الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الخامس
تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم
…
تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
بسم الله الرحمن الرحيم
[وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم] :
فروي أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية كتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، و"الله" سطر، وختم به الكتاب.
وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب إلا مختوما
وفي القاموس النمر ككتف، ابن تولب، ويقال: النمر -بالفتح- شاعر للنبي صلى الله عليه وسلم وسيذكر المصنف كتابه إلى بني نهد في المقصد الثالث، فذكره هنا في قوله: إلى بني زهير لا فائدة فيه؛ لأنهما غيران، والله أعلم.
"وأما مكاتباته عليه الصلاة والسلام" أي: بيان كتابته "إلى الملوك وغيرهم، فروي" عند ابن سعد وغيره عن ابن عباس "أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية" في ذي الحجة سنة ست، "كتب إلى الروم" يدعوهم إلى الإسلام، أي: أمر بالكتب، فكتب وأراد إرساله، "فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فأخذ خاتما من فضة"، هكذا في رواية ابن سعد وغيره، وروى ابن عدي في هذه القصة، أنه عمل له خاتما من حديد، فجاء جبريل، فقال: انبذه من أصبعك فنبذه، فعمل له خاتما من نحاس، فأمره جبريل، فنبذه، فعمل له خاتما من فضة، فأقره جبريل، فإن صحا، فاقتصر من اقتصر على الفضة؛ لأنه الذي استقر عليه أمره، "ونقش فيه ثلاثة أسطر من محمد سطر ورسول" بالتنوين وعدمه على الحكاية "سطر والله" بالرفع والجر على الحكاية "سطر" ولابن سعد من مرسل ابن سيرين باسم الله محمد رسول الله.
قال الحافظ: ولم يتابع على هذه الزيادة، وقول بعض الشيوخ -يعني الإسنوي: إن كتابته كانت من فوق، يعني الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله "وختم به الكتاب".
قال الحافظ: ولم تكن كتابة الخاتم على الترتيب العادي، فإن ضرورة الختم به تقتضي أن الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا انتهى.
وهو تعويل على العادة وأحواله صلى الله عليه وسلم خارجة عن طورها، بل في تاريخ ابن كثير عن بعضهم أن كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة، وفي رواية ابن سعد وغيره، فخرج ستة نفر في يوم واحد، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، "وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب" إذا ورد عليهم، "إلا مختوما" بأن يطوى، ويجعل عليه ما يمنع فكه، ثم
خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم.
وعن أنس: إن ختم كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة، وقال بعضهم: هو سنة لفعله صلى الله عليه وسلم.
فكتب إلى قيصر، المدعو "هرقل" ملك الروم يوم ذاك، ثم قال بعد تمام الكتابة:"من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل وله الجنة"؟، فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله؟ قال: "وإن لم يصل"
يختم عليه، "خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم"، صونا لسورة الملك عن مشاركة العامة في أخبارهم.
"وعن أنس أن ختم كتاب السلطان"، أي: من له سلطنة، فيشمل الأمراء، "والقضاة سنة متبعة"، وقول الصحابي: من السنة، كذا له حكم الرفع، كما في الألفية وغيرها، فأفاد أنس أنه مطلوب، "و" لذا، "قال بعضهم: هو سنة لفعله صلى الله عليه وسلم"، فمؤدى العبارتين واحد، لا أن قول أنس إخبار عن مجرد الاعتياد، وأن كلام بعضهم مقابل له كما توهم، ثم عطف على قوله: كتب إلى الروم من عطف المفصل على المجمل لبيان المكتوب له، منهم قوله: "فكتب إلى قيصر المدعو"، أي المسمى، "هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور في الروايات، وحكى الجوهري وغيره سكون الراء، وكسر القاف، وجزم به القزاز وغيره، علم له غير منصرف للعلمية والعجمة ما في الفتح لقب قيصر بالقاف غير صافية في لغتهم من القصر، وهو القطع في لغتهم؛ لأن أحشاء أمه قطعت حتى خرج منها؛ لأنها لما طلقت به ماتت، فبقر بطنها عنه، فخرج حيا وكان يفخر بذلك، لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب، كذا ذكره العيني وغيره، ولا يشكل بقولهم: قيصر اسما لكل ملك الروم؛ لأن المراد من هرقل فمن بعده، ولا يشكل بقوله: لله إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، لأن المراد في إقليمه الذي كان فيه، أو يملك مثله، أو غير ذلك مما أجابوا به "ملك الروم يوم ذاك" الكتب، وليس المراد خصوص يوم معين؛ لأن العرب تريد باليوم مطلق الزمن، وقد ذكروا أنه ملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات صلى الله عليه وسلم، "ثم قال بعد تمام الكتابة: "من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل، وله الجنة"" مع السابقين، أو بلا حساب، "فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله" بأن منعه مانع من موت، أو غيره عن الوصول، "قال: وإن لم يصل"؛ لأن نيته الوصول، وهو خير من العمل، وفي رواية الحارث بن أبي أسامة بلفظ يقتل في الموضعين، ثم يحتمل أنه بفوقية من القتل، أو بموحدة من القبول، كأنهم استعظموا هذا الجزاء العظيم، وإن عاد الذاهب سالما، أو لم يقبل هرقل
فأخذه دحية بن خليفة الكلبي، وتوجه إلى مكان فيه هرقل، ولفظه:
باسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكتاب بأن لم يعمل به، فأخبرهم بذلك؛ لأنه رتب الجزاء على مجرد الانطلاق والقتل، أو القبول شيء آخر، "فأخذه دحية".
قال الحافظ: بكسر الدال وفتحها لغتان، ويقال: إنه الرئيس بلغة اليمن "ابن خليفة الكلبي" الصحابي الجليل، كان من أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، "وتوجه به إلى مكان فيه هرقل"، وهو بيت المقدس، كما في الصحيح، وعنده في الجهاد أن الله لما كشف عن هرقل جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله.
زاد ابن إسحاق: فكان يبسط له البسط، وتوضع عليها الرياحين، فيمشي عليها.
وعند الطبري، وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا منها، ثم استبطأ كسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك، فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى، وانهزم عنه بجنوده، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا، وعند ابن إسحاق عن أبي سفيان: لما كانت الهدنة، خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط قريش، فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهر البطن حتى تأتي برجل من قوم هذا الرجل أسأله عن شأنه، فوالله إني وأصحابي بغزة إذ هجم علينا، فساقنا جميعا، فذكر الحديث بنحو ما في الصحيح أنهم أتوه، وهو بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، وعليه التاج الحديث في الأسئلة والأجوبة، وفيه: ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه.
قال في الفتح: بصرى -بضم الموحدة والصر- مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان عدي إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا.
وروى البزار أن دحية نفسه ناول الكتاب لقيصر، ولفظه: بعثني صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى قيصر، فقدمت عليه، وأعطيته الكتاب، "ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم"، فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرا، وأجيب عن تقديم سليمان اسمه بأنه إنما ابتدأه بالبسملة، وكتب اسمه عنوانا بعد ختمه؛ لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه، ولذا قالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فالتقديم واقع في حكاية الحال "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فيه أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة.
قال الحافظ: والحق إثبات الخلاف، وفيه أن من التي لابتداء الغاية تأتي في غير الزمان
وفي رواية البخاري: عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، وفي رواية غير البخاري: إلى قيصر صاحب الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين.
والمكان، كذا قال أبو حيان، والظاهر أنها هنا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز، انتهى.
ثم هذا لفظ رواية البخاري في التفسير، "وفي رواية البخاري" في بدء الوحي وفي الجهاد من محمد "عبد الله ورسوله"، وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق عليه، فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيده، وإلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى عليه السلام، وفي رواية له أيضا من محمد بن عبد الله رسول الله "إلى هرقل عظيم الروم"، أي: المعظم عندهم بالخفض على البدل، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، "وفي رواية غير البخاري" كأبي نعيم وابن عساكر، وغيرهما من حديث دحية "إلى قيصر صاحب الروم"، ويحتمل الجمع بأنها بالمعنى، ورواية البخاري باللفظ لموافقة مسلم له، وهو يحافظ على اللفظ، ثم اتفق البخاري وغيره على قوله:"سلام"، وللبخاري في كتاب الاستئذان: السلام "على من اتبع الهدى"، أي: الرشاد.
قال الحافظ: وقد ذكرت هذه الجملة في قصة موسى وهارون مع فرعون، وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه، فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس هذا من التحتية، إنما المراد سلم من عذاب الله من أسلم، ولذا جاء بعد أن العذاب على من كذب وتولى، وكذا في بقية هذا الكتاب، فإن توليت
…
إلخ، فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا، وإن كان اللفظ يشعر به، ولكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتبع الهدى، فلم يسلم عليه، "أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام" بكسر الدال من قولك: دعا يدعو دعاية نحو: شكا يشكو شكاية، ولمسلم بداعية الإسلام، أي: بالكلمة الداعية إليه، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى، كما في الفتح، وتبعه المصنف وغيره، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز بقاؤها على ظاهرها، والمعنى: أدعوك بالكلمة الدالة على طلب الإسلام منك، وحملك عليه، وما بعده بيان للكلمة التي دعا بها، وهو قوله:"أسلم" بكسر اللام "تسلم" بفتحها فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني، مع ما فيه من البديع، وهو الجناس الاشتقاقي، وهو رجوع اللفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد "يؤتك الله أجرك مرتين" لإيمانه بنبيه، ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو موافق لقوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] أو من جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه.
وللبخاري في الجهاد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك، بتكرار أسلم مع زيادة الواو في الثانية،
فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله.
فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] .
قاله الحافظ بناء على قول جماعة من أهل التفسير: إنها خطاب للمؤمنين، أو على قول ابن عباس: إنها لمؤمني أهل الكتاب، فلا يعترض عليه بقول مجاهد: إن الآية في المنافقين، "فإن توليت" أعرضت عن الإجابة إلى الإسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، وهو استعارة تبعية، "فإن عليك إثم الأريسين" جمع أريس، بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء، وجاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما.
قال ابن سيده: الأريس: الأكار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس الأمير، وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك، لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد صرح به في رواية ابن إسحاق بلفظ: فإن عليك إثم الأكارين.
زاد البرقاني: يعني الحراثين، وعند المدائني: فإن عليك إثم الفلاحين، وعند أبي عبيد: وإن لم تدخل في الإسلام، فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام.
قال أبو عبيد: المراد بهم أهل مملكته؛ لأن كل من كان يزرع، فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه، أو بغيره، وقال الليث بن سعد عن يونس: الأريسون العشارون، يعني: أهل المكس، رواه الطبراني والأول أظهر، وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنى: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل، "ويا أهل الكتاب"، هكذا رواية النسفي، والقابسي، وعبدوس بالواو داخلة على مقدر معطوف على أدعوك، أي: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] ، فليس بزيادة في التلاوة، إذ الواو إنما دخلت على محذوف، ولا يردان حذف المعطوف، وبقاء العاطف ممتنع؛ لأن محله إذا حذف المعطوف وجميع تعلقاته، أما إذا بقي شيء هو معمول للمحذوف، فيجوز نحو:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} .
قال الحافظ: ويحتمل أنها من كلام أبي سفيان، كأنه لم يحفظ جميع الألفاظ، فاستحضر منها صدر الكتاب، فذكره، فكأنه قال: كان فيه كذا، وكان فيه يا أهل الكتاب، قالوا: ومن كلامه لا من نفس الكتاب.
وذكر عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي، وأبي ذر:"تعالوا إلى كلمة سواء" سوية، "بيننا وبينكم" لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، هي "ألا نعبد إلا الله"، أي: نوحده
ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون، رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي. ووقع في تاريخ خليفة أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة
بالعبادة، ونخلص له فيها، "لا نشرك به شيئا"، لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة، ولا نراه أهلا لأن يعبد، "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، فلا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا، "فإن تولوا" عن التوحيد، "فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون"، أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل.
قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجملة القليلة التي تضمنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله: أسلم والترغيب بقوله: تسلم ويؤتك، والزجر بقوله: فإن توليت، والترهيب بقوله: فإن عليك، والدلالة بقوله: يا أهل الكتاب، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم قال: واستنبط منه شيخنا، شيخ الإسلام، يعني البلقيني أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم: يا أهل الكتاب، فدل على أن لهم حكمهم، خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه دخل اليهودية، أو النصرانية قبل التبديل.
"رواه البخاري" في مواضع كثيرة، وأخرجه مسلم في المغازي، وهو من جملة حديث طويل مشهور.
وعندي ابن أبي شيبة من مرسل ابن المسيب: أن هرقل لما قرأه، قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان، كأنه يريد الابتداء بالبسملة، "وكان صلى الله عليه وسلم أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية"، وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع، "كما قاله الواقدي" بما زدته، كما في الفتح قائلا:"ووقع في تاريخ خليفة" بن خياط بن خليفة العصفري البصري الحافظ، أحد شيوخ البخاري.
قال ابن عدي: له حديث وتاريخ حسن، وكتاب في طبقات الرواة، وهو مستقيم الحديث، صدوق متيقظ، مات سنة أربعين ومائتين، "أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان" بن حرب، راوي الحديث، "بأن ذلك كان في مدة
صلح الحديبية كما في حديث البخاري، في المدة التي كان عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، يعني: مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا.
ولم يقل صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، ولم يخله من الإكرام لمصلحة التأليف.
وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فإن عليك إثم الأريسين أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع، بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر.
صلح الحديبية، كما في حديث البخاري" عن أبي سفيان: إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام "في المدة التي كان عليه الصلاة والسلام مادّ" بشد الدال من مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، "فيها أبا سفيان، وكفار قريش"، بالنصب مفعولا معه، أو عطفا على المفعول به، أعني أبا سفيان، "يعني مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا"، فكيف يتأتى قول خليفة سنة خمس؟
"ولم يقل صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول" عن الملك "بحكم الإسلام"، ولا سلطنة لأحد إلا من قبله صلى الله عليه وسلم، "و" لكنه "لم يخله من الإكرام"، ويذكر اسمه مجردا، بل قال: عظيم، أو صاحب "لمصلحة التأليف"، فلاطفه بالقول اللين، كما قال تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]، وقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125]، "وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه" عيسى عليه السلام، "ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم"، وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه، وصرح بذلك في حديث الشعبي، كما في الفتح، "وقوله: فإن عليك إثم الأريسين" بالهمزة، وفي رواية: اليريسين، بقلبها ياء، جمع يريس، بوزن كريم، وفي أخرى: اليريسيين بشد الياء بعد السين، جمع يريسيّ، وفي أخرى حكاها صاحب المشارق وغيره: الأرّيسين بشد الراء.
قال ابن الأعرابي: أرس يارس بالتخفيف فهو أريس، وأرّس بالتشديد يؤرس فهو أريس، وفي أخرى: الأرسين بتحتانية واحدة، وفي الكلام حذف دل عليه المعنى، "أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع، بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر"، فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض هذا قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب هذه الآية: يعني {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت؛ لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة.
لأن وزر الآثم لا يتحمله عليه، ولكن الفاعل المتسبب، والمتلبس للسيئات يتحمل من وجهين؛ جهة فعله وجهة تسببه.
قال الخطابي: المراد: أن عليه إثم الضعفاء، والأتباع إذ لم يسلموا تقليدا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
وقال الأزهري: الأريس بالتخفيف والتشديد الأكابر لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فلاحة، وكانوا مجوسا، وأهل الروم أهل صناعة، فأعلموا بأنهم، وإن كانوا أهل كتاب، فإن عليهم من الإثم إن لم يؤمنوا مثل إثم المجوس، انتهى.
وحكى غيره أن الأريسين ينسبون إلى عبد الله بن أريس، رجل كانت النصارى تعظمه، ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وقيل: إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه، والتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسين.
وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، ورده بعضهم بأنهم كانوا قليلا وما كانوا يظهرون، وكانوا ينكرون التثليث، وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل انتهى، من فتح الباري في موضعين، وفيه زيادات حسان تركتها خوف الإطالة، وأيضا لما قدمته عنه أن الصحيح تفسيره بالفلاحين؛ لوروده في رواية أخرى كذلك، وبلفظ الأكارين، وهو بمعناه.
قال النووي: نبه بهم على بقية الرعية؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا.
قال الحافظ: ومراده أنه نبه بذكر طائفة من الطوائف على بقية الطوائف، كأن يقول: إذا امتنعت، فإن عليك إثم كل ممتنع بامتناعك، وكأن يطيع لو أطعت كالفلاحين، فلا يرد تعقب شيخنا البلقيني بأن من الرعايا غير الفلاحين من له قوة وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين دخول بقية الرعايا حتى صح أنه نبه بذكرهم على الباقين.
نعم، قول أبي عبيدة: ليس المراد بالفلاحين الزارعين فقط، بل جميع أهل المملكة إن أراد على ما قررت به كلام النووي فمسلم وإلا فمعترض، "وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب هذه الآية، يعني:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت"، كما نزل بموافقة عمر في الحجاب، وأسرى بدر، وعدم الصلاة على المنافقين، وغير ذلك، "لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران" بفتح النون وسكون الجيم: بلد قريب من اليمن، "وكانت قصتهم" وستأتي "سنة
الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست. وقيل: نزلت في اليهود، وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد والله أعلم.
ولما قرئ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الوفود سنة تسع"، كما جزم به ابن سعد وغيره، "وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست" كما علم، وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: نزلت في اليهود"، فالقول الثالث عين مراد الثاني؛ ولذا قال: "وجوز بعضهم نزولها مرتين" مرة في أوائل الهجرة، وأخرى في سنة تسع، "وهو بعيد"؛ لأن الأصل عدم تكرار النزول، "والله أعلم" بما في نفس الأمر.
وهذا كلام الحافظ في الفتح، وقال ابن كثير: هذه القصة كانت بعد الحديبية وقبل الفتح، كما صرح به في هذا الحديث.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، نزلت في وفد نجران.
وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية، ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية إلى هرقل، وبين ما ذكره ابن إسحاق والزهري، أجيب بأن قدوم وفد نجران كان قبل الفتح وبعد الحديبية. وما بذلوه كان مصالحة على المباهلة لا عن الجزية، ووافق نزول الجزية بعد ذلك على وفقه، وباحتمال تعدد النزول، واحتمال كتبها قبل نزولها، انتهى.
"ولما قرئ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم" بالبناء للمفعول، وعند الواقدي من مرسل محمد بن كعب القرظي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه.
وعند البخاري في بدء الوحي والتفسير: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فظاهره أن هرقل هو الذي قرأه إلا أن تكون نسبة قراءته إليه مجازا لكونه الأمر به، والقارئ الترجمان، وللبخاري في الجهاد ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، ففي أوله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ههنا أحدا من قوه لأسألهم عنه، فذكر القصة إلى أن قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ.
