المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب أفعل التفضيل - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب أفعل التفضيل

‌باب أفعل التفضيل

ص: يصاغ للتفضيل موازن أفعَلَ، اسما مما صيغ منه في التعجب فعلا على نحو ما سبق من اطراد وشذوذ، ونيابة أشد وشبهه. وهو هنا اسم ناصب مصدر المحوج إليه تمييزا. وغلب حذف همزة أخير وأشر في التفضيل وندر في التعجب. ويلزم أفْعَل التفضيل عاريا الإفراد والتذكير وأن يليه أو معموله المفضول عليه مجرورا بمن. وقد يسبقانه، ويلزم ذلك إن كان المفضول اسم استفهام أو مضافا إليه. وقد يفصل بين أفعل و"من" بلو وما اتصل بها. ولا يخلو المقرون بمن في غير تهكم من مشاركة المفضل في المعنى، أو تقدير مشاركته. وإن كان أفعل خبرا حذف للعلم به المفضول غالبا، ويقل ذلك إن لم يكن خبرا. ولا تصاحب "مِن" المذكورة غير العاري إلا وهو مضاف إلى غير معْتدّ به أو ذو ألف ولام زائدتين، أو دال على عار متعلق به من.

ش: قد تقدم أن أفعل المتعجب به يناسب أفعل التفضيل وزنا ومعنى، وأن كل واحد منهما محمول على الآخر فيما هو أصل فيه. ومن أجل تناسبهما سوّت العرب بينهما في أن يصاغ كل واحد منهما مما صيغ منه الآخر، وألا يصاغ مما لا يصاغ. وقد بيّن في التعجب أن فعله لا يبنى دون شذوذ إلا من فعل ثلاثي مجرد تام مثبت متصرف قابل معناه للكثرة غير مبني للمفعول ولا معبّر عن فاعله بأفعل فعلاء. فكذلك أفعل التفضيل لا يبنى دون شذوذ إلا من فعل مستوف للقيود المذكورة. فيقال في بنائه من كتب وعلم وظرف: هو أكتبُ منه وأعلمُ وأظرفُ، كما قيل في التعجب: ما أكتبه وأعلمه وأظرفه .. ويحكم في هذا ونحوه بالاطراد، لأنه من فعل مستوف للقيود.

ويحكم بالشذوذ فيما لا فعل له، وفيما له فعل لم يستوف القيود، كما فعل في التعجب. فمن أمثلة أفعل التفضيل الذي لا فعل له قولهم هذا أصبر من هذا، أي أمرّ و"هو ألصُّ من شِظاظ" أي أعظم لصوصية. وشظاظ اسم رجل من ضبة.

ص: 50

ومن هذا النوع أول وآخر. ومن أمثلة سيبويه فيما لا فعل له: "أحنك الشاتين والبعيرين" أي آكلهما، و"آبل الناس" أي أرعاهم للإبل. ومن أمثلة غيره: هذا الثمر أصغر من غيره، أي أكثر صغرا، وهذا المكان أشجر من هذا، أي أكثر شجرا، وفلان أضيع من غيره، أي أكثر ضياعا.

والصحيح أن أحنك من قولهم احتنك الجراد ما على الأرض أي أكله، ولكنه شاذ لكونه من افتعل، فهو نظير أشد من اشتد ونظير قولهم هو أسوأ من هذا بمعنى أشد من استوأ. وكذا الصحيح أن آبل من قولهم أبل الرجل إبالة، وآبل أبلا إذا درب بسياسة الإبل والقيام عليها فلا شذوذ فيه أصلا وكذا الصحيح أن أصغر من صغر الرطب إذا كان ذا صغر فلا شذوذ فيه أيضا. وكذا أشجر هو من قولهم أشجر المكان أي صار ذا شجر، ولا شذوذ فيه على مذهب سيبويه، لأن أفعل عنده يساوى فعَل وفعِل وفعُل في بناء أفعل التفضيل منه. وقد تقدم بيان ذلك. وكذا قولهم فلان أضيع من غيره هو من قولهم أضاع الرجل إذا كثرت ضياعه ولا شذوذ فيه على مذهب سيبويه. ونظيره هو أعطاهم للدراهم وأولاهم للمعروف، وهذا المكان أقفر من ذاك، والفعل من جميعها على وزن أفعل. ومن المحكوم بشذوذه لكونه مزيدا فيه قول عمر رضي الله عنه "إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع" فأوقع أضيع موقع أشد تضييعا ومن المحكوم بشذوذه من جهتين قولهم هذا أخصر من هذا، فبنوه من اختُصر وفيه مانعان: أحدهما أنه مزيد فيه، والثاني أنه فعل ما لم يسم فاعله. ومثله - على مذهب سيبويه - قولهم فيمن أصيب بمكروه: هو أصوب من غيره، وهو من أُصيب فعلى مذهب سيبويه ليس بشاذ إلّا من قبل أنه من فعل المفعول.

