد) أي لمن سمع من شيخه وهو منفرد أن يقول في الأداء " حدثني " مفعول به لاستحسنوا محكي، يعني أنهم استحسنوا لمن سمع وحده أن يقول في الأداء حدثني فلان بالإفراد واستحسنوا لـ (قارئ بنفسه) على الشيخ وليس معه غيره أن يقول في الأداء (أخبرني) فلان بالإفراد، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف المشهور.
يعني أن العلماء استحسنوا للقارئ بنفسه منفرداً أن يقول أخبرني فلان بالإفراد (وإن) شرطية (يحدث) الشيخ (جملة) أي جماعة من الطلبة
اثنين فأكثر استحسنوا أن يقول في الأداء (حدثنا) فلان بالجمع (وإن سمعت) أيها الطالب (قارئاً) يقرأ على الشيخ فقل (أخبرنا) فلان بالجمع أيضاً.
وحاصل معنى البيتين أن العلماء استحسنوا التمييز بين أحوال التحمل بتمييز ألفاظ الأداء.
فإذا كان الراوي سمع وحده من لفظ الشيخ قال حدثني بالإفراد، وإن كان معه غيره قال حدثنا بالجمع.
وإن قرأ عليه بنفسه قال أخبرني سواء كان معه غيره أم لا؟ كما قال العراقي، وقال ابن دقيق العيد إن كان معه غيره قال أخبرنا.
قال الناظم والأول أولى ليتميز ما قرأه بنفسه وما سمعه بقراءة غيره اهـ. وإن سمع بقراءة غيره قال أخبرنا.
قال الحاكم: وهو الذي أختاره وَعَهِدْتُّ عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري. ورواه الترمذي في العلل عن عبد الله بن وهب، ورواه البيهقي في المدخل عن سعيد بن أبي مريم، وقال: عليه أدركت مشايخنا، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال ابن الصلاح وهو حسن لائق.
ثم إن هذا كله فيما إذا تحقق صورة الحال في التحمل، وأما إذا شك فقد ذكره بقوله (وحيث شك) بالبناء للمفعول أي شك الراوي والظرف متعلق بِوَحِّدْ (في سماع) للحديث بقراءة غيره أم قرأه بنفسه (أو) شك في (عدد) أي وجود عدد من الطلاب واحداً أو أكثر. (أو) شك فيـ (ـما) يقول (الشيخ) من الصيغ هل هو حدثنا، أو أخبرنا، أو حدثني أو أخبرني. (وحّد) أيها الراوي عند الأداء في هذه الصور كلها أي ائت بالإفراد، فتقول: حدثني فلان، أو أخبرني، وهذا (في) القول (الأسدّ) أي الأرجح والأصوب.
وحاصل معنى البيت: أن الراوي إن شك في حال التحمل هل سمع بقراءة غيره، أو قرأ بنفسه، أو سمع لفظ الشيخ منفرداً أو مع غيره، أو شك
في هل قال الشيخ: حدثنا، أو حدثني، أو أخبرنا، أو أخبرني، فالأرجح أن يقول حدثني، أو أخبرني بالإفراد، لأنه المتيقن وغيره مشكوك فيه.
وحكى الخطيب عن البرقاني أنه كان يقول فيما إذا شك في القراءة بنفسه قرأنا، وهو حسن لأن إفراد الضمير يقتضي قراءته بنفسه وجمعه يمكن حمله على قراءة بعض من حضر السماع فإنه لو تحقق أنَّ الذي قرأ غيره لا بأس أن يقول قرأنا أفاده العراقي.
ومقابل الأرجح ما نقل عن يَحْيَى بن سعيد القطان فيما إذا شك في لفظ شيخه هل قال حدثني، أو حدثنا، أنه يقول حدثنا بالجمع لأن حدثني أكمل مرتبة فيقتصر في حال الشك على الناقص.
قال ابن الصلاح وهذا يقتضي فيما إذا شك في سماع نفسه في مثل ذلك أن يقول حدثنا اهـ.
واختار البيهقي في هذه المسألة أن يوحِّدَ.
(تنبيه): كل ما تقدم من التفاصيل ليس على سبيل الوجوب عندهم بل من باب الاستحباب، كما صرح بذلك الخطيب للتمييز بين أحوال التحمل.
فلو سمع وحده وأدى بالجمع جاز كالعكس لأن في كلام العرب يقال فعلنا، وإن كان وحده. ثم ذكر التقيد بألفاظ الكتب المصنَّفة والشيوخ وعدم جواز التبديل فقال:
367 -
وَلَمْ يُجَوَّزْ مِنْ مُصَنَّفٍ وَلا
…
مِنْ لَفْظِ شَيْخٍ فَارِقٍ أَنْ يُبْدَلا
368 -
" أَخْبَرَ " بِالتَّحْدِيثِ أَوْ عَكْسٌ، بَلَى
…
يَجُوزُ إِنْ سَوَّى، وَقِيلَ: حُظِلا
(ولم يجوز) من التجويز بالبناء للمفعول ونائب الفاعل قوله أن يبدلا (من مصنف) بفتح النون أي كتاب مؤلف من الجوامع والسنن والمسانيد ونحوها (ولا) يجوز أيضاً (من لفظ شيخ فارق) بين حدثنا وأخبرنا (أن) مصدرية (يبدلا) بالبناء للمفعول والألف للإطلاق، ونائب الفاعل قوله أخبر،
ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، وأخبر مفعوله، أي أن يبدل الراوي لفظ (أخبر بالتحديث) أي بما اشتقت منه كأن يقول حدثنا (أو) يبدل (عكس) رهو حدثنا بأخبرنا.
وحاصل المعنى أنه لا يجوز إبدال أخبرنا بحدثنا، أو عكسه في الكتب المؤلفة المبوبة أو المسندة أو غيرها.
قال أبو عمرو بن الصلاح ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل أخبرنا بحدثنا ونحو ذلك وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف، وتفصيل سبق، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما، ولو وجدت في ذلك إسناداً عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى، وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجاميع المجموعة.
قال وما ذكره الخطيب من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث غير موضوع في كتاب مؤلف اهـ.
ونازع بعضهم في هذا فقال إذا كانت الرواية بالمعنى تجوز في الألفاظ النبوية ففي صيغ الرواية في صُورَةِ عِلْمِ تسويةِ الراوي بينهما من باب أولى اهـ. قلت وهو وجيه عندي. وكذلك ألفاظ الشيوخ لا يجوز فيها الإبدال إذا كان الشيخ ممن يرى التفرقة بين الألفاظ، وإن كان لا يرى ذلك فلا بأس كما ذكره بقوله:(بلى يجوز) إبدال حدثنا بأخبرنا والعكس (إن سَوَّى) الشيخ بين الألفاظ يعني أنه إِذا سمع الحديث من لفظ شيخ يرى التسوية بين حدثنا وأخبرنا فله الإبدال إن قلنا بالرواية بالمعنى وإلا فلا.
ونقل المنع عن أحمد رحمه الله وإليه أشار بقوله (وقيل حظلا) بالبناء للمفعول وألف الإطلاق أي منع الإبدال مطلقا.
قال الإمام أحمد اتَّبعْ لفظ الشيخ في قوله حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا، ومشى على ذلك في مسنده وغيره من تصانيفه فيقول مثلاً فلان وفلان كلاهما عن فلان، قال أولهما حدثنا، وقال ثانيهما أنبأنا.
وفعله مسلم في صحيحه أيضاً.
ثم ذكر الخلاف فيما إذا قرأ على الشيخ فسكت هل يكفي ذلك في الرواية عنه أم لا؟ فقال:
369 -
إِذَا قَرَا وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْمَعُ
…
لَفْظًا: كَفَى، وَقِيلَ: لَيْسَ يَنْفَعْ
370 -
ثَالِثُهَا: يَعْمَلْ أَوْ يَرْوِيهِ
…
بِـ " قَدْ قَرَأْتُ " أَوْ " قُرِي عَلَيْهِ "
(إِذَا قَرَا) بإبدال الهمزة ألفاً للتخفيف، أي الطالب الحديث على شيخ متيقظ عارف غير مُكْرَهٍ، وفي نسخة المحقق قرِي بالبناء للمفعول، والمعنى متقارب.
(و) لكن بعد القراءة (لم يقرَّ) بذلك الحديثِ (المسمع) بصيغة اسم المفعول أي الشيخ الذي يسمعه الطالب، أي ولم ينكر ففيه الاكتفاء (لفظاً) أي لم يقر بلفظه بأن يقول نعم، وكذا ما أشبهه كان يومئ برأسه، أو يشير بأصبعه، وغلب على ظن القارئ أن سكوته إجابة (كفى) جواب إذا أي كفى ذلك في صحة السماع، وجوازِ الرواية بنحو أخبرنا فلان اكتفاء بالقرائن الظاهرة، وهذا قول الجمهور (وقيل ليس ينفع) ذلك السكوت بل لا بد من إقراره به نطقاً وهذا لقوم من الظاهرية، وبعض أهل الحديث.
(ثالثهما) أي الأقوال في هذه المسألة أنه (يعمل) بذلك الحديث (أو) بمعنى الواو (يرويه) أي ذلك الحديث إذا أراد روايته (بـ) قوله (قد قرأت) الحديث الفلاني على فلان إن قرأ بنفسه (أو) قوله (قرى) بتخفيف الهمزة (عليه) أي الشيخ إن قرأ غيره وهو يسمع ولا يقول حدثني ولا أخبرني.
وحاصل المعنى أنه إذا قرأ القارئ على الشيخ وسكت الشيخ على
ذلك غير منكر له مع إصغائه وفهمه، ولم يقر باللفظ بقوله نعم، وما أشبه ذلك ففيه ثلاث مذاهب.
الأول: مذهب جمهور الفقهاء والمحدثين والنُّظَّار كما قال القاضي عياض وهو الصَّحِيح، صحةُ السماع، وجواز الرواية بنحو أخبرنا لأنه لا يصح من ذي دين إقرارٌ على الخطأ في مثل هذا فلا معنى للتقرير بعده.
قال السخاوي: وهذه المسألة مما استثنى من أصل الشافعي رحمه الله حيث قال: " لا ينسب إلى ساكت قول ". وحينئذ فيؤدي بألفاظ العرض كلها حتى حدثني وأخبرني كما حَكَى تجويزه فيهما عن الفقهاء والمحدثين الآمديُّ، وصححه ابن الحاجب، بل حكي عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة اهـ.
الثاني: اشتراط صريح النطق به، وهو قول لبعض الشافعية وبعض الظاهرية، ونقله الخطيب عن بعض أهل الحديث، وحكاه غيره عن جماعة من المشارقة.
الثالث: مذهب ابن الصباغ من المشترطين للنطق به قال يعمل ويرويه قائلًا قرأت عليه، أو قري عليه وأنا أسمع، ولا يقول حدثني ولا أخبرني، وصححه الغزالي، والآمدي، وحكاه عن المتكلمين بل جزم صاحب المحصول بأنه لا يقولهما، وكذا سمعت ولو أشار برأسه، أو إصبعه للإقرار به ولم يتلفظ.
قال العراقي: وفيه نظر أي لأن الإشارة تقوم مقام العبارة في الإعلام بذلك فتجري عليها الأحكام. ثم ذكر مسألة منع الشيخ الطالب أن يروي عنه، أو خص قوماً دون قوم، أو رجع من غير شك فقال:
371 -
وَلْيَرْوِ مَا يَسْمَعُهُ وَلَوْ مَنَعْ
…
الشَّيْخُ، أَوْ خَصَّصَ غَيْرًا، أَوْ رَجَعْ
372 -
مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَالسَّمَاعُ فِي الأَصَحّ
…
ثَالِثُهَا مِنْ نَاسِخٍ يَفْهَمُ صَحّ
373 -
رَابِعُهَا: يَقُولُ " قَدْ حَضَرْتُ "
…
وَلا يَقُلْ " حُدِّثْتُ " أَوْ " أُخْبِرْتُ "
(وليروا) من سمع شيخاً يحدث (ما يسمعه) من الأحاديث لفظاً (ولو منع الشيخ) السامعَ من رواية ذلك، بأن قال له لا لعلة أو ريبة في المسموع أو إبداءِ مُسْتَنَد سوى المنع اليابس: لا ترو عني، أو ما أذنت لك في روايته عني، ونحو ذلك. (أو خصص) الشيخ الرواية (غيرا) أي غير ذلك السامع (أو رجع) عن حديثه صريحاً أو كناية (من غير شك) في سماعه أو نحو ذلك.
وحاصل المعنى: أنه إذا سمع حديثاً من شيخ جاز أن يرويه ولو منعه عن روايته كما صرح بذلك غير واحد من الأئمة، لأنه قد حدثه، وهو شيء لا يُرجَعُ فيه فلا يؤثر منعه.
وكذا لا يضر تخصيصه لواحد فأكثر بالسماع إذا سمع هو سواء علم الشيخ به أو لم يعلم من باب أولى، بل ولو صرح فقال أُخْبِرُكم ولا أُخبِرُ فلاناً لا يضره، ولكن لا يحسن في الأداء أن يقول حدثني ونحوها مما يدل على أن الشيخ رواه له.
وكذا لا يضره رجوعه عن الحديث سواء كان الرجوع صريحاً بأن قال رجعت ونحوها مما لا ينفي أنه من حديثه أو كناية.
إلا أن يكون رجوعه لشك في سماعه أو نحو ذلك فحينئذ لا يرويه عنه، وكذا إذا قال أخطأت فيما حدثت به أو زدت فليس له أن يرويه عنه.
ثم ذكر الاختلاف في جواز السماع والإسماع حالة النسخ، وكذا الكلام ونحوه، فقال:(والسماع) أي سماع الحديث وكذا إسماعه مبتدأ خبره جملة " صح "(في الأصح) من الأقوال المروية في هذه المسألة، متعلق بصح، وقوله (ثالثها) بالجر بدل من الأصح، أو بالرفع خبر لمحذوف، أي هو، والجملة معترضة، أي ثالث الأقوال (من ناسخ) أي كاتب، حالٌ من السماع، وجملة (يفهم) صفة ناسخ، أي مميز للألفاظ المقرؤة فضلاً عن معناها (صح) أي السماع منه، أو عليه (رابعها) أي الأقوال في المسألة أنه
(يقول) في الأداء (قد حضرت) عند فلان حين حدث بكذا أو قرأ عليه كذا (ولا) ناهية (يقل حدثت أو أخبرت) ببناء الفعلين للمفعول أي لا يقل في الأداء حدثني فلان ولا أخبرني.
وحاصل المعنى: أن العلماء اختلفوا في صحة السماع من ناسخ ينسخ حال القراءة مسمعا كان أو سامعاً على أقوال.
