المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الحسن) أي هذا مبحثه، وهو النوع الثاني من أنواع علوم الحديث - شرح الأثيوبي على ألفية السيوطي في الحديث = إسعاف ذوي الوطر بشرح نظم الدرر في علم الأثر - جـ ١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌ ‌(الحسن) أي هذا مبحثه، وهو النوع الثاني من أنواع علوم الحديث

(الحسن)

أي هذا مبحثه، وهو النوع الثاني من أنواع علوم الحديث قدمه، على الضَّعِيف لاشتراكه مع الصَّحِيح في الحجية، وهو لغة ما تشتهيه النفس، وتميل إليه، ولما كان بالنظر لقسيميه تتجاذبه الصحة والضعف: اختلف تعبير الأئمة في تعريفه اصطلاحاً على أقوال، اختار الناظم منها ما ذكره بقوله:

75 -

المُرْتَضَى فِي حَدِّهِ مَا اتَّصَلا

بِنَقْلِ عَدْلٍ قَلَّ ضَبْطُهُ وَلا

76 -

شَذَّ وَلا عُلِّلَ وَلْيُرَتَّبِ

مَرَاتِبًا والاِحْتِجَاجِ يَجْتَبِي

77 -

اَلْفُقَهَا وَجُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ

فَإِنْ أَتَى مِنْ طُرْقٍ أُخْرَى يَنْمِي

78 -

إِلَى الصَّحِيحِ، أَيْ لِغَيْرِهِ، كَمَا

يَرْقَى إِلَى الحُسْنِ الَّذِي قَدْ وُسِمَا

79 -

ضَعْفًا لِسُوءِ الحِفْظِ أَوْ إِرْسَالٍ أْوْ

تَدْلِيسٍ أْوْ جَهَالَةٍ إِذَا رَأَوْا

80 -

مَجِيئَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَمَا

كَانَ لِفِسْقٍ اْوْ يُرَى مُتَّهَمَا

81 -

يَرْقَى عَنِ الإِنْكَارِ بِالتَّعَدُّدِ

بَلْ رُبَّمَا يَصِيرُ كَالَّذِي بُدِي

(المرتضى) أي القول المرضي من الأقوال التي ذكرت (في حده) أي تعريف الحسن ما قاله شيخ الإسلام تقي الدين الشُّمُنِّيُّ - بضم الشين وتشديد النون - وهو (ما اتصلا) بألف الإطلاق، أي خبر متصل سنده بلا سقوط فيه بحيث يكون كل من رجاله سَمِعَ ذلك المرويَّ عن شيخه (بنقل عدل) أي مع عدالة الناقل بالمعنى السابق في الصَّحِيح، متعلق بما قبله (قل ضبطه) فعل وفاعل صفة لعدل، أي قليل الضبط صدراً أو كتابة، ولكنه

ص: 61

مرتفع عن حال من يعد تفرده منكراً (ولا شذ) أي وليس حديثاً شاذًّا (ولا علل) بالبناء للمفعول، أي وليس معللا بعلة قادحة، فخرج الصَّحِيح، والضَّعِيف. والجملة حال من ما. ثم ذكر أن الحسن مراتب كالصَّحِيح فقال:

(وليرتب) بالبناء للمفعول أي الحسن (مراتبا) صرف للضرورة، فأعلى مراتبه كما قال الذهبي: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وابن إسحاق عن التيمي، وأمثالُ ذلك مما قيل فيه إنه صحيح، وهو من أدنى مراتب الصَّحِيح، ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه كحديث الحارث بن عبد الله، وعاصم بن ضمرة، وحجاج بن أرطأة، ونحوهم. ثم ذكر حكمه فقال:(والاحتجاج) بالنصب مفعول مقدم، أي جَعْلَ الحديثِ الحسنِ حجة في الأحكام وغيرها (يجتبي الفقهاء) أي يختاره الفقهاء، أي كلهم (وجل) أي معظم (أهل العلم) من المحدثين والأصوليين، فالحديث الحسن عندهم كالصَّحِيح في الحجية، وإن كان دونه في القوة، ولذا أدرجته طائفة كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة في نوع الصَّحِيح مع اعترافهم أنه دونه، واحترز بقوله: وجُلُّ إلخ عن طائفة تمنع الاحتجاج به كأبي حاتم الرازي، ونسب أيضاً إلى البخاري، واختاره أبو بكر بن العربي في عارضته، وهذا النوع المُعَرَّفُ من الحسن هو المسمى بالحسن لذاته، وهو يرتقي إلى درجة الصَّحِيح بسبب تعدد طرقه، كما أشار إليه بقوله:(فإن أتى) الخبر الحسن الذي كان روايه قاصِراً عن درجة الحافظ الضابط مشهوراً بالصدق والستر (من طرق) بسكون الراء جمع طريق (أخرى) أي من جهة أخرى ولو واحدةً (يَنمِي) كيرمي مضارع نَمَىٍ بمعنى: ارتفع يقال نمى الحديث: ارتفع، ونميته مخففاً يستعمَل لازماً ومتعدياً، ونمَّيته بالتشديد إذا عزوته، أفاده في القاموس، والمناسب هنا اللزوم أي يرتفع من درجة الحسن (إلى) درجة (الصَّحِيح) لكن لما كان الصَّحِيح له قسمان صحيح لذاته وصحيح لغيره والحسن إنما يرتفع إلى الصَّحِيح لغيره بين ذلك بأي التفسيرية فقال:(أي لغيره) أي الصَّحِيح

