المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَصْلٌ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ - الاختيار لتعليل المختار - جـ ٤

[ابن مودود الموصلي]

فهرس الكتاب

- ‌ بَابُ النَّفَقَةِ [

- ‌نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ]

- ‌[فصل نَفَقَةُ المطلقة]

- ‌[فَصْلٌ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ]

- ‌فَصْلٌ فِي الْحَضَانَةِ

- ‌كتاب العتق

- ‌[فصل من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه]

- ‌[فصل من أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ]

- ‌بَابُ التَّدْبِيرِ

- ‌بَابُ الِاسْتِيلَادِ

- ‌كِتَابُ الْمُكَاتَبِ

- ‌[فصل الكِتَابة الفاسدة]

- ‌[فصل كاتب عبديه كتابة واحدة]

- ‌[فصل موت المكاتب قبل وفاء ديونه]

- ‌كِتَابُ الْوَلَاءِ

- ‌كِتَابُ الْأَيْمَانِ

- ‌[فصل حُرُوفُ الْقَسَمِ وفيما يكون به اليمين]

- ‌[فصل في الْخُرُوجِ]

- ‌[فصل الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ]

- ‌فَصْلٌ [الْحِينُ وَالزَّمَانُ]

- ‌[فصل الْحلف على الطعام]

- ‌[فصل انعقاد اليمين]

- ‌[فصل الحنث في اليمين]

- ‌[فَصْلٌ في النذر]

- ‌كِتَابُ الْحُدُودِ

- ‌[فصل حَدُّ الزِّنَا]

- ‌[فصل وَطْءُ الْجَارِيَةِ]

- ‌بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ

- ‌[فصل التعزير]

- ‌بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ

- ‌كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

- ‌كِتَابُ السَّرِقَةِ

- ‌[فصل ما لا قطع فيه وما فيه قطع]

- ‌[فصل بيان محل القطع]

- ‌[فصل حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ]

- ‌كِتَابُ السِّيَرِ

- ‌[فصل موادعة أهل الحرب]

- ‌[فصل أمان الواحد]

- ‌[فصل فتح البلاد]

- ‌[فصل الغنيمة]

- ‌[فصل قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ]

- ‌[فصل ملك أهل الحرب]

- ‌[فصل الْجِزْيَةُ]

- ‌[فصل الْخَرَاجُ]

- ‌[فصل الْمُرْتَدُّ]

- ‌[فصل فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا]

- ‌[فصل الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ]

- ‌كِتَابُ الْكَرَاهَيَةِ

- ‌[فصل النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ]

- ‌[فصل اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ]

- ‌فَصْلٌ فِي الِاحْتِكَارِ

- ‌[فَصْلٌ فِي مسائل مختلفة]

- ‌[فَصْلٌ فِي آداب للمؤمن ينبغي أن يحافظ عليها]

- ‌[فَصْلٌ فِي السَّبْقُ وَالرَّمْيُ]

- ‌فَصْلٌ: فِي الْكَسْبِ

- ‌[فَصْلٌ فِي الكسوة]

- ‌[فَصْلٌ فِي الكلام]

الفصل: فَصْلٌ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ

فَصْلٌ

وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً وَضَعْتُ عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَقَامَ صَارَ ذِمِّيًا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَّتَ الْإِمَامُ دُونَ السَّنَةِ فَأَقَامَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَأَدَّى خَرَاجَهَا؛ وَإِذَا تَزَوَّجَتِ الْحَرْبِيَّةُ بِذِمِّيٍّ صَارَتْ ذِمِّيَّةً؛ وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌ بِذِمِّيَّةٍ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَالْجِزْيَةُ ضَرْبَانِ: مَا يُوضَعُ بِالتَّرَاضِي فَلَا يَتَعَدَّى عَنْهَا.

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

[فصل الْجِزْيَةُ]

فَصْلٌ (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً وَضَعْتُ عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِنَا دَائِمًا إِلَّا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ، أَوِ الذِّمَّةُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُلُّ عَلَيْهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . وَفِي مَنْعِهِمْ قَطْعُ الْجَلْبِ وَالْمِيرَةِ وَسَدُّ بَابِ التِّجَارَةِ، وَرُبَّمَا مَنَعُوا تُجَّارَنَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الْمُقَامُ الْكَثِيرُ وَيَجُوزُ الْقَلِيلُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ.

