الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التوكيد
ص: "وهو معنوي ولفظي، فالمعنوي التابع الرافع توهم إضافة إلى المتبوع، أو أن يراد به الخصوص، ومجيئه في الغرض الأول بلفظ النفس والعين مفردين مع المفرد، مجموعين مع غيره جمع قلة، مضافين إلى ضمير المؤكد، مطابقا له في إفراده وغيره. ولا يؤكد بهما غالبا ضمير رفع متصل إلا بعد توكيده بمنفصل، ويفردان بجواز جرهما بياء زائدة، ولا يؤكد مثنى بغيرهما إلا بكلا وكلتا، وقد يؤكِّدان مالا يصح في موضعه واحد، خلافا للأخفش.
ش: التوكيد المعنوي هو المعتد به في التوابع، وهو على ضربين: أحدهما: الذي قصد به رفع توهم السامع أن المتكلم حذف مضافا وأقام المضاف إليه مقامه، نحو: قتل العدوَّ زيدٌ نفسه، فبذكر النفس علم السامع أن زيدا باشر القتل وحده، ولولا ذلك لأمكن اعتقاد كونه آمرا لا مباشرا.
والثاني: أن يقصد به رفع توهم السامع أن المتكلم وضع العام موضع الخاص، نحو قولك: جاء بنو فلان كلهم، لم يرد أن يخص بالمجيء بعضا دون بعض، ولولا ذلك لأمكن اعتقاد غير ذلك.
والمؤكد في القصد الأول النفس أو العين أو هما معا، بإفراد مع المفرد، نحو: جاء زيد نفسه، وهند نفسها. وبجمع مع المثنى والمجموع نحو: جاء الزيدان أنفسهما، والزيدون أنفسهم، والهندان أنفسهما، والهندات أنفسهن، ولا يجمعان إلا جمع قلة، فلا يقال: جاء الزيدون نفوسهم ولا عيونهم، ولا بد من إضافتهما لفظا إلى ضمير يوافق المؤكَّد في إفراده وتذكيره وغير ذلك.
وإن أكد بهما ضمير رفع متصل فالجيد أن يؤكد بهما بعد التوكيد بالضمير
المنفصل، نحو: قاموا أنفسهم، وقاموا أنفسهم جائز على ضعف، ذكر ذلك الأخفش في المسائل.
ويجوز جر النفس والعين بباء زائدة نحو: جاء زيد بنفسه، ورأيت عمرا بعينيه، ولا يجوز ذلك في غيرهما من ألفاظ التوكيد. إلا أنهم قالوا: جاءوا بأجمعهم، بضم الميم وفتحها، وفيه معنى التوكيد، وليس من ألفاظه، إذ لو كان من ألفاظه لجاز استعماله بلا باء، بل كان استعماله بلا باء أكثر، كما كان كذلك في النفس والعين.
ويجوز أن يؤكد بهما معا، نحو: جاء زيد نفسه عينه.
ولا يؤكد المثنى ولا ما في معناه بغير النفس والعين إلا بكلا في التذكير، وبكلتا في التأنيث، نحو: جاء الزيدان كلاهما، والهندان كلتاهما. ولا يؤكد بهما عند الأخفش مالا يصح أن يجعل في موضعه واحد، نحو: جلست بين الرجلين. قال الأخفش: لا يجوز حذف ضربت أحد الرجلين كليهما، فإنك إذا قلت: ضربت أحد الرجلين، فقد علم أنهما رجلان، وأن موضع الرجلين لم يصلح لواحد، لتقدم أحد، فلا يتوهم أن ذكرهما غلط. بخلاف قولك: رأيت الرجلين كليهما، فإن موضع الرجلين صالح لرجل، فيتوهم الغلط، فيفيد التوكيد.
قال الأخفش: لا يمتنع عندي: ضربت أحد الرجلين كليهما، لأن فيه فائدة، وذلك أن موضع الرجلين صالح للجمع، فيمكن توهم السامع أن المتكلم قصد الجمع، فغلط بوضع المثنى موضعه، فبذكر كليهما يزول ذلك التوهم، ولا يخلو من فائدة.
