المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب حروف الجر سوى المستثنى منها - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب حروف الجر سوى المستثنى منها

‌باب حروف الجر سوى المستثنى منها

ص: فمنها مِن، وقد يقال مِنا وهي لابتداء الغاية مطلقا، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة في وإلى. وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ أو فاعلا أو مفعولا به. ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه وفاقا للأخفش. وربما دخلت على حال. وتنفرد مِن بجر ظروف لا تتصرف كقبل وبعد وعند ولدى ولدن ومع وعن وعلى اسمين. وتختص مكسورة الميم ومضمومتها في القسم بالربّ، والتاء واللام بالله. وشذّ فيه: "مُن الله وتَربّى.

ش: حكى الفراء أن بعض العرب يقول في من: مِنا، وزعم أنه الأصل وخففت لكثرة الاستعمال بحذف الألف وتسكين النون. ومجيء من لابتداء الغاية في المكان مجمع عليه كقوله تعالى (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ومجيؤها لابتداء غاية الزمان مختلف فيه؛ فبعض النحويين منعه، وبعض أجازه. وقول من أجاز ذلك هو الصحيح الموافق لاستعمال العرب. وفي كلام سيبويه تصريح بجوازه وتصريح بمنعه. فأما التصريح بجوازه فقوله في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف: "ومن ذلك قول العرب:

مِن لدُ شَوْلًا فإلى إتْلائِها

ص: 130

نصب لأنه أراد زمانا. والشوال لا يكون زمانا ولا مكانا فيجوز فيها الجر كقولك من لدن صلاة العصر إلى وقت كذا، وكذا من لد الحائط إلى مكان كذا، فلما أراد الزمان حمل الشول على شيء يحسن أن يكون زمانا إذا عمل في الشول، كأنك قلت من لد أن كانت شولا إلى إتلائها". هذا نصه في هذا الباب. وفيه تصريح بمجيء من لابتداء غاية الزمان ولابتداء غاية المكان.

وقال في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وأما مِن فتكون لابتداء الغاية في الأماكن" ثم قال: "وأما مُذْ فتكون لابتداء الغاية في الأيام والأحيان، كما كانت مِن فيما ذكرت لك، ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها". فظاهر هذا الكلام منع استعمال "مِن" في الزمان، ومنع استعمال "مذ" في المكان. فأما منع استعمال مذ في المكان في الكلام فمجمع عليه، وأما استعمال من في الزمان فمنعه غير صحيح، بل الصحيح جوازه لثبوت ذلك في القرآن والأحاديث الصحيحة والأشعار الفصيحة، فالذي في القرآن قوله تعالى (لمسجدٌ أُسِّسَ على التّقوى من أوّل يومٍ أحقُ أن تقومَ فيه). وقال الأخفش في المعاني: قال بعض العرب من الآن إلى غد. وأما الأحاديث فمنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُكم ومثلُ اليهودِ والنصارى كرجل استعمال عمّالا فقال: مَن يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط ثم قال مَن يعمل لي مِن نصف النهار على قيراط قيراط فعملت النصارى مِن نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال ومَن يعملُ لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين

ص: 131

تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، ألا لكم الأجر مرّتين". فقد استعملت "مِن" في هذا الحديث لابتداء غاية الزمان أربع مرات. ومن الأحاديث على ذلك قول مَن روى حديث الاستسقاء "فمطرنا من جمعة إلى جمعة" وقول عائشة رضي الله عنها "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل". وقول أنس رضي الله عنه "فلمْ أزلْ أحِبُّ الدُّبّاء من يومئذ". وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري. وفي جامع المسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها "هذا أوّلُ طعامٍ أكله أبوكِ من ثلاثة أيام".

وأما الأشعار فمنها قول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيُوفَهم

بهنَّ فُلول من قِراع الكتائب

تُخيّرنَ من أزمانِ يومِ حليمةٍ

إلى اليومِ قد جُرِّبْنَ كلَّ التجاربِ

ومنها قول جبل بن جوال:

وكل حُسام أخلصتْه قُيونُه

تُخيّرنَ من أزمان عاد وجُرْهُمِ

ومنها قول الراجز:

تنتهض الرِّعدة في ظُهَيرى

من لدُنِ الظُّهر إلى العُصير

ص: 132

وقول الآخر:

إنّي زعيمٌ يانو

يقَةُ إنْ أمِنْتِ من الرَّزاح

ونجوْتِ من عَرَض المنُو

نِ من الغُدوّ إلى الرواحِ

ومنها قول بعض الطائيين:

من الآن قد أزمعتُ حِلْمًا فلن أُرى

أغازل خَوْدا أو أذوقُ مداما

ومنه:

ألِفتُ الهوى من حين أُلْفيتُ يافِعا

إلى الآن مَمْنوًّا بواشٍ وعاذِلِ

ومثله:

ما زلت من يوم بِنتُم والهًا دَنِفا

ذا لوعةٍ، عيشُ مَن يُبْلى بها عَجَبُ

وتكون "مِن" أيضا لابتداء الغاية في غير مكان ولا زمان، كقولك: قرأت من أوّل سورة البقرة إلى آخرها، وأعطيت الفقراء من درهم إلى دينار، ولذلك قلت:"لابتداء الغاية مطلقا" ولم أقل في الزمان والمكان. وأشار سيبويه إلى هذا فقال: "وتقول إذا كتبت كتابا: من فلان إلى فلان، فهذه الأسماء سوى الأماكن بمنزلتها" هذا نصه.

ومجيء من التبعيض كثير كقوله تعالى (خلق كلَّ دابّة من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم مَن يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع).

ص: 133

وعلامتها جواز الاستغناء ببعض عنها كقراءة عبد الله (لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا بعض ما تحبّون).

ومجيؤها لبيان الجنس كقوله تعالى (يُحَلَّوْن فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس) وقوله تعالى: (خلق الإنسانَ من صلصالٍ كالفخّار * وخلق الجانَّ من مارج من نار) ومجيؤها للتعليل كقوله تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) و (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل). ومنه قول عائشة رضي الله عنها "فما أستطيع أن أقضيَه إلّا في شعبان الشغلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يمنعني الشغل من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكقول الشاعر:

ومُعتصمٍ بالحقّ مِن خَشْية الرّدى

سَيَرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سيئوبُ

والتي للبدل كقوله تعالى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)(ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون). ومنه قول الشاعر:

أخذوا المخاض من الفصيل غُلُبّةً

ظُلْما ويُكتَب للأمير أفيلا

ومجيؤها للمجاوزة: غُذت منه وشبعت ورويت. ولهذا المعنى صاحبت أفعل

ص: 134

التفضيل، فإن القائل زيد أفضل من عمرو، كأنه قال: جاوز زيد عمرا في الفضل. وهذا أولى من أن يقال لابتداء الارتفاع في نحو أفضل منه والانحطاط في شرّ منه كما زعم سيبويه؛ إذ لو كان الابتداء مقصودا لجاز أن تقع بعدها إلى. وقد أشار سيبويه إلى أن ابتداء الغاية قد يُقصد دون إرادة مُنْتَهى، فقال:"وتقول ما رأيته مذ يومين، فجعلتها غاية، كما قلت أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم تُرد منتهى" هذا نصه. والصحيح أن "من" في نحو أخذته من ذلك المكان للمجاوزة إذ لو كان الابتداء مقصودا مع أخذت كما هو مقصود مع حملت في قولك حملته من ذلك المكان لصدق على استصحاب المأخوذ أخذ، كما يصدق على استصحاب المحمول حمل. وأماما في: رأيته من يومين ونحوه فقد جعلها بعضهم بمعنى "في" وليس كذلك، والمراد بما رأيته من يومين ونحوه نفي الرؤية في مدة أنت في آخرها والابتداء والانتهاء مقصودان واليومان معيّنان. ولو جيء بفي مكان من لم يفهم تعيّن ولا ابتداء ولا انتهاء. وقد يقع موقع "مُذْ" ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها "هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام". فلو كان المجرور بمذ أو منذ حاضرا غير مثنى ولا مجموع صح قصد معنى "في" في قوله صلى الله عليه وسلم للملكين عليهما السلام "طرقتماني منذ الليلة".

وأشار سيبويه إلى أن "من" الزائدة قصد بها التبعيض لأنه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل: "أدخلت من لأنه موضع تبعيض، فأراد أنه لم يأت بعض الرجال" هكذا قال. يريد أن من دلت على شمول الجنس، فلكل بعض منه قسط من المنسوب إلى جميعها، فالتبعيض على هذا التقدير مقصود. وهذا غير مرضيّ، لأنه يلزم منه أن تكون ألفاظ العموم للتبعيض. وإنما المقصود بزيادة من في نحو: ما أتاني

ص: 135

من رجل: جعل المجرور بها في العموم، وإنما تكون للتبعيض إذا لم يقصد عموم، وحسن في موضعها "بعض" نحو (ومن الناس مَن يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) و (منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون) و (فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابِقٌ بالخيرات). وقد صرّح سيبويه بذا المعنى فقال:"وتكون للتبعيض نحو هذا منهم، كأنك قلت بعضهم". وأشار أيضا إلى قصد التبعيض بالمصاحبة أفعل التفضيل فقال في: هو أفضل من زيد: "فضّلة على بعض ولم يَعُمّ".

ويبطل كون هذه للتبعيض أمران: أحدهما عدم صلاحية بعض في موضعها، والثاني صلاحية كون المجرور بها عاما كقوله: الله أعظم من كل عظيم، وأرحم من كل رحيم. وإذا بطل كون المصاحبة أفعل التفضيل لابتداء الغاية وللتبعيض تعيّن كونها لمعنى المجاوزة، كما سبق.

ومجيء من للانتهاء كقولك قربت منه، فإنه مساو لقولك قربت إليه. وقد أشار سيبويه إلى أن من معاني من الانتهاء فقال:"وتقول رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك، كما جعلته غاية حين أردت الابتداء". قال ابن السراج – رحمه الله: "وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت رأيت الهلال من موضعي، فمِن لكَ، وإذا قلت رأيت الهلال من خلل السحاب فمِن للهلال، والهلال غاية لرؤيتك، فلذلك جعل سيبويه من غاية في قولك رأيته من ذلك الموضع". وقد جاء "من" بمعنى "على" في قوله تعالى (ونَصرناه من القوم الذين كَذَّبوا بآياتِنا)

ص: 136

أي على القوم. كذلك قال أبو الحسن الأخفش. وإليه أشرت بذكر الاستعلاء في معاني "من". وأشرت بذكر الفَصْل إلى دخولها على ثاني المتضادّين نحو (واللهُ يعلم المفسدَ من المصلح) و (حتى يميز الخبيثَ من الطَّيِّبِ) ومنه قول الشاعر:

إذا ما ابتدأتَ امرأ جاهلا

ببِرّ فقَصّر عن فعْله

ولم تره قائلا للجميل

ولا عَرف العزّ مِن ذُلّهِ

فسُمْه الهوانَ فإنْ الهوانَ

دواءٌ لذي الجهل من جَهْلِه

وأشرت بموافقة الباء إلى قوله تعالى (ينظرون من طرفٍ خفيّ) أي بطرف خفي قال الأخفش: قال يونس: "نظرون من طرف خفي" أي بطرف، كما تقول ضربته من السيف أي بالسيف. وأشرت بموافقة "في" إلى نحو قول عدي بن زيد:

عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إنْ مَنَعْتَه

من اليوم سُؤْلًا أنْ يُيَسَّرَ في غد

وتزاد "من" للعموم كقولك ما في الدار من رجل، فمن زائدة لأن الكلام يصح بدونها إذا قلت ما فيها رجل، لكن ما فيها من رجل لا محتمل له غير العموم؛ ولذلك يخطّأ مَن قال ما فيها من رجل بل اثنان، وما فيها رجل محتمل لنفي الجنس على سبيل العموم ولنفي الواحد دون ما فوقه، ولذلك يجوز أن يقال ما فيها رجل بل اثنان.