قال في الفتح: والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أولا، ثم لما جمع قومه وأحضر أبا سفيان ومن معه، وسأله وأجابه، أمر بقراءة الكتاب على الجمع، ويحتمل أن المراد بقوله: أو لا حين قرأه، أي عنوانه؛ لأنه كان مختوما بختمه: محمد رسول الله، ولذا قال: إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، ويؤيده أن من جملة الأسئلة قول هرقل: بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان:
غضب ابن أخي قيصر غضبا شديدا، وقال: أرني الكتاب، فقال له: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه، وسماك صاحب الروم، فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، أو كلاما هذا معناه، أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله، إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه.
يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وهذا بعينه في الكتاب، فلو كان قرأه ما احتاج إلى السؤال عنه إلا أن يكون مبالغة في تقريره، "غضب ابن أخي قيصر"، كما أخرجه الحسن بن سفيان، وسعيد بن منصور، عن دحية قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقدمت عليه، فأعطيته الكتاب، وعنده ابن أخ له، أحمر، أزرق، سبط الرأس، فلما قرئ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة، فقال: لا تقرأه، فقال قيصر: لم؟ قال: لأنه بدأ بنفسه، وكتب صاحب الروم، ولم يقل: ملك الروم، قال: اقرأ فقرئ الكتاب.
وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ من محمد رسول الله إلى عظيم الروم غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ قال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي الكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله لهو أحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم، ذكره في فتح الباري في التفسير، وعند ابن سعد في كتاب ملكي عثمان تسمية أخي قيصر يناق.
قال البرهان: بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف، لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه، انتهى.
فيحتمل أن الأخ وابن الأخ وقع من كل منهما ما ذكر، ولفق المصنف من كل منهما ناسبا لابن الأخ ما ذكره بقوله:"غضبا شديدا، وقال: أرني الكتاب، قال: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه"، وعادة العجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدءوا باسم ملوكهم، وهذا خلاف العادة، فلا يقرأ كتابه، "وسماك صاحب الروم"، ولم يقل: ملك الروم، "فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي"، قليل العقل، "أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر" جبريل عليه السلام بالوحي من الله، "أو كلاما هذا معناه"، والحاصل أنه لا يرمي به خوفا من تعجيل العقوبة لو فعل، "أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه"، ولا يليق هذا بعقل الملوك، ثم تنزل معه زيادة في توبيخه على ضعيف رأيه؛ لأن الخبر من حيث هو يحتمل الصدق، فقال: "لئن كان رسول الله، إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه"، أي: الروم، وكأنه أفرد الضمير باعتبار لفظ الروم، ومر أن الرواية: مالكهم بالجمع، زاد في رواية: ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء
ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه، إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه، انتهى.
لسلَّطهم علي، كما سلط فارس على كسرى فقتلوه، ثم أخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه على رأسه، ثم قبله وطواه في الديباج والحرير، وجعله في سفط، "ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه".
قال دحية: ثم بعث إلي من الغد سرا، فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، فقال: انظر أين صاحبك من هؤلاء؟ فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينطق، قلت: هذا، قال: صدقت.
رواه أبو نعيم وغيره "إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه" من أنه رجع إلى حمص، وجمع عظماء الروم في دار له، وقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وإن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فقال: علي بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل "انتهى".
أي: فيما يتعلق بهذه القصة، خاصة المتعلقة بدعائه الإيمان؛ لأنه انقضى أمره حينئذ، ومات أو أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه وهذا أوجه؛ لأنه قد وقعت له قصص أخرى من تجهيز الجيش إلى مؤتة، ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا وهو بتبوك، وبعث به دحية أيضا، وإرساله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهب قسمه بين أصحابه، كما رواه ابن حبان.
وروى أحمد وأبو يعلى: قدم صلى الله عليه وسلم تبوك، فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا القسيسين والبطارقة، وأغلق عليهم وعليه، فقال: إن هذا الرجل يدعوني، ووالله لقد قرأتم فيما تقرءون من الكتب، ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم إلى أن نتبعه، فنخروا نخرة رجل واحد حتى إن بعضهم خرج عن برنسه، فلما ظن أنهم أن خرجوا من عنده، أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت لأعلم صلابتكم على أمركم الحديث، وقد تقدم بعضه في غزوة تبوك، وأن إرسال الهدية وكتابته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه رسوله التنوخي، إنما كان لما أرسل إليه، وهو عليه السلام بتبوك، كما في الحديث، وبه جزم السهيلي.
قال في الفتح: روى ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم كتب إليه بتبوك يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب، فدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه، وخوفا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال: كذب، بل هو على نصرانيته، ولأبي عبيد: كذب عدو الله ليس بمسلم، فإطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن، أي: أظهر التصديق، لكن لم يستمر
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ملك فارس:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله.
عليه، ويعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر الفانية على الباقية، ولو تفطن لقوله صلى الله عليه وسلم: أسلم تسلم، وحمل الخبر على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم، أو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله، واختلف الأخباريون: هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر، أو ابنه، والأظهر أنه هو "انتهى".
"وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى" بكسر الكاف وتفتح، لقب لكل من ملك الفرس، قال ابن الأعرابي: الكسر أفصح، واختاره أبو حاتم، وأنكره الزجاج، واحتج بأن النسبة كسروي بالفتح، ورده ابن فارس بأن النسبة قد يفتح فيها ما الأصل كسره أو ضمه، كما قالوا في بني تغلب بكسر اللام: تغلبي بفتحها، وفي سلمة كذلك، فلا حجة فيه على تخطئة الكسر.
قال في الفتح: ومعناه بالعربية المظفر "أبرويز"، بفتح الواو، وكسرها، ويقال له: أبرواز وآخره زاي معجمة كما في القاموس، ومقتضى قاعدته فتح همزته.
قال السهيلي في أوائل الروض: ومعنى أبرويز بالعربية المظفر، وهو الذي غلب على الروم حين أنزل الله:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] انتهى، فعلى هذا، فكل من لفظ كسرى وأبرويز معناه المظفر "بن هرمز بن أنوشروان"، وهو كسرى الكبير المشهور، الذي بنى الإيوان، وملك ثمانيا وأربعين سنة، وقيل: إنه الذي كتب إليه -صلى لله عليه وسلم.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنذر بأن ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى أبرويز بن هرمز، "ملك فارس"، ولفظه فيما أخرجه الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال في فتح الباري: لم تجر العادة الشرعية، ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد، وقد جمعت كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة، "من محمد رسول الله" فيه البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد وأبو داود أن العلاء بن الحضرمي كتب إليه صلى الله عليه وسلم وكان عامله على البحرين: من العلاء إلى محمد رسول الله، فبدأ بنفسه، وعند البزار أنه صلى الله عليه وسلم وجه عليا وخالد بن الوليد، فكتب إليه خالد، فبدأ بنفسه، وكتب إليه علي، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب على واحد منهما، وكتب ابن عمر إلى معاوية وعبد الملك، فبدأ بهما، وكذا جاء عن زيد بن ثابت إلى معاوية "إلى كسرى عظيم فارس، سلام" من عذاب الله "على من اتبع الهدى" الرشاد، "وآمن بالله ورسوله،
وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله عز وجل، فإني رسول الله إلى الناس كلهم؛ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن توليت فعليك إثم المجوس.
فلما قرئ عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مزق ملكه.
وشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله"، أكد في هذا الكتاب، وأوضح البيان؛ لأنهم مجوس، لا يقرءون الكتب، ولا يعرفون مدلولات الألفاظ بسرعة، بخلاف قيصر، فإنه كتابي قد قرأ الكتب، فلم يصح بدعائه إلى الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ لكونه منطويا في قوله على من اتبع الهدى وأسلم، ودعاية الإسلام، فإن جميعه يتضمن الإقرار بالشهادتين، "أدعوك بدعاية الله عز وجل" بكسر الدال، كما مر "فإني رسول الله إلى الناس كلهم"، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ، "لينذر" الرسول وراعى نظم القرآن مع مراعاة لفظ رسول الله.
وفي نسخة: لأنذر، وهو الذي في العيون عن رواية الواقدي المذكورة على الاقتباس "من كان حيا" عاقلا فهما، فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم الله، فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، "ويحق القول" يجب كلمة العذاب "على الكافرين" المصرين عل الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم أموات في الحقيقة، كما قال البيضاوي:"أسلم تسلم"، لم يقل: يؤتك الله أجرك مرتين، لأنه مجوسي، عابد لنا، لا كتاب له ولا دين، "فإن توليت، فعليك" مع إثمك "إثم المجوس" يعني أتباعه عبدة النار، واختلف هل كان لهم كتاب أم لا، فيروى عن علي: أنهم كان لهم كتاب فبدلوه، فأصبحوا وقد أسرى به.
رواه الإمام الشافعي، وقال: متصل، وبه نأخذ، ورد بأن في إسناده سعيد بن المرزبان ضعفه يحيى بن سعيد الأنصاري وابن معين، وقال الفلاس: بالفاء متروك الحديث، وقال أبو أسامة: كان ثقة، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس.
وقال ابن القيم: الأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب، فرفع ورفعت شريعتهم، لما وقع ملكهم على بنته لا يصح البتة.
وعند الواقدي، قال عبد الله بن حذافة: فانتهيت إلى بابه، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه الكتاب، "فلما قرئ عليه الكتاب مزقه"، أي: خرقه، "فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مزق ملكه" " دعاء، أو إخبار بالغيب، ويؤيد الأول قوله الآتي: فدعا عليهم.
وفي البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
"وفي البخاري" في العلم والجهاد والمغازي وغيرها من أفراده عن مسلم "من حديث" الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن "ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة" القرشي "السهمي"، أسلم قديما، وكان من المهاجرين الأولين، قيل: واختاره لتردده عليه كثيرا، "فأمره"، أي: أمر المصطفى عبد الله "أن يدفعه إلى عظيم البحرين" المنذر بن ساوى -بالمهملة وفتح الواو الممالة- العبدي نائب كسرى على البحرين، "فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى".
قال الحافظ: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: فتوجه إليه، فأعطاه الكتاب، فأعطاه لقاصده عنده، فتوجه به، فدفعه إلى كسرى، ويحتمل أن المنذر توجه بنفسه، فلا يحتاج إلى القاصد، ويحتمل أن القاصد لم يباشر إعطاء كسرى بنفسه، كما هو الأغلب من حال الملوك، فيزداد التقدير ا. هـ، ولم يتنزل للجميع بينه وبين ما ذكره الواقدي أن عبد الله بن حذافة دفع الكتاب إلى كسرى؛ لأن مثله لا يعارض به ما في الصحيح، فإن كان محفوظا، فيحتمل أن عبد الله لما وصل إلى عظيم البحرين، أرسله أو ذهب به إلى كسرى، فاستأذن حتى دخل عليه، "فلما قرأه" رواية الكشميهني، وللأكثر، فلما قرأ بحذف المفعول، وفيه مجاز، فإنه لم يقرأه بنفسه، وإنما قرئ عليه، كما ذكر ابن سعد من حديث عبد الله بن حذافة، هكذا في الفتح، فقول المصنف: قرأه بنفسه، أو قرأه غيره عليه، فيه نظر، "مزقه" بزاي وقاف، أي: قطعه، وهذا لفظ البخاري هنا.
وفي كتاب العلم، وله في الجهاد خرقه بخاء معجمة، وشد الراء بدل مزقه، وهو قريب منه في المعنى، "فحسبت أن ابن المسيب"، قال الحافظ: قائله الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور، ووقع في جميع الطرق مرسلا، ويحتمل أن ابن المسيب سمعه من عبد الله بن حذافة صاحب القصة، "قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق" بفتح الزاي فيهما، أي: يتفرقوا ويتقطعوا، فاستجاب الله لرسوله، فسلط الله على أبرويز ابنه شيرويه، فقتله، ثم قتل إخوته، وكان أبوه لما علم أن ابنه يقتله، احتال على قتل ابنه بعد موته، فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقا مسموما، وكتب عليه حق الجماع من تناول منه، كذا جامع، كذا، فقرأه شيرويه، فتناول
وقيل: بعثه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي في البخاري هو الصحيح.
وفي كتاب "الأموال" لأبي عبيد من مرسل عمير بن إسحاق، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية".
منه، فهلك بعد أبيه بستة أشهر، ولم يخلف ذكرا، فملكوا أخته بوران بضم الموحدة، ذكره ابن قتيبة في المعارف، ثم ملكوا أختها أزدميدخت، كما ذكره الطبري، فجر ذلك إلى ذهاب ملكهم ومزقوا، كما دعا به صلى الله عليه وسلم هكذا في الفتح، ونقل غيره عن كتاب المعارف لابن قتيبة المذكور أنه تولى بعد شيرويه ابن عمه كسرى بن قياذ بن هرمز وأردشير بن شيرويه وجرهان، ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى، فبلغه صلى الله عليه وسلم فقال:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، "وقيل: بعثه"، أي الكتاب "مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، أخرجه ابن عدي بسند ضعيف عن ابن عباس.
قال الحافظ: فإن ثبت، فلعله كتب إلى ملك فارس مرتين، "والذي في البخاري هو الصحيح"، وفي رواية عمر بن شبة أنه بعثه مع خنيس بن حذافة أخي عبد الله، وهو غلط، فإنه مات بأحد، فتأيمت منه حفصة، وبعث الرسل كان سنة سبع انتهى. وقيل: مع خارجة بن حذافة، ولا يصح لأن خارجة كما في الإصابة، من مسلمة الفتح والبعث كان قبله، وقيل: مع شجاع بن وهب وفيه نظر، فالمروي عند الطبراني وغيره أنه بعث شجاعا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعثهم كان في آن واحد، "وفي كتاب الأموال لأبي عبيد من مرسل عمير" بضم العين مصغرا "ابن إسحاق" أبي محمد، مولى بني هاشم، مقبول من الثالثة، كما في التقريب: قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى، فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر، فلما قرأ الكتاب طواه، ثم رفعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما هؤلاء -أي كسرى وقومه- فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية"، فكان كذلك، فعاش قيصر إلى زمان عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل: مات في زمنه صلى الله عليه وسلم والذي حارب المسلمين بالشام ولده ولقبه أيضا قيصر.
وفي حديث التنوخي رسول هرقل أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أخا تنوخ، إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه، والله ممزقه وملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير".
وروي أنه لما جاءه جواب كسرى قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل قال:"ثبت ملكه".
وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله في فتح الباري عن سيف الدين قلج المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية، أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه، وقال: لأتحفنّك بتحفة سنية، فأخرج له صندوقا
"وروي أنه لما جاءه جواب كسرى، قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل، قال: "ثبت ملكه" "، فذهب ملك كسرى أصلا، وبقي ملك قيصر، وإنما ارتفع من الشام وما والاها، وعبر بالملك نظرا للظاهر، فلا ينافي أنهما معزولان عن الملك بحكم الإسلام، ولا يرد على هذا حديث الصحيح: إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده؛ لأن المراد: لا يبقى قيصر بالشام، ولا كسرى بالعراق، كما نقل عن الشافعي، وقيل غير ذلك.
وفي حديث عبد الله بن حذافة: فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم مزق ملكه" وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتيا بخبره، فبعث باذان رجلين بكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدما المدينة بكتابه، فتبسم صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، ثم قال:"ارجعا عني حتى تأتياني الغد" ، فجاآه الغد، فقال لهما:"أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة لتسع ساعات مضت منها"، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه، فقتله، فانطلقا، فأخبراه، فقال باذان: إن يكن كما قال، فوالله إنه لنبي، ويأتي الخبر إلي بذلك يوم كذا، فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن الزهري: بلغني أن كسرى كتب إلى باذان أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي فسر إليه، فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فذكر القصة، قال: فلما بلغ باذان أسلم هو ومن معه.
"وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري" في حديث هرقل من بدء الوحي، قال: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي، "عن سيف الدين قلج" بقاف ولام وجيم معناه سيف بالتركي "المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه"، وعرض عليه الإقامة عنده فأبى، كما في الفتح، "وقال: لأتحفنك بتحفة" بضم التاء وفتح الحاء.
وحكى الصغاني سكونها "سنية، فأخرج له صندوقا" بضم الصاد، وقد تفتح، وبالزاي
مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر، أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، انتهى.
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك.
والسين لغات وجمعه: صناديق، كما في القاموس "مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب"، بكسر الميم: وعاء الأقلام، كذا في المصباح، وانتقده شيخنا بأن المناسب لتفسيرها بالوعاء أن يكون بالفتح اسم مكان، أما بكسرها فيقتضي أنها اسم آلة، وهي الواسطة بين الفاعل ومن فعله القريب، "فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال"، أي: يدوم "الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى، ليدوم الملك فينا"، وسماه تحفة؛ لأنه من آثاره صلى الله عليه وسلم فهو أعظم شيء يتحفه به، "انتهى".
قال في الفتح: ويؤيد هذا مرسل عمير بن إسحاق، فذكره، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إني كتبت إلى صاحبكم بصحيفة، فأمسكها، فما يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير"، فانظر تفاوت الناس، وكونهم معادن حتى في الكفر.
وقد روي أن كسرى أهدى له بغلة، وأعل بأنه مزق الكتاب، كما يأتي للمصنف في الفصل التاسع من ذا المقصد، وأجيب بجواز أن المهدي شيرويه ابنه أو غيره ممن تولى بعده، على أنه لا يلزم من التمزيق عدم الإهداء؛ لأنه مزقه لما جاءه للشقاوة التي كتبت عليه، ثم يحتمل أنه لما خلا بنفسه خاف لاستيقانه نبوته، فأهدى له البغلة والعلم لله، "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي".
قال في الإصابة: بفتح النون على المشهور، وقيل: تكسر عن ثعلب، وتخفيف الجيم، وأخطأ من شددها عن المطرزي وتشديد آخره.
وحكى المطري التخفيف، ورجحه الصغاني انتهى. وذكره الواقدي، ورواه البيهقي عن ابن إسحاق أن لفظه "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك
الحبشة، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني.
الحبشة"، لم يقل: عظيم، كما قال في غيره، لما رأى فيه من العلامات الدالة على أنه يسلم، لما صنعه مع المسلمين الذين هاجروا إليه من الإحسان، ومنع الأذى ممن أراده بهم، ويحتمل أنه علم بالوحي أنه يسلم؛ فلذا وصفه بالملك.
وفي رواية الواقدي: سلم أنت بكسر فسكون، أي: مسالم أو مصالح، أو بمعنى الدعاء له أو البشارة بأن يكون ذا سلامة؛ لما علمه من صدقه ومحبته وحسن حاله، وللبيهقي عن ابن إسحاق سلام عليك، ولم يذكر هو، ولا الواقدي "أما بعد" بل عقب الواقدي قوله: سلم أنت، وابن إسحاق: سلام عليك بقوله: "فإني أحمد إليك الله" أي: أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن"، هكذا ذكرهما في الكتاب ابن إسحاق والواقدي، فكأنهما سقطا من قلم المؤلف، "وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله"، أي: ذو روح أضيف إليه تعالى تشريفا له؛ لأنه أوجده بلا أب، أو لأنه يحيي الأموات أو القلوب، "وكلمته" هي قوله تعالى:{كُنْ} [آل عمران: 59] ، فكان بشرا بلا أب، ولا واسطة، وقول البيضاوي: لعل جبريل تمثل لها بشرا سويا، خلقه شابا أمرد تستأنس بكلامه، لتهيج شهوتها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها.