وأيضا فإن موضع الرجلين صالح للفرسين والبعيرين وغير ذلك، فلا يمتنع توهم السامع قصد المتكلم شيئا من ذلك، ما لم يأت بكليهما أو نعت يقوم قامه، فإذا جاء بكليهما علم اعتناؤه بما ذكر قبله، وأنه قاصد إعلام السامع بصحة العبارة.
ص: ومجيؤه في الغرض الثاني تابعا لذي أجزاء يصح وقوع بعضها موقعه، مضافا إلى ضميره بلفظ كل أو جميع أو عامة. وقد يستغنى بكليهما عن كلتيهما، وبكلهما عنهما، وبالإضافة إلى مثل الظاهر المؤكد بكل عن الإضافة إلى ضميره، ولا يستغنى بنية إضافته خلافا للفراء والزمخشري.
ولا يثنى أجمع ولا جمعاء خلافا للكوفيين ومن وافقهم.
ويتبع كلَّه أجمع، وكلها جمعاء، وكلهم أجمعون، وكلهن جمع، وقد يُغْنين عن كل، وقد يُتْبَعْن بما يوازنهن من كُتَع وبُصَع وبُتَع، بهذا الترتيب أو دونه.
وقد يغني ما صيغ من كُتَع عما صِيغ من جُمَع، وربما نُصب أجمع وجمعاء حالين، وجمعاهما كهما على الأصح. وقد يرادف جمعاء مجتمعة فلا يفيد توكيدا.
ش: قد تقدم أن التوكيد المعنوي يجاء به لغرضين: أحدهما: رفع توهم إضافة إلى المتبوع. والثاني رفع توهم إرادة الخاص باللفظ العام، وبينت ما يفيد الغرض الأول، فشرعت الآن في تبيين ما يفيد الغرض الثاني وهو كل وأخواته على حسب استعماله الآتي تفصيله.
ولا يؤكد بها إلا معرفة متبعضة بالنسبة إلى عمل العامل، ويعتبر ذلك بجعل بعضها في موضعه، فإن صح صح التوكيد، وإن امتنع امتنع، فقولك: جاء القوم كلهم، صحيح لصحة قولك: جاء بعض القوم، وقولك: جاء زيد كله، ممتنع لامتناع قولك: جاء بعض زيد. فلو كان العامل صالح الإسناد إلى بعض زيد كنظف ونجس لم يمتنع التوكيد، فصح أن يقال: نظف زيد كله، لأنه يقال: نظف بعضه.
وذكرت مع "كل" جميعا وعامة، كما فعل سيبويه، وأغفل ذلك أكثر المصنفين سهوا أو جهلا، فيقال: جاء القوم جميعهم أو عامتهم كما يقال: جاءوا كلهم، والمعنى واحد، ومن شواهد ذلك قول الشاعر:
يَمُتُّ بقُرْبى الزينبين كلَيْهما
…
إليك وقُربى خالد وحبيب
ومثال الاستغناء بكلهما عن كليهما وكلتيهما.
وبالإضافة إلى مثل الظاهر المؤكد بكل عن الإضافة إلى ضميره، نحو قول كثير:
كمْ قد ذكرتُك لو أُجْزى بذكركم
…
يا أشبهَ الناسِ كلِّ الناس بالقمر
ومثله قول الفرزدق:
أنت الجوادُ الذي تُرْجَى نوافلُه
…
وأبعدُ الناسِ كلِّ الناس من عار
وأقربُ الناس كلِّ الناس من كرم
…
يعطى الرغائب لم يَهْمُمْ بإقتار
وأجاز الفراء والزمخشري في قراءة من قرأ: (إنا كلًّا فيها) بالنصب على توكيد اسم إن، وذلك عندي غير جائز، لأن ألفاظ التوكيد على ضربين: ضرب مصرح بإضافته إلى ضمير المؤكد وهو النفس والعين وكل وجميع وعامة، وضرب منوي الإضافة إلى ضمير المؤكد وهو أجمع وأخواته، وقد أجمعنا على أن المنوي الإضافة لا يستعمل صريح الإضافة، وأجمعنا على أن غير "كل" من الصريح الإضافة لا يستعمل منوي الإضافة، فتجويز ذلك في كل يستلزم عدم النظير في الضربين، لأن غير كل إما ملازم لصريح الإضافة، وإما ملازم لمنويها فإفراد "كل" بجواز الاستعمالين مستلزم لعدم النظير، والمفضي إلى ذلك هو ما ذهب إليه الفراء والزمخشري، فوجب اجتنابه.
