المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب التعجب ص: ينصب المتعجب منه مفعولا بموازن أفعل فعلا لا - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٣

[ابن مالك]

الفصل: ‌ ‌باب التعجب ص: ينصب المتعجب منه مفعولا بموازن أفعل فعلا لا

‌باب التعجب

ص: ينصب المتعجب منه مفعولا بموازن أفعل فعلا لا اسما، خلافا للكوفيين غير الكسائي، مخبرا به عن "ما" متقدمة بمعنى شيء، لا استفهامية خلافا لبعضهم، ولا موصوفة خلافا للأخفش في أحد قوليه وكأفْعؤل خبرا لا أمرا مجرورا بعده المتعجب منه بباء زائدة لازمة. وقد تفارقه إنْ كان أنْ وصلتها وموضعه رفع بالفاعلية لا نصب المفعولية خلافا للفراء والزمخشري وابن خروف. واستفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط، كما استفيد الأمر من مثبت الخبر والنهي من منفيه. وربما استفيد الأمر من الاستفهام ولا يتعجب إلا من مختص، وإذا علم جاز حذفه مطلقا، وربما أكد أفعل بالنون، ولا يؤكد مصدر فعل تعجب ولا أفعل تفضيل.

ش: للتعجب ألفاظ كثيرة لا يتعرض لها النحويون في باب التعجب كقول العرب: لله أنت، وواها له، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه:"سبحان الله إن المؤمن لا ينجس"، ومن ألفاظه فَعُل المتقدم ذكره في باب نعم نحو: قَضُو الرجلُ زيد، ومنها المذكور في باب الاستغاثة نحو ياللماء، ومنها ما يذكر في باب القسم من نحو لله لا يؤخر الأجل. وإنما يبوب في النحو من ألفاظه لأفْعَلَ وأفِعِل، وهما فعلان غير متصرفين ولا خلاف في فعلية أفعِلْ، لأنه على وزن مختص بالأفعال، ولأنه قد يؤكد بالنون كقول الشاعر:

ومُسْتبدل من بَعْد غَضْيَى صُرَيْمة

فأحْرِ به من طول فقرٍ وأحْرِيا

ص: 30

أراد أحرِيَنْ فأبدل النون للوقف.

وأما أفعلَ فمختلف في فعليته عند الكوفيين، متفق على فعليته عند البصريين، وهو الصحيح، للزوم اتصال نون الوقاية عاملا في ياء المتكلم نحو ما أفقرني إلى عفو الله، ولا يكون كذلك إلا فعل. ولا يرد على هذا عليكني ولا رويدني، فإنه قد يقال فيهما عليك بي ورويدلي فيستغنى فيهما عن نون الوقاية بالباء واللام بخلاف ما أفقرني ونحوه فإن النون فيه لازمة غير مستغنى عنها بغيرها. والمتعجب منه منصوب بأفعَلَ على المفعولية إن وقع بعده نحو: ما أثبت الحقَّ وما أدحض الباطل، ومجرور بباء لازمة إن وقع بعد أفْعِل نحو أكِرِم بزيد. وما الواقعة قبل أفعلَ اسم مبتدأ بلا خلاف، لأن أفعل ثابت الفعلية ولا بد له من فاعل، وليس ظاهرا فيتعين كونه ضميرا ولا مذكور يرجع إليه غير "ما" فتعين كونها اسما. وبعد ثبوت اسميتها فهي إما بمعنى شيء، وإما بمعنى الذي وإما استفهامية والقول الأول قول البصريين، وهو الصحيح، لأن قصد المتعجب الإعلام بأن المتعجب منه ذو مزية إدراكها جلي، وسبب الاختصاص بها خفي، فاستحقت الجملة المعبر بها عن ذلك أن تفتتح بنكرة غير مختصة ليحصل بذلك إبهام متلوّ بإفهام. ولا ريب أن الإفهام حاصل بإيقاع أفعل على المتعجب منه إذ لا يكون إلا مختصا، فيتعين كون الثاني مقتضيا للإبهام وهو "ما" فلذلك اختير القول بتنكيرها، ولا يمتنع الابتداء بها وإن كانت نكرة غير مختصة، كما لم يمنع الابتداء بمَن وما الشرطيتين والاستفهاميتين.

ووافق أبو الحسن الأخفش على صحة جعل ما التعجبية نكرة، وأجاز كونها موصولة بفعل التعجب مخبرا عنهما بخبر لازم الحذف، فيتحصل أيضا بقوله هذا إفهام وإبهام، فحصول الإفهام بذكر المبتدأ وصلته وحصول الإبهام بالتزام حذف الخبر، إلا أن هذا القول يستلزم مخالفة النظائر من وجهين: أحدهما تقدم الإفهام وتأخير الإبهام، والمعتاد فيما تضمن من الكلام إفهاما وإبهاما تقديم ما به الإبهام وتأخير ما به الإفهام، كما فعل بضمير الشأن ومفسره، وبضميري نعم ورُبّ، بالعموم والتخصيص وبالمميز والتمييز وأشباه ذلك. الثاني كون الخبر ملتزم الحذف دون شيء يسد مسدّه، والمعتاد في الخبر الملتزم الحذف أن يسدّ مسدّه شيء يحصل به استطالة كما فعل بعد لولا وفي عمرك لأفعلنّ، فالحكم بموصولية "ما" وكون الخبر

ص: 31

محذوفا دون استطالة حكم بما لا نظير له، فلم يعوّل عليه ولا أجيب الداعي إليه.

