الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حبّذا
ص: أصل حب من حبذا حَبُب أي صار حبيبا، فأدغم كغيره وألزم منع التصرف وإيلاء "ذا" فاعلا في إفراد وتذكير وغيرهما. وليس هذا التركيب مزيلا فعلية حبّ فيكون مع "ذا" مبتدأ، خلافا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا اسمية ذا فيكون مع حب فعلا فاعله المخصوص خلافا لقوم. وتدخل عليها "لا" فتحصل موافقة بئس معنى. ويذكر بعدها المخصوص بمعناها مبتدأ مخبرا عنه بهما، أو خبر مبتدأ لا يظهر ولا تعمل فيه النواسخ، ولا يقدم وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق أو حال عامله حبّ. وربما استغنى به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تفرد حب فيجوز نقل ضمة عينها إلى فائها، وكذا كل فعل حلقي العين مرادا به مدح أو تعجب. وقد يجر فاعل حبّ بباء زائدة تشبيها بفاعل أفعل تعجبا.
ش: الصحيح أن حبذا فعل وفاعل، ولكنه جرى مجرى المثل فاستغنى فيه بذاعن ذي في قول الراجز:
يا حبَّذا القَمْراءُ والليلُ الساجْ
…
وطُرُقٌ مثلُ مُلاءِ النسّاجْ
وعن ذين في قول الشاعر:
حبذا أنتما خَلِيليّ إنْ لم
…
تَعذِلاني في دَمْعِيَ المُهْراق
وعن أولئك في قول الآخر:
ألا حبّذا أهلُ المَلا غير أنّه
…
إذا ذُكِرتْ "ميٌّ" فلا حبّذا هيا
وأصل حبَّ حَبُبَ وهو وزن يندر في المضاعف لاستثقال ضمة لعين تماثلها اللام، لكن سهّله هنا عدم ظهور الضمة للزوم الإدغام وعدم التصرف، بخلاف لبَّ الرجل فإنه يقال فيه لببت ولم تلبب فثقل وقلّت نظائره. ودلنا على أن "حبّ" في الأصل حَبُب قولهم فيه إذا جُرّد حُبَّ إن قصد نقل حركة العين إلى الفاء، وإن لم يقصد ذلك قيل حَبّ بالفتح، ويروى بالوجهين قول الشاعر:
فقلتُ اقْتلوها عنكم بمزاجها
…
وحُبَّ بها مقْتولةً حين تُقتلُ
ولا يجوز مع ذكر "ذا" إلا الفتح.
والذي اخترته من كون حبّ باقيا على فعليته وكون ذا باقيا على فاعليته هو مذهب اختيار أبي علي. ذكر أبو علي كون حبذا فعلا وفاعلا في البغداديات الفارسي وابن برهان وابن خروف، وهو ظاهر قول سيبويه وزعم قوم منهم ابن هشام اللخمي أن مذهب سيبويه جعل حبذا مبتدأ مخبرا عنه بما بعده. قال ابن خروف: حب فعل وذا فاعله وزيد مبتدأ وخبره حبذا، هذا قول سيبويه، وأخطأ من زعم غير ذلك.
قلت: صرح المبرد في المقتضب وابن السراج في الأصول بأن حب وذا جعلا اسما مرفوعا بالابتداء ولا يصح ما ذهبا إليه من ذلك، لأنهما مقرّان بفعلية حبّ وفاعلية "ذا" قبل التركيب وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنى ولا لفظا،
فوجب بقاؤهما على ما كانا عليه، كما وجب بقاء حرفية "لا" واسمية ما ركب معها في نحو لا غلام لك، مع أن التركيب قد أحدث في اسم لا لفظا ومعنى ما لم يكن، فبقاء جزءي حبذا على ما كانا عليه أولى، لأن التركيب لم يغيرهما لفظا ولا معنى، وأيضا لو كان حبذا مركبا مخرجا لها من نوع إلى نوع لكان لازما كلزوم تركيب "إذما". ومعلوم أن تركيب حبذا لا يلزم، لجواز الاقتصار على حب عند العطف كقول بعض الأنصار رضي الله عنهم: فحبَّذا ربًّا وحَبَّ دينا
أي وحبذا ذينا، وفحذف "ذا" ولم يتغير المعنى، ولا يفعل ذلك بإذما وغيرها من المركبات تركيبا مخرجا من نوع إلى نوع، فعلم بذلك أن تركيب حبذا ليس مخرجا من نوع إلى نوع، وأيضا لو كان حبذا مبتدأ لدخلت عليه نواسخ الابتداء، كما تدخل على غيره من المبتدآت، فكان يقال إن حبذا زيد وكان حبذا زيدا. وفي منع ذلك دلالة على أن حبذا ليس مبتدأ، وأيضا لو كان للزم إذا دخلت عليه "لا" أن يعطف عليه منفي بلا أخرى، فكان يمتنع أن يقال لا حبذا زيد حتى يقال ولا مرضيّ فعله ونحو ذلك، كما كان يفعل مع المبتدأ الذي حبذا مؤدّ معناه. واختار ابن عصفور اسمية حبذا مستدلا بأن العرب قد أكثرت من دخول "يا" عليها دون استيحاش. وزعم أن فعل ذلك مع غيرها مما فعليته محققة مستوحش منه كقولك:
ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سنْجال
وعكس ما ادعاه أولى بالصحة، لأن دخول "يا" على فعل الأمر أكثر من دخولها على حبذا. فمن ذلك قراءة الكسائي "ألا يا اسجدوا" وقال العلماء تقديره:
ألا يا هؤلاء اسجدوا، فكذلك يكون التقدير في يا حبذا يا قوم حبذا، ونحو ذلك.