قَالَ: (فَإِنْ أَقَامَ) يَعْنِي سَنَةً (صَارَ ذِمِّيًّا) لِالْتِزَامِهِ الْجِزْيَةَ بِشَرْطِ الْإِمَامِ فَتُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.

(وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يَنْتَقِضُ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةَ الْمُسْلِمِينَ بِجَعْلِ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَبِانْقِطَاعِ الْجِزْيَةِ. قَالَ:(وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَّتَ الْإِمَامُ دُونَ السَّنَةِ فَأَقَامَ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا.

قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَأَدَّى خَرَاجَهَا) لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ كَخَرَاجِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّاهُ فَقَدِ الْتَزَمَ الْمُقَامَ فِي دَارِنَا وَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِاحْتِمَالِ الشِّرَاءِ لِلتِّجَارَةِ؛ وَلَوْ أَجَّرَهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَرَأَى ذَلِكَ عَلَى الزَّارِعِ لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ فَلَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ ذِمِّيًّا.

قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَتِ الْحَرْبِيَّةُ بِذِمِّيٍّ صَارَتْ ذِمِّيَّةً؛ وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا) لِأَنَّهَا الْتَزَمَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ وَلَمْ يَلْتَزِمْ هُوَ لِأَنَّهُ يُطَلِّقُهَا وَيَعُودُ.

قَالَ: (وَالْجِزْيَةُ ضَرْبَانِ: مَا يُوضَعُ بِالتَّرَاضِي فَلَا يَتَعَدَّى عَنْهَا) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالرِّضَى، فَلَا يَجِبُ غَيْرُ مَا رَضِيَ بِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ صَالَحَ عليه الصلاة والسلام نَصَارَى نَجْرَانَ

ص: 136

وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ إِذَا غَلَبَ الْكُفَّارَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَتَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ، وَتُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ،

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَكَانَتْ جِزْيَةً بِالصُّلْحِ.

(وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ إِذَا غَلَبَ الْكُفَّارَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَتَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَتُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمُعَاذٍ:«خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيٌّ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّلْحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ وَحَالِمَةٌ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا فِي الْمُصَالَحَةِ كَمَا صَالَحَ عُمَرُ رضي الله عنه نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى حَالِ أَهْلِهِ وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ فَتَجِبُ لِلْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّ الْمُعَوِّضَ قَدْ سَلَّمَ لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِوَضَ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ وَقَسَّطْنَاهَا عَلَى الْأَشْهَرِ تَخْفِيفًا وَلِيُمْكِنَهُ الْأَدَاءُ.

قَالَ: (وَتُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ) أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إِلَى أَنْ قَالَ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ؛ وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ "، فَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ» . وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ رِجَالِهِمْ كَالْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِبْقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ الرِّقُّ جَازَ بِالْآخَرِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ.

(وَلَا يَجُوزُ) أَخْذُهَا مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ (مِنَ الْعَرَبِ وَ) لَا مِنَ (الْمُرْتَدِّينَ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالرِّقِّ فَكَذَا بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَقْبَحُ وَأَغْلَظُ. أَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهُمْ بَالَغُوا فِي أَذَاهُ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْذِيبِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ، فَتَغَلَّظَتِ عُقُوبَتُهُمْ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام يَوْمَ حُنَيْنٍ:«لَوْ كَانَ يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ رِقٌّ لَكَانَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ» . وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ

ص: 137

وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٍ، وَلَا شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَلَا الرَّهَابِينَ الْمُنْعَزِلِينَ، وَلَا فَقِيرٍ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ، وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ،