والقول المرضي عندي أن "كلا" في القراءة المذكورة منصوب على الحال من الضمير المرفوع المنوي في "فيها" وفيها هو العامل، وقد قدمت الحال عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة:(والسموات مطوياتٍ بيمينه) وفي قول النابغة الذبياني:
رَهْطُ ابن كُوزٍ مُحْقِبي أدْراعهم
…
فيهم ورهط ربيعة بن حُذار
ومثله قول بعض الطائيين:
دعا فأجبنا وهو بادي ذلة
…
لديكم فكان النصر غير بعيد
وأجاز الكوفيون وبعض أصحابنا تثنية أجمع وجمعاء، قال ابن خروف: وقياس تثنية أفعل وفعلاء في هذا الباب، يعني باب التوكيد، قياس أحمر وحمراء، ومن منع تثنيتهما فقد تكلف وادعى مالا دليل عليه. وقال الأخفش في المسائل: وزعموا أن من العرب من يجعل أجمع وأكتع وجنسه نكرة، فيقول: أجمعَيْن وجمعاوان وكتعاوين، قال: وقال الشاعر:
لو كان ذا المربد خبزا أجمعا
فجعل أجمع من صفة النكرة. هذا نص الأخفش في المسائل.
وكله توكيد لمفرد ذي أجزاء يصح تعليق العامل ببعضها، كالجيش والبستان.
وكلها توكيد لمؤنث هو كذلك كالقبيلة والدار، ويؤكد بكلها أيضا مع جمع المذكر غير العاقل نحو: قبضت الدراهم كلها، وجمع المذكر العاقل إذا كان مكسرا
أو مجموعا بالألف والتاء، كما يقال في الفعل المسند إلى ضميره فعلتْ، وفي الواقع عليه فَعَلتا، كقول الراجز:
إذا الرجالُ ولدتْ أولادُها
…
واضطربت من كبر أعْضادها
وجعلتْ أوْصابها تعتادُها
…
فهي رزوع قددنا حصادها
فكما جاز تأنيث ضمير الرجال مع غير كل، فكذلك يجوز مع كل، فيقال: جاء الرجال كلها، وأما كلهن في العاقلات فأولى من كلها، وكلها في غير العاقلات أولى من كلهن، إلا إن كان مرادا به أدنى العدد فكلهن أولى به من كلها، كقولك: الأجذاع انكسرن كلهن، أولى من: الأجذاع انكسرت كلها. وقولك: الجزوع انكسرت كلها، أولى من: الجزوع انكسرن كلهن.
ومثال إتباع أجمع وأخواته لكله وأخواته: جاء الجيش كله أجمع، والقبيلة كلها جمعاء، والرجال كلهم أجمعون، والنساء كلهن جمع، قال تعالى:(فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون).
ومثال الاستغناء عن كل قوله تعالى: (ولَأُغْوِيَنَّهم أجمعين)(وإن جهنم لموعدهم أجمعين).
ومثال المصوغات من جمع ما يوازيهن من: كتع وبصع وبتع: جاء الجيش كله أجمع أكتع أبصع أبتع، والقبيلة كلها جمعاء كتعاء بصعاء بتعاء، والرجال كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون، والنساء كلهن جمع كتع بصع بتع. وهذا الترتيب لا يلزم، بل هو أجود من عدمه، وإنما اللازم لمن ذكر الجميع أن يقدم "كلا" ويوليه المصوغ من جمع، ثم يأتي بالبواقي كيف شاء، إلا أن تقديم ما من الكتع على الباقين، وتقديم ما من البصع على ما من البتع هو المختار.