قال السيوطي: كان في غنية عن هذا الكلام الفاسد، ولكن هذا ثمرة التوغل في الفلسفة انتهى، "ألقاها" أوصلها "إلى مريم البتول"، المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، وسميت فاطمة الزهراء بذلك؛ لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى "الطيبة الحصينة" بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، العفيفة فعيلة بمعنى مفعلة، "فحملت بعيسى، فخلقه من روحه"، وسقط من نسخة: فخلقه، لكنها ثابتة عند ابن إسحاق والواقدي، "ونفخه" أي: الله تعالى، أي: نفخ رسوله جبريل، كما قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] ، فأرسلنا إليها روحنا، فهو عطف تفسير للروح.
وفي القاموس: من جملة معانيها النفخ، "كما خلق آدم بيده"، بقدرته وقوته، إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب، من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، "وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له"، لا كما تزعمه النصارى من التثليث وغيره، "والموالاة" المتابعة والمناصرة "على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني،
"فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى".
وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمري، فقال النجاشي له عندما قرأ الكتاب: أشهد بالله أنه النبي الأميّ الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر عنه،
"فإني رسول الله" إلى الناس كافة، "وإني أدعوك" و " أدعو " جنودك إلى الله تعالى"، أي: طاعته وعبادته، "وقد بلغت ونصحت" بضم التاءين على التكلم، "فاقبلوا" بهمزة وصل وفتح الموحدة "نصيحتي"، ففيها سعادة الدارين، "وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا"، قيل هذا في الهجرة الثانية إلى الحبشة في السنة السادسة من النبوة، وبعث الكتاب، كما يأتي كان في سنة ست من الهجرة، واستمرَّ جعفر مقيمًا بالحبشة حتى قدم في خيبر، "ومعه نفر من المسلمين"، وسقط قوله، وقد بعثت إلى هنا من رواية الواقدي، وثبت للبيهقي عن ابن إسحاق "والسلام على من اتبع الهدى" الرشاد، وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضميري" الصحابي المشهور.
قال ابن سعد: أسلم حين انصرف المشركون من أحد، كذا ذكر ابن عبد البر.
قال النووي: والمشهور أنه أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة.
ذكر ابن إسحاق أن عمرًا قال له: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنَّك في الرقة علينا منّا، وكأنَّا في الثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيرًا قط إلا نلناه منك، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلّا فأنت في هذا النبي الأمي، كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمَّنك على ما خافهم عليه، لخير سالف، وأجر ينتظر، "فقال النجاشي له: عندما قرأ الكتاب، أشهد بالله إنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار" عيسى عليه السلام، "كبشارة عيسى براكب الجمل" أحمد صلى الله عليه وسلم، "وأن العيان" بكسر العين المشاهدة له "ليس بأشفى من الخبر عنه"، لأن ما أعلمه من صفاته وأخباره بحقيقة الإسلام، وغير ذلك ثبت عندي، وتيقنته؛ بحيث لو عاينته لا أزداد من حيث العلم بتحققه شيئًا، فلا تعارض بين هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق
ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب".
ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله، من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يزيد على ما ذكرت ثفروفا،
الألواح، فلمَّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت"، رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس؛ لأن معناه أن الخبر يفيد العلم بصفة إجمالية، والمعاينة تفيد حصولها وتصورها عند الرائي، وذلك لا يفيده الإخبار، أو الحديث حكم على المجموع، ومنه فعل موسى، وقول النجاشي، أي: عندي حق لو رأيته ما زدت على اليقين؛ كقوله: لو كشف الغطاء ما زددت يقينًا، "ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني" أخرني "حتى أكثر الأعوان وألين القلوب" إلى الإسلام.
قال ابن سعد: فأخذ الكتاب، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، "ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ابتدأ بها اقتداءً بكتاب المصطفى، لكنه تأدَّب، فلم يبدأ باسم نفسه، بل بالاسم الشريف، فقال:"إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة" بوزن أربعة وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: إنه بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بغير ألف، وقيل: كذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بزيادة ميم في أول بدل الألف.
نقله عن ابن إسحاق الحاكم في المستدرك، والمعروف عن ابن إسحاق الأوّل، ويتحصّل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، قاله في الإصابة، وصوَّب النووي أولها، وقيل: اسمه سليم بضم السين، وقيل: حازم، "سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام"، ذكر الله بالاسم الظاهر دون الضمير لقصد الالتذاذ بذكر الله وعظم شأنه، والثناء عليه تعالى:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره
…
هو المسك ما كررته يتضوع
"أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت" فيه "من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يزيد على ما ذكرت ثفروقًا"، بضم المثلثة، وسكون
إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني، وإن شئت أتيتك بنفسي فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ثم إنه أرسل ابنه.
الفاء، وضم الراء، وسكون الواو، ثم قاف يأتي تفسيره بعلاقة ما بين النواة والقشر؛ "إنه كما ذكرت"، وأتى بهذا إعلامًا بأنه آمن إيمانًا صحيحًا، وأن ما أخبر به المصطفى عن عيسى موافق لما عندهم في الكتب، وتلقَّوه من الأحبار الذين لم يبدِّلوا؛ وأنه ليس كما زعم من ضلَّ من النصارى ابن الله، وليس إلهًا معه، ولا ثالث ثلاثة، فأقسامه على ذلك إذاعة الآية محمدية، وهي موافقة خبره لكتب الله المنزلة التي لم تبدّل "وقد عرفنا ما بعثت به إلينا"، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابه، كما في الرواية، "فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين".
وروى أحمد بسند حسن عن ابن مسعود قصة بعث قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى النجاشي، ليرد أهل الهجرة إليهم، وفيها قول النجاشي: أنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه، وأوضئه، وإن ابن مسعود تعجّل، فشهد بدرًا، وقد أسلفت لفظ الحديث ثمة، فهو صريح في إسلامه قبل بعث الكتاب سنة ست، فيحتمل أنه أسلم، وكتمه عن قومه حتى بعث إليه الكتاب، فأعلن بالإيمان والعلم لله، "وقد بعثت إليك بابني" اسمه أرخى، كما في مغازي التيمي، أو أريخا، كما في دلائل البيهقي عن ابن إسحاق ذكره الإصابة، ودخول الباء على ما يصل بنفسه قليل، وأكثر اللغيين على تعدية بعث فيما يصل بنفسه، كزيد، وبالباء فيما لا يصل كالكتاب، كما قال أبو حيان، "وإن شئت أتيتك بنفسي" في موضع المفعول لشئت، أي: إتياني وجواب الشرط قوله، "فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"، كرر السلام، وجعله ختام الكتاب زيادةً في الشوق والتماس الثواب.
وذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليه مع عمرو بن أمية بكتابين، يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني أن يزوّجه أم حبيبة، وأن يبعث إليه مَن عنده من أصحابه، ويحملهم، فأسلم، وفعل ما أمر به، ودعا بحق عاج، فجعل فيه الكتابين، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها، وجهَّزهم في سفينتين، في إحداهما جعفر ومن معه، "ثم إنه أرسل ابنه" في
في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين رجلًا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيهم أنزل الله تعالى:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع.
ستين نفسًا في سفينة "في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا"، يعني: ابنه والستين الذين معه، كما عند التيمي والبيهقي عن ابن إسحاق، ونجا أصحاب السفينة الأخرى، كما قال، "ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين رجل، عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام" كانوا عنده بالحبشة، وسمَّاهم قتادة، فقال: أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرًا، وتمام، وتميم، ونافع، وظن العز بن الأثير أن بحيرًا هو الراهب المشهور، والظاهر أنه غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما رآه في أرض الشام، وهذا إنما هو بالحبشة، وابن الجنوب من الشمال، ولا مانع أن يسمى اثنان باسم واحد.
قاله في الإصابة، "فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، سورة يس إلى آخرها"، بدل كل من كل، بناءً على المختار أن القرآن باللام للقدر المشترك بين جميعه وبعضه، وقيل: المعرَّف لجميعه، فهو بدل بعض من كل، "فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه" ما أشد شبه "هذا بما كان ينزل على عيسى عليه الصلاة والسلام"، لما علموه حين سمعوا القرآن من الأخبار عن عيسى ورسله والبعث، وغير ذلك من الآيات العجيبة، "وفيهم"، كما رواه ابن أبي حاتم وغيره، "أنزل الله تعالى:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ} أي الناس {مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع، والتي بعدها ثناء عليهم أيضًا، ولنزولها فيمن أسلم منهم غير الأسلوب، فلم يقل النصارى، كما قال:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، فمن بقي على نصرانيته لا يوصف بأنه قريب للمؤمنين، فضلًا عن كونه أقرب، لا كما يتوهم الجهلة من الآية، وليس قول قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة الحق مما جاء به عيسى، فلمَّا بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به، وصدَّقوه مقابلًا لهذا، بل هو بمعناه غايته أنه أبهم أهل الكتاب، فيحمل على بيان ابن الزبير عند النسائي، وابن عباس عند الطبراني، وسعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم؛ أنها نزلت في أصحاب
والثفروق: علاقة ما بين النواة والقمح.
وهذا هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمري سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي، وصلى عليه بالمدينة.
وأمَّا النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام
النجاشي.
وقيل كما حكاه الخازن: نزلت في أربعين من بحران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، ومحصله: أنها نزلت في أصحاب النجاشي، وشاركهم غيرهم، والاختلاف في عدة الحبشيين غير ضار، فالأقل داخل في الأكثر، "والثفروق علاقة ما بين النواة والقمح" من التمرة، وفي القاموس أنه قمع التمر، أو ما يلتزق به قمعها، ونحوه في الصحاح، فتفسير المصنف لا يوافق قولًا منهما إلا بجعل الإضافة بيانية، أي: علاقة هي شيء إلخ
…
، فيوافق الأول.
"وهذا" النجاشي "هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة" الهجرة الأولى، ثم هاجروا إليه بعد ذلك بقليل الهجرة الثانية، كما مَرَّ تفصيله، "وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم، كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، وكتابًا آخر بأن يزوّجه أم حبيبة، ويحمل إليه من عنده من أصحابه، وبعثهما "مع عمرو بن أمية" الضمري "سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة" عند الأكثر.
وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة، كما ذكره البيهقي في الدلائل، "ونعاه"، أي: أخبر بموته "النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي، وصلى عليه بالمدينة"، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته عليه صلاة الغائب من طرق عن جابر: لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم: "قد مات اليوم عبد صالح، يقال له أصحمة، فقوموا فصلوا" فصفنا خلفه.
وعند ابن شاهين والدارقطني عن أنس، قال صلى الله عليه وسلم:"قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي، فقال بعضهم: يأمرنا أن نصلي على علج من الحبشة، فأنزل الله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} " آل عمران: 199] إلى آخر السورة، وللدارقطني وغيره عن أبي هريرة، فوثب صلى الله عليه وسلم، ووثبنا معه حتى جاء المصلَّى، فقام، فصففنا وراءه، فكبَّر أربع تكبيرات.
وروى ابن إسحاق عن عائشة، لما مات النجاشي، كما نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. أخرجه أبو داود، وترجم عليه النور يرى على قبر الشهداء.
"وأما النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم" كتابًا "يدعوه إلى الإسلام"، روى
فكان كافرًا، لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما.
وفي صحيح مسلم عن قتادة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه.
البيهقي عن ابن إسحاق، قال:"هذا كتاب من النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة، ولا ولدًا، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك".
قال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي ولي بعد المسلم صاحب جعفر، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله قبل الفتح.
قال الزهري: كانت كتبه صلى الله عليه وسلم واحدة، يعني: نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهي مدنية بلا خلاف. انتهى. ومراد الزهري: كتبه إلى أهل الكتاب، وهم النجاشيان، وهرقل، والمقوقس، وإلّا فكتاب كسرى وغيره ليس فيه الآية، كما يتلى عليك "فكان كافرًا لم يعرف إسلامه ولا اسمه"؛ لأن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، وأما قوله في الكتاب: الأصحم، فقال ابن كثير: لعله مقحم من الراوي بحسب ما فهمه، "وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما"، فظنهما واحدًا، "وفي صحيح مسلم" ما يرد عليه، ويصرّح بأنهما اثنان؛ فإنه أخرج "عن قتادة" بن دعامة عن أنس "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار" عنيد، كما هو رواية مسلم، "يدعوهم إلى الله، وليس النجاشي الذي صلى عليه"، فصرَّح أنس بأنه غيره، كما هو الواقع عند مسلم لا قتادة، كما أوهمه المصنف، وقد كتب لكلٍّ منهما، كما بيّنَه البيهقي عن ابن إسحاق.
وروى الطبراني عن المسور، قال: خرج صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقال:"إن الله بعثني للناس كافَّة، فأدوا عني، ولا تخلقوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة واليمامة، والعلاء بن المنذر بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي بعمّان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر، وعمر بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعًا قبل وفاته صلى الله عليه وسلم غير عمرو بن العاص.
قال في الفتح: وراد أصحاب السير أنه بعث المهاجر إلى الحارث بن عبد كلال، وجرير إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطبًا إلى المقوقس، وبَيِّنَ أنس عند مسلم أن
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية، واسمه: جريج بن مينا.
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك
النجاشي الذي بعث إليه مع هؤلاء غير النجاشي الذي أسلم. انتهى، والله أعلم.
"وكتب صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس" بضم الميم، وفتح القاف، وسكون الواو، وكسر القاف الثانية، آخره مهملة.
قال البرهان: معناه: المطوّل البنّاء، وفي القاموس وحياة الحيوان: أنه لقب له، ولطائر مطوق طوقًا سواده في بياض، كالحمام، وليس فيهما ما يشعر بالوصف الذي ذكره البرهان، "ملك مصر والإسكندرية" بكسر الهمزة، وتفتح وسكون السين، والنون، وفتح الكاف، والدال المهملة، وبالراء، بلد على طرف بحر المغرب من آخر حدّ مصر، نسبت إلى بانيها الإسكندر الروميّ "واسمه جريج" بضم الجيم الأولى "ابن مينا" بن قرقوب أمير القبط بمصر، من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدح قوارير، فكان يشرب فيه، وأنكر ابن الأثير ذكره، فقال: لا وجه لذكره في الصحابة، فإنه لم يزل نصرانيًّا، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر، ولم يصب من ذكره في الصحابة، انتهى.
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله"، وفي رواية:"من محمد رسول الله إلى المقوقس" لقبه، كما علم قبل، وهو لقب لكل من ملك مصر والإسكندرية، وقيل: ملك مصر والشام فرعون، فإن إضيف إليهما الإسكندرية، فالعزيز كما في سيرة مغلطاي، "عظيم القبط" بالكسر اسم لنصارى مصر، الواحد قبطي على القياس، كما في القاموس، "سلام على من اتبع الهدى" الرشاد، "أما بعد"، أي: مهما يكن من شيء، كما قال سيبويه، قال الكرماني: إن قلت أمَّا للتفصيل، فأين القسيم؟ قلت: التقدير، أمَّا الابتداء فاسم الله، وأما المكتوب، فهو من محمد إلخ
…
، وأما المكتوب به، فهو ما ذكر في الحديث.
قال الحافظ: وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطَّرد في كل موضع، ومعناه: الفصل بين الكلامين، وقال العيني: هذا تعسّف وذهول، فإنَّ أمالها استعمالًا؛ لأن التفصيل، وهو الذي يطلب له القسيم، والآخر الاستئناف من غير أن يتقدَّمها كلام، كما هنا، ولم يقل أحد إنها في مثل هذا الموضع تقتضي القسيم، والتحقيق ما قلنا، كذا قال: فليتأمل، "فإني أدعوك بدعاية" بكسر الدال، كلمة التوحيد، وفي لفظ بداعية، أي دعوة "الإسلام، أسلم تسلم يؤتك" مجزوم جواب ثان
الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة، فتوجه إليه
للأمر، أو بدل اشتمال منه، أو معطوف عليه بحذف العاطف، فلا يرد أن جواب الأمر حصل بقوله تسلم، أو جواب لأمر محذوف هو: وأسلم يؤتك، كما في رواية أخرى، فكرَّر الأمر للتأكيد، أو الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه "الله أجرك مرتين".
قال ابن المنير: مؤمن أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبينا صلى الله عليه وسلم، لما أخذ الله عليهم من العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدّد إيمانه حتى يتعدّد أجره، ثم أجاب بأن إيمانه الأول، بأن الموصوف بكذا رسول، والثاني بأن محمدًا هو الموصوف، فظهر التغاير فثبت التعدد.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم، فحصل له الأجر الثاني؛ لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره، "فإن توليت فعليك" مع إثمك "إثم القبط"، والمراد: رعاياه الذين ينقادون له، سواء كانوا من القبط أو غيرهم، فنَبَّه بذكر طائفة على بقية الطوائف "يا أهل الكتاب" بواو وبدونها، كما أفاده البرهان، وقد صرَّح في الإصابة بأنَّ هذا الكتاب مثل الكتاب إلى هرقل، "تعالوا إلى كلمة سواء"، أي: عدل ونصف "بينا وبينكم"، نستوي نحن وأنتم فيها، صفة لكلمة مرادًا بها الجمل المفيدة، وفسرت بقوله:"أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنَّا مسلمون"، وختم الكتاب كما في الرواية، وحكمة كتب هذه الآية أنَّ القبط وعظيمهم نصارى، وقد جمع النصارى الثلاثة الأشياء المذكورة في الآية، فعبدوا غير الله، وهم اليعقوبية، فرقة منهم الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وأشركوا به في العبادة غيره؛ كالذين قالوا:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} ، و {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فاتبعوهم في تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل "وبعث به مع حاطب ابن أبي بلتعة"، بفتح الموحدة، وسكون اللام، ففوقية، فمهملة مفتوحتين القرشي، مولاهم اللخمي، المتَّفق على شهوده بدرًا، "فتوجه إليه" وحده.
ذكر السهيلي؛ أنه صلى الله عليه وسلم، بعث معه جبرًا -بجيم وموحدة- مكبَّر، مولى أبي رهم الغفاري، وهو وَهْمٌ، فالذي في الاستيعاب والإصابة وغيرهما أن جبرًا كان من القبط، وأنه رسول المقوقس بمارية إليه صلى الله عليه وسلم.