فلو كان المجرور بمن هذه "أحدا أو دبيّا" أو غيرهما من الأسماء المقصورة على العموم لكانت مزيدة لمجرد التوكيد، فقولك ما فيها أحد وما فيها من أحد سيّان في

ص: 137

إفهام العموم دون احتمال. ولا يكون المجرور بها عند سيبويه إلا نكرة بعد نفي أو نهي أو استفهام نحو (هل مِن خالق غيرُ الله). وإلى النهي والاستفهام أشرت بذكر شبه النفي. وأجاز أبو الحسن الأخفش وقوعها في الإيجاب وجرها المعرفة. وبقوله أقول لثبوت السماع بذلك نظما ونثرا، فمن النثر قوله تعالى (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) وقوله تعالى (يُحلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهب) وقوله تعالى (ويكفّرُ عنكم من سيّئاتكم) وقوله تعالى (وآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم) وقوله تعالى (تجري من تحتها الأنهارُ) وقول عائشة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوا من كذا" أخرجه البخاري، وضبطه بضبطه مَن يعتمد عليه بنصب "نحوا" على زيادة من وجعل قراءته فاعلا ناصبا نحوا. والأصل فإذا بقي قراءته نحوا من كذا.

ومن النظم المتضمن زيادة "من" في الإيجاب قول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنْمي لها حبُّها عندنا

فما قال من كاشحٍ لم يَضرْ

أراد فما قال كاشح لم يضر. ومنه قول الآخر:

ص: 138

لما بلغتُ إمام العدْل قلتُ لهم

قد كان من طُول إدْلاجي وتهْجيري

أراد قد كان طول إدلاجي وتهجيري. ومنه قول الآخر:

وكنت أرى كالموت من بين ساعة

فكيف ببَيْنٍ كان موعده الحشر

أراد وكنت أرى بين ساعة كالموت. ومثله قول الآخر:

يظلُ به الحرباءُ يَمْثلُ قائما

ويكثرُ فيه من حنينِ الأباعر

أراد ويكثر فيه حنين الأباعر.

وممن رأى زيادة "من" في الإيجاب الكسائي، وحمل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون" فقال: أراد إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. وممن رأى ذلك أبو الفتح بن جني، وحمل عليه قراءة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيّين لمّا آتيناكم) أراد وإذ أخذ الله ميثاق النبيي لممّا آتيناكم، فزاد من في الواجب وأدغم نونها في ميم "ما" فصارت لمما، بثلاث ميمات فحذفت الأولى وبقيت لمّا بميمين، أولهما بدل من نون، والثانية ميم ما، وأشرت بقولي "وربما دخلت على حال" إلى قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي جعفر وزيد بن علي والحسن ومجاهد (ما كان ينبغي لنا أنْ

ص: 139

نُتَّخذ من دونك من أولياء).

وإذا دخلت من على قبل وبعد ولدن وعن فهي زائدة، لأن المعنى بثبوتها أو سقوطها واحد. وإذا دخلت على عند ولدى ومع وعلى فهي لابتداء الغاية. و"عن" بعد دخول من بمعنى جانب و"على" بمعنى فوق. قال جرير في "من عن":

وإني لعفُّ الفقر مشترك الغنى

سريعٌ إذا لم أرْضَ داري انتقاليا

جريءُ الجَنان لا أُهالُ من الرَّدى

إذا ما جعلتُ السيفَ من عن شماليا

وقال آخر:

ولقد أراني للرّماحِ دريئةً

من عن يميني تارةً وشمالي

وقال آخر في من عليه:

غدتْ مِن عليه بعد ما تمَّ ظمؤها

تصلُّ وعن قيْض بَزيزاءَ مَجْهَل

فهذا مما تختص به "من" وتختص أيضا من في القسم بالرَّبِّ نحو من ربّي إنك لأشر. وقد يقال مُن ربّي بضم الميم. ولا يجوز ذلك في غير قسم، وكاختصاص "من" في القسم بالربّ اختصاص التاء واللام فيه بالله نحو (تاللهِ لقد آثرك الله علينا)، ولله لا يؤخر الأجل. وشذ دخول اللام على الله ودخول التاء على الرب، روى ذلك الأخفش. ومن ذلك قول الشاعر:

ص: 140

للهِ يبقى على الأيّامِ ذو حيَد

بمشمخرٍّ به الظيّانُ والآسُ

ص: ومنها "إلى" للانتهاء، وللمصاحبة وللتبيين، ولموافقة اللام وفي ومن، ولا تزاد خلافا للفراء.

ش: أردت بقولي للانتهاء مطلقا شيئين: أحدهما عموم الزمان والمكان كقولك سرت إلى آخر النهار، وإلى آخر المسافة. والثاني أن منتهى العمل بها قد يكون آخرا وغير آخر، نحو: سرت إلى نصف النهار، وإلى نصف المسافة.

ونبهت بقولي "وللمصاحبة" على أنها تكون بمعنى "مع" كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالَهم إلى أموالكم) و (مَنْ أنصاري إلى الله). قال الفراء في (مَن أنصاري إلى الله)"قال المفسرون من أنصاري مع الله وهو وجه حسن. قال: وإنما تجعل إلى كمع إذا ضممت شيئا إلى شيء كقول العرب: "إنّ الذّوْد إلى الذّود إبل" فإن لم يكن ضم لم تكن إلى كمع، فلا يقال في مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير.

قلت: ومن مجيئها بمعنى "مع" قول الشاعر:

برى الحبُ جسْمي ليلةً بعد ليلةٍ

ويوما إلى يوم وشهْرا إلى شهر

ومثله:

ولقد لهوتُ إلى كواعبَ كالدُّمى

بيض الوجوه حديثهُنَّ رخيمُ

ومثله:

ص: 141

وإن امرأ قد عاش تسعين حِجّة

إلى مائةٍ لم يسأمِ العيشَ جاهلُ

ومثله قول الآخر:

فلم أرَ عُذرا بعد عشرين حِجّةً

مضتْ لي وعشرٌ قد مضيْنَ إلى عَشْرِ

ونبهت بقولي "وللتبيين" على المتعلقة في تعجب أو تفضيل بحبّ أو بُغْض مبيّنة لفاعليّة مصحوبها كقول الله تعالى (رَبِّ السجنُ أحبُّ إليَّ ممّا يدعونني إليه) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيمُ الله لقد كان خليقا للإمارة، وإنْ كان من أحب الناس إليّ". وأشرت بموافة اللام إلى نحو (والأمرُ إليك) فاللام في هذا هو الأصل، كقوله تعالى (للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ) وكقوله تعالى (والأمرُ يومئذ لله) و (هلْ لنا من الأمر من شيء قلْ إنَّ الأمرَ كلَّه لله). وكقوله تعالى (ويهْدي من يشاء إلى صراطٍ مُسْتقيم)؛ فإنها موافقة للام (الحمد لله الذي هدانا لهذا) و (قل اللهُ يهدي للحقّ)(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقْوَمُ). ومنه قول عمر رضي الله عنه "لا يمنعنّك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهُديت فيه لرُشدك أن ترجع إلى الحق".

ص: 142

وأشرت بموافقة "في "إلى قول الشاعر:

فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني

إلى الناس مَطْلِيُّ به القارُ أجربُ

ومثله قول النمر:

إذا جئتُ دَعْدًا لا أبينُ كأنّني

إلى آل دَعْدٍ من سلامانَ أو نَهْد

أراد في الناس وفي آل دعد.

ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (ليجمعنّكم إلى يوم القيامة) و (ثُم يجمعكم إلى يوم القيامة) ومثال موافقة من قول ابن أحمر:

تقولُ وقد عاليتُ بالكُور فوقها

أيُسْقى فلا يَرْوَى إليّ ابنُ أحمرا

أي فلا يروى مني وزعم الفراء أنها زائدة في قراءة بعضهم (فاجعل أفئدة من الناس تهوَى إليهم) ونظرها باللام في قوله تعالى (رَدِفَ لكم بعض الذي تستعجلون). وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل. تهوى، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رَضِي: رَضَى، وفي ناصية: ناصاة، وهي لغة طائية، وعليها قول الشاعر:

نستوقد النبل في الحضيض ونصـ

طادُ نفُوسا بُنَتْ على الكرم

أراد بُنيتْ على الكرم.

ص: 143

ص: ومنها اللام للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ وللتعجب وللتبيين وللصيرورة. ولموافقة في وعند وإلى وبعد وعلى ومن. وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياسا في نحو (للرُّؤْيا تعْبرُون) و (إنّ ربك فعّال لما يُريد) وسماعا في نحو (ردِف لكم). وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة، ومع الفعل لغة عُكل وبلعنبر.

ش: لام المِلك نحو المالُ لزيد، ولام شبه الملك نحو: أدوم لك ما تدوم لي، وكقول الشاعر:

مالمولاكَ كنتَ كان لك المَوْ

لى، ومثلُ الذي تَدين تُدان

ومن هذا النوع المفهمة مقابلة لعلي كقوله تعالى (مَن عمِل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها). وكقول الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا

ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرّْ

ولام التمليك نحو وهبت لزيد دينارا، ولام شبه التمليك نحو (واللهُ جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدةً) ولام الاستحقاق نحو: الجلباب للجارية، والجُلّ للفرس. ولام النسب نحو لزيد عمّ هو لعمرو خال، ولعبد الله ابن هو لجعفر عم. ولام التعليل نحو (لِتحكمَ بين الناس بما أراك اللهُ) و (لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم) وكقول الشاعر:

ص: 144

ولو سألتْ للناسِ يومًا بوجْهها

سحابَ الثُّريًّا لاستهلَّت مُواطرُه

ومن لامات التعليل الجارة اسم مَن غاب حقيقة أو حكما عن قائل قول معلق به نحو (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه) ومثله (والذين قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا) ومثله (الذين قالوا لإخوانهم وقَعَدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا) ومثله (وقالت أخراهم لأولاهم ربَّنا هؤلاء أضلونا) ومثله (ولا أقول للذين تزدري أعينُكم لنْ يُؤتيَهم اللهُ خيرا) ومنه قول الشاعر:

وقولُك للشيءِ الذي لا تناله

إذا ما هو احلَوْلَى: ألا ليتَ ذاليا

ومنه:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه

فالكل أعداء له وخُصوم

كضرائر الحسناءِ قلن لوجهها

حَسَدًا وبَغْيا إنه لدميمُ

ولام التبليغ الجارة اسم سامع قول أو ما في معناه نحو: قلت له، وبَيّنت له وفسّرت له، واستجبت له ونصحت له، إلا أن هذين قد يستغنيان عن اللام فيقال شكرته ونصحته. والمختار تعديتهما باللام، وبذلك نزل القرآن العزيز كقوله تعالى (واشكروا لي ولا تكفرون) وكقوله تعالى (وأنصحُ لكم وأعلمُ من الله ما لا

ص: 145

تعلمون). ولام التعجب كقول الشاعر:

شباب وشيب وافتقار وثروة

فلله هذا الدهر، كيف ترددا

ومثله:

فللهِ عَيْنا مَن رأى مِن تفرّق

أشتَّ وأنأى من فراقِ المُحَصَّب

ولام التبيين الواقعة بعد أسماء الأفعال والمصادر التي تشبهها مبيّنة لصاحب معناها، والمتعلقة بحب في تعجب أو تفضيل مبيّنة لمفعولية مصحوبها، فالأول نحو (هَيْتَ لك) و (هيهاتَ هيهاتَ لما توعَدون) والثاني نحو ما أحب زيدا لعمرو، وقوله تعالى (والذين آمنوا أشدُّ حُبًّا لله) ولام الصيرورة كقوله تعالى (فالْتَقطه آلُ فرعون ليكون لهم عدُوًّا وحَزَنا) وكقول الشاعر:

فللموت تغذو الوالداتُ سِخالها

كما لخَرابِ الدُّورِ تُبنى المساكنُ

ومثله:

لا أرى حِصْنا يُنجّى أهله

كلُّ حيٍّ لفناء ونفَدْ

والموافقة "في" كقوله تعالى (ونضع الموازن القسط ليوم القيامة) كقوله تعالى (لا يُجَلِّيها لوقتها إلّا هو) ومنه قول مسكين الدارمي:

ص: 146

أولئك قومي قد مَضوا لسبيلهم

كما قد مضى لقمانُ عادٍ وتُبّع

ومنه قول الحكم بن صخر:

وكلُّ أبٍ وابنٍ وإن عُمِّرا معا

مُقيمَيْن مفقود لوقتٍ وفاقِد

والموافقة "عند" كقراءة الجحدريّ (بل كذَّبوا بالحقِّ لما جاءهم) قال أبو الفتح بن جني: أي عند مجيئه إيّاهم، كقولك كتب لخمس خلون. والموافقة "إلى" كقوله تعالى (حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالًا سقناه لبلد مَيّتٍ) وكقوله تعالى (كلٌّ يجري لأجل مسمّى). والموافقة "بعد" كقوله تعالى (أقم الصلاةَ لدلوك الشمس) أي بعد زوالها. وكقول الشاعر يرثي أخاه:

لفما تفرّقْنا كأنِّي ومالِكا

لطُول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلة معا

أي بعد طول اجتماع. والموافقة "على" كقوله تعالى (يخرُّون للأذقان سُجَّدا)، و (دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائما و (فلمّا أسلما وتَلّهُ للجبين) ومثله قول الشاعر:

تناوله بالرمح ثم ثنى له

فخرّ صريعًا لليدين وللفم

ص: 147

والموافقة "من" كقول جرير:

لنا الفضلُ في الدنيا وأنفُك راغمٌ

ونحن لكم يومَ القيامة أفضلُ

ومثله قول الآخر – أنشده ثعلب -:

فإنّ قرينَ السوء لستَ بواجد

له راحةً ما عشتَ حتى تفارقَهْ

أي لست بواجد منه راحة. ومثله:

إذا الحلمُ لم يغلبْ لك الجهلَ لم تزلْ

عليك بُروقٌ جَمّةٌ ورواعِدُ

ومن لامات الجر الزائدة، ولا تزاد إلا مع مفعول به بشرط أن يكون عامله متعديا إلى واحد، فإن كانت زيادتها لتقوية عامل ضعيف بالتأخر نحو (إن كنتم للرؤيا تعبرون) أو بكونه فرعا في العمل نحو (وإن ربك فعّال لما يريد) جاز القياس على ما سمع منها. وإن كانت بخلاف ذلك قصرت على السماع نحو (رَدِف لكم). ومنه قول الشاعر:

ومَن يكُ ذا عُودٍ صليبٍ رجابه

ليكسرَ عودَ الدهرِ فالدهرُ كاسِرُه

ص: وتساوي لام التعليل معنى وعملا "كي" مع أنْ وما أختها والاستفهامية.

ش: كي على ضربين مصدرية تذكر في إعراب الفعل، وجارة تساوي لام التعليل، ولا تدخل إلا على أنْ كقوله:

فقالتْ أكلَّ الناسِ أصْبَحْتَ مانِحا

لسانَك كيما أنْ تَغُر وتخدعا

ص: 148

أو على ما أختها كقوله:

إذا أنتَ لم تنفع فضُرَّ فإنما

يُرادُ الفتى كيما يضرُّ وينفعُ

أو على ما الاستفهامية، تقول سائلا عن العلة: كي مَ فعلت، وفي الوقف كيمه، كما تقول لمَ فعلت، ولمَهْ؟. وكل العرب يفتحون لام الجر الداخلة على مضمر إلا "خزاعة" فإنها تكسرها مع المضمر، كما تكسر مع غيره في اللغات كلها. وإذا وليها فعل كسرها أيضا كل العرب إلا "عُكلا" و"بني العنبر" فإنهم يفتحونها، وأنشدوا على ذلك:

وتأمرُني ربيعةُ كلَّ يومٍ

لَأهْلِكها وأقْتَني الدَّجاجا

الرواية فيه بفتح اللام.

ص: ومنها الباء للإلصاق، وللتعدية، وللسببية، وللتعليل، وللمصاحبة وللظرفية وللبدل وللمقابلة ولموافقة عن ومن التبعيضية. وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرها.

ش: باء الإلصاق هي الواقعة في نحو وصلت هذا بهذا، وباء التعدية هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به، كالتي في (ذهب الله بنورهم) و (لذهب بسمعهم وأبصارهم). وأما السببية فهي الداخلة على

ص: 149

صالح للاستغناء به عن فاعل معدّاها مجازا نحو (فأخرج به من الثَّمرات رزقًا) و (تُرهبون به عدوَّ الله وعَدُوَّكم). فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء من قوله تعالى (فأخرج به) وإسناد الإرهاب إلى الهاء من قوله تعالى (ترهبون به) فقيل أنزل ما أخرج من الثمرات رزقا، وما استطعتم يرهب عدو الله، لصحّ وحسُن، لكنه مجاز والآخر حقيقة. ومنه كتبت بالقلم وقطعت بالسكين، فإنه يصح أن يقال كتب القلم وقطع السكين.

والنحويون يعبرون عن هذه بالباء بباء الاستعانة. وآثرت على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز. وباء التعليل هي التي يحسن غالبا في موضعها اللام كقوله تعالى (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم) و (فبظُلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحِلّت) و (إنّ الملأ يأتمرون بك) وكقول الشاعر:

ولكنَّ الرَّزِيّةَ فَقْدُ قَرْم

يموتُ بموته بَشَرٌ كثيرُ

واحترزت بقولي "غالبا" من قول بعض العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حيّ، وغضبت به إذا غضبت من أجله وهو ميّت. وباء المصاحبة هي التي يحسن في موضعها "مع" وتغني عنها وعن مصحوبها الحال كقوله تعالى (قد جاءكم الرَّسولُ بالحقّ) أي مع الحق ومحِقًّا، وكقوله تعالى (اهْبِط بسلامٍ

ص: 150

منّا وبركاتٍ عليك) أي مع سلام ومسلّما. ومساواة هذه الباء "مع" قد يُعبر سيبويه عنه بالمفعول به.

وباء الظرفية هي التي يحسن في موضعها "في" نحو قوله تعالى (وما كنتَ بجانب الغربيّ) و (لقد نصركم اللهُ ببدر) و (إذ أنتم بالعُدوة الدنيا وهم بالعُدوة القُصْوى) و (إنك بالواد المُقدَّسِ طُوى) و (وما كنت بجانب الطُّور) و (ببطن مكّة) و (وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين * وبالليل)(إلا آل لوط نجّيناهم بسحر). وباء البدل هي التي يحسن في موضعها "بدل" كقول رافع بن خديج رضي الله عنه: "ما يسرُّني أنّي شهدت بدرا بالعقبة". ومثله قول الشاعر:

فليتَ لي بهمُ قوما إذا ركبوا

شنّوا الإغارةَ فُرسانًا ورُكْبانا

ومثله قول الآخر:

يَلْقى غريمتكم من غير عُسْرتكم

بالبَذْل بُخلا وبالإحسان حِرمانا

وباء المقابلة هي الداخلة على الأثمان والأعواض كقولك اشتريت الفرس بألف، وكافأت الإحسان بضعف، وقد تسمّى باء العوض. والموافقة "عن" كقوله

ص: 151

تعالى (ويومَ تَشَقَّق السماءُ بالغمام) و (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) أي عن أيمانهم. كذا قال الأخفش.

ومثله: (فاسألْ به خبيرًا). ومثله قول الشاعر:

هلّا سألتَ بنا فوارسَ وائلٍ

فلنحن أقربُها إلى أعدائها

والموافقة "على" كقوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يُؤدِّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يُؤدِّه إليك). أي على قنطار وعلى دينار. كذا قال الأخفش، وجعل مثله قولهم: مررت به، أي عليه، قال الله تعالى (وإذا مَرُّوا بهم يتغامزون) (يَمرُّون عليها) و (لَتَمُرُّون عليهم) وقال تعالى (هل آمنُكم عليه إلّا كما أمنتكم على أخيه من قبلُ). ومن موافقة الباء لعلى قول الشاعر:

أربٌّ يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالبُ

أراد يبول على رأسه. والموافقة "من" التبعيضية كالثانية في قول الشاعر:

فلثمتُ فاها آخذًا بقرونها

شُرْبَ النَّزيف ببَرْدِماءِ الحَشْرج

ص: 152

ذكر ذلك أبو علي الفارسي في التذكرة. وروي مثل ذلك عن الأصمعي في قول الآخر:

شرِبْنَ بماءِ البحر ثم تَرَفّعَتْ

متى لججٍ خُضْر لهنَّ نئيجُ

والأجود في هذا أن يضمن شربن معنى روين ويعامل معاملته، كما ضمن يحمى معنى يوقد فعومل معاملته في (يوم يُحْمى عليها في نار جهنّم)، لأن المستعمل أحميت الشيء في النار وأوقدت عليه.

وزيادة الباء مع الفاعل نحو: أحسِنْ بزيد، و (كفى بالله شهيدًا)

وحُبَّ بها مقتولة

وقوله:

ألم يأتيك والأنباءُ تنمي

بما لاقتْ لبون بني زياد

وقوله:

ألا هل أتاها والحوادثُ جمّةٌ

بأنّ امرأ القيسِ بن تَملُكَ بَيْقرا

وقوله:

أوْدى بنَعْليَّ وسِرْباليَهْ

وزيادتها مع المفعول نحو (ولا تُلْقوا بأيديكم إلى التّهلُكَةِ) و (هُزّي

ص: 153

إليك بجذْع النخلة). و (فليَمْدُدْ بسببٍ إلى السماءِ) و (ومَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ) و (تُنْبتُ بالدُّهْن) في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، و (يُذهب بالأبصار) في قراءة أبي جعفر. ومن الشواهد الشعرية قول الشاعر:

شهيدي سُويدٌ والفوارسُ حوله

وما ينبغي بعد ابن قيس بشاهد

ومثله:

فلمّا رجتْ بالشُّرْب هَزّ لها العصا

شحيحٌ له عند الإزاء نهيمُ

ومثله:

وكفى بنا فَضْلا على مَن غيرنا

حبُّ النبيِّ مُحمّدٍ إيّانا

أراد كفانا فضلا حب النبي إيّانا.

وكثرت زيادتها مع مفعول "عرف "وشبهه. وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين كقول حسان:

تبلتْ فؤادكَ في المنام خريدةٌ

تَسقي الضجيعَ بباردٍ بسّامِ

وأشرت بقولي "وفي غيرهما" إلى زيادتها في بحسبك، وفي المواضع المذكورة في باب كان.

ص: 154

ص: ومنها "في" للظرفية حقيقة ومجازا، وللمصاحبة، وللتعليل وللمقايسة، ولموافقة على والباء.

ش: في التي للظرفية الحقيقية نحو (واذكروا الله في أيّام معدوداتٍ) و (ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد). والتي للظرفية المجازية نحو (ولكم في القصاصِ حياةٌ) و (لقدْ كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسّائلين) وشواهد ذلك كثيرة لأنه الأصل.