ومثال الاستغناء بالمصوغ من كتع ما أنشد الأصمعي من قول الراجز:
يا ليتني كنت صبيا مُرْضَعا
…
تحملني الذَّلْفاء حولا أكتعا
إذا بكيت قبلتني أربعا
…
إذن ظللت الدهر أبكي أجمعا
وحكى الفراء: أعجبني القصر أجمعَ، والدار جمعاءَ بالنصب على الحال، ولم يجز في أجمعين وجمع إلا التوكيد. وأجاز ابن درستويه حالية أجمعين، وما ذهب إليه هو الصحيح، لأنه قد صح بضبط الثقات من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين" وممن صحح النصب في أجمعين المذكور في الحديث المذكور القاضي عياض رحمه الله، وقال: إنه منصوب على الحال. ويروى: "فصلوا جلوسا أجمعون" على أنه توكيد للواو من فصلوا. وجعل بعضهم أجمعين توكيدا لضمير مقدر منصوب، كأنه قال: أعنيكم أجمعين؛ وهذا القول شبيه بقول سيبويه رحمه الله في: باب ما انتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما". هكذا قال سيبويه رحمه الله.
وقد يستعمل جمعاء بمعنى مجتمعة فلا يقصد بها توكيد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كما تناخ الإبل من بهيمة جمعاء" أي مجتمعة الخلق. وأجاز أبو علي الشلوبين استعمال أجمع بهذا المعنى فتأول به قول الراجز:
أرمي عليها وفي فرعٌ أجمعُ
…
وهي ثلاث أذرع وإصبع
ص: ولا يتحد توكيد معطوف ومعطوف عليه إلا إذا اتحد معنى عامليهما، وإن أفاد توكيد النكرة جاز، وفاقا للأخفش والكوفيين، ولا يحذف المؤكَّد ويقام المؤكِّد مقامه على الأصح، ولا يفصل بينهما بإمّا خلافا للفراء. وأجري في التوكيد مجرى كل ما أفاد معناه من الضرع والزرع والسهل والجبل، واليد
والرجل والظهر والبطن. ولا يلي العاملَ شيءٌ من ألفاظ التوكيد وهو على حاله في التوكيد إلا جميعا وعامة مطلقا، وكل وكلا وكلتا مع الابتداء بكثرة، ومع غيره بقلة، واسم كان في نحو: كان كلنا على طاعة الرحمن، ضمير الشأن، لا كلنا. ويلزم تابعية كل بمعنى كامل وإضافته إلى مثل متبوعه مطلقا نعتا لا توكيدا.
ويلزم اعتبار المعنى في خبر "كل" مضافا إلى نكرة، لا مضافا إلى معرفة.
ولا تَعَرُّضَ في أجمعين إلى اتحاد الوقت، بل هو ككل في إفادة العموم مطلقا خلافا للفراء.
ش: قال أبو الحسن الأخفش: اعلم أن قولهم: مات زيد وعاش عمرو كلاهما، ليس بكلام، لأنهما لم يبنيا في كلام واحد. فلو قلت: انطلق زيد وذهب عمرو كلاهما، جاز لأنهما قد اجتمعا في أمر واحد، فإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: ولا يتحد توكيد معطوف ومعطوف عليه إلا إذا اتحد معنى عامليهما.
ومنع البصريون إلا الأخفش توكيد النكرة مطلقا، وأجازه بعض الكوفيين مطلقا، وأجازه بعضهم إذا أفاد ومنعه إذا لم يفد، ومثال الجائز لكونه مفيدا قولك: صمت شهرا كله، وقمت ليلة كلها، وهذا أسد نفسه، وعندي درهم عينه. فبذكر "كل" يُعلم أنّ الصيام كان في جميع الشهر، والقيام كان في جميع الليلة، ولو لم يذكر لاحتمل ألا يراد جميع الشهر، ولا جميع الليلة.