ص: 62

لغيره، وهو تعدد الطرق، وإنما ارتفع لقوته بالمتابعة وزوال ما كنا نخشاه من جهة سوء الحفظ ومثاله: حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة لكن لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن فلما انضم إلى ذلك كونه روى من أوجه أُخَرَ حكمنا بصحته، والمتابعةُ في هذا الحديث ليست لمحمد، عن أبي سلمة، بل لأبي سلمة عن أبي هريرة فقد رواه عنه أيضاً الأعرج وسعيد المقبري وأبوه وغيرهم. (كما يرقى) بسبب المتابعة (إلى) درجة ذي (الحسن) ويُسمَّى الحسن لغيره: الحديثُ (الذي قد وُسِمَا) بالبناء للمفعول وألف الإطلاق، أي عُلِّمَ (ضعفاً) بالضم والفتح أي بضعف منصوب بنزع الخافض أي شهر بكونه ضعيفا (لـ) أجل (سوء الحفظ) من راويه الصدوق فإذا جاء من وجه آخر زال ضعفه وعلمنا به أنه قد حفظه، ولم يختل ضبطه، فصار الحديث حسناً لغيره، كحديث الترمذي وحسنه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، أن امرأة من بني فزرة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجاز " قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد، فعاصم ضعيف لسوء حفظه وقد حسَّن له الترمذي هذا الحديث لمجيئه من غير وجه (أو) وُسِم بضعفه لأجل (إرسال) أي كان ضعفه لوجود إرسال في سنده، فإذا جاء من وجه آخر فإنه يزول ضعفه، ويكون حسناً لغيره: ومثاله يأتي في بحث المرسل. (أو) كان ضعفه لأجل (تدليس) من راويه: مثاله ماْ رواه الترمذي وحسنه من طريق هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب مرفوعاً " إن حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله فإن لم يجد فالماء له طيب " فهشيم موصوف بالتدليس لكن لما تابعه عند الترمذي أبو يَحْيَى التيمي، وكان للمتن شواهد من حديث أبي

ص: 63

سعيد الخدري وغيره حسنه، (أو) ضُعِّفَ لأجل (جهالة) رجال الإسناد، كما زاده الحافظ فإنه يزول ضعفه بتعدد طرقه، (إذا) ظرف ليرقى (رأوا) أي المحدثون (مجيئه) أي الحديث الذي وسم بالضعف لسبب من الأسباب المذكورة، (من جهة أخرى) متعلق بمجيء. وحاصل المعنى أن الحديث الذي عرف ضعفه لسوء حفظ راويه أو إرسَاله أو تدليسه أو جهالته يرتقي إلى درجة الحسن لغيره إذا جاء من جهة أخرى، ولو كان من وجه واحد، وهذا النوع هو المسمى بالحسن لغيره. فاتضح بذلك أن المقبول من الحديث ينقسم أربعة أقسام: صحيح لذاته، صحيح لغيره، حسن لذاته، حسن لغيره. ثم إن ما ذكر من أن الضَّعِيف يرتقي إلى درجة الحسن مشروط بعدم شدة ضعفه، وإلا فلا يرتقي إليه فلا يرتقي عن الإنكار، كما أشار إليه بقوله:(وما كان) أي الحديث الذي كان ضعفه (لفسق) في راويه (أو يرى) بالبناء للمجهول أي يظن راويه (متهماً) بالكذب (يَرقَى) خبر ما (عن الإنكار) أي كونه منكراً، أو لا أصل له (بالتعدد) متعلق بيرقى أي بسبب تعدد طرقه.

وحاصل المعنى: أن ما كان ضعفه لفسق راويه، أو تهمته بكذب يرتقي عن كونه منكراً، ولا يرتقي إلى درجة الحسن لقوة ضعفه، وتقاعد هذا الجابر عن جبره، ومقاومته. ومثاله حديث:" من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء "، وفي لفظ " بعثه الله فقيهاً عالماً "، قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعفه، وإن كثرت طرقه لكن لو وجد بعد ذلك طريق آخر فيه ضعف قرب محتمل يرتقى إليه أيضاً كما أشار إليه بقوله:(بل ربما) كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور، والسيئ الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل (يصير) بمجموع ذلك (كَالَّذِي بُدِي) أي كالحسن الذي بدئ به الباب، لكن يسمى أيضاً حسناً لغيره، وها هنا اعتراض للعلامة أحمد محمد شاكر على الناظم في تعليقه فانظره.

ص: 64

(تَتِمَّة): قوله وليرتّب مراتباً وقوله أو إرسال أو تدليس أو جهالة وقوله يرتقي عن الإنكار من زياداته.

ثم ذكر رحمه الله مظان الحسن فقال:

82 -

وَالْكُتُبُ الأَرْبَعُ ثَمَّتَ السُّنَنْ

لِلدَّارَقُطْنِيْ مِنْ مَظِنَّاتِ الحَسَنْ

(والكتب الأربع) التي هي السنن الأربع للأئمة الأربعة: أبي داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه. (ثُمَّتَ) بمعنى الواو لأنه لا ترتيب يراد هنا بل المراد كونها مظان الحسن، ويحتمل أن يراد الترتيب أيضاً بالنسبة إلى كثرة الحسن في الكتب الأربع وقلته في الدارقطني (السنن) بالضم جمع سنة، وهي الطريقة. وسيأتي تفسيرها اصطلاحاً (لـ) لإمام شيخ الإسلام حافظ الزمان، أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي (الدارقطني) بفتح الراء وضم القاف وسكون الطاء نسبة إلى دارقطن محلة ببغداد كبيرة، ولد رحمه الله سنة ست وثلاثمائة، سمع عن البغوي وابن أبي داود، وابن صاعد، وخلائق، وحدث عنه الحاكم وأبو حامد الإسفرايني، وتَمَّام الرازي، وخلائق، كان أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماماً في القراءة والنحو، ونسب إلى التشيع. قال الذهبي: ما أبعده من التشيع، توفي ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة عن تسع وسبعين سنة. (من مظنات الحسن) جار ومجرور خبر المبتدإ، جمع مظنة بكسر الظاء فيهما، وهي مَفْعِلة من الظن، قال المطرزي: المظنة العِلمُ من ظن: بمعنى علم، وقال في المصباح: وقد يستعمل الظن بمعنى اليقين ومنه المظنة بكسر الظاء للمَعْلَم، وهو حيث يعلم الشيء أفاده الصنعاني.