فإن حذف المنادى وإبقاء حرف النداء يجوز بإجماع، ومنه قول الشاعر:
يالَعْنةُ اللهِ والأقوامِ كلّهم
…
والصالحين على سِمْعانِ مِن جار
وليس بشيء من قال في قراءة الكسائي إن معناه ألا ليسجدوا، فحذف لام الأمر وبقي الفعل مجزوما، لأ، هـ قد روى عن الكسائي أن القارئ بروايته إذا اضطر للوقف على الياء يقف بالألف ويبدأ بعدها: اسجدوا بضم الهمزة، فعلم بذلك أنه فعل أمر قبله يا. وقد جعل بعض العلماء "يا" في مثل هذا لمجرد التنبيه دون قصد نداء مثل ها ومثل ألا الاستفتاحية. وهذا هو الظاهر من كلام سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلم. ويؤيد هذا كثرة دخولها على ليت في كلام من لا يحضره منادى، ولا يقصد نداء، كقوله تعالى (يا ليتني كنت معهم) وكثرة معاقبتها لألا الاستفتاحية مثل ليت ورُبّ كقول الشاعر:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتَنَّ ليلةً
…
بوادٍ وحولي إذْخِرٌ وجليلُ
وكقول الآخر:
يا ليت شعري هل يُقْضى انقضاء نوًى
…
فيجمعُ اللهُ بين الرُّوح والجَسَدِ
وكقول امرئ القيس:
ألا رُبَّ يومٍ لك منهنّ صالحٍ
…
ولا سيّما يومٌ بدارة جُلْجل
وكقوله:
فيا رُبّ مكروب كرَرْتُ وراءَه
…
وطاعَنْتُ عنه الخيلَ حتّى تَنَفَّسا
وذهب قوم إلى أن حب إذا ضم إليها ذا نزل منها منزلة حرف زائد في الفعل وصار المجموع فعلا مفتقرا إلى فاعل، فجعل المخصوص فاعلا. فإذا قيل حبذا زيد فحبذا بمجموعه فعل وفاعله زيد، وهو قول في غاية من الضعف، لأنه مؤسس على دعوى مجردة عن الدليل، مع ما فيه من تغليب أضعف الجزءين على أقواهما، ومن ادعاء تركيب فعل من فعل واسم، ولا نظير لذلك، بل المعروف تركيب اسم من فعل واسم كبرق نحره، وتأبط شرا.
والصحيح أن حب فعل يقصد به المحبة والمدح وجعل فاعله ذا، ليدل بذلك على الحضور في القلب، ولم يغيرا لجريانهما مجرى الأمثال. فإن قصد بهما بغض وذم قيل لا حبذا، كما قال الشاعر:
ألا حبَّذا عاذري في الهوى
…
ولا حبَّذا الجاهِل العاذِلُ
وقال الآخر:
لا حبَّذا أنتِ يا صنعاءُ من بلدٍ
…
ولا شعوبُ هوًى منّي ولا نُقُم
وإلى هذا أشرت بقولي: "وتدخل عليهما لا فتحصل موافقة بئس معنى".