ص: 51

وقد تقدم كلامي في التعجب أن بناء فعله وأفعل التفضيل من فعل المفعول لا يحكم بشذوذه إلا فيما يلبس فيه قصد المفعول، يقصد الفاعل. وذلك إذا كان الفعل مستعملا بالبناءين كثيرا، ولم يقارن أفعل ما يمنعه من أن يراد به الفاعلية كقولك: هذا أضرب من ذلك، وأنت تريد أن الضرب الواقع به أشد من الواقع بغيره، فإن هذا لا يجوز، لأن المراد به لا دليل عليه، بل السابق إلى ذهن من يسمعه التفضيل في الفاعلية.

فإن اقترن بما يمنع قصد الفاعلية جاز وحسن ومنه قولهم "أكْسى من بَصَلة" و"أشْغَلُ من ذاتِ النِحْيَيْن"، فيصح على هذا أن يقال عبد الله بن أبيّ ألعن ممن لعن على لسان داود، ولا أحرم من عدم الإنصاف، ولا أظلم من قتيل كربلاء. فلو كان مما لازم بناء ما لم يسم فاعله أو غلب عليه لم يتوقف في جوازه لعدم اللبس وكثرة النظائر كأزهى. وأعني من قولي إن ورود هذا في التفضيل أكثر منه في التعجب أنه لا ينبغي أن يقتصر منه على المسموع. ومن المحكوم بشذوذه قولهم هو أسود من حنك الغراب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الحوض "أبْيَضُ من اللَّبن" وإنما كان هذان شاذين لأنهما من باب أفعل فعلاء، وليسا كألدّ وأخواته مما يناسب عسرا أو جهلا، وقد تقدم الكلام على ذلك. وفي صيغ من قولي في أول هذا الباب مما صيغ منه في التعجب ضمير يرجع إلى موازن أفعل. وأشرت بقولي "ونيابة أشد ونحوه إلى أن الفعل الذي يقصد أن يصاغ منه أفعل التفضيل إن لم يستوف القيود توصل إلى معنى التفضيل فيه بذكر أشد ونحوه ناصبا مصدر ذلك الفعل على التمييز كقولك في دحرج وعلّم واقترب: هو أشد دحرجة وأصح تعليما وأكثر اقترابا. وكقولك في مات: هو أفظع موتا، وفي عور: هو أقبح عورا، وفي أكحل هو أحسن كحلا.

ولما كثر استعمال صيغة التفضيل من الخير والشر اختصروهما فحذفوا الهمزة

ص: 52

وقالوا في المدح والذم هو خير من كذا، وشرّ من كذا. ورفض أخير وأشرّ إلا فيما ندر كقول الراجز:

بلالُ خير الناس وابنُ الأخْيَر

ومن النادر قراءة أبي قلابة "سيعلمون غدًا من الكذاب الأشرّ"، وكما ندر ورود الهمزة في التفضيل ندر سقوطها في التعجب فقيل ما خيره بمعنى ما أخيره، وما شرّه بمعنى ما أشرّه. وشذ حذف همزة أحبّ في التفضيل كقول الأحوص:

وزادني كلفا في الحبّ أنْ منَعت

وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا

ويلزم أفعل التفضيل الإفراد والتذكير إذا كان عاريا، أي غير مضاف ولا مشفوع بحرف التعريف، فيقال زيد أفضل من عمرو، وهما أفضل من بشر وهم أشجع من غيرهم. وهند أجمل من دعد، وبنتاها أصلح منهما، والأمهات أشفق من الأخوات. ويلزم العاري أيضا أن يذكر بعده المفضول مقرونا بمن متصلة به كما رأيت في الأمثلة المذكورة آنفا. أو مفصولا بين "من" وبينه بمتعلق به فصاعدا كقوله تعالى:(النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتُهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) وكقول الشاعر:

فلَأنت أسمحُ للعُفاة بسُؤْلهم

عند الشَّبائب من أبٍ لبنَينا

ص: 53

وكقوله:

مازِلتُ أبسُطُ في غَضّ الزَّمان يدًا

للناس بالخَيْر من عَمْرو ومن هَرِم

ويجب تقديم "من" والمفضول إن كان اسم استفهام، أو مضافا إليه نحو: مِمن أنت أحلم، ومن أيّ رجل أنت أكرم، وممّ قدّك أعدل، ومن وجه من وجهك أجمل. ذكر هذه المسألة أبو علي في التذكرة وهي من المسائل المغفول عنها. فإن كان المفضول غير ذلك لم يجز تقديمه إلا في نادر من الكلام كقول ذي الرمة:

ولا عيبَ فيها غيرَ أنَّ سَريعها

قَطوفٌ وألّا شيءَ منهنّ أكْسَلُ

وكقول الآخر:

وقالت لنا أهلا وسهلا وزوّدت

جنى النحل أو ما زودت منه أطيبُ

وقد يفصل بين أفعل ومن، بلو وما اتصل بها كقول الشاعر:

ولَفُوكِ أطْيَبُ لو بَذَلْتِ لنا

من ماءِ مَوْهبة على خَمْر

ولا بد من كون المفضول مشاركا للمفضل فيما ثبت فيه التفضيل فيقال: الخبز أغذى من السويق، والعسل أحلى من التمر. ولا يقال: الخبز أغذى من الماء، ولا الماء أروى من الخبز. فإن ورد لفظ التفضيل دون ظهور مشاركة قدّرت المشاركة بوجه

ص: 54

ما كقولهم في البغيضَيْن هذا أحبّ إلي من هذا، وفي الشرَّين هذا خير من هذا، وفي الصعبين هذا أهون من هذا، وفي القبيحين: هذا أحسن من هذا، بمعنى أقل بعضا وأقل شرا وأقل صعوبة وأقل قبحا. ومنه قوله تعالى:(ربّ السجنُ أحبُّ إليّ ممّا يدعونني إليه) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة خيرٌ له من أن يجلس على قبر" وقول الراجز:

أظلّ أرْعَى وأبيتُ أطْحَنُ

الموتُ من بعض الحياةِ أهْوَنُ

ومنه قول الآخر:

عُجيّز لعطاءُ دَرْدبيس

أحسنُ من منظرها إبليسُ

ومن الملحق بالتهكم قول الآخر:

لأكلةٌ من أقِطٍ بسَمْن

ألْيَن مَسًّا في حوايا البطن

من يثربيّات قِذاذ خُشْنِ

ومثله قول الشاعر:

الحزمُ والقوةُ خيرٌ من الـ

إدْهان والفكّة والهاع

ومما تقدر فيه المشاركة قول بعضهم: الصيف أحر من الشتاء. وله توجيهان: أحدهما أن يكون من حرّ القتل في استحر أي اشتد فكأنه قال الصيف أشد استحرارا من الشتاء، لأن حروبهم في الصيف كانت أكثر من حروبهم في الشتاء. ويمكن أن

ص: 55

يشار بذلك إلى أن الشتاء تحيّل فيه على الحر بموقيات البرد وأن الصيف لا يحتاج إلى أن يتحيل، فحرّه أشد من حرّ الشتاء، ويمكن أن يشار بذلك إلى حرّ الأمزجة فإنه في الصيف أشد منه في الشتاء. وزعم بعض العلماء أنه يقال: العسل أحلى من الخلّ. وهذا موجّه بثلاثة أوجه: أحدها أن يكون قائل هذا سمّى العنب خلّا لمآله إليه، كما سمّي خمرا في قوله تعالى:(إنّي أراني أعصر خمرا). والثاني أن يكون أحلى من حَلِي بعيني إذا حسُن منظره. الثالث أن يكون قائل هذا قد وضع أحلى موضع أطيب، لأن الخل يؤتدم به فله من الطيب نصيب، لكنه دون طيب العسل.

ويكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل وكان أفعل خبرا كقوله تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ) و (ذلكم أقسطُ عند الله وأقْوم للشهادة وأدنى ألّا ترتابوا) و (واللهُ أعلمُ بما وَضَعتْ) و (ما تُخفي صدورهم أكبر) و (إنّ ما عند الله هو خيرٌ لكم) و (والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا وخيرٌ أملا) و (أيُّ الفريقين خيرٌ مقاما وأحسن نديًّا) و (فسيعلمون من هو شرٌّ مكانا وأضعفُ جندًا) وهو كثير.

ومنه قول الشاعر:

إذا المرءُ [عَلْبى] ثم أصبح جلدُه

كرَحْضِ غَسيلٍ فالتَّيَمُّن أرْوحُ

ص: 56

أي توقّيه على اليمين أروح له.

وقد حذف المفضول وأفعل ليس بخبر، فمن ذلك قوله تعالى:(فإنّه يعلم السرَّ وأخفى) ومن ذلك قول الشاعر:

دنوتِ وقد خلناكِ كالبدر أجملا

فظلَّ فؤادي في هواكِ مُضَلَّلا

أي دنوت أجمل من البدر وقد خلناك مثله. ومثله:

يُبَلّغك مَن أرضاك قِدْمًا أجدّ في

مراضيه كالمسبوق إن زاد سابقُ

ومنه قول رجل طيء:

عملًا زاكيا تَوَخّ لكي تُجـ

ـزَى جزاءً أزكى وتُلفى حميدا

أي لكي تجزى جزاء أزكى من العمل الزاكي. ومثله:

تروَّحي أجْدَرَ أن تقيلي

غدًا بجنبَيْ بارِدٍ ظليل

أي تروحي وائتي مكانا أجدر بأن تقيليه، أي تقيلي فيه. وهذا أغرب من الذي قبله، لكثرة الحذف فيه.