الأول: المنع مطلقاً وعليه إبراهيم الحربي والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وأبو أحمد بن عدي في آخرين لأن الاشتغال بالنسخ مخل بالسماع.
والثاني: الجواز مطلقاً وعليه الحافظ موسى بن هارون الحمال، وآخرون، وعزاه بعضهم للجمهور، وهذان القولان هما المَطْوَّيان فى قوله ثالثها.
والثالث: التفصيل فإن كان السماع من ناسخ لا يمتنع مع نسخه فهم ما قرئ صح، وإلا بأن يمتنع معه فهم ما يقرأ حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غُفْل (1) لا يصح.
وقد حضر الدارقطني مجلس إسماعيل الصفار فجلس ينسخ جزءاً كان معه، وإسماعيل يملي فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قال: تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا، قال الدارقطني: أملي ثمانية عشر حديثا، فعدت الأحاديث فوجدت كما قال، ثم قال الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان ومتنه كذا، ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها فعجب الناس منه، قاله ابن الصلاح، وإلى ذلك أشار العراقي في ألْفِيَّيهِ حيث قال:
(1) وزان قفل أي لا يعلم.
كَمَا جَرى لِلدَّارَقُطْني حَيْثُ عَدّ
…
إمْلَاء إسمَاعِيلَ عَدًّا وَسَردْ
والرابع: قول من قال: إنه يقول في الأداء حضرت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا، وهو محكي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي أحد أئمة الشافعية بخراسان فإنه سئل عمن يكتب في السماع فقال: يقول حضرت ولا يقل حدثنا ولا أخبرنا.
ثم ذكر مسألةَ مَا إذا تحدث الشيخ، أو السامع، أو أسرع القارئ، أو أخفى صوته، أو نحو ذلك فقال:
374 -
وَالْخُلْفُ يَجْرِي حَيْثُمَا تَكَلَّمَا
…
أَوْ أَسْرَعَ الْقَارِئُ أَوْ إِنْ هَيْنَمَا
375 -
أِوْ بُعْدَ السَّامِعُ، لَكِنْ يُعْفَى
…
عَنْ كِلْمَةٍ وَكِلْمَتَيْنِ تَخْفَى
376 -
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجِيزَ الْمُسْمِعُ
…
جَبْرًا لِذَا وَكُلِّ نَقْصٍّ يَقَعُ
(والخلف) بالضم أي الاختلاف المذكور في مسألة النسخ مبتدأ خبره قوله (يجري حيثما تكلما) الشيخ أو السامع وقت التحديث (أو أسرع القارئ) أي أفرط القارئ في الإسراع بحيث يخفى بعض الكلام على السامع.
(أو إن) شرطية (هينما) أي أخفى صوته، والهينمة بفتح الهاء وسكون الياء وفتح النون الصوت الخفي كما في " ق " وقال أبو عبيدة: الكلام الخفي، وقال الأزهري: الصوت وهو شبه قراءة غيرِ بينة قاله في التاج. (أو بَعُدَ السامع) عن القارئ، أوكان في سمعه، أو المسمَع بعض ثقل، أو عَرَضَ نُعَاس خفيف بحيث يفوت سماع البعض (لكن) مع ذلك (يعفى) بالبناء للمفعول أي يغتفر عن قدر يسير نحو (كلمة أو كلمتين) بكسر أولهما وفتحه مع سكون الثاني لغة في الكلمة بفتح فكسر.
وحاصل معنى البيت أن الخلاف المذكور في المسألة السابقة يجري فيما إذا تحدث الشيخ أو السامع أوأفرط القارئ في الإسراع بحيث يخفى
على السامع بعض الكلام أو أخفى صوته أو بعد السامع بحيث لا يفهم المقروء.
لكن الظاهر أنه يعفى عن القدر اليسير الذي لا يخل عدم سماعه بفهم الباقي نحو الكلمة والكلمتين.
لكن الأحسن للشيخ أن يزيد الإجازة جبراً للخلل المذكور كما ذكره بقوله: (ويستحب أن) مصدرية (يجيز) الشيخ (المسمع) بصيغة اسم الفاعل أي الذي يسمع الحديث للطلبة أو اسم المفعول أي الذي يسمعه القارئ الكتاب (جبرا لذا) أي لأجل جبر الخلل المذكور، (و) جَبْراً لـ (ـكل نقص يقع) يحصل في حال السماع كان يغلط القارئ ويغفل الشيخ أو بالعكس.
وحاصل المعنى أنه يستحب للشيخ أن يجيز للسامعين رواية الكتاب أو الجزء أو الحديث الذي سمعوه وإن شمله اسم السماع لأجل أن ينجبر ما ذكر من الكلام، أو الإسراع أو الهينمة أو بُعدِ السامع.
وكذا كل خلل يقع في السماع كغلط القارئ ونحوه فينجبر ما فات بالإجازة. ولذا قال أبو عبد الله محمد بن عتاب الأندلسي لا غنى في السماع عن الإجازة لأنه قد يَغلَط القارئ ويَغفُلُ الشيخ أو يغلط الشيخ إن كان هو القارئ، أو يغفل السامع فينجبر له ما فاته بالإجازة اهـ.
ولو أخر الناظم مسألة الإجازة عن ما بعدها لكان أولى إلا أنه تَبعَ في ذلك ابن الصلاح وغيره.
ثم ذكر مسألة من سمع الحديث من المستملي هل يرويه عن المملي أم لا فقال:
377 -
وَجَازَ أَنْ يَرْويَ عَنْ مُمْلِيهِ
…
مَا بَلَّغَ السَّامِعَ مُسْتَمْلِيهِ
378 -
لِلأَقْدَمِينَ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ
…
وَابْنُ الصَّلاحِ قَالَ: هَذَا يُحْظَلُ
(وجاز أن) مصدرية (يروى) الراوي (عن ممليه) أي الشيخ الذي أملى الحديث عليه (ما) مفعول يروى (بَلَّغ) بتشديد اللام (السامع) مفعول مقدم على الفاعل (مستمليه) فاعل مؤخر لبلغ.
ومعنى البيت أنه إذا عظم مجلس الإملاء فاتخذ الشيخ مستملياً يبلغ عنه فمن سمع من المستملى حديثاً جاز أن يروى ذلك الحديث عن المملي عند جماعة من المتقدمين وغيرهم كما أشار إليه بقوله (للأقدمين) متعلق بجاز (وعليه العمل) مبتدأ وخبر، أي على هذا المذهب جرى عمل أكابر المحدثين الذين كان يَعظُمُ الجمع في مجالسهم جِدًّا ويجتمع فيها الفئام من النَّاس بحيث يبلغ عددهم ألوفاً مؤلفة فإنه يُبلِّغ عنهم المستملي ثم يروي عنهم من سمع منه (و) أبو عَمْرو عثمان (ابن الصلاح) مبتدأ خبره جملة (قال هذا يحظل) بالبناء للمفعول أي الذي ذكر من جواز رواية من سمع من المستملي عن المملي ممنوع لما فيه من التساهل.
وحاصل المسألة: أنه إذا عظم المجلس فاتخذ المحدث مستملياً فبلغ عنه فهل من سمع من ذلك المستملي يروي عن المملي ويقول حدثنا فلان يعني المملى أم لا؟ فيه قولان:
الأول: ذهب جمع من المتقدمين وغيرهم إلى جوازه منهم ابن عيينة وإبراهيم النخعي وحماد بن زيد، وقال العراقي وهو الذي جرى عليه العمل لأن المستملي في حكم القارئ على المملي. ويعرض حديثه عليه. ولكن يشترط أن يسمع الشيخ المملي لفظ المستملي كالقارئ عليه، والأحوط أن يبين حالة الأداء أن سماعه لذلك أو لبعض الألفاظ من المستملي كما فعله ابن خزيمة وغيره بأن يقول: أنا بتبليغ فلان.
وقد ثبت في الصَّحِيحين عن جابر بن سمرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون اثنا عشر أميراً " فقال كلمة لم أسمعها فسألت أبي فقال: " كلهم من قريش " وقد أخرجه مسلم عنه كاملًا من غير أن يفصل جابر الكلمة التي استفهمها من أبيه ذكره في التدريب.
القولُ الثاني أنه لا يجوز ذلك.
قال النووي وهو الصواب الذي عليه المحققون وقال ابن الصلاح والأول تساهل بعيد، وكذا حكم من لم يفهم كلمة أو نحوها فاستفهم من المستملى أو رفيقه كما ذكره فقال:
379 -
وَالْخُلْفُ يَجْرِي فِي الَّذِي لا يَفْهَمُ
…
كَلِمَةً، فَمِنْهُ قَدْ يَسْتَفْهِمُ
(والخلف) أي الاختلاف المذكور (يجري) أيضاً (في) السامع (الذي لا يفهم كلمة) أو أكثر (فمنه) أي المستملي وكذا من رفيقه (قد يستفهم) أي يطلب فهمها.
وحاصل المعنى: أنهم اختلفوا في صحة رواية ما استفهمه السامع من الألفاظ اليسيرة من المستملي أو من بعض الحاضرين فجوزه بعضهم، ومنهم الإمام أحمد، ومنعه آخرون منهم أبو نعيم الفضل بن دكين، وزائدة بن قدامة، وحكي عن أبي حنيفة، وعن خلف بن سالم الْمخَرِّمِيِّ قال سمعت ابن عيينة يقول: نا عمرو بن دينار يريد حدثنا فإذا قيل له قل حدثنا عمرو وقال: لا أقول، لأني لم أسمع من قوله حدثنا ثلاثة أحرف لكثرة الزحام، وهي حدث. ثم ذكر القسم الثالث من أقسام التحمل الثمانية، فقال:
380 -
ثَالِثُهَا: إِجَازَةٌ، وَاخْتُلِفَا
…
فَقِيلَ: لا يَرْوِي بِهَا، وَضُعِّفَا
381 -
وَقِيلَ: لا يَرْوِي وَلَكِنْ يَعْمَلُ
…
وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَقِيلَ: أَفْضَلُ
382 -
مِنَ السَّمَاعِ، وَالتَّسَاوِي نُقِلا
…
وَالْحَقُّ: أَنْ يَُرْوِي بِهَا وَيَُعْمَلا
383 -
وَأَنَّهَا دُونَ السَّمَاعِ لِلسَّلَفْ
…
وَاسْتَوَيَا لَدَى أُنَاسٍ الْخَلَفْ
(ثالثها إجازة) مبتدأ وخبره، أي ثالث أقسام التحمل ما يسمى بإجازة، مصدر أجازه.
قال السخاوي: وترد في كلام العرب للعُبُور والانتقال والإباحة
القَسِيمَةِ للوجوب والامتناع وعليه ينطبق الاصطلاح، فإنها إذن في الرواية لفظاً أو كتابة يفيد الإخبار الإجمالي عرفاً.
وقال القطب القسطلاني: إنها مشتقة من التجوز وهو التعدي فكأنه عَدَّى روايته حتى أوصلها للراوي عنه.
وقال أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الحجاج: إن اشتقاقها من المجاز، فكان القراءة والسماع هو الحقيقة وما عداه مجاز، والأصل الحقيقة، والمجاز حمل عليه، ويقع أجزت متعدياً بنفسه وبحرف الجر كما سيأتي في لفظ الإجازة. اهـ كلام السخاوي.
وأركانها أربعة المجيز، والمجاز له والمجاز به، والصيغة. وسيأتي أنها أنواع.
ثم ذكر حكمها فقال (واختلفا) بالبناء للمفعول وألف الإطلاق أي اختلف العلماء في جواز الرواية بها على أقوال (فقيل لا يروى) بالبناء للفاعل أو المفعول (بها) أي الإجازة وهو قول جماعة من المحدثين كشعبة، قال: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة، وإبراهيم الحربي، وأبي نصر الوائلي، وأبي الشيخ لأصفهاني، والفقهاء: كالقاضي حسين، والماوردي، وأبي بكر الخجندي الشافعي، وأبي طاهر الدَّبَّاس الحنفي.
وعنهم أن من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه قال أجزت لك أن تكذب عليَّ، لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع وهي إحدى الروايتين عن الشافعي.
وحكاه الأمدي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك.
وقال ابن حزم إنها بدعة غير جائزة.
وقيل: إن كان المجيز والمجاز عالمين بالكتاب جاز، وإلا فلا، واختاره أبو بكر الرازي الحنفي.
(و) لكن هذا القول (ضعفا) بالبناء للمفعول وألف الإطلاق أي نسب إلى الضعف لما سيأتي.
(وقيل لا يروى) بها بالضبط المتقدم أي لا تجوز الرواية بالإجازة (ولكن يعمل) بالضبط المذكور أيضاً أي لكن يجوز العمل بها وهذا القول منقول عن الأوزاعي (وقيل عكسه) أي عكس القول المذكور وهو جواز الرواية دون العمل كالمرسل وهو لبعض الظاهرية ومن تابعهم قال ابن الصلاح: وهذا باطل لأنه ليس في الإجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها ولا في الثقة به بخلاف المرسل فَلَا إخبار فيه البتَّةَ، وسبقه إليه الخطيب.
(وقيل) إنها (أفضل من السماع) مطلقاً وهو اختيار بعض المحققين،
ونقل عن أحمد بن ميسرة المالكي أنه قال إنها على وجهها خير من السماع الرديء، (والتساوي نُقِلَا) مبتدأ وخبر، أي كون الإجازة والسماع سواء في الرتبة منقول عن بعضهم.
وكان عبد الرحمن بن أحمد بن بَقِيّ بن مَخْلَد يقول الإجازة عندي، وعند أبي، وجدي، كالسماع (والحق) أي القول الصَّحِيح الذي قاله المحققون وهو مبتدأ خبره قوله (أن يروى بها ويعملا) بالبناء للمفعول، أو الفاعل فيهما، أي جواز الرواية والعمل بها وهو قول الأكثرين من العلماء المحدثين وغيرهم واستقر عليه العمل، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك.
(وإنها) أي الإجازة (دون السماع) رتبة (للسلف) أي عندهم، فجملة أن معطوفة على مقول القول، أي قيل إنها دون السماع إلخ فهمزة إن مكسورة (واستويا) أي السماع والإجازة (لدى أناس) أي عندهم (الخلف) بدل من أناس، وفي نسخة للخلف باللام الجارة وهو بدل أيضاً من الظرف، وهو قول العلامة الطوفي قال إنها في عصر السلف دون السماع وفي عصر الخلف مساوية له، والحاصل أن مسألة الإجازة فيها مذاهب:
الأول: وهو الذي قاله الجمهور من الطوائف واستقر عليه العمل جواز
الرواية والعمل بها وهو الصَّحِيح قال الخطيب: احتج بعض أهل العلم لذلك بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب سورة براءة في صحيفة ودفعها لأبي بكر ثم بعث عليًّا فاخذها منه ولم يقرأها عليه ولا هو أيضاً حتى وصل مكة ففتحها وقرأها على الناس.
