المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تلف المبيع قبل القبض] - شرح الزركشي على مختصر الخرقي - جـ ٣

[الزركشي الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌[كتاب الاعتكاف]

- ‌[حكم الاعتكاف]

- ‌[مكان الاعتكاف]

- ‌[ما يجوز للمعتكف]

- ‌[ما لا يجوز للمعتكف]

- ‌[مفسدات الاعتكاف]

- ‌[كتاب الحج] [

- ‌حكم الحج]

- ‌[شروط وجوب الحج]

- ‌[شرط الاستطاعة للحج بالنسبة للمرأة]

- ‌[الحج عن الميت]

- ‌[شروط الحج عن الغير]

- ‌[حج الصبي والعبد]

- ‌[باب ذكر المواقيت]

- ‌[باب ذكر الإحرام]

- ‌[سنن وآداب الإحرام]

- ‌[أنواع النسك]

- ‌[الاشتراط في الإحرام]

- ‌[التلبية في الحج]

- ‌[أشهر الحج]

- ‌[باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له]

- ‌[صيد الحرم ونباته]

- ‌[الإحصار في الحج]

- ‌[باب ذكر الحج ودخول مكة]

- ‌[طواف التحية وتقبيل الحجر الأسود]

- ‌[شروط صحة الطواف وسننه]

- ‌[السعي بين الصفا والمروة]

- ‌[طواف وسعي القارن والمفرد]

- ‌[باب ذكر الحج]

- ‌[ذهاب الحاج إلى منى يوم التروية]

- ‌[الدفع إلى عرفة والوقوف بها]

- ‌[الدفع من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها]

- ‌[رمي الجمرات]

- ‌[نحر الهدي]

- ‌[الحلق والتقصير]

- ‌[من أركان الحج الطواف بالبيت]

- ‌[طواف الوداع]

- ‌[دم التمتع وصيامه]

- ‌[باب الفدية وجزية الصيد]

- ‌[سوق الهدي]

- ‌[كتاب البيوع]

- ‌[باب خيار المتبايعين]

- ‌[باب الربا والصرف وغير ذلك]

- ‌[بيع اللحم بالحيوان]

- ‌[بيع العرايا]

- ‌[باب بيع الأصول والثمار]

- ‌[الاستثناء في البيع]

- ‌[وضع الجوائح]

- ‌[تلف المبيع قبل القبض]

- ‌[باب المصراة وغير ذلك]

- ‌[البيع بشرط البراءة من العيوب]

- ‌[اختلاف المتبايعين في البيع]

- ‌[بيع العبد الآبق والطير في الهواء]

- ‌[بيع الملامسة والمنابذة]

- ‌[بيع الحمل في البطن دون الأم]

- ‌[بيع عسب الفحل]

- ‌[بيع النجش]

- ‌[بيع الحاضر للبادي]

- ‌[حكم تلقي الركبان]

- ‌[بيع العصير ممن يتخذه خمرا]

- ‌[بيع الكلب]

- ‌[بيع الفهد والصقر المعلم والهر]

الفصل: ‌[تلف المبيع قبل القبض]

النون في الميم، والمعنى: إن لم يفعل فليكن هذا. وتمال إمالة خفيفة، والله سبحانه أعلم.

[تلف المبيع قبل القبض]

قال: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون، أو معدود، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، فإذا تلف فهو من مال المشتري.

ش: المبيع على ضربين، متميز، وغير متميز، فغير

ص: 530

المتميز قسمان (أحدهما) مبهم تعلق به حق توفية، كقفيز من هذه الصبرة، ورطل من هذه الزبرة، ونحو ذلك، فهذا يفتقر إلى القبض، على المذهب المعروف، المقطوع به عند عامة الأصحاب، حتى إن بعضهم يقول: رواية واحدة.

1907 -

لما روي «عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع» . ذكره البخاري من قول ابن عمر رضي الله عنهما تعليقا،

ص: 531

واحتج به أحمد، وقول الصحابي: مضت السنة. ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض، ولا يتابع عليها.

(القسم الثاني) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه، كنصف العبد، وربع الإناء، وسدس القربة، ونحو ذلك، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه، ففي البلغة أنه كالذي قبله، قال: وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزا منها تعين أنه المبيع، بخلاف الجزء المشاع. وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات، فيه الخلاف الآتي. والمتميز قسمان أيضا:(أحدهما) : ما تعلق به حق توفية، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع. فالمشهور عند الأصحاب - وبه قطع أبو البركات وغيره - أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية، إناطة بها، قال في التلخيص: وخرج بعض الأصحاب فيه وجها أنه كالعبد والثوب، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره. قلت:

ص: 532

وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، وذكر له قول الثوري: كل شيء ليس فيه كيل، ولا وزن، ولا عدد، فخراجه، وحمله، ونقصه على المشتري، وكل بيع فيه كيل، أو وزن، أو عدد، فلا بد للبائع أن يوفيه. فقال أحمد: أما العدد فلا، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه، لأن ملكه قائم فيه.