وبذكر النفس أيضا علم أن المشار إليه أسد حقيقي لا شيء شبيه بأسد، وأن الذي عندك درهم مصوغ لا صرفه ولا موازنته. فتوكيد النكرة إن كان هكذا حقيق بالجواز، وإن لم تستعمله العرب، فكيف إذا استعملته، كقول رؤبة:
إن تميما لم يُرَاضِع مُشْبَعا
…
ولم تلده أمه مُقَنَّعا
…
أوْفَت به حولا وحولا أجمعا
وكقول الآخر:
قد صرت البكرة يوما أجمعا
وكقول الآخر:
ياليتني كنت صبيا مرضعا
…
تحملني الذلفاء حولا أكتعا
وكقول الآخر:
أُولاك بنو خيرٍ وشر كليهما
…
جميعا ومعروفٍ ألَمَّ ومُنْكَرِ
وكقول الآخر:
ساعة قدر احتجابك فيها
…
سنة دام ضرها جمعا دام
وأما ما لا فائدة فيه: نحو: اعتكفت وقتا كله، ورأيت شيئا نفسه، فغير جائز، فمن حكم بالجواز مطلقا، أو بالمنع مطلقا، فليس بمصيب، وإن حاز من الشهرة أوفر نصيب.
وقول الشاعر:
عَداني أنْ أورك أنّ بَهْمي
…
عجايا كلُّها إلا قليلا
توكيد عند الكوفيين، والصحيح أنه مبتدأ مقدم الخبر، أو توكيد لضمير مرفوع بعجايا، لأنه جمع عَجِيّ، وهو السيء الغذاء.
وكلانا من قول الشاعر:
فما أعْلَمَ الواشين بالسر بيننا
…
ونحن كلانا للمحبة كاتم
مبتدأ خبره كاتم، وليس بتوكيد نحن، إذ لو كان توكيدا لم يجز إفراد كاتم، لأنه على ذلك التقدير خبر نحن.
وقال سيبويه رحمه الله في: باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة: وسألت الخليل رحمه الله عن: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على: هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعنيهما أنفسهما" فأجاز حذف المؤكَّد، والاستغناء عنه بالمؤكِّد، وهذا ضعيف بين الضعف، لأن المؤكّد مذكور كتقوية، ويبين كونه مرادا به الحقيقة لا المجاز، فالاستغناء عنه بالمؤكّد بمنزلة الاستغناء بعلامة على معنى في شيء غير مذكور، كالاستغناء بحرف التعريف عن المُعَرَّف، وبعلامة التأنيث عن المؤنث، مع ما في تقديره من كثرة الحذف، ومخالفة المعتاد، وذلك أن في كلا الوجهين تقدير ثلاثة أشياء: في الرفع تقدير مبتدأ ومضاف ومضاف إليه، وفي النصب تقدير فعل وفاعل ومفعول، وفي التقدير الأول مخالفة لقاعدة التقدير من قبل أنه قدر: هما صاحباي، وما في الكلام دليل على الصحبة، والمعتاد في الحذف أن يكون في الباقي دلالة على المحذوف، وكان الأولى بعد أن نسلم التقدير أن نقدر: هما معنيان أنفسهما، كما قدر في النصب: أعنيهما، لأن كونهما معنيين معلوم، وكونهما صاحبين غير معلوم. وأيضا فإن هذا الحذف المدعى هو من من حذف المتبوع وإبقاء تابعه، والأصل فيه حذف المنعوت وإبقاء نعته قائما مقامه، وإنما جعلت حذف المنعوت أصلا لكثرته، وكونه مجمعا على صحة استعماله، ومع ذلك لا يستعمل إلا والعامل في المنعوت المحذوف موجود، وما مثل به الخليل من حذف المذكور، فالعامل فيه محذوف، فتجويزه يستلزم مخالفة النظير فيما هو أصل أو كالأصل.
ولا يجيز البصريون: مررت بقومك إما أجمعين وإما بعضهم، وأجازه الفراء على تقدير: مررت بقومك أجمعين وإما بعضهم. ويلزم سيبويه التجويز على تقدير:
مررت بقومك إما بهم أجمعين وأما بعضهم، فإن الحذف هنا أسهل من الحذف في: مررت بزيد وأتاني أخوه هما صاحباي أنفسهما وأعنيهما أنفسهما.