الثاني: المنع وهو مذهب جماعة من الطوائف كما تقدم.
الثالث: أنها لا يعمل بها مع جواز التحديث بها وهو مذهب بعض الظاهرية.
الرابع: عكس هذا القول وهو العمل دون التحديث وهو مذهب الأوزاعي.
الخامس: التفصيل ففي عصر السلف السماع أولى، وأما بعدَ أنْ دُوِّنتْ الدواوين وجمعت السنن واشتهر فلا فرق بينهما أي فهما مستويان وهذا القول للطوفي.
(فائدة): قول المحدثين أجزت لك أن تروي عني بشروطها المراد بالشروط هو المُبَيَّنُ في قول الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي حيث قال في منظومته دليل السالك:
وَهْو التَثَبُّتُ بِما قَدْ أشْكلَا
…
ثُمَّ الْمُرَاجَعَةُ فِيمَا أعْضلا
مَع مَشايخ العُلُومِ المَهَرَهْ
…
لَا غَيرِمَنْ حَقَقَه وَحَرَّرَهْ
ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي الْحَوَادِثِ إلَى
…
مَا كانَ بِالنَّقْلَ يُرَى مُحَصَّلَا
وَعدمُ الْجَوَابِ فِي استِفْتَاءِ
…
إلا مَعَ التَحْقِيقِ لِلأشْيَاءِ
اهـ.
ثم إن الإجازة تسعة أنواع ذكرها بالترتيب فأشار إلى الأول بقوله:
384 -
عَيَّنَ مَا أَجَازَ وَالْمُجَازَ لَهْ
…
أَوْ ذَا وَمَا أَجَازَهُ قَدْ أَجْمَلَهْ
(عين) المجيز (ما) أي الحديث أو الكتاب الذي (أجاز) هُ للطالب (و) عين (المجاز له) من الطلبة.
وحاصل المعنى: أن النوع الأول هو أن يعين المجاز به والمجاز له كأن يقول أجزتك البخاري أو ما تضمنه ثبتي، أو ما اشتملت عليه فهرستي (1) والمجازُ عارف بما اشتملت عليه وكذا إذا أدخله خِزَانَة كتبه، وقال: ارو جميع هذه الكتب عني فإنها مسموعاتي من الشيوخ المكتوبةُ عنهم، أو أحاله على ترجمتها ونبهه على طرق أوائلها، وهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة لأنها أعلى من هذا.
ثم ذكر الثاني وهو التعميم في المجاز به مع تعيين المجاز له بقوله (أو) عين (ذا) أي المجاز له (و) الحال أن (ما أجازه) أي الذي أجاز له من الحديث أو الكتاب مثلا (قد أجمله) أي عممه يعني أنه لم يعينه كأن يقول أجزت لك أو لكم أو لمحمد جميع مروياتي.
وحاصل هذا النوع أن يجيز المحدث لمعين أو مُعَيَّنِينَ في غير مُعَيَّن وهو المسمى بإجازة خاص بعام، وهو مقبول كسابقه عند جمهور العلماء من المحدثين وغيرهم سلفاً وخلفاً رواية وعملا بالمروي به بشرطه الآتي في شرط الإجازة، ولكن الخلاف فيه أقوى مما تقدم لأنه أحاله على أمر عام ولم ينص له على شيء معين.
ثم ذكر الثالث وهو التعميم في المجاز سواء عين المجاز به أو أطلق بقوله:
385 -
فَإِنْ يُعَمِّمْ مُطْلَقًا أَوْ مَنْ وُجِدْ
…
فِي عَصْرِهِ: صُحِّحَ رَدٌّ وَاعْتُمِدْ
(فَإِنْ يُعَمِّمْ) المحدث ومفعوله محذوف لدلالة ما قبله أي ذا، يعني المجاز له (مطلقا) أي من دون قيد بما يأتي وسواء عين المجاز به أو لا،
(1) الفهرست بالتاء وصلاً ووقفاً لفظة فارسية معناها جملة العدد للكتب اهـ.
بأن يقول أجزت المسلمين أوكل أحد الكتاب الفلاني أو جميع مروياتي، (أو) قيده بقيد شبيه بالإطلاق كان يجيز (من وجد في عصره) أي وقته كأن يقول من أدرك زماني أو أهل زماني (صحح) بالبناء للمفعول (رد) أي رد الرواية بهذا النوع (واعتمد) بالضبط المذكور وهو عطف تفسير لصحح أي اعتَمَدَ هذا الرأيَ العلماءُ.
منهم الحافظ عبد الغني بن سرور والماوردي.
وقال ابن الصلاح: لم نر ولم نسمع عن أحد ممن تقدم يُقتَدَى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة المستأخرة الذين سوغوها، والإجازةُ في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفاً كثيراً لا ينبغي احتماله اهـ.
لكن رُدَّ عليه باستعمال جماعات لها ممن تقدمه كما يأتي ومقابل الصَّحِيح قول من جوزها مطلقاً.
وهو قول الحافظ الخطيب البغدادي والحافظ أبي عبد الله بن منده والحافظ أبي العلاء الهمداني العطار وجوزها أبو الطيب الطبري للموجود عند الإجازة خاصة نقله عنه الخطيب.
ومن أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني " الحديث. وقيدنا القيد بشبيه الإطلاق لأنه لو كان قيدا حاصرا جاز كما أشار إليه بقوله:
386 -
مَا لَمْ يَكُنْ عُمُومُهُ مَعْ حَصْرِ
…
فَصَحِّحَنْ، كَالْعُلَمَاء بِمِصْرِ
(ما) مصدرية ظرفية (لم يكن عمومه) أي المجاز له (مع) بسكون العين لغة في فتحها (حَصْرِ) بوصف حاصر يعني أن الرد المذكور كان مدة عدم حصره بقيد حاصر، فأما إذا كان تعميمه مقيداً بوصف حاصر (فَصَحِّحَنْ) تلك الإجازة العامة وذلك (كـ) قوله أجزت (العلماء) الموجودين (بمصر) البلد المعروف، أو نحوه كأجزت لمن ملك نسخة من التصنيف الفلاني.
واحترزنا بقولنا بوصف حاصر عن ما لا حصر فيه كأهل بلد كذا فهو كالعامة المطلقة.
ثم ذكر النوع الرابع وهو إجازة مجهول لمجهول بقوله:
387 -
وَالْجَهْلُ بِالْمُجَازِ وَالْمُجَازِ لَهْ
…
كَلَمْ يُبَيِّنْ ذُو اشْتِرَاكٍ: أَبْطَلَهْ
(والجهل) مبتدأ خبره جملة أبطله (بالمجاز) به من الحديث أو الكتاب أو نحوهما (والمجاز له) أي الشخص الذي أجيز له كأجزت بعض الناس بعض مروياتي.
(كَلَمْ يُبَيِّنْ) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل قوله (ذو اشتراك) والجملة صلة ما المصدرية محذوفةً، لأن حذفها جائز عند بعض النحاة كما قاله ابن هشام في مغنى اللبيب، أي كما لم يبين ذو اشتراك أي كعدم تبيين صاحب الاشتراك من الشخص أو الكتاب.
والمعنى أنه إذا سمى المجيز كتاباً أو شخصاً وقد تسمى بذلك الكتاب أو الشخص سواه مثل أن يقول أجزت لك أن تروي عَنِّي كتاب السنن، وفي مروياته عدة كتب يعرف يعرف كل منها بالسنن كأبي داود، والدارقطني، والبيهقي، وغيرها، أو يقول أجزت محمد بن عبد الله الأنصاري، وفي ذلك الوقت جماعة مشتركون في هذا الاسم (أبطله) أي أبطل الجهلُ بذلك الإجازةَ وذكّر الضمير باعتبار المذكور.
وحاصل معنى البيت أن الجهل المذكور يبطل الإجازة لعدم التمييز عند السامع وكونه مما لا سبيل لمعرفته وأما إذا سمى المجاز لهم ولكنه لا يعرفهم بأعيانهم فإنه لا يضر وإليه أشار بقوله:
388 -
وَلا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالأَعْيَانِ مَعْ
…
تَسْمِيَةٍ أَوْ لَمْ يُصَفِّحْ مَا جَمَعْ
(وَلا يَضُرُّ) في صحة الإجازة (الجهل) أي جهل المجيز (بالأعيان) أي أشخاص المجاز لهم (مع تسمية) أي ذكر أسماءهم وأنسابهم بحيث يزول الاشتباه عنهم ويتميزون من غيرهم على العادة الشائعة في ذلك.
وحاصل المعنى: أنه إذا جهل المجيز أعيان المجاز لهم مع تسميتهم فإنه لا يضر ذلك في الإجازة كما أنه لا تشترط معرفة المسمع عين السامع الذي سمِع منه وكذا الواحد المسمى المعين ممن يَجهلُ المجيزُ عينَة من باب أولى، كما نص عليه عياض (أو لم يصفح) بالبناء للفاعل أي لم يَرَ المجيزُ صَفَحَاتِ وُجُوهِ (مَا) بمعنى من (جمع) أسماءَهُمْ في إجازته.
يقال: صَفَحْت القوم صَفْحاً من باب نفع وتصفحتهم رأيت صفحات وجوههم، والتضعيف هنا للمبالغة، والصفح بالفتح: من كل شيء جانبه، والصفحة بالهاء مثله، والجمع صفحات، مثل سجدة وسجدات أفاده الفيومي، فقوله: أو لم يصفح عطف على الجهل بتقدير حرف مصدري، أي أو أن لم يصفح يعني أنه لا يضر الجهل، ولا عدم تصفحهم.
وحاصل المعنى: أن المجيز إذا جمع بالإجازة جماعة من غير حصر عددهم وتَصَفُّحِهِمْ واحدا واحدا جاز قياسا على السماع أيضاً وإن توقف بعضهم في القياس من أجل أنه لا يلزم من كون قسم السماع لم يتأثر بذلك أن تكون الإجازة كذلك لإمكان ادعاء القدح في الإجازة دون السماع فالقياس ظاهر لأنه إذا صح في السماع الذي الأمر فيه أضيق لكونه لا يكون لغير الحاضر مع الجهل بعينه فصحته مع ذلك في الإجازة التي الأمر فيها أوسع لكونها للحاضر والغائب من باب أولى. ثم ذكر النوع الخامس من أنواع الإجازة وهو التعليق فيها بقوله:
389 -
وفِي الأَصَحِّ أَبْطلُوا وَإِنْ يَقُلِ
…
أَجَزْتُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَاءَ عَلِي
(وفي الأصح) من قولي العلماء متعلق بقوله (أبطلوا) أي حكموا ببطلان الإجازة (إن يقل) المجيز في إجازته (أجزت من شاء) الإجازة مني (و) كذا إن يقل أجزت (من شاء) الإجازة له (علي) بن فلان، لرجل معين، فعلي فاعل شاء.
وحاصل معنى البيت: أنه إذا علق المجيز الإجازة بالمشيئة فإما أن تكون معلقة بمشيئة مبهم لنفسه كأن يقول من شاء أن أجيز له فقد أجزت له
أو أجزت لمن شاء وإما أن تكون بمشيئة غير المجاز معيناً لغيره كأن يقول أجزت لمن شاء علي بن محمد مثلاً أن أجيز له أو من شاء علي بن محمد أن أجيز له فقد أجزته.
أو يقول لشخص أجزت لمن شئت أن أجيزه، أو نحو ذلك، فالأصح أن الإجازة في الصورتين باطلة لأنها إجازة لمجهول فهي كقوله أجزت لبعض الناس، أفتى بذلك القاضي أبو الطيب الطبري، ومثله عن الماوردي.
ومقابل الأصح قول من أجاز في الصورتين وهو قول أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي وأبي الفضل محمد بن عبيد الله بن عمروس المالكي.
واستدل لهما بأن هذه الجهالة ترتفع عند وجود المشيئة ويتعين المجاز له عندها.
واحتج ابن الفرا بقوله صلى الله عليه وسلم لما أمَّرَ زيداً على غزوة مؤتة " فإن قتل زيد، فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة " فعلق التأمير.
ثم إن هذا كله فيما إذا كان التعليق للإجازة، وأما إذا كان للرواية فالأصح الجواز كما أشار إليه بقوله:
390 -
وَصَحَّحُوا " أَجَزْتُهُ إِنْ شَاءَ " أَوْ
…
" أَجَزْتُ مَنْ شَاءَ " رِوَايَةً رَأَوْا
(صححوا) أي حكم الحُذَّاق من العلماء بصحة الإجازة إذا قَال (أجزته) أي فلاناً (إن شاء) الرواية عني، أو أجزت لك إن شئت أن تروي عني أو أحببت أو أردت.
وحاصل المعنى: أنه إذا قال أجزت لفلان كذا إن شاء الرواية عني فالصَّحِيح الجواز لانتفاء الجهالة وحقيقة التعليق ولم يبق سوى صيغته.
وقيل لا تجوز (أو) قال (أجزت من شاء رواية) عني فكذلك (رأوا) أي العلماء جوازها.
وحاصل المعنى: أنه اذا دلق الرواية بالمشيئة كقوله أجزت من شاء الرواية عني جازت بل هي أولى بالجواز كما قاله ابن الصلاح لأنه تصريح بمقتضى الحال، لأن كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له، لا تعليق في الإجازة هكذا قال ابن الصلاح، وقاسه على بِعْتُكَ إن شئتَ قال العراقي لكن الفرق بينهما تعيين المبتاع بخلافه في الإجازة فإنه مبهم قال والصَّحِيح عدم الصحة قال: نعم وزانه هنا أجزت لك أن تروي عني إن شئت الرواية عني والأظهر الأقوى هنا الجواز لانتفاء الجهالة وحقيقة التعليق.
ثم ذكر النوع السادس من أنواع الإجازة وهو الإذن للمعدوم بقوله:
391 -
وَالإِذْنُ لِلْمَعْدُومِ فِي الأَقْوَى امْتَنَعْ
…
ثَالِثُهَا: جَازَ لِمَوْجُودٍ تَبَعْ
(والإذن) مبتدأ خبره جملة امتنع، أي الإجازة (للمعدوم) أي غيرِ المولود (في الأقوى) أي القول الأرجح متعلق بقوله (امتنع) أي صار ممنوعاً.
وحاصل المعنى: أن الإجازة للمعدوم اختَلَفَ فيهما العلماءُ كقوله أجزت لمن يولد لفلان على مذاهب:
الأول: المنع مطلقاً وهو الصَّحِيح، جزم به أبو الطيب الطبري والماوردي وابن الصباغ لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز به فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة له.
