المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإضافة ص: المضاف هو الاسم المجعول كجزء لما يليه خافضا - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌ ‌باب الإضافة ص: المضاف هو الاسم المجعول كجزء لما يليه خافضا

‌باب الإضافة

ص: المضاف هو الاسم المجعول كجزء لما يليه خافضا له بمعنى "في" إن حسن تقديرها وحدها، وبمعنى "من" إن حسن تقديرها مع صحة الإخبار عن الأول بالثاني، وبمعنى "اللام" تحقيقا أو تقديرا فيما سوى ذينك. ويزال ما في المضاف من تنوين أو نون تشبهه. وقد يزال منه تاء التأنيث إن أُمِن اللبس.

ش: الاسم المجعول كجزء لما يليه يعمّ الموصول والمركب تركيب مزج والموصوف بصفة لازمة ويخرج الثلاثة تقييد المجعول بكونه خافضا، فيختص المضاف بالجدّ.

وقلت كجزء لما يليه، ولم أقل كجزء اسم، لأن ثاني جزءي المضاف قد يكون جملة وحرفا مصدريا، وما يلي يعمّ الاسم وإيّاهما، فكان بالذكر أولى. ثم بينت أن الإضافة على ثلاثة أقسام: إضافة بمعنى "في" وإضافة بمعنى "من" وإضافة بعنى "اللام".

وقد أغفل النحويون التي بمعنى "في" وهي ثابتة في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقوله تعالى (وهو ألَدُّ الخِصامِ) وكقوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعةِ أشهر)، وقوله تعالى (ياصاحِبَي السِّجْن) وقوله تعالى (بل مكرُ الليل والنهار). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"، وقول العرب: شهيد الدار وقتيل الكربلاء. ومنه قول الشاعر:

لهم سَلَفٌ شمٌّ طوالٌ رماحُهم

يسيرون لا ميلَ الركوب ولا عُزْلا

ص: 221

ومثله:

مُهادِي النِهار لجاراتِهم

وبالليلِ هُنّ عليهم حرام

ومثله:

وغيثٍ تبطّنت قُرْيانه

بأجردَ ذي ميْعة منهمرْ

مسحّ الفضاء كسيد الأباء

جميم الجراء شديد الحُضُرْ

ومثله:

من الحورِ مَيْسانُ الضُحى بُحْتريّة

ثَقالٌ متى تنهضْ إلى الشيء تفتر

ومثله:

طَفْلةٌ باردةُ الصيف إذا

مَعْمعانُ القيظ أضْحى يتقدْ

سُخْنة المسّ لحافٌ للفتى

تحت ليلٍ حين يغشاه الصَّرَدْ

ومثله:

تسائلُ عن قرْم هجان سَميْذَعٍ

لدى البأس مغوار الصَّباح جَسور

ومثله:

وما كنا عشية ذي طليح

لئام الروعِ إذ أزمَتْ أزامِ

فلا يخفى أن معنى "في" في هذه الشواهد كلها صحيح ظاهر لا غنى عن

ص: 222

اعتباره. وأن اعتبار معنى غيره ممتنع، أو متوصل إليه بتكلف لا مزيد عليه، فصح ما أردناه والحمد لله.

وأما الإضافة بمعنى "من" فمضبوطة بكون المضاف بعض المضاف إليه، مع صحة إطلاق اسمه عليه، والإخبار به عنه كثوب خزّ، وخاتم فضّة، فالثوب بعض الخزّ، ويصح إطلاق اسمه عليه والإخبار به عنه، وكذلك الخاتم بالنسبة إلى الفضة. ومن هذا النوع إضافة الأعداد إلى المعدودات، والمقادير إلى المقدرات. فأما نحو يد زيد فالإضافة فيه بمعنى اللام، لا بمعنى من، لامتناع الإخبار فيها بالثاني عن الأول وإن كان الأول بعضا للثاني. وكذا الإضافة في نحو يوم الخميس هي أيضا بمعنى اللام لا بمعنى من لكون الأول ليس بعضا للثاني وإن كان الإخبار فيها بالثاني عن الأول غير ممتنع. هذا معنى قول ابن السراج – رحمه الله – وهو الصحيح، لا قول ابن كيسان والسيرافي فإنهما جعلا إضافة كل إلى بعض بمعنى من على الإطلاق.

وإذ قد انضبطت مواضع الإضافة التي بمعنى "في" ومواضع الإضافة التي بمعنى "من" فيلعلم أن كل إضافة سواهما فهي بمعنى "اللام"، وإن لم يحسن تقدير لفظها نحو زيد عند عمرو، وعمرو عند خالد، فلا يخفى أن لفظ اللام لا يحسن تقديره هنا، ومع ذلك يحكم بأن معناها مراد، كما حكم بأن معنى "من" في التمييز مراد، وإن لم يحسن تقدير لفظها. وأن معنى "في" في الظرف مراد، وإن لم يحسن تقدير لفظها. وقد يحسن تقدير من وتقدير اللام معا، ويجعل الحكم للام لأنها الأصل، ولذلك اختصت بجواز إقحامها بين المضاف والمضاف إليه في نحو:

يابُؤسَ للحربِ التي

وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا

أراد يابؤس الحرب.

ودخل في قولي "ويزال ما في المضاف من تنوين" المنون لفظا كغلام، والمنون

ص: 223

تقديرا كأساورَ. فإنك إذا قلت أساورُ فضةً بالنصب فالتنوين مقدر الثبوت، وإذا قلت أساورُ فضةٍ، بالجرّ، فإن الذي كان ثبوته مقدّرا صار حذفه مقدّرا، ولذلك لا ينون في الاضطرار، بخلاف الذي تنوينه مقدر الثبوت فإنه ينوّن في الاضطرار. ودخل في قولي "أو نون تشبهه" نونا المثنى والمجموع كصاحبَيْن ومكرمين، ونون الجاريتين مجراهما في الإعراب كاثنين وعشرين، فإن نونيهما تحذفان للإضافة، لجريانهما مجرى المثنى والمجموع على حدّه، فيقال اقبض اثنيك وعشريك كما يقال اذكر صاحبتيك ومكرميك. ولا خلاف في إضافتهما إلى غير مميزهما. وإنما تمنع إضافتهما إلى مميزها، إلا في الاضطرار كقول الراجز:

كأن خُصْيَيه من التَّدَلْدُل

ظرفُ عجور فيه ثِنْتا حنظل

أو في ندور كرواية الكسائي أن بعض العرب يقول: عشرو درهم.

وقد يحذف من المضاف تاء التأنيث إن لم يوقع حذفها في التباس مذكّر بمؤنّث كحذف تاء ابنة، أو مفرد بجمع كحذف تاء تمرة. ومن شواهد ذلك قراءة بعض القراء (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عُدَّهُ) ومنها قول الشاعر:

إنك أنت الحزينُ في أثَر الـ

قومِ فإنْ تَنْوِ نيَّهم تُقمِ

ومثله:

إنّ الخليطَ أجدّوا البَيْنَ وانجردوا

وأخلفوك عدا الأمرِ الذي وعدوا

ص: 224

ومثله:

ونارٍ قُبيل الصبح بادرْتُ قدْحها

حَيا النارِ قد أوقدتها للمسافر

ومثله:

ألا ليتَ شعْرِي، هل تَنظّر خالدٌ

عِيادي على الهجْران أم هو آيسُ

ومثله:

وأحلى من التمر الجنيّ وفيهم

بسالةُ نفسٍ إنْ أريدَ بسالُها

ومثله قول رؤبة:

هاتكتُه حتّى انْجلتْ أكدارُهُ

وانْحسرتْ عن مَعرفي نكْراؤُه

فسهّل حذف التاء من هذه الأسماء أن حذفها لا يوقع في التباس، لأنه لا يقال في العُدّة: عُدّ، ولا في النّية، نيّ، ولا في العِدة: عِدٌ، ولا في الحياة: حيا، ولا في العيادة: عِياد، ولا في البسالة: بسال، ولا في المعرفة: مَعْرِف. وجعل الفراء من هذا القبيل (وإقامَ الصلاةِ) و (وهم من بعد غَلَبهم سَيَغْلبون) بناء على أنه لا يقال دون إضافة في الإقامة: إقام، ولا في الغلبة: غلب.

ص: ويتخصص بالثاني إن كان نكرة، ويتعرف به إن كان معرفة، مالم يوجب تأوّله بنكرة وقوعه موقعَ مالا يكون معه معرفة، أو عدم قبوله تعريفا لشدة إبهامه كغير ومثل وحسب، أو تكون إضافته غير محضة ولا شبيهة بمحضة، لكونه صفة مجرورها مرفوع بها في المعنى أو منصوب، وليس من هذا المصدر المضاف إلى مرفوعه أو منصوبه خلافا لابن برهان. ولا أفعل التفضيل، ولا الاسم المضاف إلى الصفة خلافا للفارسي، بل إضافة المصدر وأفعل التفضيل محضة، وإضافة الاسم إلى الصفة شبيهة بمحضة لا محضة، وكذا إضافة المسمّى إلى الاسم،

ص: 225

والصفة إلى الموصوف، والموصوف إلى القائم مقام الوصف، والمؤكَّد إلى المؤكِّد والملغيّ إلى المعتبر، والمعتبر إلى الملغيّ.

ش: كل جزء من جزأي الإضافة مؤثر في الآخر؛ فالأول مؤثر في الثاني الجرّ بأحد المعاني الثلاثة، والثاني مؤثر في الأول نزع دليل الانفصال مع التخصيص إن كان الثاني نكرة، ومع التعريف إن كان معرفة. هذا إن لم يكن المضاف إلى معرفة واقعا موقع مالا يكون معرفة فيجب تقدير انفصاله، ليكون في المعنى نكرة، كقول الشاعر:

أبالموت الذي لا بُدَّ أنّي

مُلاقٍ لا أباك تُخوّفيني

وكقول العرب: رُبّ رجل وأخيه، وكم ناقة وفصيلها، وفعل ذلك جهدَه وطاقته. وقد تقدم بيان حقيقة التأويل في هذه الأمثلة وأمثالها، فَصُوَرُها صورُ المعارف تقديرا وتقدير تنكيرها واجب، لوقوع كل واحد منها موقع ما لا يكون معرفة، وكذا الحكم بتنكير ما أضيف إلى معرفة وهو غير قابل للتعريف للزوم إبهامه كغير ومثل وحسب؛ فإنه لا فرق بين قولك رأيته ورجلا غيره. وقولك رأيته ورجلا آخر، وكذا لا فرق بين قولك رأيته ورجلا مثله وبين قولك رأيته ورجلا آخر. لكن كل ما صدق وصفه بالمغايرة صدق وصفه بالمماثلة إذا كان الجنس واحدا. وكذا لا فرق بين قولك رأيته ورجلا حسبك من رجل وبين قولك رأيته رجلا كافيا فيما يراد من الرجال. فلا يزول بإضافة هذه وأمثالها إلى المعارف مما تقدم إلا مالا يعتد بزواله. وقد يُعنى بغير ومثل مغايرة خاصة ومماثلة خاصة فيحكم بتعريفهما، وأكثر ما يكون ذلك في "غير" إذا وقع بين ضدّين كقوله:

فلْيكُنِ المغلوبُ غيرَ الغالِبِ

وليكُنِ المسلوبُ غيرَ السالب

وأجاز بعض العلماء منهم السيرافي أن يحمل على هذا قوله تعالى (صِراطَ

ص: 226

الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) لوقوع "غير" فيه بين متضادين، وليس ذلك بلازم، كقوله تعالى (نعمل صالحًا غيرَ الذي كُنّا نعملُ) فغير الذي مضاف إلى معرفة وقد قصد به نكرة مع وقوعه بي ضدين، فيجوز كون (غير المغضوب) بدلا لانعتا، ويجوز كونه نعتا مع الحكم بتنكيره، لأن الذين أنعمت عليهم لم يقصد به تعيين، فهو في معنى نكرة فيجوز نعته بنكرة وإن كان لفظه لفظ معرفة، كما يجوز أن ينعت الليل ينسلخ في قول تعالى (وآيةٌ لهم الليلُ نسلخُ منه النهارَ)، لأن الليل وإن كان في صورة معرفة فهو في المعنى نكرة إذ لم يقصد به ليل معيّن، فلذلك نعت بجملة، والجمل لا ينعت بها إلا النكرات.

وإلى هذا الوجه الآخر أشار الفراء والزجاج ورجّحه أبو علي الشلوبين. وزعم المبرد أن "غيرا" لا تتعرّف أبدا. ومن نعت ذي الألف واللام الجنسية بالجملة قول الأعشى:

وتبْردُ بَرْدَ رداءِ العروس

رَقْرقت في الصيف فيه العبيرا

لأن رداء العروس بمنزلة رداء عروس. وكذا يحكم بتنكير ما يضاف إلى معرفة إضافة غير محضة ولا شبيهة بمحضة، وذلك أن يكون المضاف صفة مجرورها مرفوع بها في المعنى نحو: رأيت رجلا حسن الخَلْق محمودا الخُلُق، أو منصوب نصبا حقيقيا نحو: رأيت رجلا مكرم زيد؛ فالإضافة في هذه الأمثلة وأشباهها غير محضة ولا شبيهة بمحضة، لأن المضاف فيها صفة أضيفت في الأول والثاني إلى ما هو مرفوع بها في المعنى، فإن الأصل رأيت رجلا حسنا خَلْقه محمودا خُلُقه، وأضيف في الثاني إلى ما هو منصوب بها في المعنى نصبا حقيقيا، فإن الأصل رأيت رجلا مكرما زيدا، أي يكرم زيدا. فالنية الانفصال، فإن الموضع موضع فعل.

ص: 227

وخرج بذكر الصفة إضافة المصدر، وإضافة المميز، وخرج بنسبة الرفع والنصب إلى مجرورها نحو سحقُ عمامة، وكرام الناس، فإن إضافتهما محضة، لأنهما لم يقعا موقع فعل، ولا المجرور بهما مرفوع المحل ولا منصوبه. ثم نبهت إلى أن الصحيح كون إضافة المصدر محضة. وزعم ابن برهان أن إضافته غير محضة لأن المجرور به مرفوع المحل أو منصوبه كقيام زيدٍ وأكل الطعامِ، فالأول مثل حسن الخلق، والثاني مثل ضارب العبد.

قلت: والذي ذهب إليه ابن برهان ضعيف في أربعة أوجه: أحدها أن المصدر المضاف أكثر استعمالا من غير المضاف، فلو جعلت إضافته في نية الانفصال لزم جعل ما هو أقل استعمالا أصلا وهو خلاف المعتاد. الثاني أن إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها منوية الانفصال بالضمير المستتر فيها فجاز أن ينوي انفصالها باعتبار آخر، والمصدر بخلاف ذلك؛ فتقدير انفصاله مما هو مضاف إليه لا محوج إليه ولا دليل عليه. الثالث أن الصفة المضافة إلى مرفوعها أو منصوبها واقعة موقع الفعل المفرد، والمصدر المضاف واقع موقع حرف مصدري موصول بالفعل، والموصول المشار إليه محكوم بتعريفه فليكن الواقع موقعه كذلك. الرابع أن المصدر المضاف إلى معرفة معرفة، ولذلك لا ينعت إلا بمعرفة، فلو كانت إضافته غير محضة لحكم بتنكيره ونعت بنكرة، ولجاز دخول رب عليه وأن يجمع فيه بين الألف واللام والإضافة كما فعل في الصفة المضافة إلى معرفة نحو:

يارُبّ غابطنا

ورأيت الحسن الوجه.