وحاصل المعنى: أن هذه الكتب من مواضع وجود الحديث الحسن ومعادنه.

(تَتِمَّة): هذا البيت من زياداته.

ص: 65

ولما بين أن الكتب الأربع من مظان الحسن شرع يبين شروطهم فيها على الترتيب مقدماً أبا داود لأن شرطه أشد من شروط غيره على ما قيل: فقال:

83 -

قَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ كِتَابِهْ

ذَكَرْتُ مَا صَحَّ وَمَا يُشَابِهْ

84 -

وَمَا بِهِ وَهْنٌ أَقُلْ وَحَيْثُ لا

فَصَالِحٌ، فَابْنُ الصَّلاحِ جَعَلا

85 -

مَا لَمْ يُضَعِّفْهُ وَلا صَحَّ حَسَنْ

لَدَيْهِ مَعْ جَوَازِ أَنَّهُ وَهَنْ

(قال) الإمام الحافظ الحجة (أبو داود) سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني، ولد سنة اثنتين ومائتين، سمع أبا عمر الضرير، ومسلم بن ابراهيم، والقعنبي، وعبد الله بن رجاء، وأبا داود الطيالسي، وخلقاً كثيراً وحدث عنه الترمذي، والنسائي، وكتب عنه شيخه أحمد بن حنبل حديث العتيرة، وأراه كتابه فاستحسنه، توفي بالبصرة في سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين، عن ثلاث وسبعين سنة. (عن كتابه) أي مبيناً عن شأن كتابه السنن الشهير الذي قال هو عنه: كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها هذا السنن فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال زكريا الساجي: كتاب الله أصل الإسلام، وسنن أبي داود عهد الإسلام، وقال النووي: ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناءُ به، وبمعرفته المعرفةَ التامةَ، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يُحتَجُّ بها فيه، مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه اهـ. أي قال في ذكر شأن كتابه ما: معناه: (ذكرت) فيه (ما صح) أي الحديث الصَّحِيح (وما يشابه) أي يشابه الصَّحِيح، ونصه: كما قال السخاوي نقلًا عن تاريخ الخطيب البغدادي من طريق ابن داسة عنه ذكرت في كتابي الصَّحِيح وما يشبهه ويقاربه. قال السخاوي والواو هنا للتقسيم، أو لغيره من أنواع العطف المقتضي للمغايرة، ولا شك فيها هنا فما يشبه الشيء وما يقاربه ليس به، ولذا قيل: إن الذي يشبهه هو الحسن، والذي يقاربه الصالح، ولزم منه جعل الصالح قسماً

ص: 66

آخر اهـ. وقال أبو داود أيضاً: (وما) أي الحديث الذي (به) أي فيه (وهن) بالفتح كالوعد، أي ضُعْفٌ شديد، فالتنوين للتعظيم. (أقل) أي أُبَيِّنُ وَهْنَهُ، وجزمه للضرورة، والجملة خبر ما (وحيث لا) أذكر فيه شيئاً فهو (صالح) للاحتجاج به، كما قال العراقي، أو صالح للأعم من ذلك كما ذكره الحافظ احتمالاً. وحاصل ما ذكره أبو داود عن كتابه أنه يقول ذكرت في كتابي الصَّحِيح وما يشبهه وما يقاربه، وإذا كان فيه حديث فيه ضعف شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح.

(تنبيه): قال الحافظ السخاوي: وتردد شيخي - يعني الحافظ ابن حجر - في محل هذا البيان أهو عقيب كل حديث على حدة، ولو تكرر ذلك الإسناد بعينه، أو يكتفي بالكلام على وهن إسناد مثلا، فإذا عاد لم يبينه اكتفاء بما تقدم، ويكون كأنه قد بينه؟ وقال: هذا الثاني أقرب عندي، قال السخاوي. على أنه لا مانع من أن يكون سكوته هنا لوجود متابع أو شاهد.

قال شيخنا: وقد يقع البيان في بعض النسخ دون بعض، ولا سيما رواية أبي الحسن ابن العبد، فإن فيها من كلام أبي داود شيئاً زائداً على رواية اللؤلؤي اهـ. وكذا قال ابن كثير وزاد قوله: ولأبي عبيد الآجري أسئلة عن أبي داود في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. اهـ باختصار. فعلى هذا يتعين ملاحظة ما وقع في غيرها مصرحاً به بالضعف الشديد مما سكت عليه في السنن لا مطلق الضعف وكذا ينبغي عدم المبادرة لنسبة السكوت إلا بعد جمع الروايات واعتماد ما اتفقت عليه لما تقدم. أفاده السخاوي في فتح المغيث. (فا) لإمام أبو عَمْرو (بن الصلاح) رحمه الله (جعلا) بألف الإطلاق (ما) أي الحديث الذي (لم يضعفه) أبو داود في سننه (ولا صح) عند غيره من المعتمدين الذين يميزون بين الصَّحِيح والحسن (حسن) مفعول ثان لجعل، وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة (لديه) أي عند أبي داود (مع) بسكون

ص: 67

العين لغة في فتحها (جواز) أي احتمال (أنه) أي ما سكت هو عليه (وهن) بفتح الواو والهاء، يحتمل أن يكون مصدراً أي ذو وهن وأن يكون فعلاً ماضياً، يقال: وهن كوَعَدَ وَوَرِثَ وكَرُمَ وَوَجِلَ في العمل. وَهْنَاً بفتح فسكون ويحرك ضعف، أفاده في " ق " وشرحه، أي مع احتمال ضعفه عند غيره، ونص عبارة ابن الصلاح بعد ذكر ما قاله أبو داود: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقا وليس في أحد الصَّحِيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصَّحِيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود وقد يكون في ذلك ما ليس بحسنٍ عند غيره ولا مندرجٍ فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق إلى آخر كلامه.