ولا توجد من جارة للمفضول إلا وأفعل عار من الإضافة والألف واللام. وندر إيقاع من بعد مضاف إلى مالا اعتداد بذكره. والإشارة بذلك إلى قول الشاعر:

نحن بغَرسِ الودِيِّ أعلمُنا

منّا بركضِ الجيادِ في السُّدَف

ص: 57

أراد أعلم منّا فأضاف ناويًا إطراح المضاف إليه، كما تدخل الألف واللام في بعض الأمكنة وينوى سقوطها وندر إيقاع من في قول الشاعر:

ولستَ بالأكثر منهم حصًى

وإنّما العزّةُ للكاثِر

وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون "من" المعتاد وقوعها بعد العاري، والألف واللام زائدتان. والثاني أن تكون "من" متعلقة بأكثر مقدّرا مدلولا عليه بالموجود المصاحب للألف واللام كأنه قال: ولست بالأكثر أكثر منهم حصى. وهذا التقدير شبيه بما يقال في قوله تعالى: (وكانوا فيه من الزّاهدين) أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين. والثالث أن تكون "من" للتبين كأنه قال ولست بالأكثر من بينهم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وإلى قوله "أعلمنا" وقول الآخر "ولست بالأكثر منهم حصى" وما فيه من الأوجه أشرت بقولي "ولا تصاحب من المذكورة غير العاري" إلى آخر الكلام.

فصل: ص: إن قرن أفعل التفضيل بحرفي التعريف أو أضيف إلى معرفة مطلقا له التفضيل أو مؤوّلا بما لا تفضيل فيه طابق ما هو في الإفراد والتذكير وفروعهما. وإن قيدت إضافته بتضمين معنى من جاز أن يطابق، وأن يستعمل استعمال العاري، ولا يتعين الثاني خلافا لابن السراج. ولا يكون حينئذ إلا بعض ما أضف إليه ونحون أظلمني وأظلمه من الضرورات. واستعماله عاريا دون من مجردا عن معنى التفضيل مؤولا باسم فاعل أو صفة مشبهة مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع ولزومه الإفراد والتذكير فيما ورد كذلك أكثر من المطابقة.

ش: قد تقدم التنبيه على أن أفعل التفضيل منع التأنيث والتثنية والجمع لشبهه

ص: 58

بأفعل المتعجب به ولا يكمل شبهه إلا بتنكيره، لأنه حينئذ يكون مثله لفظا ومعنى، فإذا قرن بالألف واللام نقص شبهه به نقصانا بيّنا، فزال عنه ما كان له بمقتضى كمال الشبه من منع التأنيث والتثنية والجمع، واستحق أن يطابق ما هو له كغيره من الصفات المحضة، فيقال جاء الرجل الأكبر والمرأة الكبرى وجاء الرجلان الأكبران والمرأتان الكبريان، وجاء الرجال الأكبرون، والأكابر، والنسوة الكُبريات والكُبَر.

فإذا أضيف إلى معرفة وأطلق له التفضيل إن لم ينو بعده معنى "من" أو أوّل بما لا تفضيل إلى معرفة وأطلق له التفضيل إن لم ينو بعده معنى "من" أو أوّل بما لا تفضيل فيه عومل من لزوم المطابقة بما عومل به المقرون بالألف واللام لشبهه به في إخلائه من لفظ "من" ومعناها، ولا يلزم حينئذ كونه بعض ما أضيف إليه.

وإن أضيف منويا بعده معنى "من" كان له شبه بذي الألف واللام في التعريف وعدم لفظ "من" لزوما، وشبّه بالعاري لاذي حذفت بعده "من" وأريد معناها، فجاز استعماله مطابقا لما هو له بمقتضى شبهه بذي الألف واللام، وجاز استعماله غير مطابق بمقتضى شبهه بالعاري. ولا يكون إلا بعض ما يضاف إليه. فيقال على الإخلاء من معنى من: يوسف أحسن إخوته، أي حسنهم والأحسن من بينهم. ويقال على إرادة معنى من: يوسف أحسن أبناء يعقوب، ويمتنع على هذا القصد أن يقال: يوسف أحسن إخوته.