ونبهت أيضا على أن الصحيح في إضافة أفعل التفضيل كونها محضة، نص على ذلك سيبويه – رحمه الله – ويدل على أن ذلك هو الصحيح أن الحامل على اعتقاد عدم

ص: 228

التمحض في إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها وقوع الأول فيها موقع الفعل، ووقوع الثاني موقع مرفوع ذلك الفعل ومنصوبه، وأفعل المضاف بخلاف ذلك، فلم يجز اعتقاد كون إضافته غير محضة. وأيضا فإن المضاف إليه أفعل التفضيل لايليه مع بقاء المعنى المفاد بالإضافة إلا بالإضافة فكان كغلام زيد، ولا خلاف في تمحض غلام زيد، فكذا إضافة أفضل القوم وشبهه، ولأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة لا ينعت إلا بمعرفة، ولا ينعت به إلا معرفة، ولا تدخل عليه رُبّ، ولا يجمع فيه بين الإضافة والألف واللام، ولا ينصب على الحال إلا في نادر من القول. ولو كانت إضافته غير محضة لكان نكرة ولم يمتنع وقوعه نعتا لنكرة ولا منعوتا بها ولا مجرورا برب ولا مجموعا فيه بين الألف واللام والإضافة، ولا منصبوا على الحال دون استندار.

واحترزت بقولي "دون استندار" من قول المرأة الصحابية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومالنا أكثر أهل النار" وهو معرفة مؤول بنكرة كغيره من المعارف الواقعة أحوالا. وقد تقدّم الكلام عليهما. ونبهت أيضا على أن إضافة الاسم إلى ما هو في الأصل صفة كمسجد الجامع واسطة بين المحضة وغير المحضة على أصح القولين، لأنها إضافة تصل ما هي فيه بما يليه إمّا بها نحو (ولدارُ الآخرة) وكلا الاستعمالين صحيح فصيح فوجب أن يكون لنوعه اعتباران: اتصال من وجه وانفصال من وجه، فالاتصال من قبل أن الأول غير مفصول بضمير منوي كما هو في إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها، ولأن موقعه لا يصلح للفعل فيقدر تنكيره، ولأن الذي حكم بعدم تمحض إضافته جعل سبب ذلك أن الأصل إضافة الأول إلى موصوف الثاني، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وهذا إذا سُلّم لا يمتنع به تمحض الإضافة، لأن الحكم لا يتغير بحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وقبل حذف الموصوف كان تمحض الإضافة ثابتا فلا يزول بعد الحذف، كما لا يزول

ص: 229

غيره من أحكام المحذوف الذي أقيم غيره مقامه.

وأما الانفصال في هذا النوع فمعتبر من قِبَل أن المعنى يصح به دون تكلف ما يخرج به عن الظاهر. ألا ترى أن نحو الجانب الغربي والصلاة الأولى والمسجد الجامع والدار الآخرة والحبة الحمقاء مكتفى بلفظه في صحة معناه، وأن نحو جانب الغربي وصلاة الأولى ودار الآخرة ومسجد الجامع وحبة الحمقاء غير مكتفى بلفظه في صحة معناه، بل يحتاج فيه إلى تكلف تقدير، بأن يقال جانب المكان الغربي، وصلاة الساعة الأولى، ودار الحياة الآخرة، ومسجد الوقت الجامع، وحبة البقلة الحمقاء. مع أن بعض هذا النوع لا يحسن فيه تقدير موصوف نحو (دينُ القَيِّمةِ) فإن أصله الدين القيمة. والتاء للمبالغة – فإذا قُدّر محذوف لزم أن يقال دين الملة أو الشريعة، والملة هي الدين وكذا الشريعة، فلزم تقدير مالا يغني تقديره، لأن المهروب منه كان إضافة الشيء إلى نفسه وهو لازم بتقدير الملة والشريعة. وأيضا جعل الأول من هذا النوع منعوتا والثاني نعتا مطّرد كقولهم للحنطة: الحبة السمراء، وللشونيز: الحبة السوداء، وللبطيخ: الحبة الخضراء. والإضافة غير مطردة، لأنها مقصورة على السماع، واعتبار المطرد أولى من اعتبار غير المطرد، ولذلك يجوز الإتباع فيما جازت فيه الإضافة، ولا تجوز الإضافة فيما لم تضفه العرب كالحبة الحمراء، والحبة السوداء، والحبة الخضراء.

والحاصل أن إضافة هذا النوع منوية الانفصال لأصالتها بالاطراد والإغناء عن ترك الظاهر، ومع ذلك لا يحكم بتنكير مضافها لشبهه بما لا ينوى انفصاله من كونه غير واقع موقع فعل، وكون تاليه غير مرفوع المحل ولا منصوبه. ثم نبهت على المضافات الجارية مجرى هذا النوع في اعتبار الاتصال والانفصال. فمنها إضافة المسمّى إلى الاسم كشهر رمضان ويوم الخميس وذات اليمين وذي صباح، وقوله:

إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت

نَوازِعُ من قلبي ظِماء وألْبُبُ

ص: 230

ومثله:

عزمتُ على إقامةِ ذي صباحٍ

لأمر ما يُسَوّد مَن يسودُ

ومثله:

على كلِ ذي مَيْعَةِ سابحٍ

يُقطّع ذو أبْهَرية الجِزاما

ومن إضافة المسمى إلى الاسم قولهم: سعيدُ كرز، فإن "سعيد" علم و"كرز" لقب، والشخص المدلول عليه بهما واحد، لكن الاسم قبل اللقب في الموضع فقدّم عليه في اللفظ وقصد بالمقدم المسمّى لتعرّضه إلى ما يليق بمجرد اللفظ من نداء وإسناد، فلزم أن يقصد بالثاني مجرد اللفظ، لتثبت بذلك مغيرةٌ لما، حتى كأن قائل جاء سعيد كرز قد قال: جاء مسمّى كرز. وكذا قائل صمت شهر رمضان، واعتكفت يوم الخميس، كأنه قال صمت مسمّى رمضان، واعتكفت مسمّى الخميس. وكذا العمل في أشباههما. ومنه إضافة الصفة إلى الاسم، كقول الشاعر:

إنّا محيّوكِ ياسَلْمَى فحيّينا

وإنْ سَقيتِ كرامَ الناس فادْعينا

والأصل: وإن سقيت الناس الكرام، ثم قدم الصفة وجعلها نوعا مضافا إلى الجنس. ومن هذا القبيل قولهم سَحق عمامة وجَرد قطيفة وسَمْل سربال، والأصل: عمامة سحق، وقطيفة جرداء، وسربال سَمْل، ثم فُعل بها ما فُعل بكرام الناس. ومنها إضافة الموصوف إلى مضاف إليه كقول الشاعر:

علا زيدُنا يومَ النقا رأسَ زيدكم

بأبيضَ ماضي الشفرتَين يمانِ

ص: 231

أي علا زيد صاحبنا رأس زيد صاحبكم، فحذف الصفتين المضافتين إلى ضميري المتكلم والمخاطب وجعل الموصوف خلفا عن الصفة في الإضافة. ومثله:

فإنّ قريشَ الحقّ لا تتْبعُ الهوى

ولن يقبلوا في الله لومةَ لائم

أراد فإن قريشا أصحاب الحق، ثم فعل كفعل الأول. ومثله:

لعمري لئن كانت بجيلة زانها

جريرٌ لقد أخزى كليبا جريرها

ومثله قول الأسد الطائي:

قتلتُ مجاشعا وأسَرْت عَمْرا

وعنترةَ الفوارسِ قد قتلْتُ

ومثله قول الحطيئة:

إليكَ سعيدَ الخير جُبتْ مهامِها

يُقابلني آل بها وتُنوف

ومثله قول رؤبة:

ياقاسم الخيراتِ وابنِ الأخير

ما ساسَنا مثلك مِن مُؤَمَّر

ومثله:

يازيدُ زيدَ اليَعْمُلاتِ الذُّبّل

وكذا قولهم في زيد الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير: زيد الخيل، لأنه كان صاحب خيل كريمة.

وعلى هذه الأمثلة وشبهها نبهت بقولي: "والموصوف إلى القائم مقام الوصف". ثم أشرت إلى إضافة المؤكَّد إلى الموكّد، وأكثر ما يكون ذلك في أسماء

ص: 232

الزمان المبهمة كحينئذ ويومئذ وقد يكون في غير أسماء الزمان، كقول الشاعر:

فقلتُ انْجُوا عنها نجا الجلدِ إنّه

سَيُرْضيكما منها سنامٌ وغارِبُهْ

أراد: اكشطا عنها الجلد، لأن النجا هو الجلد. فأضاف المؤكد، كما أضيف الموصوف إلى الوصف في المسجد الجامع وشبهه. ومن إضافة المؤكد إلى المؤكد في غير الزمان قول الشاعر:

لم يبْق من زَغَب طار الشتاء به

على قرا ظهْره إلّا سماليل

فأضاف القرى إلى الظهر وهما بمعنى واحد، كما فعل في نجا الجلد. ومثله:

كخَشْرم دَبْرٍ له أزْمَلُ

أو الجَمْر حُشَّ بصُلب جُزالْ

فأضاف الخشرم إلى الدبر وكلاهما اسم للنحل. وذكر الفارسي في التذكرة أن قولهم: لقيته يوم يوم، وليلة ليلة، أضيف فيه الشيء إلى مثله لفظا ومعنى.

ومن إضافة الملغى إلى المعتبر قول الشاعر:

إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما

ومن يبكِ حَوْلًا كامِلا فقد اعتذَرْ

ومثله:

ياعجَبا لعُمان الازْدِ إذ هلكوا

وقد رأوا عِبرًا في سالف الأمم

ومثله:

قالت أتصرمُني فقلتُ لقيلها

شلّتْ بنانُ يدَي إذا لم أفعل

ص: 233

ومثل:

ألا ليت أيامَ الصفاءِ جديدُ

ودهرًا تولّى يابُثينَ يعودُ

ومثله:

وتيهٍ خبطنا غَوْلها فارْتمى بنا

أبو البُعْدِ من أرجائه المتطاوِح

أراد فارتمى بنا البعد. ومثله قول أمية في ناقة صالح عليه السلام:

فأتاها أحَيْمِرٌ كأخي السهـ

مِ بزُجّ فقال: كوني عَقيرا

أراد كالسهم فألغى "الأخ". ومن إلغاء المضاف والاعتداد بالمضاف إليه ما حكى من قول العرب: هذا حي زيد، وأتيتك وحي فلان قائم، وحي فلانة شاهد. وسمع الأخفش أعرابيا يقول: مالهن حي رماح، يعني أبياتا. ومثله قول الشاعر:

ياقُرّ إنّ أباكَ حيّ خُويلدٍ

قد كنتُ خائفَه على الإحْماقِ

والمعنى: هذا زيد، وإن أباك خويلد، ومالهنّ رماح. ومن هذا القبيل قول الشاعر:

وحيَّ بني كِلابٍ قد شَجَرْنا

بأرْماح كأشْطانِ القليب

قال الفارسي: من إلغاء المضاف (كمن مثله في الظّلُماتِ) أي كمن هو في الظلمات، و (مثلُ الجنّةِ التي وُعِدَ المتّقونَ فيها أنهارٌ) أي الجنة التي وُعد المتقون فيها أنهار.

ومن إضافة المعتبر إلى ما لا يعتبر ولا يعتدّ به إلا كالاعتداد بالحرف الزائد للتوكيد

ص: 234

قول ابن أبي ربيعة – رحمه الله تعالى -:

حمّلتها حُبًّا لو امْسَى مثلُه

بِثَبيرَ أو بجِرانِه لتَضَعْضعا

ومثله قول الحطيئة:

فلو بلغتْ عَوّا السماءِ قبيلةٌ

لزادتْ عليها نَهْشل وتَعلّتِ

وله أيضا:

لعمرُ الراقصاتِ بكُلّ فجّ

من الرُّكْبان مَوْعدُها مناها

لقد شهدت حبائلُ آل لأم

حبالى بعد ما ضعُفت قواها

ومثله قول الفرزدق:

وثقتُ إذا لاقتْ بلالًا مَطيّتي

لها بالغنى إنْ لم تُصبها شَعُوبُها

ومثله قول بعض الطائيين:

أقام ببغداد العراقِ وشَوْقُه

لأهلِ دمشقِ الشامِ شوقٌ مُبرِّحُ

ومثله قول أذينة السلمي، وكان سادن العُزَّى:

أعُزّايَ شُدّي شدّةً لا تكذبي

على خالدٍ ألقي الخمارَ وشَمِّري

فإنكِ إلّا تقتلي اليومَ خالدا

تَبُوئي بِذُلّ عاجِل وتحَسُّرِ

ومن هذا القبيل مررت برجل حسن وجهه وحسن وجهَه، واضرب أيَّهم أساء، لأن "أيّا" الموصولة معرفة بصلتها كغيرها من الأسماء الموصولة، فلو كان ما

ص: 235

تضاف إليه معتدّا به لزم اجتماع معرّفين على معرّف واحد وهو ممنوع، وما أفضى إلى الممنوع ممنوع.

فصل: ص: لا يُقدَّم على مضافٍ معمولُ مضاف إليه إلّا على "غير" مرادا به نفي، خلافا للكسائي في جواز أنت أخانا أولُ ضاربٍ. ويؤنث المضاف لتأنيث المضاف إليه إن صح الاستغناء به، وكان المضاف بعضه أو كبعضه. وقد يرد مثل ذلك في التذكير ويضاف الشيء بأدنى ملابسة.

ش: المضاف إليه كصلة للمضاف، فلا يتقدم على المضاف معمول المضاف إليه، كما لا يتقدم على الموصول معمول الصلة، فلا يقال في أنت أول قاصدا خيرا: خيرا أنت أول قاصد، ولا في أنا مثل مكرم عمرا: عمرا مثل مكرم. فإن كان المضاف "غيرا" مرادا به النفي جاز أن يتقدم عليه معمول ما أضيف إليه، كما يتقدم معمول المنفي بلم ولن ولا.

ومن شواهد ذلك قول الشاعر:

فتى هو حقًّا غيرُ مُلغٍ (فريضةً)

ولا يتَّخِذْ يومًا هواهُ خليلا

ومثله:

إنٌ امرأً خَصّني يومًا موَدَّته

على التنائي لَعِنْدي غيرُ مكفور

والأصل: غير ملغ حقا، وغير مكفور عندي. وجاز التقديم لأن النفي مراد، كأن الأول قد قال: هو حقا لا يلغي، وكأن الثاني قال: على التنائي لا يكفر عندي. فلو لم يرد بغير النفي لم يجز تقديم ما أضيف إليه كقولك أكرم القوم غير شاتم زيدا، فلو قال: أكرم القوم زيدا غير شاتم لم يجز، لأن النفي غير مراد. وحكى ثعلب أن الكسائي أجاز أن يقال: أنت أخانا أول ضارب، بمعنى أنت أول ضارب أخانا. وغير الكسائي يمنع ذلك، وهو الصحيح.

