المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب نعم وبئس - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب نعم وبئس

‌باب نِعْم وبئْس

ص: وليسا باسمين فيليا عوامل الأسماء خلافا للفراء، بل فعلان لا يتصرفان للزومهما إنشاء المدح والذم على سبيل المبالغة، وأصلهما فَعِل. وقد يردان كذلك. أو بسكون العين أو فتح الفاء أو كسرها، أو بكسرهما، وكذا كل ذي عين حلقية من فَعِل فِعْلا أو اسما. وقد تجعل العين الحلقية متبوعة للفاء في فعيل وتابعتها في فَعْل. وقد يتبع الثاني الأول في مثل نَحَو ومَحموم. وقد يقال في بِئس بَيْس.

ش: يدلُ على فعلية نعم وبئس اتصال تاء التأنيث بهما ساكنة في كل اللغات، واتصال ضمير الرفع البارز بهما في لغة حكاها الكسائي نحو أخواك نعما رجلين، وإخوتك نعموا رجالا، والهندات نعمن هندات. وقال ابن برهان: الدليل على أن نعم فعل ماض رفعه الظاهر وتضمنه الضمير ودخول لام القسم عليه. وعطفه على الفعل الماضي.

قلت: والحكم بفعليتهما هو مذهب البصريين والكسائي. وزعم الفراء وأكثر الكوفيين أنهما اسمان، واستدلوا على ذلك بدخول حرف الجر عليهما كقول بعض العرب، وقد قيل في بنت له: نعم الولد هي، فقال: والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة، وكقول بعضهم: نعم السيرُ على بئس العَيْر، وكقول الراجز:

صبَّحك الله بخيْر باكر

بنعم طير وشباب فاخِر

ولا حجة في ذلك، أما الأول والثاني فيتعتذر عنهما بما اعتذر عن قول الآخر:

ص: 5

عَمْركَ ما ليلى بنامَ صاحبُهْ

فقيل أراد ما ليلى بليل مقول فيه [نام صاحبه: وبولد مقول فيه نعم الولد، وبعَيْر مقول فيه] بئس العَيْر.

وأما قول الآخر:

بنعم طير وشباب فاخر

فيحمل على أنه جعل "نعم" اسما أضيف إلى طير. وحكى لفظه الذي كان عليه قبل عروض الاسمية، كما قال الشاعر:

بثين الزمي "لا" إنّ "لا" إن لزمته

على كثرة الواشين أيُّ مَعُون

فأوقع الزمي على "لا" ثم أدخل عليها إنّ فأجراها مجرى اسم حين دعت الحاجة إلى أن يعامل لفظها معاملة الأسماء، ولم يلزم من ذلك أن يحكم باسميتها إذا لم تستعمل هذا الاستعمال، وكذلك القول في نعم في قوله بنعم طير وفيها أربع لغات: نَعِم وبَئس وهما الأصل، ونَعْم وبَئْس بالتخفيف، ونِعِم وبِئِس بالإتباع، ونِعْم وبِئْس بالتخفيف بعد الإتباع، وهذه اللغة أبعد من الأصل، وأكثر في الاستعمال. وحكى أبو علي بَيْس، بياء ساكنة بعد فتحة وهو غريب. وأما اللغات المتقدمة فجائزة في كل ما كان من الأفعال والأسماء ثلاثيا أوله مفتوح وثانيه حرف حلقي مكسور، فيقال في شَهِد شَهْد وشِهِد وشِهْد. وكذا يقال في فَخذ: فَخْذ وفِخِذ. قال الشاعر:

إذا غابَ عنّا غابَ عنّا ربيعُنا

وإن شَهْد أجدى خيرُه ونوافلُهْ

وقد تجعل العين الحلقية متبوعة للفاء في فَعيل فيقال في شهيد شِهِيد، وفي ضَئيل ضِئيل وفي بَعير بِعير وفي صَغير صِغير وفي نَحيف نِحِيف وفي بَخيل

ص: 6

بِخِيل. وقد تجعل العين الحلقية الساكنة تابعة للفاء المفتوحة فتفتح وإن لم يكن لها أصل في الفتح كقوله في قَحْم قَحَم، وفي قَعْر قَعَر وفي دَهْر دَهَر. ومذهب البصريين أن الفتح فيما ثبت سكونه من هذا النوع مقصور على السماع، وأن الوارد منه بوجهين ليس أصله السكون ثم فُتح ولا هو بالعكس، وإنما هو مما وضع على لغتين. ومذهب الكوفيين أن بعضه ذو لغتين وبعضه أصله السكون ثم فتح، لأن الفتحة من الألف وهو من حروف الحلق، فكان في جعلها على العين والعين حلقية مسبوقة بفتحة مشاكلة ظاهرة ومناسبات متجاورة.