(القسم الثاني) متميز لم يتعلق به حق توفية، كالعبد، والدار، والصبرة، ونحو ذلك من الجزافيات، ففيه روايات.

(إحداهن) - وهي الأشهر عن الإمام، والمختار لجمهور الأصحاب - عدم افتقار ذلك إلى القبض، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر.

1908 -

وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى «أن الخراج بالضمان» رواه الخمسة، أي: حاصل أو ثابت بسبب

ص: 533

الضمان، وفي رواية:«أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الغلة بالضمان» رواه أحمد، وأبو داود، وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري، لأنه جعل خراجه له، بسبب أن ضمانه عليه.

(والثانية) : افتقار ذلك إلى القبض، حكاها جماعة، منهم أبو الخطاب في الانتصار، وأخذها من قول أحمد في

ص: 534

رواية الأثرم: إن الصبر لا تباع حتى تنقل. قال: وهي معينة كالعبد والثوب. وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا، في من تزوج امرأة على غلام بعينه، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج، وهذه قال في التلخيص: إنها اختيار ابن عقيل، والذي في الفصول تصحيح الأولى، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية، واختار هو أنها على ظاهرها، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري، وهذا ليس منه اختيارا للرواية، إنما فيه إثباتها، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه.

1909 -

وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ابتعت زيتا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» ، رواه أحمد، وأبو داود.

ص: 535

1910 -

وعن «حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال «يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه» رواه البيهقي في سننه.

(والرواية الثالثة) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام، وإن كان غير مكيل ولا موزون، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض، فقال: في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام، لأن الحديث في الطعام، وأصرح من هذا رواية الأثرم، وسأله

ص: 536

عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن. قال: هذا في الطعام وما أشبهه، من مأكول، أو مشروب، فلا تبعه حتى تقبضه، ونحوه نقله المروذي، وهذه الرواية قال ابن عبد البر: إنها الأصح عن إمامنا، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهما أو مما تعلق به حق توفية، أو غير ذلك.

1911 -

وقد استدل لها بما روى ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» .

1912 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه» ، وفي رواية: حتى يكتاله. متفق عليهما.

1913 -

وفي مسلم نحوهما من حديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 537

وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك، وهو في معنى مفهوم الصفة، لأنه اسم مشتق، لا اسم جامد كزيد ونحوه.

(والرابعة) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون، بشرط أن يكون مطعوما، قال في رواية مهنا: كل شيء يباع قبل قبضه، إلا ما كان يكال أو يوزن، مما يؤكل أو يشرب.

(والخامسة) : - وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه - المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون، أخذا من نصه في رواية الأثرم: أن الصبر لا تباع حتى تنقل.

والخرقي رحمه الله أناط الحكم بالمكيل، والموزون والمعدود، وظاهره خلاف هذه الأقوال، فيكون قولا سادسا، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية، وهو أولى، وفاقا للمذهب المنصوص. والله أعلم.

ص: 538

واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض، أو هو من كون الضمان على البائع، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب، من أن المنع من البيع، ولزوم الضمان للبائع، متلازمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 539

والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره.

إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه، وله التصرف فيه، سواء قدر على القبض أو لم يقدر، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة، واتساع الوقت للتسليم، ضمن ضمان غصب، لا ضمان عقد، وليس اللزوم من أحكام القبض، على المذهب كما تقدم، ولا الضمان وعدمه مرتبا على اللزوم، وقول السامري: إذا تم العقد بغير خيار، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ، فإن كان المبيع غير متميز. إلى آخره، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء، وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا، بل يحصل الملك بمجرد العقد، على المذهب كما تقدم، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى، في من اشترى قفيزا من طعام من جملة أقفزة، فهو من مال البائع، [فقيل له: أليس قد ملكه المشتري؟ فقال: بلى ولكن هو من ضمان البائع] انتهى، وإذا ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري، إذ النماء تابع للملك.