وأيضا يقال لمَن ذهب هذا المذهب أخبرني عن الخبر الذي ادّعيت حذفه أمعلوم هو أم مجهول؟. فإن قال هو معلوم فقد أبطل الإبهام المقصودُ، وإن قال هو مجهول لزمه حذف مالا يصح حذفه، فإن شرط صحة حذف الخبر ألا يكون مجهولا، وهذا كاف في بيان ضعف القول بأن "ما" التعجبية موصولة بفعل التعجب.

وأما كونها استفهامية وهو قول الكوفيين فليس بصحيح، لأن قائل ذلك إمّا أن يدّعي تجرّدها للاستفهام وإمّا أن يدّعي كونها للاستفهام والتعجب معا، كما هي في قوله تعالى:(فأصْحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) فالأول باطل بإجماع، لأن اللفظ المجرد للاستفهام لا يتوجه ممن يعلم إلى من لا يعلم، وما أفعله صالح لذلك فلم يكن لمجرد الاستفهام. والثاني أيضا باطل، لأن الاستفهام المشوب بتعجب لا يليه غالبا إلا الأسماء نحو (وأصحابُ اليمين ما أصحاب اليمين)، (وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال) و (الحاقَّةُ * ما الحاقَّةُ) و (القارعةُ * ما القارعةُ) ونحو قول الشاعر:

يا سَيِّدًا ما أنت مِن سيِّد

موطّأِ الأكنافِ رَحْبِ الذِّراع

ومثله:

يا جارتا ما أنت جاره

و"ما" المشار إليها مخصوصة بالأفعال، فعلم أنها غير المتضمنة استفهاما، وأيضا لو كان فيها معنى الاستفهام لجاز أن تخلفها "أيّ في نحو: ما أنت من

ص: 32

سيّد، لأن استعمال أيّ في الاستفهام المتضمن تعجبا كثير كقوله:

أيُّ فتى هَيْجاءَ أنتَ وجارِها

وأيضا فإن قصد التعجب بما أفعله مجمع عليه، وكونه مشوبا بالاستفهام، أو ملموحا فيه الاستفهام زيادة لا دليل عليها، فلا يلتفت إليها.

وفي أفْعِل المتعجب به مع الإجماع على فعليته قولان: أحدهما أنه في اللفظ أمر وفي المعنى خبر إنشائي مسند إلى المتعجب منه المجرور بالباء، والثاني أنه أمر باستدعاء التعجب من المخاطب مسندا إلى ضميره وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشري وابن خروف. والأول هو الصحيح لسلامته مما يرد على الثاني من إشكالات: أحدها أنه لو كان الناطق بأفِعلْ المذكور آمرا بالتعجب لم يكن متعجبا كما لا يكون الأمر بالحلف والتشبيه والنداء حالفا ولا مشبّها ولا مناديا، ولا خلاف في كون الناطق بأفْعِلْ المذكور متعجبا، وإنما الخلاف في انفراد التعجب ومجامعة الأمرية. الثاني أنه لو كان أمرا مع الإجماع على فعليته لزم إبراز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يلزم مع كل فعل أمر، متصرفا كان أو غير متصرف، ولا يعتذر عن ذلك بأنه مثل أو جار مجرى المثل، لأن المثل يلزم لفظا واحدا دون تبديل ولا تغيير في نحو "أطِرّي فإنك ناعلة" و"خلالكِ الجوُّ فبيضي واصفري"، والجاري مجرى المثل يلزم لفظا واحدًا مع اعتبار بعض التغيير نحو حبذا، ولله درك، فألزم لفظ حبذا ولله درك.

وأجيز أن تختم الجملتان بما كان للناطق بهما غرض في الختم به، وأفعِل المذكور لا يلزم لفظا واحدا أصلا، فليس مثلا ولا جاريا مجرى المثل. فلو كان فعل أمر مسندا إلى ضمير

ص: 33

المخاطب لبرز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يلزم مع غيره من أفعال الأمر العارية من المثلية. وقيدت أفعال الأمر بالعارية من المثلية احترازا من نحو "خُذ ما صفا ودَعْ ما كَدر" و"زر غِبّا تزدد حُبّا". على أن قولهم "اذهب بذي تسلم" أشبه بالأمثال وأحق بأن يجرى مجراها، ولم يمنع ذلك من بروز فاعل الفعلين في التثنية والجمع والتأنيث. فلو كان أفعِلْ المذكور فعل أمر جاريا مجرى المثل لعومل معاملة "اذهب بذي تسلم". الثالث من الإشكالات أن أفعِلْ المذكور لو كان أمرا مسندا إلى المخاطب لم يجز أن يليه ضمير المخاطب نحو أحسن بك، لأن في ذلك إعمال فعل واحد في ضميرين فاعل ومفعول لمسمى واحد. الرابع من الإشكالات أن أفعِلْ المشار إليه لو كان بمعنى الأمر لا بمعنى أفعَلَ تالي "ما" لوجب له الإعلال إذ كانت عينه ياء أو واوا ما وجب لأبِن وأقم ونحوهما ولم يُقل أبين وأقوِمُ فيلزم مخالفة النظائر.