(تَتِمَّة): قوله: مع جواز أنه وهن، من زياداته.

ولما اعترض على ابن الصلاح الحافظ أبو بكر بن رشيد (1) في قوله هذا قائلًا: ليس يلزم من ذلك كونه حسناً عند أبي داود إذ يكون صحيحاً عنده، واستحسنه أبو الفتح اليعمري أشار الناظم إليه مع الجواب عنه بقوله:

86 -

فَإِنْ يَقُلْ: قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ لَهْ

قُلْنَا: احْتِيَاطًا حَسَنًا قَدْ جَعَلَهْ

(فإن يقل) بالبناء للمفعول، أي فإن قال قائل معترضاً على ابن الصلاح كما أبداه ابن رُشيد المذكور (قد يبلغ) ما سكت عنه أبو داود (الصحة له) أي لأبي داود أي عنده، وإن لم يكن صحيحاً عند غيره فكيف يقتصر ابن الصلاح على الحكم بحسنه فقط (قلنا) جواباً عن اعتراف (احتياطاً) أي لأجل احتياطه (حسناً قد جَعَله) ابن الصلاح إذ الصالح للاحتجاج لا يخرج عن الصَّحِيح والحسن، ولا يرتقي إلى الصحة إلا بنص وحينئذ فالاحتياط الاقتصار على الحسن.

وحاصل الجواب: أن ابن الصلاح إنما ذكر ما نعرف به الحديث الذي سكت عنه أبو داود، لأنه يحتمل أن يكون صحيحاً، وأن يكون حسناً

(1) هو العلامة محمد بن عمر بن محمد المعروف بابن رُشَيد مصغراً (657 - 721).

ص: 68

عنده، كما يحتمل أن يكون ضعيفاً عند غيره فالأولى أن يحمل على أنه حسن عنده، ولا يرتقي إِلى درجة الصحة، وإن جاز أن يبلغها، لأنه الأحوط.

ولما اعترض عليه أيضاً ابن سيد النَّاس (1) بأمر آخر أشار إليه مع الجواب عنه بقوله:

87 -

فَإِنْ يَقُلْ: فَمُسْلِمٌ يَقُولُ: لا

يَجْمَعُ جُمْلَةَ الصَّحِيحِ النُّبَلا

88 -

فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ لِلْمُصَدَّقِ

وَإِنْ يَكُنْ فِي حِفْظِهِ لا يَرْتَقِي

89 -

هَلَاّ قَضَى فِي الطَّبَقَاتِ الثَّانِيَهْ

بِالحُسْنِ مِثْلَ مَاقَضَى فِي المَاضِيَهْ

90 -

أَجِبْ بِأَنَّ مُسْلِمًا فِيهِ شَرَطْ

مَاصَحًّ فَامْنَعْ أَنْ لِذِي الحُسْنِ يُحَطْ

(فإن يقل) بالبناء للمفعول أيضاً أي إن قال قائل معترضاً عليه كما أبداه ابن سيد النَّاس اليعمري (فمسلم) صاحب الصَّحِيح (يقول) في مقدمة صحيحه ما معناه: (لا يجمع جملة) الحديث (الصَّحِيح) أي كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (النبلا) بضم ففتح جمع نبيل من النُّبْل بالضم وهو الذكاء والنجابة كما في القاموس، أي الأئمة الأذكياء الذين بلغوا الغاية في الحفظ والإتقان، كمالكٍ وشعبة والسفيانين. (فاحتاج) الإمام مسلم (أن ينزل) أي إلى النزول (لْمُصَدَّقِ) بفتح الدال أي لتخريج أحاديث الرجل المنسوب إلى الصدق، كليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وغيرهم لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق (وإن يكن) ذلك المُصَدَّق (في حفظه) وإتقانه للحديث متعلق بقوله:(لا يرتقي) إلى درجة أولئك النبلاء، وحاصل معنى البيتين أن الإمام مسلماً رحمه الله ذكر في مقدمة صحيحه ما معناه أنه لما كان النبلاء المتقنون لا يستوعبون كل الأحاديث الصحاح مع أنه يريد الاستكثار من الصَّحِيح ولا يبلغ ذلك ما أراده اقتضى ذلك أن ينزل

(1) هو العلامة محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو الفتح اليعمري الأندلسي الشافعي القاهري المتوفى سنة 734 عن 63 سنة.

ص: 69

إلى ذكر أحاديث رجال ليسوا في الإتقان مثل الأولين وإن كان اسم العدالة والصدق يشملهم فقال المعترض: (هلا قضى) ابن الصلاح (في) بمعنى على أي على أحاديث (الطبقات الثانية) وهي التي لا ترتقي في الحفظ إلى درجة النبلاء (بالحسن) متعلق بقضى (مثل ما قضى) ما مصدرية. أو موصولة أي مثل قضائه أو الذي قضاه (في الماضية) أي على الحالة الماضية وهي التي سكت عنها أبو داود.