ص: 236

ويكتسب المضاف إلى مؤنث تأنيثا، بشرط صحة الاستغناء بالمضاف إليه، وكون الأول بعضا أو كبعض. وكذلك يكتسب المؤنث المضاف إلى مذكر تذكيرا بالشرط المذكور، فمن الأول قول الشاعر:

إذا بعضُ السنينَ تعرَّقتْنا

كفى الأيتامَ فقد أبى اليتيم

ومثله:

مَشينَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهت

أعاليها مرُّ الرياح النواسمِ

ومثله:

لما أتى خبرُ الزُّبير تواضعتْ

سورُ المدينة والجبال الخشعُ

ومثله:

أبا عُروَ لا تبعدْ فكُلُّ ابن حُرّة

سيدعُوه داعي مَوْته فيُجيبُ

ومثله:

(دويهة) داعي المنية بالورى

فمنهم مُقدمٌ ومنهم مؤخّرُ

ومثله:

قد صرّح السيرُ عن كُتْمانَ وابتُذلتْ

وقعُ المحاجن بالمَهْريّة الذُقُنِ

ص: 237

ومنه قراءة أبي العالية (فظلّت أعناقهم لها خاضعين) ويمكن أن يكون منه (إن رحمت الله قريب من المحسنين)، ومنه قول الشاعر:

إساءة من يبغي على الناس موقعٌ

بحَوبائه الهلكاءَ من حيثُ لا يدري

ومنه:

بهجه الحُسْنِ فاتِنٌ فاغضُضِ الطر

ف لتكفي صيد الظباء الأسودا

ومثله:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوْع هوى

وعقلُ عاصي الهوى يَزْدادُ تنويرا

ومثله:

رؤيةُ الفِكْرِ ما يَئول له الأمـ

رُ مُعينٌ على اجتنابِ التواني

فأنث في النوع الأول المضاف وهو مذكر لتأنيث المضاف إليه. وذكّر في النوع الثاني المضاف وهو مؤنث لتذكير المضاف إليه، لصحة الاستغناء فيهما عن المضاف بالمضاف إليه، مع كون المضاف بعض المضاف إليه أو كبعضه.

واحترزت بهذا من المضافات الصالحة للحذف وليست بعض ما أضيفت إليه ولا كبعضه كيوم الخميس وذي صباح. [ومن غير الصالحة للاستغناء عنها بالمضاف إليه. فإن كانت كذلك] لم يؤنث مذكر، ولم يذكّر مؤنث نحو حسن غلام هند

ص: 238

وكرمت أم زيد. ويضاف الشيء إلى الشيء، بأدنى ملابسة بينهما، كقول صاحب الخشبة لحامليها: خذا طرفَيكما، وكقول الشاعر:

إذا كَوْكبُ الخرقاءِ لاحَ بسُحْرة

سهيلٌ أضاعتْ غَزْلها في القرائب

وكقول الآخر:

إذا قال قَدْني قال بالله حلفةً

لتُغْنِنَّ عنّي ذا إنائِكَ أجْمعا

فصل: ص: لازمت الإضافة لفظا ومعنى أسماء، منها ما مرّ في الظروف والمصادر والقسم. ومنها حُمادى وقُصارى، ووحْدَ لازم النصب والإفراد والتذكير وإيلاء ضمير. وقد يجرّ بعلى وبإضافة نسيج وجُحيش وعُيير. وربّما ثنّي مضافا إلى ضمير مثنى. ومنها كلا وكلتا ولا يضافان إلا إلى معرفة مثناة لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ. وقد تفرق بالعطف اضطرارا. ومنها ذو وفروعه، ولا يضفن إلا إلى اسم جنس ظاهر. وكذا أولو وألات. وقد يضاف "ذو" إلى عَلم وجوبا إن قرنا وضعا، وإلّا فجوازا، وكلاهما مسموع، والغالب في ذي الجواز الإلغاء، وربما أضيف جمعه إلى ضمير غائب أو مخاطب.

ش: قد يقتضي الاستعمال لزوم الإضافة لفظا ما يفهم معناه بمجرد الإضافة كحمادى الشيء فإنه بمعنى غايته، فلو استعمل غاية لصلح لذلك من جهة المعنى، لكن الاستعمال منع من ذلك. والأكثر لزوم الإضافة مالا يفهم معناه إلا بها. فإذا كان معنى الاسم لا يفهم بمجرد لفظه استحق متمما بصلة أو صفة لازمة أو إضافة؛ فالمتمم بصلة نحو: هذا الذي عندي. والمتمم بصفة لازمة نحو قوله:

لما نافع يسْعى اللبيبُ فلا تكُنْ

لشيءٍ بعيدٍ نفعُهُ الدهرَ ساعِيا

ص: 239

والمتمم بإضافة كعند ولدى. وإذا تمّ المتمّم بالإضافة متمما استعمل ملازما لها لفظا ومعنى ككلا. ومنها ما يستعمل غير ملازم لها في اللفظ ككلّ. فمن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى ما ذكر في الظروف كعند ولدى، وفي المصادر كسُبْحانَ وبَلْهَ المعرّف، وفي الاستثناء كسوى وبَيْد، وفي القسم لعمرك الله. ومنها حُمادى الشيء وقُصاراه بمعنى غايته. وقد يقال قصاره وقصره. ومنه قول الشاعر:

قصْرُ الجديد إلى بلًى

والعيشُ في الدُّنيا انقِطاعُهْ

ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "وحد" ولا تضاف إلا إلى ضمير ولا يكون إلا منصوبا على الحال، وهو في الأصل مصدر، فلذلك لم يؤنث ولم يثنّ ولم يُجمع، فيقال جئت وحدك وجئت وحدَكِ، وجئتما وحدَكما وجئتم وحدَكم وجئتن وحدَكنّ وجئنا وحدَنا.

وقال الشاعر:

أعاذلُ هل يأتي القبائلَ حَظُّها

من الموتِ، أم خُليّ لنا الموتُ وَحْدَنا

وقد يجر بعلى. وإضافة نسيج في المدح، وفي الذم بإضافة جحيش وعُيَير فيقال هو نسيج وحده، إذا قُصد قلة نظيره في الخير، وهذا جحيش وحده وعيير وحده إذا قصد قلة نظيره في الشر. وحكى ابن سيده أنه يقال: جلس على وحده، وجلسا على وحدهما وعلى وحديهما، وقلنا ذلك وَحْدَينا. ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "كلا وكلتا"، وقد ذكرا في باب الإعراب، وسيذكران إن شاء الله تعالى في باب التوكيد. ولا يضافان إلا إلى معرفة مثناة لفظا ومعنى نحو: مررت بكلا الرجلين، أو معنى دون لفظ كقول الشاعر:

إنْ للخيْر وللشرِّ مدًى

وكلا ذلك وجْهٌ وقَبَلْ

ص: 240

فأضاف "كلا" إلى "ذلك" وهو مفرد في اللفظ، لأن المراد به اثنان، وهو شبيه بقوله تعالى (عَوانٌ بين ذلك) ولا يضافان إلى نكرة فلا يقال مررت بكلا رجلين ولا كلتا امرأتين، ولا يضافان أيضا إلى مفترقين، فلا يقال مررت بكلا زيد وعمرو، وربما جاء مثل هذا في الشعر كقول الفرزدق:

كِلا السَّيْفِ والساقِ الذي ضُربتْ به

على دَهَش ألقاه باثنَيْن صاحِبُهْ

ومثله:

كلا الضيفَنِ المشْنوءِ والضيفِ نائلٌ

لديَّ المُنى والأمْنَ في اليُسْرِ والعُسْرِ

ومثله:

كلا أخي وخليلي واجدي عضدًا

في النائبات وإلمام المُلمّات

ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "ذو" ومؤنثه ومثناهما وجمعهما ومرادف جمعهما. ولا يضفن إلا إلى اسم جنس ظاهر، نحو: هذا رجل ذو فضل، وهذه امرأة ذات حسب، وهذان ذوا فضل وهاتان ذواتا حسب، وهم ذوو فضل، وهن ذوات حسب، وأولو فضل وأولات حسب. وقولي "وقد يضاف ذو إلى عَلَم وجوبا إن قرنا وضعا" نبهت به على نحو: ذي يَزَن وذي رُعَين وذي الكلاع وذي سلم، من الأعلام التي أولها "ذو". ثم قلت "وإلا فجوازا" فنبهت به على نحو قولهم في تبوك وقطرى: ذو تبوك وذو قطرى، وذو عمرو. ومنه قول جرير:

ص: 241

تمنَّى شبيبٌ مُنْيةً سَفَلَتْ به

وذو قَطَرِيّ لَفّه منكَ وابِلُ

وكلا النوعين مقصور على السماع. والأكثر في النوع الثاني أن يكون ذو فيه بمعنى الذي في قولهم لقيته ذا صباح، أعني كونه غير معتد به إلا بجعله من إضافة المسمّى إلى الاسم، وأما أن يكون مضافا إلى عَلَم ويعتدّ به كالاعتداد في نحو: هو ذو مال فقليل. ومنه: "أنا ذو بكّة" وجد مكتوبا في حجر من أحجار الكعبة قبل الإسلام. وقد يضاف "ذو" إلى ضمير غائب ومخاطب، فمن إضافته إلى ضمير الغائب قول عمر رضي الله عنه:"اللهم صلّ على محمد وذويه" ومنه قول الشاعر:

صَبَحْنا الخزرجيّة مُرْهفاتٍ

أبارَ ذوي أرُمَتها ذَوُوها

ومنه ما أنشد الأصمعي من قول الآخر:

إنما يصْطنع المعروفَ في الناس ذووه

ومن إضافته إلى ضمير مخاطب قول الأحوص:

وإنا لنرْجو عاجلًا منك مثل ما

رجوناه قِدْمًا من ذويكَ الأفاضِل

ص: "ولازمتها معنى لا لفظا أسماء كقبلُ وبعدُ وكآل بمعنى أهل. ولا يضاف غالبا إلا إلى عَلَم من يعقل. وككلّ غير واقع توكيدا أو نعتا. وهو عند التجرد منوي الإضافة فلا تدخل عليه "أل". وشذّ تنكيره وانتصابه حالا. ويتعين اعتبار المعنى فيما له من ضمير وغيره إن أضيف إلى نكرة، وإن أضيف إلى معرفة فوجهان. وإفراد ما لكلا وكلتا أجود من تثنيته. ويتعين في نحو كلانا كفيلُ صاحبه".

ش: قبل وبعد اسمان متقابلان تلزمهما الظرفية ما لم ينجرّا بمن. وتلزمهما

ص: 242

الإضافة معنى ولفظا في أكثر الاستعمال. ويقطعان عن الإضافة لفظا وينوى معناها إذا علم المضاف إليه ولم يقصد إبهام كقوله تعالى (للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ) أي لله الأمر من قبل الحوادث ومن بعدها. وقد يقطعان عن الإضافة لفظا ومعنى فينكران، وذلك لقصد الإبهام، أو لعدم دليل على المضاف إليه. ويستوجبان البناء على الضم إذا قطعا لفظا لا معنى، وذلك أن لهما مناسبة للحرف معنوية ولفظية؛ أما المعنوية فمن قبل أنهما لا يفهم تمام المراد بهما إلا بما يصحبهما. وأما اللفظية فمِن قبَل جمودهما وكونهما لا يثنيان ولا يجمعان ولا ينعتان ولا يخبر عنهما ولا ينسب إليهما ولا يضاف. ومقتضى هاتين المناسبتين أن يبنيا على الإطلاق، لكنهما أشبها الأسماء المتمكنة بقبول التصغير والتعريف والتنكير فاستحقا إعرابا في حال، وبناء في حال. والأحوال ثلاث: حال التصريح بترك الإضافة عند قصد التنكير، وحال ترك الإضافة لفظا وإرادتها معنى، فكان البناء مع هذه الحال أليق، لأنهما على خلاف الأصل، وبناء الاسم على خلاف الأصل فجمع بينهما التناسب. وتعيّن الإعراب مع الحالتين الأخريين لأنهما على وفق الأصل، وإعراب الاسم على وفق الأصل. وكان بناؤهما على حركة لأن لهما أصلا في التمكن، ولولاه لم يفارقهما البناء، وكانت الحركة ضمة لئلا يلتبس الإعراب بالبناء، وذلك أنهما إذا كانا معربين فلا تدخلهما ضمة وإنما تدخلهما فتحة أو كسرة، كنحو: جئت قبلَك ومن قبلِك.

ومن الملازمة للإضافة معنى لا لفظا "آل" بمعنى أهل، وأصله أهل فأبدلت هاؤه همزة وأبدلت الهمزة ألفا بدلا لازما لسكونها بعد همزة مفتوحة في كلمة واحدة. ويدل على أن أصلها أهل قوْل العرب في تصغيره أهيل. وقالوا أيضا أُوَيل، فاعتبروا فيه اللفظ متناسين الأصل. ويقل استعماله غير مضاف لفظا، ومضافا إلى ضمير ومضافا إلى اسم جنس، ومضافا إلى عَلَم ما لا يعقل.

فمن ترك إضافته لفظا قول الشاعر:

ص: 243

نحن آل اللهِ في بَلْدتنا

لم نَزَل آلًا على عهد إرَمْ

ومن استعماله مضافا إلى ضمير قول الشاعر:

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي

وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

ومن استعماله مضافا إلى اسم جنس قول عبد المطلب:

لا يَغْلبَنَّ صَليبُهم

ومِحالُهم أبدًا مِحالكِ

وانصُرْ على آل الصليـ

ـب وعابدِيه اليومَ آلكْ

ومن إضافته إلى علم مالا يعقل قول الشاعر:

من الجُرْدِ من آل الوجيه ولاحِقٍ

تُذكِّرنا أوتارنا حين تصْهَلُ

ومن الملازمة للإضافة معنى لا لفظا "كل" غير الواقع توكيدا ولا نعتا. فإن وقع توكيدا أو نعتا كان مثل "كلا" في ملازمة الإضافة لفظا ومعنى؛ فالتوكيد كقولك مررت بهم كلهم. والنعت نحو زيد الرجل كل الرجل، أي الكامل الرجولية، فلا يجوز إفراد كل في هذين الموضعين. وقد أجاز الفراء والزمخشري الإفراد في التوكيد، وحمل على ذلك قراءة بعض القراء (إنّا كلًّا فيها إن الله قد حكم بين العباد)، ولا خلاف في منع إفراد المنعوت به. والصحيح عندي منع إفراد المؤكد به، لأن ألفاظ التوكيد على ضربين: مضاف ومفرد، فالمفرد كأجمع وجمعاء، لا يجوز أن تضاف بإجماع. والمضاف غير كل كالنفس والعين وكلا لا يجوز إفراده بإجماع. فإجازة إفراد "كل" تستلزم مخالفة النظائر في الضربين، فوجب اجتنابها. وأما النصب في "إنّا كُلًّا فيها" فيخرج على أن "كُلّا" حال، والعامل "فيها" كما

ص: 244

عمل "فيهم" من قول النابغة:

رهطُ ابنِ كوز مُحقِبي أدْراعِهم

في "محقبي". وقد بسطت القول على هذه المسألة في باب الحال.