والدليل على أن مع قصد معنى من تجوز المطابقة وعدمها اجتماعهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون" فأفرد أحبّ وأقرب، وجمع أحسن، ومعنى من مراد في الثلاثة. وزعم ابن السراج أن المضاف إذا أريد به معنى من عومل معاملة العاري. والحديث الذي ذكرته حجة عليه، لتضمنه الاستعمالين مع أن المضاف الذي في

ص: 59

إضافته معنى من أشبه بذي الألف واللام منه بالعاري، فإجراؤه مجرى ذي الألف واللام أولى من إجرائه مجرى العاري. فإذا لم يعط الاختصاص بجريانه مجراه فلا أقلّ من أن يشارك، والإلزام ترجيح أضعف الشبهين، أو ترجيح أحد المتساويين دون مرجح.

وقد يستعمل العاري الذي ليس معه من مجردا عن التفضيل مؤولا باسم فاعل كقوله تعالى: (هوأ علمُ بكم إذ أنشأكم من الأرض) ومؤولا بصفة مشبهة كقوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيدُه وهو أهونُ عليه) فأعلم هنا بمعنى عالم إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، وأهون بمعنى هيّن إذ لا تفاوت في نسب المقدورات إلى قدرته تبارك وتعالى. ومن ورود أفعل مؤولا بما لا تفضيل فيه قول الشاعر:

إنَّ الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزُّ وأطولُ

أي عزيزة وطويلة. ومنه قول الشنفري:

وإن مُدّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكنْ

بأعْجلهم إذْ أجشعُ القوم أعْجلُ

أراد لم أكن عجلًا، ولم يرد أكن أكثرهم عجلة، لأن قصد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة وليس غرضه إلا التمدّح بنفي العجلة قليلها وكثيرها. وأجاز أبو العباس محمد بن يزيد استعمال أفعل مؤوّلا بما لا تفضيل فيه قياسا. والأولى أن يمنع فيه القياس ويقتصر منه على ما سمع، والذي سمع منه فالمشهور فيه التزام الإفراد والتذكير إذا كان ما هو له مجموعا لفظا ومعنى كقوله تعالى:(أصحابُ الجنّة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا وأحسنُ مقيلا) أو لفظا لا معنى كقوله تعالى: (نحن أعلم بما يستمعون

ص: 60

به) و (نحنُ أعلمُ بما يقولون). وقد يجمع إذا كان ما هو له جمعا كقول الشاعر:

إذا غابَ عنّا أسودُ العين كنتم

كِراما وأنتم ما أقام ألائمُ

أراد وأنتم ما أقام لائم، فألائم جمع ألأم بمعنى لئيم، فلذلك جمعه، إلا أن ترك جمعه أجود، لأن اللفظ المستقر له حكم إذا قصد به غير معناه على سبيل النيابة لا يغير حكمه، ولذا لم يغير حكم الاستفهام في مثل: علمت أيّ القوم صديقك، ولا حكم النفي في:

ألا طعانَ ألا فرسانَ عادية

وإذا جمع أفعل العاري لتجرده من معنى التفضيل إذا جرى على جمع جاز أن يؤنث إذا جرى على مؤنث. ويجوز أن يكون منه قول "حنيف الحناتم" في صفات الإبل: سَرْعى وبَهيا وغزرى. وكان الأجود أن يقال أسرع وأبهى وأغزر، إلا أنه لما لم يقصد التفضيل جاء بفَعْلى موضع فعيلة، كما جاء قائل البيت بألائم في موضع لئام. وعلى هذا يكون قول ابن هانئ: كأنّ صُغْريَ وكُبْرى

صحيحا لأنه لم يؤنث أصغر وأكبر المقصود بهما التفضيل، وإنما أنث أصغر بمعنى صغير وأكبر بمعنى كبير.

ص: 61

ص:"ويجوز هو أفضل رجل، وهي أفضل امرأة، وهما أفضل رجلين أو امرأتين، وهم أفضل رجال، وهنّ أفضل نسوة، معناه ثبوت المزية للأول على المتفاضلين واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو جماعة جماعة. وإن كان المضاف إليه مشتقا جاز إفراده مع كون الأول غير مفرد. وألحق بأسبق مطلقا "أوّل" صفة، وإن نويت إضافته بني على الضم. وربما أعطى مع نيّتها ماله مع وجودها. وإن جرد عن الوصفية جرى مجرى "أفكل" وألحق "آخر" بأوّل غير المجرد فيما له من الإفراد والتذكير وفروعهما من الأوزان، إلا أن "آخر" يطابق في التنكير والتعريف ما هو له. ولا تليه "من" وتاليها، ولا يضاف، بخلاف أوّل. وقد تنكّر الدُّنْيا والجُلّى لشبههما بالجوامد. وأما حُسْنى وسُوءى فمصدران.

ش: إذا قيل زيد أفضل رجل، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال، فمعناه زيد أفضل من كل واحد قيس فضله بفضله، والزيدان أفضل من كل رجلين قيس فضلهما بفضلهما، والزيدون أفضل من كل رجال قيس فضلهم بفضلهم، فحذفت من كل وأضيف أفعل إلى ما كان مضافا إليه. والكلام في أفضل امرأة وأفضل امرأتين وأفضل نسوة كالكلام في أفضل رجل وأفضل رجلين وأفضل رجال.