والثاني: الجواز مطلقاً وبه قال الخطب وألف فيها جزءاً وقال إن أصحاب أبي حنيفة ومالك أجازوا الوقف على المعدوم كوقفت هذا على من يولد لفلان.
يعني فليزمهم القول به في الإجازة من بابٍ أولى لأن أمرها أوسع.
وهذا القول هو المطوي في قوله: (ثالثها): أي الأقوال مبتدأ خبره جملة (جاز) أي الإذن للمعدوم (لوجود) متعلق بقوله (تبع) بفتحتين يكون للواحد
والجمع، وقد يجمع على أتباع، وهو منصوب على الحال من المعدوم، وقِفَ عليه بالسكون على لغة ربيعة، أي حال كونه تابعاً لموجود بأن عطف عليه، كأجزت لك ولمن يولد لك أو أجزت لفلان ولمن سيولد له أو لعقبه ما تناسلوا.
وحاصل هذا القول: أنه إن عطفه على موجود جاز بل أولى بالجواز مما إذا أفرده بها قياساً على الوقف وفَعَلَه من المحدثين أبو بكر بن أبي داود فقال أجزت لك ولأولادك وَلحَبَل الحَبَلَةِ.
وصرح بتصحيحه القسطلاني في المنهج المبهج.
ثم ذكر السابع وهو الإجازة لغير متأهل كالطفل ونحوه بقوله:
392 -
وَصَحَّحُوا جَوازَهَا لِطِفْلِ
…
وَكَافِرٍ وَنَحْوِ ذَا وَحَمْلِ
(وصححوا) أي العلماء (جوازها) أي الإجازة (لطفل) أي صبي غير مميز (وكافر ونحو ذا) أي الكافر ممن ليس أهلاً للرواية كفاسق ومبتدع ومجنون (و) صححوها أيضاً (لحمل) سواء نفخ فيه الروح أو لا عطف على موجود كأبويه أم لا.
وحاصل معنى البيت: أن العلماء صححوا جواز الإجازة لغير متأهل للرواية كالمذكورين. فأما الطفل فجوزها الجمهور لأنها إباحة والإباحة تصح لغير المميز بل وللمجنون لعدم افتراقهما في غالب الأحكام، وأبطلها بعضهم، ونقل عن الشافعي لمن لم يستكمل سبع سنين، أي لأنه مظنة التمييز غالباً.
وأما الكافر فلم يوجد تصريح بصحتها له من المتقدمين والمتأخرين مع تصريحهم بصحة سماعه.
إلا أن شخصاً من الأطباء سمع الحديث في يهوديته على أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري وكتب اسمه في طبقة السماع وأجاز الشيخ لمن سمع وهو من جملتهم، وذلك بحضرة أبي الحجاج المِزِّيِّ، ثم هداه الله
للإسلام، وحدث وسمع منه النَّاس، فهذا يدل على أن المِزِّيَّ يرى ذلك. وإذا جاز للكافر فالفاسق والمبتدع من باب أولَى، وأما المجنون فهي تصح له كما ذكر الخطيب، وأما الحمل فقالَ العراقي: لم أجد فيه أيضاً نقلا، ولا شك أنه أولى بالصحة من المعدوم، والخطيب يرى صحتها للمعدوم.
وإلى ما تقدم أشار العراقي في ألفيته حيث قال:
وَلَم أجِدْ فِي كَافرٍ نَقْلاً بَلَى
…
بِحَضْرَةِ الْمِزِّيِّ تَتْرَى فُعِلَا
وَلَمْ أجِدْ فِي الْحَمْلِ أيْضاً نَقْلًا
…
وَهُوَ مِنَ الْمَعْدُومِ أوْلَى فِعْلَا
وَللْخَطِيبِ لَمْ أجِدْ مَنْ فَعَلَهْ
…
قُلْتُ رَأيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَألَهْ
مَعْ أبَويهِ فَأجَازَ وَلَعَلّ
…
مَا صَفَحَ الأسْمَاءَ فِيهَا إِذْ فَعَلْ
وًينْبَغِي الْبِنَا عَلَى مَا ذَكَروُا
…
هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ وَهَذَا أظْهَرُ
ثم أشار إلى النوع الثامن من أنواع الإجازة وهو الإجازة بما لم يتحمله بَعْدُ بقوله:
393 -
وَمَنْعَهَا بِمَا الْمُجِيزُ يَحْمِلُهْ
…
مِنْ بَعْدِهَا، فَإِنْ يَقُلْ لا نُبْطِلُهْ
394 -
" أَجَزْتُ مَا صَحَّ وَمَا يَصِحُّ لَكْ
…
مِمَّا سَمِعْتُ أَوْ يَصِحُّ مَا سَلَك "
(ومنعها) بالنصب عطفاً على جوازها أي صححوا منع الإجازة وبطلانها (بما) أي المروي الذي (المجيز يحمله) مبتدأ وخبر وهو صلة ما أي الحديث الذي يحمله الشيخ المجيز للطالب (من بعدها) أي بعد الإجازة متعلق بيحمله.
يعني أن الشيخ إذا أجاز للطالب بما لم يتحمله بوجه من سماع أو إجازة ليرويه ذلك الطالب إذا تحمله المجيز فالصَّحِيح بل الصواب كما قاله النووي وهو الذي حكاه عياض عن أبي الوليد يونس بن المغيث القرطبي منع ذلك.
سواء عطفه على موجود بأن قال أجزت لك ما رويته وما سأرويه أولا، لأنه إخبار بما لا خَبَرَ عنده منه، وإذن بما لا إذن له، وإباحة ما لم
يعلم هل يصح له الإذن فيه أم لا. ومقابل الصَّحِيح إجازة بعض المتأخرين المعاصرين للقاضي عياض لمن سأله الإجازة كذلك، ووجَّهَهُ بعضهم بأن شرط الرواية أكَثر ما يعتبر عند الأداء لا عند التحمل. (فإن يقل) الشيخ (لا نبطله) جواب إن، قدم على معمول فعل الشرط للضرورة، ورفع على قلة، ومقول القول قوله (أجزت ما صح) عندك حال الإجازة (وما يصح لك) أي عندك بعدها أنِّي أروِيهِ (مما سمعـ) ـته من الأحاديث بيان لما، (أو) اقتصر على قوله ما صح (و) كلمةَ (يصح ما سلك) أي ما ذكره، يعني: أنه ترك ذكر يصح مكتفيا بما صح.
وحاصل معنى البيت: أنه إذا قال الشيخ: أجزت لفلان ما صح، ويصح عنده من مسموعاتي صحت الإجازة.
فتجوز الرواية لِمَا صحَّ عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبلها، وقد فعله الدارقطني وغيره، وكذا لو لم يقل: ويصح لأن المراد ما صح حال الرواية لا الإجازة.
قال السخاوي: والفرق بين هذه والتي قبلها أنه هناك لم يروِ بَعدُ بخلافه هنا، فقد رَوَى ولكن تارة يكون عالماً بما رواه، وهذا لا كلام فيه، وتارة لا يكون عالماً فيُحِيل الأمر فيه على ثبوته عند المجاز اهـ.
ثم إنه لا يشمل ما صح عنده بالإجازة، أو صح عند غيره، كما ذكره بقوله:
395 -
فِي مِثْلِ ذَا لا تُدْخِلِ الْمَجَازَا
…
أَوْ صَحَّ عِنْدَ غَيْرِ مَنْ أَجَازَا
(في مثل ذا) أي الإجازة المتقدمة (لا تدخل) أيها الراوي بها (المجازا) بضم الميم أي ما تحمله بالإجازة (أَوْ صَحَّ) عطف على المجاز لأنه صلة أل، أي أو الصَّحِيح (عند غير من أجازا) أي عند غير الشيخ الذي أجاز لك بهذه الكيفية.
وحاصل معنى البيت: أنه إذا أجاز لك الشيخ بالصيغة المتقدمة،
وهي أجزت لك ما صح إلخ، فليس لك أن تروي ما تحمله بالإجازة، أو ما صح عند غيره لأنه مقيد بسماعه.
ثم أشار إلى النوع التاسع، وهو إجازة المجاز بقوله:
396 -
وَمَنْ رَأَى إِجَازَةَ الْمُجَازِ
…
وَلَوْ عَلا فَذَاكَ ذُو امْتِيَازِ
(وَمَنْ) شرطية (رأى) من العلماء صحةَ (إجازةِ المجاز) بضم الميم، أىِ الحديث الذي تحمله الراوي بالإجازة، كأن يقول: أجزت لك مجازاتي، أو روايةَ ما أجيز لي، أو ما أبيح لي روايتهُ (ولو علا) ذلك المجاز، أي كَثُرَ بسبب توالي الإجازات (فذاك ذو امتياز) مبتدأ وخبر، جواب مَنْ، يعني: أن ذلك الرائي ذو تميز وفضل على من لم يرَ صحة ذلك لكون رأيه صواباً.
وحاصل معنى البيت: أن العلماء اختلفوا في إجازة المجاز كقوله: أجزت لك مجازاتي ونحو ذلك:
فمنع ذلك بعضهم، لأن الإجازة ضعيفة فيَقْوَى الضعفُ باجتماع إجازتين.
ثم إن هذا المنع سواءٌ عُطِفَ على الإذن بمسموع، أم لا؟ وقيل: إن عطف على الإجازة بمسموع صح، وإلا فلا، والصَّحِيح الذي عليه العمل وهو الذي أشار إلى ترجيحه هنا جوازها مطلقاً، لأن المقصود منها بقاء سِلْسِلَة الإسناد.
(تنبيه): قال العراقي: ينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه لشيخه، ومقتضاها حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها، فربما قَيَّدَها بعضهم بما صح عند المجاز، أو بما سمعه المجيز فقط، أو بما حدث به من مسموعاته، أو غير ذلك، فإن كان أجازه بلفظ أجزت له ما صح عنده من سماعاتي فليس للمجاز الثاني أن يروي
عن المجاز الأول إلا ما علم أنه صح عنده أنه من سماع شيخه الأعلى، ولا يكتفي بمجرد صحة الإجازة اهـ.
ولما أنهى الكلام في أنواع الإجازة التسعة، وأحكامها شرع يُبَيِّنُ الألفاظَ المستعملةَ فيها فقال:
397 -
وَلَفْظُهَا " أَجَزْتُهُ "" أَجَزْتُ لَهْ "
…
فَأَنْ يَخُطَّ نَاوِيًّا فَيُهْمِلَهْ
(ولفظها) أي اللفظ المستعمل في الإجازة وهو مبتدأ خبره قوله (أجزت) أي أجزت فلاناً مسموعاتي أو مروياتي، متعدياً بنفسه وبدون ذكر لفظ الرواية أو نحوه الذي هو المجاز به حقيقة.
وهذا نقله أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب المجمل وغيرِهِ في جزء سماه مآخذ العلم فإنه قال: معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يُسْقَاهُ المال من الماشية والحرث، يقال منه: استجزت فلاناً فأجازني، إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه.
قال ابن الصلاح: فعلى هذا يجوز أن يقال: أجزت فلاناً مسموعاتي، أو مروياتي متعدياً بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية أو نحو ذلك.
وأما من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ والإذن والإباحة فيحتاج إلى ذلك وهو المعروف فيقول: أجزت له رواية مسموعاتي كما قال (أجزت له) أي متعدياً بحرف جر، وبدون إضمار، ومن يقول: أجزت له مسموعاتي، فعلى سبيل الإضمار للمضاف الذي لا يخفى نظيره، وحينئذ ففي الأول الإضمار والحذف دون الثاني الذي هو أظهر وأشهر وفي الثالث الإضمار فقط. أفاده السخاوي رحمه الله.
ثم إن التلفظ بالإجازة سواء كان مع الكتابة أم لا، هو الأعلى رتبة، ويليه الكتابة مع قصد الإجازة بدون تلفظ، وإليه أشار بقوله:(فأن) الفاء
للترتيب وأن مصدرية (يخط) أي يكت الشيخ بالإجازة حال كونه (ناوياً) لها، يعني: أن الكتابة بالإجازة مع قصدها تلي التلفظ بها، ثم تلي الكتابة بدون القصد وإليه أشار بقوله:(فيهمله) بالنصب عطفاً على يخط من الإهمال، وهو الترك، أي يلي الخط مع النية أن يخط ويهمل النية، وذَكَّرَ الضميرَ في قوله " فيهمله " بتأويل النية بالقصد.
والحاصل: أن كيفية الإجازة أربعة: الكتابة مع اللفظ، وهو الأعلى، ثم اللفظ بدون الكتابة، ثم الكتابة مع النية، ثم الكتابة مع إهمال النية، وهذا قال فيه العراقي: الظاهر عدم الصحة، وقال ابن الصلاح: غير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية الذي جعلت فيه القراءة على الشيخ مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخباراً منه بذلك.
هذا هو المناسب لحل ألفاظ البيت، وهو الموافق لما في شروح الألفية العراقية، والتدريب، وأما ما قاله العلامة ابن شاكر من أن الناظم رجح هنا إبطال الإجازة بالكتابة فلا وجه له، ولعله جعل إن شرطية جوابها فيهمله ولا يلتئم الكلام عليه، فتدبر، وكذا حل الشارح غير ملائم فتأمل.
فالحاصل: أن الناظم رحمه الله ذكر في هذا البيت كيفية الإجازة بمراتبها فقوله: ولفظها إلخ يتضمن اللفظ مع الكتابة واللفظ بدونها، وقوله: فأن يخط ناوياً صريح في الكتابة مع النية، وقوله: فيهمله: إشارة إلى الكتابة مع عدمها، وإنما كان القول أعلى من الكتابة، لأنه دليل رضاه القلبي بالإجازة، والكتابةُ دليل القول الدال على الرضا، والدال بغير واسطة أَعلى.
ثم ذكر أن الإجازة لا تحتاج إلى قبول المجاز له فقال:
398 -
وَلَيْسَ شَرْطًا الْقَبُولُ بَلْ إِذَا
…
رَدَّ فَعِنْدِي غَيْرُ قَادِحٍ بِذَا
(وليس شرطاً) في صحة الرواية بها وشرطا خبر ليس مقدماً واسمها قوله: (القبول) أي قبول المجاز له إياها (بل إذا رد) المجاز له الإجازة، وكذا لو رجع المجيز عنها (فعندي غير قادح) في الإجازة (بذا) أي بسبب
رده للإجازة، يعني: أن المجاز له لَوْ رَدهَا فهو غير قادح لها برده، فقوله: عندي متعلق بقادح قدم للضرورة، وقوله: غير قادح، خبر لمحذوف أي فهو غير قادح والجملة جواب إذا.
