المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب المعطوف عطف النسق - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب المعطوف عطف النسق

‌باب المعطوف عطف النسق

ص: وهو المجعول تابعا بأحد حروفه، وهي الواو والفاء وثم وحتى وأم وأو وبل ولا، وليس منها لكن وفاقا ليونس، ولا "إما" وفاقا له ولابن كيسان وأبي علي، ولا "إلا" خلافا للأخفش والفراء، ولا "ليس" خلافا للكوفيين، ولا "أي" خلافا لصاحب المستوفى.

ش: المجعول تابعا يعم الأقسام الخمسة، وتقييد الجعل بأحد الحروف مخرج للأربعة، وقاصر العبارة على لامقصود، وهو المعطوف عطف النسق. والضمير في قولي:"بأحد حروفه" عائد على النسق. وذكرتها الآن متتابعة عارية من شرح معانيها وبيان أحكامها لتحفظ جملة، ويعلم منها المجمع عليه والمختلف فيه، فنفيت أن يكون منها لكن موافقا ليونس، فإنها عنده حرف استدراك لا حرف عطف، فإن وليها مفرد معطوف، فعطفه بواو قبلها لا يستغنى عنها إلا قبل جملة مصرح بجزأيها، نحو: ما قام سعد ولكن سعيد، ولا تزر زيدا ولكن عمرا، ولو كانت عاطفة لاستغنى بها عن الواو، كما استغنى ببل وغيرها. وما يوجد في كتب النحويين من نحو: ما قام سعد لكن سعيد، ولا تزر زيدا لكن عمرا، فمن كلامهم لا من كلام العرب، ولذلك لم يمثل سيبويه في أمثلة العطف إلا بولكن، وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه لا يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب. ومع هذا ففي المفرد الواقع بعد ولكن إشكال، لأنه على ما قررته معطوف بالواو، مع أنه مخالف لما قبلها، وحق المعطوف بالواو أن يكون موافقا لما قبلها، فالواجب أن يجعل من عطف الجمل، ويضمر له عامل، كأنه قال: ما قام سعد ولكن قام سعيد، ولا تزر زيدا ولكن زر عمرا، لأن الجملة المعطوفة بالواو يجوز كونها موافقة ومخالفة، فالموافقة نحو: قام زيد وقام عمرو،

ص: 343

والمخالفة نحو: قام زيد ولم يقم عمرو.

ونفيت أن تكون "إما" حرف عطف لأنها أيضا لا يليها معطوف إلا وقبلها الواو، كقوله تعالى:(حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة) فالعطف بالواو لا بها، لأن عطفية الواو إذا خلت من إما ثابته، وعطفية إما إذا خلت من الواو منتفية، والأصل استصحاب ثبوت ما ثبت ونفي ما نفي. وأيضا فإن توسط الواو بين إما وإما كتوسطها بين لا ولا في نحو: زيد لا بخيل ولا جبان، والعطف قبل "لا" بالواو بإجماع، فيكن بها قبل إما ليتفق المتماثلان ولا يختلفا.

ومن زعم أن إما عاطفة فله شبهتان: إحداهما أن الواو قد تحذف ويستغنى بإما كقول الشاعر:

ياليتما أمنا شالتْ نعامتها

إما إلى جَنَّةٍ إما إلى نار

وكقول الراجز:

لا تُتْلفوا آبالكم

إمالنا وإمالكم

الثانية: أنّ أو تعاقبها، كقراءة أبي رضي الله عنه:(وإنا أو إياكم لإما على هدى أو في ضلال مبين) وأو عاطفة بإجماع، فلتكن إما كذلك، ليتفق المتعاقبان ولا يختلفا.

والجواب عن الأولى أن ذلك معدود من الضرورات النادرة، فلا اعتداد به. ومن يرى أنها عاطفة فلا يرى إخلاءها من الواو قياسا على ما ندر من ذلك، فلا يصح استناده إليه، واعتماده عليه.

ص: 344

والجواب عن الشبهة الثانية أن المعاقبة التي في: قام إما زيد وإما عمرو، وقام إما زيد أو عمرو. شبيهة بالمعاقبة التي في: لا تضرب زيدا ولا عمرا، ولا تضرب زيدا أو عمرا، ولا خلاف في انتفاء تأثيرها مع لا، فليكن منتفيا مع إما، ليتفق المتماثلان ولا يختلفا.

وأجاز الأخفش العطف بإلا، وحمل عليه قوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم) واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وأرى لها دارا بأغدرة الـ

سيدان لم يدرس لها رسم

إلا رمادا هامِدا دفعت

عنه الرياحَ خَوالدٌ سُحْمُ

قال الأخفش: وأرى لها دارا ورمادا، وقال الفراء في قوله تعالى:(لا يخافُ لديّ المُرسَلون* إلا من ظَلَم) وقال بعض النحويين: إلا بمعنى الواو، أي لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدّل حُسْنا بعد سُوء، واستبعد ذلك، وأجاز أن يكون إلا بمعنى الواو في نحو: له عندي ألف إلا ألف آخر، وفي قوله تعالى:(خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك).

قلت: ولا يلزم كون إلا بمعنى الواو في شيء من هذه المواضع لإمكان الاستثناء فيها، وإمكانه في الآية بأن يكون التقدير: إلا ظلم الذين ظلموا وعنادهم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما تقول: لا بكاء في الدار إلا من لا يحزن. ويجوز كون إلا بمعنى لكن، والذين مبتدأ، وخبره فلا تخشوهم واخشوني، وعلى هذا يحمل:(إلا مَنْ ظلم ثم بدل حُسْنا بعد سُوء فإني غفور رحيم)

ص: 345

وكذا: له عليّ ألف إلا ألف آخر، أي: لكن ألف آخر له على، فأبقى المبتدأ وصفته، وحذف الخبر. وأما: إلا رمادا، فاستثناء محقق لأنه وصف الرماد بالهمود ودفع الأثاني عنه الرياح المترددة عليه، وفي هذا إشعار بأنه درس بعض الدروس. وأما: إلا ما شاء ربك فاستثناء محقق من فيها، لأن لأهل النار أنواعا من العذاب غير النار، مما وصف لنا ومما لم يوصف، فإلى ذلك أشير بإلا ما شاء ربك، وكذلك أهل الجنة لهم أنواع من النعيم غير الجنة، مما وصف لنا ومما لم يوصف، فإلى ذلك أشير، والله أعلم.

وأجاز الكوفيون استعمال "ليس" حرفا عاطفا فيقولون: قام زيد ليس عمرو، كما يقال: قام زيد لا عمرو. ومن أجود ما يحتج لهم به قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "بأبي شبيه بالنبي ليس شبيه بعلي" كذا ثبت في صحيح البخاري برفع شبيه، كما يقال: بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي. ومما يحتج لهم به أيضا قول الراجز:

أينَ المفرُّ والإلهُ الطالب

والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالبُ

كما يقال: والأشرم المغلوب لا الغالب.

وهذا التنظير لا يلزم، لإمكان غيره مما لا خلاف في جوازه، وذلك لأنه يجوز أن يكون خبر كان وأخواتها ضميرا متصلا، ثم يحذف منويا ثبوته، كما يفعل إذا كان الضمير مفعولا به، فيقال: صديقك إني كنته، ثم يترك الضمير من اللفظ تخفيفا فيقال: صديقك إني كنت، كما يقال: صديقك إني أكرمت، فكذلك يقدر قول أبي بكر رضي الله عنه: ليسه شبيه بعلي، فيجعل "شبيه" اسم ليس، والهاء خبرها محذوفا، واستغنى بنيته عن لفظه، قال الشاعر:

فأطعَمَنا من لحمها وسَديفها

شواءً وخيرُ الخيرِ ما كان عاجلُه

ص: 346

وقول الآخر:

معينك إني ما برحت فلا تزلْ

معيني على ما مِلامُور أروم

أراد الأول: ما كانه عاجله، وأراد الثاني: ما برحته، فحذفا الضميرين ونوياهما. والتقدير في: ليس الغالب: ليسه الغالب، والضمير ضمير الأشرم، وهو خبر ليس، واسمها الغالب.

وأجاز أبو علي أن يكون من هذا القبيل قول الشاعر:

عدوُّ عينيك وشانِيهما

أصبحَ مشغولٌ بمشغول

على تقدير: أصبحه مشغول بمشغول. ومما يجوز أن يكون من هذا قول أبي أمامه رضي الله عنه: "يا نبي الله أو عصى كان آدم".