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَيَسْتَرِقُّ نِسَاءَ الْعَرَبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَرَقَّهُمْ كَمَا اسْتَرَقَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَتُجْبَرُ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ: (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا مَكَاتَبٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٍ، وَلَا شَيْخٍ كَبِيرٍ) ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ جَزَاءً عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَجْرِي مَجْرَى الْقَتْلِ، فَمَنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ لَا يُؤَاخَذُ بِالْجِزْيَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الزَّاجِرُ فِي حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمُ الْأَصْلُ انْزَجَرَ التَّبَعُ، أَوْ نَقُولُ: وَجَبَتْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، فَمَنْ لَا يَجِبْ قَتْلُهُ لَا تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَضَعْ عَلَى النِّسَاءِ جِزْيَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَوُجُودُ الْمَالِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَمَلِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يُعِينُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَذَلِكَ.

قَالَ: (وَلَا) عَلَى (الرَّهَابِينِ الْمُنْعَزِلِينَ، وَلَا فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) وَالْمُرَادُ الرَّهَابِينُ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ وَالسَّيَّاحِينَ وَنَحْوِهِمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنِ اعْتَزَلُوا وَتَرَكُوا الْعَمَلَ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَصَارُوا كَالْمُعْتَمِلِينَ إِذَا تَرَكُوا الْعَمَلَ فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَتَعْطِيلِ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَأَمَّا الْفَقِيرُ غَيْرُ الْمُعْتَمِلِ، فَلِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه شَرَطَ كَوْنَهُ مُعْتَمِلًا وَأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطِيقٍ لِلْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَرْضِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ اعْتِبَارًا لِخَرَاجِ الرَّأْسِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ؛ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى الْفَقِيرِ التَّغْلِبِيِّ لِمَا سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ صُلْحِهِمْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ.

وَلَوْ مَرِضَ الذِّمِّيُّ جَمِيعَ السَّنَةِ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُعْتَمِلِ لِمَا بَيَّنَا؛ وَلَوْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ سَقَطَتْ أَيْضًا إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ نِصْفَ السَّنَةِ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَيَتَرَجَّحُ الْمُسْقِطُ.

وَلَوْ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ قَبْلَ وَضْعِ الْإِمَامِ الْجِزْيَةَ وُضِعَ عَلَيْهِمْ، وَبَعْدَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّتُهُمْ دُونَ الْوَضْعِ، لِأَنَّّ الْإِمَامَ يَخْرُجُ فِي تَعَرُّفِ حَالِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلًا وَقْتَ الْوَضْعِ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ الْوَضْعِ حَيْثُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ أَهْلٌ لِلْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ.

قَالَ: (وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ) لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلًا عَلَى الْإِسْلَامِ،

ص: 138

وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ (سم) وَيَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ عَلَى وَصْفِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِلَّا بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ إِنْ تَغَلَّبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا فَتَصِيرُ أَحْكَامُهُمْ كَالْمُرْتَدِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ نَسْتَرِقُّهُمْ وَلَا نُجْبِرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْجِزْيَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ.

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْقَتْلِ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ.

قَالَ: (وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ) فَلَا تَجِبُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَقَالَا: تُؤْخَذُ لِجَمِيعِ مَا مَضَى، لِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَالدُّيُونِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُوبَاتِ التَّدَاخُلُ كَالْحُدُودِ، أَوْ لِأَنَّهَا لِلزَّجْرِ، وَالزَّجْرُ عَنِ الْمَاضِي مُحَالٌ.

(وَيَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ عَلَى وَصْفِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فَيَكُونُ الْآخِذُ قَاعِدًا وَالذِّمِّيُّ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُؤْخَذُ بِتَلَبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا (وَيَقُولُ لَهُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ) وَلَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِأَنَّهَا لِلزَّجْرِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَتَنْقِيصُ الْمَالِ يَحْصُلُ بِهِ وَبِنَائِبِهِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ لِسَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالْخَرَاجِ؛ فَلَوْ عَجَّلَ لِسَنَتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ رَدَّ خَرَاجَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَلَا يَرُدُّ خَرَاجَ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ دُخُولِهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ.