إلى مصر، فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف على البحر، فركب سفينة إليه وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه، فلمَّا رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر إلى الكتاب فضَّه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو عليَّ فيسلط علي؟ فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه؟ فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب:
إنه قد كان قبلك
قال سعيد بن عفير: فالقبط تفتخر بأنه منهم، "إلى مصر" بدل الاشتمال من إليه على نية تكرار العامل، فلا يرد أن الفعل لا يتعدَّى بجر في جر، متحدين لفظًا ومعنًى، فلا يقال: مررت بزيد بعمر، وبخلاف مررت بزيد بالبرية، "فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف" صفة، أي مطّلع "على البحر، فركب سفينة" وقصد بها "إليه، وحاذى مجلسه" مكان جلوسه، "وأشار بالكتاب إليه"؛ بأن جعله بين أصبعيه، وأشار به، "فلما رآه أمر بإحضاره بين يديه"، هكذا في رواية ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ووقع في العيون: خرج حاطب إلى الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه الكتاب، ويحتمل الجمع بأنه لما خرج من السفينة لقيه الحاجب، فأوصله سريعًا إلى المقوقس؛ لعلمه بأمره بإحضاره، "فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر في الكتاب فضَّه"، فك ختمه، كذا في كثير من النسخ بلا واو، وفي بعضها بها، وهي زائدة؛ لأنه جواب لما، "وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو علي فيسلط علي، فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه".
زاد ابن عبد الحكم، فوج له المقوقس، "فاستعاد منه الكلام مرتين" لينظر هل يتلعثم، وكأنَّه جوز أن جوابه أولًا اتفاقي، "ثم سكت" لما أفحمه بالحجة، وعند البيهقي عن حاطب، قال: بعثني صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى المقوقس، فجئته، فأنزلني في منزل، وأقمت عنده، ثم بعث إلي، وقد جمع بطارقته، وقال: إني سأكلمك بكلام، وأحب أن تفهمه مني، قلت: هلمّ، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ فقلت: بلى هو رسول الله، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده، فقلت له: أتشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يصلبوه، أن لا يكون دعا عليهم، بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله، فقال له: أحسنت، أنت حكيم جئت من عند حكيم، ولا يتوهم منافاة بين هاتين الروايتين، فإنه سأله بما ذكره المصنف حين جاء بالكتاب، ثم أنزله وأكرمه، ثم أحضره بعد مع بطارقته، فسأله عن هذا السؤال الثاني، ووعظه حاطب أوّل قدومه عليه لما سكت، "فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك" بمصر
رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
قال: إن دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به الله فَقْد ما سواه، إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلّا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا
"رجل يزعم أنه الرب الأعلى" على من يلي أمركم، وهو فرعون، "فأخذه الله" أهلكه بالغرق "نكال"، أي: عقوبة، أي: جعله نكالًا، وعبرة لغيره "الآخرة"، أي: هذه الكلمة، "والأولى"، أي: قوله قبلها {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وكان بينهما أربعون سنة، وقيل: الأولى الدنيا بالإغراق، والآخرة يوم القيامة بالإحراق، "فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك"، بأن تفعل ما يوجب النقمة، فتصير عبرة لغيرك.
فالمراد نهيه عن كونه هذه الصفة، لا نهي غيره من الاعتبار به، إن لو وقع فيما يوجب النقمة، وسقط غيرك من العيون، فقال البرهان: بالبناء للمفعول على الأحسن، ويجوز بناؤه للفاعل، "قال: إن لنا دينًا لن ندعه إلّا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام" التوحيد المبعوث به الرسل من قبل، "الكافي به الله، فقد" بفتح الفاء، وإسكان القاف، ودال مهملة مفعول به "ما سواه"، أي المغني به عن غيره، الذي فقد بحيث لا يجوز التمسك به، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ، "إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش" قومه حسدًا، وتكذيبًا بالحق مع اعترافهم به، "وأعداهم له يهود" بالرفع بلا تنوين، لأنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث، مع تيقنهم أنه النبي المبشَّر به في كتبهم، "وأقربهم منه النصارى" الذين آمنوا به، "ولعمري ما بشارة موسى بعيسى" التي تحققتها أنت "إلّا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم"، فيجب عليك اتباعه، "وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة" بالنصب مفعول المصدر "إلى الإنجيل"، فكما تعتقد أن ذلك حق، يجب عليك أن تعتقد حقيقة الإسلام، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة يجب اتباعها، "وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق" الثابت الواجب "عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا
النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر.
النبي"، فالحق عليك اتباعه، "ولسنا ننهاك عن دين المسيح" عيسى، ولكنَّا نأمرك به"؛ لأن من دينه الأمر باتباع المصطفى، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه"، بل يأمر بما تفرح وترغب فيه القلوب النيرة، والعقول السليمة، وإنما يجحد بعضهم بطرًا وكبرًا، "ولا ينهى عن مرغوب فيه" عند أولي الألباب.
وفي الروض: ولا ينهى إلّا عن مرغوب عنه، "ولم أجده بالساحر الضال" لنفسه، ولغيره، "ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة"، كذا في العيون، أي: علامتها، عَبَّرَ عنها بالآلة؛ لأنها سبب في تحقيقها وإظهارها، فأشبهت الآلة. وفي الروض: آية مفرد آي، وهي العلامة بلا تكلف، "بإخراج الخبء" بفتح الخاء المعجمة تليها موحدة فهمزة الغائب المستور، كأنه يشير إلى الإخبار بالمغيبيات، "والإخبار بالنجوى"، أي: يعلم ما يتناجون به حقيقة، وهو من جملة الأخبار بالغيب.
قال البيضاوي: والنجوى مصدر، أو جمع نجى، وفي المصباح ناجيته ساررته، والاسم النجوى، "وسأنظر"، وهذا علمه المقوقس من الأخبار الواردة عليه بذلك قبل كتابة المصطفى إليه، فقد ذكر الواقدي بإسناد له عن المغيرة بن شعبة في قصة خروجهم من الطائف إليه قبل إسلام المغيرة، قال: لما دخلنا عليه قال: ما صنعتم فيما دعاكم إليه محمد؟ قالوا: ما تبعه منّا رجل واحد، قال: كيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة، قال: فإلى ماذا يدعو؟ قالوا: إلى أن نعبد الله وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة، والزكاة، وصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا والربا والخمر، فقال المقوقس: هذا نبي مرسَل إلى الناس كافّة، ولو أصاب القبط والروم لاتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر، فقالوا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه، فهزَّ المقوقس رأسه، وقال: أنتم في اللعب، ثم سألهم عن نحو ما وقع في قصة هرقل من سؤاله لأبي سفيان، وفي آخره: فما فعلت يهود يثرب، قلنا: خالفوه، فأوقع بهم، قال: هم قوم حسد، أما أنهم يعرفون من أمره مثل ما
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج ودفعه لجارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثته إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام.
نعرف، "وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم" وضمَّه إلى صدره، وقال: هذا زمان النبي الذي نجد نعته في كتاب الله، رواه ابن عبد الحكم، "فجعله في حق من عاج"، ثم ختم عليه -كما في الرواية، "ودفعه لجارية له" لتحفظه، قال البرهان: لا أعرف اسمها، "ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية"، قال البرهان: لا أعرف اسمه، "فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كتابًا صورته:"بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك" كما في الرواية، فتأدَّب فقدَّم اسم المصطفى، ولم يصف نفسه بالملك، بل كتب مثل ما كتب له، "أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي" خاتم النبيين "وكنت أظن أن يخرج من الشام"؛ لأنه مخرج الأنبياء من قبله، "وقد أكرمت رسولك" بالضيافة، وقلة المكث عندي، وسرعة إذني في دخوله علي.
قال حاطب: وقد كان مكرمًا لي في الضيافة، وقلة اللبث ببابه، ما أقمت عنده إلّا خمسة أيام، وإن وفود العجم ببابه منذ شهرين وأكثر، وأمر لي بمائة دينار وخمسة أثواب، ذكره الواقدي وغيره، "وبعثته إليك بجاريتين" مارية وأختها سيرين، ولم يذكر الثالثة، وهي أختهما، فيصير بالصاد عند مغلطاي، والسين عند اليعمري وغيره، بل اقتصر عليهما لحسنهما وجمالهما، كما قال "لهما مكان من القبط عظيم، وكسوة" هي عشرون ثوبًا لينًا من قباطي مصر، كما أسلفه المصنّف في ترجمة مارية.
وروى ابن عبد الحكم مرسلًا؛ أنها بقيت حتى كفِّن صلى الله عليه وسلم في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة: أنه كُفِّنَ في ثياب يمانية، "وأهديت إليك بغلة"، ذكرها في الكتاب؛ لأنها كانت من مراكبه، وهي دلدل، ولذا قال:"لتركبها"، ولم يذكر فيه الحمار، وهو يعفور، ولا الألف مثقال ذهبًا، ولا العسل الذي من بنها -بكسر الموحدة وفتحها، كما تقدَّم في مارية، لحقارة ذلك عند الملوك، فلا يذكر في الكتب، وللطبراني عن عائشة أنه أهدى له مكحلة عيدانٍ شامية ومرآة ومشطًا "والسلام".
ولم يزد على هذا، ولم يسلم.
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى:
وذكر الواقدي وابن عبد الحكم من طريق أبان بن صالح، قال: أرسل المقوقس إلى حاطب، فقال: أسألك عن ثلاث، فقال: لا تسألني عن شيء إلّا صدقتك، قال: إلام يدعو محمد، قلت: إلى أن يعبد الله وحده، ويأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم، إلى أن قال: صفه لي، فوصفته، فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها: في عينيه حمرة، قلت: ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات والكسر، لا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه من الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني على اتباعه، وأنا أضنّ بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفًا، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك أحدًا.
قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضنَّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه اهـ. فكان كما قال، "ولم يزد" المقوقس "على هذا، ولم يُسْلِم"، بل استمرَّ على نصرانيته حتى فتح المسلمون منه مصر في خلافة عمر، وغلط ابن الأثير وغيره من الحفَّاظ ابن منده وأبا نعيم وابن قانع في ذكرهم له في الصحابة تشبثًا بما أخرجوه من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدح قوارير، فكان يشرب فيه، ولا أدري ما وجه إثباتهم الصحبة له من هذا الخبر، فإنه بفرض أن التصلية منه لا يلزم إسلامه؛ لأن النصارى تعترف بنبوته فيصلون عليه، ويزعمون أنها إلى العرب، ولم يقل أحد أنه سافر واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكون صحابيًّا، فما هذا إلّا غلط على غلط، "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى" بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي العبدي؛ لأنه من ولد عبد الله بن دارم المذكور لا من عبد القيس، كما ظنَّه بعض الناس، أفاد ذلك الرشاطي.
روى إسحاق بن راهويه، ومن طريق الطبراني وابن قانع من سليمان بن نافع العبدي عن أبيه، قال: وفد المنذر بن ساوى من البحرين ومعه أناس، وأنا غليم أمسك جمالهم، فذهبوا بسلاحهم، فسلَّموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع المنذر سلاحه، ولبس ثيابًا كانت معه، ومسح لحيته بدهن، فأتى نبي الله، وأنا مع الجمال أنظر إلى نبي الله.
ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته فإذا فيه:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى، وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه الإسلام. فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله، فإني قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي يهود ومجوس، فأحدث إلي في ذلك أمرك.
فكتب إليه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من
قال المنذر: قال لي صلى الله عليه وسلم: رأيت منك ما لم أر من أصحابك، فقلت: أشيء جبلت عليه أو أحدثته، قال: لا، بل جبلت عليه، فأسلموا، قال سليمان: وعاش أبي مائة وعشرين سنة، قال في الإصابة: ولم يثبت ذلك الأكثر، بل قالوا: لم يكن في الوفد، وإنما كتب معهم بإسلامه، وسليمان ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه، ولم يذكر فيه جرحًا، والقصة معروفة للأشج، واسمه المنذر بن عائذ، وأظنّ سليمان وَهِمَ في ذكر سن أبيه؛ لأنه لو كان غلامًا سنة الوفود، وعاش هذا القدر لبقي إلى سنة عشرين ومائة، وهو باطل، فلعلّه قال مائة وعشر؛ لأن أبا الطفيل آخر الصحابة موتًا، وأكثر ما قيل في عام موته سنة عشر ومائة، انتهى. ومع هذا، فذكر المنذر بن ساوى في القسم الأول موافقة للأقل، ثم في القسم الثالث موافقة للأكثر.
و"ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة، قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته" نقلته، "فإذا فيه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى، وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، لم نر من ذكر لفظ هذا الكتاب، فإنما هذا إخبار بشيء مما اشتمل عليه الكتاب، كما تقول: قرأت القرآن، فوجدت فيه أمر الساعة، وبَعْث من في القبور، وغير ذلك، مع أنك لم تذكر شيئًا من القرآن، "فكتب المنذر" لما وصل إليه الكتاب وآمن، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين" كتثنية بحر في حال النصب والجر، قاعدة من قواعد اليمن، وعمل من أعمالها، كذا في النور، ولا يخالفه قول المصنف كغيره إن البحرين اسم لإقليم مشهور، مشتمل على مدن معروفة، قاعدتها هجر؛ لأن المراد بالقاعدة الجانب الكبير، كالإقليم، فلا ينافي أن هجر قاعدة من قواعده، "فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه"، أي: آمن، "ومنهم من كرهه" فلم يدخل فيه، "وبأرضي يهود ومجوس" باقين على كفرهم، "فأحدث" بهمزة قطع وكسر الدال: ابعث "إليَّ في ذلك أمرك" أفعل فيهم، "فكتب إليه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من
محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. أما بعد، فإني أذكِّرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا،
محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك" خاطبه بالسلام؛ لأن هذا الكتاب كما ترى بعد إسلامه، "فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، لعله قصد بكتب الشهادتين تعليمهم إياهما، "أما بعد".
قال في فتح الباري: اختلف في أول من قالها، فقيل: داود عليه السلام، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: سحبان.
وفي غرائب مالك للدارقطني: أن يعقوب عليه السلام قالها، فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل، فيعقوب أوّل من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم، فيعرب أوّل من قالها، وفي الفتح أيضًا في كتاب الجمعة، قيل: أول من قالها داود. رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي موسى، وفي إسناده ضعف، وروى عبد بن حميد، والطبري عن الشعبي مقوفًا: إنها فصل الخطاب الذي أعطيه.
وروى الدارقطني بسندٍ رواه في غرائب مالك: أوّل من قالها يعقوب.
وروى الفاكهي كعب بن لؤي بسند ضعيف، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: سحبان وائل، وقيل: قسّ بن ساعدة، والأول أشبه، ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصّة، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل، انتهى. "فإني أذكِّرك الله"، أي: أوامره ونواهيه، إشارة إلى أنه لا ينبغي عبادة غيره "عز وجل"، ولا الخروج عن أحكامه لأحد؛ لأنها معلومة على لسان الرسل، فكأنها من المعلوم الحاصل للجاهل بها مجرد غفلة، "فإنه من ينصح، فإنما ينصح لنفسه" لعود ثواب نصحه عليها، "وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم" عطف تفسير "فقد أطاعني"، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، "ومن نصح لهم فقد نصح لي" والدين النصيحة، "وإن رسلي" لا يعارض هذا قوله أولًا إنه بعث له العلاء بن الحضرمي لاحتمال أنه اجتمع معه عند المنذر أحد من المسلمين، فسماهم كلهم رسلًا، أو أطلق الجمع على ما فوق الواحد، فقد ذكر الشامي أنه بعث أبا هريرة مع العلاء، وأوصاه به خيرًا، "قد أثنوا عليك خيرًا" من قبولك الحق، وانقيادك إلى الإيمان.
ذكر السهيلي في الروض: إن العلاء لما قدم عليه قال له: يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرنَّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شَرُّ دينٍ، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل
وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".
الكتاب ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن يكذب في الدنيا أن لا تصدقه، ولمن لا يخون أن لا تأمنه، ولمن لا يخلف أن لا تثق به، فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر، فقال: المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ورأيت في دينكم، فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر. انتهى. أي: فيما أصنع من الذهاب إليه، أو مكاتبته، أو غير ذلك، لا في أنه يسلم أو لا، فإن قوله: وعجبت اليوم ممن يرده، اعتراف منه بأنه دين حق، والأمنية في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، والعاقل لا يقدر إلا ما فيه فلاحه، "وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه" من مال وزوجات أربع يحل نكاحهن، "وعفوت عن أهل الذنوب" المتقدمة منهم في الكفر، من زنا وشرب ونكاح محارم وسب وغير ذلك؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، "فاقبل منهم" الإسلام، ولا تؤاخذهم بما مضى، فإن الله يقول:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، "وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك"، بل نقيمك فيه نائبا عنا، "ومن أقام على يهوديته أومجوسيته فعليه الجزية".
وأخرج ابن منده عن زيد بن أسلم عن المنذر بن ساوى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن افرض على كل رجل ليس له أرض أربعة دراهم وعباءة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية بأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود، كتب صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى:"من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم له ذمة الله ورسوله".
وذكر أبو جعفر الطبري: أن المنذر هذا مات بالقرب من وفاته صلى الله عليه وسلم، وحضره عمرو بن العاص، فقال له: كم جعل صلى الله عليه وسلم للميت من ماله عند الموت، فقال: الثلث، قال: فما ترى أن أصنع في ثلثي، قال: إن شئت قسمته في سبل الخير، وإن شئت جعلت غلته بعدك على
وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملكي عمان، وبعثه مع عمرو بن العاص:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر -بفتح الجيم- وعبد ابني الجلندي
من شئت، قال: ما أحب أن أجعل شيئًا من مالي كالسائبة، ولكني أقسمه، "وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملكي عمان".
قال الحافظ: بضم المهملة وخفة الميم، قال الرشاطي باليمن: سميت بعمان بن سبأ، ينسب إليها الجلندي رئيس أهلها.
روى مسلم عن أبي برزة، بعث صلى الله عليه وسلم رجلًا إلى قوم، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".
وروى أحمد عن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إني لأعلم أرضًا يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" ، وبعمل الشام بلدة يقال لها عمان، لكنها بفتح المهملة، وشد الميم، وهي التي أرادها القائل:
في وجهه خالان لولاهما
…
ما بت مفتونًا بعَمَّان
وليست مرادة هنا قطعًا، وإنما وقع اختلاف للرواة فيما جاء في بعض طرق حديث صفة الحوض النبوي من ذكر عمان، انتهى من فتح الباري، "وبعثه" في ذي القعدة سنة ثمان، ووقع عند ابن عبد البر، أنه بعد خيبر، قال في الفتح: فلعلها كانت بعد حنين، فتصحَّفت "مع عمرو بن العاص"، ولفظه كما رواه ابن سعد مع القصة كلها من طريق عمرو بن شعيب عن مولى لعمرو بن العاص عنه:"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر" بفتح الجيم مصروف بوزن جعفر، إلّا أن بدل العين تحتانية، "وعبد" بموحدة، وقيل: تحتيه لا إضافة فيهما، وصوَّب الخشني أنه عياد، وهو الذي في رواية الطبراني، وضبطه في الفتح -بفتح المهملة وشد التحتانية وآخره معجمة، "ابني الجلندي" بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون النون والقصر، كما في الفتح، غير مبالٍ بقول شيخه في القاموس: جلنداء -بضم أوله، وفتح ثانيه ممدودة، وبضم ثانية مقصورة- اسم ملك عمان، ووَهِمَ الجوهري، فقصر مع فتح ثانيه، قال الأعشى:
وجلنداء في عمان مقيمًا
…
ثم قيًسا في حضرموت المنيف
وذكر وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق، أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجلندي عمرًا يدعوه إلى الإسلام، فقال: لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه: لا يأمر بخير إلّا كان أوّل آخذ به، ولا ينهى عن شر إلّا كان أوّل تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر، وإنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي، وأنشد أبياتًا منها:
سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة، لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زال عنكما، وخيلي تحلّ بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما".