واختار ابن جني مذهب الكوفيين مستدلا بقول بعض العرب في نَحْو نَحَو وفي مَحْموم مَحَموم، فقال: لو لم تكن الفتحة عارضة في نَحَو لزم انقلاب الواو ألفا، لكنها فتحة عرضت في محل سكون فعومل ما جاورها بما كان يعامل به مع السكون ولم يعتدّ بها، وكذا فتحة محموم لو لم تكن عارضة لزم ثبوت مَفَعول أصلا ولا سبيل إلى ذلك، لكن فتحة الحاء منه في محل سكون فأمن بذلك عدم النظير وكان هذا التقدير أحسن التقدير.

قلت: هذا معنى قول ابن جني، واعتبار ما اعتبره حسَن بيّن الحُسْن، وهو نظير قولنا في يَسَع أن الفتحة في محل كسرة، ولولا ذلك لقيل يَوْسع كما قيل في يَوْجع، لكنه عومل معاملة يَعِد فحذفت واوه لوقوعها بين ياء وكسرة، إلا أن كسرة بعد ملفوظ بها وكسرة يسع مقدرة في محل الفتحة كتقدير السكون في محل فتحة نَحَو ومَحَموم. وشبيه بهذا قولهم في جَيْأل وتوْءم جَيَل وتَوَم، فصححوا الياء والواو مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، لأن تحركهما عارض منوي في محله السكون. وشبيه بهذا أيضا قولهم في بُيوت بِيوت، فافتتحوا الجمع مع أنه أثقل من المفرد بكسرة تليها ضمة، وقد رفضوا ذلك مع المفرد مع أنه أخف، إلا أن الكسرة عارضة للإتباع، والضمة منوية في محلها، فعاد الصعب هينا والعذر بيّنا. وما حكى أبو علي من قولهم بَيْس فالوجه فيه أن أصله بِئس فخفف بِيس ثم فتحت الباء التفاتا

ص: 7

إلى الأصل، وترك ما نشأ عن الكسرة لأن استعمالها أكثر فكانت جديرة بأن تنوى مع رجوع الفتحة، لشبهها بالعارضة في قلة الاستعمال.

ومعنى نعم وبئس المبالغة في المدح والذم، وربما توهم غير ذلك. وروي أن شريك بن عبد الله النخعي ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال جليس له:"نعم الرجل علي" فغضب وقال ألعليّ تقول نعم الرجل، فأمسك القائل عن شريك حتى سكن غضبه، ثم قال له: يا أبا عبد الله ألم يقل الله تعالى: (ولقد نادانا نوحٌ فلَنِعم المجيبون)(فقدّرنا فنِعم القادرون)(نعْم العبدُ إنّه أوّابٌ) قال شريك: بلى، فقال: ألا ترضى لعليّ ما رضى الله لنفسه ولأنبيائه فنبهه على موضع غلطه.

ص: فاعل نعم وبئس في الغالب ظاهر بالألف واللام، أو مضاف إلى المعرف بهما مباشرا أو بواسطة. وقد يقوم مقام ذي الألف واللام "ما" معرفة تامة وفاقا لسيبويه والكسائي، لا موصولة خلافا للفراء والفارسي. وليست بنكرة مميزة خلافا للزمخشري والفارسي في أحد قوليه. ولا يؤكد فاعلهما توكيدا معنويا باتفاق. وقد يوصف خلافا لابن السراج والفارسي. وقد ينكر مفردا أو مضافا، ويضمر ممنوع الإتباع مفسرا بتمييز مؤخر مطابق قابل "أل" لازم غالبا. وقد يرد بعد الفاعل الظاهر مؤكدا وفاقا للمبرد، ولا يمتنع عنده وعند الفارسي إسناد نعم وبئس إلى الذي الجنسية وندر نحو نعم زيد رجلا، ومُرَّ بقوم نعموا قوما، ونعم بهم قوما، ونعم عبد الله خالد، وبئس عبد الله أنا إن كان كذا. وشهدت صفين وبئست صِفّون.

