الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب النعت
ص: وهو التابع المقصود بالاشتقاق وضعا أو تأويلا، مسوقا لتخصيص أو تعميم أو تفصيل أو مدح أو ذم أو ترحم أو إبهام أو توكيد.
ش: التابع يعم التوكيد والنعت والعطف والبدل، والمقصود بالاشتقاق مخرج لما سوى النعت وإن كان في الأصل مشتقا، كالأعْلام الغلبية إذا عطفت عطف بيان نحو: أبي بكر الصديق، وخويلد الصعق، فإن الصديق والصعق صفتان كثر استعمالهما مخصوصين بموصوفيهما، حتى صار التعيين بهما أكمل من التعيين بالعلم الموضوع، وصار القصد بهما وبأمثالهما كالقصد بالأعلام العارية من الاشتقاق، وما كان كذلك فاشتقاقه في تابعيته غير مقصود، بخلاف النعت فإنه مقصود الاشتقاق بالوضع، كرجل كريم، أو مقصود الاشتقاق بالتأويل كرجل ذي مال.
ولو اقتصرت في الحد على وضعا أو تأويلا لكمل بهما، ولكن الحاجة داعية إلى زيادة بيان بذكر المعاني المستفادة بالنعت، فذكرتها متصلة بالحد. فالمسوق لتخصيص نحو:(الصلاة الوسطى) و: (منه آيات محكمات).
والمسوق للتعميم نحو: إن الله يرزق عباده الطائعين والعاصين، ويحشر الناس الأولين والآخرين.
والمسوق للتفصيل نحو: مررت برجلين عربي وعجمي.
والمسوق للمدح نحو: سبحان الله العظيم.
والمسوق للذم نحو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والمسوق للترحم نحو: لطف الله بعباده الضعفاء.
والمسوق للإبهام نحو: تصدقت بصدقة كثيرة أو قليلة.
والمسوق للتأكيد نحو: (ومناة الثالثة الأخرى).
ص: ويوافق المتبوع في التعريف والتنكير، وأمره في الإفراد وضديه، والتذكير والتأنيث على ما ذكر في إعمال الصفة. وكونه مفوقا في الاختصاص ومساويا أكثر من كونه فائقا، وربما تبع في الجر غير ما هو له دون رابط إن أمن اللبس، وقد يفعل ذلك بالتوكيد.
ش: متبوع النعت يعم ذا النعت الجاري عليه لفظا ومعناه لما بعده، كرأيت رجلا طويلا ثوبه، قصيرة قامته. فلذلك قلت: ويوافق المتبوع، ولم أقل: ويوافق المنعوت، لأن المنعوت إنما يصدق حقيقة على متبع ما هو له لفظا ومعنى، لا على المتبع لفظا لا معنى، وكلا النوعين مراد.
وأشرت بقولي: "وأمره في الإفراد وضديه، وفي التذكير والتأنيث على ما ذكر في الصفة المشبهة" إلى أن موافقة النعت لمنعوته تجب إن كان معناه له، كرأيت رجلا طويلا، وامرأة طويلة. وكذا إن كان معناه لما بعده ولم يرفعه، كمررت برجل كريم الأب، حسن وجها، وبامرأة كريمةِ الأب، حسنةٍ وجها. وكذا التوافق في التثنية والجمع، فإن رفع ما بعده أُفْرد، وأعطي من التذكير والتأنيث ما يعطى الفعل الواقع موقعه، نحو: مررت برجلٍ كريم أبوه، حسنةٍ أمُّه، جميلٍ ولدُه، ظريفٍ غلمانُه. وتكسير ما رفع جمعا أولى من إفراده، نحو: مررت برجل حسانٍ أبناؤه، وبسط الكلام في هذا سابق في باب إعمال الصفة المشبهة، والذي ذكرته منه هنا بعض ذلك، واستيفاؤه تكرار، فأضربت عنه.
والأكثر أن يكون النعت دون المنعوت في الاختصاص أو مساويا له، فالأول نحو: رأيت زيدا الفاضل. والثاني نحو: رأيت الرجل الصالح. ولا يمتنع كونه أخص من
المنعوت كرجل فصيح، ولحّان، ومهدار، وضحاك، وأفّاك، وغلام يافع، ومُراهق. وجارية عَروب، وشَمُوع، وخَوْد، وضِناك. وماء فُرات، وأجاج. وتمر بَرْنِي، وشَهْريز. وعنب مُلاحِيّ، ورمان إمْليسي، وملح داراني، وكلب زِئْنِيّن، وأمثال ذلك كثيرة. قال أبو علي الشلوبين: الفراء ينعت الأعم بالأخص، وهو الصحيح، وحكى عنه: مررت بالرجل أخيك، على النعت.
