الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْحُدُودِ
وَهِيَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالزِّنَا: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَالنَّحْرُ مِثْلُهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَتْلُ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَالْقَتْلُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالنَّهْيِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ الشَّاةِ بِلَفْظِ الْقَتْلِ لَا يَصِحُّ فَهَذَا أَوْلَى، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[كِتَابُ الْحُدُودِ]
وَهُوَ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ، وَحُدُودُ الْعَقَارِ: مَوَانِعُ مِنْ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَحَدَّتِ الْمُعْتَدَّةُ: إِذَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْمَلَاذِّ وَالتَّنَعُّمِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدٌّ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الشَّيْءِ وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ. وَحُدُودُ الشَّرْعِ: مَوَانِعُ وَزَوَاجِرُ عَنِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا.
(وَ) فِي الشَّرْعِ (هِيَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى) وَفِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْقِصَاصُ لَا يُسَمَّى حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ، وَكَذَا التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ، وَآيَةُ الْمُحَارِبَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَالْعَسِيفِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْأَبْوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَاقْتِنَاصِ الْمَلَاذِّ وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ خُصُوصًا مِنَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَمِنَ الْعَالِي عَلَى الدَّنِيءِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلَاءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْخِرَامِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَمِنْ كَلَامِ حُكَمَاءِ الْعَرَبِ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ.
قَالَ: (وَالزِّنَا: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِعُمُومِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ مَتَى قِيلَ فُلَانٌ زَنَا، يُعْلَمُ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا وَطْئًا حَرَامًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا فَسَّرَ الزِّنَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ حَرَامًا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ حَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ زِنًا؛ وَأَمَّا عَدَمُ الشُّبْهَةِ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ
، وَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةُ: أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا، فَإِذَا شَهِدُوا يَسْأَلُهُمُ الْقَاضِي عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ وَالْمَزْنِيِّ بِهَا، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَشَهِدُوا بِهِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِهِ، فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ فَهُمْ قَذَفَةٌ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
بِالشُّبُهَاتِ» وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْخِتَانِ، لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُلَامَسَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنْ غُسْلٍ وَكَفَّارَةٍ وَصَوْمٍ وَفَسَادِ حَجٍّ.
قَالَ: (وَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُمَا حُجَجُ الشَّرْعِ، وَبِهِمَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّعَاوِي، وقَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا الَّذِي رَمَوْهُمْ بِهِ يَثْبُتُ إِذَا أَتَوْا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْقَذْفِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالصِّدْقِ فِيهِ رَاجِحٌ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ رَجَمَ عليه الصلاة والسلام مَاعِزًا، وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ مُتَعَذِّرٌ فِي حَقِّنَا فَيَكْتَفِي بِالظَّاهِرِ الرَّاجِحِ.
(وَالْبَيِّنَةُ: أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِمَا تَلَوْنَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] شَرْطُ الْأَرْبَعَةِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ.
(فَإِذَا شَهِدُوا يَسْأَلُهُمُ الْقَاضِي عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ وَالْمَزْنِيِّ بِهَا) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اشْتُبِهَ عَلَيْهِ فَظَنَّ غَيْرَ الزِّنَا زِنًا، فَإِنَّ مَا دُونَ الزِّنَا يُسَمَّى زِنًا مَجَازًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ:«وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ» . وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي زَمَانِ الصِّبَا، أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنَ الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ أَوْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا الشُّهُودُ، فَإِنْ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَهُمْ أَرْبَعَةٌ وَمَا قَذَفُوا.
قَالَ: (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَشَهِدُوا بِهِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِهِ) لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْدِيلِ ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَلَمْ يَكْتَفِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ.
(فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ فَهُمْ قَذَفَةٌ) يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ إِذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَدَّ عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ الْأَرْبَعِ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ
وَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الرَّجْمِ سَقَطَ وَحُدُّوا، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَرُبُعُهَا، وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إِقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنِ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ الشَّهَادَةُ عَنِ الْقَذْفِ إِذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْهُمْ فَاعْتَبَرْنَا اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ.