ش: الغالب في فاعل نعم وبئس أن يكون معرفا بالألف واللام، أو مضافا إلى المعرف بهما، أو مضافا إلى المضاف للمعرف بهما، أو ضميرا مستترا مفسرا بنكرة

ص: 8

منصوبة على التمييز، فالأول كقوله تعالى:(فَنِعم المولى ونعم النصيرُ) والثاني كقوله تعالى: (ولنعْم دار المتّقين) والثالث كقول الشاعر:

فإنْ تكُ فقعس بانتْ وبنّا

فنِعم ذوو مُجاملةِ الخليل

وكقول الآخر:

فنعم ابنُ أختِ القومِ غير مكذَّب

زهيرٌ حسامٌ مُفْرَدٌ من حمائِل

وإلى مثل ما في البيتين أشرت بقولي "أو بواسطة". ومثال الرابع قوله تعالى (بئْس للظالمين بدلا).

وقول الشاعر:

لنِعْم موئلًا المولى إذا حُذرتْ

بأساءُ ذي البَغي واستيلاءُ ذي الإحَنِ

و"ما" في نعم ما صنعت عند سيبويه والكسائي فاعل بمنزلة ذي الألف واللام، وهي معرفة تامة غير مفتقرة إلى صلة، وإلى ذلك أشرت بقولي: وقد يقوم مقام ذي الألف واللام ما معرفة تامة. وهي عند الفراء وأبي علي الفارسيّ فاعلة موصولة مكتفى بها وبصلتها عن المخصوص. وأجاز الفراء أن تركّب نعم مع ما تركيب حب مع ذا فيليهما مرفوع بهما كقول العرب: بئسما تزويج ولا مهر، التقدير بئس التزويج تزويج مع انتفاء المهر. وجعل الزمخشري وأبو علي الفارسي في أحد قوليه "ما" نكرة مميزة. وسيأتي إبطال ذلك إن شاء الله تعالى.

ولا يؤكد فاعل نعم وبئس توكيدا معنويا باتفاق، لأن القصد بالتوكيد المعنوي رفع توهم إرادة الخصوص بما ظاهره العموم، أو رفع توهم المجاز بما ظاهره الحقيقة. وفاعل نعم وبئس في الغالب بخلاف ذلك، لأنه قائم مقام الجنس إن كان ذا جنس، أو

ص: 9

مؤول بالجامع لأكمل خصال المدح اللائقة بمسماه إن كان فاعل نعم، وبالجامع لأكمل خصال الذم إن كان فاعل بئس. والتوكيد المعنوي مناف للقصدين، فاتفق على منعه. وأما التوكيد اللفظي فلا يمتنع لك أن تقول نعم الرجل الرجل زيد. وأما النعت فلا ينبغي أن يمنع على الإطلاق. بل يمنع إذا قصد به التخصيص مع إقامة الفاعل مقام الجنس؛ لأن تخصيصه حينئذ مناف لذلك القصد. وأما إذا تؤوّل بالجامع لإكمال الخصال فلا مانع من نعته حينئذ، لإمكان أن ينوى في النعت ما نوى في المنعوت. وعلى هذا يحمل قول الشاعر:

نِعم الفتى المريُّ أنتَ إذا همُ

حَضروا لدى الحُجُرات نارَ الموقِد

وحمل ابن السراج وأبو علي مثل هذا على البدل، وأبَيا النعت ولا حجة لهما.

وحكى الأخفش أن ناسا من العرب يرفعون بنعم النكرة مفردة ومضافة. وإلى ذلك أشرت بقولي: "وقد ينكر مفردا أو مضافا"، فيقال على هذا نعم امرؤ زيد، ونعم صاحب قوم عمرو، ومنه قول الشاعر:

بئس قرينًا يفَنٌ هالكٌ

أمُّ عُبيدٍ وأبو مالِكِ

ومن ورود الفاعل نكرة غير مضافة قول الشاعر:

أتحسِبُني شُغِفتُ بغير سَلْمى

وسَلْمى بي مُتيَّمةٌ تهيمُ

وسلمى أكملُ الثَّقلين حُسْنًا

وفي أثوابها قمرٌ وريمُ

نيافُ القُرطِ غرّاءُ الثنايا

ورِئد للنساءِ ونِعم نيمُ

ووافق الفراءُ الأخفشَ في كون الفاعل نكرة مضافة قال: فإن أضفت النكرة رفعت ونصبت كقولك نعم غلامُ سفر زيد ونعم غلامَ سفر زيد وقال أبو الحسن