وحاصل معنى البيت: أن قبول المجاز له للإجازة غير شرط في صحة الرواية بها كما صرح به البلقيني.
قال الناظم: بل لو رد المجاز له إياها فعندي أنه لا يضر، وكذا لو رجع الشيخ عنها. قال: ويحتمل أن يقال: إن قلنا الإجازة إخبار لم يضر الرد ولا الرجوع، وإن قلنا إذن وإباحة، ضَرَّا كالوقف، والوكالة، ولكن الأول هو الظاهر، ولم أرَ من تعرض لذلك اهـ.
ثم إنما تستحسن الإجازة إذا صدوت من عالم لعالم، واشترطه بعضهم وإليه أشار بقوله:
399 -
وَاسْتُحْسِنَتْ مِنْ عَالِمٍ لِمَاهِرِ
…
وَشَرْطُهُ يُعْزَى إِلَى أَكَابِرِ
(واستحسنت) بالبناء للمفعول أي الإجازة أن تكوناً (مِن) مجيز (عالم) بما يجيز به، (لماهر) أي لِمُجَاز حاذق بالفن، (وشرطه) مبتدأ، أي اشتراط كونها من عالم لماهر وقوله (يعزى) بالبناء للمفعول أي ينسب، خبر المبتدأ (إلى أكابر) بالصرف للضرورة أي الأئمة الكبار.
وحاصل معنى البيت: أنهم قالوا: إنما تتحسن الإجازة إذا كان المجيز عالماً بما يجيزه، وكان المجاز له من أهل العلم أيضاً، لأنها تسويغ وترخيص يتأهل له أهل العلم، لمسيس حاجتهم إليها.
وقد اشترط بعضهم ذلك، وحكي عن مالك.
وقال ابن عبد البر: الصَّحِيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة في شيء معين لا يشكل إسناده اهـ.
وذلك لأنه إذا لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحدث المجاز له عن
الشيخ بما ليس من حديثه، أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين.
(تنبيه): قال السخاوي رحمه الله: كثر تصريحهم في الأجَائزِ بما يجوز لي، وعنَى روايته، فقيل: إنه لا فائدة في قوله: عنَى، والظاهر أنهم يريدون بقولهم: لي مروياتهم، وعنَى: مصنفاتهم، ونحوها، وهو كذلك، وحينئذ فكتابتها ممن ليس له تصنيف، أو نظم أو نثر عَبَث أو جهل اهـ.
ثم ذكر القسم الرابع من وجوه التحمل، وهو المناولة بقوله:
400 -
رَابِعُهَا عِنْدَهُمُ: الْمُنَاوَلَهْ
…
أَنْ يُعْطِيَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ لَهْ
401 -
مِلْكًا، تَلِي إِعَارَةٌ، أَوْ يُحْضِرَهْ
…
لِلشَّيْخِ ذِي الْعِلْمِ لِكَيْمَا يَنْظُرَهْ
402 -
ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَأَذِنْ
…
فِي الصُّورَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ، فَدِنْ
(رابعها) أي رابع وجوه تحمل الحديث، مبتدأ، (عندهم) أي العلماء حال منه.
(المناولة) خبر المبتدإ، ويجوز العكس، وهي لغة العطية، ومنه في حديث الخضر:" فحملوهما بغير نول " أي عطاء، واصطلاحاً: إعطاء الشيخ شيئاً من مروياته مع إجازته به صريحاً، أو كناية، كما أشار إليه بقوله:
(أن) مصدرية (يعطي المحدث الكتاب له) أي للطالب (ملكاً) بتثليث الميم، حال من الكتاب أي حال كونه مملوكاً له، وأنْ وصلتها في تأويل المصدر خبر لمحذوف، أي هي إعطاء المحدث إلخ.
وحاصل معنى البيت: أن النوع الرابع من أنواع التحمل هو المناولة، وهي إعطاء المحدث الكتاب للطالب سواء كان تصنيفاً له، أو أصل سماعه، أو فرعاً مقابلاً بالأصل، وكذا مُجَازُهُ ملكاً له، هبة، أو بيعاً، أو ما يقوم مقامهما، قائلًا هذا من تصنيفي، أو نظمي، أو سماعي، أو روايتي عن فلان، وأنا عالم بما فيه فَارْوِه عني، وهذه الصورة هي الأعلى، وتليها ما كانت إعارة كما ذكرها بقوله:(تلي) هذه الصورة الأولى (إعارة) بالرفع فاعل تلي أي مناولة الشيخِ الكتابَ على وجه الإعارة، وكذا الإجازة
ونحوها فيقول له: خذه عني، وهو روايتي، على الوجه المشروح، أوَّلاً فانتسخه، ثم قَابِلْ به، أو قابل به نسختك التي انتسختها أو نحو ذلك، ثم رُدَّهُ إِلَيَّ (أو يحضره) بالنصب عطفاً على يعطي، أي يحضر الكتاب الطالب (للشيخ) أي عند المحدث (ذي العلم) أي المعرفةِ بما في الكتاب (لكيما ينظره) أي يطالع الكتاب، ويتصفحه، متأملاً ليعلم صحته، وعدمَ الزيادة فيه، والنقص منه، فأما إذا لم يكن عارفاً بما فيه فيجب عليه المقابلة بأصل كتابه، كما صرح به الخطيب. (ثم يرده إليه) أي يرد الشيخ ذلك الكتاب إلى الطالب، ويقول له: وقفت على ما فيه، وهو كتابي، أو روايتي عن فلان أو نحوه فارْوه عني، أو أجزت لك روايته.
قال ابن الصلاح: وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضاً، وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى عرضاً، فَلْنُسَمِّ ذلك عرض القراءة، وهذا عرضَ المناولة اهـ.
وممن فعل هذا عبد الله بن عمر أو عبد الله بن عمرو (1)، وابن شهاب، ومالك، وأحمد، والأوزاعي، والذهلي، وآخرون، كما قاله السخاوي. (و) قد (أذن) له جملة حالية من الشيخ، أي حال كونه آذناً للطالب (في الصورتين) المذكورتين، أي صورةِ دفع الشيخ الكتاب إلى الطالب، إمَّا ملكاً، أو إعارة، وصورةِ إحضاره الكتاب إلى الشيخِ ليتأمله ثم يرده إليه، (في رواية) أي رواية ما في الكتاب كما شرحناه آنفاً، وقوله:(فدن) تتميم للبيت، أمر من دان يدين بمعنى أطاع، أي أطِعِ المحدثين في قواعدهم لأنهم أهل للطاعة، حيث أنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما ثبت به الحديث (2).
(1) فيه الشك هل هو ابن عمر أو ابن عمرو لأن أبا عبد الرحمن الحبلي قال: أتيت عبد الله بكتاب فيه أحاديث إلخ فلم يبين هل هو ابن عمر أو ابن عمرو اهـ.
(2)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل أخرجه أبو داود والترمذي، وابن حبانَ، والحاكم مصححا " وإن العلماء هم ورثة الأنبياء " الحديث. وضعفه بعضهم للاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها، كما قال الحافظ في الفتح جـ 1 ص:193.
ثم إن المناولة المقرونة بالإذن أعلى أنواع الإجازة مطلقاً، لما فيها من التعيين والتشخِيصِ بلا خلاف بين المحدثين فيه. ثم ذكر حكمها فقال:
403 -
وَأَخَذُوا بِهَذِهِ إِجْمَاعَا
…
بَلْ قِيلَ: ذِي تُعَادِلُ السَّمَاعَا
404 -
وَآخَرُونَ فَضَّلُوهَا وَالأَصَحّ
…
تَلِي، وَسَبْقُهَا إِجَازَةً وَضَحْ
(وأخذوا) أي العلماء من المحدثين وغيرهم (بهذه) أي المناولة المقرونة بالإجازة (إجماعاً) حال من الفاعل، أو مفعول مطلق على النيابة أي حال كونهم مجمعين عليه أو أخذوا أخذ إجماع، والمعنى أن صحة المناولة المقرونة بالإجازة مجمع عليه، والأصل فيه حديث: أنه صلى الله عليه وسلم: " كتب لأمير السرية كتاباً، وقال له: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ المكان قرأه على النَّاس " الحديث علقه البخاري بالجزم، وحديثُ ابن عباس:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حُذَافَة، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى " الحديث. (بل قيل ذي) أي المناولة المقرونة بالإذن (تعادل) أي تساوي (السماعا) في الرتبة والقوة.
يعني: أن بعض العلماء جعلوها مساوية للسماع.
وهو قول جماعة من أئمة المدنيين كأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن شهاب، وربيعة الرأي، وَيَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وعن جماعة من المكيين: كمجاهد، وأبي الزبير، ومسلم الزَّنْجِي، وابَن عيينة، ومن الكوفيين: كعلقمة، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ومن البصريين: كقتادة، وأبي العالية، وأبي المتوكل الناجي، ومن المصريين: كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، ومن الشاميين، والخراسانيين، وغيرهم.
(وآخرون) من أهل الحديث (فضلوها) أي المناولة على السماع، يعني: أن بعض المحدثين ذهبوا إلى أن المناولة أولى من السماع، نقله
عنهم ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول، لأن الثقة بها أثبت لما يدخل من الوهم على السامع والمسمع، (والأصح) من الأقوال، وهو الذي عليه المحققون أنها (تلي) السماع، بل والقراءة في الرتبة: فهي منحطة عنهما.
وهذا قول سفيان الثَّوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، والبويطي، والمزني، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن يَحْيَى، ومالك.
وقال الحاكم: وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب، واحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم:" نضر الله امراً سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها "(1)، وبقوله صلى الله عليه وسلم:" تسمعون ويسمع منكم "(2) فإنها لم يذكر فيها غير السماع، فدل على أفضليته. (وسبقها) مبتدأ خبره قوله " وضح " أي سبقُ المناولةِ المقرونةِ بالإجازة أي تقدمها في الرتبة (إجازة) أي مجردة من المناولة (وضح)، لأن تلك مختلف فيها دون هذه، لما ذكرنا من الإجماع، وإنما أخرت عنها في الذكر، لأنها جزء لأول نوعيها، أو لكون الإجازة تشمل المروي الكثير بخلافها على الأغلب، أو لقلة استعمال المناولة على الوجه الأكمل الفاضل، أو لاشتمال كل منهما على فاضل ومفضول، إذ أول أنواع الإجازة، أعلى من ثاني نوعي المناولة، فلم ينحصر لذلك التقديم في واحد، وحينئذ فقدمت الإجازة لكثرة استعمالها.
ثم إنه بقي من صُوَرِ هذا النوع الذي هو المناولة المقرونة بالإجازة صورتان: الأولى هي المناولة ثم الاسترداد، وإليه أشار إليه بقوله:
405 -
وَصَحَّ إِنْ نَاوَلَ وَاسْتَرَدَّا
…
وَمِنْ مُسَاوِي ذَاكَ الاصْلِ أَدَّى
(وصح) التحمل (إن) شرطية (ناول) أي أعطى الشيخ الطالب الكتاب ونحوه، مع الإجازة له بروايته (و) لكنه (استردا) بألف الإطلاق، أي طلب
(1) صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بألفاظ. انظر صحيح الجامع الصغير جـ 2 ص: 1145 - 1146.
(2)
صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم. انظر صحيح الجامع جـ 1 ص: 567.
رد ما أعطاه في الوقت، ولم يمكنه منه بل أمسكه الشيخ عنده.
وحاصل المعنى: أنه إن ناول الشيخ مرويه الطالب ثم استرده في الحال، فقد صح هذا الصنيع منه فتجوز الرواية، والعمل به، ولكنه دون ما سبق لعدم اطلاع الطالب على ما يحمله وغيبته عنه.
ويحتمل كون أن مصدرية، وهي وصلتها في تأويل المصدر فاعل صح والمعنى عليه وصح مناولة الشيخ مرويه الطالب واسترداده منه أي فتجوز الرواية والعمل به (و) لكن إذا أراد الطالب الرواية لذلك (من مساوي ذاك الأصل) أي من كتاب مساو لما أعطاه الشيخ، والجار والمجرور متعلىّ بقوله:(أدى) أي روي، والجملة مستأنفة، أي عليه أن يؤدي من مساوي ذلك الأصل، أو أدى عطف على ناوله فهو من جملة فعل الشرط أي إن أدى من مساوي ذلك الأصل صح.
وحاصل المعنى: أن الطالب المُنَاوَلَ على هذه الكيفية، إذا أراد رواية ما تحمله على هذا الوجه يلزمه أن يؤديه من مساوي ذلك الكتاب المردود، بأن وجد فرعاً مقابلًا به موثوقاً بموافقته ما تناولته الإجازة كما يعتبر ذلك في الإجازة المجردة، ومن باب أولي إن أداه من ذلك الأصل المسترد منه إن ظفر به وغلب على ظنه سلامته من التغيير.
ثم إن هذهِ المناولة لا مزية لها على الإجازة المعينة، وإليه أشار بقوله:
406 -
قِيلَ: وَمَا لِذِي مِنْ امْتِيَازِ
…
عَلَى الَّذِي عُيِّنَ مِنْ مُجَازِ
(قيل) أي قال جماعة من أصحاب الفقه والأصول (وما) نافية (لِذِي) أي لهذه المناولة المذكورة خبر مقدم لقوله: (من) زائدة (امتياز) أي تميز، وفضل (عَلَى الَّذِي عُيِّنَ) بالبناء للمفعول (مِنْ مُجَازِ) بضم الميم بيان للموصول أي من كتاب معين مجاز به.
وحاصل معنى البيت: أن جماعة من العلماء قالوا: لا مزية لهذه المناولة على الكتاب الذي عين في الإجازة مجرداً عنها، فلا تأثير لها، ولا
فائدة غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث، أو مَنْ حُكِيَ ذلك عنه منهم يرون لذلك مزية معتبرة. أفاده ابن الصلاح.
ثم أشار إلى الصورة الثانية وهي إحضار الطالب الكتاب للشيخ واستحازته من غير تصفحه بقوله:
407 -
وَإِنْ يَكُنْ أَحْضَرَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ
…
وَمَا رَأَى: صَحَّ، وَإِلَاّ فَلْيُرَدّ
(وإن يكن أحضره) أي الكتاب إلى الشيخ، والجملة خبر مقدم ليكن على اسمها، واسمها قوله:(من يعتمد) بالبناء للمفعول أي الطالب الذي يعتمد عليه لإتقانه وثقته (و) الحال أنه (ما) نافية (رأى) الشيخ في ذلك الكتاب (صح) جواب إن، أي صح صنيعه هذا.