وأما "كل" غير الواقع توكيدا ولا نعتا فإنه لازم الإضافة معنى لا لفظا، لكنه لا يجرّد عن الإضافة لفظا إلا وهو مضاف معنى، فلذلك لا تدخل عليه "أل" وقد أدخلها عليه أبو القاسم الزجاجي في "جمله" ثم اعتذر عن ذلك. وشذ تنكيره وانتصابه حالا فيما حكاه أبو الحسن الأخفش، فعلى هذا لا يمتنع أن يدخل عليه "أل".

وإن أضيف "كل" إلى نكرة تعين اعتبار المعنى فيما له من ضمير وأخبار وغير ذلك، فتقول كل رجلين أتياك فأكرمهما، وكل رجال أتوك فأكرمهم، وكل امرأة أتتك فأكرمها. ومنه قوله تعالى (كلُّ نفس ذائقةُ الموتِ) فإذا أضيف إلى معرفة لفظا أو نيّة جاز اعتبار المعنى واعتبار اللفظ. فمن اعتبار المعنى قوله تعالى (وكلٌّ أتَوْهُ داخرين)، ومن اعتبار اللفظ قوله تعالى (وكلّهم آتيه يوم القيامة فَرْدًا).

وإفراد مالكلا وكلتا أجود من تثنيته. وكذلك جاء القرآن بالإفراد قال الله تعالى: (كلتا الجنّتين آتتْ أُكُلها) فقال آتت ولم يقل آتتا. وقد اجتمع الوجهان في قول الشاعر:

كِلاهما حين جَدَّ الجريُ بينهما

قد أقْلعا وكلا أنفيْهما رابى

ص: 245

ويتعين إفراد الخبر في نحو كلانا كفيل بصاحبه، لإضافته إلى "صاحبه، إذ لو ثُني الخبر فقيل كلانا كفيلا صاحبه لزم الجمع بين تثنية وإفراد في خبر واحد. وفي الإفراد السلامة من ذلك، فكان متعيّنا، ولأن إضافة "كفيل" إلى "صاحب" وهو مضاف إلى ضمير كلا بمنزلة تثنيته، فلو ثني لكان ذلك بمنزلة تثنيته مرّتين، فلم يجز ذلك.

فصل: ص: ما أفرد لفظا من اللازم للإضافة معنى إن نوى تنكيره أو لفظ المضاف إليه أو عوض منه تنوين، أو عطف على المضاف اسم عامل في مثل المحذوف لم يغيّر الحكم. وكذا لو العكس هذا الآخر. وإن لم ينو التنكير ولا لفظ المضاف إليه، ولم يثبت التنوين ولا العطف بني المضاف على الضم، إن لم يشابه مالا تلزمه الإضافة معنى.

ش: اللازم للإضافة معنى يعمّ ما اجتمع فيه جمود اللفظ والافتقار إلى غيره في بيان معناه كقبل وبعد وغير وحسب وأول وأمام وخلف وأخواتها، وما وجد فيه الافتقار دون الجمود كأسماء العدد وكأهل وصاحب وجزء وجملة وجهة وجانب ومثل وضدّ ونقيض، ونحوها مما يصغر ويثنى ويجمع ويشتق منه، فأشبه لقبوله هذه الأحوال الأسماء التامة الدلالة فساواها في الإعراب مضافة وغير مضافة، بخلاف القسم الأول فإنه أشبه بالحرف لفظا لعدم قبوله الأحوال المذكورة، ومعنى لافتقاره إلى غيره في بيان معناه، فكان مقتضى هذا أن تبنى أبدا، إلا أنها أشبهت الأسماء التامة الدلالة بأن أضيفت إضافة صريحة، وإضافة في حكم الصريحة، وبأن جرّدت تجريدا صريحا قصدا للتنكير فوافقتها في الإعراب. فإذا قطعت عن الإضافة ونوى معنى الثاني دون لفظه أشبهت حروف الجواب في الاستغناء بها عن لفظ ما بعدها فانضم ذلك إلى الشبهين المذكورين فبنيت.

والمراد بكون الإضافة صريحة أن تكون في اللفظ والمعنى نحو (وما أرْسلنا من قبلك إلّا رجالًا نوحي إليهم). والمراد بكونها في حكم الصريحة أن يحذف المضاف

ص: 246

إليه ويبقى المضاف بحاله التي كان عليها قبل الحذف، كقول الراجز:

قبلَ وبعدض كُلِّ قولٍ يُغْتَنَمْ

حمدُ الإله البَرِّ وَهّاب النِعمِ

أراد قبل كل قول فحذف المضاف إليه وترك المضاف على حاله قبل الحذف، أعني النصب وترك التنوين. والمراد بالتجريد الصريح أن يقطع عن الإضافة لفظا ومعنى كقول الشاعر:

فساغ ليَ الشرابُ وكنتُ قَبْلًا

أكادُ أغَضُّ بالماءِ الحَميم

وإياه عنيت بقولي "إن نوى تنكيره". ولو كان في موضع جر لكسر كقراءة بعض القراء (لله الأمرُ من قَبلٍ ومن بَعْدٍ) أي أوّلا وآخرا. وجعل بعض العلماء قبلًا معرفة والتنوين عوضا من المضاف إليه، فبقي الإعراب مع العوض كما كان مع المعوض منه.

ثم قلت "أو لفظ المضاف إليه" فأشرت بذلك إلى أنه إذا حذف المضاف إليه لظهور معناه ونوى لفظه لقوة الدلالة عليه ترك المضاف بإعرابه وهيئته التي يستحقها مع بقاء المضاف إليه كقول الشاعر:

أمامَ وخلفَ المرْءِ مِنْ لُطْف ربِّه

كوالِئُ تَزْوي عنه ما هو يَحْذَرُ

فأبقى أمام منصوبا غير منون كما لو نطق بما هو مضاف إليه من لفظ "المرء" المحذوف. وبقاء المضاف مع الحذف على هيئته أكثر ما يكون إذا عطف على المضاف مضاف لما يماثل المحذوف لفظا ومعنى. وقد يكون بخلاف ذلك كقول سويد بن كراع:

أكالِئُها حتى حَنى الزجْرُ قَدَّها

يكونُ سُحَيْرًا أو بُعَيْدَ فأسحقا

ص: 247

أراد وبُعيده. ومثله:

ومن قبل نادى كلُّ مولًى قرابةً

فما عطفتْ موْلًى عليه العواطفُ

كذا رواه الثقات بكسر اللام. ومن هذا قراءة ابن محيصن (لا خوفُ عليهم) بالضم دون تنوين، تقديره: فلا خوف شيء. ومثله قول بعض العرب: سلامُ عليكم، بلا تنوين، يريدون سلام الله. وحكى أبو علي: أبدأ بذا من أوَل، بالفتح على منع الصرف، وبالضم على نية الإضافة دون قصد إلى لفظ المضاف إليه، وبالجر على قصد المضاف إليه. وحكى الكسائي أن بعض العرب قال: أفوقَ تنام أم أسفلَ، بالنصب، على تقدير أفوق هذا تنام أم أسفل. ومثله على أحد الوجهين قول الشاعر:

أقولُ لمّا جاءني فخرُهُ

سُبْحانَ من عَلْقَمة الفاخِر

أراد سبحان الله، فحذف المضاف إليه وأبقى المضاف على الهيئة التي يستحقها قبل الحذف. ومثله قول الراجز:

سَبَّحانَ من بعدِكِ ياقَطامِ

بالرَّكْب تحت غَسقِ الظلامِ

والاستعمال في الأسماء الناقصة الدلالة قليل، وهو في الأسماء التامة الدلالة كثير. فمن شواهده في النثر قول بعض العرب: قطع الله الغداة يد ورجلَ من قالها. ومن شواهده في النظم قول الأعشى:

ص: 248

إلّا بُداهةَ أو عُلا

له سابحٍ نَهْد الجُزارهْ

ومنها قول الآخر:

سقى الأرضين الغيثُ سَهْلَ وحَزْنَها

فنِيطتْ عُرى الآمال بالزَّرع والضَّرع

ومنها قوله:

بنو وبناتُنا كرامٌ فمن نوى

مُصاهرةً فلْيَنْأ إن لم يكنْ كفُوا

ومنها:

يا مَن رأى عارِضًا أكَفْكفُه

بين ذراعيْ وجَبْهةِ الأسَدِ

ومنها قول الآخر:

نعيمُ وبؤسُ العيشِ للمرءِ منهما

نصيبٌ ولا بَسْطَ يدومُ ولا قَبْضُ

ولقلته في الناقص الدلالة جعلته فرعا، وجعلت الآخر أصلا. كل هذه الأمثله عطف فيها على المضاف مضاف إلى مثل المحذوف. وتقدير الأول: قطع الله يد مَن قالها ورجْل من قالها. وتقدير الثاني: إلا بداهة سابح أو علالة سابح. وتقدير الثالث: سهلها وحزنها. وتقدير الرابع: بنونا وبناتنا. وتقدير الخامس: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد. وتقدير السادس: نعيم العيش وبؤس العيش.

وأحق هذه الأمثلة بالاطراد الثالث والرابع، لأن المحذوف فيها مدلول عليه بما [أضيف إلى مثل المضاف إليه المحذوف، ولم أقيّد] المحذوف بعامل المضاف فيدخل فيه ما المعطوف فيه غير مضاف نحو "إن أحدكم ليفتن في قبره مثلَ أو قريبا من فتنة

ص: 249

الدجال" يعني مثل فتنة الدجال. ومثله قول الراجز:

بمثل أو أنفعَ من ويْل الديمْ

علّقتُ آمالي فعمّتْ النِعَمْ

أراد بمثل ويْل الديم، أو أنفع من ويل الديم.

ونبهت بقولي "وكذا لو عكس هذا الآخر" على أنه لو جاء المضاف إليه بعد العاطف متروكا ما قبله على ما كان عليه قبل الحذف، كما فعل به قبل العطف في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، لكن هذا فيه استدلال بالآخر على الأول، وفي عكسه استدلال بالأول على ما حذف من الآخر. ومن شواهده قول أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه:"غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ثمانيَ" هكذا ضبطه الحفاظ في صحيح البخاري بفتح الياء دون تنوين. والأصل: أو ثمانيَ غزوات، فحذف المضاف إليه وبقي المضاف على هيئته التي كان عليها قبل الحذف. ومثله قول الشاعر:

خمسُ ذَوْدٍ أو سِتُّ عُوّضتُ منها

مائةً غيْر أبْكُر وإفالِ

ويختص بعض الناقص الدلالة بتعويض التنوين مما كان مضافا إليه، فيبقى المضاف مع العوض على الحال التي كان عليها مع المعوّض منه من إعراب أو بناء. فالباقي على الإعراب ككل وأيّ في قوله تعالى (وكلٌّ أتوه داخرين) و (أيًّا ما تدعوا فيه الأسماءُ الحُسْنى) والباقي على البناء نحو يومئذ وحينئذ والأصل يوم إذ كان

ص: 250

أو يكون، وحين إذ كان أو يكون، فحذف الجملة للعلم بها وعوّض منها التنوين، فبقي بناء إذ مع العوض كما كان مع الجملة، والتقى الساكنان الذال والتنوين، فكسرت الذال لالتقاء الساكنين. وزعم الأخفش أن كسرة الذال كسرة إعراب، نظرا إلى أن البناء كان من أجل الإضافة إلى الجملة، فلما حذفت عاد الإعراب إلى إذ لأنه الأصل.

ويبطل ما ذهب إليه ثلاثة أوجه: أحدها أن من العرب من يفتح الذال فيقول يومئذا ولو كانت الكسرة إعرابية لم تغن عنها الفتحة. الثاني أن المضاف إلى "إذ" قد يفتح في موضع الجر والرفع، ففتحه في موضع الجر كقراءة نافع (ومن خزي يومئذ) و (من فزع يومئذ) و (من عذاب يومئذ) بالفتح. وكقول الشاعر:

رَدَدْنا لشَعْثاء الرسول ولا أرى

ليومئذ شيئا تُردُّ رسائلُهْ

وفتحه في موضع الرفع كقول العرب من رواية الفراء: المضيّ يومئذ بما فيه. فلو كانت كسرة "إذ" إعرابية لم يبن ما أضيف إليه، لأن سبب بنائه إنما كان للإضافة إلى ما ليس معربا فبطل ما أفضى إلى القول بإعراب إذ. الثالث أن العرب تقول: كان ذلك بإذٍ بالكسر دون إضافة إلى ذا كقول الشاعر:

نيهتُكَ عن طلابِكَ أمَّ عمرٍو

بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ

فلو كانت الكسرة إعرابية في يومئذ لم تثبت عند عدم ما اقتضاها وهو الإضافة، وقد أورد الأخفش هذا البيت في كتاب "المعاني"، وزعم أنه مما حذف فيه

ص: 251

المضاف وترك عمله، ولو جاز هذا لكان في مثل (واسألِ القريةَ) أجوز، لأن المضاف فيه أعني "أهل" مراد اللفظ والمعنى. ومع ذلك لم يجز فيه الجر بإجماع حين حذف المضاف، فعدم الجواز في حينئذ لكون المضاف فيه مستغنى عنه من جهة المعنى أحسن وأولى.

وبهذا يرد قول الأخفش أصل لات أوان: حين أوان. وإنما الأصل ولات أوان ذلك، فحذف ذلك ونويت الإضافة وبقي على الكسر ونون للضرورة. ويجوز أن يكون الأصل: ولات من أوان فحذفت من وبقي عملها، كقراءة بعضهم (ولات حينِ مناصٍ) بكسر النون.

وقولي "وإن لم ينو التنكير [ولا لفظ المضاف إليه، ولم يثبت التنوين ولا العطف] بني المضاف على الضم" أشري به إلى سبب بناء ما يقطع عن الإضافة وقد تقدم شرحه مستقصى. ونبهت بقولي "إن لم يشابه ما تلزمه الإضافة معنى" على أن بعض ما تلزمه الإضافة معنى يشبه الأسماء التامة الدلالة، بقبول التصغير والتثنية والجمع والاشتقاق وكره استعماله غير مضاف كثلث وربع ومثله وشبه، فلا يتأثر بالقطع عن الإضافة نويت أو لم تنو.

فصل: ص: تضاف أسماء الزمان المبهمة غير المحدودة إلى الجمل فتبنى وجوبا إن لزمت الإضافة وجوازا راجحا إن لم تلزم وصدرت الجملة بفعل مبني.