ص: 10

الأخفش من قال هذا رجل وأخوه ذاهبان على تنكير الأخ قال هنا: نعم أخو قوم وصاحبهم زيد. ومن قال هذا رجل وأخوه ذاهبين على تعريف الأخ لم يجز له العطف هنا، لأن نعم لا ترفع إلا معرفة بالألف واللام، أو بإضافة إلى المعرف بهما. فظاهر هذا القول من أبي الحسن يشعر بأنه لا يجيز نعم الذي يفعل زيد، ولا نعم مَن يفعل زيد، ومثل هذا لا ينبغي أن يمنع، لأن الذي يفعل بمنزلة الفاعل، ولذلك اطرد الوصف به. ومقتضى النظر الصحيح ألا يجوز مطلقا ولا يمنع مطلقا. بل إذا قصد به الجنس جاز، وإذا قصد به العهد منع. وهذا مذهب المبرد والفارسي، وهو الصحيح. ومما يدل على أنّ فاعل نعم قد يكون موصولا ومضافا إلى موصول قول الشاعر:

وكيف أرْهَبُ أمْرًا أو أُراعُ له

وقد زَكَاتُ إلى بشْر بن مَرْوان

فَنِعم مَزْكأ من ضاقت مذاهبُه

ونِعْمَ مَن هو في سرّ وإعْلانِ

فلو لم يكن في هذا إلا إسناد نعم إلى المضاف إلى مَن لكان فيه حجة على صحة إسناد نعم إلى مَن، لأن فاعل نعم لا يضاف في غير ندور إلا إلى ما يصح إسناد نعم إليه، فكيف وفيه: نعم مَن هو، فمَن هذه إما تمييز والفاعل مضمر كما زعم أبو علي. وقد تقدم ذلك في باب الموصولات، وإما فاعل، فالأول لا يصح لوجهين: أحدهما أن التمييز لا يقع في الكلام بالاستقراء إلا بنكرة صالحة للألف واللام. ومَن بخلاف ذلك، فلا يجوز كونها تمييزا. الثاني أن الحكم عليها بالتمييز عند القائل به مرتب على كون مَن نكرة غير موصوفة وذلك منتف بإجماع في غير محل النزاع، فلا يصار إليه بلا دليل عليه. فصح القول بأن مَن في موضع رفع بنعم، إذ لا قائل بقول ثالثٍ مع شهادة صدر البيت فإن فيه: مزكأ مَن فأسندت نعم إلى المضاف إلى مَن. وقد ثبت أن الذي تسند إليه لا يضاف لما لا يصح إسنادها إليه، وفي هذا كفاية.

وقد يقع فاعل هذا الباب ضميرا مستترا مفسرا بعده بتمييز مطابق للمخصوص

ص: 11

بالمدح أو الذم نحو نعم رجلا زيد ونعمت امرأة هند، ونعم رجلين الزيدان، ونعمت امرأتين الهندان، ونعم رجالا الزيدون، ونعم نساء الهندات. وهذا الضمير المجعول فاعلا في هذا الباب شبيه بضمير الشأن في أنه قصد إبهامه تعظيما لمعناه، فاستويا لذلك في عدم الإتباع بتوكيد أو غيره. ونبهت على أن مميزه لا يكون إلا صالحا للألف واللام مع أن كل مميز لا يكون إلا كذلك بالاستقراء لأن أبا علي والزمخشري يجيزان التمييز في هذا الباب بما ويزعمان أن فاعل نعم في قوله تعالى (فنِعِمّا هي) وشبهه مضمر كما هو في نعم رجلا زيد. وما في موضع نصب على التمييز وربما اعتقد مَن لا يعرف أن هذا هو مذهب سيبويه، وذلك باطل. بل مذهب سيبويه أن "ما" اسم تام مكنّى به عن اسم معرف بالألف واللام الجنسية مقدّر بحسب المعنى كقولك في (إنْ تُبْدوا الصدقاتِ فنِعِمّا هي) أن معناه فنعم الشيء إبداؤها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال أبو الحسن بن خروف: وتكون "ما" تامة معرفة بغير صلة نحو دققته دقا نعما. قال سيبويه: أي نعم الدق. ونعما هي أي نعم الشيء إبداؤها، ونعِمّا صنعْت وبئسما فعلت، أي نعم الشيء صنعت. هذا كلام ابن خروف معتمدا على كلام سيبويه، وسبقه إلى ذلك السيرافي، وجعل نظيره قول العرب: إني مما أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعل "ما" وحدها في موضع الأمر ولم يصلها بشيء، وتقدير الكلام إني من الأمر صنعي كذا وكذا، فالياء اسم إنّ وصنعي مبتدأ ومن الأمر خبر صنعي والجملة في موضع خبر. هذا كلام السيرافي وهو موافق لكلام سيبويه فإنه قال:"ونظير جعلهم ما وحدها اسما قول العرب إني مما أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعلوا ما وحدها اسما، ومثل ذلك غسلته غسلا نعما، أي نعم الغسل" فقدر "ما" بالأمر وبالغسل. ولم يقدرها بأمر ولا غسل، فعلم أنها عنده معرفة.

