الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إعمال المصدر
ص: يعمل المصدر مظهرا مكبّرا غير محدود ولا منعوت قبل تمامه، والغالب إن لم يكن بدلا من اللفظ بفعله تقديره بعد أن المخففة أو المصدرية أو ما أختها. ولا يلزم ذكر مرفوعه.
عمل المصدر عمل الفعل، لأنه أصل والفعل فرعه، فلم يتقيد عمله بزمان دون زمان بل يعمل عمل الماضي والحاضر والمستقبل، لأنه أصل لكل واحد منها، بخلاف اسم الفاعل فإنه عمل للشبه، فتقيد عمله بما هو شبهه وهو المضارع. وكما ترتب عمل المصدر على الأصالة اشترط في كونه عاملا بقاؤه على صيغته الأصلية التي اشتق منها الفعل، فلزم من ذلك ألا يعمل إذا غيّر لفظه بإضمار، ولا بردّه إلى فَعْلة قصدا للتوحيد، ولا تبعية قبل تمام مطلوبه، فلا يقال مرورك بزيد حسن وهو بعمرو قبيح فيعلق المجرور بهو، لكونه ضمير المرور، فإنه مباين للصيغة التي هي أصل الفعل. وقد شذ مثل هذا في قول زهير:
وما الحربُ إلّا ما علمتُم وذُقْتُم
…
وما هو عنها بالحديث المرجَّم
فهو ضمير الحديث وعن متعلقه به. وقد يتخرج هذا على أن يكون التقدير وما هو الحديث عنها فيتعلق "عن" بالحديث، ويجعل الحديث بدلا من هو، ثم حذف الأول وترك المتعلق به دالّا عليه. ولا يخفى ما في هذا التقدير من التكلف، مع أن البدل هو المقصود بالنسبة ولا يذكر متبوعه غالبا إلا توطئة له.
ولا يعمل المصغر فلا يقال عرفت ضريبك زيدا ونحوه، لأن التصغير يزيل المصدر عن الصيغة التي هي أصل الفعل زوالا يلزم منه نقص المعنى بخلاف الجمع فإن
صيغته وإن زال معها الصيغة الأصلية فإن المعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية، لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكررا بعطف، فلذلك منع التصغير إعمال المصدر وإعمال اسم الفاعل، ولم يمنع الجمع إعمال المصدر ولا إعمال اسم الفاعل، لأن إعمال اسم الفاعل كثير. فكثرت شواهد إعماله مجموعا، وجمع المصدر قليل فقلت شواهد إعماله مجموعا، فمنها قول علقمة:
وقد وعدتْكَ موعدًا لو وَفَتْ به
…
مواعِدَ عُرقُوب أخاه بيَثْرب
فنصب أخاه بمواعد وهي جمع موعد بمعنى وعد. ويروى: كموعودٍ عرقوب أخاه. وموعود هذا أحد المصادر الجائية على وزن مفعول. ويروى: مواعيد، على أنه جمع ميعاد بمعنى وعد. ومنه قول العرب: تركته بملاحس البقر أولادها، أي بموضع ملاحس، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والملاحس جمع ملحس بمعنى لحس. ومنها قول ابن الزبير الأسدي:
كأنك لم تُنْبأ ولم تكُ شاهدا
…
بلائي وكرّاتي الصَّنيعَ ببَيْطَرا
ومنه قول أعشى قيس، يمدح هوذة بن علي الحنفي:
قد حمّلوه فتيَّ السنّ ما حملتْ
…
ساداتُهم فأطاقَ الحملَ واضْطَلعا
وجرّبوه فما زادتْ تجاربُهم
…
أبا قدامةَ إلّا الحزمَ والفَنَعا
وله أيضا:
إنّ عداتِك إيّانا لآتيةٌ
…
حقّا وطيّبةٌ ما نفسٌ بموعود
ولا يعمل المحدود، وهو المردود إلى فَعْلة قصدا للتوحيد والدلالة على المرة، لأنه غيّر عن الصيغة التي اشتق منها الفعل، فلا يقال عرفت ضربتك زيدا، ونحو ذلك.