ص: 540

ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه، وكان من مال البائع، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإلا فلا شيء له، قال القاضي وغيره: على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية، وإن تلف بفعل من جهة آدمي، فإن كان المشتري فقد استقر العقد، وتلف من ماله، وإن كان البائع أو أجنبيا خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد. وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقا، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، في رجل باع ثوبا من رجل، ثم باعه من آخر قبل التفرق، ولما يسلمه للأول، واستهلكه البائع، أخذ بخلاصه، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه، ولم يبطل العقد، ولا يخير المشتري، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال، والقاضي قال: يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء، أما إن اختار

ص: 541

الفسخ فله ذلك، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ. (قلت) : وليس هذا نظير المسألة، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف، وإذا لا تخيير على المعروف، انتهى.

والعوض مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن لم يكن مثليا، كما نص عليه أحمد، وقاله جماعة، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة، فقيل: مرادهم كما تقدم، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي. وكان شيخنا رحمه الله ورضي عنه - القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها، انتصارا للمجد، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره، ونظرا إلى تحقيقه، ويعلله بما ملخصه: أن الملك هنا استقر على المالية، فلذلك وجبت القيمة، والمثلية

ص: 542

لم يستقر الملك عليها، فلذلك لم تجب، ونص ابن سعيد يقطع النزاع. والله أعلم.

(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ فيه وجهان، ومحل ذلك كتاب الغصب، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، قال في التلخيص: والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي، لكن يخير المشتري، لتفريق الصفقة عليه، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصا ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف، أما إن تعيب ولم يتلف، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش، وإن كان بغير فعل آدمي، خير بين أخذه ناقصا، ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بالثمن، قاله أبو محمد، وصاحب التلخيص، فلو كان المبيع دارا فتلف سقفها قبل

ص: 543

القبض، وقلنا: إنها من ضمان البائع، على الرواية الضعيفة، فهل ذلك بمنزلة العيب، كما لو تلفت يد العبد، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين؟ فيه وجهان.

(الثاني) : في معنى ما يتعلق به حق توفية - وإن لم يكن هو - المبيع برؤية أو صفة متقدمة، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع، ذكره ابن أبي موسى وغيره، والله أعلم.

قال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه.

ش: قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه، وما لا فلا.

ص: 544

1914 -

لأن «النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن» ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض، والظاهر أن منعه من ذلك حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وإذا إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه، هل هو كل شيء، كما في حديثي زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت، ورواته أكثر، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع،

ص: 545

وتضمين البائع متلازمان، ويحتمله حديث عائشة في المتعين؟ انتهى.

وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع، وفي غيره من المتعينات - كالعبد والصبرة ونحوهما - روايتان، ثم قال: إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه، فهل يصح بيعه قبل قبضه؟ نقل الأثرم: لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها. ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز، ثم حكى الخلاف أيضا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوما، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلا، وهذا أيضا ظاهر ما حكى السامري عن القاضي، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ على روايتين [وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض؟ على روايتين] قال: الأقيس جواز التصرف، لأنه لم يتعلق به حق توفية، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري، فهو كالعبد، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة رضي الله عنها وقول ابن عمر، وغيرها

ص: 546

من ضمان البائع، لمفهوم قول ابن عمر، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها، لحديث زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، انتهى.

(تنبيهات) : «أحدها» : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره، وهو كذلك انتهى، (الثاني) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض، فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول، وبين أن يطالب به الثاني، والثاني يطالب الأول (الثالث) : بيان القبض يأتي إن شاء الله تعالى للخرقي في الرهن، فلنتكلم عليه ثم، والله أعلم.

قال: والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع.

ش: الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن، بأن يقول: أشركتك في نصفه بنصف الثمن، أو في سدسه بسدس الثمن، ونحو ذلك، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن، وهما نوعان من أنواع البيع، فما ثبت في البيع ثبت فيهما، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم، فكذلك فيهما، ومثلهما بيع المرابحة، نحو: رأس مالي فيه

ص: 547

مائة، بعتك بها وربح عشرة، والمواضعة، كأن يقول والحال هذه: ووضيعة عشرة. والصلح بمعنى البيع، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضا، ونحو ذلك، والهبة بثواب، لأن المغلب فيها حكم البيع، على المذهب، والإجارة، لأنها بيع في الحقيقة، ويتصور ذلك في الأواني الموزونة، وفي المبهم في الموزون، كرطل من صنجة حديد، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه، وعليها التزويج كالإجارة، قاله في التلخيص، والقسمة حيث قيل إنها بيع، والخرقي رحمه الله ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع، ويحتمل وإن قيل: إنها عقد مستقل. لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات، وهذا أوفق لعبارة القاضي،

ص: 548

وأبي الخطاب وغيرهما، لقولهم: يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض، وقد صرح باستثناء العتق أيضا صاحب التلخيص وغيره، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن، لأن قبضه قد صار مستحقا من غير خلاف، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب، وفي هذا التعليل نظر، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض بعد قبض ثمنه، لاستحقاق قبضه، والله أعلم.