فإذا جعل مخالفا لأبن وأقم ونحوهما في الأمرية موافقا لأبْيَن وأقْوَم من ما أبْيَنَه وما أقْوَمه في التعجب سلك سبيل الاستدلال وأمن الشذوذ في التصحيح والإعلال. وقد تبيّن بتقدير ما ذكرته فاعلية ضمير أفعِلْ به المجرور بالباء. وهو نظير المجرور بعد كفى في نحو (كفى بالله شهيدا) إلا أن بينهما فرقا من وجهين: أحدهما أن الباء في "كفى بالله شهيدا" ونحوه قد تحذف ويرتفع مصحوبها كقول الشاعر:

عَمَيرة ودّعْ إنْ تَجهَّزتَ غاديا

كفى الشيبُ والإسلامُ للمَرْء ناهيا

والباء الجارة ما بعد أفعِلْ لا تحذف إلا إذا كان مصحوبها أنْ والفعل، كقوله:

ص: 34

وقال نبيُّ المسلمين تقدَّموا

وأحْبِب إلينا أن تكونَ المُقدَّما

ولو اضطر شاعر إلى حذف الباء المصاحبة غير "أنْ" بعد أفعِلْ لزمه أن يرفع، وعلى مذهب الفراء يلزمه النصب، ولا حجة له في قول الشاعر:

ألا طرقتْ رحالَ القومِ ليلى

فأبْعدْ دارَ مرتحلٍ مَزارا

لإمكان جعل أبعِدْ دعاء على معنى أبعد الله دار مرتحل عن مزار محبوبه، كأنه يحرض نفسه على الإقامة في منزل طروق ليلى، لأنه صار بطروقها مزارا، ولا حجة له في قول الشاعر:

وأجْدرْ مثل ذلك أن يكونا

لاحتمال أن يكون أجدرْ فعل أمر عاريا من تعجب بمعنى اجعل مثل ذلك جديرا بأن يكون، أي حقيقا بالكون، يقال جدُر بكذا جَدارة، أي صار به جديرا وأجدرته أي جعلته جديرا أي حقيقا. ويحتمل أن يكون أجدر فعل تعجب مسندا إلى مثل ذلك ثم حذفت الباء اضطرارا واستحق مصحوبها الرفع بحق الفاعلية، لكنه بُني لإضافته إلى مبنى، كما بُني في قوله تعالى:(إنّه لَحَقٌّ مِثلَ ما أنّكُم تنطِقُون) على قراءة غير أبي بكر وحمزة والكسائي.

الثاني من وجهي الفرق أن كفى قد تسند إلى غير المجرور بالباء فيكون هو في موضع نصب ولا يفعل ذلك بأفْعِلْ أصلا. ومن المواضع التي أسند فيها كفى إلى غير المجرور بالباء قول الشاعر:

ص: 35

فكفى بنا فَضْلا على مَن غيرنا

حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا

ونظير ما جاء في التعجب من لفظ الأمر مرادا به الخبر ما جاء من ذلك في جواب الشرط كقوله تعالى (قل مَن كان في الضَّلالة فلْيَمْدُدْ له الرحمن مَدّا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وإلى هذا النوع أشرت بقولي "واستفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط" ثم قلت: "كما استفيد الأمر من مثبت الخبر والنهي من منفيه" فمثال الأول قوله تعالى (والمطلّقات يتربّصْن بأنفسهنّ ثلاثةَ قروء). ومثال الثاني قوله تعالى: (لا تُضارَّ والدةٌ بولدها) بضم الراء وهي قراءة ابن كثير. ثم قلت "وربما استفيد الأمر من الاستفهام" مشيرا إلى نحو قوله تعالى (وقل للذين أوتوا الكتاب والأمِّيِّين أأسْلَمْتم) وقوله تعالى (فهلْ أنتم مُنْتَهون).

ثم قلت: "ولا يتعجب إلا من مختص" فنبهت بذلك على أن المتعجب منه مخبر عنه في المعنى فلا يكون إلا معرفة أو نكرة مختصة، فيقال: ما أحسنك وما أكرم زيدا، وما أسعد رجلا اتقى الله، ولا يقال ما أحسن غلاما، ولا ما أسعد رجلا من الناس، لأنه لا فائدة في ذلك.

ص: 36

ثم قلت: "وإذا عُلم جاز حذفه" أي إذا علم المتعجب والمقصود به جاز حذف معمول أفْعَل كان أو معمول أفْعِلْ فمثال حذف معمول أفْعَل قول الشاعر:

جزى اللهُ عنّا بخْتريّا ورهْطَه

بني عَبد عمرو ما أعَفَّ وأمْجَدا

أراد ما أعفّهم وأمجدهم، فحذف لكون المراد معلوما. ومثال حذف معمول أفعِلْ قول الآخر:

فذلك إنْ يلقَ المنيّة يَلْقَها

حميدًا وإنْ يَسْتغن يوما فأجْدِر

أي فأجْدِرْ به، فحذف للعلم به مع كونه فاعلا، لأن لزومه الجر كساه صورة الفضلة، ولأنه معمول أفعل في المعنى.

وزعم قوم أنه ليس محذوفا، ولكن استتر في الفعل حين حذفت الباء (كاستتاره) من قولك زيد كفى به فارسا فتقول زيد كفى فارسا. وهذه الدعوى لا تصح، لأن صحتها تستلزم أن يبرز الضمير في التثنية والجمع، كما يبرز في كفى إذا قيل في الزيدان كفى بهما فارسين، والزيدون كفى بهم فرسانا: الزيدان كفيا فاسين، والزيدون كفوا فرسانا. ومعلوم أنه لا يبرز ضمير مع أفعل، كقوله تعالى (أسْمِعْ بهم وأبْصِرْ) فعلم بذلك عدم صحة الدعوى المذكورة. ومما يدل على عدم صحتها أن من الضمائر ما لا يقبل الاستتار كنا من نحو أكرم بنا وأحلمْ بنا فلو حذف الباء ولم يقصد حذف لقيل "أكرم بنا وأحلمنا" لأن "نا" لا تقبل الاستتار، والمقول إنما هو أكرم بنا وأحلمْ بنا ونحو ذلك كما قال الراجز:

أعْزِزْ بنا وأكفِ إنْ دُعينا

يومًا إلى نُصرة مَن يَلينا

وقد يتوهم أن أفعِل أمر خوطب به المصدر على سبيل المجاز كأن من قال أحسِنْ

ص: 37

به [قال أحسِنْ يا حُسْنُ به]. فلهذا لزم الإفراد والتذكير. أشار إلى هذا أبو علي في البغداديات منفرا وناهيا عنه. ومما يبين فساده أن من المصادر المصوغ منها أفْعِلْ ما لا يكون إلا مؤنثا كالسهولة والنجابة، فلو كان الأمر ما توهمه صاحب هذا الرأي لقيل في أسهِل به وأنجب به. أسهلي به وأنجبي به، لكنه لم يقل، فصح لذلك فساد ما أدّى إليه.

ولشبه أفْعِلْ بفعل الأمر جاز أن يؤكد بالنون كقول الشاعر:

ومُسْتبدلٍ من بعد غَضْيى صُريمة

فأحْرِ به من طول فقْرٍ وأحْريا

وهذا إلحاق شيء بشيء لمجرد شبه لفظي، وهو نظير تركيب النكرة مع لا الزائدة لشبهها بلا النافية، وقد تقدم الاستشهاد على ذلك. ولما كان فعل التعجب دالا على المبالغة والمزية استغنى عن توكيده بالمصدر وكذا أفعل التفضيل. وعلى ذلك نبهت بقولي "ولا يؤكد مصدر فعل التعجب ولا أفعل التفضيل".

ص: "همزة أفعل في التعجب لتعدية ما عدم التعدي في الأصل أو الحال. وهمزة أفْعِل للصيرورة ويجب تصحيح عينهما، وفكّ أفعِلْ المضعّف. وشذ تصغير أفعَلَ مقصورا على السماع، خلافا لابن كيسان في اطراده وقياس أفْعِلْ عليه، ولا يتصرفان ولا يليهما غير المتعجب منه إن لم يتعلق بهما، وكذا إن تعلق بهما وكان غير ظرف وحرف جر. فإن كان أحدهما فقد يلي وفاقا للفراء والجرمي والفارسي وابن خروف والشلوبين. وقد يليهما عند ابن كيسان "لولا" الامتناعية".

ش: يدل على كون همزة فعل المتعجب به معدية حدوث التعدي بزيادتها على ما لا تعدى له كقولك في حسُن زيد وجزع بكر وصبر خالد: ما أحسن زيدا، وما أجزع بكرا، وما أصبر خالدا. وإلى هذه الأفعال الثلاثة وشبهها أشرت بعدم

ص: 38

التعدي في الأصل. وأشرت بعدم التعدي في الحال إلى نحو ما أعرف زيدا بالحق، فإن عرف قبل التعجب متعد بنفسه إلى الحق، فلما قصد به التعجب ضمن معنى ما لا يتعدى من أفعال الغرائز، كقوى وكمل وضعف ونقص، فقصر عن نصب ما كان منصوبا به وعدي إليه بالباء كما يعدى بصُر ونحوه مما هو في أصله غير متعد. وصار ما كان فاعلا قبل مفعولا كما يصير فاعل ظهر من قولك ظهر الحق مفعولا إذا دخلت عليه الهمزة فقلت أظهرت الحق. ولا يصح قول من زعم أن أفعل المتعجب به لا يكون إلا من فعُل موضوعا أو مردودا إليه لوجهين: أحدهما أن فعِل وفعَل كجزع وصبر يساويان فعُل في عدم التعدي وقبول همزة التعدية، فتقدير ردهما إلى فعُل لا حاجة إليه. الثاني أن من الأفعال ما رفضت العرب صوغه على فعُل وهو المضاعف واليائي العين أو اللام. فإن قصد بمضاعف معنى غريزي دلوا عليه في غير شذوذ بفعِل نحو جلّ يجِل وعزّ يعِزّ وخفّ يخِفّ وقلّ يقلّ. ونسب إلى الشذوذ نحو لببت وكذا استغنوا في اليائي العين عن فعُل بفعِل نحو طاب يطيب، ولان يلين وضاق يضيق. وأما اليائي اللام فاستغنى فيه عن فعُل بفعِل نحو حيّ وعيّ وغني. فإن قصد التعجب بشيء من هذه الأنواع أدخلت هذه الهمزة عليها ولم يقدّر ردّها إلى فعُل، لأن فعُل فيها مرفوض.

وهمزة أفْعِل المتعجب به للصيرورة أي لتحول فاعله ذا كذا. فأصل قولك أحسن بزيد: أحسن زيد، أي صار ذا حُسن تام. وهو نظير أثري الرجل صار ذا ثروة وأترب أي صار ذا مال كالتراب، وأنجب وأظرف صار ذا ولد نجيب وذا ولد ظريف، وأخْلت الأرضُ وأكلأت وأكمأت، صارت ذات خلاء وكلأن وكمأة، وأورقت الشجرة وأزهرت وأثمرت، صارت ذات ورق وزهر وثمر.

وإذا كانت عين أفعل المتعجب به ياء أو واوا وجب تصحيحها نحو ما أبين الحق، وأنوره وأصله الإعلال لكن صحيح حملا على أفعَل وزنا ومعنى فأتبع أحدهما الآخر فيما هو أصل فيه. كما أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل وأجرى المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجرى الحسن الوجهَ على الضارب الرجلَ [في النصب]، والضارب الرجلِ على الحسن الوجه في الجر، ثم

ص: 39

حمل أفْعِل المتعجب به على أخيه، فقيل أبين بالحق وأنور به، كما قيل ما أبينه وأنوره.