فإن روى مثله عمن يوثق بعربيته حُكم بشذوذه ولم يُقَس عليه، فمن ذلك ما أنشد الفارسي في التذكرة من قول الشاعر:
يحايى بها الجلدُ الذي هو حازِمٌ
…
بضَرْبة كفّيه المَلا نفسَ راكب
يريد يحيى الجلد الحازم نفس راكب، بأن تضرب كفّاه الملا متيمما مؤثِرا بما عنده من الماء راكبا كاد يموت عطشا. وقد اجتمع في قول ابن الزبير:
ولم تك شاهدا
…
بلائي وكراتي الصنيع
…
شاهد على إعمال المجموع، وشاهد على إعمال المحدود، لأن الكرات جمع كرّة. وقد نصب به الصنيع فواحده أحق بذلك، لأن الواحد أقرب إلى اللفظ الأصلي وهو الكرّ. ومن إعمال المحدود قول كثير:
وأجمعُ هِجْرانا لأسماءَ إنْ دَنَتْ
…
بها الدارُ لا مِن زَهدتٍ في وصالها
فلو كان "فَعْلة" مصدرا غير مقصود بهائه التحديد كرهْبة ساوى العاري منها في صحة العمل. فمن ذلك قول الشاعر:
فلولا رجاءُ النَّصْر منك ورَهبةٌ
…
عقابَكَ قد كانوا لنا كالمَوارد
ولا يتقدم نعت المصدر على معموله فلا يقال عرفت سوقك العنيف الإبل، لأن معمول المصدر منه بمنزلة الصلة من الموصول، فلا يتقدم نعت المصدر على معموله، كما لا يتقدم نعت الموصول على صلته، فإن ورد ما يوهم خلاف ذلك قدر فعل بعد
النعت يتعلق به المعمول المتأخر. فمن ذلك قول الحطيئة:
أزمَعْتُ يأسًا مُبِينا من نَوالكم
…
ولنْ ترى طارِدًا للحُرِّ كاليأسِ
فالمتبادر إلى فهم سامع هذا البيت تعليق من نوالكم بيأسا، وهو غير جائز كما ذكرت، بل يتعلق بيئست مضمرا فلو أخّر النعت وقدّم المعمول لم يمتنع كقول الشاعر:
إنَّ وجدِي بك الشديدَ أراني
…
عاذِرًا مَن عَهِدْتُ فيك عَذُولا
ونبهت بقولي "عمل فعله" على أن المصدر العامل يرفع الفاعل [نحو] عظم نفع الحليم حلمه. والنائب عن الفاعل نحو سرني إعطاء الدنانير الفقير، واسم كان نحو من نعم الله كون المقهور عدوّنا، وكون عدوّنا المقهور، والكون عدوّنا المقهور. ويفهم من ذلك أنه يتعدى إلى غير المرفوع على حسب تعدّي فعله نحو عرفت مرورك بزيد، وقدومك على عمرو، وطلبك العلم، وإعطاءك الفقير درهما، وإعلامك خالدا جعفرا مقيما. وشرطت في ذلك تقديره بفعله وبأنْ الخفيفة أو أنْ المصدرية أو ما أختها، احترازا من المصدر المؤكد والمبين الهيئة.
ومثال المقدر بأن المخففة علمت ضربك زيدا، فتقديره: علمت أنْ قد ضربت زيدا، فأنْ هذه المخففة من أنّ لأنها بعد علمٍ، وهو موضع مخصوص بالمخففة غير صالح للمصدرية، كقوله تعالى (عَلِم أنْ سيكون) و (أفلا يرون ألّا يرجعُ). ومثال المقدر بأن المصدرية قوله تعالى (ولولا دفاعُ اللهِ الناسَ بعضَهم
ببعْض) وقول القائل: أرجو نصر الله للمسلمين، وخذلانه للكافرين. وكذا كل مصدر وقع بعد لولا أو بعد فعل إرادة أو كراهة، أو خوف أو طمع أو شبه ذلك، ولا يكون المقدر بهذه إلا ماضي المعنى كقوله:
أمِن بعدِ رمي الغانياتِ فُؤادَه
…
بأسْهُم ألحاظٍ يُلام على الوجد
أو مستقبل المعنى كقول الفرزدق:
فرُم بيَدَيْكَ هل نسطيع نَقْلًا
…
جبالًا من تِهامةَ راسيات
وأما المقدر بأن المخففة فيجوز مضيه وحضوره واستقباله، وكذا المقدر بما المصدرية، فمضيّ المقدر بأنْ المخففة كقول الشاعر:
علمتُ بَسْطَك بالمعروف خيرَ يدٍ
…
فلا أرى فيكَ إلّا باسِطًا أمَلا
وحضوره كقول الراجز:
لو عملتْ إيثارِيَ الذي هَوَتْ
…
ما كنتُ منها مُشْفِيا على القَلْت
واستقباله كقول الشاعر:
لو علِمنا إخْلافكم عدةَ السَّلـ
…
ـم عَدِمتُم على النَّجاة مُعينا
ومضى المقدر بما المصدرية كقول الله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم) وكقول الشاعر:
وعذَّبَهُ الهوى حتّى براهُ
…
كبَرْيِ القَيْنِ بالسَّفَن القِداحا
وكقول الآخر:
مُدْمنُ البَغْي سوفَ يأخذُه با
…
ريه أخْذَه لثمود وعادا
وحضوره كقوله تعالى (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) وكقول الفرزدق:
وَدَدْتُ على حُبّي الحياةَ لو انَّها
…
يُزادُ لها في عُمْرها من حَياتيا
واستقباله كقول الشاعر:
ومَن يَمُتْ وهْو لم يُؤمِن يَصْلَ غدا
…
شُواظَ نارٍ دوامَ النارِ في سَقَرا
وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاث شرطا في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك. ومن وقوعه غير مقدر بأحدها قول العرب: سمع أذني زيدا يقول ذلك. وقول أعرابي: اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لغى، وقول الشاعر:
عهدي بها الحيّ الجميعَ وفيهم
…
قبلَ التّفرقُ مَيْسرٌ ونِدام
وقول الراجز:
ورأيُ عَينيَّ الفتى أباكا
…
يُعطي الجزيلَ فعليكَ ذاكا
وقول الآخر:
لا رغبةٌ عمّا رغبْتِ فيه
…
منّي فانقُصيه أو زيديه
ومن أمثلة سيبويه: متى ظنك زيدا أميرا. وذكر سيبويه في باب من المصادر
يجرى مجرى الفعل المضارع عجبت من ضربٍ زيدٌ عمرا إذا كان هو الفاعل. ثم قال: كأنه قال: عجبت من أنه يضرب زيد عمرا. ولم يقدره في الباب بغير أن الثقيلة. وإذا ثبت أن عمل المصدر غير مشروط بتقدير حرف مصدري أمكن الاستغناء عن إضمار في نحو له صوت صوت حمار.