وكتب أُبَيّ بن كعب، وختم الكتاب.
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد -وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدَّم علي بالسنّ والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه.
ثم قال: وما تدعو إليه؟
قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عُبِدَ من دونه، وتشهد أن
فيا عمرو، قد أسلمت لله جهرة
…
ينادي بها في الواديين فصيح
قال في الإصابة، فيحتمل أن عمرًا أرسل إليهم جميعًا "سلام على من اتبع الهدى، أمَّا بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما" بهمزة قطع، وكسر اللام، أمر من الرباعي، "تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة، لأنذر من كان حيًّا، ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما أن أقررتما بالإسلام ولَّيتكما" بشدِّ اللام من التولية، "وإن أبيتما أن تُقِرَّا" هكذا في نسخ صحيحة، كالعيون وغيرها، ويوجد في بعض النسخ: أن لا تقرا، بالزيادة لا، وبتقدير صحتها رواية، فالمعنى: إن أبيتما الإسلام وأردتما أن لا تقرَّا "بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحلّ" بضم المهملة تنزل "بساحتكما" فناء دوركما "وتظهر نبوتي"، أي أرها "على ملككما" فتزيله، "وكتب" الكتاب أُبَيّ بن كعب، وختم" صلى الله عليه وسلم "الكتاب" بنفسه، أو بأمره.
"قال عمرو: فخرجت" وسرت "حتى انتهيت إلى عمان، فلمَّا قدمتها عمدت" بفتح الميم على المشهور بوزن قصدت ومعناه، وفي لغة بكسر الميم، وقد مرَّ مرارًا "إلى عبد، وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقًا" بضمتين، "فقلت: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك" بهذا الكتاب، وبالدعاء إلى ما تضمَّنه من الإيمان، "فقال" عبد: "أخي" جيفر "المقدَّم علي بالسن والملك" بضم الميم، "وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه، ثم قال: وما تدعو إليه؟، قلت: أدعوك إلى" عبادة "الله وحده، لا شريك له، و" إلى أن "تخلع ما عُبِدَ من دونه، و" أن "تشهد أن
محمدًا عبده ورسوله.
قال: يا عمرو، إنك كنت ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة.
قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدّق به، وقد كنت على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام.
قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك؟
قلت: عند النجاشي، وأخبرته أنَّ النجاشيّ قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتَّبعوه.
قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم.
قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من كذب.
قلت: ما كذبت وما
محمد عبده ورسوله".
"قال: يا عمرو، إنك كنت" أي: وجدت "ابن سيد قومك"، والذي في العيون وغيرها: إنك ابن بدون كنت، "فكيف صنع أبوك" العاص بن وائل السهمي، أحد الكفار المستهزئين، "فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت" بكسر الدال الأولى "أنه كان أسلم، وصدَّق به، وقد كنت" أنا "على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك، قلت: عند النجاشي" على يده، وهو من اللطائف، صحابي أسلم عن يد تابعي، "وأخبرته أن النجاشي قد أسلم".
"قال: كيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتبعوه. قال: والأساقفة" بفتح الهمزة، فسين مهملة، فألف، فقاف مكسورة، ثم فاء، ثم تاء تأنيث، جمع أسقف، وهو السقف -بضم السين، والقاف- لفظ أعجمي، ومعناه: رئيس دين النصارى، وقيل: عربيّ، وهو الطويل في انحناء، وقيل: ذلك للرئيس؛ لأنه يتخاشع، كما في الفتح "والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم، قال: انظر يا عمرو ما تقول"، استعظم وقوع ذلك، واتَّهمه في صحة الخبر، واحتمل عنده أنه قصد ترويج ما أرسل به، فقال له ذلك، واستشهد عليه بالعلوم من شدة قبح الكذب ليتجنبه، فقال: "إنه ليس من خصلة" بالفتح خلة "في رجل أفضح"، أي أكثر فضيحة "له من كذب، قلت" أنا صادق في خبري، "وما
نستحله في ديننا.
ثم قال: أخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه.
قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدّق به، ولكن أخي أضنَّ بملكه من أن يدعه ويصير ذَنَبًا.
قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، يأخذ الصدقات من غنيهم ويردها
كذبت، وما نستحله في ديننا" زيادة عن كونه أفضح خصلة، "ثم قال": أشار إلى أنه حذف بعض الحديث، وهو كذلك، فعند ابن سعد ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى، قال: شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج خرجًا، فلما أسلم وصدَّق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا والله، ولو سألني درهمًا واحدًا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، قال: يناق أخوه، أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين دينًا محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضنّ بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو، قلت: والله صدقتك، قال عبد: "فأخبرني ما الذي يأمر به، وينهى عنه"، ويناق بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف غير مصروف للعملية، والعجمة، لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه، قاله البرهان. "قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم" هما من أفراد الطاعة، "وينهى عن الظلم، والعدوان، وعن الزنا، وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن"، هو كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي يعمل وينصب ويعبد، والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بين الصنم والوثن، ويطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن عل غير الصورة، ذكره البرهان.
"والصليب" للنصارى، والجمع: صلب وصلبان، قاله الجوهري. واستعمل عمرو مقام الإطناب زيادة في البيان؛ لأنه مقام خطابة، وإلا فكل هذه من أفراد معصية الله، فأجمل أولًا، ثم فَصَّل بعض التفصيل ليكون أوقع في النفس.
"قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونصدّق به، ولكن أخي" جيفر "أضنّ" بمعجمة وشد النون: أبخل "بملكه من أن يدعه، ويصير ذَنَبًا" بفتح المعجمة، والنون وموحدة، أي: طرفًا وتابعًا بعد أن كان رأسًا ومتبوعًا.
"قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، يأخذ الصدقات من غنيهم، ويردّها على
على فقرائهم.
قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟
فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم. قال: والله ما أرى قومي في بعد دراهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.
قال: فمكثت ببابه أيامًا وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلّم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلّا أني رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟
فقرائهم".
قال: "إن هذا خلق حسن"، لما فيه من مواساة الفقراء، "وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم" جمع سائمة، وهي الراعية "مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم، قال: والله ما أرى" بضم الهمزة: أظن "قومي في"، أي مع "بعد دراهم" عنه صلى الله عليه وسلم، فيأمنون مجيء خيله إليهم لذلك، "وكثرة عددهم"، فبتقدير مجيئه إليهم لا يخافون منه لكثرتهم، "يطيعون" ضمنه معنى يقرون، فعدَّاه بالباء، فقال "بهذا" الذي ذكرته.
"قال: فمكثت ببابه أيامه، وهو يصل إلى أخيه، فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا" لأدخل معه على أخيه، "فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي" بفتح المعجمة، وإسكان الموحدة ومهملة، تثنية ضبع، حذفت نونه للإضافة لياء المتكلم، وهو العضد، أو وسطه، أو ما بين الإبط إلى نصف العضد، والجمع أضباع، مثل: فرخ وأفراخ -كما في النور. "فقال: دعوه فأرسلت" بضم الهمزة، والتاء مبني للمفعول، "فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني" بفتح الدال: يتركوني "أجلس" على عادة ملوك العجم، في أن نحو رسول شخص ولو ملكًا لا يجلس عند الملك، "فنظرت إليه، فقال: تكلّم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه عبد، "فقره مثل قراءته"، فاستوفاه إلى آخره.
"إلّا أني رأيت أخاه" عبدًا "أرقَّ منه، فقال" جيفر: "ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟
فقلت: تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال. فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة، وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم، ويستعمك على قومك، ولا تدخل عليكم الخيل والرجال.
قال: دعني يومي هذا وارجع إلي غدًا.
فرجعت إلى أخيه، فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملَّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ههنا ألفت
فقلت: تبعوه إمَّا" بكسر الهمزة، وشد الميم "راغب في الدين"، فدخل فيه طوعًا، "وإمَّا مقهور يالسيف"، فدخل كرهًا إلى أن هداه الله وحسن إسلامه، كالمؤلَّفة، "قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة" بفتح الحاء المهملة، والراء، ثم جيم، ثم تاء تأنيث، كذا في النسخ، فإن صحَّ، فهي شجر ملتف -كذا في النور، والمراد: التجوز، "وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل" زاد في رواية، كما في العيون: ويبيد خضراءك، أي: جماعتك -بفتح الخاء وإسكان الضاد المعجمتين والمد، "فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك"، فتبق على ملكك مع الإسلام، "ولا تدخل عليكم الخيل والرجال"، وفي هذا مع سعادة الدارين راحة من القتال، وفيه قوة نفس عمرو رضي الله عنه، وشدة شكيمته، خاطبه بهذا الخطاب، وأنذره بالحرب والهلاك في محل ملكه بحضرة أعوانه، مع أنه واقف بين يديه لم يتمكّن من الجلوس، ومع ذلك حمى الله رسول نبيه ببركته صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذه ولا بكلمة، بل خاطبه باللين؛ حيث "قال: دعني يومي هذا، وارجع إلي غدًا، فرجعت إلى أخيه، فقل: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم" أخي "إن لم يضنّ" بفتح المعجمة وكسرها: يبخل "بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا" لبعد الدار، "وإن بلغت خيله ههنا ألفت" بالفاء: وجدت
قتالًا ليس كقتال من لاقى.
قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني.
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي، وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري:
"قتالًا ليس كقتال من لاقى".
قال عمرو: "قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه"، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه أجابه، كما في الرواية، "فأصبح، فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني"، فلم يزل عمرو بعمان عندهم حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، كما في بقية الرواية عند ابن سعد، ولعلَّ إقامته كانت بأمر المصطفى حين بعثه، أو إشارة فهم منها ذلك، أو باجتهاده حتى يجمع الصدقة، وروى عبدان بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي أميري عمان، فأسلما وأسلم معهما بشر كثير، ووضع الجزية على من لم يسلم، "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة" بلاد بالبادية.
قال الجوهري: كان اسمها الجو، فسميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، لكثرة ما أضيف إليها، وقيل: جوّ اليمامة، زاد المجد، وهي أكثر نخيلًا من سائر الحجاز، وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة، على ست عشرة مرحلة من البصرة، وعن الكوفة نحوها "هوذة بن علي" الحنفي -بفتح الحاء، كما قال البرهان تبعًا للجوهري، وقال الدميري: بضم الهاء، وإسكان الواو، وبالذال المعجمة، كما في الصحاح وغيره، ونقل بعضهم عن القطب إهماهما.
قال البرهان: وما أظنّه إلا سبق قلم، "وأرسل به" الباء زائدة لتعدي أرسل بنفسه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ، أو ضُمِّنَ معنى بعث، وهو فيما لا يصل بنفسه كالكتاب يعدَّى بالباء، كما مَرَّ "مع سليط" بفتح السين وكسر اللام ثم تحتية ساكنة ثم طاء مهملتين، "ابن عمرو" بفتح العين، ابن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل -بكسر الحاء، واسكان السين المهملتين، ابن عامر بن لؤي القرشي "العامري"، أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة في قول ابن إسحاق، وشهد بدرًا
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك".
فلمَّا قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختومًا، أنزله وحباه واقترأ عليه الكتاب، فردَّ ردًّا دون رد، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك
في قول الواقدي، وأبي معشر، واستشهد باليمامة.
وفي الصحابة سليط بن عمر، والأنصاري، وسليط بن عمرو بن زيد، فلذا قيّد بالعامري واختاره للإرسال؛ لأنه كان يختلف إلى اليمامة قبل ذلك، "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوزة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر" وينتهي "إلى منتهى"، فهو متعلق بمحذوف، أو ضُمِّنَ معناه، أي: يظهر منتهيًا إلى "الخف" الإبل، "والحافر" الخيل، والبغال وغيرها، والمراد: إنه يصل إلى أقصى ما يصلان إليه فيؤمنون به.
وفي المصباح: انتهى الأمر بلغ النهاية، وهي أقصى ما يمكن أن يبلغه، "فأسلم تسلم، وأجعل" بالجزم معطوف على جواب الأمر "لك" ولاية "ما تحت يديك"، "فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله -صلى الله عيه وسلم- مختومًا، أنزله، وحباه" بفتح المهملة، وموحدة خفيفة، أي: أعطاه، كما في النور، ولا يتكرَّر مع قوله بعد أجازه؛ لأنها عند السفر، وهذا الحباء عند القدوم، فلا حاجة إلى أن قراءته بتحتية ثقيلة أظهر، "واقترأ عليه الكتاب"، أي: قرأ، وبه عبَّر اليعمري، وهو لغة، ففي القاموس: قرأه، وبه: كنصره، ومنعه، كاقترأه: تلاه، قال السهيلي: وقال سليط: يا هوذة، إنَّك سوَّدتك أعظم حائلة، أي بالية، وأرواح في النار، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم زود بالتقوى، إن قومًا سعدوا برأيك فلا تشقين به، وإني آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة، وفي عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت، وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء، وهو المطلع، فقال هوزة: يا سليط، سودني من لو سودك شرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور، ففقدته، فموضعه من قلبي هواء، فاجعل لي فسحة يرجع إلى رأي، فأجيبك به إن شاء الله، "فردَّ ردًّا" فيه لطف "دون رد" بعنف، كما وقع لغيره من الجبارين، "وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله"، زاد في الرواية: وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، "والعرب تهاب مكاني" تجلّه وتعظمه لشدة بأسي، "فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، كأنه أراد شركته في النبوة، أو الخلافة بعده، كما
وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر.
فقدم بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه وقال:"لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد، وباد ما في يديه".
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بأن هوذة مات، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدي" فكان كذلك.
سأله ابن الطفيل فيها، ولم يرض بكونه تحت ولايته التي ذكرها في قوله:"وأجعل لك ما تحت يديك"، "وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر" بفتحتين، بلد باليمن مذكَّر مصروف، وقد يؤنَّث ويمنع، واسم لجميع أرض البحرين، كما في القاموس، وهو المراد هنا، لا التي بقرب المدينة، "فقدم بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره" بخبره، "وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: "لو سألني سيابة" بفتح المهملة وخفة التحتية فألف فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث- أي: ناحية، أي: قطعة، "من الأرض ما فعلت" هكذا فسَّره ابن حديدة، وأما البرهان ففسره بالبلح، أو البسر تبعًا للقاموس، وهو أبلغ، لكن بتقدير مضاف، أي: فدر بلحة، أو بسرة من الأرض أو المراد نفسه: البلحة، أو البسرة بتقدير ناشئة. "باد" بموحدة، فألف، فمهملة: هلك، "وباد ما في يديه"، أي: هلك، بمعنى ذهب عنه وتفرَّق، وهو خبر أو دعاء، "فلمَّا انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام"، فأخبره "بأن هوذة" قد "مات" على كفره؛ لأنه لم يجب إلّا بشرط لم يعطه، ولفظًا: فأخبره، وقد ثبت في الرواية، فكأنهما سقطا من قلم المصنف، أو تعمد حذفهما لفهم المعنى، "فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أن اليمامة سيظهر بها كذَّاب يتنبأ، يقتل بعدي"، فكان كذلك"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، فظهر بها مسيلمة -لعنه الله- وقتل.
وفي الرواية: فقال قائل: يا رسول الله، من يقتله، فقال: أنت وأصحابك، قال البرهان، لا أعرف هذا القائل بعينه، والظاهر أنه من الذين اشتركوا في قتله، أو خالد بن الوليد.
وذكر الواقدي أن أركون دمشق -عظيم من عظماء النصارى، كان عند هوذة، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فلم أجبه، قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بديني وأنا ملك قومي، ولئن تبعته لن أملك، قال: بلى، والله لئن اتبعته ليملِّكَنَّك، وإن الخير لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، وأنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأركون -بفتح الهمزة، والراء، وضم الكاف- الرومي، قال في الإصابة: أدرك الجاهلية، وأسلم على يدي خالد في عهد أبي بكر، ذكره ابن عساكر في
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان بدمشق، بغوطتها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدّق، فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك". وأرسله مع شجاع بن وهب.
ترجمة حفيده إبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان بن يحيى بن أركون، انتهى.
فقول البرهان: لا أعلم له ترجمة، والظاهر هلاكه على كفره، فيه قصور ومنع، "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ابن أبي شمر" بكسر الشين المعجمة، وإسكان الميم، وبالراء "الغساني" هلك عام الفتح، قال في النور: الظاهر على كفره، "وكان" أميرًا "بدمشق" من جهة قيصر "بغوطتها"، بدل من دمشق -بضم الغين المعجمة، وسكون الواو، وطاء مهملة، وتاء تأنيث.
قال الجوهري: موضع بالشام كثير الماء والشجر، وهي غوطة دمشق.
وفي القاموس: الغوطة -بالضم- مدينة دمشق، أو كورتها، لكنه لا يوافق ما ذكر المصنف، "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث ابن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله، وصدق" كذا في نسخ كالعيون، وآمن بواو عطف التفسير، وفي نسخة بالفاء عطف مفصَّل على مجمل "على من اتبع الهدى فآمن وصدق" بصيغة الماضي، "فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له"، فإنك إذا فعلت ذلك "يبقى لك ملكك"، فختم الكاتب، "وأرسله مع شجاع بن وهب" بن ربيعة بن أسد بن صهيب بن مالك بن كثير بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، واستشهد باليمامة، وكونه الذي أرسله بالكتاب للحارث، ذكره الواقدي، وابن إسحاق وابن حزم.
وقال ابن هشام: إنما توجه لجبلة بن الأيهم، وقال أبو عمر: لهما معًا، وقيل: لهرقل مع دحية، ولم يتمم المصنف القصة، وعند الواقدي وابن عائذ، قال شجاع: فانتهيت، فوجدته مشغولًا بتهيئة الضيافة لقيصر، وهو جاءٍ من حمص إلى إيلياء؛ حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرًا لله تعالى، فأقمن على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا اسمه مرى -بكسر الميم مخففًا- كما في الإصابة يسألني عنه صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، فيقول: إني قرأت في الإنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، وكنت أظنّه يخرج بالشام، فأراه خرج بأرض القرظ، فأنا أومن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني.