وبالغ الأخفش في منع حذف المؤكد فقال: لو نظرت إلى قوم فقلت: أجمعون قومك، تريد: هم أجمعون قومك، لم يجز، لأنك جئت بالتوكيد قبل أن يثبت عند المخاطب اسم يؤكد.
وأجاز سيبويه فيما قصد به العموم من: ضرب زيد الظهر والبطن، واليد والرجل، ومطرنا السهل والجبل، والزرع والضرع، أن يكون توكيدا ككل وأن يكون بدلا.
ونبهت بقولي: ولا يلي العوامل شيء من ألفاظ التوكيد وهو على حاله في التوكيد" على أنه لا يقال: زيد لقيت رأيت نفسه، ولا إخوتك كان أنفسهم منطلقين، ولا ما أشبه ذلك. لأنك أوليت رأيت نفسه، وولى كان أنفسهم، وهما الحال الذي يكونان عليه إذا قصد بهما التوكيد مع عدم قصد التوكيد. فلو كانا على غير الحال المستعمل في التوكيد وليا كل عامل، كقولك: رأيت نفس زيد، وأنفس إخوته.
واستثنيت جميعا وعامة بلا قيد، لأن استعمالهما في التوكيد قليل، واستعمالهما في غير التوكيد كثير، بخلاف غيرهما، فيقال: القوم مررت بجميعهم وعامتهم، ومررت بهم وجميعهم يتحدثون، وعامتهم نيام.
وأما كل وكلا وكلتا إذا كانت بالحال الصالحة للتوكيد فيباشرها العامل كثيرا إن كان ابتداء نحو: مررت بالرجال كلُّهم قيام، ومررت بالرجلين كلاهما في المسجد، وبالمرأتين كلتاهما في الدار. ولا يباشرها غير الابتداء إلا قليلا، فمن القليل قول كثير:
يَميدُ إذا والتْ عليه دِلاؤُهم
…
فيصدرُ عنه كلُّها وهو ناهلُ
ومنه قول عدي بن زيد:
أسمو بها عند الحبيب فنصبرا
…
كيما لنهلو كلنا ولنشربا
ومن القليل قول الأخفش في المسائل: تقول: ايتني بزيد أو عمرو أو كليهما، رفعا ونصبا وجرا. قال سيبويه في: باب هذا شيء محذوف فيه الفعل لكثرته في كلامهم: وكليهما وتمرا، كأنه قال: أعطني كليهما وزدني تمرا" فقدر أعطني عاملا في كليهما.
ويجوز: كان كلكم منطلقون، على أن اسم كان ضمير الشأن، وكلكم منطلقون، مبتدأ وخبر. ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
فلمّا تبيّنا الهُدى كان كلُّنا
…
على طاعةِ الرحمنِ والحقِ والتُّقى
ويقصد بكل معنى كامل فينعت به اسم جنس معرف أو منكر، وتلزم إضافته إلى مثل المنعوت لفظا ومعنى وتعريفا وتنكيرا، نحو: رأيت الرجل كل الرجل، وأطعمنا شاة كل شاة، وفيه معنى التوكيد وليس من ألفاظه، للزوم إضافته إلى ظاهر.
إذا أخبر عن كل مضافا إلى نكرة تعين اعتبار المعنى، نحو:(كلُّ نفس ذائقة الموت) وكل رجلين قائمان، وكل رجال قائمون و:(كلُّ حزب بما لديهم فرحون).
وإذا أخبر عن كل مضافا إلى معرفة جاز اعتبار لفظها، فيفرد الخبر ويذكّر كقوله
تعالى: (إنْ كلُّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) واعتبار معناها فيجاء به على وفق المضاف إليه، نحو:(وكلٌّ أَتَوْه داخرين) لأن المعنى: وكلهم أتوه داخرين.
ومذهب البصريين التسوية بين كلهم وأجمعين في إفادة العموم دون تعرض لاجتماع في وقت وعدمه. وزعم الفراء أن أجمعين يفيد أنهم كانوا مجتمعين في وقت الفعل. والصحيح أن ذلك ممكن أن يراد وممكن ألا يراد، فإمكان أن يراد مجمع عليه، فأغنى ذلك عن دليل، وإمكان ألا يراد مستفاد من قوله تعالى:(لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض ولأُغْوِيَنَّهم أجمعين) لأن إغواءهم لا يكون في وقت واحد.