قَالَ: (وَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الرَّجْمِ سَقَطَ وَحُدُّوا) أَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ فَلِبُطْلَانِ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ؛ وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ فَلِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ.
(وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ) لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا إِلَى قَتْلِهِ، وَالْمُتَسَبِّبُ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَحَافِرِ الْبِئْرِ.
(وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَرُبُعُهَا) لِأَنَّهُ تَلَفَ بِشَهَادَتِهِ رُبُعُ النَّفْسِ؛ أَوْ نَقُولُ: بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ رُبُعَ الْحَقِّ، وَلَا وَجْهَ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ، وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ مَعَ الدِّيَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا وَمَاتَ فَبَطَلَ؛ وَإِنْ كَانَ قَذَفَ مَيَّتًا فَقَدْ رُجِمَ بِقَضَاءٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَصِيرُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَيُجْعَلُ قَاذِفًا لِلْمَيِّتِ حَالَةَ الرُّجُوعِ فَقَدْ بَطَلَتِ الْحُجَّةُ فَبَطَلَ الْقَضَاءُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا فَلَا يُورَثُ شُبْهَةً؛ وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الْجَلْدِ فَالْحَدُّ لِمَا مَرَّ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ السِّيَاطِ، وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ مِنَ الْجَلْدِ.
وَقَالَا: يَضْمَنُونَ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ رُبُعُ الْأَرْشِ، وَإِنْ مَاتَ فَرُبُعُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْجَلْدِ وَقَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمُوجِبَ كَمَا فِي الرَّجْمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَثَرَ الضَّرْبِ وَالْمَوْتِ لَيْسَ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يُؤَثِّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ، وَقَدْ يَمُوتُ مِنْهُ وَلَا يَمُوتُ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ لَمَا انْفَكَّ عَنْهَا كَمَا فِي الرَّجْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ ضَمَانُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الشَّاهِدِ وَلَا وَجْهَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا. أَوْ عَلَى الْجَلَّادِ وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمُعِينِ الْقَصَّارِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ جَلِيٌّ، أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُوجِبٍ لَهُ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا فَلَا يَجِبُ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّاهِدِ.
قَالَ: (وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إِقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنِ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَطَبَ فَقَالَ: " أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضَغَنٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ " وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَمَكَّنَتْ فِيهَا تُهْمَةٌ فَتَبْطُلُ. بَيَانُهُ أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا عَايَنُوا الْفَاحِشَةَ فَهُمْ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا شَهِدُوا بِهِ حِسْبَةً لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَإِنْ شَاءُوا سَتَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِ حِسْبَةً أَيْضًا، فَإِنِ اخْتَارُوا الْأَدَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْحَدِّ حَرَامٌ، فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى السَّتْرِ حِسْبَةً حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الْأَحْسَنِ، فَإِذَا أَخَّرُوا
وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ يَرُدُّهُ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَا يَرَاهُ، ثُمَ يَسْأَلُهُ كَمَا يَسْأَلُ الشُّهُودَ إِلَّا عَنِ الزَّمَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
ثُمَّ شَهِدُوا اتُّهِمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا شَهِدُوا لِضَغِينَةٍ حَمَلَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه، وَإِنْ كَانَ تَأْخِيرُهُمْ لَا لِحِسْبَةِ السِّتْرِ ثَبَتَ فِسْقُهُمْ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يُتَّهَمُ؛ ثُمَّ التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَحَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْهَا فَيَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهَا مَانِعًا؛ وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَالتَّقَادُمُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ، فَاحْتَمَلَ أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى فَلَا يُتَّهَمُونَ فِي ذَلِكَ؛ وَلَا يَلْزَمُ حَدُّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِلْمَالِ لَا لِلْحَدِّ، لِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ فِي السِّرِّ وَالْخُفْيَةِ مِنَ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إِعْلَامُهُ، فَبِالتَّأْخِيرِ يَفْسُقُ أَيْضًا.