قال شجاع: وكان يكرمني، ويحسن ضيافتي، ويخبرني باليأس من الحارث، ويقول: هو
وقال صاحب "باعث النفوس": روي عن أبي هند الداري قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري، وأخوه نعيم، ويزيد بن قيس،
يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يومًا، فوضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه الكتاب، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته، عليّ بالناس، فلم يزل جالسًا حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية، وقد بعثه صلى الله عليه وسلم إليه، فلمّا قرأ قيصر كتاب الحارث، كتب إليه أن: لا تسر إليه، واله عنه، ووافني بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم فدعاني، وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك، قلت: غدًا، فأمر لي بمائة، ووصلني مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره بأني متتبع دينه، فقدمت فأخبرته صلى الله عليه وسلم، فقال: بادٍ ملكه، واقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق، انتهى.
"وقال صاحب باعث النفوس" إلى زيارة القدس المحروس، وهو ركن الشام، شيخ الإسلام، برهان الدين إبراهيم الفزاري، وذكر المصنف هذه القصة هنا، وإن كان ذكرها في الوفود أنسب، كما فعل غيره دفعًا لتوهُّ أنه لا يقطع أحدًا من الأرض شيئًا من قوله في قصة هوذة:"لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت"، فكأنه قال: فمن سأله شيئًا من النبوة ونحوها منعه، ومن الملك أو الأرض أعطاه لقصة الدرايين، ولذا كان الأَوْلَى ذكرها قبل الكتاب إلى الحارث، كما هو في بعض النسخ، وفي كثير منها إسقاطها.
"روي" عند أبي نعيم من طريق سعيد بن زياد -بفتح الزاء المنقوطة، وشد التحتانية ابن فائد بالفاء ابن زياد، بضبط حفيده ابن أبي هند عن آبائه إلى أبي هند وفائد، وابنه ضعيفان، ولذا مرضه يروى "عن أبي هند الداري" من بني الدار بن هانئ بن حبيب، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: بر بن عبد الله، ويقال: بر بن عبد الله، وقال ابن حبان: الصحيح أن اسمه بر بن برو، وقيل: برير، وقيل: ابن برسن، قال أبو عمر: كان يقال: إنه أخو تميم لأمه وابن عمه، يعد في أهل الشام، ومخرج حديثه عن ولده، كما في الإصابة، "قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم" سنة تسع، وقت انصرافه من تبوك، "ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري" مشهور في الصحابة كان نصرانيًّا، فقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبر الجساسة والدجال، فحدَّث صلى الله عليه وسلم عنه بذلك على المنبر، فعدَّ من مناقبه، وهو أوّل من أسرج السراج في المسجد، رواه الطبراني، وأوّل من قصَّ، وذلك في عهد عمر، رواه ابن رواهويه. وكان كثير التهجد، "وأخوه نعيم" بن أوس، قال أبو عمر: يقال: وفد مع أخيه، "ويزيد بن قيس" بن خارجة الداري.
وأبو عبد الله بن عبد الله -وهو صاحب الحديث، وأخوه الطيب بن عبد الله، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا، وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: سلوا حيث شئتم. قال أبو هند: فنهضنا من عنده صلى الله عليه وسلم إلى موضع نتشاور فيه: أين نسأل.
فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها، فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون في ملك العرب، وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا. قال تميم: نسأله بيت جيرون، فقال أبو هند: أكبر وأكبر، فقال تميم: فأين ترى أن
ذكره ابن إسحاق فيمن أوصى له صلى الله عليه وسلم بمائة وسق من تمر خيبر، "وأبو عبد الله" الذي في رواية أبي نعيم المذكورة، وأبو هند "بن عبد الله، وهو صاحب الحديث"، أي: راوية، وعلى فرض صحة نقل المصنف، فيكون له كنيتان، ولم يذكر ذلك في الإصابة، "وأخوه الطيب بن عبد الله" الداري، ويقال: ابن بر، ويقال: ابن البراء أخو أبي هند، كما في الإصابة، "فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن" كما لأبي نعيم ولابن أبي حاتم، والواقدي، فسماه: عبد الله، ولعلَّ ذلك للتشاؤم بنفي الطيب، أو كراهة إيهام التزكية لو سئل من أنت، فيقول الطيب، "وفاكه" بفاء، فألف، فكاف مكسورة، فهاء أصلية "ابن النعمان" بن جبلة -بجيم، فموحدة، فلام مفتوحات- الداري، ممن أوصى له النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه أبو نعيم في روايته رفاعة بن النعمان، وكذا الواقدي من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قدم وفد الداريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، وهم عشرة: هانئ بن حبيب وعروة بن مالك بن شداد، وقيس بن مالك، وأخوه مرة، وذكر الستة باقي العشرة، قال: فسمى الطيب عبد الله، وسمى عروة عبد الرحمن، وذكر الرشاطي أن هانئًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قباء مخوصًا بالذهب، فأعطاه العباس، فباعه من يهودي بثمانية آلاف، "فأسلمنا، وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: "سلوا" أرضا "حيث"، أي: في أي مكان "شئتم" أقطعها لكم، "قال أبو هند: فنهضنا" قمنا "من عنده صلى الله عليه وسلم"، وذهبنا "إلى موضع نتشاور فيه أين نسأل، فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها" بضمّ الكاف: ناحيتها، "فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون فيه ملك العرب، وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا"، فيفوت مرادنا، "قال تميم: نسأله بيت جيرون" بفتح الجيم، وإسكان التحتية موضع بدمشق، أو بابهها الذي بقرب الجامع عن المطرزي، أو منسوب إلى الملك جيرون؛ لأنه كان حصنًا له، وباب الحصن باقٍ هائل، قاله في القاموس، "فقال أبو هند: أكبر وأكبر" من بيت المقدس؛ لأنه محل الملك، "فقال تميم: فأين ترى أن
نسأله؟ قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم عليه السلام، فقال تميم: أصبت ووافقت.
قال: فنهضنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا تميم، أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه، أو أخبركم"؟ فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله فنزداد إيمانًا، فقال عليه الصلاة والسلام:"أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعة من أدم، وكتب فيها كتابًا نسخته:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للداريين إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم
نسأله، قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم عليه السلام، فقال تميم: أصبت"، فيما رأيت، "ووافقت" ما نطلبه، وفي نسخة وفقت، أي: في رأيك، "قال: فنهضنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا تميم، أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه" تتشاورون، "أو أخبركم"، فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله، فنزداد إيمانًا" فيه، إن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول الجمهور، "فقال عليه الصلاة والسلام: "أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعة من أدم" جلد، "وكتب فيها كتابًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يحتمل أن الصلاة من جملة الكتاب، أو من الراوي، "للداريين" بدال مهملة، فألف، فراء، فتحتيتين، فنون، نسبة للدار بن هانئ جدّهم، "إذا أعطاه الله الأرض" عبَّرَ بإذا؛ لأنه متحقق لذلك بوعد الله، "وهب لهم بيت عينون" بفتح المهملة، فتحتية ساكنة، فنونين بينهما واو، "وحبرون" بفتح الحاء المهملة، بوزن زيتون، كما في القاموس وغيره، ويقال فيه أيضًا: حبرى -بكسر أوله، وإسكان ثانيه وفتح الراء على وزن، فِعلى، كما في معجم الكبرى، وقال غيره: بفتح الحاء، قال الكبرى: وهما بين وادي القرى والشام، وليس له صلى الله عليه وسلم بالشام قطيعة غيرهما، وفي المراصد حبرون اسم القرية التي بها إبراهيم الخليل قرب بيت المقدس، غلب على اسمها الخليل، ويقال حبرى "والمرطوم".
"وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد"، عبَّر بميم جمع الذكور العقلاء، فلم يقل من فيها تنزيلًا لها منزلة العقلاء تجوزًا، ثم هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ملَّكه الأرض كلها، وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم فيما أقطعهم، وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة، فأرض الدنيا أَوْلَى.
وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد" شهد عباس بن عبد المطلب وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنه وكتب.
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله، فعالج في زواية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا وهو يقول:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت.
قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابًا نسخته.
"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم، وجميع ما فيهم نطية بت ونفذت، وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد
ذكر المصنف في الخصائص تبعًا لغيره "شهد عباس بن عبد المطلب" أبو الفضل الهاشمي، "وخزيمة ابن قيس""وشرحيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة "ابن حسنة" هي أمّه، وأبوه عبد الله بن المطاع الكندي، كما تقدَّم كثيرًا، "وكتب" الكتاب شرحبيل، "قال" أبو هند راوي الحديث، "ثم دخل" صلى الله عليه وسلم "بالكتاب إلى منزله، فعالج في زاوية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا، وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ} أحقهم {ِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} " في زمانه {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد صلى الله عليه وسلم؛ لموافقته له في أكثر شرعه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} من أمته، فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا نحن على دينه، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ناصرهم وحافظهم، وحكمة تلاوتها في ذا المقام لا تخفى؛ لأنه لما كانت المحلات من آثاره، فلا أولى بها من هذا النبي والذين آمنوا، فإذا خص النبي بها بعضهم كانت له، "ثم قال:"انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت" أي: رجعت إلى المدينة، سماه هجرة مجازًا؛ لأنَّ قدومهم كان عند انصرافه من تبوك، كما مَرَّ فائتوني، "قال أبو هند: فانصرفنا، فلمَّا هاجر صلى الله عليه وسلم" رجع "إلى المدينة قدمنا عليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته:"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى" بالنون، أي أعطى، وقرأ:"إنا أنطيناك الكوثر" بالنون، "محمد رسول الله، لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين" اسم للقرية المسمَّاة عينون، كما قال النجم: فهما اسمان لمحل واحد، "وحبرون، والمرطوم، وبيت إبراهيم برمتهم، وجميع ما فيهم نطية" عطية "بت ونفذت" النطية "وسلمت" أنا "ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد
الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله" شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي.
فلما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخْلِفَ أبو بكر وجنَّد الجنود إلى الشام، كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جعلوا عنها وأراد الداريون يزرعونها فليزرعونها بلا خراج، وإذا رجع إليها أهلها فهي لهم وأحق بهم، والسلام عليك. نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى.
وكتب صلى الله عليه وسلم ليوحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة لما أتاه بتبوك، وصالح
الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله"، لمخالفته أمر رسوله، "شهد أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، " وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي"، وفي رواية: معاوية، وأخرى غيرهما، "فلمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، وجنَّد الجنود إلى الشام، كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة" عامر "بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك"، أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد، فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين"، أضافها إليهم؛ لأنها بمجرد الفتح صارت ملكًا لهم بعطيته صلى الله عليه وسلم، "وإن كان أهلها قد جعلوا"، أخرجوا "عنها، وأراد الداريون يزرعونها، فليزرعونها بلا خراج، وإذا رجع إليها أهلها، فهي لهم، و" هم بها "أحق، والسلام عليك، نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى" مؤلفه، "وكتب صلى الله عليه وسلم ليوحنَّة" بضم التحتية، وفتح المهملة، وفتح النون الثقيلة، ثم تاء تأنيث، ويقال فيه: يوحنَّا، وهو كذلك في نسخة، "ابن رؤبة" بضم الراء، فهمزة ساكنة فموحدة- النصراني.
قال البرهان: لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه، "صاحب أيلة" بفتح الهمزة، وإسكان التحتية: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة، على ساحل البحر من بلاد الشام، قاله أبو عبيدة، ويقال: سميت أيلة باسم بنت مدين بن إبراهيم، وروي أنها القرية التي كانت حاضرة البحر، "لما أتاه بتبوك" حين خاف أن يبعث إليه، كما بعث إلى أكيدر "وصالح
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه الجزية.
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقًا يريدونه من بر أو بحر". هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل ابن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه المصطفى بردًا، كما في الصحيح، "فأعطاه الجزية"، أي: التزمها وانقاد لإعطائها عنه وعن أهل مدينته، وكانوا ثلاثمائة رجل، فوضع صلى الله عليه وسلم الجزية ثلاثمائة دينار كل سنة، كما ذكر ابن سعد وغيره، ولفظ الكتاب كما عند ابن إسحاق وغيره: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة" بفتح الهمزة والميم والنون وتاء تأنيث أمان "من الله، ومحمد النبي رسول الله"، وذكر الله تبركًا.
والمعنى: أمان لكم من رسول الله بوحي من الله "ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم" بالجر بدل "وسائرهم"، أي: باقيهم؛ إذ الأساقفة بعض منهم، لكن لفظ ابن إسحاق، وتبعه اليعمري:"سفنهم وسيارتهم"، أي: قافلتهم "في البر والبحر"، يعني: إن الأمان عام لهم في جميع الأماكن التي يكونون بها، "لهم ذمَّة الله" أمانه، "وذمَّة النبي" لفظ ابن إسحاق أيضًا: ومحمد النبي "ومن كان معه" عطف على يوحنّا، أي: أمنه له ولمن كان معه "من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر".
وحاصله أن في أيلة أهلها الأصليين، وجماعة من هذه البلاد توطنوها، فعمَّ الجميع بالأمنة، "فمن أحدث" جدَّد "منهم حدثًا" أمر لم يكن في شريعتنا، "فإنه" انتقض عهده، فلذا "لا يحول ماله دون نفسه"، بل يحلّ ماله ونفسه جميعًا بدليل قوله:"وإنه طيب" حلال "لمن أخذه من الناس" لنقض العهد، فصار حربيًّا، "وإنه"، أي الشأن "لا يحلّ أن يمنعوا" بالبناء للمفعول، ونائبه الضمير العائد لأهل أيلة ومن معهم "ماء" بالنصب والتنوين مفعول ثان "يريدون، ولا طريقًا يريدونه" يقصدونه فيهما، لكن لفظ ابن إسحاق وتابعه: يردونه فيهما من الورود، "من بر أو بحر"، زاد الواقدي كابن إسحاق في رواية غير زياد، تعيين اسم الكاتب، فقال:"هذا كتاب جهيم" بضم الجيم مصغر "ابن الصلت" بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف المطلبي.
قال ابن سعد: أسلم عام خيبر، وأطعمه صلى الله عليه وسلم منها ثلاثين وسقًا، "وشرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة، وكسر الموحدة، غير مصروف للعجمة والعلمية "ابن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم" لهما في كتابة -كل، بعض- الكتاب، ولعلَّ حكمته أن تعدد الكاتب بمنزلة تعدد
وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل جربا وأذرح لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح وجربا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد. وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة،
الشاهد، أو أنَّ كلًّا كتب نسخة، أو كتبه أحدهما بحضور الآخر، فنسب إليهما، ثم هذا الكتاب بهذا اللفظ أورده ابن إسحاق، وتابعه اليعمري في غزوة تبوك -كما علم، وكذا ذكره ابن سعد عن الواقدي، وذكره ابن سعد أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى يوحنَّة بن رؤبة، وسروات أهل أيلة سلم أنتم:"فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم، فأسلم، أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله، وأكرمهم، وأكسهم كسوة حسنة، فمهما رضيت رسلي، فإني قد رضيت، وقد علم الجزية، فإن أردتم أن يأمن البحر والبر، فأطع الله ورسوله، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم إلا حق الله وحق رسوله، وإنك إن رددتم ولم ترضهم لا آخذ منك شيئًا حتى أقاتلكم، فأسبي الصغير، وأقتل الكبير، وإني رسول الله بالحق، أؤمن بالله وكتبه ورسله، والمسيح ابن مريم أنه كلمة الله، وإني أؤمن به أنه رسول الله، وائت قبل أن يمسَّكم الشر، فإني قد أوصيت رسلي بكم، وأعط حرملة ثلاثة أوسق من شعير، وإن حرملة شفع لكم، وإني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئًا حتى ترى الجيش، وإنكم إن أطعتم رسلي، فإن الله لكم جار ومحمد ومن كان معه، ورسلي شرحبيل وأبو حرملة وحريث بن زيد الطائي، فإنهم مهما فاوضوك عليه فقد رضيته، وإن لكم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، والسلام عليكم إن أطعتم"، ولعل هذا الكتاب، كما ترى أرسل ليوحنة قبل إتيانه إليه، فلم يقنع بضرب الرسل الجزية حتى أتى هو للمصطفى، وأهدى له وصالحه، فكتب له الكتاب المذكور أولًا فلا منافاة بينهما.
وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي: قدم ملك أيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه صلى الله عليه وسلم بردًا وكتب له بجرهم، "وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل جربا" بالجيم، قال في المطالع: مقصورة، من بلد الشام، وجاءت في البخاري ممدودة اهـ، وكذا ذكرها القاموس ممدودة، "وأذرح" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة، بلد بالشام، قيل: هي فلسطين، بينها وبين جربا ثلاثة أميال -بميم، وغلط من قال: أيام "لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية".
قال الواقدي: أتوه مع صاحب أيلة بجزيتهم، فأخذها فكأنَّهم عجلوها، فلا يقدر هنا، أي: التزموها، وصورته كما ذكر الواقدي "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله"، وفي لفظ: "هذا كتاب محمد النبي لأهل أذرح وجربا؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان
والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز".
وعن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأمّ ضميرة وهي تبكي، فقال:"ما يبكيك؟ أجائعة أم عارية أنت"؟ فقالت: يا رسول الله، فرق بيني وبين ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يفرَّق بين الوالدة وولدها"، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة فدعاه، فابتاعه من ببكر، قال ابن أبي ذؤيب: ثم أقرأني كتابًا عنده: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته، أن
محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة" لا يؤخذ منه، إن رجال البلدين مائة بالقياس على رجال أيلة؛ لأن هذه جزية صلحية، وللصلحي ما شرط، وأما العنوية فأربعة دنانير على كل رجل كما تقرَّر، "والله كفيل عليهم"، أي: أخذ عليهم العهد، أي: آمرهم "بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز" إذا خشوا على المسلمين، فهم آمنون حتى يحدث إليهم حمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من قتلٍ أو خروج. هذا بقية الكتاب عند الواقدي، كما ذكره الشامي في تبوك.
"و" روى البخاري في تاريخه، والحسن ابن سفيان، وابن منده من طريق ابن أبي ذئب، "عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة" بالتصغير، ابن أبي ضميرة الضميري الليثي، قاله ابن حبَّان، وقيل: إنه ضمير بن سعد الحميري "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأمِّ ضميرة" صحابية ذكرها في الإصابة في الكُنَى ولم يسمّها، "وهي تبكى، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أنت أم عارية أنت" فأطعمك وأكسوك، "فقالت: يا رسول الله، فرق بيني وبين ابني"، وكانوا أهل بيت من العرب مما أفاء الله على رسوله، كما رواه ابن منده في القصة، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرَّق بين الوالدة وولدها، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة، فدعاه فابتاعه" اشتراه "منه ببكر"، وأعطاه لأمّه، "قال ابن أبي ذؤيب" محمد بن عبد الله بن المغيرة القرشي، العامري، الثقة، الفقيه، الحافظ، أحد الأعلام، راوي هذا الحديث: زعم ابن صاعد أنه تفرَّد به عن حسين، وردَّ بأن ابن منده ذكر أن زيد بن الحباب تابعه، فرواه عن حسين، وكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس: أخبرني حسين، "ثم أقرأني" حسين "كتابًا عنده" صورته "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة" الحميري، الصحابي، قيل: اسمه سعد، وقيل: روَّج ذكره البغوي، وابن منده، وابن سعد في الكنى، ووصفوه بأنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مصعب: وكان له دار بالعقيق، وقال ابن الكلبي: هو غير أبي ضميرة مولى عليّ، كما في الإصابة، "وأهل بيته أن
رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيتهم من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله، وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم، فلا يعرض لهم إلّا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا". وكتب أُبَيّ بن كعب.