ص: 252

فإن صُدّرت باسم أو فعل معرب جاز الإعراب باتفاق، والبناء خلافا للبصريين. وإن صُدّرت بلا التبرئة بقي اسمها على ما كان. وقد يجر ويرفع وإن كانت محمولة على ليس أو ما أختها لم يختلف حكمها. ولا يضاف اسم زمان إلى جملة اسمية غير ماضية المعنى إلا قليلا. وقد تضاف "آية" بمعنى علامة إلى الفعل المتصرف مجردا أو مقرونا بما المصدرية أو النافية. ويشاركها في الإضافة إلى المتصرّف المثبت "لدن" و"ريث". وقد تفصل لدن والحين بأن وريث بما. وقالوا اذهب بذي تسلم" أي بذي سلامتك، ولا بذي تسلم ما كان كذا. ويختلف فاعلا اذهب وتسلم بحسب المخاطب، وعود الضمير من الجملة إلى اسم الزمان المضاف إليها نادر. ويجوز في رأي الأكثر بناء ما أضيف إلى مبني من اسم ناقص الدلالة ما لم يشبه تام الدلالة.

ش: أسماء الزمان المبهمة تعمّ ما لم يختص بوجه ما كحين ومدة ووقت وزمان. وما يختص بوجه دون وجه كنهار وصباح ومساء وغداة وعشية. فأخرجت بغير المحدودة ما يدل على عدد دلالة صريحة كيوم وأسبوع وشهر. واحترزت بصريحة من دلالة النهار على اثنتي عشرة ساعة، فإن ذلك يستحضر بذكر النهار كاستحضار عدد أيام الأسبوع بذكر "أسبوع"، وكاستحضار عدد أيام الشهر بذكر "شهر" فلا يضاف إلى لاجمل من أسماء الزمان إلا العاري من دلالة صريحة على عدد، فيضاف إليها زمن وأزمان ويوم وأيام، وليلة وليالٍ، وغداة وعشية وعصر، وأشباهها. ومن شواهد ذلك:

زمن العادي على الحبّ مَعْذو

لٌ عَصَيْت الهوى فكنت مطيعا

ومنها:

أزمانَ قومي والجماعةَ كالذي

لَزِمَ الرِحالةَ أنْ تميل مَميلا

ومنها:

ص: 253

كأنّي غداةَ البَيْن يومَ ترحَّلوا

لدى سَمُرات الحيّ ناقفُ حَنْظلِ

ومنها:

أيامَ لا تحتلُّ وسْط مفازة

فاضتْ معاطسها بشُرْبِ منائِح

ومنها:

في ليالٍ منهن لليلة باتتْ

ناقتي والِهًا تَجُرُّ الزِماما

ومنها:

غداةَ أحَلَّتْ لابن أصرَمَ طعنةُ

حصينٍ عبيطاتِ السدائفِ والخَمْرُ

ومنها:

عشيةَ سُعْدى لو تراءَتْ لراهبٍ

بدُومة تَجْرٌ دونه وحجيجُ

قلا دينَه واهتاجَ للشوقِ إنّها

على الشوقِ إخوانَ العزاءِ هَيُوجُ

ومنها:

طَحابكض قلبٌ في الحسانِ طَرُوبُ

يُعيد الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشيبُ

ولا يضاف إليها يومان ولا ليلتان ولا أسبوع ولا شهر لأن أصل المضافات إلى الجمل "إذ" و"إذا" فأجرى مجراهما من أسماء الزمان ما ساواهما في الإبهام أو قاربهما لاما باينهما من أسماء الزمان كيومين، ولا ما ليس اسم زمان كآية. وأجاز ابن كيسان إضافة يومين إلى الجملة. والصحيح منع ذلك لعدم السماع، ولمخالفته إذ وإذا بالدلالة على العدد صريحا.

ص: 254

ونبهت بقولي "وجوبا" على إضافة إذ وإذا، مع أن الكلام على ذلك قد تقدم في باب الظروف. ثم قلت:"وجوازا راجحا إن لم تلزم وصدرت الجملة بفعل مبني" فنبهت على جواز الإعراب وترجيح البناء في نحو قوله:

على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا

وقلتُ ألما أصْحُ والشيبُ وازعُ

وفي نحو قول الآخر:

لأجْتَذبَنْ عنهنّ قلبي تحلُّما

على حينَ يَسْتَصْبينَ كُلَّ حليم

فإن كانت الجملة اسمية أو فعلية مصدرة بمضارع معرب جاز الإعراب باتفاق، والبناء عند الكوفيين، لصحة الدلالة على ذلك نقلا وعقلا؛ فمن الدلائل النقلية قراءة نافع (هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم) بنصب اليوم، مع أن المشار إليه هو اليوم لاتفاق الستة على الرفع. فلو جعلت الفتحة فتحة إعراب لامتنع أن يكون المشار إليه اليوم، لاستلزام ذلك اتحاد الظرف والمظروف، وكان يجب أن يكون التقدير مباينا للتقدير في القراءة الأخرى، مع أن الوقت واحد والمعنى واحد. إلا أن المراد حكاية المقول في ذلك اليوم، فلا بد من كونها ما يقتضي اتحاد المعنى دون تعدّده. وكفتحة (يوم لا ينفع) فتحة (يومَ لا تملكُ نفسٌ) في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو. ومسمى (يوم لا تملك) في قراءتهما هو يوم الدين فلا يكون غيره في قراءة غيرهما. فيلزم من ذلك كون الفتحة بنائية وكون ما هي فيه مرفوع المحل. ولا يقدر "أعني"، لأن تقدير أعني لا يصلح إلا بعدما لا يدل على المسمّى دلالة تعيين، ويوم الدين دال على مسماه دلالة تعيين، فتقدير أعني غير صالح.

ص: 255

ومن شواهد البناء قبل فعل معرب قول الشاعر:

إذا قلتُ هذا حين أسْلو [يهيجني

نسيم] الصَّبا من حيثُ يَطَّلِعُ الفجرُ

ومن شواهد البناء قبل الجملة الاسمية قول أسد بن عنقاء الفزاري:

دعاني [ولم أهْجُرْ] ولو ظنّ لم ألُمْ

على حينَ لا بَدْوٌ مُلامٌ ولا حضَرْ

ومثله:

على حين خُلّاني من القوم جلّةٌ

كُهولُ [ووليّ عن بَنِيَّ عشيرتي]

ومثله:

تذكر ما تذكَّرَ من سُلَيْمى

على حين التراجعُ غيرُ دانِ

ومثله:

ألم تعلمي ياعَمْرَكِ الله أنّني

كريمٌ على حينَ الكرامُ قليلُ

ومثله:

وأني لاأخْزى إذا قيل مُمْلِقٌ

سخيٌّ، وأخْزى أنْ يقالَ بخيلُ

ومثله:

أعلى حينَ [جذوة] الحرب [دارت]

صُلتَ بَغْيًا وكنتَ قَبْلُ ذَليلا

ص: 256

هكذا نقلت هذه الأبيات الأربعة بالفتح بناء مع أن الإضافة فيها إلى جمل مصدرة بمعرب إعرابا أصليا. فلأن يثبت بناء ما أضيف إلى جملة مصدرة بمعرب أصله البناء أحق وأولى، وهذه دلالة عقلية تقتضي بناء الجملة المصدرة بفعل معرب. وأقوى منها أن يقال: سبب بناء المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني إما قصد المشاكلة، وإما غير ذلك، فلا يجوز أن يكون قصد المشاكلة لأمرين: أحدهما أن يكون البناء لقصدها. الثاني أن يقال: المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني لو كان سببه قصد المشاكلة لكان بناء ما أضيف إلى اسم مبني أولى، لأن إضافة ما أضيف إلى اسم مفرد إضافة في اللفظ والمعنى، وإضافة ما أضيف إلى جملة إضافة إليها في اللفظ وإلى المصدر في التقدير، وتأثير ما يخالف لفظه معناه أضعف من تأثير مالا تخالف فيه، أعني إضافة اسم الزمان إلى مفرد من الأسماء معنى. ولا خلاف في انتفاء سبب الأقوى فانتفاء سبب الأضعف أولى.

فثبت بهذا كون بناء المضاف إلى الجملة مسببا عن أمر آخر، وهو شبه المضاف المضاف إليها بحرف الشرط في جعل الجملة التي تليه مفتقرة إليه وإلى غيره. فإن قمت من قولك: حين قمت قمت وإن قمت قمت كان كلاما تاما قبل دخول حين وإن عليه، وبدخولهما عليه حدث له افتقار إليهما وإلى ما بعدهما، فشبه "حين" وأمثاله بإنْ، وجعل ذلك سببا للبناء المشار إليه على وجه لا يخالف القاعدة العامة، وهي ترتيب بناء الأسماء على مناسبة الحرف بوجه.

وقد يضاف اسم الزمان إلى جملة مصدرة بلا التبرئة فيبقى اسمها على ما كان عليه من بناء أو نصب. وقد يجر وقد يرفع، فمن ذلك ما حكى أبو الحسن من قول بعض العرب: جئتك يومَ لا حرَّ ولا بردَ، ويومَ لا حرٍّ ولا بَرْدٍ، ويومَ لا حرٌّ ولا بَرْدٌ، وأنشد:

ص: 257

تركتني حين لامالٌ أعيشُ به

وحين جُنَّ زمانُ الناسِ أوْ كلَبا

وقد تكون "لا" النافية العاملة عمل ليس، فيتعين بقاء عملها، وكذا حكم "ما" أختها، ومن شواهد ذلك قول سواد بن قارب.

وكنْ لي شفيعًا يومَ لا ذو قرابةٍ

سواكض بمُغْنٍ عن سوادِ بنِ قارِبِ

ومنها قول الآخر:

تبدّتْ لقلبي فانصرفتُ بوُدِّها

على حين ما هذا بحين تصابى

وإذا أضيف اسم زمان إلى جملة اسمية امتنع عند سيبويه أن تكون مستقبلة المعنى. والذي حمله على ذلك أن الأصل فيما يضاف إلى الجمل من أسماء الزمان "إذ" في الماضي و"إذا" في المستقبل، وغيرهما تبع لهما. فللجاري مجرى إذ أن يضاف إلى جملة اسمية وإلى جملة فعلية فيقال آتيك حين يذهب زيد وحين زيد يذهب، كما يقال آتيك إذا يذهب زيد، وإذا زيد يذهب. ولا يقال آتيك حين زيد ذاهب كما لا يقال آتيك إذا زيد ذاهب. هذا مقتضى مذهب سيبويه – رحمه الله – أعني منع جواز دخول إذا على جملة اسمية وشبهها في إعراب صدرها. والصحيح جوازه لأمرين لكن على قلة. وقد أشرت إلى جواز ذلك في باب الظروف، وذكرته لأجل صحته نثرا ونظما، وأغنى ذلك عن قول ثان.

وقيدت الفعل الذي يضاف إليه "آية" بكونه متصرفا ليعلم أنها لا تضاف إلى غير متصرف كعسى وليس، ومن إضافتها إلى الفعل المجرد قول الشاعر:

ألِكْني إلى سلمى بآية أوْمأتْ

بكفٍّ خضيبٍ تحت كُفّة مِدْرَعِ

ص: 258

وإلى مقرون بما المصدرية كقول الشاعر:

ألا مَن مُبْلِغٌ عنّي تميمًا

بآيةِ ما يُحبّونَ الطعاما

وإلى مقرون بما النافية كقول الشاعر:

ألِكْني إلى قومي السّلام رسالةً

بآية ما كانوا ضِعافًا ولا عُزْلا

وفي هذا البيت دلالة على أنه لا حاجة إلى تقدير حرف مصدري بين "آية" والفعل المجرد كما زعم ابن جنّي في قول الشاعر:

بآية تُقْدمون الخيلَ شُعْثًا

كأنّ على سنابكها مُداما

فزعم أنه أراد بآية ما تقدمون، وهو خلاف قول سيبويه. وكذا زعم ابن جني أن ما في قول الآخر:

بآية ما يحبون الطعاما

مصدرية. وجعلها سيبويه زائدة، ذكر ذلك في باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء. ووجه الاستدلال بقول القائل:

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا

أن "آية" فيه مضافة إلى فعل منفي بما، وتقدير ما المصدرية قبل ما النافية ممتنع فصحت إضافة آية إلى فعل مستغن عن ما المصدرية.

ويشارك آية في الإضافة إلى فعل متصرف مثبت لدن وريث، وهما أحق بذلك من آية. أما لدن فلأنها تدل على مبدأ الغاية زمانا أو مكانا، فإذا دلت على المبدأ

ص: 259

الزماني فمجراها مجرى أسمائه المبهمة ليس ببدع، فمن ذلك قول الشاعر:

لزْمْنا لدُنْ سالمْتمونا وِفاقَكم

فلا يكُ منكم للخلاف جُنوحُ

وقد تتوسط "أن" بينها وبين الفعل زائدة أو مصدرية، كقول الشاعر:

وليتَ فلم تقطع لدُنْ أنْ وَليتَنا

قرابةض ذي قربى ولا حقَّ مُسْلِم

وأما "ريث" فهو مصدر راث يريث، إذا أبطأ، فعومل في الإضافة إلى الجمل معاملة أسماء الزمان في التوقيت. ومن إضافة ريث إلى الجملة قول الشاعر:

خليليّ رفْقا ريثَ أقضى لُبانةً

من العَرصات المذكراتِ عُهودا

وقد تتوسط بينه وبين الفعل "ما" زائدة أو مصدرية، كقول الشاعر:

مَحْياه مُحَيّاه حين يلقى

ينالُ السُّؤل راجيه رَيْثما يتسَنّى

وعلى كل حال في إضافة الثلاثة إلى الجمل شذوذ، لتساويها في استبدادها بالإضافة إلى الجمل دون النظائر، كاستبداد "آية" دون علامة، وكاستبداد "لَدُن" دون لدى وعند، وكاستبداد "ريث" دون بطء ولُبْث. وقد تتوسط "أن" بين حين والجملة كقول أوس بن حجر:

وجالت على وحشيها أم جابر

على حين أن نالوا الربيع وأمرعوا

وأشذ من إضافة الثلاثة إضافة "ذي" بمعنى صاحب إلى مضارع "سلم" مسندًا إلى المخاطب بعد اذهب، في قولهم:"اذهب بذي تسلم"، وفي التأنيث: اذهبي بذي تسلمي، واذهبوا بذي تسلموا، واذهبْنَ بذي تسْلمْنَ. وقالوا أيضا في القسم: لا بذي تسلم ما كان كذا. حكاه ابن السكيت – رحمه الله – وقد اتفقت هنا الإضافة إلى الفعل لفظا وإلى المصدر تقديرا إن كان مضافا إلى جملة مقدر

ص: 260

الإضافة إلى مصدر من معناها. ومن أجل ذلك لا يعود منها ضمير إلى المضاف إليها، كما لا يعود من المصدر. فإن سمع ذلك عُدّ نادرا كقول الأعشى:

وتبْرُدُبَرْدَ رداءِ العرو

سِ رقْرَقَت في الصيف فيه العبيرا

وتَسخُنُ ليلةَ لا يستطيعُ

نباحًا بها الكلبُ إلّا هريرا

ومنه:

مضَتْ سنةٌ لعام وُلدت فيه

وعَشْرٌ بعد ذاك وحجّتانِ

وهذا مما خفي على أكثر النحويين. ولذلك قال ابن السراج: فإن قلت أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة، لأن الجملة حينئذ صفة، ولا يضاف موصوف إلى "صفة".