وأشرت بقولي: "وربما تبع في الجر غير ما هو له دون رابط إن أمن اللبس" إلى قولهم: "هذا جحر ضبٍّ خربٍ، وأمثاله، فحق "خرب" أن يرتفع لأنه نعت "جحر"، وجحر مرفوع، لكنه جعل تابعا لضب لمجاورته إياه مع أمن اللبس. ومثله قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب:(إن الله هو الرّزّاقُ ذو القوة المتين) بخفض المتين ومن الشواهد الشعرية في ذلك قول الشاعر:
كأنما ضَرَبت قُدّام أعينها
…
قُطْنا بمُسْتَحْصِد الأوتارِ مَحْلُوجِ
ومثله:
تُريك سُنَّةَ وجهٍ غيرِ مقرفة
…
بلساءَ ليس بها خالٌ ولا نَدَبُ
ومثله:
فإياكم وحَيّةَ بطنِ وادٍ
…
ضموزِ النّابِ ليس له بِسِيِّ
ومثله:
جزى الله عني الأعْوَرَيْن مَلامة
…
وعَبْدةَ ثَفْرَ الثَّورةِ المتضاجمِ
ومثله:
كأنَّ ثبيرا في أفانين وَدْقِه
…
كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
ومثله لرؤبة:
كأنّ نسْجَ العنكبوت المُرْمَلِ
…
على ذُرا قُلّامِه المُهَدَّل
…
سُتورُ كتان بأيدي غُزّل
ونبهت بقولي: "وقد يفعل ذلك بالتوكيد" على ما أنشد الفراء من قول
الشاعر:
ياصاحِ بَلِّغْ ذوي الزوجاتِ كُلِّهم
…
أن ليس وصلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرا الذَّنَب
فصل: ص: المنعوت به مفرد أو جملة كالموصول بها، منعوتها نكرة أو معرف بأل الجنسية، وقد ترد الطلبية محكية بقول محذوف واقع نعتا أو شبهه، وحكم عائد المنعوت بها حكم عائد الواقعة صلة أو خبرا، لكن الحذف من الخبر قليل، ومن الصفة كثير، ومن الصلة أكثر. ويختص المنعوت بها اسم زمان بجواز حذف عائدها المجرور بفي دون وصف، ويجوز أيضا حذف المجرور بمن عائدا على ظرف أو غيره إن تعين معناه.
ش: المفرد هو الأصل في الخبر والحال والنعت، والجملة الواقعة خبرا أو حالا أو نعتا نائبة عن المفرد، ومؤولة به. وتنفرد الخبرية بجواز كونها طلبية، وتنفرد الحالية بجواز اقترانها بالواو، فلهذا لم أُحل المنعوت بها عليهما، بل أحلته على الموصول بها، لأنها لا تكون طلبية، ولا تقترن بالواو. وأجاز الزمخشري اقتران الواقعة نعتا بالواو، زاعما توكيد الارتباط بالمنعوتـ وهذا من آرائه الواهية، وزعماته المتلاشية، لأن النعت مكمل للمنعوت، ومجعول معه كشيء واحد، فدخول الواو عليه يوهم كونه ثانيا مغايرا له، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، وهذا مناف لما زعم من توكيد الارتباط.
وفي قولي: كالموصول بها تنبيه على لزوم كونها خبرية ومشتملة على ضمير لائق بالمنعوت، وقد تغني عنه الألف واللام، كقول الشاعر:
كأنّ حَفيف النَّبْل من فوق عَجْسِها
…
عوازبُ نَحْلٍ أخطأ الغارَ مُطْنِفُ
أي أخطأ غارها، فحذف الضمير، وجعل الألف واللام عوضا منه، أطنف:
بلغ أعلى الجبل.
والمنعوت بالجملة نكرة نحو: (حتى تُنَزِّل علينا كتابا نقرؤه) أو مقرون بأل الجنسية نحو: (وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار) فنعت الليل بجملة، لأنه معرفة في اللفظ، نكرة في المعنى، إذ لم يقصد به ليل معين.
