الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القسم
ص: وهو صريح وغير صريح، وكلاهما جملة فعلية أو اسمية، فالفعلية غير الصريحة في الخبر كعلمت، وواثقت مضمنة معناه، وفي الطلب: نشدتك وعمرتك، وأبدل من اللفظ بهذه "عمرك الله" بفتح الهاء وضمها، وقعدك الله، وقعيدك الله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما بمعناه. ويضمر الفعل في الطلب كثيرا استغناء بالمقسم به مجرورا بالباء ويختص الطلب بها، وإن جُرّ في غيره بغيرها حذف الفعل وجوبا. وإن حُذفا معا نصب المقسم به. وإن كان "الله" جاز جرّه بتعويض "آ" ثابت الألف، أو "ها" محذوف الألف أو ثابتها، مع وصل ألف الله أو قطعها، وقد يستغنى في التعويض بقطعها، ويجوز جر الله دون تعويض، ولا يشارَك في ذلك، خلافا للكوفيين. وليس الجر في التعويض بالعوض خلافا للأخفش ومَن وافقه.
ش: القسم الصريح ما يعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسما، كأحلف بالله وأنا حالف بالله، ولعَمْر الله وايمن الله. وغير الصريح ما ليس كذلك نحو علم الله وعاهدت وواثقت، وعليّ عهد الله، وفي ذمّتي ميثاق. فليس بمجرد النطق بشيء من هذا الكلام يعلم كونه قسما، بل بقرينة كذكر جواب بعده نحو على عهد الله لأنصرن دينه، وفي ذمّتي ميثاق الله تعالى لا أعين ظالما، وكقوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاقٍ) وكقول الشاعر:
إني علمتُ على ما كان مِن خُلُق
…
لقد أراد هواني اليومَ داودُ
وكقول الآخر:
أرى مُحْرِزا عاهدتُه لَيُوافِقن
…
فكان كمن أغْريْتَه بخِلاف
ومثله في واثق:
واثقتُ ميّةَ لاتنفكُّ مُلغيةً
…
قولَ الوُشاةِ، فما ألغتْ لهم قيلا
ومنه قوله تعالى: (وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ الذين أوتوا الكتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للنّاس). ومن القسم غير الصريح (نشهد إنك لرسول الله) ويدل على أنه هنا قسم كسرُ إنّ بعده، وتسميته يمينا في قوله تعالى (اتخذوا أيمانهم جُنّة). ومنه قراءة ابن عباس رضي الله عنه (شهد الله إنه) بالكسر وقال الفراء (وتمّتْ كلمةُ ربّك لأمْلأنَّ جهنَّم): صار قوله "وتمّت كلمة ربّك" يمينا كما تقول حلفي لأضربنّك، وبدالي لأضربنّك. وما هو بتأويل بلغني، وقيل لي، وانتهى إليّ، فاللام يصلح فيه.
قلت: من القسم غير الصريح نشدتك وعمّرتك، فللناطق بهما أن يقصد القسم وألا يقصده، فليس بمجرد النطق يدل على كونه قسما، لكن يعلم كونه قسما بإيلائه "الله" نحو نشدتك الله أو بالله، وعمّرتك الله، ولا يستعملان إلا في قسم فيه طلب نحو: نشدتك الله إلا أعنتني، وعمّرتك الله لا تُطع هواك. ومنه قول الشاعر:
عَمّرتكِ اللهَ إلّا ما ذكرتِ لنا
…
هل كنت جارتنا أيام ذي سَلَمِ
ومعنى قول القائل: نشدتك الله: سألتك مذكّرًا اللهَ، ومعنى عمّرتك الله سألت الله تعميرَك، ثم ضُمّنا معنى القسم الطلبي. واستعملوا عَمْرك الله بدلا من اللفظ بعمرتك ومنه قول الشاعر:
عَمْركِ اللهَ ياسُعادُ عِديني
…
بعضَ ما أبتغي ولا تُؤْيسيني
ومثله:
ياعَمْركِ اللهَ إلّا قلت صادقةً
…
أصادِقا وصَفَ المجنونُ أم كُذبا
وكان الأصل أن يقال تعميرك الله، لكن خففوا بحذف الزوائد، وروى بعض الثقات عن أعرابي عمرك اللهُ، برفع "الله" قال أبو عليّ: والمراد عمرك الله تعميرا فأضيف المصدر إلى المفعول ورفع به الفاعل. وقال الأخفشُ في كتاب "الأوسط" أصله أسألك بتعميرك الله وحذف زوائد المصدر والفعل والباء فانتصب ما كان مجرورا بها. وأما قعدك الله وقعيدك الله فقيل هما مصدران بمعنى المراقبة كالحِسّ والحسيس، وانتصابهما بتقدير أقسم أي أقسم بمراقبتك الله. وقيل قِعْد وقعيد بمعنى الرقيب الحفيظ من قوله تعالى (عن اليمين وعن الشمالِ قعيدٌ) أي رقيب حفيظ. ونظيرهما خِلّ وخَليل، وندّ ونديد، وإذا كان بمعنى الرقيب والحفيظ فالمعني بهما الله تعالى ونصبهما بتقدير أقسم معدّى بالباء ثم حذف الفعل والباء وانتصبا وأبدل منهما الله. ومن شواهد النصب بعد "قِعْد" قول الشاعر:
قِعْدَكِ اللهَ هل علمتِ بأنّي
…
في هواكِ اسْتطبتُ كلَّ مُعَنِّي
ومن شواهد نصب ما بعد "قعيد" قول قيس العامريّ:
قَعيدكِ ربَّ الناسِ يا أمَّ مالكٍ
…
ألم تعلمِينا نِعمَ مأوى المعصّبِ
ومثله قول الفرزدق:
قعيدكما اللهَ الذي أنتما له
…
ألم تَسْمعا بالبَيْضَتَيْن المُناديا
ويستعمل أيضا في الطلب عزمت وأقسمت، ولذلك قلت: كنشدت، تنبيها على أن لنشدت من الأفعال أخوات سوى عمرت. ونبهت بقولي "كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر وما بمعناه" على أن لفظ أقسم وأحلف وشبههما قد ينوب عنه لفظ قسم ويمين وأليّة وقضاء وحقّ وغير ذلك. فمن ذلك قول الشاعر:
قسمًا لأصْطبرنْ على ما سُمْتِني
…
ما لم تسومي هِجرةً وصدودا
ومنه:
يمينا لَنعم السَّيّدان وجدتما
…
على كل حالٍ من سَحيل ومُبْرَمِ
ومنه:
أليّةً ليحيقنَّ بالمُسيء إذا
…
ما حُوسب الناسُ طُرًّا سوءُ ما عملا
ومن نيابة القضاء ما حكى ثعلب من أن العرب تنصب قضاء الله وتجعله قسما وأنشد أبو علي في نيابة اليقين:
ويقينًا لأشربنَّ بماء
…
ورَدُوهُ فعاجِلًا [وتئيّه]
ومن نيابة الحق قوله تعالى (فالحقُّ والحقَّ أقولُ * لأملأنَّ)، ولا يستعمل في القسم الطلبي من حروف الجر إلا الباء معلقة بظاهر، كنشدتك بالله وافقْ، أو مقدّر نحو: بالله لا تخالف. ويعدّى في غير الطلب فعل القسم محذوفا وثابتا نحو: (فبعزّتك لأُغوينهم أجمعين) و (ويحلفون بالله إنّهم لمنكم) ويجب حذفه مع الواو والتاء ومن واللام نحو (واللهِ ربّنا ما كُنّا مُشْركين) و (تاللهِ لقدْ آثرك الله علينا). ومن ربّي إنك لأشِر، ولله لا يؤخر الأجل. وأنشد سيبويه لعبد مناة الهذلي:
لله يبقى على الأيّامِ ذو حيَد
…
بمشمخرٍّ به الظّيّانُ والآسُ
وقد تبيّن في باب حروف الجر اختصاص كل واحد من هذه الأحرف الأربعة بما خُصّ به.
وإذا حذف فعل القسم والباء نصب المقسم به، وإن كان المقسم به عند حذفها "الله" جاز جرّه مع تقوية همزة مفتوحة تليها ألف نحو: آللهِ لأفعلنّ، أو "ها" ساقط الألف نحو: هالله لأفعلن، أو ثابتها: ها الله لأفعلن. وروى أيضا ها الله وهأ الله بحذف ألفها استغناء عنها بقطع الهمزة والوصل وبالجمع بينهما وذكر أيضا أللهِ لأفعلنّ، فجعل القطع عوضا مكتفى به. وحكى الأخفش في معانيه أن من العرب من جرّ اسم الله مقسما به دون جار موجود ولا عوض، وذكر غيره من
الثقات أنه سمع بعض العرب يقول: كلا اللهِ لآتينك، يريد كلا والله. وزعم بعض أئمة الكوفة أن الأسماء كلها إذا أقسم بها – المجرور منها محذوف الواو -. وترفع وتخفض ولا يجوز النصب إلا في (يقيني) وكعبة الله وقضاء الله وأنشد:
لاكعبة اللهِ ما هجرتُكم
…
إلّا وفي النَّفْس منكمُ أرَب
ومن أجل هذا
…
قلت بعد "ويجوز جر الله دون عوض": ولا يشارك في ذلك خلافا للكوفيين. ومذهب البصريين أن المقسم به إذا حذف جاره بلا عوض ولم ينو المحذوف جاز نصبه كائنا ما كان. فمن ذلك قول الشاعر:
إذا ما الخبزُ تأدِمُه بلَحْم
…
فذاكَ أمانةَ اللهِ الثَّريدُ
ومثله:
فقلتُ يمينَ الله أبْرحُ قاعِدا
…
ولو قطّعوا رأسي لديكِ وأوْصالي
ومذهب الأخفش أن الجر في ها الله ونحوه: بالعوض من الحرف المحذوف لا بالحرف، ذكر ذلك في كتابه "الأوسط" ووافق الأخفشَ في هذا جماعةٌ، وانتُصر لهذا بأنه شبيه بتعويض الواو من الباء، والتاء من الواو، ولا خلاف في كون الجر بعد الواو والتاء بهما، فكذا ينبغي أن يكون الجرّ في آ، وها بهما لا بالمعوّض عنه. والأصح كون الجر بالحرف المحذوف، وإن كان لا يلفظ، كما كان النصب بعد الفاء والواو
وحتى وكي الجارة ولام الجحود بأنْ المحذوفة وإن كانت لازمة الحذف. ومن الجر بعد "ها" قول أبي بكر رضي الله عنه: "لاها الله إذن لا تعمد إلى أسد من أسْد الله" الحديث.
ص: فإن ابتدئ في الاسمية بمتعين للقسم حذف الخبر وجوبا، وإلا فجوازا والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدّر، وإن كان "عمْرا" جاز أيضا ضم عينه ودخول الباء عليه، ويلزم الإضافة مطلقا. وإن كان ايمن الموصول الهمزة لزم الإضافة إلى الله غالبا، وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي. وقد يقال فيه مضافا إلى الله ايمِن وايمَن وايمُن. وأيْمُ وإيم وإمُ ومُنُ مثلث الحرفين. و"م" مثلثا. وليست الميم بدلا من واو، ولا أصلها مِن، خلافا لمن زعم ذلك، ولا أيمن المذكور جمع يمين خلافا للكوفيين. وقد يخبر عن اسم الله مقسما به بلك وعليّ. وقد يبتدأ بالنذر قسما.
ش: المبتدأ المتعين للقسم نحو لعمر الله ولايمن الله، فإنهما لا يستعملان مقرونين باللام إلّا مقسما بهما مرفوعين، فالتزم حذف خبرهما لكونه مفهوم المعنى مع سدّ الجواب مسدّه. ونبّهت بإضافة "نحو" إليهما على أمرين:[أحدهما أنهما] قد يضافان إلى غيرما أضيفا إليه إلا نحو لعمرك ولعمري ولايمن الكعبة وليمنك. والآخر أنه قد يقترن غيرهما بما يعينه للقسم فلا يكون حذف خبره واجبا، كقول من توجهت عليه يمين لازمة: لعهد الله لقد كان كذا فيتعيّن كون المبتدأ مقسما به لا من قبل نفسه، ولذا جاز إثبات خبره وحذفه، كقولك حالفا: عليّ عهد الله أو يمين
الله فلك أن تجيء به هكذا، ولك ألّا تلفظ بعليّ ولا بيلزمني لأن ذكر الجواب يدل السامع على أنك مقسم. وقد كان قبل ذكرك مجوزا أنك غير مقسم ومجوزا أنك مقسم، ولم يمتنع حذف الخبر لكنه مفهوم المعنى بعد ذكر الجواب، فلو لم يقترن لعمر باللام لجاز نصبه كقول ابن شهاب الهذلي:
فإنك عَمْرَ الله إنْ تسأليهم
…
بأحْسابنا إذَنْ تُحلُّ الكبائر
يُنبّوك أنا نفرجُ الهمّ كله
…
بحقٍّ وأنا في الحروب مَساعِرُ
فلهذا قلت: "والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدر". ثم نبهت على أن العين من لعمر الله ونحوه عند عدم اللام يجوز فيها الفتح والضم. وكان ينبغي أن يجوزا مع وجود اللام، لكن خُص لكثرة الاستعمال في مصاحبة اللام بالفتح، لأنه أخفّ اللغتين. ومن دخول الباء عليه عند عدم اللام قول الشاعر:
رُقيَّ بعَمْركم لا تَهْجُرينا
…
ومنّينا المُنى ثم امْطُلينا
ومثله:
أأقامَ أمسِ خليطُنا أم سارا
…
سائلْ بعَمْركَ أيَّ ذاكَ اختارا
وقولي تلزم الإضافة مطلقا، أي إلى الظاهر والمضمر، ومع وجود اللام وعدمها. واحترزت بقولي "وإن كان ايمن الموصول الهمزة" من أيمن بقطع الهمزة فإنه جمع يمين بلا خلاف. وحكمه إذا أقسم به حكم واحده.
وأما الموصول الهمزة فيلزم الإضافة إلى الله أو إلى الكعبة أو إلى ضمير المخاطب أو إلى الذي، لكن إضافته إلى غير الله قليلة، وإضافته إلى ضمير المخاطب وإلى الذي أقلّ من إضافته إلى الكعبة. ومن إضافته إلى ضمير المخاطب قول عروة بن الزبير رضي
الله عنهما: "لايْمُنُكَ لئِن ابْتَلَيْتَ لقد عافَيْتَ" ومن إضافته إلى "الذي" قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وايم الذي نفسي بيده".
وفيه حين يليه "الله" اثنتا عشرة لغة: ثلاث مع ثبوت الهمزة وثلاث مع حذف النون دون الهمزة، وثلاث مع حذف الهمزة والياء وثبوت النون، وثلاث مع الاقتصار على الميم فقال: ايْمُنُ الله وأيمَنُ الله وايمن الله، وأيمُ الله وإيمُ الله وإمُ الله، ومُنُ الله ومَنَ الله ومِن الله، ومُ الله ومَ الله ومِ الله. وزعم بعضهم أن الميم المفردة بدل من واو والله كالتاء وليس بصحيح، لأنها لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء، ولأن التاء إذا أبدلت من الواو في القسم فلها نظائر في غير القسم مطردة، كاتّصل واتّصف، وغير مطّردة كتراث وتجاه، وليس لإبدال الميم من الواو إلا موضع شاذ وهو فم، وفيه مع شذوذه خلاف. وزعم الزمخشري أنها من المستعملة مع ربّي، فحذفت نونها وليس بصحيح أيضا، لأنها لو كانت إياها لاستعملت في النقص مع ما استعملت في التمام على الأشهر، كما لم يستعمل أيمن في النقص إلا مع ما استعمل في التمام على الأشهر. واحترزت بالأشهر من رواية الأخفش عن بعض العرب: من الله ومن ايمن الكعبة وأيمنك وأيمن الذي نفسي بيده. وقال الزمخشري في م الله: ومن الناس من زعم أنها من أيمن. قلت: لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو سيبويه – رحمه الله – فإنه قال في عدة ما يكون عليه الكلم:"واعلم أن بعض العرب يقول مُ الله لأفعلنّ، يريد: إيمُ الله لأفعلنّ". وفي عدم معرفة الزمخشري أن صاحب هذا القول سيبويه دليل على أنه لم يعرف من كتابه إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء، فما أوفر تبجحه وأيسر ترجّحه، عفا الله عنا وعنه.
وزعم الكوفيون أن المذكور جمع يمين ورأيهم في هذا ضعيف، يدل على ضعفه ثلاثة أمور: أحدها أن همزة الجمع همزة قطع، وهمزة هذا الاسم همزة وصل، لسقوطها مع اللام في "ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت" وفي قول الشاعر:
فقال فريقُ القومِ لمّا نَشَدتُهم
…
نعم وفريقٌ ليمنُ اللهِ ما ندري
وليس هذا بضرورة، لتمكن الشاعر من إقامة الوزن بتحريك التنوين والاستغناء عن اللام. الثاني أن من العرب من يكسر الهمزة في الابتداء وهمزة الجمع لا تكسر. الثالث أن من العرب من يفتح الميم فيكون على وزن أفعَل، ولا يوجد ذلك في الجموع.
ومن الإخبار بلَك عن اسم الله مقسما به قول الشاعر:
لكَ اللهُ لا أُلفى لعهدكَ ناسيا
…
فلاتكُ إلّا مثلَ ما أنا كائنُ
ومثله:
لقد حَبَبَتْكَ العَيْنُ أولَ نظرة
…
وأُعطيتَ منّي يابْنَ عَمَّ قبولا
أميرا على ما شئت مني مسلَّطا
…
فسَلْ، فلك الرحمنُ، تمنعُ سولا
ومن الإخبار عنه بعليّ قول الشاعر:
نهى الشيبُ قلبي عن صِبًا وصبابة
…
ألا فَعليّ الله أوجَد صابيا
ومثال جعل النذر قسما مرفوعا بالابتداء قول الشاعر:
عليّ إلى البيت المحرّم حجَةٌ
…
أوافي بها نذْرا ولم أنتعل نعلا
لقد منحت ليلى المودة غيرنا
…
وإنَّ لها منا المودة والبذلا
ص: المقسم عليه جملة مؤكدة بالقسم، تصدر في الإثبات بلام مفتوحة أو إنّ مثقلة أو مخففة، ولا يستغنى عنهما غالبا دون استطالة. وتُصدّر في الشرط الامتناعي لو ولولا، وفي النفي بما أو لا أو إن، وقد تصدر بلن أو لم. وتُصدّر في الطلب بفعله أو بأداته أو بإلّا أو لمّا بمعناها. وقد تدخل اللام على "ما" النافية اضطرارا. وإن كان أول الجملة مضارعا مستقبلا غير مقارن حرف تنفيس ولا مقدّم معموله لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد. وقد يستغنى بها عن اللام. وقد يؤكد المنفي بلا، ويكثر حذف نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ويقل مع حذفه، وقد يحذف نافي الماضي إن أمن اللبس، ويكثر ذلك لتقدم نفي على القسم، وقد يكون الجواب مع ذلك مثبتا. وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية. وقد يكون الجواب قسما.
ش: تصدر الجملة الاسمية المقسم عليها بلام مفتوحة كقوله تعالى (ثُمَّ لنَحْنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليّا) وكقول حسان رضي الله عنه:
فلئن فَخَرْتَ بهم لمثل قديمهم
…
فخر اللبيب به على الأقوام
وتصديرها بإن مثقلة كقوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ) وكقوله تعالى (إنّ سعيَكم لشتى) وتصديرها بالمخففة كقوله تعالى (إنْ كلُّ نفس لمّا عليها حافظٌ) ويستغنى عنهما قليلا دون استطالة في المقسم به كقول أبي بكر رضي عنه "والله أنا أظلم منه" والأصل لأنا فحذفت والمقسم به اسم لاستطالة فيه بصلة ولا عطف. فلو كان فيه استطالة لحسن الحذف، وكان جديرا بكثرة النظائر كقول بعض العرب: أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالرسول
رحمة للعالمين هو سيدهم أجمعين. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه "والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" والأصل لهذا، فحذف اللام لاستطالة القسم والخبر بالصلتين. ومنه قول الشاعر:
وربّ السمواتِ العُلا وبُروجِها
…
والارضِ وما فيها المقدَّرُ كائِن
أراد للمقدّر كائن فحذف لاستطالة القسم والعطف. ومن التصدير بلو قول سويد بن كراع:
فتاللهِ لو كُنّا الشُهودَ وغِبْتُم
…
إذَنْ لمَلانا جوفَ جيرانِهم دما
ومن التصدير بلولا قول عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
فوالله لولا خشيةُ النارِ بغتة
…
عليّ لقد أقْبَلت نحوي مِغْولا
ونبهت بقولي "وبالنفي بما أو لا أو إنْ" على النوافي المخصوصة بجواب القسم وهي الثلاثة التي لا تختص بفعل ولا اسم وهي ما ولا وإن، بخلاف لن ولم ولمّا فإنها مخصوصة بالفعل، فأرادوا أن يكون ما ينفى به الجواب مما لا يمتنع دخوله على الاسم، لأن مالا يمتنع دخوله على الاسم يجوز دخوله على الفعل، والجواب قد يصدر بكل واحد منهما، فلذلك لم يُنف جواب القسم – دون ندور- بغير الثلاثة التي لا تختص، إلا أن المنفي بها في القسم لا يتغير عما كان دون قسم، إلا إن كان فعلا موضوعا للمضي فقد تجدّد له الانصراف إلى معنى الاستقبال.
فمن ورود ذلك في المنفي بما قوله تعالى (ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتابَ بكُلِّ آيةٍ ما تبعوا قبلتك). ومن وروده في المنفي بلا قول الشاعر:
ردُوا فواللهِ ما ذُدْناكم أبدا
…
ما دام في مائنا وردٌ لنزّالِ
ومن ورود ذلك في المنفي بإن قوله تعالى (ولئن زالتا إنْ أمسكهما من أحد من بعده) وندر نفي الجواب بلن في قول أبي طالب:
واللهِ لنْ يصلوا إليكَ بجمعهم
…
حتى أُوارى في التراب دفينا
وندر أيضا نفي الجواب بلم فيما حكى الأصمعي أنه قال لأعرابي: ألك بنون؟ فقال: نعم وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة. ومثال تصدير الجواب في الطلب بفعل طلب قول الشاعر:
بعَيْشكِ ياسَلْمى أري ذا صَبابة
…
أبى غير ما يُرضيك في السرّ والجهر
ومثال تصديره بأداة الطلب قول الشاعر:
بربّك هل للصَبّ عند رأفةٌ
…
فيرجُوَ بعد اليأسِ عَيْشا مجدّدا
ومثال تصديره بإلّا قول الشاعر:
بالله ربِّك قلتِ صادقة
…
هل في لقائِك للمَشْغوفِ من طمع
ومثال تصديره بلمّا التي بمعنى إلا قول الراجز:
قالت له باللهِ يا ذا البُردَيْن
…
لمّا غنثت نَفَسا أو اثنين
ولا تدخل اللام على جواب منفي إلا إذا نفي بما، ولا تدخل عليه وهو منفي بها إلا في الضرورة كقول الشاعر:
لعَمْرُكِ ياسَلْمى لما كنت راجيا
…
حياةً ولكنَّ العوائدَ تُخْرَق
فإن صُدِّرت الجملة المجاب بها القسم بفعل مضارع وكان مثبتا، فإما أن يراد به الاستقبال أو يراد به الحال. فإن أريد به الحال قرن باللام ولم يؤكد بالنون لأنها مخصوصة بالمستقبل، فمن شواهد إفراد اللام لكون الحال مقصودا قول الشاعر:
لئن تكُ قد ضاقتْ عليكم بيوتُكم
…
ليَعْلمُ ربيّ أنّ بيتي واسعُ
ومثله:
لعمْري لأدْري ما قضى اللهُ كونَه
…
يكونُ، وما لم يقضِ ليس بكائن
ومثله:
وعيشكِ ياسَلْمى لأوقنُ أنّني
…
لما شئت مُسْتحْلٍ ولو أنّه القتل
ومثله:
يمينا لأبغضُ كلَّ امرئ
…
يُزخرفُ قَولا ولا يَفْعَلُ
وإن أريد بالمضارع المثبت الاستقبال وقرن به حرف التنفيس أو قدّم عليه معموله امتنع أيضا توكيده بالنون، ولزم جعل اللام مقارنة بحرف التنفيس أو للمعمول المتقدم: فمن مقارنتها حرف التنفيس قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ومنه قول الشاعر:
فو ربّي لسوف يُجزَى الذي أسْـ
…
لَفه المرءُ سَيّئا أو جميلا
ومن مقارنتها المعمول المتقدم قول الله تعالى (ولئن مُتّم أو قُتِلْتُم لإلى اللهِ
تُحْشَرون) ومن ذلك قول الشاعر:
يمينًا ليَوْما يَجْتني المرءُ ما جَنتْ
…
يداه فمسرورٌ ولهفانُ نادمُ
[ومثله]:
جوابًا به تَنْجو اعتمِدْ فَوَربِّنا
…
لَعَنْ عمل أسلفت لا غيرُ تسألُ
[وقول آخر]:
قَسَمًا لحينَ تُشب نيرانُ الوغى
…
يُلفى لديّ شفاءُ كل عليل
فإن أريد بالمضارع المثبت الاستقبال وخلا من حرف تنفيس وتقديم معمول لزم في الغالب اقترانه باللام وتوكيده بالنون، كقوله تعالى (وتاللهِ لأكيدنَّ أصنامكم بعد أنْ تُولّوا مدبرين).
وقلت "في الغالب" احترازا من نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليردُ عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني" ومن قول الشاعر:
تألّى ابنُ أوسٍ حَلفة ليرُدّني
…
على نِسْوة كأنَّهن مفائِدُ
ومثله قول ابن رواحة رضي الله عنه:
فلا وأبي لَنأتيها جميعا
…
ولو كانتْ بها عربٌ ورُوم
فأفردت اللام والاستقبال مراد مع عدم حرف تنفيس وتقدم معمول.
وفي ذكر الغالب أيضا احتراز من حذف اللام وثبوت النون كقول الشاعر:
وقتيل مُرة أثأرَنَّ فإنّه
…
فِرْغ وإنّ أخاكم لم يُثأر
وكقول الآخر:
وهمُ الرجالُ وكل مَلْك منهم
…
تجدنَّ في رُحْب وفي مُتَضَيَّق
ومن أجل ندور إفراد اللام وإفراد النون قلت "لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد، وقد يستغنى بها عن اللام". وإن كان المضارع المجاب به القسم منفيا لم يؤكد بالنون إلّا إنْ كان نفيه بلا، فحينئذ قد يؤكد بها كقول الشاعر:
تالله لا يُحمَدَنّ المرءُ مُجتَنبا
…
فِعْلَ الكرام وإنْ فاق الورى حسبا
والأكثر ألّا تؤكد كقوله تعالى (وأقْسموا بالله جهد أيمانهم لا يبْعَثُ اللهُ من يموتُ بلى وعدًا عليه حقًّا). وشرط في توكيد المنفي كونه منفيا بلا لشبهه بفعل النهي. وقد فعل به ذلك في غير القسم كثيرا كقوله تعالى (واتَّقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّةً) وكقول النمر:
فلا الجارةُ الدُّنيا لها تلحَيَنَّها
…
ولا الضيف عنها إن أقام مُحوَّلُ
ويكثر حذف الحرف النافي المضارع المجرد من نون التوكيد كقوله تعالى (تالله تَفْتؤ تذكر يوسفَ) أي تالله لا تفتأ تذكر يوسف، وكقول حسان رضي الله عنه:
أقسمتُ أنساها وأترُكُ ذِكْرها
…
حتى تُغيَّب في الضَّريح عظامي
فلو كان المفي مؤكدا بالنون مثل تالله لا تحملانّ لم يجز حذف نافيه، لأنه حينئذ لا دليل على أن النفي مراد بل المتبادر إلى ذهن السامع أن الفعل مثبت، كما هو في قول الشاعر:
وقتيل مُرَّة أثأرنّ
وفي قول الآخر:
ليت شعري وأشعرنّ إذا ما
…
قَرَّبوها منشورةً ودُعيتُ
أليَ الفوزُ أم عليّ إذا حُو
…
سِبْتُ إنّي على الحساب مقيت
فإن يكن القسم مثبتا لم يجز حذف النافي المضارع عاريا كان من النون أو مؤكدا بها، هذا هو الأصل وقد يحذف حرف النفي والقسم محذوف إذا كان المعنى لا يصح إلا بتقدير النفي كقول النمر:
وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم
…
تُلاقُونَه حتّى يَئوبَ المنخَّلُ
أراد: والله لا تُلاقونه. فحذف القسم وحرف النفي، لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، واحتيج إلى تقدير القسم لأن تقديره مصحح لحذف النفي، إذ لا يحذف مع غير زال وأخواتها إلا في جواب قسم بشرط كونه مضارعا غير مؤكد بالنون. وقد يحذف نافي الماضي عند أمن اللبس، كقول أمية بن أبي عائذ الهذلي:
فإن شئتُ آليتُ بين المقا
…
مِ والركنِ والحجرِ الأسود
نسيتُكِ ما دام عقلي معي
…
أمدُّ به أمَدَ السَّرْمَدِ
أراد: لا نسيتك، فحذف النافي لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، ولأنه لو أراد الإثبات لقال: لقد نسيتك أو لنسيتك.
وهذا النوع مع ظهور المعنى دون تقدم نفي آخر على القسم قليل. فإن تقدم نفي كان الحذف أحسن كقول الشاعر:
فلا واللهِ نادى الحيَّ ضَيْفي
…
هُدُوًّا بالمَساءةِ والعِلاط
أراد فلا والله لا نادى، فحذف النافي الثاني استغناء عنه بالأول. وقد يجتمعان توكيدا كقول الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتّى يُحكِّمونك فيما شجر بينهم) وكقول أبي ذر "فلا والله أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين" وقد يكون الجواب مثبتا مع تقدم حرف نفي على القسم كقوله تعالى (لا أقسم بهذا البلد * وأنت حلّ بهذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وكقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
فوالله ما نلْتُم ومانيل منكم
…
بمُعتدل وَفْقٍ ولا مُتقارب
أراد ما مانلتم وما نيلَ منكم بمعتدل، فحذف "ما" النافية وأبقى "ما" الموصولة، وجاز ذلك لدلالة دخول الباء الزائدة في الخبر، ولدلالة العطف بولا.
ويجوز على مذهب الكوفيين أن تكون "ما" النافية، والمحذوفة الموصولة، ولا يجوز هذا على مذهب البصريين، لأنهم لا يجيزون بقاء الصلة بلا موصول في اللفظ
وإن دل عليه دليل.
ونبهت بقولي "وقد يكون الجواب قسما" على نحو قوله تعالى (ولَيحلفُنَّ إنْ أردنا إلّا الحُسْنى)(فليحلفنّ) قسم جوابه (إن أردنا إلا الحسنى) وهو جواب قسم محذوف، كأنه قيل والله ليحلفن المنافقون إن أردنا إلا الحسنى (واللهُ يشهدُ إنّهم لكاذِبون).
ص: ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة بقد أو ربما أو بما مرادفتها إن كان متصرّفا، وإلا فغير مقرونة. وقد يلي لقد ولبما المضارع الماضي معنى. ويجب الاستغناء باللام الداخلة على ما تقدم من معمول الماضي، كما استغنى باللام الداخلة على ما تقدم من معمول المضارع.
ش: إن كان صدر الجملة المجاب بها القسم فعلا ماضيا مثبتا وخلا القسم من استطالة وجب اقترانه باللام وحدها إن كان الفعل غير متصرف، وباللام مع "قد" أو ربّما أو بما بمعنى ربما إن كان متصرّفا. فإن وجدت استطالة جاز إفراد الفعل كقوله تعالى:(والسماءِ ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهدٍ ومشهودٍ * قُتِل أصحابُ الأخدود) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري.
واقترانه بقد وحدها كقوله تعالى (قد أفلح من زكّاها) وإن لم توجد الاستطالة والفعل غير متصرف وجب الاقتران باللام مفردة كقول الشاعر:
لعمري لنِعم الفتى مالكٌ
…
إذا الحربُ أصْلَتْ لظاها رجالا
وإن كان الفعل متصرفا فالأكثر أن يقترن باللام مع قد كقوله تعالى (تالله لقد آثرك الله علينا) أو بربّما كقول الشاعر:
لئنْ نَزَحَتْ دارٌ لليلى لرُبّما
…
غَنينا بخيْر والديارُ جميعُ
أو بما مرادفة ربما كقول عمر بن أبي ربيعة:
فلئنْ بانَ أهلُه
…
لبما كان يُؤْهَلُ
وقد يستغنى باللام الفعل الماضي المتصرف في النثر والنظم. ومن الاستغناء بها في النثر قوله تعالى (ولئنْ أرسلنا ريحًا فرأوه مصْفَرًّا لظَلُّوا من بعده يكفرون). وفي الحديث عن امرأة من "غفار" أنها قالت: "والله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ" وفي حديث سعيد بن زيد "أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبرا من الأرض ظُلْما" الحديث. ومن الاستغناء بها في النظم قول امرئ القيس:
حلفتُ لها بالله حلفةَ فاجر
…
لناموا، فما إنْ من حديث ولا صالي
وقد يجاب القسم بمضارع ماضي المعنى فيقترن بلقد أو لبما؛ فاقترانه بلقد كقول
الشاعر:
لئن أمستْ ربوعُهم يبابا
…
لقد تدعو الوفود لها وُفودا
واقترانه بلبما كقول الآخر:
فلئنْ تغيّر ما عَهِدْتُ وأصبحت
…
صَدَفَتْ فلا بَذْلٌ ولا ميسورُ
لبما تُساعِفُ في اللقاء وَليّها
…
فرح بقرب مزارِها مسرورُ
وإذا قدّم معمول الماضي المجاب به القسم قرن باللام وأغنت عن قد وربما وبما، كما أغنى اقترانها بمعمول المضارع المؤخر عن توكيده بالنون. ومن شواهد اقترانها بمعمول الماضي المؤخر قول أمّ حاتم:
لعمْري لقدما عضَّني الجوعُ عضّة
…
فآليتُ ألّا أمنع الدهرَ جائعا
وقد اجتمع في قول عامر بن قدامة:
فلبعدَه لا أخلدنّ ومالَهُ
…
بدلٌ إذا انقطعَ الإخاء فَوَدَّعا
شذوذان: أحدهما عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون. والثاني دخولها على جواب منفي. فلو كان مثبتا لكان دخولها عليه مع تقدم اللام أسهل.
ص: وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناع استغنى بجواب الأداة مطلقا إن سبق ذو خبر، وإلا فبجواب ما سبق منهما. وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم. وقد يقرن القسم المؤخر بفاء فيغني جوابه وتقرن أداة الشرط المسبوقة بلام مفتوحة تسمى الموطئة. ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلا. وقد يجاء بلئن بعدما يغني عن الجواب فيحكم بزيادة اللام.
ش: إذا اجتمع في كلام واحد قسم وأداة شرط ولم تكن الأداة لو ولولا استغنى
بجواب ما تقدم منهما عن جواب المتأخر إن لم يتقدم عليهما ذو خبر، فالاستغناء بجواب القسم لتقدمه نحو: والله إن جئتني لأكرمنك، والاستغناء بجواب الشرط لتقدمه نحو إنْ والله جئتني أكرمك. فلو تقدم عليهما ذو خبر استغنى بجواب الشرط، تقدم على القسم أو تقدم القسم عليه. وكان الشرط حقيقا بأن يغني جوابه مطلقا، لأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخلّ، لأنه مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ. ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقا إذا تقدم عليه وعلى القسم ذو خبر. فإن لم يتقدم عليهما ذو خبر وأخر القسم وجب الاستغناء عن جوابه بجواب القسم، كقوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرُجُنَّ) ولا يمتنع الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره. ومن شواهد ذلك قول الفرزدق:
لئن بلّ أرضى بلالٌ بدفعة
…
من الغيث في يُمْنى يديه انسكابُها
أكنْ كالذي صاب الحيا أرضَه التي
…
سقاها، وقد كانتْ جديبا جَنابُها
ومنها قول ذي الرمة:
لئن كانتِ الدنيا عليّ كما أرى
…
تباريحَ من مَيٍّ فلَلموتُ أرْوحُ
ومنها قول الأعشى:
لئنْ مُنيتَ بنا عن غبّ معركةٍ
…
لا تُلْفِنا عن دماء القوم نَنْتَفل
فلو كانت أداة الشرط "لو أو لولا" استغنى بجوابها عن جواب القسم مطلقا نحو: والله لو فعلت لفعلت، ولو فعلت والله لفعلت. وكذا لو تقدم عليهما ذو خبر أو كان
بدل "لو": "لولا". ومن أجل هذا قلت "وأداة شرط غير امتناعي".
وقد يقرن القسم المؤخر بفاء فيجب الاستغناء بجوابه، لأن الفاء تقتضي الاستئناف وعدم تأثر ما بعدها بما قبلها. ومنه قول قيس بن العيزارة:
فإمّا أعِشْ حتى أدِبَّ على العصا
…
فواللهِ أنسى ليلتي بالمسالم
وأجاز ابن السراج أن تنوي هذه الفاء فيعطى القسم المؤخر بنيّتها ما أعطى بلفظها فأجاز أن يقال إن تقم يعلم الله لأزورنك، على تقدير فيعلم الله لأزورنك ولم يذكر عليه شاهدا. فلو لم تنو الفاء لألغي القسم فقيل إن تقم يعلم الله أزرْك.
وتقارن أداة الشرط المسبوقة بقسم لام مفتوحة تسمّى الموطئة. وأكثر ما يكون ذلك مع إنّ كقوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمِنُنَّ بها). وقد يكتفي بنيّتها عن لفظها كقوله تعالى: (وإن لم تغفر لنا وترحمْنا لنَكُونَنَّ من الخاسرين). والأصل ولئن لم تغفر ولولا ذلك لم يقل في الجواب لنكوننّ. بل كان يقال وإن لم تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين، كما قيل:(وإلّا تغفرْ لي وترحمْني أكنْ من الخاسرين) قال سيبويه – رحمه الله: "ولا بد من هذه اللام مظهرة أو مضمرة" يعني اللام التي تقارن أداة الشرط وتسمى الموطئة. ومن مقارنتها غير إنْ من أخواتها قوله تعالى (وإذْ أخذ الله ميثاقَ النَّبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مُصَدِّقٌ لما معكم لتؤْمِنُنَّ به
ولتنصرنّه) ومثله قول القطامي:
ولما رُزقتَ ليأتينّك سَيْبُه
…
جَلَبا، وليس إليكَ مالم تُرزقِ
ومثله قول الآخر:
لمتى صلحت ليُقضَيَنْ لك صالحٌ
…
ولتُجْزينَّ إذا جُزيَت جميلا
وقد يستغنى بعد "لئن" عن جواب، لتقدم ما يدل عليه، فيحكم بأن اللام زائدة. فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
ألممْ بزينبَ إن البين قد أفِدا
…
قلَّ الثواءُ لئن كان الرحيلُ غدا
ومثله:
فلا يَدْعُني قومي صريحًا لحُرّة
…
لئن كنتُ مقتولًا ويَسْلَمَ عامرُ
ص: لا يتقدم على جواب قسم معموله، إلا إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا. ويستغنى للدليل كثيرا بالجواب عن القسم، وعن الجواب بمعموله، أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة. والأصح كون "جَيْر" منها، لا ساما بمعنى "حقا". وقد تفتح راؤها. وربما أغنت هي "ولاجَرَم" عن لفظ القسم مرادا. وقد يجاب بجير دون إرادة قسم.
ش: إن تعلق بجواب القسم جار ومجرور أو ظرف جاز تقديمه عليه كقوله تعالى (عمّا قليلٍ ليُصْبحُنَّ نادمين). وكقول الشاعر:
رضيعَي لبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تحالفا
…
بأسحم داجٍ عَوْضُ لا نتفرّقُ
وإن تعلق به مفعول لم يجز تقديمه، فلا يجوز في والله لأضربنّ زيدًا: والله زيدا لأضربنّ ويستغنى عن القسم بجوابه كثيرا إذا دلّ عليه دليل، كوقوعه بعد لقد أو بعد لئن أو مصاحبا للام مفتوحة ونون توكيد. ويستغنى عن الجواب بمعموله كقوله تعالى (يوم ترجُف الراجفة) أي تُبعثنّ يوم ترجف الراجفة. ويكثر الاستغناء بقسم مقرون بأحد حروف الإجابة وهي: بلى ونعم ومرادفاتها: إي وإنَّ وأجلْ وجيْر، كقوله تعالى (أليس هذا بالحقّ قالوا بلى وربِّنا)، وكقولك لمَن قال: أتفعل كذا؟: لا والله، ونعم والله، وإي والله، وإنّ والله، وأجل والله، وجير والله.
وزعم قوم أن "جير" اسم بمعنى حقا. والصحيح أنها حرف بمعنى نعم، لأن كل موضع وقعت فيه "جير" يصلح أن تقع فيه "نعم"، وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن توقع فيه حقّا. فإلحاقها بنعم أولى. وأيضا فإنها أشبه بنعم في الاستعمال، ولذلك بُنيتْ. ولو وافقت حقّا في الاسمية لأُعربتْ، ولجاز أن تصحبها الألف واللام، كما أن حقا كذلك. ولو لم تكن بمعنى نعمْ لم تعطف عليها في قول بعض الطائيين:
أبى كَرمًا لا آلفا جَيْر أو نَعَمْ
…
بأحسنِ إيفاءٍ وأنْجَزِ موعِد
ولا أكدت نعم بها في قول طُفيل الغنوي:
وقُلْنَ على البَرْدِيّ أوّلُ مَشْرب
…
نعم جَيْر إن كانت رِواءً أسافِلُهْ
ولا قُوبِل بها "لا" في قول الراجز:
إذا يقولُ "لا" أبو العُجير
…
يَصْدُقُ "لا" إذا يقولُ "جَيْرِ"
فهذا تقابل ظاهر. ومثله في التقدير قول الكميت:
يرجونَ عفوي ولا يخشون بادرتي
…
لا جيرَ لا جيرَ والغرْبان لم تَشِبِ
أراد لا يثبت مرجوّهم، نعم تلحقهم بادرتي. وقريب منه اجتماع أجلْ ولا في قول ذي الرمة:
[ترى] سيفَه لاي نصفُ الساق نَعْلُه
…
أجل لا ولو كانت طِوالًا محاملُهْ
وقد يستغنى بجير عن لفظ القسم، وهو مراد كقول الشاعر:
قالوا قُهرتَ فقلتُ جير ليعلمَنْ
…
عمّا قليلٍ أيُّنا المقهورُ
وحكى الفراء أن العرب تقول: لا جرمَ لآتينّك، ولا جرم لقد أحسنت، يريد أنهم يستغنون بها عن القسم قاصدين بها معنى حقا. وقد يجاب بجير دون قسم مراد، كما يجاب بأخواتها، إلّا إي، فلا أعلم استعمالها إلا مع قسم.