والتي للمصاحبة نحو قوله تعالى (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النار)، أي ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم وتقدّم زمانُهم زمانَكم. كذا جاء في التفسير، وهو صحيح. ومثله (ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنّة) (وحقَّ عليهم القولُ في أممٍ قد خلت من قبلهم) و (فخرج على قومه في زينته). ومنه قول الشاعر:

كحْلاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في نَعَجٍ

كأنها فِضَّةٌ قد مسَّها ذَهبُ

ومثله:

شموسٌ رَدودٌ في حياء وعفَّة

رخيمةُ رَجْع الصَّوْت طيّبةُ النَّشْر

والتي للتعليل كقوله تعالى (لولا كتابٌ من الله سبق لمسَّكم فيما أخذتم

ص: 155

عذابٌ عظيمٌ) وكقوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدّنيا والآخرة لمسَّكم فيما أفضتم فيه عذابٌ عظيم) وكقوله تعالى: (فذلكنَّ الذي لُمتنّني فيه) وكقوله صلى الله عليه وسلم "عُذّبت امرأةٌ في هرة" ومنه قول الشاعر:

فليت رجالا فيكِ قد نذروا دمي

وهمّوا بقتلي يابثينَ لقُوني

ومثله:

لوى رأسَه عنِّي ومال بودِّه

أغانيجُ خَوْد كان فينا يَزورها

ومثله:

أفي قمليٍّ من كُلَييب هَجوته

أبو جهضم تغلي عليَّ مراجِلُهْ

ومثله:

بكرتْ باللَّوْم تلحانا

في بعير ضَلّ أو حانا

والتي للمقايسة هي الداخلة على تال يقصد تعظيمه وتحقير متلوّه كقوله تعالى (فما متاعُ الحياة الدُّنيا في الآخرة إلّا قليلٌ) وكقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنتم في سواكم إلا

ص: 156

كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود" وكقول الخضر لموسى عليه السلام "ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقارة من البحر" ومنه قول الشاعر:

فما جمعُكم في جمْعنا غيرُ ثعلب

هوى بين لحيَى أجرد العين ضيغم

ومثله:

كلُّ قتيلٍ في كُليب حُلّامْ

حتى ينال القتلُ آل همّامْ

والموافقة "على" كقوله تعالى (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) ومنه قول حسان رضي الله عنه:

بنو الأوْس الغطارف آزرتْها

بنو النّجارِ في الدِّين الصَّليب

ومثله:

بطل كأنَّ ثيابَه في سَرْحة

يُحْذى نعال السَّبْتِ ليس بتَوْءمِ

والموافقة الباء كقوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه) أي يكثركم به. كذا جاء في التفسير. ومثله قول الأفوه الأوديّ:

أعطَوا غُواتَهم جهلا مقادتهم

وكلُّهم في حبال الغَيِّ مُنْقادُ

ص: 157

ومثله قول زيد الخيل:

وتركبُ يومَ الرَّوْع فيها فوارسٌ

بصيرون في طعن الأباهر والكُلى

ومثله:

وخضخَضْن فينا البحرَ حتّى قطَعْنَه

على كلِّ حالٍ من غُمارٍ ومن وحلْ

ومثله:

وأرغبُ فيها عن لقيطٍ ورهطِه

ولكنني عن سِنْبس لستُ أرغبُ

أي وأرغب بها. وحكى يونس عن بعض العرب: ضربته في السيف، أي بالسيف.

ص: ومنها "عن" للمجاوزة، وللبدل وللاستعلاء وللتعليل، ولموافقة بد وفى. وتزاد هي وعلى والباء عوضا.

ش: استعمال عن للمجاوزة أكثر من استعمالها في غيرها، ولاقتضائه المجاوزة عُدّي بها صدّ وأعرض وأضربَ وانحرف وعدل ونهى ونأى ورحل واستغنى، وغفل وسها وسلا. ولذلك عدّي بها رغب ومال ونحوها إذا قصد ترك المتعلق به نحو رغبت عن اللهو وملت عن التواني. وقالوا رويت عن فلان، وأنبأتك عنه، لأن المروي والمنبأ به مجاوز لمن أخذ عنه، ولاشتراك عن ومن في معنى المجاوزة تعاقبا في تعدية بعض الأفعال نحو كسوته عن عُرْي ومن عري، وأطعمته عن جوع ومن جوع، ونزعت الشيء عنه ومنه، وتقبّل عنه ومنه، ومنع عنه ومنه. ومن هذا قراءة بعض القراء:(فويلٌ للقاسية قلوبهم عن ذكر الله)

ص: 158

فأوقع عن موقع من والمعنى واحد. والله أعلم.

واستعمالها للبدل كقوله تعالى (واتّقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا)

وكقول القائل: حجّ فلان عن أبيه، وقضى عنه دَيْنا.

وفي صحيح البخاري ومسلم أن رجلا قال يا رسول الله "إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم، فدين الله أحقُّ أنْ يُقْضى". ومنه قول الشاعر:

كيف تراني قالبا مِجنّي

قد قتل الله زيادا عنّي

أراد كان قتل الله زيادا بدل قتلي إياه. ومثله قول الآخر:

حاربتُ عنك عِدًى قد كنتَ تحذرهم

فنلت بي منهم أمنا بلا حَذَر

واستعمالها للاستعلاء كقول الشاعر:

لاه ابن عمكَ لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني

أراد لا أفضلت في حسب عليّ، أي لم يَعْلُ حسبُك عليٌ حَسَبي. ومن استعمال "عن" للاستعلاء قولهم: بخل عنك، والأصل: بخل عليك، لأن الذي يُسأل فيبخل يحمّل السائل ثقل الخيبة مضافا إلى ثقل الحاجة، ففي بخل معنى ثقُل، فكان حقيقا بأن يشاركه في التعدية بعلى. فإن عُدّي بعن كان معناها معنى على، وأيضا فإنّ شحّ وضنّ بمعنى بخل، وتعديتهما في الغالب بعلى لا بعن، فكانت

ص: 159

بخل أحق بذلك؛ إلا أن بخل أكثر استعمالا فعدّيت بعن نيابة عن على، لأنها أخف منها، ولصلاحية عن للاستعلاء عدي بها رضي، والأصل تعديته بعلى، لأن فاعله مقبل على المعلق به ومُثن عليه. ولأن في رضيت عنه معنى رضيته وزدت على رضاه، والزيادة استعلاء فجيء بعَنْ دالة عليه، وكانت على أحق منها، لكنهم قصدوا مخالفة غضب وسخط فعدّوا رضي بعن لصلاحيتها للاستعلاء كما تقرر. وقد نبه على الأصل المتروك مَن قال:

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعَمْر أبيك أعجبني رضاها

واستعمال عن للاستعانة كقول العرب: رميت عن القوس، كما يقولون رميت بالقوس، فعن هنا كالباء في إفادة الاستعانة. وحكى الفراء عن العرب: رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس وأنشد:

أرمي عليها وفي فرع أجمعُ

وهي ثلاث أذرُع وإصْبَعُ

واستعمال "عن" للتعليل كقوله تعالى (وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه) وقوله تعالى (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) ومنه قول ضابئ البُرجميّ:

وما عاجلاتُ الطير تُدني من الفتى

نجاحًا ولا عن وَلْيهنّ مخيّبُ

واستعمال عن موافقة لبعد كقوله تعالى (لتركبُنّ طبقا عن طبق) أي حالا

ص: 160

بعد حال. ومنه قول الشاعر:

قرّبا مَرْبط النَّعامةِ مِنّي

لقِحتْ حربُ وائلٍ عن حيالِ

ومثله:

لئن مُنيتَ بنا عن غب معركة

لا تُلْفِنا عن دماءِ القوم نَنْتَفلُ

واستعمالها موافقة لفي كقول الشاعر:

وآس سراةَ الحيّ حيثُ لقِيتَهم

ولا تكُ عن حَمْل الرّباعة وانيا

أي في حمل الرباعة وانيا. وجعلت هنا الأصل "في" كقوله تعالى (ولاتَنِيا في ذكري) وأشرت بقولي "وتزاد هي وعلى والباء عوضا" إلى قول الشاعر:

أتجزع إنْ نفسٌ أتاها حمامُها

فهلّا التي عن بين جنبيك تدفع

وإلى قول الراجز:

إنّ الكريم وأبيك يعتملْ

إن ليم يجدْ يومًا على من يتّكلْ

وإلى قول الشاعر:

ولا يُؤاتيك فيما ناب من حدث

إلا أخو ثقةٍ، فانظر بمن تثقُ

قال أبو الفتح بن جني في البيت الأول: أراد فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن وزادها بعد التي عوضا. وقال في الرجز: أراد إن لم يجد من يتكل عليه [فحذف عليه]، وزاد على قبل من عوضا.

ص: 161

وقلت أنا: أراد قائل الثالث فانظر من تثق به، فحذف "به" وزاد الباء قبل مَن عوضا. ويجوز عندي أن تعامل بهذه المعاملة: من واللام وإلى وفي، قياسا على عن وعلى والباء، فيقال عرفت ممن عجبت، ولمن قلت له وإلى من أويت، وفيمن رغبت (والأصل عرفت من عجبت منه ومن قلت له ومن أويت إليه ومن رغبت فيه) فحذف ما بعد من وزيد ما قبلها عوضا".

ص: ومنها على للاستعلاء حسّا أو معنى، وللمصاحبة وللمجاوزة وللتعليل وللظرفية، ولموافقة من والباء. وقد تزاد دون تعويض.

ش: استعمال على للاستعلاء حسا كقوله تعالى: (كلُّ مَن عليها فانٍ)(وعليها وعلى الفُلْك تُحْمَلون) واستعمالها للاستعلاء معنى نحو (تلك الرُسلُ فضّلنا بعضهم على بعض)(ولهنّ مثلُ الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجةٌ). ومن هذا النوع مقابلة اللام المفهمة ما يُحَبّ، كقول الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا

ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرّْ

ومثله قول الآخر:

عليك لالكَ مَن يلحاك في كَرَم

مُخَوّفًا ضررَ الإملاقِ والعَدَم

ومثله:

لك لا عليكَ من استعنتَ فلم يُعِنْ

إلّا على ماليسَ فيه ملامُ

ومن هذا النوع وقوع على بعد وجب وشبهه، لأن وجب عليك مقابل لوجب

ص: 162

لك، وكذا وقوعها بعد كذب وشبهه. ومن الاستعلاء المعنوي وقوعها بعد كبر وضعف وعسر وعظم مما فيه معنى ثقُل، وكذلك ما دل على معنى تمكن نحو (أولئك على هُدًى من ربّهم)"وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت". واستعمالها للمصاحبة نحو (وآتى المال على حُبّه ذوي القُربى)(وإنّ ربَّكَ لذو مغفرة للناسِ على ظُلْمهم) و (الحمدُ لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) و (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) و (أوَ عجبتم أن جاءكم ذكرٌ من ربّكم على رجل منكم). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين استأذن عمر رضي الله عنه "إيذن له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبه" أي مع بلوى تصيبه.

واستعماله للمجاوزة كوقوعها بعد بعُد وخفي وتعذّر واستحال وحرم وغضب وأشباهها. ولمشاركتها "عن" في المجاوزة تعاقبها في بعض المواضع نحو رضي عنه ورضي عليه، وأبطأ عنه وعليه، وأحال عنه وعليه، إذا عدل عنه، وولّى بودّه عنه وعليه قال الشاعر:

وإنْ بشرٌ يومًا أحال بوجهه

عليك فحُل عنه وإنْ كان دانيا

وقال آخر:

ص: 163

إذا ما امرؤ ولَّى عليَّ بوُدّه

وأدبر لم يَصْدُرْ بإدباره وُدّي

واستعماله للتعليل كقوله تعالى (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم) وكقوله تعالى (ولتكملوا العِدَّة ولتُكبِّروا اللهَ على ما هداكم) ومنه قول الشاعر:

على مؤثرات المجد تُحمد فاقْفُها

ودعْ ما عليه ذمّ من كان قد ذمّا

ومنه قول الآخر:

علام تقولُ الرمحُ يُثْقل عاتقي

إذا أنا لم أطْعُنْ إذا الخيلُ كَرَّت

ومثله قول ضُريب بن أسد القيسي:

علامَ قلت نعم؟ حتى إذا وجبت

ألحقْتَ "لا" بنعم، ما هكذا الجودُ

واستعمالها للظرفية كقوله تعالى (واتبعوا ما تتلو الشياطينُ على مُلْكِ سُليمان)، وكقوله تعالى (ودخل المدينةَ على حين غفلة من أهلها). ومنه قول الشاعر:

يمرّون بالدهنا خفافا عيابهم

ويخرجن من "دارين" بُجْر الحقائب

على حين ألهى الناس جلُ أمورهم

فندلا زريق المال ندْل الثعالب

واستعمالها موافقة لمِنْ كقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون * إلّا على أزواجهم) وكقوله تعالى (الذين إذا اكتالوا على الناسِ يستوفون)

ص: 164

المعنى من أزواجهم، ومن النّاس. واستعمالها موافقة للباء كقوله تعالى (حقيقٌ علي أن لا أقول على الله إلّا الحقّ) أي بألّا أقول. وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله [عنه](حقيقٌ بألّا أقول) فكانت قراءته مفسّرة لقراءة الجماعة.