ومثال الطلبية المحكية بقول محذوف واقع نعتا ما أنشد ثعلب من قول الراجز:
فإنَّما أنت أخٌ لا نَعْدَمُه
…
فأبْلنا منك بلاءً نعلمُه
فلا نعدمه دعاء محكي بقول مقدر، كأنه قال: فإنما أنت فتى مقول له: لا نعدمه. ومثله قول الآخر:
جاءوا بمَذْقٍ هل رأيت الذئْبَ قَطّ
أي مقول عند حضوره: هل رأيت الذئب قط، والمذق: اللبن المشوب بالماء، ومراد الراجز أنه تغير بياضه لمخالطة الماء حتى صار شبيها بلون الذئب. ومثال ذلك فيما يشبه النعت قول أبي الدرداء رضي الله عنه:"وجدت الناس اخبُر تَقْلَه". أي مقولا عند رؤيتهم: اخبر تقله، فحكى بقول واقع موقع مفعول ثان لوجدت، إن كانت من أخوات ظننت، وفي موضع الحال إن لم تكن منها، وكلاهما محتمل، وفي كليهما شبه النعت، فلذلك قلت: نعتا أو شبهه. وكان في قولي: كالموصول بها" تنبيه على ما تبين بقولي: وحكم عائد المنعوت بها حكم عائد الواقعة صلة أو
خبرا إلى آخر الكلام، إلا أن في التصريح زيادة بيان.
ومثال الحذف من الخبر قراءة ابن عامر: (وكلُّ وعد اللهُ الحسنى) ومثال الحذف من المنعوت بها قول الشاعر:
وما شيْءٌ حميتَ بمُسْتباح
ومثال الحذف من الموصول بها قوله تعالى: (وإن كادوا ليَفْتِنُونَك عن الذي أوحينا إليك).
وحذف المجرور العائد على اسم زمان نحو قوله تعالى: (واتَّقوا يوما لا تجزى نفسٌ عن نفس شيئا) وكقراءة عكرمة: (حينا تُمْسون وحينا تُصْبحون) ومثله:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا
…
ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَرّ
فهذا عند سيبويه حذف اعتباطا، لأن الظرف يجوز معه مالا يجوز مع غيره. وعند الأخفش على حذف في وتعدي الفعل، وحذف الضمير.
وإن كان المجرور مجرورا بمن، وكان عند الحذف لا يحتمل إلا وجها واحدا جاز حذفه، عائدا على ظرف أو على غير ظرف، ونحو: من شهر صمت يوما مباركا، وعندي بُرٌّ كُرٌّ بدرهم، بحذف من والعائد المجرور بها لتعيين معناه، إذ لا يحتمل إلا وجها واحدا.
ومن حذف عائد الجملة المنعوت بها قول ذي الرمة:
يقعن بالسفح مما قد رأين به
…
وقعا يكاد حصى المَعزاء يلتهب
ومنه:
عَوازبُ نَحْل أخطأ الغارَ مُطْنِف
ومنه:
من اليوم زوراها خليلي إنها
…
ستأتي عليها حقبة لا نزورها
ص: والمفرد مشتق لفاعل أو مفعول أو جار مجراه أبدا أو في حال، فالجاري أبدا كلَوْذَعِيّ وجُرْشع وصمحمح وشَمَرْدَل، وذي بمعنى صاحب وفروعه، وأولي وأولات، وأسماء النسب المقصود. والجاري في حال دون حال مطّرد وغير مطرد، فالمطرد أسماء الإشارة غير المكانية، وذو الموصولة وفروعها وأخواتها المبدوءة بهمزة وصل، ورجل بمعنى كامل أو مضاف إلى صدق أو سَوْء، وأي مضافا إلى نكرة تماثل المنعوت معنى، وكلٌّ وجدٌّ وحق مضافات إلى اسم جنس مكمل معناه للمنعوت.
وغير المطرد النعت بالمصدر والعدد والقائم بمسماه معنى لازم ينزله منزلة المشتق.
ويُنْصبُ أيٌّ المنعوت به حالا بعد معرفة. وما في نحو: رجل ما شئت من رجل شرطية محذوفة الجواب، لا مصدرية منعوت بها خلافا للفارسي.