ونبهت بقولي "ويجوز في رأي الأكثر بناء ما أضيف إلى مبني من اسم ناقص الدلالة" على جواز بناء غير ودون وبين وشبهها من الأسماء التي لا تتم دلالتها على ما يراد بها إلا بما تضاف إليه مع مناسبتها الحروف بعدم قبولها للنعت والتعريف بالألف واللام والتثنية والجمع، وبعدم اشتقاقها والاشتقاق منها. فغن ما فيها من مناسبة الحروف صالح لجعله سبب بناء على الإطلاق، لكنه ألغي في الإضافة إلى معرب واعتبر في الإضافة إلى مبني قصدا للمشاكلة. وبعضها أحق بالبناء من بعض، لكونه أزيد [شبها] كما ترى في "غير" من وقوعه موقع "إلا" وموقع "لا" نحو: قاموا غيرَ زيد، وزيد غير بخيل ولا جبان. وحكى الفراء أن بعض بني أسد يبنون غيرا على الفتح إلا إذا وقعت موقع إلا، تم الكلام قبلها أم لم يتم، نحو ما قام أحد

ص: 261

غيرك، وما قام غيرك، وأنشد عن الكسائي:

لم يمنعِ الشَّرْب منها غيرَ أن نطقتْ

حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أوقالِ

ومن شواهد "دون" قوله تعالى (وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك) بفتح نونه وهو في موضع رفع بالابتداء. ومن بناء "بَيْن" قوله تعالى (وحيلَ بنهم وبين ما يشتهون) بفتح النون، وهو في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ومنه قول الشاعر:

ولم يتْرُكِ النبلُ المخالفُ بينها

أخًا لأخٍ يُرجى ومأثورة الهندِ

هكذا ضبطه من يوثق بضبطه بفتح النون. وأجرى "فوق" مجرى [غير] قوم منهم الزمخشري وابن عصفور، و"مثلا" مجرى غير في جواز البناء عند الإضافة إلى مبني. واستشهدوا بقراءة الحرميين وابن كثير والبصريين في قوله تعالى (وإنه لحقٌّ مثل ما أنّكم تنطِقون) بفتح اللام، على أنه نعت خبر إن وقراءة بعض السلف (أنْ يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) وكقول الشاعر:

إذ همْ قريشٌ وإذْ ما مثلَهم بَشَرُ

ص: 262

على أن مثلهم مبتدأ.

ولا ينبغي لمثل أن يجرى مجرى "غير" لأنه وإن وافقه في أن دلالته على معناه لا تتم إلا بما يضاف إليه، فقد خالفه بمشابهة التام في الدلالة في قبول التصغير والتثنية والجمع والاشتقاق منه. وكل ما استشهدوا به على البناء مخرّج على الإعراب أحسن تخريج. فيجعل "حق" اسم فاعل من حق يحق، ثم قصر كما فعل ببارّ وسارّ حين قيل فيهما بَرّ وسرّ، وبقي فيه الضمير الذي كان فيه قبل القصر، وجعل مثله حالا منه وأما قراءة من قرأ "أن يصيبكم مثلَ ما أصاب" بالنصب فوجهه أنه منصوب على المصدرية وفاعل يصيبكم ضمير عائد على الله من (وما توفيقي إلا بالله) كأنه قيل: ولا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم الله مثل إصابة قوم نوح. وإنما يحتاج إلى هذا إذا سُلّم بناء غير وما بعده في المواضع المذكورة، وهو وإن كان أشهر من بناء "مثل" ضعيف عندي، لأن الإضافة فيها قياسية فلا ينبغي أن تكون سبب بناء، لأنها من خصائص الأسماء فحقها أن تكف سبب البناء وتغلبه، لأنها تقتضي الرجوع إلى الأصل، والسبب الكائن معها يقتضي الخروج عن الأصل. وما يدعو إلى مراجعة الأصل راجح على ما يدعو إلى مفارقته. ولذلك رجح شبه "أي" بكل وبعض على شبهها بحرفي الشرط والاستفهام في المعن، وبالحرف المصدري في لزوم الافتقار. فإذا ثبت هذا وجب توجيه ما أوهم بناء غير وشبهه للإضافة إلى مبني بما لا يخالف الأصول ولا يعسر القبول. فيخرج قول بني أسد وقضاعة: ما جاء غيرَك، بفتح الراء على أن يكون المراد: ما جاء جاءٍ غيرك، فنصب غيرك على أنه حال أو منتصب على الاستثناء. وسوغ حذف "جاءٍ" وهو فاعل لأنه بعد نفي العموم فيه مقصود. وحذف مثل هذا بعد النفي والنهي كثير. فمن وقوعه بعد النفي قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، أي ولا يشرب الشارب. ومثله قول الراجز:

ص: 263

ما سار في سُبْل المعالي سَيْرَه

ولا كفى في النائبات غيره

أراد: ما سار سائرٍ سيره، ولا كفى كافٍ غيره. ومثله قول الشاعر:

فإن كان يُرضيكَ حتى تَرُدَّني

إلى قَطَريٍّ لا إخالُكَ راضيا

أراد: فإن كان لا يرضيك مُرْضٍ.

ومن وقوعه بعد النهي قراءة هشام (ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) أي ولا يحسبنّ حاسبٌ. وعلى هذا يحمل قول الشاعر:

لم يمنع الشَرْب منها غير أن نطقتْ

كأنه قال: لم يمنع الشَّرْب منها مانع غير أن نطقت، فالنصب على الحالية أو على الاستثناء. وأما قوله تعالى (منا الصالحون ومنا دون ذلك) فعلى تقدير: ومنا صنف دون ذلك، فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه، كما قال الشاعر:

لهم مسجدا الله المَزوران والحصا

لكم قِبصهُ من بين أثْرى وأقْترا

أي من بين من أثرى ومن أقتر، فحذف "مَن" وهي نكرة موصوفة وأبقى صفتها. وبمثل هذا يوجه قوله تعالى (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) كأنه قيل: وحيل حوْلٌ بينهم وبين ما يشتهون. فحذف "حول" مصدر حيل، وأقيمت صفته مقامه. ومثله قول الشاعر:

ص: 264

ولم يتركِ النبلُ المخالف بينها

أخًا لأخٍ يُرْجى ومأثورةُ الهند

أراد المخالف خلافا بينها، فحذف الموصوف وهو مفعول ما لم يسم فاعله وأقام صفته مقامه.

فصل: ص: يجوز حذف المضاف للعلم به ملتفتا إليه ومطّرحا. ويعرب بإعرابه المضاف إليه قياسا إن امتنع استبداده به، وإلا فسماعا، وفي قيامه مقامه في التذكير والتأنيث وجهان. وقد يخلفه في التنكير إن كان المضاف "مِثْلا". وقد يحذف مضاف ومضاف إليه، ويقام ما أضيف إليه الثاني أو ما أضيف إلى صفة للثاني محذوفة مقام ما حذف. وقد يقام مقام مضاف محذوف مضاف إلى محذوف قائم مقامه رابع. وقد يستغنى بمضاف إلى مضاف إلى مضاف إلى رابع عن الثاني والثالث. ويجوز الجر بالمضاف محذوفا إثر عاطف متصل أو منفصل بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى. وربما جرّ المضاف المحذوف دون عطف ومع عاطف مفصول بغير لا.

ش: إذا كان المضاف لا يجهل معناه بحذف لفظه جاز أن يحذف ويجعل المضاف إليه معربا بإعرابه. ونائبا عنه فيما جيء بالإعراب لأجله. وإن قدر لفظ المحذوف والتفت إليه رُتّب على وفقه ما بعد القائم مقامه كقوله تعالى (أو كظُلُماتٍ في بحرٍ لُجّيّ يغشاه موجٌ). فإن الأصل: أو كذي ظلمات، فحذف "ذو" وأقيمت ظلمات مقامه، والتفت إليه معنى، فذكّر الضمير، ولولا الالتفات إلى المعنى لأنث كما أنّث في قوله تعالى (واسأل القرية التي كُنّا فيها) ولو التفت هنا لقيل الذين كنا فيهم. ومن الالتفات إلى المحذوف قراءة الحسن (فجعلناها حصيدا كأنْ لم يَغْن بالأمس) بالياء؛ لأن الأصل فجعلنا زرعها حصيدا. ومن الالتفات إلى المحذوف قولهم: قرأت هودا، بالتنوين يريدون سورة هود. ولو جعل

ص: 265

المضاف مطرحا لفظا ونيّة لقيل: قرأت هود، بلا تنوين؛ لأنه على هذا القصد اسم للسورة فلا ينصرف للتعريف والتأنيث. ومن الالتفات إلى المحذوف قوله:

يَسْقونَ من وَرَدَ البريصَ عليهم

بَرَدى يُصفِّق بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

أي ماء بردى، فحذف ملتفتا إلى الماء فذكّر، ولولا ذلك لقال تصفق لأن "بردى" اسم مؤنث. ثم إن القائم مقام المضاف في الإعراب إن امتنع استبداده به فهو قياسي. وإن صح استبداده به فهو سماعيّ. والمراد بالاستبداد به أن يكون المضاف إليه صالحا للفاعلية إن كان المضاف فاعلا، ولغير فاعلية إن كان غير فاعل؛ فالحذف في (واسأل القرية) قياسي لعدم استبداد القرية بوقوع السؤال عليها حقيقة، وكذا (وأشربوا في قلوبهم العجل) هو أيضا قياسي، لعدم صلاحية العجل لأن يكون مشربا في قلوبهم. وكذا (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. ومنه قول الأعشى:

فارَقَنا قبلَ أنْ نفارقَه

لمّا قضى من جماعنا وَطَرا

أي قبل إرادة أن نفارقه. لا بد من هذا التقدير، لأن الفراق لا يكون من أحد المفترقين قبل الآخر. وأجاز ابن جني: جلست زيدا، على تقدير: جلست جلوس زيد ولا أرى ذلك، لأن المعنى لا يتعيّن، لاحتمال أن يراد جلست إلى زيد، فحذفت إلى وانتصب ما كان مجرورا بها، بخلاف الأمثلة التي مرّت، فنوعها قد أمن فيه اللبس، وجعل قياسا، بخلاف ما يوجد فيه الجزءان صالحين لعمل العامل حقيقة نحو ضربت غلام زيد، فإنه لو قيل فيه: ضربت زيدا لم يفهم المراد، لأن زيدا يصح استبداده بمفعولية ضرب، فيمنع الحذف من هذا النوع ما

ص: 266

لم توجد فيه قرينة تدل على المراد كقوله: مررت بالقرية فأكرمتني، فإنه جائز. وإن كان أهل القرية والقرية صالحين لتعدية الممرور إليهما حقيقة، لكن ذكر الإكرام بين أن المراد الأهل فجاز الحذف. وكذلك لو فهم المعنى بغير قرينة لفظية لم يمتنع الحذف أيضا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة – رحمه – الله:

لا تلُمْني عتيقُ حسبي الذي بي

إنّ بي ياعتيقُ ما قد كفاني

أراد بعتيق ابن أبي عتيق. كذا قال من عنى بشعر ابن أبي ربيعة. ومن هذا النوع قول الشاعر:

فمن كان يرجو الصُّلْح فيه فإنّه

كأحْمر عادٍ أو كُليبٍ لوائل

أراد كأحمر أمثال عاد، لأن المراد عاقر الناقة وهو من ثمود لا من عاد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه مع صلاحيته للاستبداد بعمل العامل. ومثله:

وماذيًّا تخيَّره سُلَيْمٌ

يكادُ شُعاعُه يُعْشي العيونا

أراد تخيره أبو سليمان، فرخّم سليمان مضطرا للاستبداد بفاعلية "تخيّر". ومن مستحسن هذا النوع قول الشاعر:

فدقّتْ وجلّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ

فلو جُنّ إنسانٌ من الحُسْن جُنّت

أراد: فدقّ خصرها، وجلت عجيزتها، واسبكرت قامتها، وأكملت محاسنها، فحذفت مع صلاحية المضاف إليه لفاعلية كل واحد من هذه الأفعال، لأن عطف بعضها على بعض يبين المعنى فحسن الحذف.

ونبهت بقولي: "ونائبا عنه فيما جيء بالإعراب لأجله" على وقوع المضاف إليه خلفا عن المضاف فيما كان له من فاعلية، نحو بنو فلان يطؤهم الطريق. ومن مفعولية نحو:"واسأل القرية"، ومن ظرفية نحو: أتيتك طلوعَ الشمس، ومن

ص: 267

مصدرية كقول الأعشى:

ألمْ تغتمِضْ عيناك ليلة أرْمدا

فحذف المصدر وجعل "ليلة" قائما مقامه في المصدرية، كما قام المصدر مقام الظرف في طلوع الشمس وشبهه، وجعل ابن جني من هذا رواية بعض رواة بأبي عمرو عنه:(ونُزِل الملائكة تنزيلا) بضم النون وتخفيف الزاي، على تقدير: ونَزل نزول الملائكة. وفيه عندي نظر.

وإن كان المضاف مِثْلا جاز الحكم على المضاف إليه بالتنكير، فينعت به نكرة، نحو: مررت برجل زهيرٍ شعرا. ويجعل حالا للمعرفة نحو: هذا زيد زهيرا شعرا، لأن الأصل: مررت برجل مثل زهير، وهذا زيد مثل زهير، فحذف لفظ مثل ونوى معناه، فجرى مجرى ما نوى فيه معناه وإن كان لفظه لفظ المعرفة. ومن هذا النوع قولهم: تفرقوا أيادي سبا، فجعلوه حالا، وهو في اللفظ معرفة، لأنهم أرادوا مثل أيادي، فحذف مثل، وأقيم ما كان مضافا إليه مقامه في التنكير والإعراب. وروى الثقات ياء أيادي بالسكون، مع أن الموضع موضع نصب، لكن خفف للتركيب فألزم السكون، كما ألزم السكون ياء معد يكرب.

وقد يحملهم العلم بالمحذوف على حذف المضاف، ومضاف إليه هو مضاف إلى ثالث يستغنى به عن الأول والثاني، فمن ذلك قوله تعالى:(تدور أعينُهم كالذي يُغْشى عليه من الموت) أي دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.

ص: 268

وقد تكون أربعة أسماء مضاف أولها إلى موصوف بثالث مضاف إلى رابع، فيحذف الثلاثة ويكتفي بالرابع، كقول الشاعر:

طليقُ اللهِ لم يَمْنُنْ عليه

أبو داوُدَ وابنُ أبي كثير

أو الحَجّاجُ عَيْنَيْ بنتِ ماءٍ

تُقَلِّبُ طرْفَها حَذَر الصُّقورِ

أراد: أو الحجاج صاحب عين مثل عيني بنت ماء، فحذف الأول والثاني والثالث الموصوف به الثاني، وأقام مقام الثلاثة الرابع.