وكتب صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى أهل وج، سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى.
وكذا كتابه عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة.
وكتب صلى الله عليه وسلم لأكيدر ولأهل دومة الجندل لما صالحه:
رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيت من العرب" مما أفاء الله على رسوله "إن أحبوا أقاموا عند رسول الله" صلى الله عليه وسلم، "وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم، فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا"، وكتب" الكتاب "أُبَيّ بن كعب"، وفي رواية: فاختار أبو ضمرة الله ورسوله، ودخل في الإسلام، وقال ابن سعيد والبلاذري: وفد حسين بن عبد الله بن ضميرة على المهدي بهذا الكتاب، فوضعه على عينيه، وأعطاه ثلاثمائة دينار، وكان خرج في سفر ومعه قومه، ومعهم هذا الكتاب، فعرض لهم اللصوص، فأخذوا ما معهم، فأخرجوا الكتاب وأعلموهم بما فيه، فقرأوه عليهم، فردوا عليهم ما أخذوا منهم ولم يعترضوا لهم، "وكتب صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى أهل وج" بفتح الواو وشد الجيم- وادٍ بالطائف "سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى، وكذا" يأتي "كتابه عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة"، فأخرهما؛ لأنهما مرتَّان على الوفود بخلاف ما هنا، فإنه كتب لمن لم يفد، ولا يرد أن منهم من قدم عليه أيضًا؛ لأن القدوم والوفد إنما هما لمن قدم مسلمًا، وهؤلاء قدموا لإعطاء الجزية، وأبو ضميرة وأهل بيته كانوا أسرى، فأعتقهم وكتب لهم الكتاب، فهذا موضعه، "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر" بضم الهمزة، وفتح الكاف، وسكون التحتية، وفتح المهملة، وبالراء، لا يصرف للعلمية ووزن الفعل، ابن عبد الملك، النصراني المختلف في إسلامه، والأكثر على أنه قتل كافرًا، كما في الإصابة، "ولأهل دومة" بضم الدال، وفتحها، وسكون الواو فيهما، "الجندل" بفتح الجيم والمهملة، بينهما نون ساكنة، حصن وقرى من طرف الشام "لمن صالحه" حين أرسل إليه، وهو بتبوك، سرية عليها خالد بن الوليد، فأسره وجاء به، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.
قال أبو السعادات بن الأثير: ومن الناس من يقول أنه أسلم وليس بصحيح، وممن وقع في كلامه ذلك الواقدي، قال في المغازي: حدثني شيخ من دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأكيدر
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة الجندل، إن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين".
هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر، ولأهل دومة الجندل" حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها.
هكذا أسقطه المصنِّف من لفظ الكتاب عند الواقدي قبل قوله: " إن لنا الضاحية من الضحل" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وباللام، "والبور والمعامي" بمهملة فألف فميم، "وأغفال الأرض" بغين معجمة ففاء، "والحلقة" بسكون اللام: الدروع، "والسلاح" بما يمتنع به من العدو، "والحافر" الخيل والبغال ونحوهما، "والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور ولا تعدل سارحتكم".
قال الواقدي: أي لا تنحى عن الرعي، وقال في الروض: أي: لا تحشر إلى المصدق، "ولا تعد فاردتكم" بالفاء، وهي ما لا تجب فيه الصدقة، "ولا يحظر" بالظاء المعجمة "عليكم النبات".
قال السهيلي": أي: لا تمنعون من الرعي حيث شئتم، قال ابن حديدة: والنبات النخل القديم الذي ضرب عروقه في الأرض ونبت. أهـ.
وفي نسخة: "لا تحصر" بصاد مهملة "عليكم البيات" بموحدة وتحتيه، أي: لا يضيق عليكم في البيات بأرض تزروعون بها، "تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به" منا "الصدق والوفاء" على ما عاهدناكم، "شهد الله ومن حضر من المسلمين" بذلك.
هكذا ذكر هذا الكتاب الواقدي، ونقله السهيلي في الروض عن أبي عبيد، قال: أتاني به شيخ، فقرأته فإذا فيه، فذكره وهو صريح في إسلامه، وبهذا وبنحوه اغترَّ ابن منده وأبو نعيم فذكراه في الصحابة، وشنَّع عليهما أبو الحسن بن الأثير، فقال: إنما أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصالحه ولم يسلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السِّيَر، ومن قال أنه أسلم فقد أخطأ خطأً ظاهرًا، بل كان نصرانيًّا، وقتله خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر كافرًا، كما ذكره البلاذري، قال في الإصابة: يظهر أن أكيدر صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق: ويحتمل أن يكون
والضاحي: البارز الظاهر.
والضحل: الماء القليل.
والبور: الأرض التي تستخرج.
والمعامي: أغفال الأرض.
والحصن: دومة الجندل.
والضامنة: النخل الذي معهم في الحصن.
والمعين: الظاهر من الماء الدائم.
وباع صلى الله عليه وسلم للعداء عبدًا وكتب: "بسم الله
أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثم ارتدَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم مع مَنْ ارتدَّ، كما قال البلاذري، ومات على ذلك، "والضاحي: البارز الظاهر" من الأرض، وفي الروض: الضاحية أطراف الأرض، "والضحل: الماء القليل، والبور: الأرض التي تستخرج"، أي يؤخذ خراجها، والمعامي: أغفال الأرض"، فعطفه عليه، قوله: وأغفال الأرض تفسيريّ، لكن في الروض: المعامي مجهولها، أي: الأرض وأغفال الأرض ما لا أثر لهم فيه من عمارة، أو نحوها، وهو يقتضي تغايرهما، إلّا أن يقال أنه بحسب المفهوم، وما صدقهما واحد بأن يراد المجهول ما لا أثر فيه.
وفي القاموس: الأعماء الجهال جمع أعمى، وأغفال الأرض التي لا عمارة بها كالمعامي، "والحصن دومة الجندل"، يقال: عرفت بدومة ابن إسماعيل، كان نزلها، "والضامنة" بضاد معجمة "النخل الذي معهم في الحصن، والمعين الظاهر من الماء الدائم"، قال في الروض: قال أبو عبيد: وإنما أخذ منهم بعض هذين الأرضين مع الحلقة والسلاح، ولم يفعل ذلك مع أهل الطائف حين جاءوا تائبين؛ لأن هؤلاء ظهر عليهم وأخذ ملكهم أسيرًا، ولكنه أبقى لهم من أموالهم ما تضمنه الكتاب؛ لأنه لم يقاتلهم حتى يأخذهم عنوة، كما أخذ خيبر، فلو كان الأمر كذلك لكانت أموالهم كلها للمسلمين، وكان لهم الخيار في رقابهم، كما تقدَّم، ولو جاءوا إليه تائبين أيضًا قبل الخروج إليهم، كما فعلت ثقيف، ما أخذ من أموالهم شئًا. أهـ، "وباع صلى الله عليه وسلم للعداء".
قال في التقريب: بفتح المهملة والتشديد وآخره همزة، وقال في الإصابة: العداء بوزن العطاء، ابن خالد بن هوذة بن خالد بن عمرو بن عامر بن صعصعة العامري، أسلم بعد حنين مع أبيه وأخيه حرملة، وذكره ابن الكلبي هو ووالده في المؤلفة، وعَمَّر، فإن أحمد ذكر أنه عاش إلى زمن خروج يزيد بن المهلب، وكان ذلك سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. أ. هـ "عبدً، وكتب: "بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة -شك الراوي- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم". رواه أبو داود والدارقطني.
والغائلة: الإباق والسرقة والزنا.
والخبثة: قال ابن أبي عروبة: بيع غير أهل المسلمين.
وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر، وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات، قال الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] والأمر هنا ليس للوجوب. فقد باع عليه الصلاة والسلام ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا لوجب مع الرهن خوف المنازعة، والله أعلم.
الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة" بفتح الهاء، وسكون الواو، وذال معجمة، "من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة، -شك الراوي- لا داء" به، "ولا غائلة" فيه، " ولا خبثة" بكسر الخاء المعجمة وسكون الموحدة ومثلثة، "بيع المسلم للمسلم"، رواه أبو داود والدارقطني.
"والغائلة" بغين معجمة "الإباق والسرقة والزنا، والخبثة، قال ابن أبي عروبة" سعيد بن مهران اليشكري، مولاهم البصري، الثقة الحافظ، صاحب التصانيف من رجال الجميع، "بيع غير أهل المسلمين".
وفي القاموس: الخبثة -بالكسر في الرقيق أن لا يكون طيبة، أي: سبى من قوم لا يحل سبيهم ولا استرقاهم أهـ، وهذا مما شمله تفسير سعيد، "وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر"، لعله مكة، ليوافق قول الإصابة بعد حنين، وكان من المؤلفة، أو لفظة فتح مقحمة، والأصل بعد حنين وخيبر تصحيف، "وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات".
"قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، والأمر هنا ليس للوجوب"، كما ال به طائفة، بل للندب عند الجمهور؛ لأنه أدفع للخلاف، "فقد باع عليه الصلاة والسلام ولم يشهد"، فدلَّ على أنه للندب، "واشترى و" تسلّف، و"رهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا" ما تركه، و"لوجب مع الرهن خوف المنازعة، والله أعلم" بالحق، وترك المصنف هنا من الكتب كتابه إلى بني نهد -بالنون، وكتابه بين قريش والأنصار، وكتابه لأهل همدان، وكتابه لقطن بن حارثة، وكتابه لوائل بن حجر؛ لأنه سيذكرها في فصاحة
وأما أمراؤه عليه الصلاة والسلام:
فمنهم: باذان بن ساسان من ولد بهرام، أمَّره صلى الله عليه وسلم على اليمن، وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم.
وأمَّر صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد. وولَّى زياد بن لبيد الأنصاري حضرموت
لسانه صلى الله عليه وسلم من المقصد الثالث لما فيها من مزيد الفصاحة، "وأمَّا أمراؤه عليه الصلاة والسلام" أخَّرهم عن الكتاب مع قوله أول الفصل: في أمرائه ورسله وكتابه؛ لإحتمال أن ولايتهم كانت بعد المكاتبات، فقدَّمهم في الترجمة لشرف الولاية، لا لشرفهم، فالكتاب أشرف منهم؛ لأن فيهم الخلفاء، وأخَّرهم في الذكر نظرًا لزمن الولاية، "فمنهم باذان" بفتح الموحدة، والذال المعجمة بعدها ألف وآخره نون، ويقال: ميم "ابن ساسان من ولد بهرام" بن سابور بن أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر، أحد الملوك الساسانية من الفرس، وأسلم باذان لما هلك كِسَرى، وكان نائبه على اليمن، وأرسل بإسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فـ"أمَّره صلى الله عليه وسلم على اليمن" وفاءً بقوله صلى الله عليه وسلم لرسوليه اللذين بعثهما للمصطفى، بأمر كسرى ليأتياه به، فأخبرهما أن الله قتله، قالا: فنكتب بذلك عنك إلى باذان، قال:"نعم"، وقولا له:"إن أسلمت أقرَّك على ملكك"، فأسلم لما شاهد الآية الباهرة من الإخبار بالغيب في الساعة التي عينها من الليلة، كما تقدَّم، "وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم"، كما قاله الثعلب، ثم مات، فاستعمل ابنه شهر بن باذان على بعض عمله.
ذكره الواقدي، وابن إسحاق، والطبري، وعند الفاكهي من مرسل الشعبي أن باذان خرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فلحقه العنسي الكذّاب فقتله.
قاله في الإصابة في القسم الثالث فيمن أدرك النبي ولم يره، وقال في ترجمة شهر: استعمله صلى الله عليه وسلم على صنعاء بعد موت أبيه، روى ذلك سيف بسنده، وقال الطبري: لما غلب الأسود الكذاب على صنعاء، وقتل شهر بن باذان تزوَّج زوجته، فكانت هي التي أعانت على قتل الأسود بغضًا له، "وأمَّره صلى الله عليه وسلم على صنعاء" وأعمالها بعد قتل شهر "خالد بن سعيد" بن العاص القرشي، "وولَّى" لم يقل أمر تفننًا لترادفها لغة "زياد بن لبيد" بفتح اللام، ابن ثعلبة بن سنان بن عامر "الأنصاري" البياضي، شهد العقبة وبدرًا "حضرموت"، كما ذكره الواقدي وغيره، قال في المراصد: بالفتح، ثم السكون وفتح الراء والميم: اسمان مركَّبان، ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، حولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وقيل: هو مخلاف باليمن، وفي القاموس قد
وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن، وولَّى معاذ بن جبل الجند، وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران. وولَّى ابنه يزيد تيماء.
وولَّى عتاب -فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية- ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة- مكة، وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان.
تضم الميم، "وولَّى أبا موسى الأشعري" عبد الله بن قيس "زبيد"، بفتح الزاي وكسر الموحدة وسكون التحتية ودال مهملة، مدينة باليمن، "وعدن" بفتحتين، مدينة أيضًا باليمن، "وولَّى معاذ بن جبل" الخزرجي البدري، أعلم الأمة بالحلال والحرام "الجند"، بفتح الجيم والنون، فدال مهملة مدينة باليمن.
قال في المراصد: واليمن ثلاث ولايات: الجند ومخاليفها، وصنعاء ومخاليفها، وحضرموت ومخاليفها، "وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران" بفتح النون، وسكون الجيم، موضع باليمن فُتِحَ سنة عشر، سمي بنجران بن زيد بن سبأ، كما في القاموس، قال في الإصابة: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على نجران ولا يثبت، قال الواقدي: أصحابنا ينكرون ذلك ويقولون: كان أبو سفيان بمكة وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عاملها -أي: نجران- حينئذٍ عمرو بن حزم. انتهى.
"وولَّى ابنه يزيد تيماء" بفتح الفوقية، وسكون التحتية، والمد، بلد في بادية تبوك على نحو سبع أو ثمان مراحل من المدينة، قال بعضهم: هي فعلاء من التيم، وهو العبد، ومنه: تيم الله، أي: عبده، وقد تيَّمه الحب، أي: استعبده، فكانت هذه الأرض، قيل لهما: تيماء؛ لأنها مذللة معبَّدة، "وولَّى عتاب فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية، ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وبعد الألف موحدة، ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلم يوم الفتح، وكان صالحًا فاضلًا "مكة"، حين سار إلى حنين، وقيل: بعد أن رجع من الطائف. حكاهما الواقدي، "وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان" التي هي سنة الفتح، فهو أول أمراء الحج، كما جزم به الماوردي وابن كثير والمحب الطبري وغيرهم.
وأما قول الأزرقي: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدًا، وإنما ولَّى عتابًا إمرة مكة، وحجَّ المسلمون والمشركون جميعًا، فكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير، فهو إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، قال في الإصابة: وأقرَّه أبو بكر على مكَّة إلى أن مات يوم مات الصديق، ذكره الواقدي وغيره، لكن ذكره الطبري في عمّال عمر إلى سنة اثنتين وعشرين، فهذا يشعر بأنَّه مات في أواخر خلافة عمر، وروى الطيالسي والبخاري في تاريخه عن عمرو بن أبي عقرب: سمعت عتاب بن أسيد، وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: ما أصبت في عملي هذا الذي ولّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان، وإسناده حسن،
وولى علي بن أبي طالب القضاء باليمن.
وولى عمرو بن العاص عمان وأهلها.
وولى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة، فقيل: لأنَّ أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج،.
ومقتضاه أنه عاش بعد أبي بكر.
وروى المحاملي، عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم استعمل عتابًا على مكة، وكان شديدًا على المنافقين لينًا على المؤمنين، وكان يقول: والله لا أعلم متخلفًا عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلّف عنها إلا منافق، فقال أهل مكة: يا رسول الله، استعملت على أهل الله أعرابيًّا جافيًا، فقال:"إني رأيت فيما يرى النائم؛ أنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب، فقعقها حتى فُتِحَ له ودخل" رجاله ثقات إلا محمد بن إسماعيل بن حذافة السهمي، ضعفوه في غير الموطأ، "وولّى علي بن أبي طالب القضاء باليمن"، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قاضيًا، وأنا حديث السن، قلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شاب أقضي ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري، فقال:"اللهم اهد قلبه، وثبّت لسانه"، وقال:"إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك"، قال: فما شككت في قضء بين اثنين، وجمع بين هذا ونحوه، وبين قول ابن عمر ما اتخذ صلى الله عليه وسلم قاضيًا، ولا أبو بكر، ولا عمر حتى كان في آخر زمانه، قال ليزيد -ابن أخت نمير: اكفني بعض الأمور. رواه أبو يعلى برجال الصحيح.
وقال السائب بن يزد: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يتخذا قاضيًا، وأوّل من استقضى عمر، قال: ردّ عني الناس في الدرهم والدرهمين. رواه الطبراني بسند جيد، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستقض شخصًا معينًا للقضاء بين الناس دائمًا، وإنما استقضى جماعة في أشياء خاصّة؛ كقول معقل بن يسار: أمرني صلى الله عليه وسلم أن أقضي بين قوم، فقلت: ما أحسن أن أقضي، قال:"إن الله مع القاضي ما لم يحف عمدًا"، وجاءه صلى الله عليه وسلم خصمان، فقال لعمر:"اقض بينهما"، رواهما أحمد والحاكم، وكذا قال لعقبة في خصمين جاءاه:"اقض بينهما"، رواه أحمد وغيره، "وولى عمرو بن العاص عمان"، كغراب "وأهلها، وولَّى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع" في ذي الحجة على المعتمد، وقال مجاهد وعكرمة بن خالد: في ذي القعدة، "وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة".
قال الحافظ: فيه تجوّز؛ لأنه أمره أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها ولو كره المشركون، كما رواه ابن جرير عن محمد بن كعب، وعنده عن علي: بأربعين آية من أول براءة، "فقيل" في حكمة إرساله وكونه لم يأمر الصديق بقراءتها مع أنه الأمير؛ "لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج"، كما رواه ابن إسحاق من مرسل أبي جعفر الباقر: لما نزلت براءة، وكان قد بعث
وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا، ولهذا لما قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم وافترائهم.
وقد ولّى صلى الله عليه وسلم على الصدقات جماعة كثيرة.
"رسله صلى الله عليه وسلم":
وأما رسله صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث ستة نفر في يوم واحد، في المحرم سنة سبع. وذكر القاضي عياض في الشفاء مما عزاه للواقدي: إنه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.
الصديق ليقيم للناس الحج، قيل: يا رسول الله، لو بعث بها إلى أبي بكر، قال:"لا يؤدي عني إلّا رجل من أهل بيتي"، دعا عليًّا، فقال:"اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر" الحديث. لكن روى أحمد والترمذي، وحسَّنه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلمَّا بلغ الحليفة قال:"لا يبلغها إلّا أنا، أو رجل من أهل بيتي"، فبعث بها مع علي.