ش: المشتق المنعوت به كل وصف تضمن معنى فعل وحروفه، واحترز بكون اشتقاقه لفاعل أو مفعول، من المشتق لمكان أو زمان أو آلة. فالمشتق للفاعل يعم أسماء الفاعلين وأمثلة المبالغة والصفة المشبهة باسم الفاعل وأفعل المفضل به الفاعل
كأنا أعلم منك. والمشتق للمفعول يعم أسماء المفاعيل وأفعل المفضل به المفعول كأنت أنجب من غيرك.
والجاري مجرى المشتق أبدا يعم الأوصاف التي وضعت موافقة لمشتقات في تضمن معاني الأفعال دون حروفها، فجرت مجرى المتضمنة معانيها وحروفها في استدامة النعت بها، فلَوْذَعِي يجرى مجرى فطن وذكي، وجُرْشُع يجرى مجرى غليظ وسمين، وصَمَحْمَح يجرى مجرى شديد، وأمثلة هذا النوع كثيرة، ولذلك أدخلت كاف التشبيه على أول ما ذكرته منها.
وفروع ذي بمعنى صاحب ذوا، وذوو، وذواتا، وذوات. وأوليت فروع ذي أولي وأولات لأنهما بمعنى ذوي وذوات. وقيدت النسب بالمقصود احترازا من نحو قمري وزئني من الأسماء التي هي منسوبة في الأصل، وأغلب استعمالها دالة على أجناس دلالة مالا تعرض فيه للنسب.
وجعلت أسماء الإشارة جارية مجرى المشتق في حال دون حال، لأن استعمالها غير منعوت بها أكثر من استعمالها منعوتا بها. وقيدت أسماء الإشارة بغير المكانية احترازا من "هنا" وأخواتها.
وقيدت الموصولات المنعوت بها احترازا من الموصولات التي لا ينعت بها كمَنْ وما.
ومن المنعوت به في حال دون حال رجل، فإنه ينعت به في حالين: أحدهما: إذا قصد به كمال الرجولية، فقولك: مررت بزيد الرجل، أي الذي كملت رجوليته، ووقوعه بهذا المعنى خبرا أكثر من وقوعه نعتا. والحال الثانية: إذا أضيف بمعنى صالح إلى صدق، وبمعنى فاسد إلى سوء، كقولك: هو رجلٌ رجلُ صدق، أو رجلٌ رجلُ سوء.
ومن المنعوت به في حال دون حال "أي" فإنه ينعت به تبييا لكمال المنعوت، ولا يكون إلا نكرة، ولا بد حينئذ من إضافته إلى نكرة تماثل المنعوت لفظا ومعنى،
نحو: هذا رجل أيُّ رجل، أو معنى دون لفظ نحو: هذا رجل أيُّ فتى. فالتماثل في اللفظ لا يلزم، وإنما يلزم التماثل في المعنى، فلذلك اقتصرت عليه في المتن حين قلت: وأي مضافا إلى نكرة تماثل المنعوت معنى.
ومن المنعوت به في حال دون حال: كل وجد وحق، فإنها ينعت بها للمعنى الذي نسب لأي، كقولك: زيد الرجل كل الرجل، وجد الرجل، وحق الرجل.
فالنعت بهذه كلها مطرد لا يتوقف على سماع، بخلاف النعت بالمصدر وما ذكر بعده، فإن السماع فيه متبوع، واطراده ممنوع وللمصدر مزية على غيره وكذلك العدد، ويقارب فيهما الاطراد، ومن المصادر المنعوت بها رضًى وعَدْل وزَوْر وصوم وفطر، ومن النعت بالعدد قول بعض العرب: أخذ بنو فلان من بني فلان إبلا مائة، على النعت، حكاه سيبويه، وأنشد:
لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامة
…
ورُقّيتَ أسبابَ السماءِ بسُلّم
وفي الحديث: "الناس كإبل مائة".