قال: وليس كذلك الإقالة، لأنها فسخ، وعن أبي عبد الله رحمه الله: الإقالة بيع.

ش: أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما، لما علل به من أنها فسخ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه، (والرواية الثانية) الإقالة بيع، أي في معناه، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه، وإذا ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره.

ص: 549

(تنبيه) : المشهور من الروايتين - وهو اختيار جمهور الأصحاب، القاضي، وعامة أصحابه، وأبي الحسين، وأبي محمد، وحكاه عن أبي بكر - الذي قدمه الخرقي، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، يقال: أقالك الله عثرتك. أي أزالها.

1915 -

قال صلى الله عليه وسلم: «من أقال نادما أقاله الله عثرته» رواه أبو داود،

ص: 550

والرفع والإزالة غير البيع، إذ هو عقد، وهي رفع له فهما ضدان، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر، وجازت الإقالة في المسلم فيه، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي، وإذا هي في معنى البيع، فتلحق به.

وللخلاف فوائد، (منها) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض، ولا يحتاج إلى كيل ثان، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع، لا على القول بأنها فسخ، (ولا تجوز) إلا بمثل الثمن، (ولا تستحق) بها شفعة، (ولا يحنث) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال، (ويكون النماء) للبائع، قاله القاضي في الجامع الصغير، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب، وقاله وبنى المسألة على أن

ص: 551

الإقالة بيع، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم، وابن بختان، وجوب الاستبراء مطلقا، ولو قبل القبض، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه، إناطة بالملك، واحتياطا للأبضاع، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء، وإلا لم يجب، وكذلك حكى الرواية القاضي، وأبو محمد في الكافي، والمغني، وكأن أحمد رحمه الله لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك، إنما نظر إلى الاحتياط.

والعجب من أبي البركات، حيث لم يذكر: قبل التفرق، مع جودته وتصريح الإمام به، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار، وقلنا: ولم ينتقل الملك. فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب، وإن وجد القبض، ولم يعتبر أبو البركات أيضا القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة، بل حكى فيها الروايتين وأطلق، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل، والله أعلم.

ص: 552

قال: وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها.

ش: وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وقال ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . وهذا يقال: إنه استفيد مما تقدم، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حق توفية وغيره، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره، وقد يقال بالمنع هنا، وإن قيل: إنه من ضمان المشتري، اتباعا لإطلاق النص.

(تنبيه) : «الصبرة» قال الأزهري: هي الكومة المجموعة من الطعام. قال: وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض. والله أعلم.

قال: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة.

ش: هذا منصوص أحمد رحمه الله، وعليه الأصحاب،

ص: 553

حذارا من تغرير المشتري وغشه، إذ البائع لا يفعل ذلك غالبا - والحال هذه - إلا لذلك، والغش حرام.

1916 -

قال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» .

1917 -

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه» وهذا نص في المسألة، وعن مالك

ص: 554

- رحمه الله أنه قال: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك.

وعن أحمد رحمه الله ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله، من غير تحريم، إذ المشتري يحتاط لنفسه، فلا يشتري ما يجهله، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم، نص عليه، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي، وبه قطع أبو بكر في التنبيه، وطائفة من الأصحاب، أو لا يفسد، وهو قول القاضي، وكثير من أصحابه، إذ قصاراه أنه تدليس، وهو غير مفسد، بدليل حديث المصراة؟ فيه وجهان، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس، ولو انفرد المشتري بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك، في أنه ينهى عن الشراء، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضا، وقد غالى أبو بكر فجزم

ص: 555

بالبطلان فيه، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما، حكاهما في التلخيص، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد، كما فهم ذلك من كلام الخرقي، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره. ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات.

ولا يشترط معرفة باطن الصبرة، دفعا للحرج والمشقة، اعتمادا على تساوي أجزائها غالبا، بخلاف الثوب ونحوه، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها، فإن لم يتساو لم يجز، إلا أن يكون يسيرا يتغابن بمثله، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها، ولم يعلم به المشتري، فله الخيار بين الرد والإمساك، كما لو وجد باطنها رديئا، نص عليه أحمد، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها، فلا خيار للمشتري، وللبائع الخيار إن لم يعلم، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له، إذ الظاهر علمه بذلك، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض، حتى يتساوى وجه الأرض، واختار صاحب

ص: 556

التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز.

ش: لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم، فصح للعلم بالعوض.

1918 -

«وعن علي رضي الله عنه، أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالتمر فأكل» ، والله أعلم.

ص: 557