وجعل صاحب المستوفى "أي" التفسيرية حرف عطف في نحو: مررت بغضنفر أي أسد، ونهيتك عن الونى أي الفتور. والصحيح أنها حرف تفسير، وما يليها من تابع عطف بيان موافق ما قبلها في التعريف والتنكير. وجعلها حرف عطف يستلزم مخالفة النظائر من وجهين: أحدهما: أن حق حرف العطف المعطوف به في غير توكيد أن يكون ما بعده مباينا لما قبله، نحو: مررت بزيد وعمرو، وما بعد أي بخلاف ذلك.

الثاني: أن حق حرف العطف المعطوف به غير صفة ألا يطرد حذفه، وأي بخلاف ذلك، فإن لك أن تقول في: مررت بغضنفر أي أسد: مررت بغضنفر أسد، ويستغنى عن "أي" مطردا، ولا يجوز ذلك في شيء من المعطوفات، فالقول بأن أي حرف عطف مردود، وباب ما أخذ به مسدود.

ص: فالستة الأوائل تشترك لفظا ومعنى، و"بل" و"لا" لفظا لا معنى، وكذا "أم" و"أو" إن اقتضيا إضرابا. وتنفرد الواو بكون متبعها في الحكم محتملا للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة، وبعدم الاستغناء عنها في عطف مالا يستغنى عنه، ويجوز أن يُعطف بها بعض متبوعها

ص: 347

تفصيلا، وعامل مُضْمَر على عامل ظاهر يجمعهما معنى واحد. وإن عطفت على منفي غير مستثنى ولم يقصد المعية وليتها "لا" مؤكدة، وقد تليها زائدة إن أمن اللبس.

ش: تشريك الواو والفاء وثم وحتى لفظا ومعنى مجمع عليه، وكذا تشريك بل ولا لفظا لا معنى، ومثلهما لكن عند غير يونس، وكثير في كلام النحويين جعل أم وأو مشركين لفظا لا معنى. والصحيح أنهما يشركان لفظا ومعنى مالم يقتضيا إضرابا، لأن القائل: أزيد في الدار أم عمرو؟ عالم بأن الذي في الدار هو أحد المذكورين، وغير عالم بتعينه، فالذي بعد أم مساوٍ للذي قبلها في الصلاحية لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه، وحصول المساواة إنما هو بواسطة أم، فقد شركتهما في المعنى، كما شركتهما في اللفظ. وكذلك أو مشركة لما بعدها وما قبلها فيما يجاء لأجله من شك أو تخيير وغيرهما. وقد تقع موقع الواو على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فيكون حكمها حينئذ حكم ما وقعت موقعه.

ويأتي الكلام على بل ولا إن شاء الله تعالى، وكذا يأتي الكلام على أم وأو الموافقتين في الإضراب.

والمعطوف بالواو إذا عري من القرائن احتمل المعية احتمالا راجحا، والتأخر احتمالا متوسطا، والتقدم احتمالا قليلا، ولذلك يحسن أن يقال: قام زيد وعمرو معه، وقام زيد وعمرو بعده، وقام زيد وعمرو قبله، فتؤخر عمرا في اللفظ وهو متقدم في المعنى، ومنه قوله تعالى:(أهم خير أم قوم تُبّع والذين من قبلهم) وقوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله) في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة. ومن عطف المقدم على المؤخر قول أبي العيال الهذلي:

ص: 348

حتى إذا رجبٌ تولى وانقضى

وجُماديان وجاء شهرٌ مقبل

شعبانُ قدرنا لوقت رحيلهم

سبعا يُعَدّ لها الوفاء فيكمل

ومنه قول الفرزدق:

وما نحن إلا مثلُهم غيرَ أننا

بقينا قليلا بعدهم وتقدموا

ومنه قول جرير:

راح الوفاق ولم يَرُح مرار

وأقام بعد الظاعنين وساروا

ومنه قول الآخر:

وإني لأرضى منك ياليل بالذي

لو أبصره الواشي لقرّت بلابله

بلا وبألا أستطيع وبالمنى

وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله

وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي

أواخره لا نلتقي وأوائله

ومنه قول أبي الصَّلت:

سدت عثمانث يافعا ووليدا

ثم سدت الملوك قبل المشيب

وقد اجتمع عطف المقدم على المؤخر، وعطف المؤخر على المقدم في قوله تعالى:(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) ومن عطفها بقصد المعية قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل).

ونسب قوم إلى الفراء أن الواو مرتبة، ولا يصح ذلك، فإنه قال في معاني سورة

ص: 349

الأعراف: فأما الواو فإن شئت جعلت الآخر هو الأول، والأول هو الآخر، فإذا قلت:"زرت عبد الله وزيدا، فأيهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة" وهذا نصه، وهو موافق لكلام سيبويه وغيره من البصريين والكوفيين.

ونبهت بقولي: "بعدم الاستغناء عنها في عطف مالا يستغنى عنه" على أنه لا يقوم مقام الواو غيرها في نحو: اختصم زيد وعمرو، ولا في نحو: هذان زيد وعمرو، وإن إخوتك عبد الله ومحمدا وأحمد نجباء.

ونبهت بقولي: "ويجوز أن يعطف بها بعض متبوعها تفصيلا" على نحو: (ورسله وجبريل وميكال) و: (على الصلوات والصلاة الوسطى).

وبقولي: "وعاملٌ مضمر على عامل ظاهر يجمعهما معنى واحد" على نحو قوله تعالى: (والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان) فإن أصله: تبوءوا الدار واعتقدوا الإيمان، فاستغنى بمفعول اعتقدوا عنه، وهو معطوف على تبوءوا، وجاز ذلك لأن في اعتقدوا وتبوءوا معنى لازم، واستصحب بهذا معنى قولي:"يجمعهما معنى واحد". ومن هذا القبيل قوله تعالى: (فأجْمعوا أمركم وشركاءكم) لأن أجمع لا يوقع على الشركاء وشبهه من الأشخاص، وإنما يوقع على الأمر والكيد وشبههما من المعاني. ومن هذا القبيل قول الشاعر:

إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوما

وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا

فاستغنى بمفعول كحَّلْن عنه، وهو معطوف على زججن، وجاز ذلك، لأن في زجَّج وكَحَّل معنى حَسَّنَ، وأمثال ذلك كثيرة.

ص: 350

وإن عطف بالواو على فعل منفي غير مستثنى، ولم يقصد المعية، وليتها "لا" مؤكدة، نحو قوله تعالى:(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) فبذكر "لا" علم نفي التقريب عن الأموال والأولاد مطلقا، أي في افتراق وفي اجتماع، ولو تركت لاحتمل أن يكون المراد نفي التقريب عند الاجتماع لا عند الافتراق، وذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو، فبذكر "لا" يعلم نفي القيام من زيد وعمرو مطلقا، أي في وقت واحد، وفي وقتين، وبالنسبة إلى أحدهما دون الآخر، وبتركها يحتمل نفي القيام عنهما في وقت واحد، وفي وقتين، ونفيه عن أحدهما دون الآخر.

إلا أن الأولى عند الترك قصد المعية، فإن كانت المعية مفهومة ببعض الجملة كاستوى جاز أن تزاد "لا" توكيدا للنفي المتقدم، لأن اللبس مأمون، كقوله تعالى:(وما يستوي الأعمى والبصير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا المسيء قليلا) فلا قبل المسيء زائدة، وكذا التي قبل النور والحرور في فاطر.

وقيدت المنفي بكونه غير مستثنى احترازا من نحو: قاموا إلا زيدا وعمرا، فإنه بمعنى: قاموا لا زيد ولا عمرو، فالواو فيه عاطفة على منفي في المعنى، لكنه لا يعرض فيه لبس تزيله "لا"، فاستغنى عنها.

ص: ويقال في "ثُمّ" فُمّ، وثُمّتَ، وثُمّتْ. وتشركها الفاء في الترتيب، وتنفرد ثم بالمهلة، والفاءُ العاطفةُ جملةً أو صفة بالسببية غالبا، وقد تكون معها مهلة. وتنفرد أيضا بعطف مفصل على مجمل متحدين معنى، وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر. وقد تقع موقع ثم، وثم موقعها. وقد يحكم على الفاء وعلى الواو بالزيادة وفاقا للأخفش. وقد تقع ثم في عطف المقدم بالزمان اكتفاء بترتيب اللفظ.