وقد تكون أربعة أسماء مضاف أولها إلى ثانيها، وثانيها إلى ثالثها، وثالثها إلى رابعها، فيحذف الأول والثالث، ويبقى الثاني والرابع قائمين مقامهما فيما كان لهما من الإعراب، كقول الشاعر:

أبَيْتُنَّ إلا اصطيادَ القلوب

بأعين وَجْرَةَ حينا فحينا

أراد: مثل أعين ظباء وجرة، فحذف الأول والثالث، وأقام مقامهما الثاني والرابع، ومثله قول أبي ذؤيب:

فإنَّك منها والتَّعَذُّرَ بعدما

لَجِجْتَ وشَطَّتْ من فُطَيْمةَ دارُها

لَمِثلُ التي قامتْ تُسَبِّع سُؤرَها

وقالت حرامٌ أنْ يُرَجَّل جارُها

أراد: قامت تسبع ذا سؤر كلبها، ففعل مثل ما فعل قائل البيت الأول.

وإلى هذا النوع أشرت بقولي: وقد يقام مقام مضاف محذوف مضاف إلى محذوف قائم مقامه رابع. ثم أشرت إلى أن أصل: (من أثر الرسول) من أثر

ص: 269

حافر فرس الرسول، بقولي: وقد يستغنى بمضاف إلى مضاف إلى رابع عن الثاني والثالث. ثم أشرت إلى حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا، وأنه مقيس وغير مقيس، فأما المقيس فما حذف منه مضاف مذكور قبله مثله لفظا ومعنى، بشرط كون المحذوف بعد عاطف منفصل بلا، أو غير منفصل، كقولهم: ما كل سوداء تمرة، ولا بيضاء شحمة. وما مثل أبيك وأخيك يقولان ذلك، وكقوله:

أكُلَّ امرئٍ تحسبين امرَأ

ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا

وكقوله:

ولم أرَ الخيرِ يتركُه الفتى

ولا الشرِّ يأتيه الفتى وهو طائع

وكقوله:

لوَ انّ طبيبَ الإنسِ والجن داويا الـ

ـلذي بِيَ من عَفْراءَ ما شَفياني

وكقوله:

لو أنّ عُصْم عَمايَتَيْن ويَذْبُل

سمعا حديثَك أنزلا الأوْعالا

وكقوله:

ألم يَحْزُنْكِ أن جبالَ قَيْسٍ

وتغْلبَ قد تباينتا انقطاعا

ص: 270

والأصل: ما كل سوداء ولا كل بيضاء، ولا مثل أبيك ومثل أخيك يقولان، وأكل امرئ تحسبين امرأ وكل نار، ولم أر مثل الخير ولا مثل الشر، ولو أن طبيب الإنس وطبيب الجن، ولو أن عصم عمايتين وعصم يذبل، وأن جبال قيس وجبال تغلب.

وظن بعضهم أن الحذف في هذا النوع مشروط بتقدم نفي أو استفهام، وليس ذلك شرطا، بل يجوز مع عدمهما، كقول الشاعر:

لغير مغتبط مُغْزى بطوع هوى

ونادم مولع بالحزم والرشد

ومثله:

كُلُّ مُثْرٍ في رَهْطه ظاهرُ العزْ

ـز وذي غُربة وفقر مَهينُ

وأما غير المقيس فما خالف المقيس بخلوه مما قيدته به، كقراءة ابن جماز (تريدون عَرَض الدنيا والله يريد الآخرة) بالجر على تقدير: والله يريد عرض الآخرة.

وكقول بعض العرب: رأيت التيمي تيم فلان، على تقدير: أحد تيم فلان، حكاه الفارسي. وكقول الشاعر:

رَحِمَ اللهُ أعْظما دفنوها

بسِجِسْتان طلحةِ الطَّلَحات

على تقدير: أعظم طلحة الطلحات. وكقول الآخر:

الآكلُ المالَ اليتيم بَطَرا

يأكلُ نارا وسيصلى سَقَرا

على تقدير: الآكل المالَ مالَ اليتيم، ومثله:

ص: 271

المالُ ذي كَرم تُنْمي محامده

ما دام يبذله في السر والعلن

على تقدير: المال مال ذي كرم، فحذف البدل ونوى لفظه، فبقى عمله. وعلى هذا يوجه على الأجود ما في حديث الدجال من قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: يارسول الله: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعين يوما" أي لبث أربعين يوما. ومثله: "خير الخيل الأدهم الأرثم المحجل ثلاثٍ" أي المحجل تحجيل ثلاث، فحذف البدل وأبقى عمله، كما فعل في البيتين المتقدمين. وقد يكون على حذف "في" قبل ثلاث، والأول أجود لتقدم مثل المحذوف.

وفي صحيح البخاري: فلما قدم جاءه بالألف دينار، فحذف البدل وأبقى عمله.

وهذا في البدل نظير ما جاء في العطف من: ونار تَوَقَّدُ، وأمثاله. وبهذا يوجه ما رواه الكوفيون من قول العرب: الخمسة الأثواب، أي: الخمسة خمسة الأثواب، فحذفوا البدل وأبقوا عمله، وعلى هذه الشواهد وأمثالها نبهت بقولي: وربما جر المضاف المحذوف دون عطف، ومع عاطف مفصول بغير "لا".

فصل: ص: يجوز في الشعر فصل المضاف بالظرف والجار والمجرور بقوة إن تعلقا به، وإلا فبضعف. ومثله في الضعف الفصل بمفعول متعلق بغير المضاف، وبفاعل مطلقا، وبنداء، ونعت، وبفعل ملغى. وإن كان المضاف مصدرا جاز أن يضاف نظما ونثرا إلى فاعله مفصولا بمفعوله، وربما فصل في اختيار اسم الفاعل المضاف إلى المفعول بمفعول آخر، أو جار ومجرور.

ص: 272

ش: من أمثله فصل المضاف بالظرف قول الشاعر:

فَرِشْني بخير لا أكونَنْ ومِدْحتي

كناحتِ يوما صخرةٍ بعَسيل

ومن أمثله فصله بالجار والمجرور قول الآخر:

لأنت مُعْتاد في الهيجا مُصابرةٍ

يَصْلى بها كلُّ من عاداك نيرانا

فتقدير الأول: كناحت صخرة يوما، وتقدير الثاني: لأنت معتاد مصابرة في الهيجا. فهذا النوع من أحسن الفصل، لأنه فصل بمعمول المضاف، فكان فيه قوة، وهو جدير بأن يجوز في الاختيار ولا يختص بالاضطرار، وبذلك أقيس على وروده في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هل أنتم تاركولي صاحبي" أراد: هل أنتم تاركو صاحبي لي، ففصل بالجار والمجرور، لأنه متعلق بالمضاف، وهو أفصح الناس، فدل ذلك على ضعف قول من خصه بالضرورة.

وفي كلام بعض من يوثق بعربيته: ترك يوما نفسك وهواها، سعى لها في رداها.

ففصل في الاختيار بالظرف، فعلم أن مثله لا حجر على المتكلم به ناظما وناثرا.

وإنما يحجر على من فصل بمالا يتعلق بالمضاف، كقول الشاعر:

كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوما

يهوديِّ يقاربُ أو يُزيل

ففصل بين "كف" و"يهودي" بيوما، وهو متعلق بخط، فمثل هذا ضعيف حقيق بألا يجوز إلا في ضرورة، لما فيه من الفصل بأجنبي.

ومثله في الضعف والاختصاص بالضرورة الفصل بمفعول به متعلق بغير المضاف،

ص: 273

كقول جرير:

تسقى امتياحا نَدى المسواكَ ريقتِها

كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنة الرَّصَفُ

أراد: تسقى ندى ريقتها المسواك. ومثله في الضعف الفصل بالفاعل مطلقا أي سواء في ذلك ما تعلق بالمضاف، وما تعلق بغير المضاف. فالمتعلق به كقول الشاعر:

ترى أسْهُما للموت تُصمي ولا تُنْمِي

ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ

أراد: ولا ترعوي عن أن ينقض أهواؤنا العزم، ففصل بأهوائنا – وهو فاعل النقض – بينه وبين المفعول المضاف إليه وهو العزم. والمتعلق بغيره كقول الشاعر:

أنْجَبَ أيامَ والداه به

إذ نَجَلاه فنعم ما نَجَلا

أراد: أنجب والداه به أيام إذ نجلاه. ففصل بين "أيام" و"إذ" بفاعل أنجب، ولا عمل لأيام فيه، كما كان النقض في الأهواء.

ومن الفصل بفاعل مرتفع بالمضاف قول الراجز:

ما إنْ عَرَفنا للهوى من طبِّ

ولا جَهِلْنا قَهْرَ وَجْدٌ صَبِّ

وزعم السيرافي أن قول الشاعر:

تَمُر على ما تستمر وقد شفت

غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها

ص: 274

قد فصل فيه "عبد القيس" – وهو فاعل شفت – بين غلائل وصدورها، وهو مضاف ومضاف إليه، والذي قاله غير متعين، لإمكان جعل غلائل غير مضاف، وجعله ساقط التنوين لمنعه الصرف، وانجرار صدورها على أنه بدل من الضمير في قوله: منها، وهذا التوجيه راجح على ما ذهب إليه السيرافي لكثرة نظائره، وعدم أمن الاستشهاد بما يرد في الضرورة وعلى سبيل الندور، ومثله في الضعف والندور الفصل بالنداء، كقول الشاعر:

وِفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ مُنْقِذٌ لك من

تعجيلِ تَهْلُكة والخُلدِ في سَقَرا

أراد: وفاقُ بجير ياكعب، والمراد: بُجَيْر وكعب ابنا زهير رضي الله عن بجير، ورحم كعبا. وكقول الراجز:

كأنَّ بِرْذَون أبا عصام

زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجام

أراد: كأن برذون زيد، ومثله قول الفرزدق:

إذا ما أبا حفص أتتْك رأيتها

على شعراءِ الناس يعلو قصيدُها

أراد: إذا ما أتتك يا أبا حفص.

ومثله في الضعف الفصل بالنعت، كقول الشاعر يخاطب معاوية رحمه الله:

نجوتَ وقد بَلّ المُرادِيُّ سيفه

من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ

أراد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، ومثله قول الفرزدق:

ولئن حلفت على يديك لأحلفن

بيمين أصدق من يمينك مُقسِم

أراد: بيمين مقسم أصدق من يمينك، ففصل بأصدق – وهو نعت يمين – بين

ص: 275

"يمين" و "مقسم"، كما فصل بين "أبي" و"طالب" بشيخ الأباطح. ومثله قول سويد بن الصامت يخاطب قومه:

أدينُ وما ديني عليكم بمَغْرمٍ

ولكن على الشُّمِّ الجلاد القرواح

على كلِّ خوّار كأن عماده

طُلين بقارٍ أو بحَمْأةِ مائح

لها حامل أرعى برية كلما

تناول كفاه اليسار الجوانحِ

أراد: أرعى الجوانح، ففصل بنعت وهو جملة، لأنها في حكم نعت مفرد. ومثال الفصل بفعل ملغى ما أنشد ابن السكيت من قول الشاعر:

ألا يا صاحبي قفا المَهارى

نُسائلُ عن بثينة أين سارا

بأي تراهم الأرضين حَلُّوا

أألدبران أم عسفوا الكِفارا

أراد: بأي الأرضين تراهم حلوا، ففصل بتراهم – وهو فعل ملغى – بين أي والأرضين، وهما مضاف ومضاف إليه، وهذا من الغرابة مثل الفصل بنعت هو جملة، وقد تقدم ذكره.

وتقدم أيضا أن الفصل بمعمول المضاف إذا لم يكن مرفوعا جدير بأن يكون جائزا في الاختيار، ولا يختص بالاضطرار، واستدللت على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"هل أنتم تاركولي صاحبي" وبقول بعض العرب: ترك يوما نفسك وهواها، سعى لها في رداها. وأقوى الأدلة على ذلك قراءة ابن عامر

ص: 276

رضي الله عنه: (وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم) لأنه ثابته التواتر، ومعزوة إلى موثوق بعربيته، قبل العلم بأ، هـ من كبار التابعين، ومن الذين يقتدى بهم في الفصاحة، كما يقتدى بمن في عصره من أمثاله الذين لم يعلم عنهم مجاورة للعجم يحدث بها اللحن، ويكفيه شاهدا على ما وصفته به، أن أحد شيوخه الذين عوّل عليهم في قراءة القرآن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتجويز ما قرأ به في قياس النحو قوي، وذلك أنها قراءة اشتملت على فصل يدخله بين عاملها المضاف إلى ما هو فاعل، فحسن ذلك ثلاثة أمور: أحدها: كون الفاصل فضلة، فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به. الثاني: كونه غير أجنبي لتعلقه بالمضاف. الثالث: كونه مقدر التأخير من أجل المضاف إليه، مقدر التقدم بمقتضى الفاعلية المعنوية، فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه، لاقتضى القياس استعماله، لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيرا، فاستحق الفصل بغير أجنبي أن يكون له مزية، فحكم بجوازه. وأيضا فقد فصل بقول النبي صلى الله عليه وسلم مثل:"هل أنتم تاركو لي صاحبي" بالجار والمجرور، والمضاف فيه اسم فاعل، مع أنه مفصول بما فيه من الضمير المنوي، ففصل المصدر بخلوه من الضمير أحق بالجواز، ولذلك قلت نظائر:"هل أنتم تاركو لي صاحبي" وكثرت نظائر: (قتلُ أولادَهم شركائهم)، فمنها قول الطرماح:

يَطُفْن بحُوزيِّ المراتع لم تُرَع

بواديه من قَرْعِ القِسَّى الكنائِنِ

ومنها:

ص: 277

عَتَوْا إذْ أجبناهم إلى السلم رأفةً

فسُقْناهم سوقَ البغاثَ الأجادل

ومن يُلغ أعقاب الأمور فإنه

جديرٌ بهُلكٍ آجلٍ أو مُعاجِلِ

ومنها:

يَفْرُكْن حبَّ السُّنْبل الكُنافج

في القاع فَرْك القطنْ المحالجِ

وأنشد أبو عبيدة:

وحَلَقِ الماذيِّ والقوانسِ

فداسهم دوسَ الحصادَ الدائسِ

وأنشد الأخفش:

فَزَجَجْتُها بِمِزَجَّة

زجَّ القَلُوصَ أبي مزادة

وأنشد ثعلب بجر "مطر" من قول الشاعر:

لَئِنْ كان النكاحُ أحلَّ شيءٍ

فإنَّ نكاحَها مطرٍ حرامُ

ومما يرد على: "أنتم تاركو لي صاحبي" قراءة بعض السلف رضي الله عنه: (فلا تَحْسَبنَّ الله مُخْلِفَ وعدَه رسلِه) ففصل فيه اسم الفاعل المضاف إلى مفعول بمفعول آخر.