وقد جاءت على زائدة دون تعويض في قول حميد بن ثور:

أبى اللهُ إلّا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ

على كُلِ أفنانِ العِضاهِ تَروقُ

فزاد "على" لأن تروق متعد مثل أعجب، لأنهما بمعنى واحد، يقال راقني حُسن الجارية وأعجبني عقلها. وفي الحديث "مَن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فلْيُكفّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" والأصل من حلف يمينا، كما قال النابغة:

حلفْتُ يمينا غير ذي مَثْنَوِيَّة

فعلى زائدة، وقيل بمعنى الباء. ويلزم من كونها بمعنى الباء أن تكون زائدة، لأن الباء زائدة في قولك حلفت بيمين، لأن حلفت يتعدى إلى اليمين كتعدية آلى: حلف، لأنه بمعناه والله أعلم.

ص: 165

ص: ومنها "حتّى" لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده. ومجرورها إمّا بعض لما قبلها من مفهم جمع إفهاما صريحا أو غير صريح، وإمّا كبعض، ولا يكون ضميرا، ولا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقى آخر جزء خلافا لمن زعم ذلك. ويختص تالي الصريح المنتهي به بقصد زيادة ما، ويجوز عطفه واستئنافه. وإبدال حائها عينا لغة هذلية.

ش: حتى على أربعة أقسام: عاطفة، وحرف ابتداء، وبمعنى كي، وجارة. فللثلاثة الأُوَل مواضع تجيء إن شاء الله تعالى.

والجارة مجرورها إما اسم صريح نحو (ليسجُنُنَّه حتّى حين) و (سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)، وإما مصدر مؤوّل من أنْ لازمة الإضمار. وفعل ماض نحو (حتّى عَفَوا وقالوا) أو مضارع نحو (حتّى يتبيّن لكم). وجرّها المصدر المؤوّل يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في إعراب الفعل وعوامله. وأمّا جرها الاسم الصريح فهي فيه على ضربين: أحدهما أن يكون ما بعدها جزءا لما قبلها من دليل جمع مصرح بذكره نحو ضربت القوم حتى زيد، فزيد جزء ما قبله، وما قبله دليل جمع مصرح بذكره وهو مضروب انتهى الضرب به. ويجوز أن يكون غير مضروب لكن انتهى الضرب عنده. وإذا كان الانتهاء به ففي ذكر القوم غنى عن ذكره، لكن قصد التنبيه على أن فيه زيادة ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير. وإلى هذا أشرت بقولي "ويختص تالي الصريح المنتهى به بقصد زيادة ما". وعنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، يدخل في ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على الجمعية بغير لفظ موضوع لها كقوله تعالى (ليَسْجُنُنَّه حتى حين) فإن مجرور حتى فيه منتهى الأحيان مفهومة غير مصرح بذكرها. ويجوز كون تالي المصرح منتهى عنده، لا به، كما يجوز مع "إلى"

ص: 166

فإنهما سواء في صلاحية الاسم المجرور بهما للانتهاء به وللانتهاء عنده. أشار إلى ذلك سيبويه والفراء وأبو العباس أحمد بن يحيى. وقال أحمد بن يحيى: "قوله تعالى (إلى المرافق) مثل حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج؛ تقول: ضربت القوم حتى زيد. فيكون زيد مضروبا، وغير مضروب، فيؤخذ هنا بالأوثق" يريد أن كون المرافق مدخلة في الغسل هو المعمول به، لأنه أحوط الحكمين. ومن شواهد استواء حتى وإلى قوله تعالى (فمتّعناهم إلى حين) قرأ عبد الله (فمتّعناهم حتّى حينٍ). ومن شواهد خروج ما بعد حتى مع صلاحيته للدخول قول الشاعر:

سقى الحيا الأرضَ حتّى أمْكُن عُزيتْ

لهم فلا زال عنها الخيرُ مجدودا

ولا يعتبر في تالي غير الصريح إفهام الزيادة التي أشرت إليها.

ومما يختص به تالي الصريح جواز عطفه على ما قبله نحو ضربت القوم حتى زيدا، وجواز استئنافه نحو ضربتهم حتى زيدٌ، فزيد مبتدأ محذوف الخبر. ويروى بالأوجه الثلاثة قول الشاعر:

عمَمْتهم بالندى حتّى غواتهم

فكنت مالكَ ذي غيٍّ وذي رَشَد

ويروى بالثلاثة الأوجه أيضا قول الآخر:

ألقى الصحيفة كيْ يُخفّف رَحْلَه

والزادَ حتّى نعله ألقاها

وإلى هذا أشرت بقولي: وإما كبعض، لأن "النعل" ليست بعضا للصحيفة

ص: 167

والزاد، لكنها كبعض باعتبار أن إلقاء الصحيفة والزاد وإنما كان ليخلوَ من ثقل وتشاغل، والنعل مما يثقل ويشغل، فجاز عطفها لذلك، لأنه بمنزلة من يقول ألقى ما يثقله حتى نعله.

وإذا لم يصلح أن يُنسب لمجرورها ما نسب لما قبلها فالانتهاء عنده لابه نحو: صمت ما بعد يوم الفطر حتى يوم الأضحى، وسريت البارحة حتى الصباح، فانتهى الصوم عند يوم الأضحى لابه، لأنه لا يصح أن يُنسب إليه. وانتهى السُّرى عند الصباح لابه، لأنه لا يصح أن ينسب إليه. فالجر متعيّن، والعطف والاستئناف ممتنعان.

ومجرورها أبدا عند سيبويه ظاهر لا مضمر. وأجاز غيره أن تجرّ المضمر، فيقال حتّاه وحتّاك. قال أبو بكر بن السراج: والقول عندي ما قال سيبويه، لأنه غير معروف اتصال حتى بالضمير، وهو في القياس غير ممتنع.

والتزم الزمخشري كون مجرورها آخر جزء أو ملاقى آخر جزء، وهو غير لازم. ومن دلائل ذلك قول الشاعر:

إنَّ سلمى من بعد يأسِيَ هَمَّتْ

لوصالٍ لو صَحَّ لم يُبْقَ بُوسًا

عيّنتْ ليلةً فما زلتُ حتّى

نِصْفِها راجيًا، فعُدْتُ يئوسا

وفي قراءة ابن مسعود (ليسْجُننَّه عتّى حين)، وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقرأ (عتّى حين) فقال من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه:

ص: 168

"إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام".

ص: ومنها "الكاف" للتشبيه، ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل، وعلى أنت وإيّاك وأخواتها أقلّ. وقد توافق "على". وقد تزاد إن أُمن اللبس. وتكون اسما فتجُرّ ويسند إليها، وإن وقعت صلة فالحرفية راجحة. وتزاد بعدها "ما" كافة وغير كافة، وكذا بعد رُبّ والباء. وتُحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل. وقد تحدث في الكاف معنى التعليل. وربما نصبت حينئذ مضارعا، لا لأن الأصل كيما، وإن ولي رُبّما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبره، لا خبر مبتدأ محذوف، وما نكرة موصوفة بهما خلافا لأبي علي في المسألتين. وتزاد "ما" غير كافة بعد "مِن وعن".

ش: الكاف من الحروف التي تجر الظاهر وحده كحتّى، فكما استغنى في الغاية مع المضمر بإلى عن حتى، استغنى في التشبيه مع المضمر بمثْل عن الكاف. إلا أن الكاف خالفت أصلها في بعض الكلام لخخفّتها، فجرّت ضمير الغائب المتصل كقول الشنفري:

لئنْ كان من جنّ لأبْرَحَ طارِقا

وإنْ كان إنسانًا ما "كها" الإنسُ يفعلُ

أي ما مثلها الإنس يفعل. ومثله قول الراجز في وصف حمار وَحْش وأُتُن:

ولا أرى بعلا ولا حَلائِلا

كهُ ولا كهُنَّ إلّا حاظِلا

وقد خولف بها الأصل أيضا فأدخلت على ضمير الرفع وضمير النصب المنفصلين، فقالوا: أنا كأنت، وأنت كأنا، وأنا كإياك، قال الشاعر:

قلتُ إنّي كأنتَ ثمَّتَ لمّا

شُبّت الحربُ خُضْتُها وكَعَعْتا

ص: 169

وأنشد الكسائي:

فأحْسِنْ وأجْملْ في أسيركَ إنّه

ضعيفٌ ولم يَأسرْ كإيّاكَ آسِرُ

وقد تجيء بمعنى على كقول بعض العرب: كخير. في جواب من قال: كيف أصبحت؟، حكاه الفراء. وقد تزاد إن أمن اللبس بكون الموضع غير صالح للتشبيه كقوله تعالى (ليسَ كمثلِه شيءٌ) فلا بُدّ من عدم الاعتداد بالكاف، لأن الاعتداد بها يستلزم ثبوت شيء لا شيء مثله، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال، وكالزيادة في كمثله الزيادة في (وحورٌ عينٌ كأمثالِ اللؤْلُؤ المكنون) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى الروايتين:"يكفي كالوجه واليدين" يريد يكفي الوجه واليدان، وهي الرواية الأخرى. ومنه قول الراجز:

لواحقُ الأقْرابِ فيها كالمَقَقْ

يريد: فيها المقق، أي الطول. وقال الفراء: قيل لبعض العرب: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهيّن. يريد هيّنا فزاد الكاف.

وتكون اسما فتُجرّ بحرف كقول الشاعر:

بكا للقوة الشَّغْواء جُلْتُ فلم أكنْ

لأولعَ إلّا بالكميّ المقنّعِ

وبإضافة كقوله:

تيَّمَ القلبَ حبُّ كالبدرِ، لا بل

فاق حُسْنا مَنْ تَيَّم القلبَ حُبّا

ص: 170

وتقع فاعلة كقول الشاعر:

وما هداك إلى أرض كعالمها

ولا أعانك في غُرْمٍ كغرّام

واسم كان كقول الآخر:

لو كان في قلبي كقدْر قُلامة

فَضْلا لغيرك ما أتَتْك رسائلي

ومبتدأ كقول الآخر:

بنا كالجوى مما يُخاف وقد نرى

شفاءَ القلوب الصادياتِ الحوائم

وإن وقعت صلة فحرفيتها أولى من اسميّتها كقول الراجز:

ما يُرْتجى وما يُخاف جَمعا

فهو الذي كالغَيْثِ واللَّيْثِ معا

وتزاد بعدها "ما" كافة كقول زياد الأعجم:

لعمْري إنّني وأبا حُميد

كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ

أريد هجاءَه وأخافُ ربّي

وأعلمُ أنّه عبدٌ لئيمُ

وغير كافة كقول الآخر، أنشده أبو علي القالي:

وننْصر مولانا ونعلمُ أنّه

كما الناسِ مجرومٌ عليه وجارِمُ

قال سيبويه عن قولهم: هذا حق كما أنت ههنا، فزعم أن العامل في أنت الكاف

ص: 171

وما لغو، إلا أنها لا تحذف كراهية أن يجيء لفظها لفظ كأنّ.