ص: 12

وحكى الفراء عن الكسائي أنه قال أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تاما، ثم أضمروا ما، يشير إلى قولهم الفراء قولهم بئس ما صنعت، معناه بئس الشيء ما صنعته، فما الموجودة عنده فاعل، وما المقدرة مبتدأ، وهذا معنى ما نقله الفراء عن الكسائي، فمذهبه كمذهب سيبويه إلا أن المحققين من أصحاب سيبويه يجعلون التقدير نعم الشيء شيء صنعت. ويقوّي تعريف ما بعد نعم كثرة الاقتصار عليها في نحو غسلته غسلا نِعِمّا، والنكرة التالية نعم لا يقتصر عليها إلا في نادر من القول كقول الراجز:

تقولُ عِرْسي وهي لي في عَوْمره

بئسَ امرأ وإنني بئسَ المَرهْ

ويقوي أيضا فاعليه ما المذكورة وأنها ليست تمييزا أن التمييز إنما يجاء به لتعيين جنس المميز وما المذكورة مساوية للمضمر في الإبهام فلا تكون تمييزا. ويقوى تعريف ما في نحو مما أن أصنع كونها مجرورة بحرف مخبر به وما كان كذلك فلا يكون بالاستقراء إلا معرفة أو نكرة موصوفة، وما المذكورة غير نكرة موصوفة فيتعين كونها معرفة وإلا لزم ثبوت ما لا نظير له. قال أبو علي في البغداديات في قوله تعالى:(إنّ الله نعِمّا يَعظُكم به) يجوز أن تكون "ما" معرفة وأن تكون نكرة. فإن حملته على أنه معرفة كان رفعا، ولم يكن لقوله (يعظكم به) موضع من الإعراب. وإن حملته على أنه نكرة كانت منصوبة وكان (يعظكم به) نصبا لكونه وصفا للاسم المنصوب". هذا نصه. وينبغي أن يتنبه لتقييدي مميز فاعل هذا الباب بقبول "أل" على أنه لا يجوز أن يكون بلفظ مثل ولا غير ولا أي ولا أفعل من كذا، لأنه خلف عن فاعل مقرون بالألف واللام فاشترط صلاحيته لهما، وكل ما ذكرته آنفا لا يصلح لهما فلم يجز أن يخلف مقترنا بهما.

وقلت غالبا بعد التقييد بلازم، احترازا من حذف المميز في قول النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 13

"مَن توضّأ يومَ الجمعة فبها ونعمتْ" أي فبالسنة أخذ، ونعمت السنة سنة، فأضمر الفاعل على شريطة التفسير وحذف المميز للعلم به. وإذا ثبت أن مميز هذا الباب قد يحذف للعلم به أمكن أن يحمل عليه ما أوهم بظاهره أن الفاعل فيه علم أو مضاف إلى علم كقول ابن مسعود رضي الله عنه أو غيره من العبادلة "بئس عبد الله أنا إن كان كذا" وكقول النبي صلى الله عليه وسلم "نعم عبد الله خالد بن الوليد" فيكون نعم وبئس مسندين إلى ضميرين، حذف مفسراهما وعبد الله مبتدأ وأنا وخالد بدلان. ومن هذا النوع أيضا قول سهيل بن حنيف رضي الله عنه "شهدت صفّين وبئست صِفُّون" وأما ما روي من قول بعضهم نعم زيد رجلا، على أن الفاعل مضمر ورجلا مفسره وزيد مبتدأ خبره نعم وفاعلها فليس بشذوذ إلا بكون مميز الضمير مسبوقا بالمبتدأ فيكون في ذلك نظير قول الشاعر:

والتغلبيُّون بئس الفحلُ فحلهمُ

فحلًا وأمُّهم زلّاء مِنْطيقُ

وهذه توجيهات أعنت عليها، ولم أسبق إليها والحمد لله.

والحاصل أن فاعل نعم وبئس لا يكون إلا ظاهرا معرفا بأل أو مضافا إليه أو إلى مضاف إليه أو نكرة مضافة أومفردة أو موصولا أو مضافا إليه، أو ضميرا مفسرا بتمييز موجود أو مقدر ولا يكون غير ذلك إلّا ما ندر نحو مررت بقوم نعموا رجالا، ومن قال نعم بهم فمراده نعموا ولكن زاد باء في الفاعل، كما زيدت في "كفى بالله".

ومنع سيبويه الجمع بين التمييز وإظهار الفاعل، وأجاز ذلك أبو العباس وقوله في

ص: 14

هذا هو الصحيح، وحامل سيبويه على المنع كون التمييز في الأصل مسوقا لرفع الإبهام والإبهام إذا ظهر الفاعل زال فلا حاجة إلى التمييز، وهذا الاعتبار يلزم منه منع التمييز في كل ما لا إبهام فيه كقولك له من الدراهم عشرون درهما، ومثل هذا جائز بلا خلاف. ومنه قوله تعالى (إنّ عدّة الشهورِ عند الله اثنا عشر شهرا) وقوله تعالى (واختار موسى قومَه سبعين رجلا) وقوله تعالى (فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً) وقوله تعالى:(فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوةً) فكما حكِم بالجواز في مثل هذا وجعل سبب الجواز التوكيد لا رفع الإبهام، فكذلك يفعل في نحو نعم الرجل رجلا، ولا يمنع، لأن تخصيصه بالمنع تحكم بلا دليل. هذا لو لم تستعمله العرب، فكيف وقد استعملته العرب كقول الشاعر:

والتغلبيون بئس الفحل فحلهم

فحلا وأمهم زلاء منطيق

ومثله قول الآخر على الأظهر الأبعد من التكلف.

تزوّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا

فنِعم الزادُ زاد أبيكَ زادا

ومن ورود التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب:

ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّد

من خيْر أديانِ البَرِيَّةِ دينا

ومثله قول الآخر:

ص: 15

فأمّا التي خيرُها يُرْتَجى

فأجودُ جودًا من اللّافِظَهْ

ص: ويدل على المخصوص بمفهومَي نعم وبئس، أو يذكر قبلهما معمولا للابتداء، أو لبعض نواسخه، أو بعد فاعلهما مبتدأ أو خبر مبتدأ لا يظهر، أو أول معمولي فعل ناسخ، ومن حقه أن يختص ويصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفا بالممدوح بعد نعم، وبالمذموم بعد بئس. فإن باينه أُوّل. وقد يحذف ويخلفه صفته اسما وفعلا. وقد يغني متعلق بهما. وإن كان المخصوص مؤنثا جاز أن يقال نعمت وبئست مع تذكير الفاعل.

ش: المخصوص بمفهومَي نعم وبئس هو المقصود بالمدح بعد نعم، وبالذم بعد بئس، كزيد وعمرو في قولك نعم الرجل زيد وبئس القرين عمرو، وإذا كان مذكورا هكذا فهو مبتدأ مخبر عنه بما قبله من الفعل والفاعل، ولا يضرّ خلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ، لأن الفاعل هو المبتدأ في المعنى، فلم يحتج إلى رابط، إذ هو مرتبط بنفسه، كما لم يحتج إلى رابط إذا كانت الجملة نفس المبتدأ في المعنى نحو كلامي الله ربّنا.

وأجاز سيبويه كون المخصوص خبر مبتدأ واجب الإضمار، والأول أولى، بل هو عندي متعيّن، لصحته في المعنى وسلامته من مخالفة أصل، بخلاف الوجه الثاني وهو كون المخصوص خبرا، فإنه يلزم منه أن ينصب لدخول كان إذا قيل نعم الرجل كان زيد، لأن خبر المبتدأ بعد دخول كان يلزمه النصب، ولم نجد العرب تعدل في مثل هذا عن الرفع. فعلم أنه قبل دخول كان لم يكن خبرا وإنما كان مبتدأ. ومن لوازم كونه خبرا قبل دخول كان أن يقال في نعم الرجال الزيدون: نعم الرجال كانوا الزيدون وفي نعم النساء الهندات. نعم النساء كنّ الهندات. ومن لوازم ذلك أيضا أن يقال إذا دخلت ظننت على نعم: نعم الرجل ظننته زيدا وأن يقال إذا دخلت وجد على نعم الرجلان أنتما: نعم الرجلان وجدا إياكما، لكن العرب لم تقل إلا نعم الرجال كان الزيدون، ونعم النساء كانت الهندات، ونعم الرجلُ ظن زيد ونعم الرجلان وجدتما كما قال زهير:

ص: 16

يَمينًا لنعم السيّدانِ وُجِدْتما

على كل حالٍ من سَحيلٍ ومُبْرَمِ

فعُلم بهذا أن المخصوص لم يكن قبله ضمير فيكون هو خبره، بل كان المخصوص مبتدأ مخبرا عنه بجملة المدح أو الذم، ومن لوازم كون المخصوص خبرا جواز دخول إنّ لأن الخبر عنه عند من يرى صحة ذلك جملة خبرية أجيب بها سؤال مقدر، وتوكيد ما هو كذلك بإن جائز. والجواز هنا منتف مع أنه من لوازم الخبرية. فالخبرية إذن منتفية، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وأما على القول بكون المخصوص مبتدأ مقدم الخبر فيلزم منه موافقة الرافع، وهو امتناع دخول إن إلّا مع تقدّم المخصوص كقولك في زيد نعم الفتى: إنّ زيدا نعم الفتى. وأجاز ابن عصفور أن يجعل المخصوص مبتدأ محذوف الخبر. وهذا أيضا غير صحيح، لأن هذا الحذف ملتزم، ولم نجد خبرا يلتزم حذفه إلا ومحله مشغول بشيء يسد مسده، كخبر المبتدأ بعد لولا وهذا بخلاف ذلك، فلا يصح ما ذهب إليه ابن عصفور.

والحاصل أن المخصوص بالمدح والذم لا يجب أن يصرح بذكره، ولا أن يؤخر إذا ذكر، بل الواجب أن يكون معلوما، فإن ذكر وأخر فهو مبتدأ كما مضى، وإما مرفوع بكان أو وجد أو إحدى أخواتها، وإما أول مفعولي ظن أو إحدى أخواتها، والجملة قبل الفعل في موضع نصب به خبرا أو مفعولا ثانيا. وإن ذكر وقدّم والجملة واحدة فهو مبتدأ [أو اسم كان أو إنّ] أو أول مفعولي ظن أو إحدى أخواتهنّ. فمن ذلك قول الشاعر:

إذا أرْسَلُوني عند تَعْذير حاجة

أمارِسُ فيها كنتُ نِعْمَ المُمارِسُ

ومثله:

لَعَمْري لئنْ أُتْرفْتُم أو صُحِرتُم

لبئسَ الندامى كنتمْ آل أبْجَرا

ص: 17

ومن ذلك قول زهير:

يمينًا لنِعم السّيدان وُجدتما

على كل حال من سَحيل ومُبْرَم

ومن ذلك قول الآخر:

إن ابنَ عبدِ الله نعـ

ـم أخو الندى وابنُ العشيره

ومثله:

إني إذا أُغلِقَ باب الصَّيْدانِ

نعم شَفيعُ الزائرِ المستأذِن

وإن ذكر وقدّم والكلام جملتان قدّر المخصوص مبتدأ مؤخرا كقول الله تعالى (ولقد نادانا نوحٌ فلنِعْمَ المجيبون) وكقوله تعالى (والأرضَ فَرشْناها فنِعم الماهِدون) ومنه قول الشاعر:

إنّي اعتَمَدْتُك ياَيز

يدُ فنعم مُعتَمدُ الوسائلْ

أراد فنعم معتمد الوسائل أنت.

ومن حق المخصوص بالمدح والذم أن يكون معرفة أو مقاربا لها بالتخصيص نحو نعم الفتى رجل من بني فلان، ونعم العمل طاعة وقول معروف. ومن حقه أيضا أن يصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفا بالممدوح بعد نعم كقوله في نعم الرجل زيد: الرجل الممدوح زيد، وبالمذموم بعد بئس كقولك في بئس الولد العاق أباه: الولد المذموم العاق أباه.

فإن ورد ما لا يصلح جعل آخره خبرا عن الفاعل تؤوّل وقدّر بما يردّه إلى ما

ص: 18

حقه أن يكون عليه، فمن ذلك قوله تعالى (بئس مثلُ القومِ الذين كَذَّبوا بآياتِ الله)، فلو حذفت بئس وأخبرت بالذين عن مثل القوم لم يجز، فوجب لذلك التأويل، إما يجعل الذين في موضع جر نعتا للقوم وجعل المخصوص محذوفا، وإما بجعل الذين هو المخصوص على تقدير بئس مثل الذين ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الرفع بالابتداء، كما ينبغي للمخصوص الجائي على الأصل. فإلى هذا وشبهه أشرت بقولي "فإن باينه أوّل".