فصل: ص: الأصحُّ بقاءُ إعراب المعرب إذا أضيف إلى ياء المتكلم ظاهرا، في المثنى مطلقا، وفي المجموع على حده غير مرفوع، وفيما سواهما

ص: 278

مجرورا، ومقدرا فيما سوى ذلك. ويكسر متلوُّها إن لم يكن حرف لين يلي حركة، وتفتح الياء أو تسكن.

وإن نُودِي المضاف إليها إضافة تخصيص جاز أيضا حذفها، وقلبها ألفا، والاستغناء عنها بالفتحة، وربما وردت الثلاثة دون نداء، وقد يضم فيه ما قبل الياء المحذوفة وتُنْوى الإضافة، وتفتح في الحالين بعد حرف اللين التالي حركة، ويدغم فيها إن كان ياء أو واوا، وإن كان ألفا لغير تثنية جاز في لغة هذيل القلب والإدغام، وربما كسرت مُدْغما فيها، أو بعد ألف، ويجوز في أبي وأخي أبيّ وأخيّ، وفاقا لأبي العباس، وحذف ميم الفم مضافا أكثر من ثبوته، وفيّ حذف الميم واجب.

ش: من المضاف إلى ياء المتكلم ما كان مبنيا قبل الإضافة كلدن وأحد عشر، وما كان معربا قبلها وهو الكثير، فما كان مبينا لا يزال مبنيا، وما كان معربا يعرض له تقدير الإعراب بعد أن كان ظاهرا، ما لم يكن مثنى فيظهر إعرابه في الأحوال الثلاثة، وكذا المجموع على حد التثنية في حال الجر والنصب، وأما في حال الرفع فيقدر إعرابه، كقول الشاعر:

أوْدى بَنِيّ وأوْدَعوني حسرةً

عند الرُّقاد وعبرةً لا تُقْلع

وزعم الجرجاني، ووافقه ابن الخشاب والمطرزي، وهو الظاهر من قول الزمخشري، أن المضاف إلى ياء المتكلم مبني، وفي كلام ابن السراج احتمال، وسأبين مراده إن شاء الله. والصحيح أن المكسور الآخر للإضافة إلى الياء معرب تقديرا في الرفع والنصب، لأن حرف الإعراب منه في الحالين قد شغل بالكسرة المجلوبة ترعية للياء، فتعذر اللفظ بغيرها، فحكم بالتقدير كما فعل في المقصور.

وأما حال الجر فالإعراب ظاهر للاستغناء عن التقدير، هذا عندي هو الصحيح، ومن قدر كسرة أخرى فقد ارتكب تكلفا لا مزيد عليه، ولا حاجة إليه، ولم أوافق الجرجاني في بناء المضاف إلى الياء، وإن كان في تقدير إعرابه تكلف يخالف

ص: 279

الظاهر، لأن لبناء الأسماء أسبابا كلها منتفية منه، فيلزم من الحكم ببنائه مخالفة النظائر، فلذلك أتبعته ردا، ولم أر من خلافه بدا.

فإن زعم أن سبب بنائه إضافته إلى غير متمكن، رد ذلك بثلاثة أمور: أحدها: استلزامه بناء المضاف إلى سائر المضمرات، بل إلى كل الأسماء التي لا تمكن لها، وذلك باطل، وما استلزم باطلا فهو باطل.

الثاني: أن ذلك يسلتزم بناء المثنى المضاف إلى ياء المتكلم، وبناؤه باطل، وما يستلزم باطلا فهو باطل.

الثالث: أن المضاف إلى غير متمكن لا يبنى لمجرد إضافته، بل للإضافة مع كونه قبلها مناسبا للحرف في الإبهام والجمود كغير، والمضاف إلى ياء المتكلم لا يشترط ذلك في كسر آخره، فدل ذلك على أنه غير مستحق للبناء.

وقد ينتصر للجرجاني بأن يقال: لا أسلم انحصار ما يوجب بناء الأسماء في مناسبة الحرف، يضاف إليها كون آخر الكلمة لا يتأتى فيه تأثر بعامل في تصغير وتكبير وتكسير وتأنيث وتذكير، فلزم من ذلك بناء المضاف المذكور، وثبوت الفرق بينه وبين المقصور، فإن إعرابه يظهر في تصغيره كفتيّ، وفي تكسيره كفتية، وفي تأنيثه كفتاة، والمضاف إلى ياء المتكلم لا يظهر إعرابه في الأحوال الخمسة، فمن ادعى فيه إعرابا مقدرا فقد ادعى مالا دليل عليه، بخلاف المقصور فإن ظهور إعرابه في الأحوال الثلاثة يدل على صحة ما ذهب إليه.

وقد ينتصر له أيضا بأن يقال: لا أسلم خلو المضاف إلى ياء المتكلم من مناسبة الحرف، لأنه شبيه "بالذي" في أن آخره ياء كياء "الذي" في كونها بعد كسرة لازمة، وصالحة للحذف، وغير حرف إعراب، وفي أنه يتغير في التثنية تغيرا متيقنا، وفي الجمع تغيرا محتملا، والذي مناسب للحرف، ومناسب المناسب مناسب، فاستحقاق بناء المضاف إلى الياء بمناسبة الذي، شبيه باستحقاق بناء رَقاشِ بمناسبة نزالِ.

وهذا التوجيه والذي قبله من المعاني التي انفردت بالعثور عليها، دون سبق إليها.

وقولي: "ويكسر متلوها" أي متلو الياء، كقولك في: قلم: قلمِي، وتجرى

ص: 280

هذه الكسرة مجرى كسرة الإعراب في أنها تظهر في الحرف الصحيح، كظهورها في ميم قلم، وفي حرف العلة الجاري مجرى الصحيح كظبيي وصبيي ودلوي وفُلُوِّي، وتقدر في الحرف المعتل الذي لا يجرى مجرى الصحيح ويتبعها ما قبلها، كما يتبع ما قبل كسرة الإعراب، فيقال: هذا ابنمي، بكسر النون، كما تقول في الجر: مررت بابنم. ومن أتبع في الفم فقال: نظرت إلى فمه، قال هنا: نظر إلى فمي.

وتقول فيما في آخره حرف علة بعد حركة: هذا داعِيّ ومولاي، ويابني ويابني، ورأيت مصطفى، وجاء بنيّ ومصطفى، والأصل: جاء بنوي ومصطفوي، ففعل بهما من القلب والإدغام، وفي تحويل بنوي إلى بني زيادة تبديل ضمة النون كسرة، فأشبه شيء به مرميّ، في أن أصله: مرمُوي، فأبدلت الضمة كسرة، والواو ياء وأدغمت، وكذا فعل ببنُوي حين قيل: بني.

ومن قال غير ما بُيِّن، فأجرى المنقوص مجرى الصحيح في ظهور كسرة الإعراب، لا يقول بها ماضِيي، لأن كسرة الإعراب عارضة متعرضة لأن تخلفها الفتحة والضمة، وهذه الكسرة لازمة لا يخلفها مع الإضافة إلى الياء غيرها، فكانت أثقل، ولذلك لم تظهر في اختيار ولا اضطرارا، بخلاف كسرة ماض ونحوه.

وقد دخل في حرف اللين الذي بعد حركة علامة التثنية نحو: جاء غلاماي، وعلامة الجمع نحو: جاء مكرمي، ومصطفى.

ثم قلت: "وتفتح الياء أو تسكن" فعلم من الإطلاق جواز الأمرين في نداء غيره. ثم قلت: وإن نودي المضاف إليها إضافة تخصيص جاز أيضا حذفها، وقلبها ألفا، والاستغناء عنها بالفتحة" فعلم بهذا أن في الياء التي يضاف إليها غير المنادى وجهين مشهورين، وفي التي يضاف إليها المنادى خمسة أوجه. يقال في غير النداء: جاء غلامِي وغلامي. ويقال في النداء: يا غلامِي، ويا غلامَي، ويا غلامِ، ويا غلاما، ويا غلامَ بحذف الألف مع خفتها، لأنها بدل من الياء، فجرت مجراها في

ص: 281

الاستغناء عنها بحركة.

ثم قلت: "وربما وردت الثلاثة في غير نداء" فأشرت إلى نحو قوله تعالى: (فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القول) بحذف الياء خطا ووقفا. وإلى نحو قول الشاعر:

أُطَوِّفُ ما أطوف ثم آوِي

إلى أُمَّا ويُرْويني النَّقيعُ

وإلى نحو قول الآخر:

ولستُ براجعٍ ما فات مني

بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَ انِّي

أراد: بقول: لهفا، والأصل: لهفى، فأبدل الياء ألفا دون نداء ثم حذفها واستغنى بالفتحة، كما حذفت الياء واستغنى بالكسرة. وقيدت بالإضافة بأن تكون إضافة تخصيص احترازا من نحو: يا مكرمي، وأنت تريد الحال والاستقبال، فإن إضافته إضافة تخفيف، فالياء في نية الانفصال، كما يكون "زيد" في نية الانفصال إذا قلت: يامكرم زيد الآن أو غدا. وإذا كانت في نية الانفصال لم تمازج ما اتصلت به، فتشبه بياء قاض فتشاركها في جواز الحذف.

والحاصل أنت ياء المتكلم المضاف إليها منادى هو اسم فاعل بمعنى الحال والاستقبال لا تحذف ولا تقلب ألفا، وإذا لم تقلب ألفا فلا يفتح ما قبلها، فليس لها حظ في غير الفتح والسكون.

وقد يستغنى بنية إضافة المنادى إلى الياء، ويجيء وكأنه غير مضاف، كما يفعل ذلك في غير النداء، أعني كون الاسم مضافا في المعنى، مفردا في اللفظ. ومن ورود المنادى المضاف إلى الياء مكتفيا بالنية قراءة بعض القراء: (ربُّ السجن

ص: 282

أحبُّ إليَّ) وأصله: يارب، فحذف الياء، ولذلك حسن حذف حرف النداء، لأنه لو حذف حرف النداء والإضافة غير منوية لكان مثل قولهم: افتد مخنوق، وهو قليل. بخلاف الاستغناء بنية الإضافة عن المضاف إليه، فإنه كثير، والحمل على ما كثرت نظائره أولى من الحمل على ما قلت نظائره. وأيضا لو كان غير منوي الإضافة لكان في الأصل صفة لأي، كما أن مخنوق في الأصل صفة لأي، وأسماء الله تعالى لا يوصف بها أي، فتعين كون الأصل: يارب.

"وتفتح في الحالين بعد حرف اللين التالي حركة، ويدغم فيها إن كان ياء أو واوا" نبهت به على أنه يقال في القاضي واثنين وابنين ومصطفين وعشرين: قاضيّ، واثنيّ، وابنيّ، وبنتيّ، ومصطفيّ، وعشريَّ، وكذا بنون وعشرون ومصطفون، لأنه يلتقي مع الياءين اللتين لم تكن إحداهما واوا. وقصدت بالحالين حال غير النداء وحال النداء، وسكت عن التالية ألفا عند ذكر الإدغام، فعلم أن حكمها التخفيف والفتح مطلقا، نحو: غلاماي وفتاي.

ثم نبهت على أن هذيلا يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمون، كقراءة الحسن:(يابُشْرَيّ هذا غلام) وكقول الشاعر:

سَبَقوا هَوَيَّ وأعْنَقوا لهواهم

فَتُخَرِّموا ولكل جنب مصرعُ

وفي دعاء بعض العرب: يا سيديّ، ويا موليّ.

وقولي: "وربما كسرت مدغما فيها أو بعد ألف" أشرت به إلى قراءة حمزة: (وما أنتم بمصرخيِّ) بالكسر، وإلى قول بعض العرب في: عصايَ: عصايِ.

ص: 283

وقرأ الحسن وأبو عمرو في شاذه، وهي لغة قليلة، أقل من كسر المدغم فيها، وممن روى كسر المدغم فيها أبو عمرو بن العلاء والفراء وقطرب، ومن شواهدها قول الراجز:

قال لها هل لكِ ياتا فِيِّ

قالت له ما أنت بالمَرْضيِّ

ومنها قول الشاعر:

لعمرٍو عليِّ نعمةٌ بعد نعمةٍ

لوالده ليست بذاتِ عَقارِب

كذا روي بكسر الياء من علي.

واللغة الجيدة أن يقال في إضافة: أب وأخ إلى الياء: أبي وأخي، كما جاء في القرآن الكريم، ويجوز عند أبي العباس: أبيّ وأخيّ، برد اللام وإدغامها في ياء المتكلم. والذي رآه مسموع في الأب مقيس في الأخ، ومن شواهد السماع قول الراجز:

كأن أبيِّ كَرَما وسُودا

يُلقى على ذي اللبد الجديدا

والاستشهاد بهذا أقوى من الاستشهاد بقول الآخر:

قَدَر أحَلّك ذا المجاز وقد أرى

وأبيّ مالك ذو المجاز بدار

لاحتمال أن يريد قائل هذا الجمع، والذي قبله يتعين فيه الإفراد، بيلقى، إذ لو قصد الجمع لقال: يلقون. ولم أجد شاهدا على أخيّ، لكن أجيزه قياسا على أبيّ كما فعل أبو العباس.

وأيضا إذا أضيف الفم إلى ظاهر أو ضمير جاز أن يضاف بالميم ثابتة، فيقال: كلمته من فمي إلى فمه، وجاز أن يضاف عاريا من الميم، فيقال: كلمته من فيّ

ص: 284

إلى فيه، والأصل: فيي بياءين، الأولى عين الكلمة، والثانية ياء المتكلم، فأدغمت الأولى في الثانية، ولا يجوز التخفيف كما جاز مع الأب والأخ، لأن الأب والأخ إذا وليتهما الياء مخففة كانا على حرفين، أحدهما فاء الكلمة، والآخر عينها، ولو فعل ذلك بفيّ بقي على حرف واحد، مع أنه اسم متمكن، وليس في الأسماء المتمكنة ما هو على حرف واحد، فاجتنب ما يلزمه منه عدم النظير. ويجوز أن يقال: كلمته من فمي إلى فمه، وفم زيد أحسن من فم عمرو. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" ولم يقل: لخلوف في الصائم، وهذا يدل على قلة علم من زعم عدم ثبوت الميم مع الإضافة، ويجوز بقلة في ضرورة شعر، كقول الشاعر:

صَفَحْنا عن بني ذُهْل

وقلنا القومُ إخوان

عسى الأيامُ أن يَرْجِعْـ

ـنَ قوما كالذي كانوا

بضَرْبٍ فيه تَوْهينٌ

وتخضيعٌ وإقْران

وطَعْن كفَم الزَّقِّ

غدا والزَّقُّ ملآنُ

فلما صرّح الشَّرُّ

فأمسى وهو عُرْيان

ولم يَبْقَ سوى العُدْوا

ن دِنَّاهم كما دانوا

وعاب بعض أصحاب هذا المذهب على الحريري قوله: أدخله في فمه، وقرنه بتوأمه". ولا عيب فيه لما ذكرته، والله أعلم.

ص: 285