وَأَمَّا حَدُّ التَّقَادُمِ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: جَهِدْنَا بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ فِي التَّقَادُمِ شَيْئًا فَأَبَى، لِأَنَّ التَّقَادُمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْذَارِ وَرَدَّهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَرَوَى الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ سَنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّنَةَ تَقَادُمًا وَلَمْ يَمْنَعْ مَا دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَهُوَ تَقَادُمٌ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَعِيدِ وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدِّرَ التَّقَادُمَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا. وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
(وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ يَرُدُّهُ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ كَمَا يَسْأَلُ الشُّهُودَ إِلَّا عَنِ الزَّمَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) أَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلِأَنَّهُمَا شَرْطٌ لِلتَّكَالِيفِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ فَأَقَرَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ الثَّالِثَةَ فَأَقَرَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ الرَّابِعَةَ فَأَقَرَّ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ؟ " وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَادَ» وَالْتَمَسُّكُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْحَدَّ لَوْ وَجَبَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَمْ يُؤَخِّرْهُ إِلَى الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ إِذَا وَجَبَ، قَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَا يَنْبَغِي لِوَالِي حَدٍّ أُتِيَ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِقَامَتُهُ» . الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: «الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعًا، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ فَحْوَى هَذَا الْكَلَامِ. الثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا أَقَرَّ الثَّالِثَةَ قَالَ لَهُ
وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ كَقَوْلِهِ لَهُ: لَعَلَّكَ وَطِئْتَ بِشُبْهَةٍ، أَوْ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ. .
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
إِنْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الرَّابِعَةَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا تَوْقِيفًا.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ صلى الله عليه وسلم» وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوهُ شَرِيعَةً قَبْلَ رَجْمِ مَاعِزٍ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَا اخْتُصَّ بِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ إِعْظَامًا لِأَمْرِهِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ كَزِيَادَةِ عَدَدِ الشُّهُودِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الْمُقِرِّ، فَيُنَاسِبُ أَنْ يَخْتَصَّ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الْأَقَارِيرِ أَيْضًا وَاشْتِرَاطُ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ يُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَائِمٌ بِهِ دُونَ الْقَاضِي.
فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا عَلَى مَا وَصَفْنَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِهِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ:" أَبِكَ دَاءٌ؟ أَبِكَ خَبَلٌ؟ أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ لَا، وَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» فَإِذَا عَرَفَ صِحَّةَ عَقْلِهِ سَأَلَهُ عَنِ الزِّنَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي الشُّهُودِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَاعْتَقَدَهُ زِنًا، «وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزٍ: " لَعَلَّكَ لَمَسْتَ، لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ بَاشَرْتَ» ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَاعِزٌ النُّونَ وَالْكَافَ قَبِلَ إِقْرَارَهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزٍ:" فَبِمَنْ "؟ وَلِجَوَازِ أَنَّهُ وَطِئَ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَنَحْوَهِمَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَكَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْإِقْرَارِ لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ يَسْأَلُهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى حَالَةَ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ وَلِمَا رَوَيْنَا.
قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) لِأَنَّ رُجُوعَهُ إِخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ كَالْإِقْرَارِ وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ. فَتَحَقَّقَتِ الشُّبْهَةُ لِتَعَارُضِ الْإِقْرَارِ بِالرُّجُوعِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُكَذِّبُهُ فَلَا مُعَارِضَ لِإِقْرَارِ الْأَوَّلِ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا مَسَّهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» فَجَعَلَ الْهَرَبَ الدَّالَّ عَلَى الرُّجُوعِ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ فَلَأَنْ يَسْقُطَ بِصَرِيحِ الرُّجُوعِ أَوْلَى.
(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ كَقَوْلِهِ لَهُ: لَعَلَّكَ وَطِئْتَ بِشُبْهَةٍ، أَوْ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ) لِمَا رَوَيْنَا وَاحْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّلْقِينِ