الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب النداء
ص: المنادى منصوب لفظا أو تقديرا بأنادي لازم الإضمار، استغناء بظهور معناه، مع قصد الإنشاء وكثرة الاستعمال، وجعلهم كعوض منه في القرب همزة، وفي البعد حقيقة أو حكما "يا" أو "أيا" أو "هيا" أو "آ" أو "أي" أو "آي" ولا يلزم الحرف إلا "يا" مع الله، والضمير، والمستغاث، والمتعجب منه، والمندوب. ويقل حذفه مع اسم الإشارة، واسم الجنس المبني للنداء.
وقد يحذف المنادى قبل الأمر والدعاء فتلزم "يا"، وإن وليها ليت أو رُبّ أو حبذا فهي للتنبيه لا للنداء.
وقد يعمل المنادى في المصدر والظرف والحال. وقد يفصل حرف النداء بأمر.
ش: المنادى مفعول في المعنى، لأنه مدعو، فيستحق النصب لفظا إن كان معربا قابلا لحركة الإعراب، كيا عبدَ الله. وتقديرا إن كان مبنيا أو معربا غير قابل لحركة الإعراب، كيا زيدُ، ويارقاشِ، ويا فتى، ويا أخي. وناصبه أنادي لازم الإضمار لظهور معناه مع كثرة الاستعمال وقصد الإنشاء، ولجعل العرب أحد الحروف المذكورة كالعوض منه. وكل واحد من هذه الأسباب كاف في إيجاب لزوم الإضمار، ولا سيما قصد الإنشاء، فإن الاهتمام به في غاية من الوكادة، لأن إظهار أنادي يوهم أن المتكلم مخبر بأنه سيوقع نداء، والغرض من علم السامع بأنه منشئ له، والإضمار معين على ذلك، فكان واجبا. هذا مع كون الحرف كالعوض منه فلم يجمع بينهما، كما لم يجمع بين العوض والمعوض منه.
ومن زعم أن حرف النداء عوض محض، رُدَّ عليه بجواز حذفه، والعرب لا تجمع بين حذف العوض المحض والمعوض منه، نحو: ما وكان في:
أما أنت ذا نفر
ونحوها، وواو القسم في: ها الله.
وكون الهمزة للقريب، وما سواها للبعيد هو الصحيح، لأن سيبويه أخبر بذلك رواية عن العرب. ومن زعم أن أي كالهمزة في الاختصاص بالقرب لم يعتمد في ذلك إلا على رأيه، والرواية لا تعارض بالرأي، وصاحب هذا الرأي هو المبرد، وتبعه كثير من المتأخرين.
ولم يذكر مع حروف النداء "آ" و"آي" بالمد إلا الكوفيون، رووها عن العرب الذين يثقون بعربيتهم، ورواية العدل مقبولة.
ولا يجوز حذف حرف النداء إن كان المنادى "الله" أو ضميرا، أو مستغاثا، أو متعجبا منه، أو مندوبا. نحو: ياالله، وياإياك، ويا لزيد، ويا للماء، ويا زيداه. فإن كان غير هذه الخمسة جاز الحذف، إلا أن جوازه يقل مع اسم الإشارة، واسم الجنس المبني للنداء. ومن شواهد الحذف مع اسم الإشارة قول ذي الرمة:
إذا هَمَلتَ عيني لها قال صاحبي
…
بمثلِكَ هذا لوْعَةٌ وغرامُ
أراد بمثلك يا هذا، ومثله قول رجل من طيء:
إن الألَى وُصِفوا قومي لهم فبهم
…
هذا اعْتَصم تَلْقَ من عاداك مخذولا
ومنه قوله:
ذي دعي اللّوْمَ في العطاءِ فإنّ الـ
…
لومَ يُغْري الكرامَ بالإجْزال
ومنه قوله:
ذا ارعواءً فليس بعد اشتعال الر
…
أسِ شَيْبا إلى الصِّبا من سبيل
ومنه قوله:
لا يَغُرّنكمْ أولاءِ من القَوْ
…
م جُنُوح للسّلم فهو خداع
ومن شواهد الحذف مع اسم الجنس المبني للنداء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتدي أزمة تنفرجي"، وقوله صلى الله عليه وسلم مترحما على موسى عليه السلام:"ثوبي حجر ثوبي حجر" أراد: يا أزمة، ويا حجر، وكلامه أفصح الكلام.
ومن نداء الضمير ما ذكر أبو عبيدة من أن الأحوص اليربوعي وفد مع أبيه على معاوية رحمه الله، فخطب، فوثب أبوه ليخطب، فكفه وقال: ياإياك قد كُفيتك. وأنشد أبو زيد:
يا أبْجَرُ بن أبجر يا أنتا
…
أنت الذي طَلِّقْت عام جُعْتا
فقول الأحوص: ياإياك، جار على القياس، لأن المنادى مفعول محذوف العامل، وما كان كذلك، وجيء به ضميرا، وجب أن يكون أحد الضمائر الموضوعة للنصب كقوله تعالى:(وإياي فارهبون) وكقوله الشاعر:
إياك خِلْتُك لي رِدْءًا فكنتَ لهم
…
عليّ فيما أرادوا بي من الضَّرَر
وأما: ياأنت، فشاذ، لأن الموضع موضع نصب، وأنت ضمير رفع، فحقه ألا يجوز، كما لا يجوز في: إياك والأسد: أنت والأسد. لكن العرب قد تجعل بعض الضمائر نائبا عن غيره، كقولهم: رأيتك أنت، بمعنى: رأيتك إياك، فناب ضمير الرفع عن ضمير النصب. وعكسه قراءة الحسن البصري رضي الله عنه:(إياك نعبدُ) بنيابة ضمير النصب عن ضمير الرفع، فكذلك قالوا: ياأنت، والأصل: ياإياك، لما ذكرت لك. ولأن الموضع موضع اطرد في الواقع فيه إذا كان مفردا معرفة كونه على صورة مرفوع، فحسن أن يخلفه ضمير الرفع، كما حسن أن يكون تابعه مرفوعا.
وكان حق المنادى أن يمنع حذفه، لأن عامله قد حذف لزوما، فأشبه الأشياء التي حذف عاملها وصارت هي بدلا من اللفظ به، كإياك في التحذير، وكسقيا له، في الدعاء. إلا أن العرب أجازت حذف المنادى والتزمت في حذفه بقاء "يا" دليلا عليه، وكون ما بعده أمرا أو دعاء، لأن الآمر والداعي محتاجان إلى توكيد اسم المأمور والمدعو بتقدميه على الأمر والدعاء، فاستعمل النداء قبلهما كثيرا، حتى صار الموضع منبها على المنادى إذا حذف وبقيت "يا" فحسن حذفه لذلك.
فمن ثبوته قبل الأمر قوله تعالى: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) و: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) و: (يا بني آدم خذوا زينتكم) و: (يا بُنَيّ اركب معنا) و: (يا يحيى خذ الكتاب) ومن ثبوته قبل الدعاء: (يا
موسى ادع لنا ربك) و: (يا أبانا استغفر لنا) و: (يا مالك ليقض علينا ربك) ومنه قول الراجز:
يا رب هب لي من لدنك مغفرة
…
تمحو خطاياي وأُكْفى المعذرة
ومن حذفه قبل الأمر قوله تعالى في قراءة الكسائي: (ألا يا اسجدوا) أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا.
ومن حذفه قبل الدعاء قول الشاعر:
يالعنةُ الله والأقوامِ كلِّهم
…
والصالحين على سِمْعانَ من جار
ومثله:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميّ على البِلى
…
ولا زال مُنْهلًا بجرعائك القَطْرُ
ومثله:
ألم تعلمي يا عَمْرَك الله أنني
…
كريمٌ على حينِ الكرامُ قليل
وأني لا أُخْزى إذا قيل مُمْلِقٌ
…
سَخِيٌّ وأخْزَى أن يقال بخيل
وليس من ذلك قولهم: ياليت، ويا ربّ، ويا حبذا لأن مولى "يا" أحد هذه الثلاثة قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى ثابت ولا محذوف، كقول مريم عليها السلام:(ياليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نَسْيا مَنْسِيّا) ولأن الشيء إنما يجوز
حذفه إذا كان موضع ادعاء الحذف مستعملا فيه الثبوت، كحذف المنادى قبل الأمر والدعاء، فإنه جاز لكثرة ثبوته، بخلاف ما قبل الكلم المذكورة فإن ثبوت المنادى فيه غير معهود، فادعاء الحذف فيه مردود، ولكن "يا" فيه لمجرد التنبيه والاستفتاح، مثل ألا، وقد يجمع بينهما توكيدا في نداء وغير نداء، فاجتماعها في النداء كقول الشاعر:
ألا يابنَ الذين بَنَوْا وبادُوا
…
أما والله ما ذهبوا لتبقى
واجتماعهما في غير نداء كقول الآخر:
ألا ياليت أياما تَوَلّت
…
يكونُ إلى إعادتها سبيلُ
وقد يعمل عامل المنادى في مصدر كقول الشاعر:
يا هندُ دعوةَ صَبٍّ هائم دنِفٍ
…
مُنِّي بلطفٍ وإلا مات أو كَرَبا
وفي ظرف كقوله:
يادارُ بين النَّقى والحَزْن ما صنعت
…
يدُ النَّوى بالألى كانوا أهاليكِ
وفي حال كقوله:
يأيُّها الرِّبْعُ مَبْكِيًّا بساحته
…
كم قد بذلْتَ لِمَنْ وافاك أفراحا
وقد يفصل بأمر المنادى بينه وبين حرف النداء كقول جدابة بنت خويلد النخعية تخاطب أَمَتَها لطيفة:
ألا يا فابْكِ شَوّالا لطيفا
…
وأذْرِي الدمعَ تَسكابا وَكيفا
أرادت: يالطيفة، فرخمت وفصلت بفعل الأمر.
ص: يبنى المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به لو لم يناد، إن كان ذا تعريف مستدام أو حادث بقصد وإقبال، غير مجرور باللام، ولا عامل فيما بعده، ولا مكمل قبل النداء بعطف نسق.
ويجوز نصب ما وصف من معرف بقصد وإقبال، ولا يجوز ضم المضاف الصالح للألف واللام، خلافا لثعلب. وليس المبني للنداء ممنوع النعت، خلافا للأصمعي. ويجوز فتح ذي الضمة الظاهرة إتباعا إن كان علما ووصف بابن متصل مضاف إلى علم، لا إن وصف بغيره، خلافا للكوفيين، وربما ضم الابن إتباعا، ويلحق بالعلم المذكور نحو: يافلان بن فلان، ويا ضُلّ بن ضُلّ، ويا سيد بن سيد.
ومُجَوِّز فتح ذي الضمة في النداء مُوجِبٌ في غيره حذف تنوينه لفظا، وألف ابن في الحالين خطّا، وإن نون فللضرورة. وليس مركبا فيكون كمَرْء في إتباع ما قبل الساكن ما بعده، خلافا للفارسي.
والوصف بابنة كالوصف بابن، وفي الوصف ببنت في غير النداء وجهان.
ويحذف تنوين المنقوص المعين بالنداء، وتثبت ياؤه عند الخليل، لا عند يونس، فإن كان ذا أصل واحد ثبتت الياء بإجماع. ويترك مضموما أو ينصب ما نُوِّنَ اضطرارا من منادى مضموم.
ش: المنادى معرب ومبني، فالمعرب المجرور بلام الاستغاثة نحو: يالله للمسلمين، أو بلام التعجب نحو: ياللماء، ويا للدواهي. والنكرة المحضة نحو:
أيا راكبا إمّا عَرَضْتَ فَبَلّغَنْ
…
نداماي من نَجْران ألا تلاقيا
والعامل فيما بعده بإضافة وغير إضافة نحو: ياذا الجلال والإكرام، ويا رءوفا بالعباد، ويا عظيما فضله، ويا عشرين رجلا. والمكمل قبل النداء بالعطف نحو: يازيدا وعمرا، في المسمى به.
والمبني على ضربين: مبني بناء متجددا لسبب النداء، ومبني بناء غير متجدد بسبب النداء. فالأول يبنى على ضمة ملفوظ بها نحو: يا زيد، ويا رجل. ومقدرة نحو: يامولى، ويا هادي، ويافتى. وعلى ألف نحو: يازيدان. وعلى واو نحو: يا زيدون.
والثاني مبني في التقدير على ضمة، وفي اللفظ على ما كان مبنيا عليه قبل النداء، نحو: ياهؤلاء، ويا سيبويهِ، ويارقاشِ، ويا خمسة عشر، ويا برق نحره.
وهذه الأنواع كلها داخلة في قولي: يبنى المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به. أما دخول ما تجدد بناؤه بسبب النداء فظاهر. وأما دخول ما سبق بناؤه فلأن هؤلاء وسيبويه ورقاش وبرق نحره قد كانت قبل النداء تقع في موضع الرفع فتنوي ضمة الإعراب في موضعها، وتجدد لها في النداء تقدير ضمة البناء، ويدل على ذلك رفع تابعها نحو: ياهؤلاء الرجالُ، ويارقاشِ الحسنةُ. ونبهت بقولي: على ما كان يرفع به لو لم يناد على نحو: يا مكرمان، مما لا استعمال له في غير النداء.
ثم بينت أن من شرط النداء المستحق للبناء كون المنادى غير مجرور بلام الجر، وكونه غير عامل فيما بعده. ولا مكمَّل قبل النداء بعطف نسق، فخرج باستثناء المجرور باللام المستغاث نحو: يالله للمسلمين، والمتعجب منه نحو: ياللعبر، وياللآيات. وباستثناء العامل فيما بعده المضاف نحو: ياذا الجلال والإكرام، والشبيه به نحو: ياعظيما فضله، ويالطيفا بالعباد، ويا عشرين رجلا. وباستثناء المكمل قبل النداء بعطف النسق نحو: يازيدا وعمرا، في المسمى بهما.
وادعى المبرد أن تعريف: يا زيد، متجدد بالنداء بعد إزالة تعريف العلمية، لئلا يجمع بين تعريفين. والصحيح أن تعريف العلمية مستدام كاستدامة تعريف الضمير واسم الإشارة والموصول في: ياإياك، وياهذا، ويا من حضر. ولأن النداء لا يلزم من دخوله على معرفة اجتماع تعريفين، على أنه لو علم اجتماع تعريفين لجعل أحدهما مؤكدا للآخر، ومسوقا لزيادة الوضوح، كما تساق الصفة لذلك، ويكون ذلك نظير اجتماع دليلي المبالغة في: علامة ودَوّاريّ.
ويجوز في المفرد المعرف بالقصد والإقبال إجراؤه مجرى العلم المفرد في البناء،
وإجراؤه مجرى النكرة في النصب. قال الفراء: النكرة المقصودة الموصوفة المناداة تؤثر العرب نصبها، يقولون: يا رجلا كريما أقبل. فإذا أفردوا رفعوا أكثر ما ينصبون.
قلت: ويؤيد قول الفراء ما روي من قبل النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده: "يا عظيما يرجى لكل عظيم".
وأجاز ثعلب رحمه الله أن يضم المضاف إذا كان صالحا للألف واللام نحو: ياحسنُ الوجه، لأن إضافته في نية الانفصال، وأظنه قاس ذلك على رواية الفراء عن بعض العرب: يامهتمُّ بأمرنا لا تهتم، لضم الميم، مع مشابهة المضاف لتعلق أمرنا به. وتخريج هذا عندي بأن يجعل "بأمرنا" متعلقا لا تهتم، لأن بناء المنادى ناشئ عن شبهه بالضمير، والمضاف عادم الشبه بالضمير، وإن كان مجازى الإضافة.
ومنع الأصمعي نعت المبني للنداء لأنه شبيه بالمضمر، والمضمر لا ينعت. وما ذهب إليه مردود بالسماع والقياس، أما السماع فشهرته مغنية عن استشهاد، وأما القياس فلأن مشابهة المنادى للضمير عارضة، فمتقضى الدليل ألا تعتبر مطلقا، كما لم تعتبر مشابهة المصدر لفعل الأمر في نحو: ضربا زيدا، لكن العرب اعتبرت مشابهة المنادى للضمير في البناء استحسانا، فلم يزد على ذلك، كما أن "فَعالِ" العلم لما بني حملا على فعال المأمور به لم يزد على بنائه شيء من أحوال ما حمل عليه، ونظائر ذلك كثيرة.
ويجوز في المنعوت بابن نحو: يازيدُ بن عمرو، الضم استصحابا لحاله قبل النعت، والفتح إعرابا نحو: يازيدَ بن عمرو، فلو فصل ابن من المنعوت تعين الضم، نحو: يازيدُ الفاضل ابن عمرو. وكذا يتعين الضم إن فقدت علمية المنعوت، نحو: ياغلامُ ابن زيد، أو علمية المضاف إليه نحو: يازيدُ ابن أخينا، أو علميتهما نحو: ياغلامُ ابن أخينا.
فلو لم تكن ضمة المنادى ظاهرة لم ينو تبدلها بفتحة إذ لا فائدة في ذلك. وقد
أجاز الفراء في عيسى من قوله تعالى: (ياعيسى ابن مريم) تقدير الضمة والفتحة.
وأجاز الكوفيون فتح المنعوت بمنصوب غير ابن نحو: يازيدَ الكريمَ، واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:
فما كعبُ بنُ مامةَ وابنُ سُعْدى
…
بأجودَ منك ياعمرَ الجوادا
على أن الرواية بفتح راء عمر، وخرج ذلك من انتصر للبصريين بأن قال: أراد: ياعمرا، فحذف الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الراء مفتوحة. وهذا الاختصار لا يثبت على مذهب سيبويه، لأنه لم يذكر زيادة الألف في آخر المنادى في غير ندبة أو تعجب أو استغاثة، والثلاثة منفية من هذا البيت. وأجاز غير سيبويه زيادة الألف في آخر كل منادى لمد الصوت.
ويجرى مجرى: يازيدَ بن عمرو، في جواز فتح المنعوت: يافلان ابن فلان، ويا ضل ابن ضل، ويا فاضل ابن فاضل، وما أشبهه من المدح أن يتبع بالفتح، فإن أدخلت الألف واللام في الثاني جاز الوجهان.
وسبب هذا الفتح كثرة الاستعمال، فجاز في: يازيد بن عمرو، وامتنع في: يازيد ابن أخينا. ولزم في نحو: يافاضل ابن فاضل، جعل الموصوف والصفة كالشيء الواحد فيما كثر استعماله، فأتبعوا الأول الثاني، كما فعلوا في: امرئ.
وقد روى الأخفش عن بعض العرب ضم نون الابن إتباعا لضم المنعوت، وهو نظير قراءة من قرأ:(الحمدُ لله) بضم اللام، بل ضم النون أسهل بكثير.
وكما كان وقوع ابن في النداء بين علمين على الوجه المذكور سببا للتخفيف، بتبدل الضمة فتحة، جعل في غير النداء سببا للتخفيف بحذف تنوين المنعوت، لأن
النداء وجه واحد، وغير النداء وجوه كثيرة، فكان غير النداء أحوج إلى التخفيف، فجعل تخفيفه واجبا، وتخفيف النداء واجبا، واستوى النداء وغير النداء في التزام حذف ألف ابن خطا. وقد ينون المنعوت بابن في غير النداء اضطرارا، كقول الأغلب العجلي:
جاريةٌ من قيس بنِ ثعلبة
…
قَبّاءُ ذاتُ سُرَّة مُقَعَّبة
مَمْكورةُ الأعلى رداح الحَجَبَة
…
كأنها حليةُ سيفٍ مُذْهَبة
وزعم الفارسي أن نحو: زيد بن عمرو، عند قصد النعت في غير النداء مركب، وأن حركة المنعوت حركة إتباع كحركة ميم "مرء" على لغة من قال: هذا مُرُؤ، ورأيت مَرَأ، ومررت بمِرِئ. وليس ما رآه في هذا صحيحا، للإجماع على فتح المجرور الذي لا ينصرف، نحو: صلى الله على يوسفَ بنِ يعقوب. ذكر هذا ابن برهان رحمه الله.
وإذا كان المنعوت مؤنثا علما كهند في لغة من صرف، ونعت بابنة، مضافا إلى علم، فحكمه في النداء وغير النداء حكم زيد منعوتا بابن مضافا إلى علم.
وغير المنادى المنعوت ببنت وجهان رواهما سيبويه عن العرب الذين يصرفون هندا ونحوه، فيقولون: هذه هند بنت عاصم، وكل هذا مشار إليه في الأصل.
وإذا نودي نحو: قاض، وقصد تعيينه حذف تنوينه، وأثبتت ياؤه، فقيل: ياقاضي. ويجوز حذف الياء والتنوين معا، فيقال: ياقاضِ، كما قيل مع الألف واللام في غير النداء: جاء القاضي، وجاء القاض، والأول مذهب الخليل، والثاني مذهب يونس، وقوى مذهب سيبويه مذهب يونس.
وإن كان المنقوص ذا أصل واحد، كاسم فاعل أرى، ردت الياء بإجماع، فيقال: يامرى، ولا يقال: يامر.
وإذا اضطر شاعر إلى تنوين المنادى المضموم جاز بقاء الضمة، وهو الأكثر، وجاز نصبه، وهو الأقيس، لأن البناء استحق بشبه المضمر، وقد ضعف بالتنوين، لأن المضمر لا ينون، ولكنه عارض للضرورة، فجاز ألا يعتد به. وحكى ابن السراج أن بقاء الضم إذا اضطر إلى التنوين اختيار الخليل وسيبويه. وأبو عمرو ويونس وعيسى بن عمر والجرمي يختارون النصب، وما حكاه ابن السراج حكاه المبرد أيضا، وزاد المازني تمثيل الخليل وسيبويه.
قلت: وعندي أن بناء الضمة راجح في العلم، والنصب راجح في النكرة المعينة، لأن شبهها بالمضمر أضعف. ومن شواهد البناء على الضم قول الأحوص:
سلامُ اللهِ يامطرٌ عليها
…
وليس عليك يامطرُ السَّلام
ومنها ما أنشد الفراء من قول لبيد:
قَدِّموا إذْ قيل قيس قَدِّموا
…
وارفعوا المجدَ بأطرافِ الأسَلَ
أراد: قدموا ياقيس قدموا. وأنشد غيره لعدي بن ربيعة يرثي أخاه مهلهلا:
ظبيةٌ من ظباء وَجْرَةَ تَعْطو
…
ويداها في ناضر الأوراق
ضربتْ صدرها إليّ وقالت
…
ياعدي لقد وَقَتْك الأواقي
ما أُرَجِّي في العيش بعد ندامى
…
قد أراهم سُقُوا بكأس حَلاقِ
ومن شواهد النصب والمنادى علم قول الشاعر:
فطر خالدا إن كنت تسطيع طيرة
…
ولا تقعن إلا وقلبك واقع
ومن شواهده والمنادى نكرة معينة قول عبد يغوث:
فيا راكبا إما عَرَضْت فَبَلِّغَنْ
…
نادامايَ من نجرانَ ألا تلاقيا
ومنها قول الآخر:
أعبدًا حلّ في أرْضِي غريبا
…
ألُؤْمًا لا أبالك واغترابا
ومثله:
يا سيدا ما أنت من سيد
…
مُوَطَّأ الأكنافِ رحبِ الذراع
قوالِ معروف وأمّارِه
…
نَحّار أُمّاتِ الرِّباع الرِّتاع
ومنها:
ألا ياقتيلا ما قتيل بني حلس
…
إذا افتل أطراف الرماح من الدعس
ومنها قول ذي الرمة:
أدارا بحُزْوى هِجْتِ للعين عبرةً
…
فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يترقرق
وسيبويه يسمي هذا النوع نكرة باعتبار حاله قبل النداء.
ومن شواهد الضم قول كثير:
ليت التحية كانت لي فأشكرها
…
مكانَ ياجملٌ حُيِّيتَ يارجلُ
هكذا الرواية المشهورة: ياجمل، بالضم.
فصل: ص: لا يباشر حرف النداء في السعة ذا الألف واللام غير المصدّر بهما جملة مسمى بها، أو اسم جنس مشبه به، خلافا للكوفيين في إجازة ذلك مطلقا، ويوصف بمصحوبيهما الجنسيّ مرفوعا، أو بموصول مصدّر بهما، أو باسم إشارة "أيٌّ" مضمومة متلوة بهاء التنبيه، وتؤنث لتأنيث صفتها، وليست موصولة بالمرفوع خبرا لمبتدأ محذوف، خلافا للأخفش في أحد قوليه، ولا جائزا نصب صفتها خلافا للمازني، ولا يستغنى عن الصفة المذكورة ولا يتبعها غيرها.
واسم الإشارة في وصفه بمالا يستغنى عنه كأي، وكغيرها في غيره. وقيل: ياالله وياألله، والأكثر اللهم، وشذ في الاضطرار يااللهم.
ش: قال سيبويه: إذا قال: يارجل، فمعناه، كمعنى يأيها الرجل، فصار معرفة، لأنك أشرت إليه، وقصدت قصده، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة. ثم قال: وصار بدلا في النداء من الألف واللام، واستغنى به عنهما، كما استغنيت بقولك: اضرب، عن لتَضْرب.
فحاصل كلامه: أن رجلا، من قولك: يارجلُ، معرفة بالقصد والإشارة إليه، فاستغنى عن الألف واللام كما استغنى اسم الإشارة، وكما استغنى اضرب عن لام الأمر.
وأجاز سيبويه أن يقال: يا الرجل قائم، في المسمى بالرجل قائم، لأن معناه: يامقولا له الرجل قائم. وقاس عليه المبرد دخول "يا" على ما سمى به من موصول مصدر بالألف واللام نحو: يا الذي قام، لمسمى به. وهو قياس صحيح.
وأجاز ابن سعدان: يا الأسد شدة، ويا الخليفة جودا، ونحوه مما فيه تشبيه، وهو أيضا قياس صحيح، لأن تقديره: يا مثل الأسد، ويا مثل الخليفة، فحسن لتقدير دخول "يا" على غير الألف واللام.
وأجاز الكوفيون دخول "يا" على الألف واللام مطلقا، وأنشدوا:
فيا الغلامان اللذان فرَّا
…
إيّاكما أنْ تُكسبانا شرا
وهذا عند غيرهم من الضرورات. وأنا لا أراه ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول: فيا غلامان اللذان فرا، لأن النكرة المعينة بالنداء توصف بذي الألف واللام الموصول، وبذي الألف واللام غير الموصول، كقول بعض العرب: يافاسق الخبيث، حكاه يونس.
والذي أراه في: فيا الغلامان، أن قائله غير مضطر، لكنه استعمل شذوذا ما حقه ألا يجوز، ومثله في الشذوذ قول الآخر:
مِنَ اجْلِك ياالتي تَيّمْت قلبي
…
وأنت بخيلةٌ بالوُد عني
والكلام الصحيح أن يتوصل إلى نداء ما فيه الألف واللام الجنسيتان بجعله صفة لأيّ متلوة بهاء التنبيه نحو: يأيها الرجل، ونبهت بجنسية الألف واللام على أنه لا يقال: يأيها العباس، ولا: يأيها الصَّعق، لأنهما علمان، والألف واللام مع الأول للمح الصفة، ومع الثاني للغلبة. وكذا لا يقال: يأيها الزيدان، ذكر ذلك الأعلم في الرسالة الرشيدة.
ويقوم مقام ذي الألف واللام الجنسيتين موصولٌ مصدّر بالألف واللام نحو: (يأيها الذي نُزِّل عليه الذكر) أو اسم إشارة عار من الكاف، كقول الشاعر:
أيُّهذان كُلا زادكما
…
ودعاني واغِلا فيمَنْ يَغِل
والأكثر أن يجمع بين اسم الإشارة وذي الألف واللام، كقول الفرزدق:
ألا أيهذا السائلي عن أرومتي
…
أجداك لم تعرف فتبصره الفجرا
وتؤنث أي لتأنيث صفتها نحو: (يأتيها النفس) ويأيتها التي تسمع، ويأتيها ذي.
وأجاز الأخفش أن تكون "أي" هذه موصولة، والمرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة أي. ولو صح ما قال لجاز، ظهور المبتدأ، ولكان أولى من حذفه، لأن كمال الصلة أولى من اختصارها، ولو صح ما قال لجاز أن يغني عن المرفوع بعد أي جملةٌ فعلية وظرف، كما يجوز ذلك في غير النداء، وفي امتناع ذلك دليل على أن أيّا غير موصولة.
وأجاز المازني نصب أي، قال الزجاج: ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعه أحد بعده، فهذا مطرح مردود، لمخالفته كلام العرب. ذكر هذا الزجاج في كتاب المعاني، عند قوله تعالى:(يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) ويساوي اسم الإشارة أيًّا في وجوب رفع صفته، واقترانها بالألف واللام الجنسيتين. ويخالفها بجواز استغنائه عن الوصف، ويجوز أن يتبع بغير وصف. وعلى هذا نبهت بقولي: واسم الإشارة في وصفه بما لا يستغنى عنه كأي في وصفها، وكغيرها في غيره. ولذلك قال الخليل: إذا قلت: ياهذا، وأنت تريد أن تقف عليه، ثم تؤكده باسم يكون عطفا عليه فأنت فيه بالخيار، وإن شئت نصبت وإن شئت رفعت، وذلك: ياهذا زيد، وإن شئت قلت: زيدا، كقولهم: ياتميم أجمعون وأجمعين، وكذلك: ياهذان زيد وعمرو. وإن شئت: زيدا وعمرا، فيجرى ما يكون عطفا على الاسم مجرى ما يكون وصفا.
وقال سيبويه: واعلم أنه لا يجوز أن تنادي اسما في الألف واللام ألبتة، إلا أنهم قد قالوا: ياالله اغفر لي، من قبل أن الألف واللام لا تفارقانه، وهما فيه خلف عن همزة إله، وليس بمنزلة الذي، قال: لأن الذي – وإن كان لا تفارقه الألف واللام – ليس اسما غالبا كزيد وعمرو، لأنك تقول: يأيها الذي. قال كما تقول: يأيها الرجل، فامتنع: ياالذي، كما امتنع: يا الرجل. ولا يجوز: يا الصعق، وإن كانت الألف واللام لا تفارقه، لأنهما غير عوض عن شيء هو من نفس الاسم، بخلاف اللذين هما في الله، فإنهما خلف عن همزة إله. هذا حاصل كلامه.
والأكثر في نداء الله أن يقال: اللهم، بتعويض الميم من يا، وقد اجتمعا للضرورة في قول الراجز:
إني إذا ما حدث ألَمّا
…
أقول يا اللهم يا اللهما
فصل: ص: لتابع غير أي واسم الإشارة من منادى كمرفوع إن كان غير مضاف الرفع والنصب، ما لم يكن بدلا أو منسوقا عاريا من أل، فلهما تابعين مالهما مناديين، خلافا للمازني والكوفيين في تجويز نحو: يازيد وعمرا. ورفع المنسوق المقرون بأل راجح عند الخليل وسيبويه والمازني، ومرجوح عند أبي عمرو ويونس وعيسى والجرمي، والمبرد في نحو: الحارث، كالخليل. وفي نحو: الرجل، كأبي عمرو.
وإن أضيف تابع المنادى وجب نصبه مطلقا، ما لم يكن كالحسن الوجه، فله ما للحسن. ويمنع رفع النعت في نحو: يازيد صاحبنا، خلافا لابن الأنباري.
وتابع نعت المنادى محمول على اللفظ، وإن كان مع تابع المنادى ضمير جاء دالا على الغيبة باعتبار الأصل، وعلى الحضور باعتبار الحال.
والثاني في نحو: يازيد زيد، مضموم أو مرفوع أو منصوب. والأول في نحو: يا تيم تيم عدي، مضموم أو منصوب، والثاني منصوب لا غير.
ش: قد تقدم الكلام على إتباع أي واسم الإشارة، فلذلك استثنيتهما الآن، وقد تقدم أيضا أن نداء المفرد المعرفة يحدث فيه بناء على ضمة ظاهرة أو مقدرة، أو على ألف، أو على واو، فهو بذلك مرفوع، فلذلك قلت الآن: من منادى كمرفوع، فعممت بالتابع النعت والتوكيد وعطف البيان والبدل والمعطوف عطف النسق، ثم استثنيت البدل كله، والمنسوق العاري من أل، وبينت أن لهما في التابعية مالهما في حال الاستقلال بالنداء، فيقال فيهما: يا غلامُ زيدُ، ويا بشرُ وعمرُو، فتبنى زيدا في بدليته، وعمرا في عطفه كما كنت تبنيهما لو ناديتهما، وكذا تفعل بهما
بعد المنصوب، وإنما توخى ذلك لأنه نوى قبل كل واحد منهما حرف نداء معاد، فالعامل قد يعاد مع كل واحد منهما توكيدا دون غيرهما. وكذلك لما كان المعطوف المقرون بأل لا يصلح أن ينوى قبله حرف نداء أجيز فيه ما أجيز في التوكيد والنعت وعطف البيان من الرفع والنصب، فلو كان متبوع شيء منها مضافا لزم التوافق في النصب، قال سيبويه: قلت – يعني الخليل -: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا، قال: عطفوه على المنصوب فصار مثله، وهو الأصل. وقد قال قوم: يا أخانا زيدُ، وهو قول أهل المدينة، هذا بمنزلة قولنا: يازيد، كما كان قوله: يازيد أخانا، بمنزلة: ياأخانا، ويأأخانا زيد، الكثير في كلام العرب.
وأجاز المازني والكوفيون إجراء المنسوق العاري من أل مجرى المقرون بها، فيقولون: يازيد وعمرا وعمرو، كما يقال بإجماع: يازيد والحارثُ والحارثَ. وما رواه غير بعيد من الصحة إذا لم تنو إعادة حرف النداء، فإن المتكلم قد يقصد إيقاع نداء واحد على الاسمين، كما يقصد تشريكهما في عامل واحد نحو: حسبت زيدا وعمرا حاضرين، وكأن خالدا وسعدا أسدان. ويجوز عندي أن يعتبر في البدل حالان: حال يجعل فيهما كمستقل وهو الكثير، كقولي فيما تقدم: يا غلام زيدُ. وحال يعطى فيها الرفع والنصب لشبهه فيها بالتوكيد والنعت وعطف البيان وعطف النسق المقرون بأل في عدم الصحة لتقدير حرف نداء قبله، نحو: ياتيم الرجال والنساء.
وصحة هذه المسألة مرتبة على أن العامل في المبدل منه عامل البدل، وقد بينت ذلك في باب البدل بأكمل تبيين.
ولغير البدل والمنسوق العاري من أل إذا كان مفردا تبع منادى كمرفوع الرفع حملا على اللفظ، والنصب حملا على الموضع. فيقال في النعت: يازيدُ الظريفُ والظريفَ. وفي التوكيد: يا تيم أجمعون وأجمعين. وفي عطف البيان: يا غلامُ بشرٌ وبشرا. وفي عطف المقرون بأل: يازيد والنضرُ والنضرَ، ونصب المقرون بأل أجود من رفعه عند أبي عمرو ويونس وعيسى وأبي عمر الجرمي، وفرق المبرد بين ما أثرت الألف واللام فيه
كالرجل، وبين مالم تؤثر فيه كالحارث. ورجح النصب على الرفع في نحو الرجل لشبهه بالمضاف في تأثره بما اتصل به، ورجح الرفع على النصب في نحو الحارث لشبهه بالمجرد في عدم التأثر.
ويجب نصب التابع المضاف منصوبا كان متبوعه أو غير منصوب، ما لم تكن إضافته لفظية مع اقترانه بالألف واللام نحو: يا زيد الحسن الوجه، فيجوز فيه الرفع والنصب، كما يجوز فيه لو لم يضف، لأن إضافته في نية الانفصال، ولذلك لم تمنع من وجود الألف واللام.
وأجاز أبو بكر بن الأنباري أن يرفع نعت المنادى المضموم إذا كان مضافا، نحو: يازيد صاحبنا. وهو غير جائز لاستلزامه تفضيل فرع على الأصل، وذلك أن المضاف لو كان منادى لم يكن بد من نصبه، فلو جوز رفع نعته مضافا لزم إعطاء المضاف في التبعية تفضيلا على المضاف في الاستقلال، قال سيبويه: قلت – يعني الخليل – أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيد أخا ورقاء
لأي شيء لم يجز فيه الرفع كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه.
قلت: فقد تضمن كلام سيبويه أن "أخا ورقاء" منصوب عند العرب كلهم، وأنه لم يجز فيه الرفع.
وإذا نُعت نَعْتُ المنادى لم يكن بد من الحمل على اللفظ نحو: يازيد الطويل الجسيم، نعتا للطويل تعين رفعه، ولو كان مضافا. وإن جعلته نعتا لزيد جاز رفعه ونصبه، لأن لزيد محلا من الإعراب يخالف لفظه، وليس للطويل محل يخالف لفظه.
وتقول: يازيد نفسك، ونفسه. وياتيم كلكم، وكلهم، فتجيء بضمير يشعر بالحضور الذي تجدد بالنداء، كأنك قلت: أدعوك نفسك، وأناديكم كلكم.
وتجيء بضمير يشعر بالغيبة التي كانت قبل عروض النداء، كأنك قلت: أدعو زيدا نفسه، وأنادي تميما كلهم.
وإذا كررت منادى مفردا نحو: يازيد زيد، فلك أن تضم الثاني وأن ترفعه وأن تنصبه، فالضم على تقدير: يازيد يازيد، ثم حذف حرف النداء، وبقي المنادى على ما كان عليه. والرفع على أنه عطف بيان على اللفظ. والنصب على أنه عطف بيان على الموضع.
وأن يكون: يازيد زيد، على نداءين هو رأي سيبويه، فإنه قال: وتقول: يازيد زيد الطويل. وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول: يازيد زيدا الطويل. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يازيد الطويلُ"، فصرح بأنه على نداءين مؤكد أولهما بثانيهما توكيدا لفظيا. وأكثر النحويين يجعلون الثاني في نحو: يازيد زيد بدلا، وذلك عندي غير صحيح، لأن حق البدل أن يغاير المبدل منه بوجه ما، إذ لا معنى لإبدال الشيء من نفسه، ولذلك قال ابن جني بعد ذكر قراءة يعقوب: (كلُّ أمة تدعى) بالنصب، (كل أمة تدعى) بدل من "كل أمة جاثية" وجاز إبدال الثانية من الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى، لأن جثوها ليس فيه شيء من شرح حال الجثو، والثانية فيها ذكر السبب الداعي إلى جثوها، وهو دعاؤها إلى ما في كتابها، فهي الشرح من الأولى، فلذلك أفاد إبدالها منها. فصرح بما يقتضي أن الثانية من نحو: يازيد زيد، لا يكون بدلا إلا بضميمة تصيره كالمغاير، نحو أن يقال: يازيد زيد الطويل، على أن اختيار سيبويه في: يازيد زيد الطويل، مع وجدان الضميم التوكيد لا الإبدال. فإذا لم يوجد ضميم قوي داعي التوكيد، ولم يُعدل عنه. وروى قول رؤبة:
إني وأسطارٍ سُطِرْن سَطْرا
…
لقائل يانصرُ نصر نصرا
بضم الثاني دون تنوين، وبضمه وتنوينه، وبنصبه. فالضم دون تنوين على أنه منادى ثان كما ذكرت، والضم مع التنوين على أنه عطف بيان على اللفظ، والنصب على أنه عطف بيان على الموضع.
وإذا كررت منادى مضافا، وكررت المضاف إليه فلا إشكال، نحو: ياتيم عدي تيم عدي، فهذا توكيد محض. وإذا كررت المضاف وحده فلك أن تضم الأول على أنه منادى مفرد، وتنصب الثاني على أنه منادى مضاف مستأنف، أو منصوب بإضمار أعني، أو على أنه توكيد أو عطف بيان أو بدل.
ولك أن تنصب الأول على نية الإضافة إلى مثل ما أضيف إليه الثاني وتجعل الثاني توكيدا أو عطفا أو بدلا.
ولك أن تجعل الأول والثاني اسما واحدا بالتركيب كما فعل في نحو: ألا ماء ماء باردا، وكما فعل بالموصوف والصفة في نحو: يا زيد بن عمرو، وفي نحو: لا رجل ظريف فيها.
ولك أن تنوي إضافة الأول إلى الثالث، وتجعل الثاني مقحما، وهو مذهب سيبويه.
ص: حال المضاف إلى الياء إن أضيف إليه منادى كحاله إن أضيف إليه غيره، إلا الأم والعم المضاف إليهما ابن، فاستعمالهما غالبا بفتح الميم أو كسرها دون ياء، وربما ثبتت أو قلبت ألفا.