والنعت بالقائم بمسماه معنى ينزله منزلة المشتق كمررت برجل أسد أبوه، ولبست ثوبا حريرا ملمسه، وشربت ماء عسلا طعمه، تريد ماء شديد الحلاوة، وثوبا شديد الليونة، فلو أردت أن الماء مشوب بعسل، وأن الثوب مجعول في نسجه حرير لم يجز النعت، ومن هذا النوع قول الشاعر:
وليلٍ يقول الناس من ظلماته
…
سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها
كأنّ لنا منه بيوتا حصينة
…
مُسُوحا أعاليها وسَاجا كُسُورها
فأجرى مسوحا وساجا مجرى سود. ومثال نصب "أي" حالا بعد معرفة قول الشاعر:
فأوْمأت إيماءً خفيا لحَبْتَر
…
فلله عينا حَبْتر أيَّما فتى
وزعم أبو علي الفارسي أن "ما" في نحو: مررت برجل ما شئت من رجل، مصدرية نعت بها وبصلتها، كما ينعت بالمصدر الصريح، وليس قوله بصحيح، لأن المصدر لكونه أصل الفعل اختص بالتوكيد به، وبوقوعه نعتا وحالا، والحرف المصدري لا يؤكد به فعل، ولا يقع نعتا ولا حالا، فلو جعل نعتا في المثال المذكور لزمت مخالفة النظائر، ولو جاز أن ينعت بالحرف المصدري وصلته لجاز أن يقع موقع المصدر الصريح إذا نعت به، فكان يقال في موضع: مررت برجل رضًى، مررت برجل أن يرضى. وأيضا فإن المصدر المقدر في موضع المذكور معرفة، لأن فاعل صلتها معرفة، والمصدر المنعوت به نكرة لا يكون إلا نكرة، كرجل عدل ورضى، فبطل تقدير ما شئت مصدرا. والصحيح أن "ما" في المثال المذكور شرطية، محذوفة الجواب، ولكون "ما" شرطية حسن وقوع "مِنْ" بعدها لبيان الجنس، كقوله تعالى (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولو كانت مصدرية لم يحسن وقوع "من" بعدها.
فصل: ص: يُفَرّق نعتُ غير الواحد بالعطف إذا اختلف، ويجمع إذا اتفق، ويُغَلّب التذكير والعقل عند الشمول وجوبا، وعند التفصيل اختيارا.
وإن تعدد العامل واتحد عمله ومعناه ولفظه أو جنسه جاز الإتباع مطلقا، خلافا لمن خصص ذلك بنعت فاعلي فعلين وخبري مبتدأين. فإن عُدِم الاتحاد وجب القطع، بالرفع على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على إضمار فعل لائق ممنوع الإظهار في غير تخصيص بوجهيه في نعت غير مؤكد، ولا ملتزم، ولا جار على مشاربه، وإن كان لنكرة يشترط تأخيره عن آخر.
ش: تفريق نعت غير الواحد إذا اختلف نحو: مررت برجلين كريم وبخيل، ورغبت في الزيدين القرشي والتميمي، ومنه قول الشاعر:
فوافيناهم منا بجمع
…
كأُسْد الغاب مُرْدانٍ وشيب
وجمعه إذا اتفق نحو: أويت إلى رجلين كريمين، واستعنت بالزيدين القرشيين.
وتغليب التذكير عند الشمول نحو: مررت بزيد وهند الصالحين.
وتقول في التفصيل قاصد رجل وامرأة، مررت باثنين صالح وصالح. ومررت باثنين ذي عذرة وذي عذار، وذات عذرة وذي عذار.
وتقول في تغليب العقل: اشتريت عبدين وفرسين مختارين. ومثال تعدد العامل واتحاد عمله ومعناه ولفظه: ذهب زيد وذهب عمرو العاقلان، وهذا بكر وهذا بشر الفاضلان، ورأيت محمدا ورأيت خالدا الشيخين، وعجبت من أبيك وأخيك المحسنين.
ومثال اتحاد الجنس: هذا زيد وذاك عمرو الحسيبان، وذهب بكر وانطلق بشر الحازمان، ورأيت عليا وأبصرت سعيدا الماجدين، وسيق المال إلى عامر ولسالم المفضلين.
فهذه الأمثلة وأمثالها جائز فيها الإتباع، وإن لم يكن العامل في اللفظ عاملا واحدا، لأن ثاني العاملين فيهما صالح لأن يعد توكيدا، وأولهما صالح للاستغناء به ولانفراده بالعمل في النعت، فيؤمن بذلك إعمال عاملين في معمول واحد. وفي كلام سيبويه ما يوهم منع جواز الإتباع عند تعدد العامل في غير مبتدأين وفاعلين، فإنه قال في: باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة، بعد أن مثل بهذا فرس أخوي ابنيك العقلاء، ثم قال: ولا يجوز أن يجرى وصفا لما انجر من وجهين، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه. ثم قال: وتقول: هذا عبد الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد، وهما اسمان بنيا على مبتدأين. وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين" فمن النحويين مَنْ أخذ من هذا الكلام أن مذهبه تخصيص نعت فاعلي الفعلين وخبري المبتدأين بجواز الإتباع، والأولى أن يجعل مذهبه على وفق ما قدرته قبل، لأنه منع الاشتراك في إعراب ما انجر من وجهين، كما هو في: هذا فرس أخوي ابنيك، وسكت عن المجرورين من وجه
واحد، وعن المنصوبين من وجه واحد، فعلم أنهما عنده غير ممتنعين. ويعضد هذا التأويل قوله في: هذا عبد الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد.