فصل: ص: التوكيد اللفظي إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنى، وإن كان المؤكَّد به ضميرا متصلا، أو حرفا غير جواب لم يُعَد في غير ضرورة إلا معمودا بمثل عامده أولا أو مفصولا. وإن عمد أولا بمعمول ظاهر اختير عمد المؤكِّد بضمير. وفصل الجملتين بثم إن أمن اللبس أجود من وصلهما.
ش: تعم إعادة اللفظ اسما كان، معرفة كان أو نكرة، أو فعلا، أو حرفا متصلا أو منفصلا. وإعادة المركب، جملة كان أو غير جملة.
فإعادة الاسم المعرفة كقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
تَيَمَّمْتُ هَمْدانَ الذين همُ همُ
…
إذا نابَ أمرٌ جُنَّتي وسهامي
وإعادة النكرة كقول الأعشى ميمون:
أبيح لهم حبُّ الحياة فأدبروا
…
مَرْجاةُ نفسِ المرءِ ما في غدٍ غد
وإعادة الفعل كقول الشاعر:
فأين إلى النجاة ببغلتي
…
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس
وإعادة الحرف متصلا كقول الشاعر:
فما الدنيا بباقيةٍ بحُزْنٍ
…
أجَلْ لا لا ولا بِرخاء بالِ
وإعادة الحرف منفصلا كقول الكميت:
ليتَ شِعْرِي هلْ ثُمْ هل آتِيَنْهُمْ
…
أم يَحُولَنْ من دونِ ذاك حِمامي
وإعادة المركب غير الجملة كقول الكميت:
فلتك ولاةُ السُّوءِ قد طالَ مُكْثُهم
…
فَحتّام حتّامَ العناءُ المُطَوَّلُ
وإعادة المركب الجملة كقول الشاعر:
أيا مَنْ لستُ أقْلاه
…
ولا في البُعْدِ أنْساهُ
لك اللهُ على ذاك
…
لك اللهُ لك اللهُ
وكقول الآخر:
ألا حبذا حبذا حبذا
…
حبيب تحملت فيه الأذى
وقولي: وتقويته بموافقة معنى" يتناول توكيد الضمير المستتر والبارز المتصل بالمنفصل، نحو: قم أنت، وقمت أنا. وتوكيد الفعل باسم الفعل كقول الشاعر:
فرّتْ يهودُ وأسلمت جيرانها
…
صَمِّي لما فعلت يهود صَمام
وقولي: "وإن كان المؤكد به ضميرا متصلا أو حرفا غير جواب" أشرت بذلك إلى أن قاصد توكيد نحو: تاء فعلت، بإعادة لفظه، لا غنى له عن إعادة ما هو به متصل، فتقول: فعلت فعلت، ورأيتك رأيتك، ومررت به به. وكذلك يلزم في الحرف غير المجاب به، فعلى قاصد إعادة "في" من قولك: فيك نجابة، أن يقول: فيك نجابة فيك. وعلى قاصد إعادة "إنّ" من قولك: إن زيدا منطلق، أن يقول: إن زيدا إن زيدا منطلق، وإن زيدا إنه منطلق، وإن كان مع ذلك فصل كان أحسن، كقوله تعالى:(أيعدكم أنكم إذا مِتُّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) فأكد أنكم بأنكم مع الفصل. ويجوز أن يجعل الثاني مبتدأ، والخبر إذا متم، والجملة خبر أن الأولى، والتوكيد أجود. وليس لك أن تكرر الحرف وحده إلا إن اتصل به حرف عطف كقول الكميت: هل ثم هل، وكقول الراجز:
حتى تراها وكأنّ وكأنْ
…
أعناقَها مُشَدَّداتٌ في قَرَن
واستثنيت حرف الجواب لأنه قائم مقام جملة، فلقاصد توكيده أن يكرره وحده كما له في الإجابة أن يجيب به وحده، كقوله: أجل أجل لا لا، ولا يكرر حرف غيره إلا في ضرورة، نص على ذلك ابن السراج في الأصول.