وتزاد "ما" أيضا بعد رُبّ كافة، كقول أبي دؤاد:

رُبما الجاملُ المُؤَبَّلُ فيهم

وعَناجيجُ بينهُنّ المِهار

وغير كافة كقول الآخر:

ماويَّ يارُبتما غارةٍ

شعواء كالّلذْعَة بالميسمِ

وكذلك تزاد بعد الباء كافة كقول الشاعر:

فلئن صرتَ لا تُحيرُ جوابا

لبما قد تُرى وأنت خطيبُ

وغير كافة كقوله تعالى (بما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم).

وتحدث "ما" الكافة في الباء معنى رُبّما، فمعنى قد ترى وأنت خطيب: لربما قد ترى. ومثله قول كثير:

مغانٍ تُهيجنَ الحليمَ إلى الهوى

وهُنَّ قديماتُ العُهودِ دواثرُ

بما قد أرى تلك الديارَ وأهلها

وهُنّ جميعاتُ الأنيسِ عوامرُ

أراد: وربما قد أرى. وقد مع المضارع تفيد هذا المعنى. ولكن اجتمعتا توكيدا كما

ص: 172

اجتمعت عن والباء التي بمعناها في قول الشاعر:

فأصْبحنَ لا يسألنّه عنْ بما به

أصَعَّدَ في عُلْوِ الهوى أم تصَوّبا

وتحدث "ما" الكافة في الكاف معنى التعليل كقوله تعالى (واذكروه كما هداكم) وكقول الأخفش في قوله تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويُزَكِّيكم ويُعلّمكم الكتابَ والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم)[أي] كما أرسلنا فيكم رسولا فاذكروني "أي كما فعلت هذا فاذكروني".

وجعل ابن برهان من هذا قوله تعالى (ويْكأنّه لا يُفْلح الكافرون)، أي أعجب لأنه لا يفلح الكافرون. وكذا قدّره ثم قال: وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، أي لأنه لا يعلم. وإذا حدث فيها معنى التعليل ووليها مضارع نصبته لشبهها بكي كقول الشاعر:

فطَرْفَك إمّا جئتنا فاصْرفنّه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيثُ تَنْظرُ

وزعم الفارسي أن الأصل كيما وحذفت الياء، وهذا تكلف لا دليل عليه ولا

ص: 173

حاجة إليه. وكذلك أيضا زعم في قول الشاعر:

ربما الجامل المؤبل فيهم

وعناجيج بينهن المهار

أن "ما" فيها نكرة موصوفة بمبتدأ مضمر وخبر مظهر. والصحيح أن "ما" فيه زائدة كافة هيّأت رُبّ للدخول على الجملة الاسمية، كما هيأتها للدخول على الجملة الفعلية في قوله تعالى (رُبما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين). وفي قول الشاعر:

لا يُضيعُ الأمينُ سرّا ولكن

رُبّما يُحْسَبُ الخئونُ أمينا

وتزاد "ما" بعد "من وعن" غير كافة كقوله تعالى (مِمّا خطيئاتِهم أُغْرِقوا) و (عمّا قليلٍ ليُصْبحُنَّ نادمين).

ص: ومنها "مذ ومنذ، وقد ذُكرا في باب الظروف. ومنها "رُبّ" ويقال رُبَّ ورُبُ ورُبْ، ورَبّتْ ورُبّتْ ورَبَّ ورَبْ، ورَبّتْ. وليست اسما خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه. بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه، والتقليل بها نادر. ولا يلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد ومن وافقه. ولا مضى ما يتعلق بها، بل يلزم تصديرها وتنكير مجرورها وشبهه. وقد يعطف على مجرورها وشبهه بمضاف إلى ضميريهما. وقد تجرّ ضميرا لازما تفسيره بمتأخر منصوب على التمييز مطابق للمعنى. ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة.

ص: 174

ش: قد بيّنت في باب المفعول فيه أن من جملة أسماء الزمان المبنيّة مُذْ ومنذُ إذا وليهما مرفوع أو جملة، وأنهما يكونان حرفي جر، واستوفيت القول بما أغنى عن مزيد فليعلم ذلك.

ومن حروف الجر "رُبَّ" وفيها عشر لغات: أربع بتشديد الباء، وست بتخفيفها وقد ذكرت. وهي حرف عند البصريين، واسم عند الكوفيين والأخفش في أحد قوليه. وحرفيتها أصح لخلوها من علامات الأسماء اللفظية والمعنوية، ومساواتها الحرف في الدلالة على معنى في مسمى غير مفهوم جنسه بلفظها، بخلاف أسماء الاستفهام والشرط فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم بلفظها. ومقتضى هذا التقدير أن تكون "كَمْ" حرفا، لكن اسميتها ثابتة بالعلامات اللفظية وهي الإضافة إليها ودخول حرف الجر عليها والابتداء بها، وإيقاع الأفعال عليها وعود الضمير إليها.

واستدل الكوفيون على اسميتها بقول الشاعر:

إنْ يقتلوكَ فإنّ قتلك لم يكنْ

عارًا عليك، ورُبَّ قَتْلٍ عارُ

فزعموا أن "رُبّ" مبتدأ و"عار" خبر، والصحيح أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لقتل والتقدير: رُبّ قتل هو عار. وأكثر النحويين يقولون معنى رُبّ التقليل. قال أبو العباس: "رب تنبئ عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بالكثير، فلذلك لا تقع إلا على نكرة، لأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز". وقال ابن السراج: "النحويون كالمجمعين على أن رُبّ جواب لما، تقول: رب رجل

ص: 175

عالم؛ لمن قال لك: ما رأيت رجلا عالما، أو قدرت أنه يقول. فضارعت حرف النفي إذا كان بنية الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة". وقال ابن السراج أيضا:"رب حرف جر، وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصّلا له إلى المجرور كأخواته، لكن لمّا كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة صار مقابلا لكم إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام، كما جعل لكم".

وقال الزمخشري في المفصّل: "رُبّ للتقليل". وجعلها في الكشاف للتكثير ..

قلت: والصحيح أن معنى رب التكثير، ولذا يصلح "كم" في كل موضع وقعت فيه غير نادر، كقول الشاعر:

رُبّ من أنضجتُ غيظًا قلْبَه

يتمنّى ليَ مَوْتا لم يُطعْ

وكقول الآخر:

رب رَفْدٍ هرقتهُ ذلك اليو

مَ وأسْرى من معشَر أقْتالِ

وكقول الآخر:

ص: 176

ربما تكره النفوسُ من الأمـ

ـر له فرجةٌ كحلّ العقالِ

وكقول حسان:

رُبَّ حِلْم أضاعَه عدمُ الما

لِ، وجهل غَطَّى عليه النعيمُ

وكقول الآخر:

ورُبَّ امرئٍ ناقص عقلُه

وقد يعجَبُ الناسُ من شخصه

وآخر تحسَبه أحمقا

ويأتيكَ بالأمرِ من فَصّه

وكقول ضائي البرجمي:

ورُبَّ أمور لا تضيرُك ضيْرةً

وللقلب من مخْشاتِهنَّ وجيبُ

وكقول عدي بن زيد:

رُبَّ مأمولٍ وراجٍ أملا

قد ثناه الدهرُ عن ذاك الأمَلْ

وهذا الذي أشرت إليه من أن معنى "رب" التكثير هو مذهب سيبويه رحمه الله. وقال ابن خروف: وذكر سيبويه في باب "كم" أن رب للتكثير، وذكر ذلك غيره من اللغويين، واستعمالها على ذلك موجود كثير. قلت: فمن كلامه الدال على ذلك قوله في باب "كم" اعلم أن لكم موضعين: أحدهما الاستفهام، والآخر

ص: 177

الخبر، ومعناهما معنى رُبّ" ثم قال بعد ذلك في الباب:"واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد، إلا أن كم اسم ورب غير اسم" هذا نصه. ولا معارض له في كتابه. فعلم أن مذهبه كون رب مساوية لكم الخبرية في المعنى، ولا خلاف أن معنى كم الخبرية التكثير. والذي دل عليه كلام سيبويه من أن معنى رب التكثير هو الواقع في غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه. فمن النظم الأبيات التي قدمت ذكرها. ومن النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يارُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُب أشعث لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبَرَّ قسمه". ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر: رب صائمه لن يصومه، وقائمه لن يقومه. وقال الفراء: يقول القائل إذا أمَر فعُصي: أما والله رُب ندامة لك تذكر قولي فيها. وقولي "والتقليل بها نادر" أشرت به إلى قول الشاعر:

ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ له أبٌ

وذي وَلَدِ لم يلدهُ أبوانِ

يريد آدم وعيسى عليهما السلام.

ومثله قول عمرو بن الشريد أخي الخنساء:

وذي إخوةٍ قطّعتُ أقْران بينهم

كما تركوني واحدًا لا أخَاليا

ومثله:

ويومٍ على البلقاء لم يكُ مثلَه

على الأرضِ يومٌ في بعيدٍ ولادان

ص: 178

أراد بذي إخوة دريد بن حرملة قاتل أخيه معاوية بن الشريد، وأراد الآخر يوما كان فيه وقعة بين غَسّان ومذحج، في موضع يُعرف بالبلقاء. وقول المبرد رب ينبئ عما وقعت عليه أنه قد كان، هذا هو الأكثر. وأما كون ذلك لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح. بل قد يكون مستقبلا، كقول جَحْدر اللص:

فإنْ أهلك فرُبَّ فتًى سيبكي

عليّ مهذَب رَخْص البنانِ

وكقول هند أم معاوية رضي الله عنها:

يارب قائلةٍ غدًا

يالهفَ أمِّ معاويَهْ

وكقول سليم القشيري:

ومُعْتصم بالحيّ من خشيةِ الرَّدى

سيردى وغازٍ مُشْفق سَيَئوبُ

ومثله:

يارُبَّ يومٍ لي لا أُظَلّله

أرْمَضُ من تحتُ، وأضحى من عَلُه

ومثله:

يا رُبَّ غابِطنا لو كان يطلبكم

لاقى مُباعدةً منكم وحِرمانا

ولا مبالاة بقول المبرد، ولا بقول ابن السراج، فإنهما لم يستندا في ذلك إلا إلى مجرّد الدعوى، ولو لم يكن غير ما ادّعياه مسموعا، لكان مساويا لما ادّعياه في إمكان الأخذ به، فكيف وهو ثابت بالنقل الصحيح في الكلام الفصيح.

وقد يكون ما وقعت عليه رُبّ حالا كقولك لمن قال: ما في وقتنا امرؤ مستريح:

ص: 179

رب امرئ في وقتنا مستريح. ومنه قول ابن أبي ربيعة:

فقمت ولم تُعْلمْ عليّ خيانةٌ

ألا رُبَّ باغي الربْحِ ليس برابح

ومثله:

ألا رُبّ مَن تغْتَشُّه لك ناصحٌ

ومُؤْتمنٍ بالغيْب غيرُ أمين

وقد هُدي الزمخشري إلى الحق في معنى رب فقال في تفسير (قد نرى تقلّب وجهك) قد نرى: ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية. وقال قد في (قد نعلم إنه ليحزنك) بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته. وقال في (قد يعلم ما أنتم عليه) أدخل قد لتوكيد علمه بما هم عليه، وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير نحو قوله:

فإنْ تمس مهْجور الفناءِ فرُبَّما

أقام به بعد الوُفُود وُفُود

وكلامه في هذا سديد أداه إليه ترك التقليد. وقال في (رُبما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين): "فإن قلت: فما معنى التقليل ههنا؟ قلت هو وارد على

ص: 180

مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما يندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحقّ عليك ألا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من الغم المتيقن، ومن القليل منه كما يتحرز من الكثير. وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لكانوا حقيقين بالمسارعة إليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة".