فإن عدم اتحاد العامل أوجب القطع بالرفع على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على إضمار فعل، نحو: مررت بزيد، ولقيت عمرا الكريمان أو الكريمين. وكذلك إن اتحد العمل والعامل واختلف المعنى أو الجنس نحو: مررت بزيد واستعنت بعمرو، ومررت بزيد أمام عمرو. فقطع النعت الواقع بعد هذه المجرورات المختلفة وأشباهها متعين.
وقولي: "بفعل لائق" نبهت به على أن بعض المواضع يليق به أمدح نحو: شكرت لزيد ورضيت عن عمرو المحسنين. وبعضها يليق به أذم نحو: أعرضت عن زيد وغضبت على عمرو الخبيثين. وبعضها يليق به أرحم نحو: رثيت لزيد وأسيت على عمرو المسكينين. وبعضها يليق به أعني، وذلك إذا كان المذكور غير متعين نحو أن تقول لذي أخوين وابنين: مررت بأخيك والتفت إلى ابنك الكبيرين.
وإذا كان المضمر أمدح أوأذم أو أرحم لم يجز الإظهار، وإذا كان المضمر أعني جاز الإظهار والإضمار، وموضع تقدير أعني هو موضع التخصيص المنبه عليه بقولي: ممنوع الإظهار في غير تخصيص.
ويجوز القطع بوجهيه، أي بالرفع والنصب في نعت غير مؤكد نحو:(لا تتخذوا إلهين اثنين) ولا ملتزم نحو: الشعرى العبور، ولا جار على مشاربه نحو: مررت بذلك الرجل. وما سوى نعوت هذه الثلاثة فالقطع فيها جائز على الوجهين المذكورين.
وإن كان المنعوت نكرة اشترط في قطع نعته مشاركة المعرفة بتقديم نعت غير مقطوع، كقول الشاعر:
وتَأوِي إلى نِسْوة عُطّل
…
وشُعْثا مراضيع مثلَ السَّعالي
ومنه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "نزلنا على خال لنا ذو مال وذو هيئة".
ص: وإن كثرت نعوت معلوم أو منزل منزلته أُتبعت أو قُطعت، أو أُتبع بعض دون بعض، وقدم المُتْبع. وقد يلي النعت "لا" أو "إما" فيجب تكريرهما مقرونين بالواو، ويجوز عطف بعض النعوت على بعض.
فإن صلح النعت لمباشرة العامل جاز تقديمه مبدلا منه المنعوت.
وإذا نعت بمفرد وظرف وجملة قدم المفرد وأخرت الجملة غالبا.
ش: إذا كثرت النعوت والمنعوت لا يتعين إلا بجميعها لزم إتباعها كقولك: ايتني برجل مسلم عربي النسب فقيه نحوي كاتب حاسب، واكسه من الثياب الجيدة الجديدة السابغة المخيطة أحسنها. فهذه النعوت المتوالية على هذا الوجه وأشباهها بمنزلة نعت واحد لا يستغنى عنه، فلا تقطع. فلو حصل التعيين بدونها جاز للمتكلم أن يتبعها، وأن يقطعها، وأن يتبع بعضا بشرط تقديم المتبع وتأخير المقطوع، والإتباع أجود. وكذلك يجوز القطع والإتباع فيما لا يحصل التعيين بدونه، إذا قصد المتكلم تنزيله منزلة ما يحصل التعيين بدونه، لتعظيم أو غيره، ومنه قول الخِرْنق:
لا يَبْعَدن قومي الذين همُ
…
سُمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزُر
النازلين بكلِّ مُعْتَرَك
…
والطيبين مَعاقد الأُزُر
ويروى: والطيبون والنازلون، والطيبين والطيبون، أربعة أوجه.