ويلزم أفعل المستعمل هذا الاستعمال الإفراد والتذكير لشبهه بالعاري في التنكير وظهور من بعدها بأسهل تقدير. ولا بد من كون المضاف إليه مطابقا لما قبل المضاف ما لم يكن المضاف إليه مشتقا، فيجوز إفراده مع جمعية ما قبل المضاف كقوله تعالى:(ولا تكونوا أوّل كافر به) وقد تضمن الإفراد والمطابقة ما أنشده الفراء من قول الشاعر:

وإذا هم طعموا فأوّلُ طاعم

وإذا هم جاعوا فشرُّ جياع

وإنما جاز الوجهان مع المشتق لأنه وأفعل مقدران بمَنْ والفعل. ومَن المعنى بها جمع يجوز في ضميرها إفراد اللفظ والجمع باعتبار المعنى.

ص: 62

واستعمل "أوّل" صفة جارية مجرى أفعل التفضيل في اللفظ مطلقا، فألزمت في التنكير الإفراد والتذكير، وأوليت "من" ومجرورا بها على حدّ ما وليا ما سبق. وأضيف إلى نكرة [كقوله تعالى (إنّ أوّل بيتٍ) وإلى معرفة] كقوله تعالى:(وأنا أوّلُ المسلمين). وجعل له فروع مخصوصة بحال التعريف كما فعل بأفعل التفضيل، فقيل الأوّلان والأولون والأوائل والأولى والأوليان والأوليات والأُوَل. وحكى الفارسي: ابدأ بهذا من أوّلَ، بالفتح على أنه مجرور ممنوع الصرف للوصفية والوزن.

ومن أولُ، بالضم لنية الإضافة وقطعه عنها. ومن أوّلِ، بالخفض على تقدير الإضافة إلى مقدر الثبوت كما قال الراجز:

خالطَ من سلمى خياشيمَ وَفا

أراد وفاها فحذف المضاف إليه وقدّر ثبوته، فأعطى المضاف ما كان له مع عدم الحذف. واستعمل "أوّل" مجردا عن الوصفية فجرى مجرى "أفكل" في الصرف نحو: ماله أولٌ ولا آخرٌ. فلو جعل علما منع الصرف كقول الشاعر:

أُؤمّلُ أن أعيشَ وأنّ يومي

بأوَّلَ أو بأهْوَنَ أو جُبار

فأول هنا علم ليوم الأحد ممنوع الصرف. فلو جعل أفكل – وهو الرعدة – علما منع الصرف.

وأجرت العرب "آخر" مجرى أفعل التفضيل في الوصفية والتأنيث والتصحيح والتكسير فقالوا الآخر والأخرى والآخرون والأواخر والأخريات والأُخَر، كما قالوا الأكبر والكُبرى [والأكبران والكبريان] والأكبرون [والأكابر] والكبريات

ص: 63

والكُبَر. إلا أنه لا دلالة فيه على التفضيل بنفسه ولا بتأويل، إذ لا يصح في موضعه ما يدل على تفضيل كصلاحية أسبق في موضع أول، وكصلاحية أمرّ في موضع أصبر، وكصلاحية أسرق في موضع ألصّ؛ فلذلك لم يله مجرور بمن على حدّ ما يلي أفعل التفضيل ولا بإضافة، لكن مقتضى جعله من باب أفعل التفضيل أن يلازمه في التنكير لفظ الإفراد والتذكير وألا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع إلا معرّفا، فمنع هذا المقتضى، وكان لذلك معدولا عما هو به أولى، فلذلك مُنع "أُخَر" من الصرف وأجرى مجرى ثُلاثَ وأخواته. ويأتي تتميم الكلام على ذلك في باب موانع الصرف إن شاء الله تعالى.

والدُّنيا والجُلّى مؤنثا الأدنى والأجلّ فكان حقهما ألا ينكرا إلا إذا ذكرا، لكنهما كثر أنْ يستعملا استعمال الأسماء المحضة، فلذلك جاز تنكيرهما، كقوله: في سعْيِ دُنيًا طالما قَد مُدَّتِ

وكقول الآخر:

وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمة

يوما سراة كِرامِ الناسِ فادْعينا

وقرأ بعض القراء الشواذ (وقولوا للناس حسنى) وهو مصدر على فُعْلى كالرُجعى، والحُسْنُ والحُسْنى والعُذر والعُذرى والسُّوء والسُّوءى، من المصادر التي جاءت على فُعْل وفُعْلى بمعنى واحد.