وحاصل كلام المعترض أن عمل أبي داود شبيه بعمل مسلم فهلا ألزم الشيخ ابن الصلاح مسلماً من ذلك ما ألزمه أبا داود لاتحاد معنى كلامهما فأجاب عنه الناظم وفاقاً للحافظ العراقي، فقال:

(أجب) أيها المحدث الطالب للتخلص من المعضلات وحَلِّ ما حَلَّ من المشكلات (بأن مسلماً) رحمه الله (فيه) أي في كتابه متعلق بقوله (شرط) أي التزم تخريج (ما صح) من الحديث (فامنع) أيها النحرير، الطالب للتحرير (أن) بالفتح مصدرية (لذي الحسن) أي لدرجة حديث صاحب الحسن متعلق بقوله (يحط) بالبناء للمفعول، من الحط يقال: حط الرَّجُلَ وغيره من باب قتل أنزله من علو إلى سفل، كما في المصباح، وأن وصلتها في تأويل المصدر مفعول امنع أي امنع حَطَّ حديثه إلى درجة الحديث الحسن، لقصوره عن الصَّحِيح، وهو شَرَطَ أن لا يخرج إلا الصَّحِيح، بخلاف أبي داود فإنه لم يشترط ذلك فصح حمل كلامه عليه.

وحاصل الجواب أن مسلماً التزم في كتابه تخريج الصَّحِيح فقط، فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن عنده لقصور الحسن عن الصَّحِيح، بخلاف أبي داود فإنه لم يلتزم ذلك وقال: ما سَكَتُّ عنه فهو صالح، والصالح يجوز أن يكون صحيحاً، وأن يكون حسناً عند من يرى الحسن مرتبة متوسطة بين الصَّحِيح والضَّعِيف، ولم ينقل لنا عنه أنه يقول بذلك، أو يرى ما ليس بضعيف صحيحاً، فكان الأولى بل الصواب أن لا

ص: 70

يرتفع ما سكت عنه إلى الصحة حتى يُعلَم أن رأيه هو الثاني، ويحتاج إلى نقل. أفاده العراقي.

(تَتِمَّة): هذا البيت من زياداته ثم ذكر اعتراضاً وَارِداً على الإمام البغوي في كتابه مصابيح السنة، والجواب عنه فقال:

91 -

فِإِنْ يُقَلْ: فِي السُّنَنِ الصِّحَاحُ مَعْ

ضَعِيفِهَا وَالبَغَوِيُّ قَدْ جَمَعْ

92 -

مَصَابِحًا وَجَعَلَ الحِسَانَ مَا

فِي سُنَنٍ قُلْنَا: اصْطِلاحٌ يُنْتَمَى

(فإن يقل) بالبناء للمجهول أي قال قائل اعتراضاً على صنع البغوي (في السنن) الأربع وأشباهها (الصحاح) بكسر الصاد جمع صحيح أي الأحاديث الصَّحِيحة وكذا الحسان (مع ضعيفها) أي الأحاديثِ بل وفيها المنكر أيضاً (والبغوي) هو الحافظ محيي السنة الفقيه المجتهد أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفَرَّاء، نسبة إلى صنعة أبيه لأنه كان يعمل الفِرَاءَ ويبيعها، توفي البغوي بمدينة مرو الروذ، في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة.

والبغوي نسبة إلى بلد من بلاد خُرَاسان بين مرو وهراة، يقال له بغاوبغشور قاله في اللباب. (قد جمع) كتاباً في الحديث سماه (مصابحاً) بحذف الياء تخفيفاً لأنه جمع مصباح وهو السراج، واسمُ الكتاب الكاملُ مصابيح السنة (و) قَسَّمَ أحاديثه إلى صحاح وحسان (فجعل) الصحاح ما في الصَّحِيحين أو أحدهما، وجعل (الحسان ما) أي الأحاديث التي (في سنن) لأبي داود والترمذي وأشباههما، فاعْتُرِضَ عليه في ذلك، قال ابن الصلاح هذا اصطلاح لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك، وقال النووي إنه ليس بصواب لما تقرر من اشتمال السنن على الصَّحِيح والحسن والضَّعِيف والمنكر، قال الناظم تبعاً لغيره في الجواب (قلنا) مجيبين عن هذا الاعتراض إن هذا (اصْطِلاحٌ يُنْتَمَى) بالبناء للمفعول أي ينسب إليه خاصة في هذا الكتاب، قال التاج التبْريزي ولا أزال أتعجب من الشيخين يعني ابن الصلاح والنووي في اعتراضهما على البغوي، مع

ص: 71

أن المقرر أنه لا مُشَاحَّة في الاصطلاح، قال الناظم وكذا مشى عليه علماء العجم آخرهم شيخنا العلامة الكافيجي في مختصره. اهـ، وما اعترض به العلامة أحمد بن محمد شاكر بضعف هذا الجواب أجبت عنه في الشرح فانظره.

(تَتِمَّة): هذا الشطر من زياداته. ثم أعاد الكلام على السنن فقال:

93 -

يَرْوِي أَبُو دَاوُدَ أَقْوَى مَا وَجَدْ

ثُمَّ الضَّعِيفَ حَيْثُ غَيْرَهُ فَقَدْ

(يروي أبو داود) في سننه (أقوى ما وجد) بالبناء للفاعل أي أصح ما وجب قبوله من الأحاديث إذا وجده (ثم) يروي (الضَّعِيف) منها من قِبَلِ سوء حفظ راويه ونحو ذلك كالمجهول عيناً أو حالا، لا مطلق الضَّعِيف الذي يشمل ما كان راويه متهماً بالكذب أفاده السخاوي. (حيث غيره) أي الضَّعِيفِ (فقد) أي حيث لم يجد الأقوى المذكور.