رواه أحمد والطبري من حديث عليّ بنحوه، وفيه: إن أبا بكر رجع، وقال: نزل فيّ شيء يا رسول الله؟ قال: "لا، أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، ولكن جبريل قال لي: لا يؤدي عنك إلّا أنت، أو رجل منك"، ولم يتعرض الحافظ لجمع، ولا ترجيح، كأنه لظهور الترجيح؛ لأن رواية نزولها بعد خروج أبي بكر مرسلة، ورواية نزولها قبل خروجه مسندة وإسناده حسن، "وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا" عطف تفسير، "ولهذا لما قال له الصديق" أنت "أمير أو مأمور" بالمساعدة لي، فتكون تحت أمري، "قال: بل مأمور. وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم" تقول:"وافترائهم" كذبهم على المصطفى فيما يوافق أغراضهم، "وقد ولَّى صلى الله عليه وسلم على" جمع "الصدقات" الزكوات والقيام بأمرها "جماعة كثيرة"، سيذكر بعضهم قريبًا.
قال ابن القيم: لأنه كان على كل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها، فمن هنا كثر عمَّال الصدقات، "وأمَّا رسله صلى الله عليه وسلم، فقد روي" عن ابن سعد "أنه عليه الصلاة والسلام" لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبًا، و"بعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع"، فأفادت هذه الرواية بما زدته منها أنَّ العزم على الإرسال والكتب في ذي الحجة، وتأخَّر البعث إلى أوّل المحرم، فخرجوا في يوم واحد، وهي رواية واحدة، فلا ينافي بعضها بعضًا، كما هو ظاهر.
"وذكر القاضي عياض في الشفاء، مما عزاه للواقدي، أنه أصبح كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين بعثه إليهم"، من غير مضيّ زمان يمكن فيه التعلّم، معجزة له صلى الله عليه وسلم، حتى
وكان أوّل رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذه النجاشي ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته
يفهموا ما يقال، ولا ينافي هذا دعاء بعض الملوك الترجمان؛ لأنه من تعاظم العجم، وما ذكره الواقدي له شواهد، فأخرج ابن سعد عن بريدة الزهري، ويزيد بن رومان، والشعبي، أنه صلى الله عليه وسلم بعث عدة إلى عدة، وأمرهم بنصح عباد الله، فأصبح الرسل كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أرسل إليهم، فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم فقال:"هذا أعظم ما كان من حق الله في أمر عباده".
وروى ابن أبي شيبة من مرسل جعفر بن عمرو، بعث صلى الله عليه وسلم أربعة: رجلًا إلى كسرى، ورجلًا إلى قيصر، ورجلًا إلى المقوقس، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، وكان جعفرًا لم يحفظ بقية الستة.
وقد روى الطبراني عن المسور بن مخرمة الصحابي، قال: خرج صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقال:"إن الله بعثني للناس كافّة، فأدوا عني وا تختلفوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة، والعلاء إلى المنذر، وابن العاص إلى ملكي عمان، ودحية إلى قيصر، وشجاعًا إلى الحارث، وعمرو بن أمية إلى النجاشي. فعدَّهم سبعة، وزاد أصحاب السير جماعة غيرهم، ففي هذا موازاة الصحابة للحواريين، فقد روى ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن إسحاق في السيرة، أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهَّد ثم قال:"أما بعد، فإني أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى، وذلك أن الله بعث إليه أن أبعث إلى ملوك الأرض، فبعث الحواريين، فأمَّا القريب مكانًا فرضي، وأما البعيد مكانًا فكره، وقال: لا أحسن كلام من تبعثني إليه، فقال عيسى: اللهمَّ أمرت الحواريين بالذي أمرت، فاختلفوا علي، فأوحى الله إليه أني سأكفيك، فأصبح كل إنسان يتكلّم بلسان الذين أرسل إليهم"، فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدًا في شيء، فمرنا وابعثنا، "وكان أول رسول بعثه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري" نسبة إلى جدِّه ضمرة -بفتح فسكون كما تقدَّم مرارًا، "إلى النجاشي ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين، يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن"، أي: بعضه، "فأخذه النجاشي، ووضعه على عينيه" تبركًا وتعظيمًا، "ونزل عن سريره، وجلس على الأرض" تواضعًا لله على هذه النعمة التي ساقها إليه، "ثم أسلم وشهد وشهادة الحق"، إضافة بيانية، أي: هي الحق. "وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته"، لكنِّي لا أستطيع ذلك خوفًا من خروج الحبشة،
وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فزوَّجه إياها كما تقدَّم في الأزواج، ودعا بحق من عاج فجعل فيه كتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحبشة، كذا قاله الواقدي وغيره.
وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب كما تقدَّم.
وبعث عليه الصلاة والسلام دحية بن خليفة الكلبي -وهو أحد الستة- إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل، يدعوه إلى الإسلام، فهمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم، فخافهم على ملكه فأمسك.
وبعث عبد الله.
وتلاشى أمرهم مع ما أؤمله من إسلامه ببقائي بينهم، "وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان"، وأن يبعث إليه من هاجر إليه من الصحابة، "فزوجه إياها كما تقدَّم في الأزواج"، وجهَّز إليه أصحابه كما تقدَّم، "ودعا بحق من عاج، فجعل فيه كتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم"، ومات رحمه الله سنة تسع أو ثمان، "وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم" بالمدينة يوم موته، "وهو بالحبشة، كما قاله"، أي: كل ما ذكره "الواقدي وغيره"، لا خصوص الصلاة؛ لأنها في الصحيحين، "وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب إليه كما تقدَّم"، هذا وَهْم، فالذي تقدَّم إنه كتب إليهما جميعًا؛ أصحمة الذي صلى عليه، والذي ولي بعده، وكان كافرًا لم يعرف إسلامه، ولا اسمه، وخلط بعضهم، ولم يميز بينهما.
هذا كلام المصنف في كتابه إلى النجاشي، وما بالعهد من قدم، وقد روى البيهقي وغيره أنه كتب إلى كلٍّ منهما، كما قدَّمته، فمن نفى الكتابة عن الأول فقد وَهمَ، والله أعلم.
"وبعث عليه الصلاة والسلام دحية بن خليفة الكلبي، وهو أحد الستة"، أي: الثاني منها، والأنسب بما بعده أن يقول: وهو الثاني، والمراد في العدو الذكر، لما مَرَّ أنهم خرجوا في يوم واحد "إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل" بكسر، ففتح، فسكون على المشهور في الروايات "يدعوه إلى الإسلام، فهَمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم، فخافهم على ملكه فأمسك" على نصرانيته حتى مات عليها، "وبعث عبد الله" بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد -بضم السين
السهمي إلى كسرى وهو الثالث.
وبعث الرابع وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس فأكرمه، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجاريتين وكسوة وبغلة ولم يسلم.
وبعث الخامس وهو شجاع بن وهب الأسدي إلى ملك البلقاء الحارث بن أبي شمر الغساني.
وبعث السادس وهو سليط بن عمرو العامري إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي، فأسلم ثمامة.
وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابني
ابن سهم القرشي، "السهمي" نسبة إلى جدِّه سهم المذكور "إلى كسرى، وهو الثالث، وبعث الرابع، وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، فأكرمه وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجاريتين" على ما في روايات، وفي رواية بثلاث، فالاقتصار على اثنتين لجمالهما ومكانهما من القبط، كما مَرَّ "وكسوة" عشرين ثوبًا من قباطي مصر، "وبغلة" هي دلدل، وحمار، وغير ذلك، كما مَرَّ، "ولم يسلم على الصواب، ووَهِمَ من عده في الصحابة، "وبعث الخامس، وهو شجاع بن وهب الأسدي" نسبة إلى جده أسد بن حزيمة "إلى ملك البلقاء" بفتح الموحدة، وإسكان اللام وقاف والمد، وتقصر مدينة من عمل دمشق، فيها قرى كثيرة ومزارع واسعة "الحارث بن أبي شمر الغساني" فلم يسلم، "وبعث السادس، وهو سليط بن عمرو العامري"، نسبة إلى جده عامر بن لؤي القرشي "إلى هوذة" صاحب اليمامة، "وإلى ثمامة" بضم المثلثة، وخفة الميمين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة، ولام، مصروف، ابن النعمان، "الحنفي" من فضلاء الصحابة، "فأسلم ثمامة" ولم يسلم هوذة، كذا قال ابن إسحاق: إنه بعث إليهما، وهو منابذ لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم بعث خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت بثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية المسجد. الحديث، وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. الحديث، وأخرجه بنحوه ابن إسحاق نفسه في المغازي، وذكر المصنف في المغازي كغيره: إن ذلك في المحرم سنة ست، فإن صحَّ أنه أرسل إليه أيضًا، فالمراد به أنه يكون عونًا لسليط على هوذة، ويئول قوله: فأسلم ثمامة، أي: استمرَّ على إسلامه، لا أنه أسلم حين الإرسال؛ لأنه أسلم قبل ذلك بسنة، بالمدينة لما أُسِرَ ومنَّ عليه المصطفى، كما في الصحيحين، "وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر
الجلندي بعمان فأسلما وصدَّقا.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة -وقيل قبل الفتح- فأسلم وصدَّق.
وبعث أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك، وقيل: بل سنة عشر في ربيع أول داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال، ثم بعث عليّ بن أبي طالب بعد ذلك إليهم، ووافاه بمكة في حجَّة الوداع.
وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال
وعبد ابني الجلندي بعمان، فأسلما وصدقا"، كما تقدَّم بسطه، "وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي" نسبة إلى جدِّه عبد الله بن دارم التميمي، لا إلى عبد القيس، كما ظنَّه بعض الناس، أفاده الرشاطي، كما في الإصابة "ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة"، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ثمان، فهو سنة الفتح، "وقيل: قبل الفتح" لمكة، وجزم به في الإصابة، وعزاه لابن إسحاق، وغير واحد، ونحو قول العيون بعد إنصرافه من الحديبية، "فأسلم وصدَّق".
زاد الواقدي: ثم استقدم النبي صلى الله عليه وسلم العلاء الحضرمي، فاستخلف المنذر مكانه، "وبعث أبو موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، عند انصرافه من تبوك" رواه الواقدي، وابن سعد، عن كعب بن مالك، وكان انصرافه منها في رمضان، أو شعبان سنة تسع، "وقيل: بل سنة عشر في ربيع أوَّل" حكاه ابن سعد، وقيل: عام الفتح سنة ثمان.
حكى الثلاثة في فتح الباري، فما يوجد في بعض نسخ المصنف من تبوك سنة عشر بإسقاط، وقيل: بل خطأ نشأ عن سقط، وإن أمكن توجيهه بأن سنة عشر معمول لبعث لا لتبوك، لكنه مع إيهامه يكون قاصرا على قول "داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال، ثم بعث علي بن أبي طالب بعد ذلك إليهم" في رمضان سنة عشر، كما قال ابن سعد، فقاتل من لم يسلم، فهزموا، وقتل منهم فكفَّ، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا الإجابة، فأقام فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يوافيه بالموسم، فقفل "ووافاه بمكة في حجة الوداع، وبعث المهاجر بن أبي أمية" بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، "المخزومي" شقيق أم سلمة أم المؤمنين، له في قتال أهل الردة أثر كبير، "إلى الحارث بن عبد كلال" الأصغر ابن نصر بن سهل بن غريب بن عبد كلال الأوسط بن عبيد
الحميري باليمن.
وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع وذي عمرو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلما
"الحميري" أحدًا قبال اليمن.
قال الهمداني في الأنساب: كتب صلى الله عليه وسلم إلى الحارث وأخيه، وأمر رسوله أن يقرأ عليهما لم يكن، فوفد عليه الحارث فأسلم، فاعتنقه، وأفرشه رداءه، وقال قبل أن يدخل عليه:"يدخل عليكم من هذا الفج رجل كريم الجدين، صبيح الخدين"، فكان هو، قال في الإصابة: والذي تظاهرت به الروايات أنه أرسل بإسلامه، وأقام "باليمن"، وقال ابن إسحاق: قدم على المصطفى مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير بإسلامهم، منهم الحارث بن عبد كلال، وكان صلى الله عليه وسلم أرسل إليه المهاجر فأسلم، وكتب إلى المصطفى شعرًا يقول:
ودينك دين الحق فيه طهارة
…
وأنت بما فيه من الحق آمر
"وبعث جرير" بفتح الجيم "ابن عبد الله" بن جابر بن مالك بن نصر "البجلي" بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بجيلة بفتح فكسر، بنت صعب بن سعد العشيرة، تنسب إليها القبيلة، الصحابي الشهير، القائل: ما حجبني صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم. رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم:"جرير منَّا أهل البيت" رواه الطبراني، المتوفَّى سنة إحدى أو أربع وخمسين، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة؛ لأنه كان جميلًا، "إلى ذي الكلاع"، قال المصنف وغيره: بفتح الكاف واللام الخفيفة، فألف فعين مهملة، اسمه: أسميفع، بفتح الهمزة، والميم، والفاء، وسكون السين المهملة والتحتية، وآخره عين مهملة، ويقال: أيفع بن باكور، أو يقال: ابن حوشب، "وذي عمرو" الحميري "يدعوهم"، أي هما وقومهما "إلى الإسلام، فأسلما".
قال الهمداني: وعتق ذو الكلاع لذلك أربعة آلاف، ثم قدم المدينة زمن عمر ومعه أربعة آلاف، فسأله عمر في بيعهم فأعتقهم، فسأله عمر عن ذلك، فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا، فعسى أن يكون ذلك كفّارة، وذلك أني تواريت مرة، يعني: قبل إسلامه، ثم أشرفت، فسجد لي مائة ألف.
وروى يعقوب بن شيبة عن الجراح بن منهال قال: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، فبعث إليه عمر، فقال: هؤلاء نستعين بهم على عدو المسلمين، فقال: لا هم أحرار، فأعتقهم كلهم في ساعة واحدة.
قال أبو عمر: لا أعلم له صحبة إلّا أنه أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، وقدم في زمن عمر، فروى
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرير عندهم.
وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب.
وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي -وكان عاملًا لقيصر- فأسلم، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث إليه بهديه مع مسعود بن سعد، وهي: بغلة شهباء يقال لها فضة، وفرس يقال له الظرب، وحمار يقال له يعفور، وبعث إليه أثوابًا وقباء سندسيًّا مذهَّبًا، فقبل هديته، ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية
عنه، وقُتِلَ بصفين مع معاوية، "وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرير عندهم"، ذكره الحاكم وغيره، ورجع جرير بعد الوفاة النبوية إلى المدينة، "وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب" يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب إليه مسيلمة جوابًا لكتابه، يذكر فيه أنه رسول الله مثله، وأنه أشرك مع المصطفى بالنصف في الأرض، وإن قريشًا لا يعدلون، فكتب إليه:"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، بلغني كتابك الكذب والإفك والافتراء على الله، والسلام على من اتبع الهدى"، وبعثه إليه مع السائب أخي الزبير بن العوام. ذكره ابن سعد وغيره، "وبعث إلى فروة بن عمرو" على الأشهر، ويقال: ابن عامر "الجذامي، وكان عاملًا لقيصر" على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من الشام، كما ذكر ابن إسحاق، "فأسلم وكتب إلى النبي -صلى لله عليه وسلم- بإسلامه"، ولم ينقل أنه اجتمع به، كما في الإصابة.
قال ابن إسحاق: فبلغ الروم إسلامه، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه، فقال في ذلك:
أبلغ سراة المسلمين بأنني
…
سلم لربي أعظمي وثيابي
"وبعث إليه بهدية مع مسعود بن سعد" الجذامي، أسلم وصحب، "وهي بغلة شهباء، يقال لها فضة" بلفظ أحد النقدين، "وفرس، يقال له الظرب" بالظاء المعجمة؛ لكبره وسمنه، أو لقوته وصلابة حافرة، "وحمار يقال له يعفور" بناء على أنه غير عفير الذي أهداه المقوقس، "وبعث إليه أثوابًا وقباء" بفتح القاف وخفة الموحدة والمد والقصر، قيل: فارسي معرب، وقيل: عربي مشتق من قبوت الشيء إذا ضممت أصاعبك عليه، سمي به لانضمام أطرافه.
وروي عن كعب أن أوَّل من لبسه سليمان، قاله الحافظ وغيره، "سندسيًّا" نسبة إلى السندس، وهو مارق من الديباج، معرَّب اتفاقًا، من نسبة الجزئي إلى كليه؛ لأن البقاء جزء من جزئيات مطلق السندس، فلم يتحد المنسوب والمنسوب إليه "مذهَّبًا، فقبل هديته، ووهب لمسعود بن سعد" رسوله بالهدية، والإسلام "اثنتي عشرة أوقية"، وفي الإصابة عن الواقدي: وأجازه
وبعث المصدقين لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع:
فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم.
وبعث بريدة -ويقال: كعب بن مالك- إلى أسلم وغفار.
وبعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة.
وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة.
وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.
وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب.
وبعث بشر.
بخمسمائة درهم، "وبعث المصدقين" بضم الميم وخفة المهملة، السعاة، "لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع" كما قال ابن سعد، "فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم"، وتقدَّمت القصة في المغازي، "وبعث بريدة" بضم الموحدة مصغَّر، بن الحصيب الأسلمي، "ويقال: كعب بن مالك" الأنصاري "إلى أسلم" بفتح فسكون، قبيلة من الأزد، "وغفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء، قبيلة من كنانة، وسبق إلى الإسلام منهم أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس، ورجع أبو ذر إلى قومه، فأسلم الكثير منهم، وفي القبيلتين، فقال صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها" وفيه من جناس الاشتقاق ما يلذ على السمع لسهولته وانسجامه، وهو من الاتفاقات اللطيفة، وحكي أن بني غفار كانوا يسرقون الحاج في الجاهلية، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا ليمحوا عنهم ذلك العار، "وبعث عباد بن بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، الأنصاري "إلى سليم" بالتصغير، قبيلة "ومزينة" بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتانية بعدها نون، وهو اسم امرأة عمرو بن طابخة -بموحدة ومعجمة، ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس وعثمان ابني عمرو، فولد هذين، يقال لهم مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة، منهم: عبد الله بن مغفل وعمه خزاعي، وإياس بن هلال وابنه قرة وآخرون، كما في الفتح، "وبعث رافع بن مكيث" بميم وكاف.
قال في الإصابة: بوزن عظيم وآخره مثلثة، الجهني، شهد بيعة الرضوان، وكان أحد من يحمل ألوية جهينة يوم الفتح، وشهد الجابية مع عمر "إلى" قومه "جهينة" بالتصغير، قبيلة من قضاعة، من مشهوري الصحابة، منهم عقبة بن عامر الجهني وغيره، "وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة" بفتح الفاء والزاي ثم راء، قبيلة من قيس عيان، "وبعث الضحَّاك بن سفيان" الكلابي "إلى" قومه "بني كلاب، وبعث بشر"، قال في الإصابة: ضبطه ابن ماكولا وغيره بضم الموحدة،