ص: 351

ش: قول من قال "فُمَّ" هو من إبدال الثاء فاء، كقولهم في الجدث: جدف، وفي الغاثور: غافور. وزيادة التاء مفتوحة وساكنة كزيادتهما في "رب" ومن ذلك قول الأسود بن يعفر:

بُدِّلْتُ شَيْبا قد علا لِمَّتي

بعد شباب حَسَنٍ مُعْجِب

صاحَبْتُه ثُمَّتَ فارقتُهُ

ليت شبابي ذاك لم يذهبِ

وحق المعطوف بها أن يكون مؤخرا بالزمان مع مهلة، وحق المعطوف بالفاء أن يكون مؤخرا بلا مهلة. ومن ذلك: أن جبريل عليه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعطف بالفاء المتأخر بلا مهلة، وبثم المتأخر بمهلة.

والغالب في الجملة المعطوفة بالفاء أن يكون معناها متسببا عن معنى الأول نحو: (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) و: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)(ووُضِعَ الكتابُ فترى المجرمين مشفقين) و: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) و: (فوكزه موسى فقضى عليه)(وظن داود أنما فتَنّاه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له) و: (وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ في ديارهم جاثمين)

ص: 352

(فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) ونحو: (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) ونحو: (ونفخ في الصور فصَعِق مَنْ في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله).

أو تكون بين مفصل ومجمل متحدي المعنى نحو: (فأزَلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) ونحو: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) ونحو: (فعَمِيَتْ عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون) ونحو: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب) ونحو: (إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكارا * عُرُبا أترابا).

وقد يعطف بها لمجرد الترتيب في الجمل نحو: (فراغَ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم) ونحو: (لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) ونحو: (فأقبلت امرأتُه في صَرّة فصَكَّتْ وجهها).

وفي الصفات نحو: (ثم إنكم أيها الضّالون المكذِّبون * لآكلون من شجر من زقُّوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم) ومنه قول الشاعر:

ياوَيْحَ زَيّابة للحارث الصـ

ابح فالغانم فالآئبِ

ص: 353

كأنه قال: صبح فغنم فآب.

وقد يكون مع السببية مهلة، كقوله تعالى:(ألمْ تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة).

وتنفرد الفاء أيضا بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر أو حال، نحو: الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ، ومررت برجل يبكي فيضحك عمرو، وخالد يقوم فيقعد بشر، كل هذا جائز بالفاء، ولو جيء فيه بدلها بالواو لم يجز، لأن حق المعطوف بالواو على صلة أو صفة أو خبر أن يصلح لما صلح له المعطوف عليه، والجملة العارية من ضمير الموصول والموصوف والمخبر عنه لا تصلح للوصل بها، ولا للوصف بها، ولا للإخبار بها، ولا يجوز أن يعطف بالواو على صلة ولا صفة ولا خبر، واغتفر ذلك في الفاء لأن ما فيها من السببية سوغ تقدير ما بعدها وما قبلها كلاما واحدا، ألا ترى أن قولك: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، بمنزلة: الذي إن يطر يغضب زيد الذباب، ومثل هذا التقدير لا يتأتى مع الواو، فلذلك لم يجر العطف بها في هذه الجمل مجرى العطف بالفاء.

وقد يقع الفاء موقع ثم كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما) فالفاء من: فخلقنا، ومن: فكسونا، واقعة موقع ثم لما في معناه من المهلة، ولذلك جاءت ثم بدلها في أول الحج. ومن وقوع الفاء موقع ثم قول الشاعر:

إذا مِسْمَعٌ أعطتكَ يوما يمينُه

فعدتَ غدًا عادتْ عليك شِمالها

وقد تقع ثم موقع الفاء كقول الشاعر:

ص: 354

كهزِّ الرُّدَيْنيِّ تحت العَجاج

جرى في الأنابيب ثم اضطرب

فثم هنا واقعة موقع الفاء التي يعطف بها مفصل على مجمل، لأن جريان الهز في الأنابيب هو اضطراب المهزوز، لكن في الاضطراب تفصيل، وفي الهز إجمال.

وقد تزاد الواو والفاء، فمن زيادة الواو قوله تعالى:(وفُتِحت أبوابُها وقال لهم خزنتها) قال الحسن: أي: قال لهم خزنتها. ومن زيادتها قول مروان بن أبي حفصة:

فما بالُ مَنْ أسعى لأجبُرَ عظمه

حفاظا وينوي من سفاهته كسري

ومن زيادتها قول الأسود بن يعفر:

حتى إذا حملت بطونكم

ورأيتُمُ أبناءكم شَبُّوا

وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنا

إن اللئيم الفاحش الخَبُّ

ومن زيادتها قول الشاعر:

فلما رأى الرحمنُ أنْ ليس منهم

رشيدٌ ولاناهٍ أخاه عن الغدر

وصبَّ عليهم تغلبَ ابنةَ وائل

فكانوا عليهم مثلَ راغِيَةِ البكر

ص: 355

ولقد رَمَقْتُكَ في المجالس كلِّها

فإذا وأنت تُعين من يَبْغيني

ومثله:

فإذا وذلكِ ياكُبَيْشَةُ لم يكن

إلا كَلَمَّةِ حالم بخيال

وقال الأخفش في المسائل الصغرى: تقول: كنا ومن يأتنا نأته، يجعلون الواو زائدة في باب كان. ولا تحسن زيادة هذه الواو في غير باب كان، يعني أنه لا تطرد زيادتها إلا في باب كان. ومن زيادة الواو قول عدي بن زيد:

ولكن كالشهاب وثُمَّ يَخْبو

وحادي الموت عنه لا يُحار

ومن زيادة الفاء قوله:

يموت أناسٌ أو يشيبُ فتاهم

ويحدثُ ناشٍ والصغيرُ فيكبر

ومن زيادتها قول الآخر:

لمّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جُرْمُها

فتركتُ ضاحِيَ جلدِها يتذبذبُ

ومنه قول زهير:

أراني إذا ما بتُّ بتُّ على هوى

فثُمَّ إذا أصبحتُ أصبحت غاديا

وقال الأخفش: وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوُجد، يريدون: أخوك وُجِد

قال الفراء: والعرب تستأنف بثم والفعل الذي بعدها قد مضى قبل الفعل الأول، من ذلك أن يقول الرجل: قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك

ص: 356

مالا، فيكون ثم عطفا على خبر المخبر، كأنك قلت: أخبرك أني أعطيتك اليوم، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس. وإلى هذا أشرت بقولي: وقد تقع ثم في عطف المقدم بالزمان.

قلت: ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) لأن قبله: (ذلكم وصاكم به) والوصية لنا بعد إتيان موسى الكتاب.

ص: المعطوف بحتى بعضُ متبوعه، أو كبعضه، وغايةٌ له في زيادة أو نقص مفيدٌ ذكرها.

وإن عطفت على مجرور لزم إعادة الجار ما لم يتعيّن العطف. ولا يقتضي ترتيبا على الأصح.

وأم متصلة ومنقطعة، فالمتصلة المسبوقة بهمزة صالح موضعها لأي، وربما حذفت ونويت. والمنقطعة ما سواها، وتقتضي إضرابا مع استفهام ودونه، وعطفها المفرد قليل، وفصل أم مما عطفت عليه أكثر من وصلها.

وأو لشك، أو تفريق مجرد، أو إبهام، أو إضراب، أو تخيير. وتعاقب الواو في الإباحة كثيرا، وفي عطف المصاحب والمؤكد قليلا، وتوافق "ولا" بعد النهي والنفي.

ش: لا يُعطَف بحتى إلا بعضٌ أو كبعض، وغايةٌ لمعطوف عليه في زيادة أو نقص. فيدخل في الزيادة الأقوى والأعظم والأكثر، ويدخل في النقص الأضعف والأحقر والأقل، نحو: فاق علي رضي الله تعالى عنه الأبطال حتى عنترة، وعجّز في العلم الأذكياء حتى الحكماء، وقصّر عن جوده الغيوث حتى الدِّيم. وقهر الجبانَ الناسُ حتى النساءُ. ومن كلام العرب: استنت الفصال حتى القَرْعى. وقد

ص: 357

اجتمعت غايتا القوة والضعف في قول الشاعر:

قهرناكم حتى الكماةَ فإنكم

لتَخْشَوْننا حتى بنينا الأصاغرا

فالمعطوف في هذه الأمثلة بعضٌ مُحقَّق.

وقد يكون شبيها ببعض لا بعضا، كقولك: أعجبتني الجاريةُ حتى حديثُها، فالحديث ليس بعضا، ولكنه كبعض، لأنه معنى من معاني المحدث.