وحاصل المعنى: أنه إذا أحضر الطالب الكتاب إلىِ الشيخ، وقال له: هذا روايتك فناولنيه، وأجز لي روايته، فأجابه إليه معتمداً عليه لإتقانه وثقته من غير نظر فيه، ولا تحقق لروايته له صحت المناولة والإجازة، كما يصِح الاعتماد على الطالب في القراءة على الشيخ إذا كان موثوقاً به معرفة وديناً.
وأما إذا لم يكن الطالب ممن يعتمد عليه فلا تصح الإجازة فضلاً عن المناولة، كما أشار إليه بقوله:(وإلا) يكن الطالب الذي أحضر الكتاب معتمداً على خَبَرِهِ، ولا يوثق بخِبْرَتِهِ (فليرد) بالبناء للمفعول أي هذا الصنيع إذ لا يصح الاعتماد على غير موثوق به.
لكن إن تبين بعد ذلك بخبر من يعتمد عليه أن ذلك من مروياته، فهل يحكم بصحة الإجازة والمناولة السابقتين؟ قال العراقي: لم أرَ من تعرض لذلك، والظاهر نعم، لزوال ما كنا نخشاه من عدم ثقة المخبر اهـ.
فلو قال: حَدِّث عني بما فيه إن كان من حديثي صح، بل كان حسناً كما أشار إليه بقوله:
408 -
فَإِنْ يَقُلْ: " أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا "
…
صَحَّ وَيُرْوَى عَنْهُ حَيْثُ بَانَا
(فإن يقل) الشيخ في الصورة المذكورة، سواء كان الطالب معتمداً عليه، أم لا؟ (أجزته) لك (إن كانا) بألف الإطلاق أي الكتاب من حديثي (صح) جواب إن أي صح هذا القول وكان حسناً فتصح الرواية به، يعني أنه إذا قال: حَدِّث بما في هذا الكتاب الذي أحضرتَهُ عني إن كان من حديثي صح التحمل فيروي به.
لكن زاد الخطيب كما نقله ابن الصلاح عنه قَوْلَهُ: مع براءتي من الغلط والوهم.
قال العراقي: ويدخل فيه الصورتان ما إذا كان من أحضر الكتاب ثقة معتمداً، وما إذا كان غير موثوق به، فإن كان ثقة جازت الرواية بهذه المناولة والإجازة، وإن كان غير ثقة لكن تبين بخبر من يوثق به أن ذلك الذي ناوله الشيخ كان من مروياته جازت روايته كذلك وإليه أشار بقوله:(وَيروِي) ذلك الطالب ما في الكتاب (عنه) أي عن ذلك الشيخ (حيث بانا) أي ظهر واتضح كونه من مروياته، وذلك بكون المحضر ثقة، أو بإخبار ثقة بكونه من مروياته. وممن فعله مالك.
ولما أنهى الكلام على الضرب الأول من ضَرْبَي المناولة، وهي المقرونة بالإجارْة شرع يبين الضرب الثاني، وهي المجردة عنها، وهي قسمان: باطلة بالاتفاق، ومختلف فيها، وإلى الأول أشار بقوله:
409 -
وَإِنْ يُنَاوِلْ لا مَعَ الإِذْنِ وَلا
…
" هَذَا سَمَاعِي ": فَوِفَاقًا بَطَلا
(وإن يناول) الشيخ الطالب شيئاً من مروياته، ملكاً، أو عارية، ليستنسخ منه، أو أحضر الطالب إليه شيئاً منه فتصفحه وعرف ما فيه، ثم دفعه إليه (لا مع الإذن) في الرواية (ولا) قال له (هذا) الكتاب أو الحديث (سماعي) على الشيخ الفلاني، ولا مما أُجِيزَ لي في روايته (فوفاقاً) بين العلماء (بطلا) هذا التحمل، فلا تجوز الرواية به.
وحاصل معنى البيت: أنه إن ناول الشيخ الطالب الكتاب، أو أحضره هو ولم يأذن له في الرواية، ولا قال له إنه يسماعي، أو مُجَازِي، لم تجز المناولة بالاتفاق، كما قال الزركشي.
والقسم الثاني: وهو المختلف فيه أشار إليه بقوله:
410 -
وَإِنْ يَقُلْ: " هَذَا سَمَاعِي " ثُمَّ لَمْ
…
يَأْذَنْ: فَفِي صِحَّتِهَا خُلْفٌ يُضَمّ
(وإن يقل) الشيخ عند المناولة (هذا) الكتاب أو الحديث (سماعي) على الشيخ الفلاني، أو نحوه (ثم لم يأذن) له في الرواية بل اقتصر على قوله المذكور (ففي صحتها) أي المناولة الخالية عن الإذن، متعلق بيضم (خُلْفٌ) بالضم، أي اختلاف بين العلماء، مبتدأ خبره جملة قوله:(يُضَمّ) بالبناء للمفعول، أي يجمع إلى الخلاف في الأنواع المتقدمة.
وحاصل معنى البيت: أنه إذا قال الشيخ هذا الكتاب سماعي أو مَجَازِي، أو نحو ذلك ولم يأذن له في الرواية فقد اختلف فيه العلماء فقيل: تصح وتجوز الرواية بها، حكاه الخطيب عن طائفة من العلماء.
وقال ابن الصلاح: إن الرواية بها تترجح على الرواية بمجرد إعلام الشيخ، لما فيه من المناولة، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية اهـ.
ويدل عليه: حديث أمير السَّرِيَّة الذي تقدم كما قاله الناظم.
قال: وعندي أن يقال: إن كانت المناولة جواباً لسؤال كأن قال له: ناولني هذا الكتاب لأرويه عنك، فناوله، ولم يصرح بالإذن صحت، وجاز له أن يروده اهـ.
وبالغ بعضهم فقال: إنها قريب من السماع إذا لم يأذن له في الرواية لاشتراكهما في العلم بالمروي، وقيل: يصح العمل بها دون الرواية.
والأصح أنها باطلة، لعدم التصريح بالإذن فيها، قاله السخاوي.
قلت: الذى يظهر أنها صحيحة على الوجه الذي قاله الناظم قريباً (1).
ثم ذكر صيغ الأداء لمن تحمل بالإجازة والمناولة، فقال:
411 -
وَمَنْ يَنَاوَلْ أَوْ يُجَزْ فَلْيَقُلِ:
…
" أَنْبَأَنِي "" نَاوَلَنِي "" أَجَازَ لِي "
412 -
" أَطْلَقَ " أَوْ " أَبَاحَ " أَوْ " سَوَّغَ " أَوْ
…
" أَذِنَ " أَوْ مُشْبِهَ هَذِي، وَرَأَوْا
413 -
ثَالِثَها مُصَحَّحًا أَنْ يُورَِدَا
…
" حَدَّثَنَا "" أَخْبَرَنَا " مُقَيَِّدَا
414 -
وَقِيلَ: قَيِّدْ فِي مُجَازٍ قَصَرَا
…
وَبَعْضُهُمْ يَخُصُّهُ بِخَبَّرَا
(وَمَنْ) شرطيهْ (يَنَاوَلْ أَوْ يُجَزْ) بالبناء للمفعول، أي يناول الشيخ مرويه، أَو يجيزه له (فليقل) جواب الشرط، أي عند أدائه (أنبأني) فلان، أو أنبأنا، في المناولة والإجازة، و (ناولني) فلان، أو ناولنا في المناولة، (وأجاز لي)، أو أجازنا في الإجازة المجردة عن المناولة، (أو أطلق) لي روايته عنه (أو أباح) لي، وفي نسخة الشارح " أطلقه، أو باح "، والموأَفق لسائر الكتب ما في نسخة المحقق، وهو ما هنا، (أو سوغ) لي، أي جوز لي روايته (أو أذن) لي في روايته.
(أَوْ مُشْبِهَ هَذِي) الألفاظ المذكورة، من كل عبارة مشعرة بالواقع، وفي نسخة الشارح أو شَبَهَ هذي.
وحاصل المعنى: أن مَن تحمل الحديث بالمناولة، أو الإجازة، يقول: في الأداء أنبأني، ناولني، أجاز لي، أو أطلق لي روايته، أو ما أشبه ذلك مما يبين الواقع.
وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا فالصَّحِيح منعه إلا مقيداَّ، وإليه أشار بقوله:(ورأوا) أي العلماء (ثالثها) بالنصب مفعول أول لرأوا، والضمير راجع إلى الأقوال، وقوله (مصححا) مفعول ثان له، أي رأى العلماءُ ثالث الأقوال محكوماً بصحته (أن) مصدرية (يوردا) بالبناء للفاعل، أو المفعول، والألف للإطلاق، وقوله:(حدثنا أخبرنا) مفعول به، أو نائب فاعل، (مقيدا) بصيغة
(1) وهو أنها إن كانت جواباً لسؤال صحت، ولو لم يصرح بالإذن.
اسم الفاعل، أو المفعول، حال من الفاعل، أو المفعول، أي حال كونه مقيداً هذين اللفظين، أو حال كون كل منهما مقيداً بعبارة تبين الواقع في كيفية التحمل. وأن وصلتها في تأويل المصدر بدل من ثالثها أو خبر لمحذوف أي هو إيراد حدثنا إلخ.
وحاصل المعنى: أن العلماء رأوا إيراد حدثنا وأخبرنا مقيداً ببيان الواقع صحيحاً، فيقول: حدثنا فلان إجازة أو مناولة، وأخبرنا فلان إجازة أو مناولة، أو نحو ذلك.
وحاصل المسألة: أنهم اختلفوا في إيراد حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة، فجوزه بعضهم، وحكى عن ابن جريج وجماعة من المتقدمين، وحكى أنه مذهب مالك، وأهلِ المدينة، قيل: إنه مذهب عامة حفاظ الأندلس، ومنهم ابن عبد البر.
والثاني: جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا في المناولة، لا في الإجازة المجردة، حُكِيَ ذلك عن الزهري، ومالك، وغيرهما، وهو اللائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعاً، وإلى هذا أشار بقوله:(وقيل) أي قال بعضهم: (قيد) أيها المحدث بعبارةٍ تُبَيِّنُ الواقعَ كما تقدم (في مجاز) بضم الميم مصدر ميمي لأجازَ أي إجازة (قَصَراً) عن المناولة يعني: أنها إجازة مجردة، يقال: قَصَرَ عن الشيء قصوراً من باب قَعَد: عجز عنه، وقَصَر السهم عن الهدف، إذا لم يبلغه وَقَصُرَ الشيءُ بالضم قِصَراً كعِنَبِ ضد طال أفاده الفيومي.
وحاصل المعنى: أن بعضهم قال بوجوب التقييد في الإجازة المجردة عن المناولة، فيقول: حدثنا إجازة أو أخبرنا إجازة، وأما الإجازة مع المناولة، فلا يجب تقييدها.
قلت: وهذا القول لم يظهر لي وجه ذكره بعد قوله: ثالثها لأنه القول الثاني المطوي تحته فهو مكرر لأن القول الأول هو الجواز مطلقاً، والثاني: جوازه في المناولة المقرونة بالإجازة ووجوب تقييده في الإجازة المجردة
فهذان هما المطويان في قوله ثالثها، وهو التقييد فيهما وهو الذي صححه، فليتأمل.
(وبعضهم) أي بعض المحدثين، وهو الإمام أبو عمرو الأوزاعي، مبتدأ خبره قوله:(يخصه) أي المُجَاز القاصرَ بمعنى الإجازة، (بخبرا) بتشديد الباء يعني أن الأوزاعي يخص الإجازة بخبرنا بالتشديد، ويجعل أخبرنا بالهمزة للقراءة.
قال العراقي: ولم يخل من النزاع من جهة أن معنى خَبَّرا وأخبر واحد، في اللغة والاصطلاح، بل قيل: إن خَبَّر أبلغ.
وكان للأوزاعي أيضاً في الرواية بالمناولة اصطلاح، قال عمرو بن أبي سلمة: قلت له في المناولة أقول فيها: حدثنا، فقال: إن كنت حدثتك فقل حدثنا، فقلت فما أقول قال: قل قال أبو عمرو، أو عن أبي عمرو قاله السخاوي رحمه الله.
ولما استعمل بعضهم لفظاً موهماً في الإجازة كتابة أو شفاهاً حيث يقول: أخبرنا شيخنا كتابة، أو أخبرنا مشافهة، أو نحو ذلك بينه بقوله:
415 -
وَبَعْضُهُمْ يَرْوِي بِنَحْوِ " لِي كَتَبْ "
…
" شَافَهَ " وَهْوَ مُوهِمٌ فَلْيُجْتَنَبْ
416 -
فِي الاقْتِرَاحِ مُطْلَقًا لا يَمْتَنِعْ
…
" أَخْبَرَ " إِنْ إِسْنَادَ جُزْءٍ قَدْ سَمِعْ
(وبعضهم) أي بعض المحدثين من المتأخرين (يروي) ما أجازه شيخه بالكتابة (بنحوا قوله: (لِي كَتَب) فلان وأخبرني كتابة، أو في كتابة، ويروي في الإجازة باللفظ (شافهني)، وأخبرنا مشافهة، (وهو) أي هذا الاستعمال (موهم) بصيغة اسم الفاعل، أي موقع في الوَهَم أي الغلط (فَلْيُجْتَنَبْ) أي فليتبعد عنه، لما فيه من خطر الإيهام.
وحاصل معنى البيت: أن بعض أهل الحديث كالحاكم استعمل لفظاً موهماً تجوزاً فيما تحمله بالإجازة كتابة، أخبرنا فلان كتابة، أو مكاتبة، أو في كتابة، أو كتب لي، أو كتب إِلَيَّ.
وفيما أجازه بلفظه شفاهاً أخبرنا فلان مشافهة، أو شافهني، وحُكِيَ الشق الأول عن أبي نعيم كان يقول في الإجازة حدثني فلان في كتابه،
أخبرنا فلان في كتابه ونحو ذلك، وهذا الاستعمال كثير بين المتأخرين من بعد الخمسمائة، وهَلمَّ جَرَّا، قاله السخاوي.
وهذا الاستعمال ينبغي اجتنابه حذراً من الإيهام إدْ لا يسلم مَنِ استعملها من الإيهام وطَرَف من التدليس، أما المشافهة فتوهم مشافهة بالتحديث، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه، كما كان يفعله المتقدمون قاله العراقي.