قلت: في هذا الكلام ما يناقض كلامه في "قد نرى" و"قد نعلم" و"قد يعلم" من دلالة رُبّما على التكثير، لأنه نسب إليها ههنا التقليل، وتكلف في تخريجه مالا حاجة إليه، ولا دلالة عليه. ثم اعترف بقول العرب: ربما يندم الإنسان على ما فعل، وأنهم لا يقصدون تقليله فهو حجة عليه وعلى من وافقه في هذا التأويل. قلد ابن السراج فإنه قال: قالوا في قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) بأنه لصدق الوعد كأنه قد كان، كما قال الله تعالى (ولو ترى إذْ فزِعوا فلا فوتَ) والصحيح عندي أن "إذ" يراد بها الاستقبال كما قد يراد بها المضي، فمن ذلك قوله تعالى (فسوف يعلمون * إذ الأغلالُ في أعناقهم) وقوله تعالى (يومئذ تُحدّثُ أخبارها) فأبدل يومئذ من "إذا" فلو لم تكن "إذ" صالحة للاستقبال ما أبدل يوم المضاف إليها من "إذا" فإنها لا يراد بها إلا الاستقبال.

والمبرد وابن السراج والفارسي يرون وجوب وصف المجرور برُب، وقلّدهم في ذلك أكثر المتأخرين مع أنه خلاف مذهب سيبويه، ولا حجة لهم إلا شبهتان: إحداهما أن رب للتقليل، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الخالي منه فلزم الوصف لذلك. والشبهة الثانية أن قول القائل: رب رجل عالم لقيت، ردّ على من قال: ما لقيت رجلا عالما، فلو لم يذكر الصفة لم

ص: 181

يكن الرد موافقا. وفي كلتا الشبهتين ضعف بَيّن.

أما ضعف الأولى فلترتبها على أن رب للتقليل وقد سبق أنها للتكثير، وعلى تقدير أنها للتقليل فإن النكرة دون وصف صالحة أن يراد بها العموم فيكون فيها تكثير، وأن يراد بها غير العموم فيكون فيها تقليل. فإذا دخلت عليها رب على تقدير وضعها للتقليل أزالت احتمال التكثير، كما يزال احتمال التقليل بلا ومن الجنسيتين. فإن وصفت بعد دخول رب ازداد التقليل، فإن كان المطلوب زيادة التقليل لا مطلقة فينبغي ألا يقتصر على وصف واحد، لأن التقليل يزيد بزيادة الأوصاف.

وأما الشبهة الثانية فضعفها أيضا بَيّن، لأنها مرتبة على أن رب لا تكون إلا جوابا، وعلى أن الجواب يلزم أن يوافق المجاب، وكلا الأمرين غير لازم بالاستقراء. والصحيح أنها تكون جوابا وغير جواب، وإذا كانت جوابا فقد تكون جوابا موصوفا، وجوابا غير موصوف، فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب، فيقال لمن قال ما رأيت رجلا: رب رجل رأيت، ولمن قال ما رأيت رجلا عالما: رب رجل عالم رأيت. وإذا لم تكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها وألا يصفه. ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية:

ياربّ قائلةٍ غدًا

يالهفَ أمِّ معاويَهْ

ومثله:

ألا رُبَّ مأخوذٍ بإجْرامِ غيرِه

فلا تَسْأمنْ هِجْرانَ من كان مجرِما

ومثله:

ربّ مُسْتَغْنٍ ولامالَ له

وعظيم الفَقْر وهو ذو نَشَب

والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند سيبويه تسويته إياها بكم، ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم، فكذا وصف ما سُوِّي بها. ومن كلامه المتضمن

ص: 182

استغناء مجرورها قوله في باب الجر: "وإذا قلت رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب". فتصريحه بكون يقول مضافا إلى الرجل برب مانع كونه صفة، لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف. وإنما يضاف العامل إلى المعمول، فيقول إذن عامل في رجل بواسطة رب، كما كان مررت من مررت بزيد عاملا في زيد بواسطة الباء، كما كان أخذت من أخذته من عبد الله عاملا في عبد الله بواسطة من. وهما من أمثلة سيبويه في باب الجر، وقال فيهما: فإذا أضفت المرور إلى زيد بالباء. وقال أيضا فقد أضفت الأخذ إلى عبد الله بمن. فجعل نسبة مررت من بزيد، ونسبة أخذت من من عبد الله كنسبة يقول من رُبّ رجل. وفي تمثيله برب رجل يقول ذلك، وجعله يقول معدّى إلى رجل بواسطة رُب، دليل على أن مضمون ما دخلت عليه رُب يجوز استقباله ولا يلزم مضيه. وقد تقدمت شواهد ذلك.

إلا أن في هذا المثال إشكالا بيّنا، وذلك أن ظاهره يقتضي جواز أن يقال من زيد عجب، إذا عجب من نفيه وهو غير جائز بإجماع، لأن فيه إعمال فعل ضمير متصل في مفسره وذلك ممتنع دون خلاف. وقد أخذ أكثر الناس هذا المثال على ظاهره، فمنهم من خطأ فيه سيبويه ومنهم من صوّبه وتكلّف تأويله. وأحسنهم مأخذا في التأويل أبو الحسن بن خروف فإنه قال: يقول سيبويه فقد أضفت القول إلى الرجل برُب كلام حسن، وهو كقوله فقد أضفت الكينونة إلى الدار بفي، وكقوله فقد أضفت إليه الرداءة بفي: قوله أنت في الدار، وفيك خصلة سوء فرب أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم، كما أوصلت في الكينونة إلى الدار واستقرار الرداءة إلى المخاطب. وموضع المخفوض برب مبتدأ ويقول خبره، فكأنه على تقدير: كثير من الرجال يقول ذلك، ولا يخفى ما في هذا من التكلف.

وقد يُسرّ لي بحمد الله تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف، وذلك بأن يجعل "يقول" مضارع قال بمعنى فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور كأنه قال: رُبّ رجل يفوق ذلك الرجل في المقاولة. فبهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف ويثبت استغناء مجرور رب عن الوصف وكون ما دخلت عليه يلزم

ص: 183

مضيه، بل يجوز كونه مستقبلا وحالا. ومنع ابن السراج استقباله وأجاز حاليته فإنه قال:"ولا يجوز رب رجل سيقوم ولا يقومن غدا إلا أن تريد: رب رجل يوصف بهذا، تقول رب رجل مسيء اليوم محسن غدا، أي يوصف بهذا". والصحيح جوازهما وجواز المضيّ، إلا أنّ المضيّ أكثر. قال ابن خروف: والمتأخرون مختلفون في رب؛ منهم مَن تبع المبرد على مذهبه كابن السراج والفارسي، وهو فاسد، لأنه ألزم مخفوضة الصفة وحذف ما يتعلق به، وألا تدل إلا على التقليل. ولا يفتقر إلى الصفة كما زعموا، لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها، كما كان ذلك في "كم" ولذلك قلت كم غلام عندك، فابتدأت بنكرة، يعني أن ما دلت عليه "كم" من التكثير سوّغ الابتداء بها مع أنها نكرة.

ونبهت بقولي "وقد يعطف على مجرورها وشبهه بمضاف إلى ضميريهما" على أنه قد يقال رب رجل وأخيه رأيت، وكم ناقة وفصيلها ملكت، على تقدير: رب رجل وأخ له، وكم ناقة وفصيل لها. ثم نبهت على أن المجرور بها قد يكون ضميرا لازما تفسيره بمميّز مؤخر مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما، وأن الضمير على أشهر المذهبين لا يكون إلا بلفظ الإفراد والتذكير فيقال: ربه رجلا، وربه رجلين، وربه رجالا وربه امرأةً، ورُبّه نسوة. ومثال رُبّ رجلا قول الشاعر:

رُبَّ امرأ بك نال أمْنع عِزَّةٍ

وغِنًى بُعيدَ خصاصةٍ وهوان

ومثال ربه رجالا قوله:

رُبّه فتيةً دعوْت إلى ما

يُورِثُ المجدَ دائبًا فأجابوا

وحكى الكوفيون: ربهما رجلين، وربهم رجالا، وربها امرأة. وإلى هذا الوجه والذي قبله أشرت بقولي: "ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه

ص: 184

وتأنيثه أشهر من المطابقة".

فصل: ص: قد يلي – عند غير المبرد – لولا الامتناعية الضمير الموضوع للنصب والجر مجرور الموضع عند سيبويه، مرفوعه عند الأخفش والكوفيين.

ش: إذا ولي "لولا" الامتناعية مضمر فالمشهور كونه أحد المضمرات المرفوعة المنفصلة لأنه موضعُ ابتداء، قال الله تعالى:(لولا أنتم لكُنّا مؤمنين)، ومن العرب مَن يقول: لولاي ولولانا إلى لولاهنّ. وزعم المبرد أن ذلك لا يوجد في كلام مَن يحتج بكلامه. وما زعمه مردود برواية سيبويه والكوفيين، وأنشد سيبويه رحمه الله:

وكم مَوطنٍ لولايَ طِحتَ كما هوى

بأجْرامه من قُنّةؤ النيّق مُنهوي

وأنشد الفراء:

أتطمِعُ فينا مَن أراق دماءنا

ولولاكَ لم يعرضْ لأحْسابنا حَسَنْ

ومذهب سيبويه في ياء لولاي وكاف لولاك وشبههما أنهما في موضع جرّ بلولا، لأن الياء وأخواتها لا يعرف وقوعها إلا في موضع نصب أو جرّ، والنصب في لولاي ممتنع لأن الياء لا تنصب بغير اسم إلّا ومعها نون الوقاية وجوبا أو جوازا. ولا تخلو منها وجوبا إلا وهي مجرورة، وياء لولاي خالية منها وجوبا فامتنع كونها منصوبة وتعيّن كونها مجرورة. وفي ذلك – مع شذوذه – استبقاء حقّ للولا، وذلك أنها مختصة بالاسم غير مشابهة للفعل، ومقتضى ذلك أن يجر الاسم مطلقا، لكن منع من ذلك شبهها بما اختص بالفعل من أدوات الشرط من ربط جملة بجملة .. وأرادوا التنبيه على موجب العمل في الأصل، فجرّوا بها المضمر المشار إليه. ومذهب الأخفش أن الياء

ص: 185

وأخواتها في موضع رفع نيابة عن ضمائر الرفع المنفصلة. ونظير ذلك نيابة المرفوع في: ما أنا كأنت وشبهه.

ص: ويجرّ بلعلّ، وعلّ في لغة عقيل، وبمتى في لغة هذيل.

ش: روى أبو زيد عن بني عقيل الجر بلعل، وحكى الجر بها أيضا الفراء وغيره. وروى في لامها الأخيرة الفتح والكسر، وأنشد باللغتين قول الشاعر:

لعلَّ الله يمكنني عليها

جِهارًا من زُهَير أو أسِيد

وروى الفراء أيضا الجر بلعل وأنشد:

علّ صروف الدهر أوْ دُولاتِها

يُدللننا اللّمةَ مِنْ لمّاتِها

فتستريح النفسُ من زَفْراتِها

وأما متى فهي في لغة هذيل حرف جر. ومنه قول الشاعر:

شَرِبْنَ بماء البحر ثُمّ ترفَّعَتْ

متى لُجَجٍ خُضْرِ لهنَّ نئيج

ومن كلامهم: أخرجها متى كمّه، أي مِن كمه.

فصل: ص: في الجر بحرف محذوف.

يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيرا، وبعد الواو أكثر، وبعد بل قليلا، ومع التجرد أقل. وليس الجر بالفاء وبل باتفاق، ولا بالواو خلافا للمبرد ومَن وافقه. وتجر بغير رب أيضا محذوفا في جواب ما تضمن مثله، أو في معطوف على ما تضمنه بحرف متصل أو منفصل بلا أولو أو في، مقرون بعدما تضمنه بالهمزة أو هلّا أو إنْ أو الفاء الجزائيّتين. ويقاس على جميعها خلافا للفراء في جواب نحو: بمن مررت؟. وقد يجر بغير ما ذكر محذوفا، ولا يقاس منه إلا على ما ذكر في باب "كم" و"كان" و"لا" المشبهة بإنّ، وما يذكر في باب القسم. وقد يفصل في الضرورة بين حرف جر ومجرور بظرف أو جار ومجرور. وندر في النثر الفصل

ص: 186

بالقسم بين حرف الجر والمجرور، والمضاف والمضاف إليه.