ولزم فك أفعل المضاعف نحو أجللْ به وأعزز، لأن سبب الإدغام في هذا النوع إنما هو تلاقي المثلين تمصلين متحركين تحركا غير عارض أو ساكنا أحدهما سكونا غير لازم كسكون أجللْ إذا لم يكن تعجبا، لأنه معرّض للحركة في نحو: أجلل الله وأجلّاه وأجلّوه وأجلّيه. فلذلك لم يجب فك أجلل إذا لم يكن تعجبا. ووجب إذا كان إياه. ولشبه أفْعَل المتعجب به بأفعل التفضيل أقدم على تصغيره بعض العرب فقال:

ياما أُمَيْلحَ غِزْلانًا شدَنّ لنا

مِن هؤليّائِكُنّ الضّالِ والسَّمُرِ

وهو في غاية من الشذوذ فلا يقاس عليه فيقال في ما أجمله وما أظرفه ما أجيمله وما أظيرفه، لأن التصغير وصف في المعنى والفعل لا يوصف فلا يصغّر. وأجاز ابن كيسان اطراد تصغير أفْعَل، ولم يكفه ذلك حتى أجاز تصغير أفْعِلْ وضعف رأيه في ذلك بيّن وخلافه متعيّن.

ولا خلاف في عدم تصرف فعلي التعجب ولا في منع إيلائهما ما لا يتعلق بهما كعند الحاجة، وبمعروف من قولك ما أنفع معطيك عند الحاجة، وما أصلح أمرك بمعروف، وأنفِع بمعطيك عند الحاجة، وأصلِحْ بأمرك بمعروف. ولا خلاف في منع إيلائها ما يتعلق بهما من غير ظرف وجار ومجرور نحو ما أحسن زيدا مقبلا، وأكرِمْ به رجلا. فلو قلت ما أحسن مقبلا زيدا وأكرم رجلا به لم يجز بإجماع. وكذا لا يجوز بإجماع تقديم المتعجب منه نحو ما زيدا أحسن وبه أكرم، لأن فعلي التعجب أشبها الحروف بمنع التصرف فجريا مجراها في منع تقدم معمولها. فلو فصل بينهما وبين المتعجب منه بما يتعلق بهما من ظرف وجار ومجرور لم يمتنع ولم يضعف، لثبوت ذلك نثرا ونظما وقياسا، فمن النثر قول عمرو بن معد يكرب رحمه الله: لله در بني

ص: 40

سليم، ما أحسن في الهيجاء لقاءها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وروي أن عليا رضي الله عنه مرّ بعمّار فمسح التراب عن وجهه وقال: أعزز عليّ أبا اليقظان أن أراك صريعا مجدلا، ففصل بين أعزز وأن أراك بعَلَيّ و"أبا اليقظان". وهذا مصحح الفصل بالنداء. ومن النظم قول بعض الصحابة رضي الله عنهم:

وقال نبيُّ المسلمين تقَدّموا

وأحْبِبْ إلينا أن تكون المُقَدَّما

ومنه قول الآخر:

أقيم بدار الحزم ما دام حزمُها

وأحْر إذا حالتْ بأنْ أتحوّلا

ومنه قول الآخر:

فصدّتْ وقالتْ بل تريد فَضيحتي

وأحْبِبْ إلى قلبي بها مُتَغضّبا

ومنه قول الآخر:

خليليّ ما أحرى بذي اللُّبِّ أنْ يُرى

صَبورا ولكن لا سبيلَ إلى الصبر

ومنه قوله:

حلُمت وما أشفى لمَن غِيظ حلْمَه .. فآضَ الذي عاداكَ خِلّا مُواليا

وأما صحة هذا الفصل قياسا فمن قبل أن الظرف والجار والمجرور مغتفر الفصل بهما بين المضاف والمضاف إليه مع أنهما كالشيء الواحد، فاعتبار الفصل بهما بين فعلى التعجب والمتعجب منه وليسا كالشيء الواحد أحق وأولى. وأيضا فإن بئس أضعف من فعل التعجب وقد فصل بينه وبين معموله بالجار والمجرور في قوله تعالى

ص: 41

(بئس للظالمين بدلا) فأن يقع مثل ذلك بين فعل التعجب ومعموله أولى بالجواز وهذا الدليل ذكره أبو علي الفارسي في البغداديات. وفي ذلك الكتاب مبين أنه من المجيزين للفصل المشار إليه. وأما كون ذلك مذهب الجرمي فمشهور. واختار هذا المذهب ابن خروف في شرح كتاب سيبويه. وقال أبو علي الشلوبين: حكى الصيمري أن مذهب سيبويه منع الفصل بالظرف بين فعل التعجب ومعموله. والصواب أن ذلك جائز وهو المشهور المنصور، هكذا قال أبو علي وهو المنتهى في هذا الفن نقلا وفقها. وقال السيرافي في قول سيبويه: ولا يزيل شيئا عن موضعه؛ وإنما أراد بذلك تقدم "ما" وتوليها الفعل، ويكون الاسم المتعجب منه بعد الفعل، ولم يتعرض للفصل بين الفعل والمتعجب منه. وكثير من أصحابنا يجيز ذلك منهم الجرمي وكثير يأباه منهم الأخفش والمبرد. وقال الزمخشري بعد أن حكم بمنع الفصل، وقد أجاز الجرمي وغيره من أصحابنا الفصل وينصرهم قول القائل: ما أحسن بالرجل أن يصدق. ومن العجائب اعترافه بنصرهم وتنبيهه على بعض حججهم بعد أن خالفهم بلا دليل.