ومثال إيلاء النعت "لا": صحبت رجلا لا جزوعا ولا منوعا، وملكت عبدا لا ضعيفا ولا عنيفا.
ومثال إيلائه "إما" قولك: لا بد من حساب إما شديد وإما يسير، فاتق النار إما
قليلا وإما كثيرا.
ومثال عطف بعض النعوت على بعض قوله تعالى: (الذي خلق فسوى *والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى).
ومثال تقديم النعت وجعل المنعوت بدلا قوله تعالى: (إلى صراط العزيز الحميد * الله) ومنه قول الشاعر:
ولكني بُليت بوَصْل قوم
…
لهم لحمٌ ومنكرةٌ جسومُ
وإذا نعت بمفرد وجملة وظرف أو شبهه فالأقيس تقديم المفرد وتوسيط الظرف أو شبهه وتأخير الجملة، كقوله تعالى:(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) وقد تقدم الجملة، كقوله تعالى:(فسوف يأتي الله بقوم يُحبُّهم ويُحبُّونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين).
فصل: ص: من الأسماء ما ينعت به وينعت كاسم الإشارة، ونعته مصحوب أل خاصة، وإن كان جامدا فهو عطف بيان على الأصح. ومنها مالا ينعت ولا ينعت به كالضمير مطلقا، خلافا للكسائي في نعت ذي الغيبة. ومنها ما ينعت ولا ينعت به كالعلم، وما ينعت به ولا ينعت كأيّ السابق ذكرها.
ش: النعت باسم الإشارة كقوله تعالى: (بل فعله كبيرهم هذا) و: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) ونعته نحو: سل هذا الماشي عن ذلك الراكب، ولا ينعت إلا بمصحوب أل، وإن كان مصحوب أل جامدا محضا كمررت بذلك الرجل، فهو عطف بيان لا نعت لأنه غير مشتق ولا مؤول بمشتق.
وأكثر المتأخرين يقلد بعضهم بعضا في أنه نعت، ودعاهم إلى ذلك اعتقادهم أن عطف البيان لا يكون متبوعه أخص منه وهو غير صحيح، فإن عطف البيان يقصد به في الجوامد من تكميل المتبوع ما يقصد بالنعت في المشتق وما جرى مجراه، فلا يمتنع أن يكون متبوع عطف البيان أخص منه، كما لا يمتنع أن يكون المنعوت أخص من النعت، وقد هدى أبو محمد بن السيد إلى الحق في هذه المسألة، فجعل ما تبع اسم الإشارة من الرجل ونحوه عطف بيان، وكذا فعل ابن جني، حكاه أبو علي الشلوبين، وهكذا ينبغي، لأن اسم الجنس لا ينعت به وهو غير تابع له، فلو كان نعتا حين يتبع الإشارة لكان نعتا حين يتبع غيره، كقولك: رأيت شخصا رجلا، وأنت لا تريد إلا كونه رجلا لا امرأة، ولا خلاف في امتناع كونه في هذه الصورة نعتا، فيجب ألا يكون في غيرها نعتا، وإلا لزم عدم النظير، أعني جعله اسما واحدا نعتا لبعض الأسماء دون بعض، مع عدم اختلاف المعنى.
ومثل اسم الإشارة في أنه ينعت وينعت به الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، وأسماء النسب المشتقة التي يجوز أن يبدأ بها.
ولا ينعت مضمر الحاضر، ولا ينعت به بإجماع، وكذا مضمر الغائب عند غير الكسائي، ولا يمتنع عنده أن ينعت، ورأيه قوي فيما يقصد به مدح أو ذم أو ترحم، ونحو: صلى الله عليه الرءوف الرحيم، وعمرو غضب عليه الظالم المجرم، وغلامك الطف به البائس المسكين. وغير الكسائي يجعل هذا النوع بدلا، وفيه تكلف.
ومما لا ينعت ولا ينعت به المصدر الذي بمعنى الأمر أو الدعاء كسقيا له، لا ينعت لأنه بدل من اللفظ بالفعل، ولا ينعت به لأنه طلب، فاللام في: سقيا له، وشبهه، متعلقة بالمصدر، وهي للتبيين.
وقال سيبويه رحمه الله في بعض أبواب الحال: هذا باب ما ينصب كخبر، لأنه معرفة لا توصف ولا تكون وصفا، وذلك قولك:"مررت بكل قائما، ومررت ببعض قائما وبعض جالسا" قلت: وكل وبعض في هذا الكلام بمنزلة المضمر في أنه لا ينعت ولا ينعت به.
