الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ السِّيَرِ
الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ وَكِفَايَةٍ عِنْدَ عَدَمِهِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
[كِتَابُ السِّيَرِ]
ِ وَهِيَ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، وَمِنْهُ سِيرَةُ الْعُمَرَيْنِ: أَيْ طَرِيقَتُهُمَا؛ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَحْمُودُ السِّيرَةِ، وَفُلَانٌ مَذْمُومُ السِّيرَةِ: يَعْنِي الطَّرِيقَةَ، وَسُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ سِيَرَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَطَرِيقَتَهُ فِي مَغَازِيهِ، وَسِيرَةَ أَصْحَابِهِ وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْجِهَادُ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، ثَبَتَتْ فَرَضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«الْجِهَادُ مَاضٍ - أَيْ فَرْضٌ - مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةَ، حَتَّى يُقَاتِلَ عِصَابَةٌ مِنْ أَمَّتِي الدَّجَّالَ» وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ -أَيْ أَمِيرَهُمْ- بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَبَوْا فَانْبِذُوا إِلَيْهِمْ -أَيْ أَعْلِمُوهُمْ بِالْقِتَالِ-، وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُنْزِلُوهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ، ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ مَا رَأَيْتُمْ، وَإِذَا أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَّتَكُمْ وَذِمَّةَ آبَائِكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَذَمَّةَ آبَائِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ» ، وَإِخْفَارُ الذِّمَّةِ: نَقْضُهَا.
قَالَ: (الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ وَكِفَايَةٌ عِنْدَ عَدَمِهِ)، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] الْآيَةَ؛ وَالنَّفِيرُ الْعَامُّ: أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إِعْزَازُ الدِّينِ وَقَهْرُ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْجَمِيعِ، فَيَصِيرُ عَلَيْهِمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالصَّلَاةِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ كَرَدِّ السَّلَامِ
وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ حُرٍّ قَادِرٍ، وَإِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذَنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، وَلَا بَأْسَ بِالْجُعْلِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ؛ وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا وَبَيَّنُوا لَهُمْ كَمِّيَّتَهَا وَمَتَى تَجِبُ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ وَالْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّ الْكُفْرِ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، وَإِطْفَاءُ ثَائِرَتِهِمْ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْجِهَادِ وَلَا يَخْرُجُ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَكُونُ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزِّرَاعَاتِ وَالصَّنَائِعِ، وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُجَاهِدُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْجِهَادِ فَيُؤَدِّيَ إِلَى تَعْطِيلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
قَالَ: (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ حُرٍّ قَادِرٍ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ مَشْغُولَانِ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخِلَيْنِ فِي الْخِطَابِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْقَادِرِ فَلِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ قَبِيحٌ كَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَنَحْوِهِمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
قَالَ: (وَإِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَحَقُّ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْجُعْلِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ) لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِاحْتِمَالِ الْأَدْنَى، وَالْحَاجَةُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيرَةِ وَمَوَادِّ الْجِهَادِ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ.
قَالَ: (وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا أَسْلَمُوا فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ.
(فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» الْحَدِيثَ، وَلِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْلَامُهُمْ وَقَدْ حَصَلَ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ) لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ (إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا وَبَيَّنُوا لَهُمْ كَمِّيَّتَهَا، وَمَتَى تَجِبُ) عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا لَا يَدْعُوهُمْ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِذْ لَا يُقْبَلُ
فَإِنْ قَبِلُوهَا فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا، وَيَجِبُ أَنْ يَدْعُوَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ، فَإِنِ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ وَحَرَّقُوهُمْ وَرَمَوْهُمْ، وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ الْكُفَّارَ؛
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ وَيُعَرِّفُهُمْ قَدْرَهَا لِتَنْقَطِعَ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ يَنْتَهِي بِالْجِزْيَةِ، قَالَ تَعَالَى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أَيْ حَتَّى يَقْبَلُوهَا.
قَالَ: (فَإِنْ قَبِلُوهَا فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا) ؛ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «فَإِذَا قَبِلُوهَا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ إِجْمَاعًا.
قَالَ: (وَيَجِبُ أَنْ يَدْعُوا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ) لِمَا تَقَدَّمَ وَلِيَعْلَمُوا مَا يُقَاتِلُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا أَجَابُوا فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ قِيلَ يَجُوزُ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَامَ الشُّيُوعُ مَقَامَ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ آثِمٌ لِلنَّهْيِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يُعْتَبَرُ شُيُوعًا فِي الْكُلِّ.
قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ) الدَّعْوَةُ أَيْضًا مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَازُونَ.» وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَنِي الْأَصْفَرِ صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ نَخْلَهُمْ» ، وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ عَنْ دَعْوَةٍ.
قَالَ: (فَإِنْ أَبَوْا) يَعْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ (اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ) لِمَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» ؛ وَلِأَنَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فَأَقَامُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ فَوَجَبَتْ مُنَاجَزَتُهُمْ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُذِلُّ لِأَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ.
قَالَ: (وَنَصَبُوا عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ، وَحَرَّقُوهُمْ وَرَمَوْهُمْ - وَإِنْ تَتَرَّسُوا - بِالْمُسْلِمِينَ وَيَقْصِدُونَ بِهِ الْكُفَّارَ) ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا وَكَبْتًا لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَانَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ» ، وَلِأَنَّ بِلَادَهُمْ لَا تَخْلُو عَنِ الْمُسْلِمِينَ الْأَسْرَى وَالتُّجَّارِ وَالْأَطْفَالِ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْقِتَالُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ أَصْلًا، وَلَا يَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْمُسْلِمِينَ تَحَرُّزًا عَنْ قَتْلِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. «وَلَمَّا مَرَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ النَّضَرِيِّ فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكُرُومِ أَمَرَ بِقَطْعِهَا» . قَالَ الزُّهْرِيُّ: «وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ الْبُيُوتَ؛ وَلَمَّا تَحَصَّنَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِهِمْ وَتَحْرِيقِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ تَرْضَى بِالْفَسَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]