ولما كان فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضي، وكان المتعجب منه صالحا للمضي أجازوا زيادة كان إشعارا بذلك عند قصده نحو ما كان أحسن زيدا. وكقول

ص: 42

بعض مدّاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ما كان أسْعَدَ مَن أجابك آخِذا

بهُداكَ مجْتَنبا هوًى وعنادا

وقد تقدم في باب كان الكلام على هذا وشبهه. ولكنني أشرت هنا إليه تنبيها وتوكيدا. وأجاز ابن كيسان الفصل بين أفعل والمتعجب منه بلولا الامتناعية ومصحوبها، كقولك: ما أحسن لولا عبوسه زيدا. ولا حجة في ذلك.

ص: ويجر ما تعلق بهما من غير ما ذكر بإلى إن كان فاعلا، وإلا فبالباء إن كان من مفهم علما أو جهلا، وباللام إن كانا من متعد غيره. فإن كانا من متعد بحرف جر فبما كان يتعدى به. ويقال في التعجب من كسا زيد الفقراء الثياب، وظن عمرو بشرا صديقا: ما أكسى زيدا للفقراء الثياب، وما أظنّ عمرا لبشر صديقا. وينصب الآخر بمدلول عليه بأفعل لا به خلافا للكوفيين.

ش: الإشارة بما ذكر إلى المتعجب منه والظرف والحال والتمييز، فما ليس واحدا منها وله تعلق بفعل التعجب يجر بإلى إن كان فاعلا في المعنى نحو ما أحبني إلى زيد، فزيد فاعل في المعنى، لأن المراد يحبني زيد حبا بليغا فائقا، وإن لم يكن فاعلا في المعنى جر بالباء إن كان فعل التعجب مصوغا من فعل علم أو جهل نحو ما أعرفني بزيد، وما أجهله بي. وإن صيغ من غير ذلك وكان فعل التعجب متعديا عُدي في التعجب باللام نحو ما أضربني لعمرو، فإن كان فعل التعجب متعديا بحرف جر عدي به حال التعجب نحو ما أزهد زيدا في الدنيا، وما أبعده من الشر، وما أصبره على الأذى. فإن كان فعل التعجب متعديا إلى اثنين جررت الأول باللام ونصبت الثاني عند البصريين بمضمر مجرد مماثل لتالي "ما" نحو قولك: ما أكسى زيدا للفقراء الثياب. والتقدير يكسوهم الثياب. وكذا يقولون في ما أظن عمرا لبشر صديقا. والكوفيون لا يضمرون، بل ينصبون الثاني بتالي "ما" نفسه. وذكر هذه المسألة ابن كيسان في "المهذّب".

ص: 43

فصل: ص: "بناء هذين الفعلين من فعل ثلاثي مجرد تام مثبت متصرف قابل معناه للكثرة غير مبني للمفعول، ولا معبّر عن فاعله بأفعل فعلاء. وقد يبنيان من فعل المفعول إن أُمِن اللبس، ومن فِعْل أفْعَلَ مفَفهم عسر أو جهل، ومن مزيد فيه. فإن كان أفعل قيس عليه وفاقا لسيبويه. وربما بنيا من غير فعل، أو فعل غير متصرف. وقد يغني في التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط كما يغني في غيره. ويتوصل إلى التعجب بفعل مثبت متصرف مصوغ للفاعل ذي مصدر مشهور، إن لم يستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجب منه مضافا إليه بعدما أشد أو أشدد ونحوهما [وإن لم يعدم الفعل إلا الصوغ للفاعل جيء به صلة لما المصدرية آخذة ما للمتعجب منه بعدما أشد أو أشدد ونحوهما] ".

ش: قيّد ما يبنى منه فعل التعجب بكونه فعلا تنبيها على خطأ مَن يقول من الكلب ما أكلبه، ومن الحمار ما أحمره، ومن الجلف ما أجلفه. وقَيّد بكونه ثلاثيا ليعلم امتناع بنائه من ذي أصول أربعة مجردا كان كدحرج، أو غير مجرد كابرنشق. وقيّد كون الثلاثي مجردا تنبيها على أن حقه ألا يبنى من مزيد فيه كعلّم وتعلّم وقارب واقترب. وقيد بكونه فعلا تاما تنبيها على أنه لا يبنى من فعل ناقص ككان وظل وكرب وكاد، وقيد بكونه مثبتا تنبيها على أنه لا يبنى من فعل مقصود نفيه، لزوما كلم يعِج، أو جوازا كلم يعُج، وقيد بالتصريف تنبيها على امتناع بنائه من يذر ويدع ونحوهما. وقيد بقبول معناه للكثرة تنبيها على امتناع بنائه من مات وفنى ونحوهما. وقيد بكونه غير مبني للمفعول تنبيها على أن حقه أن يبنى نم فعل الفاعل كعَلِم لا من فعل المفعول كعُلم. وقيد بكونه لا يعبر عن فاعله بأفعل فعلاء احترازا من شنب ودعج ولمِي وعرج ونحوهما من الأفعال التي بناء الوصف منها للمذكر أفعل