ثم قلت: "وقد يحذف" فنبهت على أن مخصوص نعم وبئس قد يحذف وتقام صفته مقامه، وأن ذلك قد يكون والصفة اسم كقولك: نعم الصديق حليم كريم، وبئس الصاحب عذول خُذول، ويكثر ذلك إذا كانت الصفة فعلا والفاعل ما كقوله تعالى (بئسَ ما يأمُركم به إيمانُكم) وكقوله تعالى (ولبئس ما شَرَوا به أنفسَهم) ويقل إذا لم يكن الفاعل "ما" كقولك نعم الصاحب تستعين به فيعينك، والتقدير نعم الصاحب صاحب تستعين به فيعينك. ومنه قول الشاعر:

لبئس المرءُ قد مُلِئ ارْتياعا

ويأبى أن يُراعى مَن يُراعى

وجاز هذا في مثل هذا المبتدأ كما جاز في غيره من المبتدآت كقول الشاعر:

وما الدهرُ إلّا ترتانِ فمنهما

أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكدحُ

وكما جاز في المضاف إليه كقول الشاعر:

لكم مسْجِدا اللهِ المَزوران والحصا

لكم قِبْصُه من بين أثرى وأقْترا

والتقدير: لبئس المرء رجل قد ملئ ارتياعا، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وكذا فعل في البيت الثاني والثالث. والأصل فمنهما تارة أموت فيها، ومِن

ص: 19

بين مَن أثرى ومَن أقتر، فحذفت مَن وهي نكرة موصوفة مضافة إليها وأقيمت الصفة مقامها. وقد يحذف الموصوف وصفته فيبقى ما يتعلق بهما كقوله:

بئس مقامُ الشيخِ أمرِسْ أمرِسِ

إمّا على قَعْوٍ وإمّا اقْعَنْسَسِ

أراد بئس مقام الشيخ مقام مقول فيه "أمرس أمرس". وإن كان الفاعل مذكر اللفظ والمخصوص مؤنث جاز أن يقال نعمت وبئست مع كون الفاعل عاريا من التأنيث، لأنهما في المعنى شيء واحد، إلا أن ترْك التاء أجود كقوله تعالى:(نعم الثوابُ) ولو قيل نعمت الثواب الجنة [كان] جيدا كقول الشاعر:

نعمتْ جزاءُ المتّقينَ الجنَّة

دارُ الأماني والمُنى والمنَّة

ومثله:

أو حرةٌ عيْطلٌ ثبْجاءٌ مُجْفرةٌ

دعائم الزّور نعمتْ زورقُ البَلَد

ومثله:

نعمتْ كساء الضجيع سهلة فضلة

غرّاءُ بهكنةٌ شنباءُ عُطبُولُ

ص: "وتلحق ساء يئس، وبها وبنعم فَعُل موضوعا أو محوّلا من فعَل أو فعِل مضمنا تعجبا. ويكثر انجرار فاعله بالباء، واستغناؤه عن الألف [واللام]، وإضماره على وفق ما قبله".

ش: يقال ساء الرجل أبو لهب، وساءت المرأة حمّالة الحطب، وساء رجلا هو وساءت امرأة هي، بإجراء "ساء" مجرى بئس في كل ما ذكر، ولذلك استغنى

ص: 20

بساء عن بئس في قوله تعالى (ساء مثلا القومُ) وببئس عن ساء في قوله تعالى (بئس مثلُ القوم) وقد جمعا في قوله تعالى: (بئس الشرابُ وساءت مُرتفقا).

وأجرى باطراد مجرى نعم وبئس ما كان على فعُل مضمنا تعجّبا نحو حسُن الخلق حلم الحلماء، وعظم الكرم تقوى الأتقياء، وقبُح العمل عناء المبطلين، وشنُعت الوجوه وجوه الكافرين.

ومنه (كبُرتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم) وقرئ بسكون الباء. فهذه من أمثلة فَعُل الموضوع. وأما أمثلة المحوّل من فَعَل وفَعِل فمنهما قولَ العرب لقَضُو الرجل فلان، وعلُم الرجل فلان، بمعنى نعم القاضي هو، ونعم العالم هو، وفيه معنى ما أقضاه وما أعلمه. ولا يقتصر في هذا النوع على المسموع كما لم يقتصر في التعجب، ومن كثرة مجيئه مستغنيا عن الألف واللام ومضمرا مطابقا لما قبله. فإذا قيل حسُن بزيد رجلا نزّل منزلة أحسن بزيد رجلا، وإذا قيل "حَسُن أولئك رفيقا" نزّل منزلة ما أحسنَ أولئك رفيقا.

وإذا قيل الزيدون كرُمُوا رجالا نزّل منزلة الزيدون ما أكرمَهم رجالا، فهذا سبب استحسان مع فعُل المذكور مما لم يستحسن مع نعم وبئس. ويحتمل قوله تعالى (كبُرت كلمةً) أن يكون مثل نعمت امرأة هند، على تقدير كبرت الكلمة كلمة، وهو قول ابن برهان، وأن يكون فاعل كبرت ضميرا يرجع إلى (اتخذ الله ولدا) وهو قول الزمخشري في الكشاف.

ص: 21