والمعتمد عليه فيما يصح عطفه بحتى أن يصح استثناؤه بإلا، فيصح: أعجبتني الجارية حتى حديثها، كما يصح: أعجبتني الجارية إلا حديثَها، ويمتنع: أعجبتني الجارية حتى ابنها، كما يمتنع: أعجبتني الجارية إلا ابنها.

وقد يكون المعطوف بحتى مباينا، فيقدر بعضيته بالتأويل، كقول الشاعر:

ألقى الصحيفة كي يُخَفَّفَ رحلَه

والزادَ حتى نعله ألقاها

فعطف بحتى النعل، وليست بعضا لما قبلها، ولكنها بالتأويل بعض، لأن المعنى: ألقى ما يثقله حتى نعله. ويروى بالجر والرفع.

وقيدت الغاية بأن يكون ذكرها مفيدا. تنبيها على أنك لو قلت: أتيتك الأيام حتى يوما، لم يجز، لأنه لا فئفائدة فيه. وهكذا لو قلت في الاستثناء: صمت الأيام إلا يوما. فلو وقِّتَ ما بعد حتى وإلا حَسُن، وكانت فيه فائدة، نحو: صمت الأيام حتى يوم الجمعة، وإلا يوم الجمعة.

وإن عطف بحتى على مجرور وخيف توهم كون المعطوف مجرورا بحتى لزم إعادة الجار، نحو: اعتكفت في الشهر حتى في آخره. فإن أُمِن ذلك لم تلزم إعادة الجار

ص: 358

نحو: عجبت من القوم حتى بنيهم، ونحو قول الشاعر:

جودُ يُمْناك فاضَ في الخلق حتى

بائسٍ دان بالإساءة حينا

وحتى بالنسبة إلى الترتيب كالواو، فجائز كون المعطوف بها مصاحبا كقولك: قدم الحجاج حتى المشاة في ساعة كذا، وجائز كونه سابقا كقولك: قدموا حتى المشاة متقدمين. ومن زعم أنها تقتضي الترتيب في الزمان فقد ادعى مالا دليل عليه. وفي الحديث: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس" وليس في القضاء ترتيب، وإنما الترتيب في ظهور المقضيات، قال الشاعر:

لقوميَ حتى الأقدمون تمالئوا

على كلِّ أمرٍ يُورِث المجد والحمدا

فعطف بحتى الأقدمين مع كونهم بيقين متقدمين.

وأم المعتمد عليها في العطف هي المتصلة، نحو: أزيد عندك أم عمرو؟ وسميت متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا تحصل الفائدة إلا بهما، وشرط ذلك أن يكون متبوعها مسبوقا بهمزة صالح موضعها لأي، كالواقعة في: أزيد عندك أم عمرو؟ وفي قوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) و: (إنْ أدري أقريب أم بعيد توعدون) و: (أذلك خير أم جنة الخلد) و: (أذلك خيرٌ نزلا أم شجرة الزقوم) و: (أأنتم أشد خلقا أم السماء).

ص: 359

وقد يكون مصحوباهما فعلين لفاعلين متباينين، كقول حسان رضي الله عنه:

ما أبالي أنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ

أم جفاني بظهر غَيْب لئيمُ

وقد يكون مصحوباهما جملتين ابتدائيتين كقول الشاعر:

ولستُ أبالي بعد فقديَ مالكا

أموتي ناءٍ أم وهو الآن واقعُ

ومثله:

لعَمْرُك ما أدري وإن كنت داريا

شُعَيْثُ ابن سهم أم شُعَيْت ابنُ مِنْقَر

فهذه الأبيات شواهد على وقوع أم المتصلة بين جملتين، إذ كان المعنى معنى أي، وابن سهم وابن منقر خبران لا صفتان، وحذف التنوين في شعيث على حد حذفه في قول الشاعر:

عمرُو الذي هَشَم الثَّريد لقومه

ورجالُ مكَّة مُسْنِتُون عِجافُ

وخرج بقولي: "صالح موضعها لأي" أم المسبوقة بهمزة صالح موضعها اللنفي، كقوله تعالى:(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) فأم في هذه المواضع الثلاثة منقطعة، لأنها لا تصلح لأي. وكذا إذا كان معنى ما هي فيه تقريرا، كقوله تعالى:(أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) وكقول الشاعر:

ص: 360

ألعبا تألف أم توانيا

والموت يدنو رائحا وغاديا

وكذا كل موضع لم تتقدم فيه الهمزة، استفهاما كان أو إخبارا، فالاستفهام كقوله:

أنَّى جَزَوْا عامرا سُوءًا بفعلهم

أم كيف يَجزون بالسُّوأى من الحَسَن

أم كيف ينفعُ ما يُعطى العلوقُ به

رئمانَ أنْفٍ إذا ما ضُنَّ باللبن

والإخبار كقوله تعالى: (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك) فأم في هذين الموضعين وما أشبههما منقطعة لعدم الهمزة قبلها، كما هي منقطعة في:"أم لهم" لعدم معنى أي.

وقد تحذف الهمزة ويكتفى بظهور معناها قبل أم المتصلة، كقول الشاعر:

فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر

أتوني وقالوا من ربيعة أم مضر

ومثله:

لَعَمْرُك ما أدري وإن كنتُ داريا

بسبع رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان

ومن قراءة ابن محيصن: (وسواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم).

وأكثر وقوع أم المنقطعة مقتضية إضرابا واستفهاما، كقوله تعالى: (أم

ص: 361

خُلِقوا من غير شيء) إلى (أم لهم إله غير الله).

وقد يجاء بها لمجرد الإضراب، ومن علامات ذلك في اللفظ أن يليها استفهام نحو:(أم ماذا كنتم تعملون) ونحو: (أم من هذا الذي هو جند لكم) ونحو قول الشاعر:

أم كيف ينفع ما يعطى العلوق به

رئمان أنفٍ إذا ماضُنَّ باللبن

وإن ولي المنقطعة مفرد فهو معطوف بها على ما قبلها، كقول بعض العرب: إنها لإبل أم شاء، فأم هنا لمجرد الإضراب، عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما كان يكون بعد بل، فإنها بمعناها. وزعم ابن جني أنها بمنزلة الهمزة وبل، وأن التقدير: بل أهي شاء. وهذا دعوى لا دليل عليها، ولا انقياد إليها. وقد قال بعض العرب: إن هناك إبلا أم شاءٌ، فنصب ما بعد أم حين نصب ما قبلها، وهذا عطف صريح مقو لعدم الإضمار قبل المرفوع.

وفصل أم المتصلة مما عطفت عليه نحو: (أذلك خير أم جنة الخلد) أكثر من وصلها نحو: (أقريب أم بعيد ما توعدون) ومن ادعى امتناع وصلها أو ضعفه فمخطئ، لأن دعواه مخالفة الاستعمال المقطوع بصحته، ولقول سيبويه والمحققين من أصحابه.

ومن العطف بأو في الشك قوله تعالى: (قال لبثت يوما أو بعض يوم) ومن العطف بها في التفريق المجرد قوله تعالى: (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) وقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما). والمراد بوصف التفريق بالمجرد خلوه من الشك والإبهام والإضراب والتخيير، فإن مع كل واحد منها

ص: 362

تفريقا مصحوبا بغيره، والتعبير عن هذا المعنى بالتفريق أولى من التعبير عنه بالتقسيم، لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أولى من استعمال أو، كقولك: الكلمة اسم وفعل وحرف، فالاسم ظاهر ومضمر، والفعل ماض وأمر ومضارع، والحرف عامل وغير عامل. ومنه قول الشاعر:

وننصرُ مولانا ونعلم أنه

كما الناس مجرومٌ عليه وجارمُ

ولو جيء هنا بأو لجاز، وكان التقدير: منهم مجروم عليه أو جارم، والتقدير مع الواو: منهم مجروم عليه ومنهم جارم، أو بعضهم مجروم عليه، وبعضهم جارم. ومن الجائي بأو مع كون الواو أولى قول الشاعر:

فقالوا لناثِنْتان لا بُدَّ منهما

صدورُ رماح أُشْرِعت أو سلاسلُ

ومن مجيء أو في الإبهام قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ومنه قول الشاعر:

نحن أو أنتمُ الأُلى ألِفوا الحقْـ

ـقَ فبُعْدا للمُبطلين وسُحْقا

ومن مجيئها للإضراب قراءة أبي السمال: (أوْ كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) قال أبو الفتح: معنى أو هنا بل بمنزلة أم المنقطعة فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهدا. قال: وأو التي بمنزلة أم المنقطعة موجودة في الكلام كثيرا. وقال الفراء في قوله تعالى: (إلى مائة ألف أو يزيدون) أو هنا بمعنى بل، كذا جاء في التفسير، مع صحته في العربية. وحكى الفراء: اذهب إلى زيد أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. وقال ابن برهان في شرح اللمع: قال أبو علي: أو حرف يستعمل على ضربين: أحدهما أن يكون لأحد الشيئين أو الأشياء. والآخر أن يكون للإضراب.