وتاء "يا أبت" عوض من ياء المتكلم. وكسرها أكثر من فتحها، وجعلها هاء في الخط والوقف جائز.
ش: قد تقدم في باب الإضافة تبيين حال المضاف إلى الياء إذا كان منادى ببسط واستيفاء، فأغنى ذلك عن التكلم فيه الآن.
وتكلم في المنادى المضاف إلى مضاف إلى الياء فبين أن المضاف إليها مع إضافة
منادى إليه، كالمضاف إليها مع إضافة غير منادى إليه، واستثنى "أم وعم" مضافا إليهما ابن فيقال: يابن أخي، ويابن خالي. كما يقال: هذا ابن أخي، وذلك ابن خالي، وللياء في الحالين السكون والفتح باستحسان، ومن فتح ما قبلها مبدلة ألفا، ومحذوفة بشذوذ، ما نسبه إليها في باب الإضافة.
وإذا كان المضاف إلى الياء أما أو عما حذفت وأبقى كسر ما قبلها أو فتح، وهما لغتان فصيحتان، ومنه قوله تعالى:(قال ابنَ أمَّ إن القوم استضعفوني) و: (قال يابنَ أمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قرأهما بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص، وقرأهما بالكسر ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي، والأصل: يابن أمي، ويابن أما، بإبدال الياء ألفا، لكن التزم غالبا لكثرة الاستعمال حذف حرف اللين، وربما ثبتا، فمن ثبوت الياء قول الشاعر:
يابنَ أمِّي ولو شهدتُك إذْ تد
…
عُو تميما وأنت غيرُ مجاب
لشَدَدْتُ من ورائك حتى
…
تبلغ الرحب أو تبز ثيابي
ومثله:
يابنَ أمِّي وياشُقَيِّقَ نفسي
…
أنت خلّفْتني لدهرٍ شديد
ومن ثبوت الألف قول الآخر:
كنْ لي لا عليّ يابن عمّا
…
نَدُم عزيزين ونُكْفَ الذمّا
وقالوا في: ياأبي، وياأمي: ياأبتِ، وياأمتِ، وياأبتْ، وياأمتْ، فجعلوا التاء عوضا من الياء ولذلك لم يجتمعا إلا في الضرورة، كقول الشاعر:
فيا أبتا لا تزلْ عندنا
…
فإنا نخافُ بأن تُخْتَرم
ومثله:
أيا أبتا لا زلْت فينا فإنما
…
لنا أملٌ في العيش ما دُمْتَ عائشا
قال أبو الفتح في المحتسب: قال أبو جعفر: (يا حَسْرتاي) فجمع بين العوض والمعوض منه، لأن الألف عوض من ياء المتكلم، وجعل من ذلك: ياأبتا، لأن التاء عوض من ياء المتكلم.
قلت: وقالوا في: ياأبا، المقصور: ياأبات، ومنه قول الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتْني شاحبا
…
كأنك فينا ياأبات غريبُ
ولو لم يعوض لقال: يا أباي، كما يقال: يا فتاي.
وكتابة هذه التاء تاء أولى من كتابتها هاء، ولذلك لم تكتب في المصحف إلا تاء، وبمراعاة رسم المصحف قرأ نافع وأبو عمرو والكوفيون، فوقفوا عليها تاء، ووقف ابن كثير وابن عامر بإبدالها هاء، وكلا الوجهين صحيح فصيح.
ص: يقال للمنادى غير المصرح باسمه في التذكير: ياهنُ، وياهنان، وياهنون. وفي التأنيث: يا هنْتُ، ويا هَنْتان، ويا هنات. وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب، ومنه: يا هناه بالكسر والضم، وليست الهاء بدلا من اللام خلافا لأكثر البصريين.
ش: قال أبو حاتم: تقول في نداء المذكر: يا هنُ، ويا هنان، ويا هنون. وفي نداء المؤنث: يا هنْت، ويا هنْتان، بسكون ما قبل التاء، ويا هنات. ومن العرب من يقول: يا هناه، ويا هنانَيْه، ويا هنوناه، ويا هنتاه، ويا هنتانيه، ويا هناتوه.
وفي المضاف إلى الياء: يا هن، ويا هني، ويا هنّي، ويا هنت، ويا هنْتا،
ويا هنات، بلا ياء فيه وفي المفردين. هذا حاصل كلام أبي حاتم الذي عزاه له أبو علي القالي في الأمالي.
وإلى قول بعض العرب: يا هناه، إلى: يا هناتوه أشرت بقولي: "وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب" ثم قلت: ومنه يا هناه، بالكسر والضم، والأصل السكون لأنها هاء السكت، لكنها أجري الوصل بها وبأشباهها مجرى الوقف في الثبوت، فحركت لسكونها في الأصل، وسكون ما قبلها، فمن حركها بالضم شبهها بهاء الضمير، ومن حركها بالكسر فعلى أصل التقاء الساكنين، وفي كسرها حجة بينة على أنها هاء سكت، لا بدل من لام الكلمة، واستدل ابن السراج على من زعم أنها بدل من اللام بأن العرب لم تقل في تثنيته إلا يا هنان، ولو كانت بدلا لقيل: يا هناهان. وفي هذا الاستدلال ضعف، لأن العرب قد تستغني فيما فيه لغتان بتثنية أخصر اللفظين، كقولهم في تثنية سواء سيان. وإنما الاستدلال القوي على أنها ليست بدلا من اللام، بل هاء سكت، بأن جوز كسرها، كما جوز الكسر في غيرها من هاءات السكت المسبوقة بألف، كقول الراجز:
ياربِ ياربّاه إياكَ أسَلَ
…
عَفراء ياربّاه من قبل الأجل
روي بكسر الهاء وضمها، وقال الفراء: يقال: ياحسرتاه، بكسر الهاء وضمها، والكسر أكثر.