ش: من الجر برب بعد الواو قول امرئ القيس:

وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله

عليَّ بأنواع الهموم ليَبْتلي

ومنه قول رجل من سعد مناة:

وخيفاءَ ألقى الليثُ فيها ذراعَه

فسَرَّتْ وساءتْ كل ماش ومُصْرِم

تمشّى بها الدَّرْماء تسْحب قُصْبها

كأنْ بطنُ حبلى ذاتِ أوْنَيْن متئم

ومثله:

وأشعثَ نفسه في مَسْك جَفْر

يُقسّم طرفَه بين النجوم

ملكتُ له سراه وقد تمطّتْ

متونُ الصُبْح في الليل البهيم

ومثله:

وأغبر ولّيتُ الحقائبَ شطرَه

وسائره في غاربٍ وجران

تبدت بحبّي النفس فيه كأنه

أخوظِنة تُرمى بها الرجوان

ومثله:

ومحمرة الأعطافِ مغبرَّة الحشا

خفافٍ رواياها بطاءٍ عمودُها

لقينا شذاها فانْسرتْ غمراتها

وغُودرَ فينا وشيها وبرودُها

ومثله:

ومختلفاتِ النَّجْر غُيْر قَفوتُها

وأمّاتُها شَتَّى من البيض والسُّمْر

فكنّ نجوما في الصباح هدينني

إلى مثل وقبِ العَيْن في مُرْتقى وعْر

ص: 187

ومثله:

ومناخِ نازلةٍ كفيتُ وفارسٍ

نهلتْ قناتي من مطاهُ وعَلّت

ومثله لعدي بن زيد:

وسائسِ أمرٍ لم يسُسْه أبٌ له

ورائم أسباب التي لم يُعَوَّد

وراجي أمورٍ جمة لنْ ينالَها

ستشعَبُه عنها شَعُوبُ بمَلْحَدِ

ومثله لذي الرمة:

ومنهلٍ آجنٍ قَفْر محاضِرُه

حُصْرٍ كواكبه ذي عِرْمض ليد

فرّجْت عن جوفه الظلماء تحملني

عُوج من العيد والأسْراب لم ترد

ومن الجر برب محذوفة بعد الفاء قول امرئ القيس:

فمثلك حُبْلى قد طرقتُ ومُرضِعا

فألْهَيْتُها عن ذي تمائم مُغْيل

ومثله:

فإما تعرِضنَّ أميْمَ عنّي

وتَنْزِعْك الوشاةُ أولو النياط

فحورٍ قد لهوت بهنّ عِين

نواعمَ في المروطِ وفي الرياط

ومثله قول ربيعة بن مقروم:

فإن أهلكْ فذي حَنَق لظاه

يكادُ عليّ يلتهب التهابا

ومثله قول بعض الطائيين:

ص: 188

إنْ يَثن سلمى بياضُ الفَوْد عن صلتي

فذاتَ حُسْنٍ سواها دائما أصلُ

ومن الجر برب محذوفة بعد "بل" قول الراجز:

بل بلدٍ ملء الفجاج قتمُه

لا يُشترى كتّانه وجَهْرَمُهْ

وقول الآخر:

بل جَوْزِ تَيْهاءَ بظَهْر الجحفَتْ

ومثال الجر بها محذوفة دون واحد من الثلاثة قول الشاعر:

رسمِ دار وقفتُ في طَلَلِهْ

كدتُ أقضي الغداة من جللهْ

ولا خلاف في أن الجر في فذي حنق، وبل بلد، ورسم دار وأشباهها برب المحذوفة. وزعم المبرد أن الجر بعد الواو نفسها، ولا يصح ذلك، لأن الواو أسوة الفاء وبل في إضمار رب بعدهما، ولأنها عاطفة لما بعدها من الكلام على ما قبلها، والعاطف ليس بعامل، ولا يمنع كونها عاطفة افتتاح بعض الأراجيز بها، لإمكان إسقاط الراوي من الأرجوزة متقدما، ولإمكان عطف الراجز ما افتتح به على بعض ما في نفسه.

ومثال الجر بغير رب محذوفا في جواب ما تضمن مثله نحو: زيد، في جواب من

ص: 189

قيل له: بمَن مررت؟ وكقوله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له "فإلى أيّهما أُهدي"[قال]: "أقربهما إليك بابا" بالجر على إضمار إلى. ومن الجواب نحو: بلى زيدٍ، لمن قال: ما مررت بأحد، أو هل مررت بأحد. ومثال ذلك بعد عطف متصل على الوجه المذكور قوله تعالى (وفي خلقكم وما يَبُثُّ من دابّة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلافِ الليل والنهار وما أنزل اللهُ من السماء من رزْق فأحْيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) فجر اختلاف الليل بفي مقدرة لاتصاله بالواو ولتضمن ما قبلها إياها. وقرأ عبد الله بإظهارها. ومثل ما في الآية قول الشاعر:

ألا يالَقَوْمي كلُّ ما حُمَّ واقعٌ

وللطير مَجْرًى والجنوبِ مصارع

ومثله:

حُبّبَ الجودُ للكرامِ فحُمْدوا

وأناسٍ فِعْلَ اللئامِ فليمُوا

ومثله:

أخلِقْ بذي الصَّبْرِ أن يحظى بحاجته

ومُدْمنِ القَرْع للأبواب أن يلجا

ص: 190

ومثله:

كالتَّمْر أنتَ إذا ما حاجةٌ عرضَتْ

وحَنْطَلٍ كُلَّما استغْنَيتَ خطبان

ومثال ذلك مع الفصل بلا قول الراجز:

ما لمحب جلدٌ إن هجرا

ولا حبيب رأفة فيجبرا

ومثال ذلك مع الفصل بلو ما حكى أبو الحسن في "المسائل" من أنه يقال: جيء يزيد أو عمرو ولو كليهما، وأجاز في كليهما الجر، على تقدير: ولو بكليهما، والنصب بإضمار ناصب، والرفع بإضمار رافع. وأجود من هذا المثال الذي ذكره الأخفش أن يقال: جيء بزيد وعمرو ولو أحدهما.

قال الشاعر:

متى عُذتُم بنا ولو فئةٍ منّا

كُفيتم ولم تخشَوا هَوانًا ولا وَهْنا

لأن المعتاد في مثل هذا النوع من الكلام أن يكون ما بعد "لو" أدنى مما قبلها في كثرة وغيرها كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسْ ولو خاتما من حديد" وكقولهم: ايتني بدابة ولو حمارا.

ومن شواهد إضمار الجار في العطف بغير الواو قول الشاعر:

أيّهْ بضَمْرَة أو عوف بن ضمرة أو

أمثالِ ذلك أيّهْ، تُلْفَ منتصرا

أرادوا بأمثال ذينك أيهْ. ومنها:

لك مما يداك تجمعُ ماتنـ

ـفِقه ثم غيرِك المخزون

أراد ثم لغيرك المخزون.

ص: 191

ومثال جر المقرون بهمزة الاستفهام وبهلّا على الوجه المذكور ما حكى الأخفش في "المسائل" من أنه يقال مررت بزيد، فتقول: أزيد بن عمرو، ويقال: جئت بدرهم، فتقول: هلّا دينارٍ. قال أبو الحسن: وهذا كثير. ومثال الجر بمضمر بعد إنْ والفاء الجزائيتين ما حكى يونس من قولهم: مررت برجل صالح، إلا صالحٍ فطالحٍ، على تقدير: إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح. وأجاز امرر بأيهما أفضل، إن زيدٍ وإن عمروٍ. وجعل سيبويه إضمار الباء بعد إنْ لتضمن ما قبلها إياها أسهل من إضمار رب بعد الواو. فعلم بذلك اطراده عنده، وشبيه بما روى يونس ما في البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس أو سادس". ويجوز رفع أربعة على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها على حذف المضاف وبقاء عمله. ونظائر الرفع أكثر.

قلت: والقياس على هذه الأوجه كلها جائز. ومنعه الفراء في نحو: زيد، لمن قال: بمن مررت؟ والصحيح جوازه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقربهما منك بابا" بالجرّ، إذ قيل له: فإلى أيهما أهدي. وكقول العرب: خيرٍ، بالجر، لمن قال: كيف أصبحت؟، بحذف الباء وبقاء عملها، لأن معنى كيف بأيّ حال، فجعلوا معنى الحرف دليلا، فلو لفظ به لكانت الدلالة أقوى، وجواز الجر أولى.

وقد يجر بحرف محذوف في غيرما ذكر مقيسا ومسموعا، فالمقيس نحو: بكم درهم، - ولا سابقٍ شيئا –

وألا رجلٍ جزاه الله خيرا.

ص: 192

وقد ذكرت هذه الأنواع الثلاثة في أبوابها. ومن المقيس نحو: ها الله لأفعلن، مما يذكر في باب القسم. والمسموع كقول الشاعر:

ألا تسأل المكيَّ ذا العلم ما الذي

يجوزُ من التقبيل في رمضان

فقال لي المكيُّ: أمّا لزوجة .. فسبعٌ وأمّا خُلّةٍ فثَمان

أراد وأمّا لخلّة. وكقول الآخر:

وكريمةٍ من آل قيس ألَفْتُه

حتّى تَبذّخ فارتقى الأعلامِ

أراد في الأعلام. والأول أجود، لأن فيه حذف حرف ثابت مثله فيما قبله، ولكن لا يقاس عليه، لكون العاطف مفصولا بأمّا، وهي تقتضي الاستئناف. ومثل – فارتقى الأعلام – قول الآخر:

إذا قيل أي الناس شر عصابة

أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ

أراد أشارت إلى كليب. وفي صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمسٍ وعشرين ضعفا" على تقدير الباء. ومثله من جامع المسانيد على أحد الوجهين قول النبي صلى الله عليه وسلم "خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجّل ثلاثٍ" على أن يكون المراد المحجل في ثلاث. والأجود أن يكون أصله المحجّل محجلُ ثلاث، فحذف البدل وبقي مجروره، كما فعل

ص: 193

بالمعطوف في نحو "ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة".

وقد يفصل بين حرف الجر ومجروره بظرف أو مفعول به أو جار ومجرور، ولا يكون ذلك إلا في ضرورة كقول الشاعر:

يقولون في الأكْفاءِ أكبر همّه

ألا رُبَّ منهم مَن يعيشُ بمالكا

أراد رب من يعيش بمالك منهم. وكقول (الشاعر):

رب في الناسِ موسرٍ كعديم

وعديمٍ يُخالُ ذا إيسارِ

أراد رب موسر كعديم في الناس. وكقول الفرزدق:

وإنّي لأطوِي الكشح من دون مَن طوى

وأقطعُ بالخرق الهبوع المُراجم

أراد وأقطع الخرق بالهبوع المراجم، ففصل بالمفعول به بين الباء ومجرورها. وأنشد أبو عبيدة:

إنّ عمرًا لا خيرَ في اليوم عمروٍ

إنّ عمرًا مُخبّر الأحزان

أراد: لا خير اليوم في عمرو. وحكى الكسائي في الاختيار الفصل بين الجار والمجرور بالقسم نحو: اشتريته بـ - واللهِ – درهم، والمراد بدرهم واللهِ، أو والله بدرهم. وحكى الكسائي أيضا: هذا غلامُ والله زيد. وحكى أبو عبيدة: إن الشاة تعرف رَبَّها حين تسمع صوت – والله – ربِّها. ففصل بالقسم بين المضاف والمضاف إليه.

ص: 194