لكن بعد أن صار اصطلاحاً ارتفع هذا الإيهام بسبب العرف الخاص أفاده الناظم. وقال الإمام الفقيه الحافظ المجتهد تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المنفلوطي، صاحب التصانيف، الشهير بابن دقيق العيد، وُلدَ في شعبان سنة 625 ومات في صفر سنة 702 هـ (فى) كتابه المسمى بـ (الاقتراح)، في بيان الاصطلاح، ومعنى الافتراح في الأصل: مصدر اقترح الشيء ابتدعه من غير مثال سبق، ومعناه هنا: أن هذا المؤلف مقترح أي لا نظير له في بابه فقوله في الاقتراح متعلق بقال كما قدرناه وجملة لا يمتنع أخبر مقول له (مطلقاً) حال مقدم من أخبر أي حال كونه غير مقيد بشيء مما تقدم (لا يمتنع أخبر) جملة من فعل وفاعل، فأخبر فاعل، محكي لقصد لفظه، أي إطلاق لفظ أخبرنا، أو أخبرني (إن) كان الراوي (إسناد جزء) مفعول مقدم لقوله:(قد سمع) من الشيخ.
وحاصل معنى البيت: أن الإمام أبا الفتح ابن دقيق العيد، قال في كتابه الاقتراح: لا يمتنع إطلاق أخبرنا وأخبرني غير مقيد إن سمع من الشيخ الإسناد وناوله الكتاب، لأنه أخبره بالكتاب وإن كان جُمْلِيًّا فلا فرق بينه وبين التفصيل اهـ.
ثم إن المتأخرين استحسنوا فيما إذا شك في سماع شيخه من شيخه مع تحقق إجازته استعمال عن وأن وكذا في الإجازة وإليه أشار بقوله:
417 -
وَ " عَنْ " وَ " أَنَّ " جَوَّدُوا فِيمَا يَشُكّ
…
سَمَاعَهُ، وَفِي الْمُجَازِ مُشْتَرَكْ
(وَعَنْ وَأَنَّ) أي استعمالهما، مبتدأ خبره جملة قوله:(جَوَّدُوا) أي جعله المتأخرون جيداً حسناً (فيما) أي في أداء الحديث الذي (يشك) بالبناء للفاعل، أي يرتاب فيه الرواي، أو للمفعول وقوله:(سماعه) مفعول به على الأول، ونائب فاعل على الثاني، أي سماع شيخه من شيخه.
وحاصل المعنى: أنه إذا شك الراوي في سماع شيخه من شيخه مع تحقق إجازته له فقد استحسن المتأخرون استعمال عن وأن (و) جودوا أيضاً (في) أداء (المجاز) بالضم اسم مفعول من أجاز أي الحديث المجاز به.
يعني: أنهم استحسنوا أيضاً استعمال عن وأن في أداء ما سمعه من شيخه الراوي ذلك الشيخ عن شيخه بالإجازة فيقول فيمن سمع شيخاً بإجازته عن شيخ: قرأت على فلان عن فلان وقوله: (مشترك) بصيغة اسم المفعول، خبر لمحذوف أي ما ذكر مِنْ عَنْ وأن مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما.
فوائد:
الأولى: مسألة استعمال عن وأن قد تقدم في المعنعن وتقدم هناك أن استعمالهما في الإجازة للمشارقة، وأما المغاربة فيستعملونهما معاً، فَما هُناك بيان لاصطلاح المشارقة، وما هنا بيان لاصطلاح المغاربة.
وأيضاً ما تقدم لبيان أنه لا يخرج عن حكم الاتصال، وإعادته هنا لما فيه من الزيادة، وليكون منضماً لما يشبهه من الاصطلاح الخاص.
الثائية: قال ابن مالك ومعنى " عن " في رويت عن فلان أنباتك عن فلان المجاوزة لأن المروي والمنبأ به مجاوز لمن أخذ عنه أهـ.
الثالثة: أن المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا في الإجازة والمناولة لا يزول بإباحة المجيز ذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ في إِجازتهم لمن
يجيزون إن شاء قال: حدثنا وإن شاء قال: أخبرنا لأن إباحة الشيخ لا يُغَيَّرُ بها الممنوع في المصطلح.
ثم ذكر النوع الخامس من أنواع التحمل، وهو الكتابة. فقال:
418 -
خَامِسُهَا: كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ
…
يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأْذَنُ أَنْ
419 -
يَكْتُبَ عَنْهُ، فَمَتَى أَجَازَا
…
فَهِيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا
420 -
أَوْ لا، فَقِيلَ لا تَصِحُّ وَالأَصَحّ
…
صِحَّتُهَا، بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ
(خامسها) أي خامس وجوه التحمل مبتدأ خبره قوله: (كتابة الشيخ) بشيء من مرويه، حديثاً فأكثر، أو من تصنيفه، أو نظمه، ويرسله إلى الطالب مع ثقة، مؤتمن، بعد تحريره بنفسه، أو بثقة معتمد، وشَدِّه، وختمه، احتياطاً، ليحصل الأمن من توهم تغيير، وذلك شرط إن لم يكن الحامل مؤتمناً، أفاده السخاوي. (لمن يغيب) أي لشخص يغيب عن مجلس الشيخ (أو يحضر) مجلسه، سواء كانت الكتابة بنفسه، وهو أعلى (أو) غيره بأن (يأذن) له (أن يكتب عنه) بالبناء للمفعول أي يكتب عن الشيخ.
يعني: أنه أمر من يكتب عنه لشخص غائب أو حاضر سواء كان لضرورة أم لا؟ وسواء سئل في ذلك أم لا؟.
ويبدأ في الكتابة بنفسه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: بعد البسملة من فلان ابن فلان، إلى فلان ابن فلان، فإن بدأ باسم المكتوب إليه فقد كرهه غير واحد من السلف، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يستحب إذا كتب الصغير إلى الكبير أن يقدم اسم المكتوب إليه، وأما هو فكان يبتدئ باسم من يكاتبه كبيراً كان أو صغيراً تواضعاً، قاله السخاوي.
ثم أشار إلى أنها على نوعين الأول ما اقترن بالإجازة، كما قال:(فمتى أجازا) بألف الإطلاق أي الشيخ بخطه، أو بإذنه بقوله: أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك، أو نحو ذلك من العبارة، فقوله:" متى "
شرطية جوابها. قوله: (فهي كمن ناول) أي الكتابة المقرونة بالإجازة منزلة منزلة من نَاوَلَ كتابَهُ للطالب مع الاقتران بالإجازة كما أشار إليه بقوله: (حيث امتازا) بألف الإطلاق أي تميز هذا الفعل بسبب اقترانه بالإجازة.
وحاصل المعنى: أنه إذا اقترنت الكتابة بالإجازة فهي في القوة والصحة كالمناولة المقرونة بالإجازة، وعلى هذا مشى البخاري في صحيحه، إذ سوى بين المناولة والمكاتبة، فقال:" باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان ".
ورجح قوم، منهم الخطيب المناولة عليها، لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة، وهذا وإن كان مرجحاً، فالمكاتبة تترجح أيضاً بكون الكتابة لأجل الطالب.
ثم أشار إلى النوع الثاني وهو مجرد الكتابة بقوله: (أولا) أي لم يجز الشيخ بأن جرد الكتابة عن الإجازة (فـ) ـفيه اختلاف بين العلماء على قولين: (قيل) إنها (لا تصح) كالمناولة المجردة، وهو قول أبي الحسن الماوردي، صاحب الحاوي، والسيف الآمدي، وأبي الحسن بن القطان، ولكن هذا القول غلط (والأصح) من القوليين المشهورُ بين أهل الحديث المتقدمين والمتأخرين، مبتدأ خبره قوله:(صحتها) أي الكتابة المجردة عن الإجازة.
وحاصل المعنى: أن الكتابة المجردة اختلف فيها فمنع الرواية بها قوم كما ذكرنا. وأجاز كثيرون منهم أيوب السختياني، ومنصور بن المُعْتَمِر، والليث بن سعد، وابن أبي سَبْرَةَ، وغيرهم، وهو الأصح، قال القاضي عياض رحمه الله: لأن في نفس كتابه إليه بخطه، أو إجابته إلى ما طلبه عنه من ذلك، أقوى إذن، متى صح عنده أنه خطه وكتابه.
وقد استمر عمل السلف فمن بعدهم من الشيوخ بالحديث بقولهم: كتب إلى فلان قال: حدثنا فلان، وأجمعوا على العمل بمقتضى هذا الحديث وَعَدِّهِ في المسند بغير خلاف في ذلك.
قال البيهقي: وكُتُبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلى عمَّالِه بالأحكام شاهدةٌ لقولهم.
وبعضهم جعلها أقوى من الإجازة، كما أشار إليه بقوله:(بل وإجازة) بالنصب مفعول (رجح) أي زاد قوة، يقال: رجح الشيء رجوحاً من باب تعد: إذا زاد وزنه، ويستعمل متعدياً أيضاً أفاده في المصباح. قلت: والمناسب هنا الثاني لتعديه إلى إجازة، يعني: أن الكتابة المجردة عن الإجازة تكون أقوى من الإجازة بغير كتابة عند بعضهم، وهو أبو المظفر السمعاني.
قال السخاوى: وإلى ذلك صار جماعة من الأصوليين منهم إمام الحرمين، وكأنه لِمَا فيها من التشخيص والمشاهدة للمروي من أول وهلة، وإن توقف بعض المتأخرين في ذلك لاستلزامه تقديم الكتابة على التصريح.
ثم إنه لا تشترط البينة على أنه كتابه، بل يكفي معرفة المكتوب إليه أنه خطه، كما أشار إليه بقوله:
421 -
وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطّ
…
كَاتِبِهِ، وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ
(ويكتفي المكتوب) إليه في الرواية بالكتابة (أن يعرف) بنفسه قال السخاوي: وكذا فيما يظهر بإخبار ثقة معتمد (خط كاتبه) بالنصب على المفعولية، (أن) وصلتها منصوب بنزع الخافض قياساً، أي يكتفي المكتوب إليه بمعرفة خط الكاتب وإن لم تقم بينة على ذلك، وهذا هو القول الراجح، واشترط بعضهم ذلك كما قال (وشاهداً) مفعول مقدم لشرط أي قيام بينة تشهد على ذلك الخط بالرؤية أو الإقرار (بعض) من العلماء مبتدأ خبره قوله (شرط) يعني أن بعض العلماء شرط وجود بينة على ذلك الخط، لأن الخط يشبه الخط بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، ومنهم الغزالي.
قال ابن الصلاح: إنه غير مرضي لندرة ذلك اللبس، فإن الظاهر أن
خط الإنسان لا يشتبه بغيره، والحكم للأغلب، وحاصله: أنه إن حصل الظن بأنه فلان جاز العمل، وإن شك فلا. اهـ مع اختصار.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى عماله فيعملون بها اعتماداً على معرفتها.
ثم ذكر صيغ الأداء في هذا النوع فقال:
422 -
ثُمَّ لِيَقُلْ " حَدَّثَنِي، أَخْبَرَنِي
…
كِتَابَةً " وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ
(ثم) إذاً صححنا التحمل بالكتابة، وأراد المتحمل الأداء بها، فلا بد من تقييدها (فليقل) المكتوب إليه عند الأداء (حدثني) فلان أو (أخبرني) فلان (كتابة) أو مكاتبة، أو كتب إلى فلان قال: حدثنا فلان بكذا (والمطلقين) أي المستعملين لحدثني وأخبرني على سبيل الإطلاق من دون تقييد بالكتابة مفعول مقدم لقوله (وَهِّن) أمر من التوهين، أي احكم بضعف عملهم هذا.
وحاصل المعنى: أنهم اختلفوا في تقييد حدثني وأخبرني على أقوال:
الأول: للجمهور وهو وجوب التقييد، وهو اللائق بمذهب أهل التحري في الرواية، والورع، والنزاهة.
قال الحاكم. الذي أخْتارُهُ وعَهِدت عليه أكثر مشايخي، وأئمة عصري أن يقولوا فيما كتب إليه المحدث من حديثه، ولم يشافهه بالإجازة كتب إليَّ فلان، وكذا قال الخطيب: كان جماعة من أئمة السلف يفعلونه.
الثاني: جواز الإطلاق، وهو مذهب الليث بن سعد، ومنصور بن المعتمر، وغير واحد من العلماء.
الثالث: جواز إطلاق أخبرنا دون حدثنا، وهو مذهب أبي سليمان الجُوزَقَاني، كما ذكره البيهقي في المدخل.
ثم ذكر القسم السادس من أنواع التحمل، وهو الإعلام فقال:
423 -
السَّادِسُ: الإِعْلامُ، نَحْوُ " هَذَا
…
رِوَايَتِي " مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ حَاذَا
424 -
فَصَحَّحُوا إِلْغَاءَهُ، وَقِيلَ: لا،
…
وَأَنَّهُ يَرْوِي وَلَوْ قَدْ حَظَلا
(السادس الإعلام) مبتدأ وخبر. يعني: أن سادس أنواع التحمل هو النوع المسمى بالإعلام، وإنما أُخِّر مع كونه صريحاً عن الكتابة التي هي الإعلام كناية، لما فيها من التصريح بالإذن في أحد نوعيها، ثم عرفه بالمثال، فقال: وذلك (نحو) قوله (هذا) الحديث (روايتي) عن فلان حال كونه (من غير إذن) للطالب، وجملة قوله (حاذا) أي قارن صفة لإذن، يقال: حاذيته محاذاة، وحِذَاءً، إذ وازَيْتَهُ، أي من غير إذن مقارن للإعلام.
وحاصل المعنى: أن سادس وجوه التحمل الإعلام، وهو أن يُعلِمَ الشيخُ الطالب بشيء من مرويه، نحو قوله: هذا الحديث أرويه من فلان، ولكن ما قارنَ إِعلامَهُ الإذن في روايته، فلم يقل: اروه عني، أو نحو ذلك.
ثم ذكر اختلاف العلماء في حكمه، فقال:(فصححوا) أي طائفة من المحدثين وغيرهم (إلغاءه) أي إبطال الإعلام المذكور.
يعني: أن بعض العلماء صححوا بطلان الإعلام المجرد، فلا تجوز الرواية به، وبه قطع الغزالي، لأنه قد لا يُجَوِّزُ روايتَهُ مع كونه سمعه، لخلل يعرفه فيه.
(وقيل لا) أي قال كثيرون، منهم ابن جريجٍ، وعبيد الله العمري، وأصحابه المدنيون، وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصوليين، والظاهريين، لا يُلْغَى بل تجوز الرواية بها والحجةُ فيه القياس على الشهادة فيما إذا سمع المقرَّ بشيء وإن لم يأذن له، وقال عياض: اعترافه له به، وتصحيحه أنه من روايته، كتحديثه له بلفظه، أو قراءته عليه، وإن لم يجزه.