وحاصل معنى البيت أن أبا داود يروي في سننه أقوى الأحاديث ثم إذا لم يجده في الباب يخرج الحديث الضَّعِيف لأنه عنده أقوى وأحب من آراء الرجال وهو تابع في ذلك شيخه أحمد بن حنبل ولنعم ما قيل: [من الوافر]

إذا جَالَتْ خُيولُ الَّنصِّ يَوْماً

تُجَارِي فِي مَيَادِيِن الْكِفَاحِ (1)

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُسهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

ثم ذكر شرط النسائي فقال:

94 -

وَالنَّسَئِي مَنْ لَمْ يَكُونُوا اتَّفَقُوا

تَرْكًا لَهُ وَالآخِرُونَ ألْحَقُوا

95 -

بِالْخَمْسَةِ ابْنَ مَاجَةٍ، قِيلَ: وَمَنْ

مَازَ بِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمُو وَهَنْ

(و) الإمام الحافظ الحجة أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني (النسئي) بتخفيف الياء للوزن نسبة إلى نسأ

(1) الكفاح: المضاربة والمراد محل الحرب.

ص: 72

كجبل مهموز كما صرح به الأسنوي وابن خَلِّكَان والسبكي وهي بلدة بخراسان أفاده المرتضى في التاج في مادة نساء وعلى هذا نظم بعضهم فقال:

وَالنَّسَئِى نِسَبَة لِنَسَأٍ

مَدِينَةٌ فِي اْلوَزْنِ مِثْلُ سَبَأٍ

وقال في اللباب: النسائي بفتح النون والسين وبعد الألف همزة وياء النسب هذه النسبة إلى مدينة بخراسان يقال لها: نسا وينسب إليها نسوي اهـ.

وقال في معجم البلدان: كان سبب تسميتها بهذا الإسم أن المسلمين لما وردوا خراسان قصدوها فبلغ ذلك أهلها فهربوا ولم يتخلف بها غير النساء فلما أتاها المسلمون لم يروا بها رجلاً فقالوا هؤلاء نساء والنساء لا يقاتلن فننسا أمرها الآن إلى أن يعود رجالهن، فتركوها ومضوا فسموها بذلك نساء والنسبة الصَّحِيحة إليها نسائي، وقيل نسوي أيضاً، وكان من الواجب كسر النون اهـ، قلت والموافق للوزن ما في التاج وكذا النسوي أيضاً، ولد رحمه الله سنة خمس عشرة ومائتين وكان إماماً حافظاً ثبتا خرج من مصر في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة، وتوفي بفلسطين يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة ودفن بالرمْلَة وفي سبب موته قصة مشهورة.

كان رحمه الله لا يقتصر في التخريج على المتفق على قبولهم بل يخرج حديث (من لم يكونوا) أي أئمة الحديث (اتفقوا تركا له) منصوب بنزع الخافض واللام زائدة أي على تركه، وحاصل المعنى أن الإمام النسائي يخرج أحاديث من لم يُجْمَع على تركه ومعنى ذلك كما قال الحافظ أنه يريد اجماعاً خاصاً وذلك أن كل طبقة من طبقات الرجال لا تخلو عن متشدد ومتوسط، فمن الأولى شعبة وسفيان الثَّوري، وشعبة أشد من الثَّوري، ومن الثانية يَحْيَى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وَيَحْيَى أشد من عبد الرحمن ومن الثالثة يَحْيَى بن معين وأحمد بن حنبل، وَيَحْيَى أشد من

ص: 73

أحمد، ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري وأبو حاتم أشد من البخاري، فقال النسائي لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه، زاد السخاوي فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه القطان مثلاً فإنه لا يترك لما عرف من تشدد يَحْيَى ومَنْ هُو مثله في النقد اهـ، فظهر بهذا أن ما يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي يجتنب النسائي إخراج حديثه، قاله الحافظ وزاد السخاوي بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الشيخين، حتى قال بعض الحفاظ إن شرطه في الرجال أشد من شرطهما اهـ.

ثم ذكر الأصل السادس المزيد على الخمسة، فقال:(والآخرون) بكسر الخاء أي المحدثون المتأخرون عن زمان من جعل الأصول خمسة، ويحتمل أن يكون بفتح الخاء أي المحدثون غيرُ من عَدَّ الأصول خمسة، وهو مبتدأ خبره جملة (ألحقوا) بالأصول (الخمسة) الصَّحِيحين وأبي داود والترمذي والنسائي (وابن ماجه) مفعول ألحقوا، بسكون الهاء وصلاً ووقفاً ونونه هنا للضرورة، أي سُنَنَ الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجهْ القزويني الرَّبَعِيِّ صاحب السنن والتفسير والتاريخ، ولد سنة تسع ومائتين، وتوفي لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، عن أربع وستين سنة، وأول من ألحقه بها أبو الفضل محمد بن طاهر حيث أدرجه معها في الأطراف، وكذا في شروط الأئمة الستة ثم الحافظ عبد الغني في كتابه الكمال في أسماء الرجال، وسبب تقديم هؤلاء له على الموطأ كثرةُ زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ. ثم ذكر حكم من تفرد بهم ابن ماجه فقال:

(قيل: ومن ماز بهم) أي الرواة الذين امتاز بهم ابنُ ماجه عن غيره، أي انفرد بإخراج أحاديثهم (فإن فيهمو وهن) بفتحتين أي ضَعْفاً، وهو اسم إن مؤخراً وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة، ويحتمل أن تكون إِن عملت في ضمير شأن محذوف تفسره الجملة بعده، والمعنى أن من انفرد بهم ابن ماجه من الرواة فهم ضعفاءُ ولذا جرى كثير من القدماء على إضافة الموطأ أو غيره إلى الخمسة. ثم ذكر تساهل من أطلق على السنن الصحة، فقال:

ص: 74

96 -

تَساهَلَ الَّذِي عَلَيْهَا أَطْلَقَا

صَحِيحَةً وَالدَّارِمِيْ وَالْمُنْتَقَى

(تساهل الذي) أي المحدث الذي (عليها) أي السنن كلها، أو بعضها وجعل الشارح الضمير لابن ماجه، وليس كذلك لأنه ما أطلق عليها بانفرادها أحد أنها صحيحة (أطلقا) بألف الإطلاق (صحيحة) أي هذه الصيغة، كالحاكم والخطيب، حيث أطلقا الصحة على الترمذي، وابن السكن على كتاب أبي داود والنسائي، والحاكم على أبي داود، وجماعة منهم أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن مهدي، والدارقطني، والخطيب، على كتاب النسائي حتى شذ بعض المغاربة ففضله على كتاب البخاري، بل ذكر أبو طاهر السلفي اتفاق علماء المشرق والمغرب على صحة الكتب الخمسة، فكل هذا تساهل صريح، لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفاً، أو منكراً ونحو ذلك من أوصاف الضعف، (و) كذا تساهل من أطلق اسم الصحة على كتاب الحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن (الدارمي) نسبة إلى دارم بن مالك بطنٍ كبيرٍ من تميم، ولد سنة إحدى وثمانين ومائة، ومات يوم التروية ودفن يوم عرفة سنة خمس وخمسين ومائتين، له مسند كبير ثلاثياته أكثر من ثلاثيات البخاري وفيه من المقطوع، والمعضل، والمنقطع، والمرسل، قال الحافظ: ليس دون السنن في الرتبة، بل لو ضم إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجه، فإنه أمثل منه بكثير، وبالغ بعضهم فسماه صحيحاً، ولم أر له سلفاً في تسميته، وأما تسميته بالمسند: فلكون أحاديثه مسندة، أي في الغالب، وهو مرتب على الأبواب اهـ. (و) كذا تساهل من أطلق اسم الصَّحِيح على كتاب الإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري المجاور بمكة، كان من العلماء المتقنين المجودين، توفي سنة سبع وثلاثمائة المسمى (بالمنتقى) في الأحكام، قال الكتاني في الرسالة المستطرفة هو كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة في مجلد لطيف، وأحاديثه تبلغ نحو الثمانمائة وتتبعت فلم ينفرد عن الشيخين منها إلا بيسير، وله شرح يسمى بالمرتقى في شرح المنتقى، لأبي عمرو الأندلسي اهـ.

ص: 75

ويحتمل عطف قوله والدارمي والمنتقى على قوله ابن ماجه، أي ألحق بعض المتأخرين بالأصول الخمسة مسند الدارمي، والمنتقى، وهو الذي ذكره الشارح الترمسي لكن الأول أوضح.

(فائدة): قال العلامة السخاوي: ما حاصله: كتاب النسائي أقلها بعد الصَّحِيحين حديثا ضعيفاً، ولذا قال ابن رُشَيد إنه أبدعُ الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً، وأحسنها ترصيفاً، وهو جامع بين طريقتي البخاري ومسلم، مع حظ كثير من بيان العلل، بل قال بعض المكيين من شيوخ ابن الأحمر إنه أشرف المصنفات كُلِّها، وما وضع في الإسلام مثله.

ويقاربه كتاب أبي داود، بل قال الخطابي إنه لم يصنف في علم الدين مثله، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصَّحِيحين ويقاربه كتاب الترمذي، بل كان أبو إسماعيل الهروي، يقول هو عندي أنفع من كتابي البخاري ومسلم، لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، وهو يصل إلى الفائدة منه كل أحد من الناس. وأما سنن ابن ماجه فإنه تفرد بأحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقةِ الأحاديث مما حُكمَ عليها بالبطلان، أو السقوطِ أو النكارة اهـ، كلام السخاوي.

ولما أنهى الكلام على السنن شرع يبين درجة المسانيد فقال:

97 -

وَدُونَهَا مَسَانِدٌ وَالْمُعْتَلِيْ

مِنْهَا الَّذِي لأَِحْمَدٍ وَالحَنْظَلِيْ

(ودونها) أي الأصول الخمسة وما ألحق بها في الرتبة، أي الصحة كما قال العراقي، أو رتبة الاحتجاج الذي هو أصل بقية الْمُبَوِّبِينَ كما قاله السخاوي. (مساند) جمع مسند لأن مُفْعَلا يجمع على مفاعل، قال الصنعاني: والمعروف في التصريف جمع مُفْعَل على مفاعل ولكن شاع جمعه مع الياء اهـ.

قلت: لكن في القاموس قال: المسند من الحديث ما أسند إلى قائله جمعه مساند ومسانيد اهـ.

ص: 76

فأفاد أنه يجمع بلا ياء أيضاً، وصرف للوزن، وسيأتي تفسيره، وإنما كانت دون السنن لأن شأن المسند أن يذكر فيه ما ورد عن ذلك الصحابي جميعُه، فيجمع الضَّعِيف وغيره، بخلافها، فإن مصنفيها لا يوردون إلا ما يصلح للاحتجاج به من الحديث المقبول. ولكن قال الحافظ السخاوي ما حاصله: اعترض بعضهم على ابن الصلاح في تفضيل السنن على مسند أحمد الذي هو أكثر هذه المسانيد مطلقاً، وأحسنها سياقاً، متمسكاً بكونه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به، كما دل عليه عدم استيعاب ما عنده من أحاديث الصحابة فيه، وإنما انتقاه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث إلى أن قال: وبالجملة فسبيل من أراد الاحتجاج بحديث من السنن لا سيما ابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، مما الأمر فيه أشد، أو بحديث من المسانيد واحدٌ (1) إذ جميع ذلك لم يشتَرِط من جمعَهُ الصحةَ ولا الحسنَ خاصة. وهذا المحتج إن كان متأهلاً لمعرفة الصَّحِيح من غيره فليس له أن يحتج بحديث من السنن من غير أن ينظر في اتصال سنده وحال رواته، كما أنه ليس له أن يحتج بحديث من المساند حتى يحيط علماً بذلك، وإن كان غير متأهل لذلك فسبيله أن ينظر في كتب الحديث فإن وجد أحداً من الأئمة صححه، أو حسنه، فله أن يقلده، وإن لم يجد ذلك فلا يُقْدِمْ على الاحتجاج به، فيكونَ كحاطب ليل، فلعله يحتج بالباطل، وهو لا يشعر اهـ.