ص: 363

قلت: ومن مجيء أو للتخيير قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) ومن مجيئها للإباحة قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن) إلى (أو الطفل) ومن علامات التي للإباحة استحسان وقوع الواو موقعها، ألا ترى أنه لو قيل: ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن وآبائهن وآباء بعولتهن لم يختلف المعنى. ومنه: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس الصنف المبارك الذين منهم الحسن وابن سيرين فلو جالسهما معا لم يخالف ما أبيح له. والاعتماد في فهم المراد من هذا الخطاب على القرائن.

ومن معاقبة أو الواو في عطف المصاحب قول الشاعر:

قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتهم

من بين مُلْجِم مُهْرِه أو سافعِ

ومثله:

حتى خَضَبْتُ بما تحدَّر من دمي

أكْنافَ سَرْجِي أو عنانَ لجامي

ومثله:

فظَلْتُ وظلّ أصحابي لديهم

غريضُ اللحم نيءٌ أو نضيج

فأو في هذه المواضع بمعنى الواو التي للمصاحبة. ومن أحسن شواهد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وقول ابن عباس رضي الله عنه: "كل ما شئت، واشرب ما شئت ما أخطأك اثنتان:

ص: 364

سرف أو مخيلة".

ومن معاقبة أو الواو في عطف المؤكد قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقوله تعالى: (من يكسب خطيئة أو إثما) ومنه قول الشاعر:

حواسر مما قد رأت بعيونها

تفيض بها أو لا قليل ولا نزر

وإذا وقع نهي أو نفي قبل أو كانت بمعنى الواو مردفة بلا، فمثال ذلك مع النهي قوله تعالى:(ولا تُطِعْ منهم آثما أو كفورا) ومثال ذلك مع النفي قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أوبيوت آبائكم) إلى (أو صديقكم) أي: ولا تطع منهم آثما ولا كفورا، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ولا بيوت آبائكم.

ص: والمعنى مع إمّا شك أو تخيير أو إبهام أو تفريق مجرد، وفتح همزتها لغة تميمية، وقد تبدل ميمها الأولى ياء، وقد يستغنى عن الأولى بالثانية، وبأو عن وإمّا، وربما استغنى عنها بو إلا، وربما استغنى عن واو وإما، والأصل إن ما، وقد تستعمل اضطرارا.

ش: تجيء إما للشك نحو: لزيد من العبيد إما تسعة وإما عشرة. ومجيؤها للتخيير كقوله تعالى: (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) ومجيؤها للإبهام كقولك- وأنت عالم بمن لقيت – لقيت إما زيدا وإما عمرا. ومجيؤها للتفريق المجرد كقوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) ومنه قول

ص: 365

الراجز:

البَس لكلِّ حالة لَبُوسها

إما نعيمَها وإما بوسَها

وبنو تميم يقولون: قام أما زيد وأما عمرو، بفتح الهمزة، وتبدل الميم التي تليها ياء، ومنه قول الشاعر:

ياليتما أُمُّنا شالت نعامتُها

أيما إلى جنة أيما إلى نار

وقد يستغنى عن إما الأولى بإما الثانية كقول ذي الرمة:

وكيف بنفسي كلّما قلت أشْرَفت

على البُرْء من حَوْصاء هيض اندمالُها

تُهاضُ بدار قد تقادم عهدُها

وإما بأموات ألمّ خيالُها

وقد يستغنى عن الثانية بأو كقراءة أبي: (وإنا أو إياكم لإما على هدى أو في ضلال مبين) وكقول الأخطل:

وقد شَفَّني أن لا يزالَ يَرُوعني

خيالُك إما طارقا أو مُغاديا

وأنشد الفراء:

فقلتُ لهن امْشِين إمّا نُلاقهِ

كما قال أو نَشْف النُّفوسَ فَنُعْذَرا

وقد يستغنى عن "وإما" بـ"وإلا" كقول الشاعر:

فإمّا أن تكونَ أخي بصدق

فأعرف منك غثِّي من سميني

ص: 366

وإلا فاطَّرِحني واتَّخِذْني

عدُوًّا أتقيك وتتقيني

وقد تحذف الواو التي قبل إما في الشعر كقول الراجز:

لا تُفْسِدوا آبالكم

أيمالنا أيمالَكمُ

أراد: إمالنا وإمالكم، ففتح الهمزة، وأبدل الميم التي تليها ياء، وحذف الواو، كما قال الشاعر:

أيما إلى جنة أيما إلى نار

وأصل إما: إن فزيدت عليها ما، وقد يستغنى في الشعر بإن كقول الشاعر:

وقد كَذَبتْك نفسُك فاكذِبَنْها

فإنْ جزعا وإنْ إجمال صبر

أراد: فإما جزعا، وإما إجمال صبر. ومثله في رأي سيبويه قول النمر:

سقته الرواعد من صيف

وإنْ من خريف فلن يعدما

قال سيبويه: أراد: إما من صيف، وإما من خريف، فحذف إما الأولى، واقتصر على الثانية بعد حذف ما. وقال الأصمعي: إن شرطية، والتقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم ريا. وقال غيره: إن زائدة، التقدير: سقته الرواعد من صيف ومن خريف.

ص: والمعطوف ببل مقرر بعد تقرير نهي أو نفي صريح أو مؤول، أو بعد إيجاب لمذكور موطأ به أو مردود أو مرجوع عنه. وقد تكرر بل رجوعا عما ولى المتقدمة، وتنبيها على رجحان ما ولى المتأخرة. وتزاد "لا" قبل "بل" لتأكيد التقرير وغيره.

ولكن قبل المفرد بعد نهي أو نفي كبل.

ويعطف بلا بعد أمر أو خبر مثبت أو نداء.

ص: 367

ش: معنى المقرر الممكن فيما يراد به من ثبوت، نحو:(بل تُؤْثِرون الحياة الدنيا) أو نفي نحو: (بل لا تُكْرمون اليتيم) فما بعد بل مقرر على كل حال. فإن كان قبلها نهي أو نفي، فهي بين حكمين مقررين، كقوله تعالى:(ولا تحسبنّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ) وكقولك: لا تضرب خالدا بل بشرا، وما قام زيد بل عمرو، فخالد قد قرر النهي عن ضربه، وبشر قد قرر الأمر بضربه. وزيد قد قرر نفي القيام عنه، وعمرو قد قرر إثبات القيام له. هذا هو الصحيح، ولذلك لم يجز فيما بعد بل من نحو: ما زيد قائما بل قاعد، إلا الرفع، لأن "ما" لا تعمل إلا في منفي. ووافق المبرد في هذا الحكم، وأجاز مع ذلك أن تكون بل ناقلة حكم النهي والنفي لما بعدها، وهو خلاف الواق في كلام العرب، كقول الشاعر:

لو اعتَصَمْتَ بنا لم تعتصمْ بعِدًى

بل أولياءَ كفاةٍ غيرِ أوكالِ

ومنه قول الآخر:

وما انتَمَيْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُف

ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أوْزاع

بل ضاربين حَبِيك البِيض إن لحقوا

شُمِّ العرانين عند الموت لُذّاعِ

وكقول الآخر:

لا تلقَ ضيفا وإنْ أمْلَقْت مُعْتَذِرا

بعُسْرةٍ بل غَنِيَّ النَّفس جَذْلانا

ص: 368

وحكم النفي المؤول حكم النفي الصريح، نحو: زيد غير قائم بل قاعد، ومنه قوله تعالى:(لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون * بل تأتيهم بغتة) ومثله: (أغيرَ الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون).

وإن كان ما قبل بل موجبا، فما بعدها إما مقرر بعد مقرر على سبيل التوطئة كقوله تعالى:(إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) وكقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "رب إنا كنا على عمل أهل النار كالأنعام بل أضل سبيلا".

وإما مقرر بعد مردود كقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) وكقوله تعالى: (أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق).

وإما مقرر بعد مرجوع عنه لكونه غلطا في اللفظ نحو: أنت عبدي، بل سيدي. أو لكونه غلطا في الإدراك نحو: سمعت رغاء بل صهيلا، ولاح برق في ضوء نار. أو بعروض نسيان نحو: له عليّ درهمان بل ثلاثة. أو لتبدل رأي نحو: ادع لي زيدا بل عمرا، وائتني بفرس بل بعير، واشتر لي زيتا بل سمنا.