وزاد بعضهم على هذا، فقال: لو منعه من الرواية لا يضره ذلك،
وإليه أشار بقوله: (وإنه) بكسر إِنَّ، أي الطالب الذي وقع له الإعلام المجرد (يروي) ذلك الحديث (ولو قد حظلا) بالبناء للفاعل، أي منعه الشيخ من الرواية، أو المفعول، والألف إطلاقية فيهما، أي منع منها يعني: أنه يجوز له أن يروي بهذا الإعلام من دون إجازة، بل ولو منعه.
قال القاضي عياض: هذا صحيح لا يقتضي النظر سواه، لأن منعه لا لعلة ولا ريبة في الحديث لا يؤثر، لأنه قد حدثه فهو شيء لا يرجع فيه.
ثم ذكر السابع، والثامن من أنواع وجوه التحمل، وهما الوصية، والوجادة، فقال:
425 -
وَالْخُلْفُ يَجْرِي فِي وَصِيَّةٍ وَفِي
…
وِجَادَةٍ، وَالْمَنْعُ فِيهِمَا قُفِي
426 -
وَفِي الثَّلاثَةِ إِذَا صَحَّ الْسَّنَدْ:
…
نَرَى وُجُوبَ عَمَلٍ فِي الْمُعْتَمَدْ
(والخلف) أي الاختلاف المذكور في الإعلام المجرد عن الإذن، فأل للعهد الذكريِّ وهو مبتدأ، خبره جملة (يجري) أي يوجد، ويأتي (في وصية) أي وصية الشيخ عند موته، أو سفره لشخص بكتاب يرويه ذلك الشيخ مقتصراً عليها دون إجازة.
يعني: أن العلماء اختلفوا في هذه الوصية المجردة عن الإجازة، فجَوَّز الروايةَ بها كثير من المتقدمين، وعَلَّلَها القاضي عياض بأن في دفعها له نوعاً من الإذن، وشبهاً من العرض والمناولة.
وذهب النووي وابن الصلاح: إلى عدم جواز الرواية بها، وتخطئة مَن قال بالجواز، وقال السخاوي: البطلان هو الحق المتعين، لأن الوصية لَيسَت بتحديث لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تتضمن الإعلام، لا صريحاً، ولا كناية.
(و) يجري الخلاف أيضاً (في وِجَادَةٍ) بالكسر: مصدرٌ مُوَلَّد لوَجَدَ يَجِدُ. قال المُعَافَى بنُ زَكَرِياء النَّهْرواني: إنهم فَرَّعوا قولَهم وجادة، فيما
أُخِذَ من العلم من صحيفة من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادر وجد للتمييز بين المعاني المختلفة اهـ.
وقد بيّن ابن الصلاح والعراقي المصادرَ المختلفةَ هنا، ونقلته بتمامه في الشرح الكبير. والوجادة أن يقف الشخص على أحاديث بخطِّ راويها غيرِ المعاصر له، أو المعاصر ولم يسمع منه، أو سمع منه، ولكن لا يروى تلك عنه بسماع ولا إجازة.
واختلف فيها أيضاً إلا أن الخلاف فيها ضعيف جداً (والمنع) أي منع الرواية، مبتدأ خبره جملة " قفي "(فيهما) أي الوصية والوجادة، متعلق بقوله (قفي) بالبناء للمفعول أي اتُّبعَ لأنه الأصح.
هذا في الرواية، وأما العمل بها فقد أشار إليه بقوله (وفي) هذه الأنواع (الثلاثة)، أي الإعلام، والوصية، والوجادة، متعلق بنَرَى (إذا صح السَّند) في كل منها (نرى) بالنون، أي نعتقد أيها المحدثون (وجوب عمل) مفعول به لنرى، يعني أنه يجب العمل بها وإن لم تجز روايتها بطريقتها، وهذا (في) القول (المعتمد) عليه، لأن العمل يكفي فيه صحته في نفسه.
وحاصل المعنى: أنه إذا صح السَّند في هذه الثلاثة وجب العمل بها على القول الراجح، أما العمل بالإعلام فقد ادعى عياض الاتفاق عليه، قاله في التدريب.
وأما العمل بالوصية فقال ابن أبي الدم: الوصية أرفع رتبة من الوجادة بلا خلاف وهي معمول بها عند الشافعي وغيره فهذا أولى.
وأما العمل بالوجادة فرُوِيَ عن الشافعي، ونُظَّار أصحابه جوازه، وقطع بعض المحققين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة بها، قال النووي: وهو الصَّحِيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره اهـ.
وخالف في ذلك بعضهم، ونقل عن معظم المحدثين، والفقهاء المالكيين، وغيرهم، فقالوا: لا يجوز العمل بها.
وقد استَدَلَّ للعمل بالوجادة الحافظُ ابن كثير بحديث: " أيُّ الخلق
أعجب إليكم إيماناً؟ " الحديث (1)، وفيه، قال: " قوم يأتون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها " قال البلقيني: وهو استنباط حسن.
ثم ذكر كيفيَّة الأداء في الوجادة فقال:
427 -
يُقَالُ فِي وِجَادَةٍ: " وَجَدْتُّ
…
بِخَطِّهِ " وِإِنْ تَخَِلْ: " ظَنَنْتُ "
428 -
فِي غَيْرِ خَطٍّ: " قَالَ " مَا لَمْ تَرْتَبِ
…
فِي نُسْخَةٍ تَحَرَّ فِيهِ تُصَبِ
429 -
وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ وَمَنْ أَتَى
…
بِـ " عَنْ " يُدَلِّسْ أَوْبِـ " أَخْبَرْ " رُدَّتَا
(يقال في) أداء ما استفاده بـ (وجادة) بالكسر (وجدت)، أو قرأت (بخطه) أي فلان، أو كتابِهِ بخطه، حدثنا فلان، ويسوق الإسناد، والمتن، أو قرأت بخط فلان عن فلان، قال النووي: هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، قال الناظم: وفي مسند أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه عنه بالوجادة.
هذا إذا وَثِقَ بأنه خطه، وإلا فأشار إليه بقوله:(وإن تَخِل) بفتح الخاء وكسرها، أي تظن، يقال: خال الرجل الشيءَ يَخَاله، من باب نال، إذا ظنه، وخاله يَخِيله، من باب باع: لغة، وفي المضارع للمتكلم إخال بكسر الهمزة على غير قياس، وهو أكثر استعمالًا، وبنو أسد يفتحون على القياس، أفاده الفيومي.
أي إذا شككت في كونه خطه فقل: (ظننت) أنه خطه.
يعني: أنه إذا لم يثق بكونه خطه فلا يجزم بل يقول: ظننت أنه خطه أو وجدت بخطٍّ قيل: إنه خط فلان، أو قال لي فلان إنه خط فلان، أو ذكر كاتبه أنه فلان ابن فلان ونحو ذلك من العبارات المفصحة بالْمُسَتَنَدِ في كونه خطه.
هذا كله في الخط، وأما غيره: فأشار إليه بقوله: (في غير خط) خبر مقدم لقوله: (قال) لقصد لفظه، أي لفظ قال: مستعمل في غير الخط، أو
(1) والحديث صححه السخاوي في فتح المغيث جـ 3 ص: 28 وضعفه الألباني في السلسلة الضَّعِيفة جـ 2 ص 102.
الجار متعلق بقل محذوفاً، وقال: مقول القول، أي قل: قال فلان فى غير الخط.
وحاصل المعنى: أنك إذا وجدت حديثاً في مصنف لبعضِ مَنْ عاصرتَهُ، أو لا، فقل: قال فلان كذا، ونحوَه من ألفاظ الجزم، إذا جزمت بصحة النسخة، بأن قابلها المصنف، أو ثقة غيره بالأصل، أو بفرع مقابل به، كما يأتي في محله، إن شاء الله تعالى، وأما إذا لم تثق به فلا تجزم، كما أشار إليها بقوله:(ما) مصدرية ظرفية (لم ترتب) أي تشك (في نسخة) لذلك الكتاب، فقوله:" ما لم ترتب " خبر لمحذوف، أي محل ما ذكر ما لم ترتب إلخ.
فأما إذا آرتبت فيها فـ (تحرفيه) أي اطلب الأحْرَى، أي الصواب في أداء ما ارتبت فيه. يقال: تحريت في الأمرين إذا طلبت أحراهما، أي أوْلاهما كما أفاده الفيومي.
وذلك بأن تقول: بلغني عن فلان أنه ذكر كذا، أو وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني وما أشبهها من العبارات التي لا تقتضي الجزم.
قال ابن الصلاح: فإن كان المطالع عالماً فطناً بحيث لا يخفي عليه في الغالب مواضع الإسقاط، والسقط، أو ما أحيل عن جهته من غيرها، رَجَوْنا بأن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك، قال: وإلى هذا فيما أحسب استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب النَّاس، مع تسامح كثيرين في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر، ولا تثبت، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معين، وينقل عنه من غير أن يثق بصحة النسخة، قائلاً: قال فلان كذا، ونحو ذلك والصواب ما تقدم اهـ.
وقال السخاوي: ويلتحق بذلك ما يوجد بحواشي الكتب من الفوائد، والتقييدات، ونحو ذلك، فإن كانت بخط معروف فلا بأس بنقلها، وعزوها إلى من هي له، وإلا فلا يجوز اعتمادها، إلا لعالم متقن، وربما تكون
تلك الحواشي بخط شخص وليست له، أو بعضها له، وبعضها لغيره، فَيَشْتَبِهُ ذلك على ناقله بحيث يعزو الكل لواحد اهـ.
ثم إِنَّ المروي بالوجادة المجردة منقطع سواء، وثقت بكونه خطه، أم لا؟ وإليه أشار بقوله:(وكله منقطع) مبتدأ وخبر، أي كل ما روي بالوجادة، سواء وثق بكونه خطه أم لا من باب المنقطع والمرسل، قال بعضهم: عَدُّه من التعليق أولى من المنقطع والمرسل اهـ.
لكن الأول، أعني الذي وثق بأنه خطه فيه شوب اتصال لزيادة القوة بالوثوق بالخط. ولما تساهَلَ جماعةٌ في إيراد ذلك بعن ونحوها، أشار إليه بقوله:(ومن) شرطية (أتى) في ذلك متساهلًا (بـ) ـصيغة (عن) أو نحوها، كقال، مكان وجدتُّ، وقوله:(يدلس) جوابُ مَنْ، مجزوم وإن كان الأحسن رفعَهُ لكون فعل الشرط ماضياً، يعني: أن من أدى ما وجده بخط شخص بصيغة عن، ونحوها فهو مدلس تدليساً قبيحاً، إذا كان بحيث يوهم سماعه منه، (أو) أتى مجازفاً (بأخبر) بسكون الراء للإدغام الكبير في راء ردتا، أي بقوله: أخبرنا فلان، لِمَا وجده بخطه، ومثله حدثنا، وقوله:(رُدَّتَا) بالبناء للمفعول، وتاء التأنيث المتحركة لِلرَّوِيّ، والألف للإطلاق، أي ترد روايته، وقال المحقق ابن شاكرٍ:" تا " اسم إشارة، وعليه، فقوله: رُدَّ فعل أمر، واسم الإشارة مفعوله، والأول أوضح، وقوله: أو بأخبر عطف على قوله: بعن، وقوله: ردت: عطف على يدلس، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف المشهور.
وحاصل المعنى: أنه تساهل قوم فأتوا بلفظة قال، ونحوها مكان الوجادة، وهو تدليس قبيح إذا كان يوهم سماعه بأن تعاصرا.
وذكر السخاوي من هذا النوع بهز بن حكيم، والحسن البصري، والحكم، وأبا سفيان طلحة بن نافع، وغيرهم، وجازف قوم فقالوا: أخبرنا فلان، وحدثنا فلان في الوجادة أيضاً، فردت روايتهم.
قال القاضي عياض: لا أعلم من يقتدي به أجاز النقل فيه بذلك ولا من عَدَّهُ مَعَدَّ المسند اهـ.
ثم إن بعض العلماء اعترض على مسلم صاحب الصَّحِيح، حيث وُجِدَ في كتابه بعض الأحاديث بالوجادة، فأشار الناظم إليه والجوابِ عنه فقال:
430 -
فَإِنْ يَقُلْ: فَمُسْلِمٌ فِيهِ تُرَى
…
وِجَادَةً، فَقُلْ: أَتَى مَنْ آخَرَا
(فإن يقل) بالبناء للمفعول، أي قال معترض:(فَمُسْلِمٌ) الإمام صاحب الصَّحِيح، مبتدأ على حذف مضاف أي صحيح مسلم، خبره قوله:(فيه ترى) بالبناء للمفعول، وقوله:(وِجَادَةً) نائب فاعله، ويحتمل أن يكون ترى بالبناء للفاعل أي ترى أيها المخاطب، ووجادة بالنصب مفعوله، (فقل) أيها المحدث مجيباً عن هذا الاعتراض (أتى) ذلك الحديث الذي قال فيه:
وجدتُّ (من) طريق (آخَرَا) بألف الإطلاق، أي رُوي موصولاً إلي من نسب أنه وجد روايته في كتابه.
وحاصل معنى البيت: أنه انتُقِدَ على صحيح مسلم بعضُ الأحاديث التي رويت بالوجادة لأن حكم الوجادة منقطع لأنها ليست من الرواية، فأجاب الناظم تبعاً للرشيد العطار: بأن مسلماً رواها من طرق أخرى، موصولة إلى من ذكر أنه وجد روايتهم فزال الإشكال، وأجاب الناظم أيضاً بجواب آخر، وهو أن الوجادة المنقطعة أن يجد في كتاب شيخه، لا في كتاب نفسه عن شيخه.
وارتضى المحقق ابن شاكرٍ هذا الثاني، قال: لأن الراوي إذا وجد في كتاب نفسه حديثاً عن شيخه، كان على ثقة من أنه أخذه عنه، وقد تخونه ذاكرته، فينسى أنه سمعه منه، فيحتاط تورعاً، ويذكر أنه وجده فى كتابه، كما فعل أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله اهـ.
(تَتِمَّة): زيادات الناظم في هذا الباب: قوله: " لنا ذكر "، وقوله:
" وبعضهم " قال: سمعت إلخ، وقوله:" أو أسرع القارئ "، وقوله:" وعليه العمل "، وقوله:" وقيل: أفضل من السماع والتساوي نقلاً "، وقوله:" وأنها دون السماع " إلخ، وقوله:" ونحو ذا "، وقوله:" فيهمله " إلى آخر البيت الذي بعده، وقوله:" وآخرون فضلوها "، وقوله:" وإِن يناول " البيت، وقوله:" في الاقتراح " البيت، وقوله:" فإن يقل فمسلم " البيت.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك.
تَمَّ الجزء الأول من كتاب " إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفية الأثر " ويليه الجزء الثاني، وأوله " كتاب الحديث وضبطه ".