ونبهت بقولي "ولا يلزم ذكر مرفوعه" على أن المصدر الصالح للعمل قد يجاء به دون مرفوع ظاهر ولا مضمر ودون معمول آخر: وقد يجاء به دون مرفوع كائنا معه معمول آخر. فالجائي دون مرفوع ولا غيره نحو (ولا يرضى لعباده الكفرَ) والكائن معه معمول لا مرفوع معه نحو (فكُّ رقبةٍ * أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ * يتيمًا) وخصصت المرفوع بجواز الاستغناء عنه مع المصدر، لأن الاستغناء عن غير المرفوع جائز مع كل عامل ليس من النواسخ. وقلت بدل ولا يلزم ذكر فاعله: ولا يلزم ذكر مرفوعه لأعم الفاعل ونائبه واسم كان. وقد تقدم من قولي بيان أن مرفوع المصدر قد يكون نائب فاعل نحو سرني إعطاء الدينار الفقير، واسم كان نحو: من نعم الله كون المقهور عدوّنا. وجاز أن يستغنى عن مرفوع المصدر دون مرفوع الفعل وما أشبهه مما ليس مصدرا لأن الفعل لو ذكر دون مرفوع لكان حديثا عن غير محدث عنه، وكذا ما يعمل عمله من صفة أو اسم فعل، فإنه لا يعمل إلا وهو بنفسه واقع موقع الفعل، ومؤدّ معناه فاستحق ما يستحقه الفعل من مرفوع يحدّث به عنه ظاهرا أو مضمرا. فلو خلا منه لكان في تقدير فعل خلا من مرفوع، وليس كذلك المصدر، لأنه إذا عمل العمل المنسوب إليه بإجماع لم يكن إلا في موضع غير صالح للفعل فجرى مجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمل الضمير. وجاز أن يرفع ظاهرا لكونه أصلا لما لا يستغنى عن مرفوع به، وبسبب اقتضائه الرفع عدمت في غير ندور مصاحبته مرفوعا إن لم يكن مضافا. وقلت إن كان مضافا
حتى قال بعض النحويين إنها لا تجوز إلا في الشعر، والصحيح جوازها مطلقا لكن استعمالها في النثر قليل. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام على خمس: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" فمَن في موضع رفع فاعلا بحجّ البيت. والتقدير: وأن يحج البيتَ من استطاع إليه سبيلا. وقلت في مصاحبة غير المضاف: "ومرفوعا دون ندور" احترازا من قول أبي العباس ثعلب: العرب تقول عجبت من قراءة في الحمام القرآنُ، أي من أن قُرئ.
ص: ومعموله كصلة في منع تقدمه وفصله. ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك أو يُعدّ نادرا.
ش: قد تقدم بيان كون المصدر العامل بإجماع مقدرا بحرف مصدري موصول بفعل، وأن ذلك التقدير غالب لا لازم، فاستحق بلزوم هذا التقدير أن يخالف معموله الصلة بجواز الاستغناء عنه، وأن يوافقها في منع التقدم والفصل. فلهذا قلت "ومعموله كصلة في منع تقديمه وفصله". ثم قلت "ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك، أو يعد نادرا" فنبهت بذلك على أنه قد يجيء ما قبل المصدر متعلقا به من جهة المعنى تعلق المعمول بالعامل، كقول تميم العجلاني:
لقد طالَ عن دَهماءَ لدِّي وعِذْرتي
…
وكِتمانُها أكْنِي بأُمِّ فلان
وكقول عمر بن أبي ربيعة:
ظنُّها بي ظنُّ سوءٍ كله
…
وبها ظنِّي عَفافٌ وكَرَم
وكقوله:
طال عن آلِ زينبَ الإعراضُ
…
للتعدِّي وما بنا الإبغاض
وكقول الآخر:
وبعضُ الحِلْم عند الجَهـ
…
ـلِ للذلة إذعانُ
فلنا في هذه أن نعلق ما تقدم بمصدر آخر محذوف لدلالة الموجود عليه، كأنه لدّى عن دهماء لدّى، وظني بها ظني، وطال الإعراض عن آل زينب الإعراض، وبعض الحلم إذعن للذلة إذعان.
ويكون هذا التقدير نظير قولهم في (وكانوا فيه من الزّاهدين) أن تقديره وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين. ونظير قولهم في:
أيْنما الريحُ تُميّلْها تَمِلْ
أن تقديره: أينما تميلها الريح تميلها تمل. ولنا أن نجعل ما تقدم متعلقا بنفس المصدر الموجود، إمّا على نية التقديم والتأخير، وإما على أن ذلك استبيح في المصدر وإن لم يستبح مثله في الموصول المحض، كما استبيح استغناؤه عن معمول لا دليل عليه، وإن لم يستبح مثله في صلة الموصول. وهكذا يفعل فيما أوهم الفصل كقوله تعالى (إنّه على رجْعِه لقادرٌ * يومَ تُبلى السرائرُ) فإن ظاهره أن "يوم "منصوب برجعه، ولا يجوز ذلك لاستلزامه الفصل بخبر إنّ الذي هو لقادر، فالمخلص من ذلك أن ينصب (يوم تبلى السرائر) بعامل مقدر مدلول عليه برجعه، كأنه قيل يرجعه يوم تبلى السرائر. ومما يوهم الفصل قول الشاعر:
وهنَّ وقوفٌ ينتظِرْنَ قضاءَه
…
بضاحي عَذاة أمرَه وهو ضامِزُ
فقد يظن أن بضاحي عذاة متعلق بينتظرن، وقد فصل بين قضائه وأمره وليس كذلك، بل الواجب أن يجعل قضاؤه متعلقا به الجار والمجرور فلا يكون بينه وبين منصوبه فصل بأجنبي. ومثل هذا قول الآخر:
ليت شِعْري إذا القيامةُ قامتْ
…
ودعا بالحِساب أيْنَ المصيرا
أنشده الشجري وجعل التقدير المصير أين هو فحذف المبتدأ وفصل المصدر بما عمل فيه، وأسهل من هذا أن يكون التقدير أين يصير المصير أو أين هو أعني المصير.
ص: وإعماله مضافا أكثر من إعماله منونا، وإعماله منونا أكثر من إعماله مقرونا بالألف واللام. ويضاف إلى المرفوع والمنصوب، ثم يستوفي العمل كما كان يستوفيه الفعل، ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالبا. وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنوّن.
ش: المصدر الذي نحن بصدده مضاف أو منون تنوينا ظاهرا أو مقدرا، أو مقرون بالألف واللام نحو: عرفت ضربك زيدا، وشتما عمرا، والإكرام خالدا. وإعمال المضاف أكثر من إعمال غير المضاف، لأن الغضافة تجعل المضاف إليه كجزء من المضاف، كما يجعل الإسناد الفاعل كجزء من الفعل، ويجعل المضاف كالفعل في عدم قبول التنوين والألف واللام، فقويت بها مناسبة المصدر الفعل، فكان إعماله أكثر من إعمال عادم الإضافة، وهو المنوّن والمقترن بالألف واللام، إلا أن في المنون شبها بالفعل المؤكد بالنون الخفيفة، استحق به أن يكون أكثر إعمالا من المقترن بالألف واللام.
ومن إعمال المنون قراءة نافع وابن عباس وعاصم وحمزة (فكّ رقبة * أو إطعام
في يوم ذي مسغبة * يتيما)، وقراءة أبي بكر بن عاصم (بزينةٍ الكواكب).
أي بتزيين الكواكب ويجوز أن يكون منه (ويعبدون من دون الله ما لا يملكُ لهم رزقا من السموات والأرض شيئا) ومنه قول زياد الأعجم:
ببَذْلٍ في الأمورِ وصِدْقِ بأسٍ
…
وإعطاءٍ على العِلَلِ المتاعا
وقول الفرزدق:
فَرُم بيَدَيْكَ هل تسطيع نقلا
…
جبالًا من تهامةَ راسيات
ولم يجئ إعمال المقترن بالألف واللام إلا في موضع محتمل وهو قوله تعالى (لا يُحب اللهُ الجهرَ بالسُّوء من القول إلّا مَن ظُلِمَ) فيحتمل أن يكون "مَن" في موضع رفع بالجهر على تقدير لا يحب الله أن يجاهر بالسوء من القول إلا مَن ظلم، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم قبل "إلا" وتكون في موضع نصب على الاستثناء. ومما جاء في الشعر قول الشاعر:
لقد علمتْ أُولى المغيرة أنَّني
…
كَرَرْتُ فلم أنكُلْ عن الضَّرْبِ مسْمِعا
ومنه:
ضعيفُ النِكايةِ أعداءَه
…
يخالُ الفِرارَ يُراخي الأجل
ومن النحويين من يزعم أن العمل بعد المقترن بالألف واللام بفعل مضمر،
فيقدر في الأول ضربت مسمعا – وهو اسم رجل – ويقدر في الثاني ينكى أعداءه، وهذا مع ما فيه من التكلف مردود بإتيان النصب في مواضع لا يصلح فيها إتيان فعل، كقول كثير:
تلومُ امرأ في عنفوانِ شبابِه
…
وللتَّرْكِ أشياعَ الضَّلالة حينُ
وكقول الآخر:
فإنكَ والتأبينَ عُرْوَةَ بعدَما
…
دعاكَ وأيْدينا إليه شوارعُ
لكا لرجُل الحادي وقد تَلَعَ الضُّحى
…
وطيرُ المنايا فوقهنّ أواقِع
ونبهت بقولي "ومضاف إلى المرفوع أو المنصوب، ثم يستوفي العمل، كما كان يستوفيه الفعل" على أنه إذا أضيف المصدر إلى مرفوع كان في الأصل مبتدأ لم يجز حذف المنصوب كما لم يجز حذفه مع الفعل نحو: عرفت كون زيد صديقك. وكذا إذا أضيف إلى منصوب هو في الأصل مبتدأ أو خبر لا يجوز الاكتفاء به، بل لا بد من ذكر الجزء الثاني، كما كان مع الفعل. وذلك قولك عرفت كون صديقك زيد، وتبيّنت ظنّ عمرو عدوّك، فيمتنع حذف ما بعد المجرور في ذا وأمثاله، كما يمتنع مع الفعل، لأنه خبر ومخبر عنه، وإن لم يكن المنصوب بعد الإضافة خبرا ولا مخبرا، فحذفه جائز، كما كان في الفعل نحو (فاستبْشِروا بِبَيْعِكم)(وما كان استغفارُ إبراهيمَ)(وكذلكَ أخذُ ربّكَ إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ إنّ أخذَه أليمٌ شديدٌ)(وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم)(ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون بنصر الله).
ونبهت بقولي "ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالبا" على أن ذكر الفاعل مرفوعا بعد إضافة المصدر إلى المفعول به أقل من الاستغناء عنه، ولذا لم يجئ في القرآن رفعه بعد الإضافة إلا في رواية يحيى بن الحارث عن ابن عامر أنه قرأ (ذكرُ رحمت ربك عبده زكريا) بضم الدال والهمزة، وجاء الاستغناء عنه كثيرا نحو (وهو مُحرَّمٌ عليكم إخراجُهم)(وإنْ أردتم استبدال زوج)(ولا تَهنوا في ابتغاء القوم)(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)(لقد ظلمك بسؤال نعجتك).
ومن ذكر الفاعل مرفوعا بعد الإضافة إلى المنصوب به قول النبي صلى الله عليه وسلم في المباني "وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" فمَن في موضع رفع بحجّ. ويمكن أن يكون مثله (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا) على تقدير: ولله على الناس أن يحج البيت من استطاع، والمشهور جعل "مَن" بدلا من الناس. ومِن رفع المصدر الفاعل بعد الإضافة قول الشاعر:
ألا إنّ ظلم نفسِه المرءُ بيّنٌ
…
إذا لم يَصُنْها عن هوًى يَغْلِبُ العقلا
ومثله:
أمِن رسمِ دارٍ مربعٌ ومَصيفُ
…
لعينيْك من ماء الشُّئونِ وكيفُ
ومثله:
ردّ إضناؤُك الغرامُ الذي كا
…
ن عذُولًا فمهَّدا لك عُذْرا
وأكثر استعمال المضاف مضافا إلى الفاعل ناصبا بعده المفعول به نحو (ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض)(وأخذِهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلِهم أموالَ الناسِ بالباطل)(لولا ينهاهم الرّبّانيّون والأحبارُ عن قولهم الإثمَ وأكلهم السُّحتَ).
ويضاف المصدر إلى الظرف كثيرا نحو (للذين يُؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر) و (فمَن لم يجدْ فصيامُ ثلاثة أيامٍ) و (فمَن لم يجد فصيامُ شهرين متتابعين)(بل مكرُ الليل والنهار). ويجوز أن يجاء معه بعد الإضافة بالفاعل والمفعول معطيَيْن الرفعَ والنصب نحو عرفت انتظار يوم الجمعة زيد عمرا. ذكر ذلك سيبويه غير مستشهد بشيء. وإليه أشرت بقولي "ويضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون".
ص: ويتبع مجروره لفظا ومحلا، ما لم يمنع مانع، فإن كان مفعولا ليس بعده مرفوع بالمصدر جاز في تابعه الرفع والنصب والجر، ويعمل عمله اسمه غير العلم، وهو ما دلّ على معناه وخالفه بخلوه لفظا وتقديرا دون عوض من بعض ما في فعله. وإن وجد عمل بعدما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه، فهو لمدلول به عليه.
ش: المجرور بالمصدر المضاف إما مرفوع المحل وإما منصوبه، فلك فيما نعت به أو عطف عليه أن تجره حملا على اللفظ، وهو الأجود ما لم يعرض مانع. ولك أن تنصبه حملا على الموضع إن كان المجرور منصوب الموضع، وإن ترفعه إن كان المجرور مرفوع الموضع، فالجر مستغن عن شاهد، ومن شواهد الرفع قراءة الحسن (عليهم لعنة الله والملائكةِ والناسِ أجمعون) فهذا شاهد على رفع المعطوف، لكون المجرور فاعلا في المعنى ومثله قول الشاعر:
يالعنةُ الله والأقوام كلهم
…
والصالحون على سِمْعانَ مِن جار
ومن شواهد رفع النعت قول الشاعر:
لقد عجبتُ وما في الدهر من عَجَب
…
أنَّى قُتِلْتَ وأنتَ الحازمُ البطلُ
السالكُ الثغرةَ اليقظان سالِكها
…
مشى الهَلُوك عليها الخَيْعَلُ الفضُلُ
ومن شواهد نصب المعطوف لكون المجرور منصوب المحل قول الراجز:
قد كنتُ داينتُ بها حَسّانا
…
مخافةَ الإفْلاسِ والّليانا
ومثله:
هويتَ ثناءً مُستطابا مؤبَّدا
…
فلم تَخْلُ من تمهيد مجْدٍ وسُوددا
ومن شواهد نصب النعت لكون المجرور منصوب المحل قول الراجز:
ما جعلَ امرأ القومُ سَيِّدًا
…
إلّا اعتيادُ الخلُقِ المُمَجَّدا
ونبهت بقولي "فإن كان مفعولا ليس بعده مرفوع بالمصدر" على ثلاثة أوجه في تابع المجرور من نحو: "عرفت تطليق المرأة" في نعت المرأة والمعطوف عليها: الجر على اللفظ، والنصب على تقدير المصدر بفعل الفاعل، والرفع على تقديره بفعل ما لم يُسمَّ فاعله. وفي الحديث "أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين" على تقدير: أمر بأن يُقتل الأبتر وذو الطفيتين.
ونبهت بقولي "ويعمل عمله اسمه غير العلم" على أن من الأسماء ما يقال له "اسم مصدر" وأنه على ضربين: علم، وغير علم. فالعلم ما دل على معنى المصدر دلالة مغنية عن الألف واللام لتضمن الإشارة إلى حقيقة، كقول الشاعر:
فقلتُ أمْكُثِي حتى يسارِ لعلَّنا
…
نحجُّ معًا، قالت: أعامًا وقابِله
وكبرَّة، وفجار في قول الشاعر:
أنّا اقتسمْنا خُطّتَيْنا بيننا
…
فحملتُ بَرّةَ واحْتملتَ فجارِ
فهذه وأمثالها لا تعمل عمل الفعل، لأنها خالفت المصادر الأصلية، بكونها لا يقصد بها الشياع ولا تضاف ولا تقبل الألف واللام، ولا توصف، ولا تقع موقع
الفعل، ولا موقع ما يوصل بالفعل. ولذلك لم تقم مقام المصدر الأصلي في توكيد الفعل أو تبيين نوعه أو مرّاته.
والثاني من ضربي اسم المصدر ما ساواه في المعنى والشياع وقبول الألف واللام والإضافة والوقوع موقع الفعل، أو موقع ما يوصل بالفعل، وخالفه بخلوّه لفظا وتقديرا دون عوض من بعض ما في الفعل، كوضوء وغسل فإنهما مساويان للتوضؤ والاغتسال في المعنى والشياع وجميع ما نُفي عن العَلَم، وخالفه بخلوه دون عوض من بعض ما في فعليهما، وهما توضّأ واغتسل. وحق المصدر أن يتضمن حروف الفعل بمساواة كقولك توضأ توضؤًا، أو بزيادة عليه كأعلم إعلاما ودحرج دحرجة. وقلت لفظا وتقديرا احترازا من فِعال مصدر فاعل كقتال فإنه مصدر مع خلوه من المدّة الفاصلة بين فاء فعله وعينه، لأنها حذفت لفظا واكتفى بتقديرها بعد الكسرة. وقد تثبت فيقال قيتال. وقلت دون عوض احترازا من عدة، فإنه مصدر وعد مع خلوه من الواو، لأن التاء في آخره عوض منها، فكأنها باقية.
وكذا تعليم مصدر علّم مع خلوه من التضعيف، ولكن جعلنا التاء في أوله عوضا من التضعيف، فكأنه باق؛ ولذلك جيء بالمصدر مضعفا ككذّب كِذّابا، استغنى عن التاء ونسب التعويض إلى تاء تعليم، لأن ياءه مساوية لألف إكرام وإسماع وانطلاق واستخراج ونحوها م المزيدات التي قصد بها ترجيح لفظ المصدر على لفظ الفعل الزائد على ثلاثة أحرف دون حاجة إلى تعويض. ومن المحكوم بمصدريته مع خلوه من بعض حروف فعله كينونة فأصلة كيونونة ثم عومل معاملة ميّت وميْت، فحذفت عينه وعوض منها الياء والتاء. ومن المحكوم بمصدريته ثواب وعطاء أصلهما إثواب وإعطاء. فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والمصدرية باقية كطاعة وطاقة وجابة والأصل إطاعة وإطاقة وإجابة، لأنها مصادر أطاع وأطاق وأجاب، فحذفت الهمزة واكتفى بالتقدير.
هذه وأمثالها مصادر لقرب ما بينها وبين أصلها بخلاف ما بينه وبين الأصل بُعد وتفاوت كعون وعِشرة وكِبْر وعُمر وغرق وكلام، بالنسبة إلى إعانة ومعاشرة وتكبّر وتعمير وإغراق وتكليم. فهذه وأمثالها أسماء مصادر. وأما ما ليس فيه الإغرابة وزنه كدعابة ورعْيا وغلوّ فهو مصدر، وجعله اسم مصدر تحكم بغير دليل. ومن إعمال ثواب
قول حسان رضي الله عنه:
لأنّ ثوابَ الله كلَّ مُوَحَّد
…
جِنانٌ من الفردوس فيها يُخَلَّد
ومن إعمال عطاء قول القطامي:
أكفْرًا بعد ردّ الموتِ عنّي
…
وبعد عطائك المائةَ الرِتاعا
ومن إعمال اسم المصدر حديث الموطأ "من قُبْلة الرجلِ امرأتَه الوضوءُ". ومنه قول الشاعر:
إذا صحَّ عونُ الخالق المرءَ لم يَجدْ
…
عسيرا من الآمالِ إلّا ميسّرا
ومنه:
بعشْرتك الكرامَ تعدّ منهم
…
فلا تُرين لغيرهُم ألوفا
ومنه:
قالوا كلامُكَ دَعْدًا وهي مُصْغِيةٌ
…
يَشْفيك قلتُ صحيحٌ ذاك لو كانا
ولا يعمل ما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه. فإن وُجد بعد شيء منه عمل أضمر له عامل من معناه كقولك أعجبني دهن زيد لحيته، وكحل هند عينها، فقد روي مثل هذا عن العرب، وجعل النصب فيه بعامل مضمر، كأنه قيل دَهَن لحيته وكحلت عينها. ومنه – والله أعلم – قوله تعالى (ألم نَجعل الأرضَ كِفاتا * أحياءً وأمواتًا)، لأن الكفات هو ما تكفت فيه الأشياء، أي تجمع وتحفظ فكان ذكره منبها على فعله، أو ما هو بمنزلة فعله، كأنه قيل تكفت أحياء وأمواتا،
ولك أن تنصب أحياء وأمواتا على التمييز لأن كِفات الشيء مثل وعائه والموعى ينتصب بعد الوعاء على التمييز وأما قول الشاعر:
كأنَّ مَجرّ الرامِسات ذيُولَها
…
عليه قضيمٌ نمّقتْهُ الصَّوانِعُ
فيحتمل أن يكون من هذا. ويحتمل "المجرّ" موضع الجرّ، كأنه قال كأن مهب الرامسات جارّة ذيولها عليه قضيم، فحذف العامل وأخبر عن المجر بعليه قضيم. ويحتمل أن يكون المجر مصدرا والتقدير كأن موضع مجر الرامسات، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، وجاء الخبر على وفق المحذوف والعمل للمجر، لأنه بمنزلة الجرّ. ومثله.