وكون العلم يُنْعَت ظاهر، وأما كونه لا ينعت به فلأنه ليس مقيس الاشتقاق وضعا ولا تأويلا، وإن كان مشتقا في الأصل، وذلك عن قصد الاشتقاق بالنقل والغلبة، فهو في امتناع النعت به بمنزلة العلم المرتجل، فإن وقع موقعا صالحا للنعت جعل عطف بيان نحو: رضي الله عن خليفته الصديق، وعن عم نبيه العباس.
ومما ينعتب به ولا يُنْعَت "أي" وكل وجد وحق السابق ذكرها في هذا الكتاب.
فصل: ص: يقام النعت مقام المنعوت كثيرا إن علم جنسه، ونعت بغير ظرف وجملة، أو بأحدهما بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى، وإن لم يكن كذلك لم يقم الظرف والجملة مقامه إلا في شعر.
واستغنى لزوما عن موصوفات بصفاتها فجرت مجرى الجوامد، ويعرض مثل ذلك في قصد العموم، ويكتفى بنية النعت عن لفظه للعلم به.
ش: يعلم جنس المنعوت باختصاص النعت به، كمررت بكاتب راكب صاهلا، وبمصاحبة ما يعينه كقوله تعالى:(وألَنَّا له الحديدَ * أن اعملْ سابغات) وقوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا): (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا): (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فمثل هذا من الحذف
حسن كثير، لكون المنعوت معلوم الجنس، ولكون النعت قابلا لمباشرة العامل.
ولكونه جملة أو شبهها لم يقم مقام المنعوت في الاختيار إلا بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن كقوله تعالى: و (إنْ من أهل الكتاب إلا لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته) ومن هذا النوع قول تميم العجلاني:
وما الدهرُ إلا تارتانِ فمنهما
…
أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكْدحُ
وكلتاهما قد خُطَّ لي في صحيفتي
…
فلا العيشُ أهوى لي ولا الموتُ أرْوَحُ
وقد تقوم "في" مقام "من" كقول الراجز:
لو قلت ما في قومها لم تيثم
…
يَفْضُلُها في حَسَبِ وميسَم
فمثل هذا أيضا لو استعمل في غير الشعر لحسن كقولك: ما في الناس إلا شَكَرَ أو كَفَر.
وقد تقام الجملة مقام المنعوت دون "من" و"في" كقول الشاعر:
لكم مسجدا الله المَزوران والحصى
…
لكم قِبْصُه من بين أثْرى وأقْتَرا
وأشرت بقولي: "واستغنى لزوما عن موصوفات بصفاتها" إلى نحو: دابة، وأبطح، وحسنة، وسيئة.
وأشرت بقولي: ويعرض مثل ذلك بقصد العموم إلى مثل قوله تعالى: (ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث
والطيب) وقوله تعالى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) ومن هذا النوع قولك: لا متحرك ولا ساكن إلا بقدر سابق.
وقد يحذف النعت للعلم به، فيكتفى بنيته، كقوله تعالى:(وكذَّب به قومك وهو الحق) أي قومك المعاندون. وكقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كلَّ شيء بأمر ربها) أي: كل شيء سلطت عليه، أو أمرت بتدميره. وكقوله تعالى:(إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد). أي: معاد كريم، أو إلى معاد تحبه. ومن حذف النعت للعلم به قول المرقش الأكبر:
ورُبَّ أسيلة الخدين بِكرٍ
…
مُهَفْهَفةٍ لها فرعٌ وجيدُ
أي فرع وافر، وجيد طويل.
ومن نادر حذف المنعوت قول الفرزدق:
إذا حارب الحجّاجُ أيَّ منافقٍ
…
علاه بسيفٍ كلّما هز يَقْطع
أي منافقا أيّ منافق، ومثله قول عمرو بن قميئة:
لعمرُك ما نفسي بجد رشيدة
…
تؤامرني سرا لأصْرِم مَرْثدا
أراد: نفسي برشيدة جد رشيدة، ومثله قول ابن أبي ربيعة:
إن الثَّواءَ بأرض لا أراك بها
…
فاستيقنيه ثواءٌ حق ذي كدر
أراد: ذو كدر حق ذي كدر.