وقد أشار الزمخشري في المفصل إلى توكيد الحرف الذي ليس من حروف الجواب بإعادته وحده، ونحو: إن إن زيدا منطلق، وقوله مردود لعدم إمام يسند إليه، وسماع يعول عليه، ولا حجة في قول الشاعر:
إنّ إنّ الكريمَ يحلُم مالم
…
يَرَيَنْ مَنْ أجارَهُ قد ضيما
فإنه من الضرورات، وكذا قول الآخر:
فلا والله لا يُلْفى لما بي
…
ولا لِلمابِهمْ أبدًا دواءُ
وإلى هذا أشرت بقولي: لم يُعَد في غير ضرورة إلا معمودا بمثل عامده أولا أو مفصولا" فمن المعمود بمثل عامده أولا قول الشاعر:
ليتني ليتني تَوَقَّيْتُ مُذْ أيْـ
…
ـفَعْتُ طَوْعَ الهوى وكنتُ مُنيبا
والمفصول كقول الآخر:
ليتَ وهلْ ينفعُ شيئا ليتُ
…
ليتَ شبابا بُوعَ فاشتريت
فأكد ليت بليت وفصل بينهما بـ (وهل ينفع شيئا) ليت. ومن الفصل المسموع الفصل بالوقف كقوله:
لا يُنْسك الأسى تأسِّيا فما
…
ما مِنْ حمامٍ أحدٌ مُعْتصِما
فما ليس معمودا ولا مفصولا فهو ضرورة، نحو: إن إن الكريم، ولا للما بهم وإن كان العامل اسما ظاهرا، فالمختار أن يعمد المؤكِّد بضمير، فقولك: مررت بزيد به، أجود من قولك: مررت بزيد بزيد، ومن المختار قوله تعالى:(ففي رحمة الله هم فيها خالدون) قال ابن السراج: "إلا أن الحرف لا يكرر إلا مع ما اتصل به، لا سيما إذا كان عاملًا" ومثل بقوله: في الدار زيد قائم فيها. وقال: فيفيد "فيها" توكيدا. وقال تعالى: (وأما الذين سُعِدوا ففي الجنة خالدين فيها) فجعل فيها توكيدا، وفي الجنة مُؤَكَّدا، وكذا أقول، ومن حكم على شيء من
هذا بالبدلية فليس بمصيب، وإن حظي من الشهرة بأوفر نصيب.
وإن كان المؤكَّد والمؤكِّد جملتين، وأُمِن توهم كون الثانية غير مؤكدة، فالأجود الفصل بينهما بعاطف، كقوله تعالى:(كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون) وكقوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين) فلو خيف توهم كون الثانية غير مؤكدة نحو: ضربت زيدا، ثم ضربت زيدا، ترك العاطف، لأن ذكره يخل بالتوكيد، ويوهم أن الضرب الثاني غير الأول. وقد جعل ابن السراج من التوكيد اللفظي قول الشاعر:
ألا يااسْلَمى ثم اسلمى ثُمَّتَ اسلمى
…
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
ص: ويؤكَّد بضمير الرفع المنفصل المتصل مطلقا، ويجعل المنصوب المنفصل في نحو: رأيتك إياك، توكيدا لا بدلا، وفاقا للكوفيين.
ش: لا خلاف بين النحويين في توكيد الضمير المتصل – مرفوعه ومنصوبه ومجروره – بضمير الرفع المنفصل، نحو: فعلت أنت، ولقيتك أنت، ومررت بك أنت. واختلف في ضمير النصب المنفصل الواقع بعد ضمير النصب المتصل، نحو: رأيتك إياك، فجعله البصريون بدلا، وجعله الكوفيون توكيدا، وقولهم عندي أصح من قول البصريين، لأن نسبة المنصوب المنفصل من المنصوب المتصل في نحو: رأيتك إياك، كنسبة المرفوع المنفصل من المرفوع المتصل في نحو: فعلت أنت، والمرفوع توكيد بإجماع، فليكن المنصوب توكيدا، ليجرى المتناسبان مجرى واحدا.