كأنَّ مَجرةَ الأبطالِ نسْرًا
…
إلى أشبالِه حطبٌ رَفيت
أي مكسور. وأما قول الآخر يصف حمارا وأتنا:
فظَلت بملقَى واحفٍ جرع المِعى قيامًا تُقاسي مُصْلَخِمًّا أميرُها
تقديره فظلت بموضع ملقى واحف جرع المعى وهما موضعان، وملقى بمعنى لقاء، ولذلك عمل. ومثله من المصادر المبدوءة بميم مزيدة كثير. فما كان فعله ثلاثيا فميمه مفتوحة، وما كان من غير ثلاثي فميمه مضمومة، كأنه اسم مفعول لذلك الفعل، وهي في العمل كالمصادر الأُخَر. فمن ذلك إنشاد ثعلب:
أظلومُ إنَّ مُصابكم رجُلًا
…
أهْدى السلامَ تحيّةً ظُلْمُ
ومنها قول لقيط الإيادى.
يا دارَ ميّةَ من مُحْتلّها الجرَعا
…
هاجتْ لي الهمَّ والأحزانَ والوجَعا
ومنها إنشاد سيبويه لكعب بن زهير:
فلم يَجدوا إلّا مناخَ مطيّة
…
تجافى بها زَوْر نبيلٌ وكَلكلُ
ومَفحصَها عنها الحصا بجرانها
…
ومَشْيَ نواج لم يَخُنهُنَّ مَفْصِلُ
وسمرٌ ظباءٌ راسهنّ بُعيدما
…
مضتْ هجمةٌ من آخر الليلِ ذُجّلُ
ومثله قول الآخر:
مُستعانٌ العبدُ الإلةَ يُريه
…
كلّ مُستصْعب من الأمر هيْنا
فصل: ص: يجيء بعد المصدر الكائن بدلا من الفعل معمولٌ عاملُه على الأصح البدل لا المبدل منه وفاقا لسيبويه والأخفش.
ش: المصدر الكائن بدلا من الفعل الذي يمتنع أن يباشره عامل ظاهر، ويصلح في موضعه فعل عارٍ من حرف مصدري. وقد بينت في باب المفعول المطلق مواقعه، دون تعرض لتعدّيه. والغرض هنا بيان مواقعه متعديا، وأكثر وقوع المتعدي أمرا كقول الشاعر:
يَمرُّون بالدَّهْنا خفافًا عيابُهم
…
ويَخرجْنَ من دارين بُجْرَ الحقائب
على حين ألهى الناسَ جُلُّ أمورهم
…
فنَدْلا زُريقُ المالَ ندْل الثعالبِ
وكقول الآخر:
هجرًا المظهرَ الإخاءَ إذا لم
…
يكُ في النائبات جدَّ معينِ
وقد يجيء دعاء كقول الشاعر:
ياقابلَ التَّوْبِ غُفرانًا مآثم قدْ
…
أسْلَفْتُها أنا منها مُشْفِق وَجِلُ
ومثله:
إعانةَ العبدَ الضعيفَ على الذي
…
أمَرّت فمِيقاتُ الجزاءِ قريبُ
وقد يكون توبيخا بعد همزة الاستفهام كقول المرار الأسدي:
أعلاقةً أمَّ الوليد بعدما
…
أفنانُ رأسك كالثَّغام المُخْلِس
وكقول الآخر:
أبغْيا وظُلما مَن علمتم مُسالما
…
وذُلّا وخوفا مَن يُجاهركُم حرْبا
وكقوله:
أبسْطا بإطراري يمينا ومقْولًا
…
ومُدّعيا مجْدًا تليدا وسُوددا
وقد يكون توبيخا بغير استفهام، كقوله:
وِفاقا بني الأهواءِ والغيِّ والوَنى
…
وغيرُك مَعْنيٌّ بِكُلِّ جميل
ويكثر أيضا وقوعه بعد فعل خبري مقصود به الإنشاء كقول مَن أبصر ما يتعجب منه: عَجَبًا. وكقول المعترف بالنعمة: حَمْدا وشُكْرا لا جحودا ولا كُفْرا. ومنه قول الشاعر:
حمدًا اللهَ ذا الجلالِ وشُكْرا
…
وبِدارًا لأمْره وانقيادا
وقد يقع الخبر وعْدا كقوله:
قالت: نَعم وبُلوغًا بغيةً ومُنًى
…
فالصادقُ الحُبّ مبذولٌ له الأمَلُ
وهذه الأنواع عند أبي الحسن الأخفش وأبي زكريا الفراء مطردة صالحة للقياس على ما سُمع منها. وبذلك أقول لكثرته في كلام العرب، ولما في ذلك من الاختصار والإيجاز. وأكثر المتأخرين يزعمون أن سيبويه يقصرها كلها على السماع، وليس له نصّ على ذلك، بل في كلامه ما يشعر بأن ما كان منها أمرا أو دعاء أو توبيخا أو إنشاء مقيس. فمن كلامه المشعر بذلك قوله في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره "وذلك قولك سقيا ورعيا" ونحو قوله: خيبة ودَفْرا. ثم قال: "ومن ذلك قولك تعْسا وتبّا وجَدْعا ونحوه" ثم قال: "وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل".
فقوله: ومن ذلك قولك ولم يقل قولهم فيه إشعار بأنه موكول إلى القياس. وكذا قوْله: ومن ذلك قولك تعسا وتبّا وجَدْعا ونحوه، فأطلق القول بنحوه، فعلم أن مراده القياس وعدم التقييد بالمسموع. مع أن كلامه في جميع الباب موافقٌ لهذا المفهوم. ومثل هذا كلامه في باب ما ينتصب من المصادر في غير الدعاء على إضمار الفعل المتروك إظهاره نحو حمدا وشكرا لا كفرا. وقد نصّ سيبويه على أن باب تراك مقيس، فمن المستبعد ألا يكون عنده باب سقيا مقيسا، مع كون المصدر أصل الفعل وكثير المصاحبة له في توكيد وغيره، فأحق ما ينوب عن الشيء ما كثرت مصاحبته له وإن لم يكن أصله. فإذا ثبت الأصالة مع كثرة المصاحبة لزم الترجيح وكان إلغاؤه غير صحيح.
وأيضا فإن استعمال القياس في باب نزال يلزم منه استئناف عمل واستئناف
وضع. واستعمال القياس في المصدر المذكور يلزم منه استئناف عمل دون وضع. وقياس موضوع على موضوع أقرب وأنسب من قياس مهمل على موضوع. وأيضا فإن المصدر المتعدّي على الوجوه المذكورة وارد على أربعة أقسام: بمعنى الأمر كبَذْلًا المال، وبمعنى المضارع الحاضر نحو أعلاقة أمّ الوليد – وبمعنى المضارع المستقبل نحو – وبلوغا بغية ومنى- وبمعنى الماضي كقول الشاعر:
عَهْدي بها الحيَّ لم تَخْفُفْ نعامتُهم
ولم يرد اسم الفعل المتعدي إلا بمعنى الأمر فدل ذلك على رجحان عناية العرب بإقامة المصدر مقام الفعل على عنايتهم بإقامة اسم الفعل مقامه. والقياس على الراجح العناية أولى من القياس على المرجوحها. وصرّح سيبويه – رحمه الله بأن النصب بعد المصادر المذكورة بها أنفسها لا بالأفعال المضمرة. وأما الأخفش والفراء فمذهبهما في ذلك مشهور.
وذهب السيرافي – رحمه الله – إلى أن النصب بالأفعال المضمرة، ووافقه على ذلك كثير من النحويين، وليس بصحيح، ومن نصوص سيبويه قوله في الباب الذي ترجمته: هذا باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل: ومما يجرى مجرى فعل من المصدر قوله:
يمرون بالدهنا خفافا عيابهم
…
ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم
…
فندلا زريق المال ندل الثعالب
ثم قال سيبويه: وقال المرار الأسدي:
أعلاقة أم الوليد بعدما
…
أفنان رأسك كالثغام المخلس
وقال الشاعر:
بضَرْبٍ بالسيوف رُءوسَ قومٍ
…
أزَلْنا هامَهُنَّ عن المقيل
فجعل ندلًا وعلاقة مساويين لضرب بالسيوف، وكذلك ينبغي. بل إعمال ندلا وعلاقة وأشبهاهما أولى من إعمال ضرب وشبهه، لأن في: ندلا وعلاقة ما في ضرب من وجود أصالة الفعل، إلا أن ندلا وعلاقة واقعان موقع فعلين محضين، وبضرْب واقع موقع حرف وفعل. ونسبة العمل إلى ما هو بمعنى ما هو العامل نفسه أولى من نسبته إلى ما هو بمعنى جزءين أحدهما عامل والآخر جزء غير عامل. ولا يمنع من ذلك كون الفعل لا يستغنى عن تقدير عامليّته بالنسبة إلى نصب المصدر، كما لا يمتنع عند الأكثر نصب الظرف بعامل مقدر ورفع الظرف الضمير في نحو زيد عندك، بل ناصب الظرف أحق بأن ينسب العمل إليه لكونه صالحا للإظهار قريب العهد بالإضمار، بخلاف عامل المصدر المشار إليه، فإنه غير صالح للإظهار ولا قريب العهد بالإضمار، فقد صار نسيا منسيا، من كلام سيبويه في الباب الذي ترجمته: هذا باب من الفعل يسمى الفعل فيه بأسماء لم تدخل بين أمثلة الفعل أن قال: "يدلك على أن حَذرك بمنزلة عليك قولك تحذيري زيدا، إذا أردت حذري زيدا، فالمصدر وغيره في هذا الباب سواء" فإعلامه بتساوي المصدر وغيره من أسماء الأفعال في هذا الباب صريح، فإن زيدا منصوب بتحذيري زيدا، كما هو منصوب بعليك في عليك زيدا. وكذلك جَعْله حذرك بمنزلة عليك، ويلزم منه تساويهما في العمل إذا قيل حذرك زيدا وعليك زيدا والله أعلم.