ثم قلت: "ويذكر بعدهما المخصوص بمعناهما مبتدأ مخبرا عنه بهما أو خبر مبتدأ لا يظهر" فأشرت بذلك إلى أنك إذا قلت حبذا زيد ونحو ذلك، فإن الواقع بعد حبذا يسمى المخصوص، وأنه مرفوع بالابتداء وخبره حبذا، وذا هو صاحب الخبر في المعنى فأغنى عن العائذ إغناءه عن ذلك في قوله تعالى:(ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ) ويجوز كون المخصوص خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل لمن قال حبذا مَن المحبوب؟ فقال زيد، يريد: هو زيد، والحكم عليه بالخبرية هنا أسهل منه في باب نعم، لأن مطعنه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء وهي هنا لا تدخل لأن حبذا جار مجرى المثل، والمثل وما جرى مجراه لا يغيران. فهذا المعنى أيضا منع من تقديم المخصوص فلا يقال زيد حبذا.
وقد أغفل أكثر النحويين التنبيه على امتناع تقديم المخصوص في هذا الباب، وعلى امتناع نسخ ابتدائيته وهو من المهمات. وتنبه ابن بابشاذ إلى التنبيه على امتناع التقديم، ولكن جعل سبب ذلك خوف توهم كون المراد من: زيد حبذا: زيد أحب هذا، وتوهم بعيد، فلا ينبغي أن يكون المنع من أجله. بل المنع من أجل إجراء حبذا مجرى المثل، وما كان كذلك فلا يغير بتقديم بعضه على بعض ولا بغير ذلك.
وقد يكون قبل مخصوص حبذا أو بعده تمييز مطابق أو حال، فأما التمييز فكثير ومتفق على استعماله مطابقا للمخصوص فيما له من إفراد وتذكيرو وفروعهما، كقولك: حبذا رجلا الحارث، وحبذا غلامين ابناك وحبذا رجالا الزيدون، وحبذا امرأة هند وحبذا جاريتين ابنتاها، وحبذا نسوة الفواطم. فهذه أمثلة تقديم التمييز على المخصوص. فإذا قدم عليه المخصوص وأخر هو في كل واحد من هذه الأمثلة فهو سهل يسير واستعماله كثير، إلا أن الأول الأولى والأكثر. فمن تقديم التمييز على المخصوص قول الشاعر:
ألا حبّذا قومًا سُلَيْمٌ فإنّهم
…
وَفَوا إذْ تواصوا بالإعانة والنَّصْر
ومن تأخير التمييز على المخصوص قول رجل من طيء:
حبّذا الصبرُ شيمةً لامرئ را
…
مَ مُباراة مُولَع بالمعالي
وقد يقع موقع هذا التمييز حال، كقولك حبذا زيد مقصودا وقاصدا، ولا حبذا عمرو صادرا ولا واردا.
ومنه قول الشاعر:
يا حبَّذا المالُ مَبذولا بلا سَرَف
…
في أوْجُهِ البرّ إسْرارًا وإعْلانا
والتزم بعض المتأخرين كون المنصوب بعد "ذا" تمييزا، وليس ذلك ملتزما، لأن الحال قد أغنت عنه في النظم والنثر، وقد تقدم ذكر ذلك. وقد يستغنى هنا عن المخصوص لظهور معناه، فمن الاستغناء عنه قول بعض الأنصار رضي الله عنهم:
باسمِ الإلهِ وبه بَدينا
…
ولو عَبدْنا غيرَه شَقينا
…
فحبّذا ربّا وحَبّ دِينا
فاستغنى عنه هنا بذكر التمييز. وقد يستغنى عنه دون تمييز كقول الشاعر:
ألا حَبَّذا لولا الحياءُ ورُبَّما
…
منحتُ الهوى ما ليس بالمتقاربِ
وقد تفرد حب فيجوز حينئذ أن تفتح حاؤها استصحابا لحالها، وأن تجعل عليها الضمة التي كانت للعين فيقال حبّ زيد وحُبَّ زيد. وهذا النقل جائز في كل فعل على فَعُل مقصود به التعجب كقول الشاعر:
حُسْن فِعْلا لقاءُ ذي الثروة المُمَـ
…
ـلَّق بالبشر والعطاء الجَزيل
وقد يجر فاعل حب بباء زائدة تشبيها بفاعل أفعل التعجب. ومنه قول الشاعر:
فقلتُ اقْتُلوها عنكم بمزاجها
…
وحُبَّ بها مَقْتولة حين تُقْتل
يروى بضم الحاء وفتحها. وحكى الكسائي مررت بأبيات جاد بهنّ أبياتا [وجُدْن أبياتا] بحذف الباء وجاء بضمير الرفع. وهذا الاستعمال جار في كل فعل ثلاثي تضمن معنى التعجب.