ثم إن المسانيد كثيرة: كمسند أبي داود الطيالسي، ومسند أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي بكر البزار، وأبي القاسم البغوي، وغيرهم، ومِنْ أوسعها مسندُ بَقِيِّ - بوزن علي - بن مخلد، ومسند الحافظ الحسن بن محمد الماسَرْجِسِي، قال الذهبي فرغ منه مهذباً معللًا في ثلاثة آلاف جزء، وهذه المسانيد هي التي يذكر فيها طرق الأحاديث، وما لها من المتابعات والشواهد التي اختصرها أهل الصحاح، تسهيلًا للطالبين، وهي

(1) خبر سبيل.

ص: 77

متفاوتة الرتبة كما أشار إليه بقوله: (والمعتلي) مبتدأ، أي المسند العالي رتبةً (منها) من تلك المسانيد، متعلق بما قبله (الذي) خبر المبتدإ، أي المسند الذي للإمام الحجة أبي عبد الله (أحمد) صرف للضرورة ابن محمد بن حنبل الشيباني، تقدمت ترجمته ومسنده هذا قال الهيثمي: أصَحُّ صحيحاً من غيره، وقال ابن كثير: لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته، وحسن سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جداً، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصَّحِيحين قريباً من مائتين، وقال الحسيني في كتابه التذكرة في رجال العشرة: عدة أحاديث المسند أربعون ألفاً بالمكرر، وألف الحافظ في الذب عن الأحاديث التي زعم بعض أهل الحديث أنها موضوعة، وعدتها أربعة وعشرون حديثاً، كتاباً سماه القول المسدد، في الذب عن المسند، وذيل الناظم ما فاته من الأحاديث المذكورة بجزء سماه الذيل الممهد، مع الذب عنها، وعدتها أربعة عشر حديثاً، وقال الحافظ في تعجيل المنفعة في رجال الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث " عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة زحفاً " قال والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهواً، أو ضرب وكُتِبَ من تحت الضرب. (و) المسند الذي للحافظ الحجة أبي يعقوب إِسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطرف المعروف بابن راهويه التميمي. (الحَنظلي) المروزي النيسابوري نزيلها وعالمها، ولد سنة إحدى وستين ومائة، وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، عن سبع وسبعين سنة، أملى المسند والتفسير من حفظه، ما كان يحدث إلا من حفظه، وكان يحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب، ومسنده هذا في ست مجلدات. قال أبو زرعة: يخرج فيه أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي، وسئل لم قيل له ابن راهويه فقال إن أبي ولد في الطريق، فقالت المراوزة راهويه، يعني أنه ولد في الطريق.

(خاتمة): لما ذكر الناظم هنا السنن والمسانيد، أحببت أن أُبَيِّنَ

ص: 78

معناهما مع بقية ما اصطلحوا عليه من الجوامع والأجزاء والأطراف والمعاجم، فقلت:

فمنها الجامع، وهو في اصطلاحهم ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث المجموعة في قولي:

ألْجَامِعُ الَّذِي حَوَى مَنَاقِبَا

وَسِيَراً وَفِتَناً وَأدَبَا

تَفْسِيراً الشرُوطَ وَالْعَقَائِدَا

وَالثَّامِنُ الأحْكَامُ خُذْنِلْتَ الْهُدَى

ومنها السنن، وهي الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية، وليس فيها شيء من الموقوفات، لأن الموقوف لا يسمى عندهم سنة، ويُسمَّى حديثاً أفاده الكتابي.

ومنها المسانيد، وهي ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة رضي الله عنهم بحيث يوافق حروف الهجاء، أو يوافق السوابق الإسلامية، أو يوافق شَرَافَةَ النسب.

ومنها المعاجم، وهي ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ سواء يعتبر تقدم وفاة الشيخ، أو توافق حروف التهجي، أو الفضيلة، أو التقدم في العلم والتقوى، ولكن الغالب هو الترتيب على حروف الهجاء، ومن هذا القسم المعاجم الثلاثة للطبراني.

ومنها الأجزاء، وهو تأليف الأحاديث المروية عن رجل واحد سواء كان صحابياً، كجزء حديث أبي بكر، أو غَيرَهُ كجزء حديث مالك، وقد يختارون مطلباً من المطالب الثمانية المذكورة في صفة الجامع، كما صنف أبو بكر بن أبي الدنيا في باب: النية، وذم الدنيا، والآجريُّ في باب رؤية الله. ومنها المستخرجات، وقد مر تفسيرها في النظم.

ومنها المستدركات، وهي كتب استُدرِك فيها ما فات من كتاب آخر على شريطته كمستدرك الحاكم.

ص: 79

ومنها العِلَلُ: وهي الكتب التي تجمع فيها الأحاديث المعلولة مع بيان عللها كعلل الدارقطني.

ومنها كتب الأطراف، وهي التي يذكر فيها طرف الحديث الدالِّ على بقيته، ويجمع أسانيده إما مستوعباً، أو مقيداً بكتب مخصوصة، وتمام البحث في مقدمة تحفة الأحوذي والرسالة المستطرفة للكتاني.

ص: 80