ص: 64

فصل: ص: ولا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا إلا قبل مفضول هو هو مذكور أو مقدر، وبعد ضمير مذكور أو مقدر، مفسر بعد نفي أو شبهه بصاحب أفعل، ولا ينصب مفعولا به. وقد يدل على ناصبه وإن أول بما لا تفضيل فيه جاز على رأي أن ينصبه، وتتعلق به حروف الجر على نحو تعلقها بأفعل المتعجب به.

ش: لأفعل التفضيل شبه بأفعل المتعجب به، أوجب له القصور عن الصفة المشبهة في اللفظ وفي العمل، أما في اللفظ فلزومه في حال التنكير لفظا واحدا، وأما في العمل فكونه لا يرفع فاعلا ظاهرا إلا على لغة ضعيفة حكاها سيبويه، فقال على تلك اللغة: مررت برجل أكرمَ منه أبوه، لأنه بمعنى مررت برجل فائقه في الكرم أبوه. ومن هذه اللغة احترزت بقولي "لا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا". ثم أشرت إلى قرائن تهيئته لرفع الظاهر عند جميع العرب، وذلك بأن يكون الظاهر مفضلا على ما هو له في المعنى من مذكور بعده أو مقدر، وأن يكون الظاهر أيضا بعد ضمير مذكور أو مقدر، وذلك الضمير مفسّر بعد نفي أو شبهه بما أفعل صفة له، وذلك كقول الشاعر:

ما علمتُ امرأ أحبَّ إليه الـ

تَبدلُ منه إليكَ يا بنَ سِنانِ

ومثله:

لا قولَ أبعدَ عنه نفع منه عن

نهْي الخلِيّ عن الغرامِ مُتَيَّما

والعَلَم في ذلك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحلُ منه في عين زيد. وقد يختصر فيقال ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحلُ من عين زيد، ومن زيد، على تقدير من كحل عين زيد. فمن قال من عين زيد حذف مضافا واحدا، ومن قال

ص: 65

من زيد، حذف مضافين، كما حذفا في قولهم: لا أفعل ذلك هبيرة بن سعد، أي مدة مغيب هبيرة بن سعد. ومن كلامهم المأثور ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبه أمير على مِنبر. فهذا فيه حذف واحد، والتقدير ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من شهود كذبة أمير على منبر.

وقد يستغنى عن المفضول للعلم به، ولا يقام مقامه شيء كقولك: ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرُّ. والأصل ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشر منه إليه، فحذف منه وإليه للعلم بهما. وأنشد سيبويه في مثل هذا:

مررتُ على وادي السباعِ ولا أرى

كوادي السباعِ حين يُظْلِمُ واديا

أقلَّ به رَكْبٌ أتَوه تئيّة

وأخْوفَ إلّا أن يقِي الله ساريا

فركب مرفوع بأقل كارتفاع الشر بأبغض. والأصل: ولا أرى واديا أقل به ركب منه بوادي السباع، فحذف المفضول للعلم به ولم يقم مقامه شيئا. ومثله قول الآخر:

ما إن رأيتُ كعبدِ الله من أحدٍ

أوْلى به الحمدُ في وجْدٍ وإعْدام

وقد يستغنى عن تقدير مضاف في: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد، بأن يقال إن تقديره: ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد. فأدخلوا "من" على زيد مع ارتفاع الكحل على حد إدخالها عليه مع جره، لأن المعنى واحد. وهذا وجه حسن لا تكلف فيه، وله نظائر فيها يلحظ المعنى ويرتّب الحكم عليه مع تناسي اللفظ.

ومن نظائره قوله تعالى: (أولم يَروا أنّ اللهَ الذي خلق السمواتِ والأرضَ ولم يعيَ بخلقهنّ بقادرٍ). فدخلت الباء على خبر أن لتقدم أو لم وجعلها الكلام بمعنى أو ليس الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر. ومَن قدّر: ما رأيت

ص: 66

أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد بما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدر: ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبَة أمير على منبر. وكذا يفعل بكل ما أشبه ذلك حيثما ورد.

وكل واحد من هذه الأمثلة التي ذكرتها آنفا متضمن لضمير مذكور بين أفعل والظاهر المرفوع عائد على موصوف بأفعل مسبوق بنفي. وقد يحذف الضمير إذا كان معلوما. ومن المسموع في ذلك قول بعضهم: ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من شبه بعض قومك ببعض، فجعل أشبه في موضع أبين، واستغنى به عن ذكر الشبه المضاف إلى بعض، ثم كمل الاختصار لوضوح المعنى. ومَن قدّر ما رأيت أحدًا أحسن في عينه الكحل من زيد بما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدّر هذا بما رأيت قوما ما أشد تشابها من قومك.