قَالَ: (وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِلَّا بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ إِنْ تَغَلَّبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا فَتَصِيرُ أَحْكَامُهُمْ كَالْمُرْتَدِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ نَسْتَرِقُّهُمْ وَلَا نَجْبُرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ) لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي عِقْدِ الذِّمَّةِ فَيَصِيرُونَ كَالْمُرْتَدِّينَ وَمَالُهُمْ كَمَالِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى قَبُولِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا سِلْمًا لَنَا وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ؛ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ الْعَوْدُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَبْرِ، فَإِنْ عَادُوا إِلَى الذِّمَّةِ أُخِذُوا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النَّقْضِ كَمَا فِي الرِّدَّةِ، وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا أَصَابُوا فِي الْمُحَارَبَةِ.

قَالَ: (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْجِزْيَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ) ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِ وَمَرْكَبِهِ وَلَا فِي هَيْئَتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْمُرُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ يَخْتِمُوا رِقَابَهُمْ بِالرَّصَاصِ وَأَنْ يُظْهِرُوا مَنَاطِقَهُمْ وَأَنْ يَحْلِقُوا نَوَاصِيَهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَثْوَابِهِمْ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ صَالَحَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يَشُدُّوَا فِي أَوْسَاطِهِمُ الزُّنَّارَ، وَكَانَ بِحَضْرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ

ص: 139

وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ، وَلَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ وَلَا صَوْمَعَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا،

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَبِدَايَتُهُ بِالسَّلَامِ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَجَالِسِ، وَالْكَافِرُ يُعَامَلُ بِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ عليه الصلاة والسلام:«وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ» ؛ فَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا ذَكَرْنَا رُبَّمَا عَظَّمْنَا الْكَافِرَ وَوَالَيْنَاهُ وَبَدَأْنَاهُ بِالسَّلَامِ ظَنًّا مِنَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ تَمْيِيزُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا احْتِرَازًا عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السِّيمَاءَ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى حَالِ الْإِنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وَقَالَتْ الْفُقَهَاءُ: مَنْ رَأَيْنَا عَلَيْهِ زِيَّ الْفَقْرِ جَازَ لَنَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَسَطِهِ كَسْتِيجًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ مِنَ الشَّعْرِ أَوِ الصُّوفِ وَيَكُونُ غَلِيظًا لِيَظْهَرَ لِلرَّائِي، وَلَا يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ وَيَلْبَسُوا قَمِيصًا خَشِنًا جُيُوبُهُمْ عَلَى صُدُورِهِمْ، وَأَنْ يَلْبَسُوا الْقَلَانِسَ الطِّوَالَ الْمُضَرَّبَةَ، وَأَنْ يَرْكَبُوا السُّرُوجَ الَّتِي عَلَى قَرْبُوسَهِ مِثْلُ الرُّمَّانَةِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ، وَأَنْ يَجْعَلُوا شِرَاكَ نِعَالِهِمْ مِثْلَنَا وَلَا يَحْذُوَهَا مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً وَلَا أَرْدِيَةً مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ.

(وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ) فَإِنْ دَعَتْ يَرْكَبُونَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَيَنْزِلُونَ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ (وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ) لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ الْمَشْيِ فِي الطُّرُقِ وَالْحَمَّامَاتِ، فَيُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِنَّ طَوْقُ الْحَدِيدِ، وَيُخَالِفُ إِزَارُهُنَّ إِزَارَ الْمُسْلِمَاتِ، وَيَكُونُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ تُمَيَّزُ بِهَا عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَقِفَ عَلَيْهِمُ السَّائِلُ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ تَمْيِيزُهُمْ بِمَا يُشْعِرُ بِذُلِّهِمْ وَصَغَارِهِمْ وَقَهْرِهِمْ بِمَا يَتَعَارَفُهُ كُلُّ بَلْدَةٍ وَزَمَانٍ.

قَالَ: (وَلَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ وَلَا صَوْمَعَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) ؛ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» ؛ وَالْمُرَادُ إِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: " لَا خِصَاءَ " هُوَ الِاعْتِزَالُ عَنِ النِّسَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الرُّهْبَانُ فَكَأَنَّهُ خِصَاءٌ مَعْنًى.

(وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) لِأَنَّهُمْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَالْبِنَاءُ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ خَرَابِهِ، فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا فَقَدِ الْتَزَمَ لَهُمْ إِعَادَتَهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوهَا لِأَنَّهُ إِحْدَاثٌ لَا إِعَادَةَ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّمَا يُمْنَعُونَ فِي الْأَمْصَارِ، أَمَّا الْقُرَى الَّتِي لَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْحُدُودُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيهَا، وَهَذَا فِي الْقُرَى الَّتِي أَكْثَرُهَا ذِمَّةٌ، أَمَّا قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَالْقُرَى. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَنِيسَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ، وَلَا يُبَاعُ فِيهَا خَمْرٌ وَخِنْزِيرٌ مِصْرًا كَانَتْ أَوْ قَرْيَةً، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا أَوْ وَطَنًا، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ» ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْفَوَاحِشِ وَالرِّبَا وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ

ص: 140

وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ضِعْفُ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ، وَمَوْلَاهُمُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ كَمَوْلَى الْقُرَشِيِّ، وَتُصْرَفُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي أُجْلِيَ أَهْلُهَا عَنْهَا، وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيهِمْ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِعْطَاءِ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ.

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

وَالْغِنَاءِ وَكُلِّ لَهْوٍ مُحَرَّمٍ فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَبَائِرُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهَا بِالْأَمَانِ، وَإِنْ حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ لَا يُخْرِجُونَ فِيهِ صُلْبَانَهُمْ، وَلْيَصْنَعُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَلَا يُخْرِجُوهُ مِنَ الْكَنَائِسِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الْمِصْرِ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَفِي إِظْهَارِهِ إِعْزَازٌ لِلْكُفْرِ، وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْكُفْرِ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا ضَرْبُ النَّاقُوسِ يَفْعَلُونَهُ فِي الْكَنَائِسِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَيُمْنَعُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَكَذَلِكَ فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا.

قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصَارَى بَنِيَ تَغْلِبَ ضِعْفُ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ) لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، فَلِهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ دُونَ صِبْيَانِهِمْ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ صِبْيَانِهِمْ.

قَالَ: (وَمَوْلَاهُمْ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ كَمَوْلَى الْقُرَشِيِّ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مَعَ التَّغْلِبَيِّ تَخْفِيفًا فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْمَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ نَصْرَانَيًّا.

قَالَ: (وَتُصْرَفُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي أُجْلِيَ أَهْلُهَا عَنْهَا وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُ مَالٌ وَصَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَيَكُونُ لِبَيْتِ مَالِهِمْ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِمْ.

وَذَلِكَ: (مِثْلُ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيهِمْ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِعْطَاءِ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ) ؛ أَمَّا سَدُّ الثُّغُورِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ فَمَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ؛ وَأَمَّا أَرْزَاقُ مَنْ ذُكِرَ فَلِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ كِفَايَتُهُمْ عَلَيْهِمْ؛ وَالْمُقَاتِلَةُ يُقَاتِلُونَ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِعْزَازِ كَلِمَةِ الدِّينِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ كِفَايَتُهُمْ وَكِفَايَةُ ذُرِّيَّتِهِمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يُكْفَوْا لَاشْتَغَلُوا بِالِاكْتِسَابِ لِلْكِفَايَةِ فَلَا يَتَخَلَّوْنَ لِلْقِتَالِ. وَأَمَّا الْقُضَاةُ وَالْبَاقُونَ فَقَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِفَصْلِ خُصُومَاتِهِمْ وَبَيَانِ مُحَاكَمَاتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ أَحْكَامَ شَرِيعَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ وَيَذَرُوَنَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَصَالِحِهِمْ وَأَعَمِّهَا، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَصَالِحِهِمْ أَصْلُهُ الْقَاضِي وَالزَّوْجَةُ عَلَى مَا عُرِفَ.

ص: 141