ص: 44

وللمؤنث فعلاء. ولا فرق في هذا النوع بين ما هو من العيوب كبرص وخرس وحول وعور وبين ما هو من المحاسن كشهل وكحل وظمي ولمي. وإنما لم يبن من هذا النوع فعل التعجب، لأن مبناه من الفعل أن يكون ثلاثيا محضا، وأصل الفعل في هذا النوع أن يكون على أفعل، ولذلك صحت فيه العين إذا كان ثلاثي اللفظ كهيف وحيد وعور وحول ولم تقلب ألفا كام فعل بهاب وناب وخاف ونام، مع أن العين من جميعها حرف لين متحرك مفتوح ما قبله، وهذا الذي فُعِل بفعِل من التصحيح حملا على أفعل مقدرا أو موجودا شبيه بما فعل باجتوروا حملا على تجاوروا، وبمخيط حملا على مخياط، ولولا ذلك لقيل في اجتوروا اجتاروا كما قيل اختاروا واقتادوا. ولقيل في مخيط مخاط كما قيل مثلا ومعاش، فكان تصحيح هيف وأخواته مع استحقاقه بظاهره ما استحقه هاب وأخواته دليلا على أن أصله أفعل، وأفعل لا يبنى منه فعل تعجب فجرى مجراه ما هو بمعناه وواقع موقعه. وهذا التعليل هو المشهور عند النحويين. وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال لما كان بناء الوصف من هذا النوع على أفعل لم يبن منه أفعل تفضيل لئلا يلتبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أفعل التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب لتساويهما وزنا ومعنى، وجريانهما مجرى واحدا في أمور كثيرة. وهذا الاعتبار هيّن بيّن، ورجحانه متعيّن.

وقد يبنى فعل التعجب من فعل المفعول إن أمن الالتباس بفعل الفاعل نحو ما أجنّه وما أبخته وما أشغفه. وهذا الاستعمال في أفعل التفضيل أكثر منه في التعجب "كأزهى من ديك" و"أشغل من ذات النحبين" وأشهر من غيره وأعذر وألوم وأعرف وأنكر وأخوف وأرجى من شُهِر وعُذر وليم وعُرف ونُكر وخيف ورُجي.

وعندي أن صوغ فعل التعجب وأفعل التفضيل من فعل المفعول الثلاثي الذي لا يُلبس بفعل الفاعل لا يقتصر فيه على المسموع، بل يحكم باطراده لعدم الضائر وكثرة النظائر.

ص: 45

وقد يبنى فعل التعجب من فعل أفعل مفهم عسر أو جهل، والإشارة إلى حُمق ورعن وهوج ونوك ولدّ إذا كان عسر الخصومة. وبناء الوصف من هذه الأفعال على أفعل في التذكير وفعلاء في التأنيث لكنها ناسبت في المعنى جهل وعسر فجرت في التعجب والتفضيل مجراهما فقيل ما أحمقه وأرعنه وأهوجه وأنوكه وألدّه، وهو أحمق منه وأرعن وأهوج وأنوك [وألدّ]. وقد يبنى فعل التعجب من ثلاثي مزيد فيه كقولهم من اشتد ما أشدّه، ومن اشتاق ما أشوقه، ومن اختال ما أخوله ومن اختصر الشيء ما أخصره، وفي هذا شذوذ من وجهين: أحدهما أنه مزيد فيه والآخر أنه من فعل المفعول. وأكثر النحويين يجعلون من شواذ التعجب: ما أفقره وما أشهاه وما أحياه وما أمقته، لاعتقادهم أن ثلاثي افتقر واشتهى واستحيى مهمل، وأن فعل الفاعل من مقت غير مستعمل. وليس الأمر كما اعتقدوا، بل استعملت العرب فقُر وفقِر، وشهى الشيء بمعنى اشتهاه، وحيى بمعنى استحيا، وكذلك استعمل مقُت الرجل مقاتة إذا صار مَقيتا، أي بغيضا، فليس قولهم ما أفقره من افتقر، بل هو من فقرُ وفقِر، ولا ما أشهاه من اشتهى بل من شهى، وما أحياه من استحيا بل م حيى، ولا ما أمقته من مُقِّت بل من مَقُت.

وممن خفى عليه استعمال حيى بمعنى استحيا أبو علي الفارسي. وممن خفى عليه استعمال فقُر وفقِر ومَقُت سيبويه. ولا حجة في قول مَن خفى عليه ما ظهر لغيره. بل الزيادة من الثقة مقبولة. وقد ذكر استعمال ما ادّعيت استعماله جماعة من أئمة اللغة. وإن كان المزيد فيه على وزن أفعل لم يقتصر في صوغ فعل التعجب منه على المسموع، بل يحكم فيه بالاطراد وقياس ما لم يسمع منه على ما سمع ما لم يمنع مانع آخر. هذا هو مذهب سيبويه والمحققين من أصحابه.

ولا فرق بين ما كانت همزته للتعدية كأعطى وبين ما همزته لغير التعدية كأغفى. وشهد بأن هذا مذهب سيبويه قوله في باب التعجب المترجم بهذا باب ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل ولم يتمكن تمكنه. وبناؤه أبدا من فَعَل وفَعِل وفَعِل فَعُل وأفْعَل. هذا

ص: 46

نصه. فسوّى بين الثلاثة في صحة بناء التعجب منها. وأطلق القول بأفعل فعلم بأنه لا فرق بين ما همزته للتعدية وبين ما همزته لغير التعدية كما فعل ابن عصفور إذ أجاز القياس على ما أغفى زيدا، لأن همزته غير معدية، ولم يقس على ما أعطاه لأن همزته معدية وهو تحكم بلا دليل. هذا مع أن سيبويه قال بعد قوله: وبناؤه أبدا من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأفْعَل: "فشبيه هذا بما ليس من الفعل نحو لات وما. وإن كان من حسن وكرم وأعطى" ولم يفرق بين أعطى وبين حسن وكرم مع العلم بأن همزة أعطى معدية لأنه يقال عطوت الشيء بمعنى تناولته، وأعطيته فلانا فيصير عطوت بالهمزة متعديا إلى اثنين بعد أن كان دونها متعديا إلى واحد. ومن تصريح سيبويه باطراد ما أعطاه وشبهه قوله في الربع الآخر من كتابه:"هذا باب ما يستغنى فيه عن ما أفعله بما أفعل فعله كما استغنى بتركت عن ودعت، كما استغنوا بنسوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها وذلك في الجواب، ألا ترى أنك لا تقول ما أجوبه، وإنما تقول ما أجود جوابه. ثم قال: ولذلك لا تقول أجوِبْ به وإنما تقول أجوِدْ بجوابه. ولا يقولون في قال يقيل ما أقيله، استغنوا بما أكثر قائلته، وما أنْومه في ساعة كذا وكذا، كما قالوا تركت ولم يقولوا ودعت" هذا نصه.

فجعل استغناءهم عن ما أجوبه بما أجود جوابه، مساويا لاستغنائهم عن ودَعت ماضي يدع بتركت، وعن ما أقيله بما أكثر قائلته. مع العلم بأن عدولهم عن ودع إلى ترك وعن ما أقيله إلى ما أكثر قائلته على خلاف القياس، وأن وَدَع وما أقيله موافقان للقياس، فيلزم أن يكون ما أجوبه موافقا للقياس، وهذا بيّن والاعتراف بصحته

ص: 47

متعيّن. وإنما استحق أفعل مساواة الثلاثي المحض في هذا الاستعمال دون غيره من أمثلة المزيد فيه لشبهه به لفظا، فمن قِبَل أن مضارعه واسم فاعله واسم زمانه واسم مكانه كمضارع الثلاثي، واسم فاعله وزمانه ومكانه في عدة الحروف والحركات وسكون الثلاثي بخلاف غيره من المزيد فيه. وأما الموافقة في المعنى فكثير. فمن موافقته لفعَل سرى وأسْرى وطلع على القوم وأطلع، أي أشرف، وطفلت الشمس أي دنت للغروب (كأطفلت) وعتم الليل وأعتم أي أظلم، وعكل الأمر وأعكل أي أشكل. ومن موافقته لفَعِل غطِش الليل وأغطش أي أظلم، وعوز الشيء وأعوز أي تعذّر وكذلك الرجل إذا افتقر، وعدم الشيء وأعدمه أي فقده، وعبست الإبل وأعبست أي دنست أوبارها. ومن موافقته لفعُل خلُق الثوب وأخلق أي بلى وبطُؤ وأبطأ، وبؤُس وأبأس، أي ساءت حاله، ونظائر ذلك كثيرة. ولكون أفعل مختصا من بين الأفعال المغايرة للثلاثي بمشابهته لفظا وموافقته معنى أجراه سيبويه مجراه في اطراد بناء فعلي التعجب منه.

وقد يبنيان من غير فعل كقولهم ما أذرع فلانة، بمعنى ما أخفها في الغزل وهو من قولهم امرأة ذَراع وهي الخفيفة اليد في الغزل، ولم يسمع منه فعل. ومثله في البناء من وصف لا فعل له: أقمن به، أي أحقق اشتقه من قولهم هو قَمِن بكذا أي حقيق به. وهذان وما أشبههما شواذ لبنائهما من غير فعل. ومثلهما في الشذوذ قولهم ما أعساه وأعس به، بمعنى ما أحقه وأحقق به، وهو فعل غير متصرف. وإلى هذا أشرت بقولي: أو فعل غير متصرف".

ومن الأفعال ما لم يصغ منه فعل تعجب مع كونه ثلاثيا مجردا تاما متصرفا قابلا للكثرة مصوغا للفاعل غير معبَّر عن فاعله بأفْعَلَ فَعْلاء، فمن ذلك سكر وقعد وجلس ضدا قام، وقال من القائلة، استغنت العرب فيهما بما أشد سكره وما أكثر قُعوده وجلوسه وقائلته عن ما أسكره وأقعده وأجلسه وأقيله. وإليهما أشرت بقولي "وقد يغني في التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط كما يغني في غيره" ثم قلت "ويتوصل إلى التعجب بفعل مثبت متصرف مصوغ للفاعل ذي مصدر مشهور إن لم يستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجب منه مضافا إليه بعد ما أشد أو أشدد ونحوهما" ففهم من هذا أنه يقال في دحرج وانطلق: ما أشد دحرجته

ص: 48

وانطلاقه، وفي كان زيد صديقا ما أشد كون زيد صديقا، وفي مات زيد: ما أفظع موت زيد، وفي هيفت المرأة: ما أحسن هيفها وكذلك يقال أشدد بدحرجته وانطلاقه وبكونه صديقك وأفظع بموته وأحسن بهيفها. ثم قلت "فإن لم يعدم الفعل إلا الصوغ للفاعل جيء به صلة لما المصدرية آخذة ما للمتعجب منه بعد ما أشد وأشدد أو نحوها " ففهم من هذا أنه يقال في ضرُب زيد ما أشد ما ضُرب زيد وأشدِدْ بما ضُرِب زيد. ولم يغن ذكر المصدر، لأن كون المتعجب منه مفعولا لا يعلم بذلك، وإنما يعلم بذكر "ما" موصولة بفعل مصوغ للمفعول.

ص: 49