والسبب في رفع أفعل التفضل للظاهر في هذه الأمثلة ونحوها تهيّؤه بالقرائن التي قارنته لمعاقبة الفعل إياه على وجه لا يكون بدونها. ألا ترى أن قولك ما رأيت أحدا في عنيه الكحل منه في عين زيد، لو قلت بدله: ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد، لكان المعنى واحدا. بخلاف قولك في الإثبات رأيت رجلا الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد، فإن إيقاع الفعل فيه موقع أفعل يغيّر المعنى، فكان رفع الفعل للظاهر لوقوعه موقعا صالحا للفعل على وجه لا يغير المعنى بمنزلة اسم الفاعل الماضي معنى إذا وصل بالألف واللام، فإنه كان ممنوع العمل لعدم شبهه بالفعل الذي في معناه، فلما وقع صلة قدّر بفعل وفاعل ليكون جملة، فإن المفرد لا يوصل به موصول، فانجبر لوقوعه موقع الفعل ما كان فائتا من الشبه، فأعطى العمل بعد أن مُنِعه فكذلك أفعل الواقع في الموقع المشار إليه حدث له بالقرائن التي قارنته فيه معاقبة للفعل على وجه لم يكن بدونها، فرفع الفاعل الظاهر بعد أن كان لا يرفعه. وأيضا فإنه حدث له في الموقع المشار إليه معنى زائد على التفضيل، وذلك أنك إذا قلت: ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، لم يكن فيه تعرض لنفي المساواة، وإنما تعرض فيه لنفي المزية، بخلاف قولك ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فإن المقصود به نفي المساواة ونفي المزيّة. ولهذا قدّره سيبويه بما رأيت أحدا يعمل في عينه الكحل كعمله في عين

ص: 67

زيد. فكان لأفعل في هذا الموضع ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحق بذلك التفضيل على أفعل المقصور على المزية ففضل برفعه الظاهر.

وأيضا فإن قاصد المعنى المفهوم من ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، إمّا بأن تجعل أفعل صفة لما قبلها رافعة ما بعدها، وإما أن تجعله خبرا للكحل، وهذا الوجه ممتنع بإجماع العرب، لاستلزامه الفصل بالمبتدأ بين أفعل و"من" مع كونهما بمنزلة المضاف إليه. والوجه الآخر لم يجمع على منعه، بل هو جائز عند بعضهم، فلما ألجأت الحاجة إليه اتفق عليه.

فإن قيل لا نسلم الالتجاء إليه لإمكان أن يقال ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد. فالجواب أن إمكان هذا اللفظ مسلّم، ولكن ليس بمسلم إفادة ما يفيده اللفظ الظاهر من اقتضاء المزية والمساواة معا. وإنما يقتضي ما رأيت أحدا الكحل أبين منه في عينه منه في عين زيد: نفي رؤية الزائد حسنه لا نفي رؤية المساواة، وإذا لم يتوصل إلى ذلك المعنى إلا بالترتيب المذكور الذي عليه صح القول بالالتجاء إليه. ولم يرد هذا الكلام المتضمن ارتفاع الظاهر بأفعل التفضيل إلا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي أو استفهام فيه معنى النفي كقولك: لا يكن غيرك أحبّ إليه الخير منه إليك. وهل في الناس رجل أحق به الحمد لله منه بمحسن لا يمنّ بمنّه.

ولا ينصب أفعل التفضيل مفعولا به، بل يُعدّى إليه باللام إن كان متعديا إلى واحد كقولك زيد أوعى للعلم وأبذل للمعروف. وإن كان من متعدّ إلى اثنين عُدّي إلى أحدهما باللام وأضمر ناصب الثاني كقولك: هو أكسى للفقراء الثياب، أي يكسوهم الثياب. فإن ورد ما يوهم نصب مفعول به بأفعل نسب العمل لفعل محذوف، وجعل أفعل دليلا عليه، فمن ذلك قول الشاعر:

ص: 68

فلم أر مثل الحيّ حيّا مُصَبَّحا

ولا مثلَنا يومَ الْتقينا فَوارسا

أكرَّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضْربَ منّا بالسِّيوفِ القوانِسا

ومثله قول الآخر:

فما ظفرتْ نفسُ امرئٍ يبتغي المنى

بأبْذَلَ مَن يَحيى جزيل المواهب

ومنه قوله تعالى: (اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَه) فحيث هنا ليس بظرف، وإنما هو مفعول به وناصبه فعل مدلول عليه بأعلم، والتقدير: الله أعلم يعلم مكان جعل رسالاته. وأجاز بعضهم أن يكون أعلم مجردا عن التفضيل ويكون هو العامل. وتعلق حروف الجر بأفعل التفضيل على نحو ما تعلق بأفعل التمعجب به فيقال زيد أرغب في الخير من عمرو، وعمرو أجمع للمال من زيد، ومحمد أرأف بنا من غيره، وكذلك ما أشبهه.

ص: 69