وقد تكرر بل، فيكون ما بعد المتقدمة مقصود الانتفاء، كقوله تعالى:(بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) فما بعد الأول من الإخبار بالأضغاث مقصود الانتفاء لأنه مرجوع عنه، وكذا ما بعد الثانية. وقد تكرر تنبيها على أولوية المتأخرة بالقصد إليه، والاعتماد عليه، مع ثبوت معنى ما قبله، كقوله تعالى:(بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون) وتزاد "لا" قبل بل لتأكيد الإضراب عن الأول، نحو: قام زيد لابل عمرو، وخذ هذا لا بل

ص: 369

ذاك، فلا في هذين المثالين زائدة لتأكيد الإضراب عن جعل الحكم للأول، وكذا كل مالا نهي فيه ولا نفي، فلو وجد أحدهما قبل لا أفادت تأكيد تقريره، ولم تقتض إضرابا نحو: ما قام زيد لا بل عمرو، ولا تضرب خالدا لا بل بشرا، فلا في هذين المثالين زائدة لتأكيد بقاء النهي والنفي. ومن زيادة لا مع عدم النفي والنهي قول الشاعر:

وجهُك البدرُ لا بل الشمسُ لو لم

يُقْضَ للشمسِ كَسْفَةٌ أو أُفُولُ

ومثله:

وكأنّما اشتملَ الضَّجيعُ بريطَة

لا بل تزيدُ وثارةً ولَيانا

ومن زيادتها بعد النفي قول الشاعر:

وما سلوتُك لا بل زادني شغفا

هجرٌ وبُعدٌ تمادى لا إلى أجَلِ

ومن زيادتها بعد النهي قول الشاعر:

لا تَمَلَّنَّ طاعة الله لا بل

طاعةَ الله ما حَييت اسْتديما

والمعطوف بلكن مثبت مسبوق بنهي أو نفي نحو: ما وجدتني عاذلا لكن عاذرا، فلا تكن لي خاذلا لكن ناصرا. ولو جعلت بل بدل لكن لم يختلف المعنى، إلا أن بل لا يلزم أن يتقدم عليها نفي أو نهي، ولا بد من أحدهما قبل لكن، فإن خلت منهما لزم أن يكون بعدها جملة مخالفة لما قبلها لفظا ومعنى، أو معنى لا لفظا، نحو: قام زيد لكن عمرو لم يقم، وقام بشر لكن خالد قعد.

والمعطوف بلا منفي بعد أمر، أو خبر مثبت، أو نداء نحو: اضرب زيدا لا عمرا، وهذا محمد لا عمرو، وياسالم لا سلمان. وزعم ابن سعدان أن العطف بلا على منادى ليس في كلام العرب شاهد على استعماله.

ص: 370

فصل: ص: لا يشترط في صحة العطف وقوع المعطوف موقع المعطوف عليه، ولا تقدير العامل بعد العاطف، بل يشترط صلاحية المعطوف أو ما هو بمعناه لمباشرة العامل.

ش: يجوز قام زيد وأنا، وإن لم يصلح مباشرة قام لأنا، لأنه بمعنى التاء المضمومة في قمت وزيد، وكذا، رأيت زيدا وإياك وإن لم تصلح مباشرة رأيت لإياك، لأنه بمعنى الكاف في: رأيتك وزيدا. ويجوز: رب رجل وابنه، وإن لم تصلح مباشرة رب لابنه، لأنه بمعنى: رب من رجل. ويجوز: الواهب المائةِ الهجان وعبدِها وإن لم تصلح مباشرة الواهب لعبدها، لأنه بمعنى الواهب عبد المائة والمائة. ويجوز: إن زيدا وأباه قائمان، وإن لم يصلح أن تباشر إن أباه، لأنه بمعنى إن أبا زيد وزيدا قائمان. ويجوز: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، وأن لم يصلح وقوع قاعدين موقع قائم، لأنه بمعنى قاعد أبواه أو قاعدهما في قول القائل: مررت برجل قائم أبواه لا قاعد أبواه ولا قاعدهما، أو لأنه بمعنى لم يقعدا. ويجوز: إن زيدا قائم لا عمرا، وإن لم يصلح تقدير إن بعد لا، لأن تقدير العامل بعد العاطف ليس شرطا، بل هو ممتنع في مواضع نحو: اختصم زيد وعمرو، ومن يأتني ويسألني أعطه، وعرفت ابنتيْ زيد وعمرو.

فلو كان ما بعد العاطف لا يصلح لمباشرة العامل، ولا هو بمعنى ما يصلح لمباشرته أضمر له عامل مدلول عليه بما قبل العاطف، وجعل من عطف الجمل، نحو:(اسكن أنت وزوجك) و: (اذهب أنت وربك) فزوجك وربك مرفوعان بـ "ليسكن وليذهب" مضمرين مدلول عليهما باسكن واذهب. والمحوج إلى هذا التقدير أن فعل الأمر لا يرفع إلا ضمير المأمور المخاطب، لكنه وإن لم

ص: 371

يكن صالحا لرفع غيره فهو صالح للدلالة على ما يرفعه.

ولو كان ما قبل العاطف فعلا مضارعا مفتتحا بالهمزة أو النون لفُعِل بعده من التقدير والإضمار ما فعل بعد الأمر، نحو:(لا نخلفه نحن ولا أنت) فأنت مرفوع بفعل مضمر مدلول عليه بنخلفه، والتقدير: لا تخلفه أنت، لأن نفعل وأفعل لا يرفعان إلا ضميري المتكلم.

وكذا لو كان الفعل مفتتحا بتاء الخطاب لعُومل ما بعد العاطف الذي بعده هذه المعاملة نحو: تقوم أنت وزيد. وكذا لو كان مفتتحا بتاء المضارعة الدالة على التأنيث لا يرفع إلا مؤنثا.

وكل ما استحقه المعطوف من التقدير المذكور مستحق في البدل نحو: ادخلوا أولُكم وآخرُكم، فأولكم وآخركم مقدر قبلهما: ليدخل، لأن ادخل لا يرفع إلا ضمير المأمور المخاطب، نص على هذا المعنى سيبويه رحمه الله، فإن جعل أولكم وآخركم بدلا فهو وعامله من إبدال الجمل بعضها من بعض، كما يقال في العطف. ومن المستحق لهذه المعاملة قول الشاعر:

نُطَوَّفُ ما نطوف ثم نأوي

ذَوو الأموال منا والعديم

إلى حُفَر أسافِلُهُنّ جُوفٌ

وأعلاهن صُفّاحٌ مُقيم

فذوو الأموال مرفوع بيأوي مضمرا مدلولا عليه بنأوي، لأن المضارع ذا النون لا يرفع إلا ضمير المتكلم. وإن جعل ذوو الأموال والعديم توكيدا، كما جعل على أحد الوجهين الظهر والبطن، من قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، جاز، وكان العامل فيه نأوي، كما يكون عاملا في "كلنا" إذا قيل: نأوي كلنا، لأن التوكيد بمنزلة تكرار المؤكد.

ص: ويضعف العطف على ضمير الرفع المتصل ما لم يفصل بتوكيد أو غيره،

ص: 372

أو يفصل العاطف بلا، وضمير النصب المتصل في العطف عليه كالظاهر، ومثله في الحالين الضميران المنفصلان.

وإن عطف على ضمير جر اختير إعادة الجار ولم تلزم وفاقا ليونس والأخفش والكوفيين.

وأجاز الأخفش العطف على عاملين إن كان أحدهما جارا واتصل المعطوف بالعاطف أو انفصل بلا، والأصح المنع مطلقا، وما أوهم الجواز فجره بحرف مدلول عليه بما قبل العاطف.

ش: إن كان المعطوف عليه ضميرا متصلا مرفوعا فالجيد الكثير أن يؤكد قبل العاطف بضمير منفصل، كقوله تعالى:(لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أو بتوكيد إحاطي كقول الشاعر:

ذُعِرتُمْ أجمعون ومَنْ يليكم

برُؤْيتنا وكنّا الظافرينا

أو يفصل بينه وبين العاطف بمفعول أو غيره، كقوله تعالى:(يدخلونها ومَنْ صلح من آبائهم) ويتناول غير المفعول التمييز، كقول الشاعر:

مُلِئْتَ رُعبا وقومٌ كنتَ راجيهم

لما دَهَمْتُكض من قومي بآساد

والنداء كقوله:

لقد نلت عبدَ الله وابنُك غايةً

من المجد مَن يظفَرْ بها فاق سُوددا

ويقوم مقام فصل الضمير من العاطف الفصل بلا بين العاطف والمعطوف، كقوله تعالى:(ما أشركنا ولا آباؤنا).

ولا يمتنع العطف دون فصل كقول بعض العرب: مررت برجل سواءٍ والعدمُ،

ص: 373

فعطف العدم دون فصل ولا ضرورة على ضمير الرفع المستتر في سواء، ومنه قول جرير:

ورجا الأُخَيطِلُ من سفاهة رأيِه

ما لم يكنْ وأبٌ له لينالا

وهذا فعل مختار غير مضطر، لتمكن قائله من نصب أب على أن يكون مفعولا معه. ومثله قول ابن أبي ربيعة:

قلتُ إذْ أقبلتْ وزُهْرٌ تهادى

كنِعاجِ المِلا تَعَسَّفْنَ رَملا

فرفع زهرا عطفا على الضمير المستكن في أقبلت، مع تمكنه من جعله بعد نصبه مفعولا معه. وأحسن ما استشهد به على هذا قول عمر رضي الله عنه:"وكنت وجار لي من الأنصار" وقول علي رضي الله عنه: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر. أخرجهما البخاري في صحيحه.

ونبهت بقولي: "وضمير النصب المتصل في العطف عليه كالظاهر" على أن ضمير النصب المتصل يعطف عليه الظاهر وضمير النصب المنفصل كما يعطفان على الاسم الظاهر، فيقال: رأيته وإياك، ورأيته وعمرا. كما يقال: رأيت زيدا وإياك، ورأيت زيدا وعمرا.

وسكت عن عطفه تنبيها على أن حرف العطف لا يليه ضمير النصب بلفظ الاتصال، بل بلفظ الانفصال. وفي هذا رد على من زعم أن حرف العطف عامل في المعطوف، إذ لو كان عاملا للزم كون ماوليه من ضمائر النصب بلفظ الاتصال، كما يلزم ذلك مع إن وأخواتها.

ص: 374

والهاء من قولي: "ومثله في الحالين" عائدة على الظاهر، والمراد بالحالين حالا عطفه والعطف عليه، فنبهت بذلك على أن الضمير المنفصل منصوبا كان أو مرفوعا في عطفه والعطف عليه بمنزلة الظاهر، فيقال: رأيت زيدا وإياك، وإياك وزيدا رأيت، وصاحباك زيد وأنا، وأنا وزيد صاحباك. كما يقال: رأيت زيدا وعمرا، وزيدا وعمرا رأيت، وصاحباك زيد وعمرو، وزيد وعمرو صاحباك.

وإذا كان المعطوف عليه ضمير جر أعيد الجار، كقوله تعالى:(فقال لها وللأرض ائتيا طوْعا أو كَرْها)(وعليها وعلى الفلك تحملون) و: (يُنَجِّيكم منها ومن كل كرب) وإعادته مختارة لا واجبة، وفاقا ليونس والأخفش والكوفيين. وأجاز الفراء في "ما" من قوله تعالى:(قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم) الرفع عطفا على "الله" والجر عطفا على فيهن. وأجاز عطف: (من لستم) على (لكم فيها معايش).

وللموجبين إعادة الجار حجتان: إحداهما: أن ضمير الجر شبيه بالتنوين، ومعاقب له، فلا يعطف عليه كما لا يعطف على التنوين. الثانية: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الآخر، وضمير الجر غير صالح لحلوله محل ما يعطف عليه، فامتنع العطف عليه إلا مع إعادة الجار.

وفي الحجتين من الضعف مالا يخفى، لأن شبه ضمير الجر بالتنوين لو منع من العطف عليه بلا إعادة الجار لمنع منه مع الإعادة، لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، ولأنه لو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والإبدال منه، لأن التنوين لا يؤكد ولا يبدل منه، وضمير الجر يؤكد ويبدل منه بإجماع، فللعطف أسوة بهما. قد تبين ضعف الحجة الأولى.

ص: 375

وأما الثانية فيدل على ضعفها أنه لو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطا في صحة العطف لم يجز: رب رجل وأخيه، ولا: أي فتى هيجاء أنت وجارها، ولا: كل شاة وسخلتها بدرهم، ولا: الواهب المائةِ الهجان وعبدِها، وأمثال ذلك كثيرة، فكما لم يمتنع فيها العطف، لا يمتنع في نحو: مررت بك وزيد، وإذا بطل كون ما تعلقوا به مانعا، وجب الاعتراف بصحة الجواز. ومن مؤيدات الجواز قوله تعالى:(وكفرٌ به والمسجدِ الحرام) بجر المسجد بالعطف على الهاء، لا بالعطف على سبيل، لاستلزامه العطف على المصدر قبل تمام صلته، لأن المعطوف على جزء الصلة داخل في الصلة، وتوقي هذا المحظور حمل أبا علي الشلوبين على موافقة يونس والأخفش والكوفيين في هذه المسألة.

ومن مؤيدات الجواز قراءة حمزة: (تساءلون به والأرحامِ) وهي أيضا قراءة ابن عباس والحسن وأبي رزين ومجاهد وقتادة والنخعي والأعمش ويحيى بن وثاب، ومثل هذه القراءة ما روى البخاري في باب الإجارة إلى العصر من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما مثلكم واليهود والنصارى" بالجر، وقول بعض العرب: ما فيها غيره وفرسِه.

ومن الشواهد الشعرية ما أنشد سيبويه من قول الشاعر:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيامِ من عجب

ص: 376

وأنشد أيضا:

آبَك أيّهْ بِيَ أو مُصَدَّرِ

من حُمُرِ الجِلَّة جَابٍ حَشْوَرِ

وأنشد الفراء:

تُعَلَّقُ في مثل السَّوارِي سيوفُنا

وما بينها والكعبِ غُوطٌ نفانِفُ

وأنشد الفراء أيضا:

هلّا سألتَ بذي الجماجم عنهم

وأبي نُعَيْم ذي اللواء المُحْرَقِ

ومن الشواهد الشعرية أيضا قول عباس بن مرداس رحمه الله:

أكُرُّ على الكَتيبة لا أُبالي

أحَتْفي كان فيها أم سواها

ومنها قول رجل من طيء:

إذا بنا بل أنيسان اتقت فئة

ظلت مؤمنة ممن يعاديها

وله أيضا:

بنا أبدا لا غيرِنا تُدرَكُ المُنى

وتُكْشَفُ غَمّاءُ الخُطوبِ الفوادحِ

ومنها:

إذا أوْقَدوا نارا لحرب عَدُوهم

فقد خاب من يَصْلى بها وسعيرِها

ص: 377

ومنها:

لو كان لي وزهيرٍ ثالثٌ وردت

من الحِمام عدانا شَرَّ مَوْرود

وأجمعوا على منع العطف على عاملين إن لم يكن أحدهما جارا، وكذا إن كان أحدهما جارا وفصل المعطوف من العاطف بغير لا، فإن كان أحدهما جارا واتصل المعطوف بالعاطف أجاز الأخفش العطف عليهما نحو: في الدار زيد والحجرة عمرو، والخيل لخالد وسعيد الإبل، ووهب لأبيك دينارا وأخيك درهما، ومررت بعامر راكبا وعمّار ماشيا. والفصل بلا مغتفر نحو: ما في الدار زيد ولا الحجرة عمرو. والصور الموافقة ما أجازه الأخفش كثيرة، وفي قوله تعالى:(وفي خلقكم وما يبث من دابة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلافِ الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريفِ الرياح آياتٌ لقوم يعقلون) كفاية، وقد ذكرت منها في باب حروف العطف جملة، وبينت أن الوجه في استعمالها أن يجعل الجر بعد العاطف بحرف محذوف مماثل لما تقدم، وحذف ما دل عليه دليل من حروف الجر وغيرها مجمع على جوازه، والحمل عليه أولى من العطف على عاملين، فإنه مختلف فيه، والأكثر على منعه، وموافقة الأكثر أولى.

وأيضا فإن العطف على عاملين بمنزلة تعديتين بمُعَدٍّ واحد، فلا يجوز، كما لا يجوز ما هو بمنزلته.

فصل: ص: قد تحذف الواو مع معطوفها ودونه، وتشاركها في الأول الفاء وأم، وفي الثاني أو، ويغني عن المعطوف عليه المعطوف بالواو كثيرا، وبالفاء قليلا، وندر ذلك مع أو. وقد يقدم المعطوف بالواو للضرورة. وإن صلح لمعطوف ومعطوف عليه مذكورٌ بعدهما طابقهما بعد الواو، وطابق أحدهما بعد "لا" و"أو" و"بل" و"لكن"، وجاز الوجهان بعد الفاء وثم.

ويعطف الفعل على الاسم، والاسم على الفعل، والماضي على المضارع،

ص: 378

والمضارع على الماضي، إن اتحد جنس الأول والثاني بالتأويل.

وقد يفصل بين العاطف والمعطوف إن لم يكن فعلا بظرف أو جار ومجرور، ولا يخص بالشعر خلافا لأبي علي، وإن كان مجرورا أعيد الجار أو نصب بفعل مضمر.

ش: من أمثلة حذف الواو مع معطوفها قوله تعالى: (وجعل لكم سرابيلَ تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) أي: تقيكم الحر والبرد. ومنه: (وتلك نعمةٌ تمنها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل) أي: ولم تعبدني. والتعبيد الاستعباد. ومنه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) أي: ومن أنفق من بعده، ومنه:(لا نُفَرِّق بين أحد من رسله) أي: بين أحد وأحد. ومثل قول النابغة الذبياني:

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حَجَر إلا ليال قلائلُ

أي: فما كان بين الخير وبيني إلا ليال قلائل. ومنه قول امرئ القيس:

كأنّ الحصى من خلفِها وأمامها

إذا نَجَلَتْه رجلُها حَذْفُ أعْسَرا

ومثله قول الراجز يصف رجلا خشن القدم:

قد سالم الحَيّاتُ منه القدما

الأُفْعُوانَ والشُّجاعَ الشَّجْعما

وذات قَرْنين ضَموزا ضِرْزِما

ص: 379

أراد: قد سالم الحيات منه القدم والقدم الأفعوان والشجاع الشجعم وذات قرنين.

ومن أمثلة حذف الفاء مع معطوفها قوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت يأيها الملأ) لأن المعنى: فذهب فألقاه فقالت. وحذف أكثر من ذلك في قوله تعالى: (فأرسلون * يوسف أيها الصديق) لأن المعنى: فأرسلوه فدنا فقال.

ومن أمثلة حذف أم مع معطوفها قول أبي ذؤيب:

دعاني إليها القلبُ إني لأمرها

سميعٌ فما أدري أرُشْد طلابها

أي: فما أدري أرشد طلابها أم غي.

ومن حذف الواو وبقاء ما عطفت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره" أي: من ديناره إن كان ذا دينار، ومن درهمه إن كان ذا درهم، ومن صاع بره إن كان ذا بر، ومن صاع تمره إن كان ذا تمر. ومنه سماع أبي زيد: أكلت خبزا لحما تمرا، أراد: خبزا ولحما، وتمرا. ومنه قول الشاعر:

كيف أصبحتَ كيف أمسيتَ مما

يَغْرِسُ الوُدَّ في فُؤادِ الكريم

أراد: كيف أصبحت وكيف أمسيت، فحذف الواو.

ص: 380

ومن حذف "أو" وبقاء ما عطفت قول عمر رضي الله عنه: "صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقَباء" أي: ليصل رجل في إزار ورداء، أو إزار وقميص، أو إزار وقَباء. وحكى أبو الحسن في المعاني أن العرب تقول: أعطه درهما، درهمين، ثلاثة، بمعنى أو درهمين أو ثلاثة.

ومن الاستغناء بالمعطوف بالواو عن المعطوف عليه بعد بلى وشبهها قولك لمن قال: ألم تضرب زيدا؟ بلى وعمرا. ولمن قال: ألفت سعدا؟ نعم وأخاه. ومن الاستغناء عنه في ذلك قول بعض العرب: وبك وأهلا وسهلا، لمن قال: مرحبا وأهلا، أي بك مرحبا وأهلا وسهلا، ومنه قول نهشل بن ضمرة:

قبح الإله الفقعسي ورهطه

وإذا تأوَّهت القلاصُ الضُّمَّرُ

ولحا الإله الفقعسي ورهطه

وإذا توقَّد في النِّجاد الحَزْوَرُ

أي: قبحه الله كل حين وإذا تأوهت القلاص، ولحاه الله كل حين وإذا توقد في النجاد الحزور. ومنه والله أعلم قوله تعالى:(فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) أي: لو ملكه ولو افتدى به. ومثله: (ولتصنع على عيني) أي: لترحم ولتصنع على عيني.

ومن حذف ما عطف عليه بالفاء قوله تعالى: (أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) وقوله: (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) أي: فضرب فانفجرت، و: فضرب فانفلق.

ص: 381

وشاهد من حذف المعطوف عليه قول أمية الهذلي:

فهل لك أو من والدٍ لك قبلها

يُرَسِّحُ أولاد العشار ويَفْصِل

أراد: فهل لك من أخ أو من والد.

ومن تقديم المعطوف بالواو للضرورة قول أبي سافع الأشعري:

إن الغزال الذي كنتم وحليتَه

تقنونه لصروف الدهر والغير

طافت به عصبة من شر قومهم

أهل العلا والندى والبيت ذي الستر

ومثله قول كثير:

كأنّا على أولاد أحْقَب لاحَها

ورَمْيُ السَّفا أنفاسَها بسهام

جنوبٌ دنت عند التناهي وأنزلتْ

به يوم ذَبَّابِ السبيب صيام

والأصل في الشاهد الأول: كنتم تقنونه وحليته. والأصل في الشاهد الثاني: لاحها جنوب ورمي السفا.

وحكم الاسمين المعطوف أحدهما على الآخر بالواو حكم المثنى، فلا بد فيما يعلق بهما من خبر وضمير وغيرهما من المطابقة، كما لا بد منها فيما يعلق بالمثنى، نحو: زيد وعمرو منطلقان، ومررت بهما، كما يقال: الرجلان منطلقان، ومررت بهما.

فإن كان العطف بلا، أو بأو، أو ببل أو بلكن وجب إفراد ما بعده من خبر وغيره فيقال: زيد لا عمرو منطلق، ومررت به، وكذا يقال بعد أو وبل ولكن.

وإن كان العطف بالفاء أو ثم جاز الإفراد والمطابقة، فيقال: زيد فعمرو

ص: 382

منطلق، ومررت به، وبشر ثم محمد ذاهب ونظرت إليه، ويجوز منطلقان ومررت بهما، وذاهبان ونظرت إليهما.

وإلى هذا أشرت بقولي: وإن صلح لمعطوف ومعطوف عليه مذكور بعدهما، إلى آخره.

ثم نبهت على جواز عطف الفعل على الاسم، وعطف الاسم على الفعل إذا سهل تأولهما بفعلين أو اسمين، فمن عطف الفعل قوله تعالى:(أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن) وقوله تعالى: (فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا) ومن عطف الاسم على الفعل قوله تعالى: (يخرج الحيّ من الميت ومخرجُ الميت من الحي) وقول الراجز:

يارُبَّ بيضاء من العَواهِج

أمَّ صبِيٍّ قد حبا أو دارج

ومثله قول الآخر:

بات يُعَشِّيها بسيف باتِر

يَقْصِدُ في أسْوُقها وجائر

وحسن ذلك سهولة تأول المخالف بموافق، لتأول يقبض بقابضات، وأثرن بالمثيرات، ومخرج بيخرج.

ونبهت أيضا على جواز عطف الفعل الماضي على المضارع، والمضارع على الماضي إذا كان زمانهما واحدا بنحو:(إنْ شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) و: (إن نشأ ننزل عليهم من

ص: 383

السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين).

وجعل أبو علي الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف والجار والمجرور مخصوصا بالضرورة، واستشهد بقول الأعشى:

يوما تراها كشِبْه أرْدِيَة الـ

عَصْبِ ويوما أديمُها نَغلا

وهو جائز في أفصح الكلام المنثور إن لم يكن المعطوف فعلا ولا اسما مجرورا، وهو في القرآن كثير كقوله تعالى:(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) وقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن).

فلو كان المعطوف فعلا لم يجز الفصل المذكور بوجه، فلو كان اسما مجرورا أعيد معه الجار، نحو: مر الآن بزيد وغدا بعمرو. وإن لم يعد وجب النصب بفعل مضمر، كقوله تعالى:(فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب) في قراءة حمزة وابن عباس وحفص، أي: ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب، ويجوز جر يعقوب بياء محذوفة، وهو أسهل من الجر بمضاف محذوف بعد فصل، كقراءة من قرأ:(والله يريد الآخرةِ) أي: عرض الآخرة.

ص: 384