الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ
وَهُوَ كَحَدِّ الزِّنَا كَيْفِيَّةً، وَحَدِّ الْقَذْفِ كَمِّيَّةً وَثُبُوتًا، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ وَالتَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ بِذَهَابِ السُّكْرِ وَالرَّائِحَةِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَلَوْ أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا فَقَذَفَ آخَرَ لَمْ يُضْرَبْ إِلَّا ذَلِكَ السَّوْطُ لِلتَّدَاخُلِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَتَدَاخَلُ لِغَلَبَةِ حَقِّ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِظْهَارُ كَذِبِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْعَارُ عَنِ الْمَقْذُوفِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي حَقِّهِمَا بِالسَّوْطِ الْوَاحِدِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ، يَبْدَأُ بِالْفَقْءِ لِكَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ، فَإِذَا بَرَأَ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ، لِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حَدَّيْنِ رُبَّمَا تَلِفَ، وَالتَّلَفُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ فَإِذَا بَرَأَ فَلِلْإِمَامِ إِنْ شَاءَ بَدَأَ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ الزِّنَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ، وَآخِرُهَا حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَكَانَ دُونَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ؛ وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا بَدَأَ بِالْفَقْءِ، ثُمَّ حَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ الرَّجْمِ، وَيَسْقُطُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحُدُودِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَتْلٌ ضُرِبَ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُضَمَّنُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ قُتِلَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْبَاقِي، نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.
[بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ]
ِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» .
(وَهُوَ كَحَدِّ الزِّنَا كَيْفِيَّةً، وَحَدِّ الْقَذْفِ كَمِّيَّةً وَثُبُوتًا) فَيُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ لِمَا مَرَّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ تَخْفِيفًا عَنْ حَدِّ الزِّنَا. قُلْنَا: ثَبَتَ التَّخْفِيفُ فِي الْعَدَدِ فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا، وَعَدَدُهُ ثَمَانُونَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ، وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.
(غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ وَالتَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ)، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي السَّرِقَةِ.
قَالَ: (وَالتَّقَادُمُ بِذَهَابِ السُّكْرِ وَالرَّائِحَةِ) فَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رِيحِهَا أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بَعْدَ السُّكْرِ وَذَهَابِ الرَّائِحَةِ لَمْ يُحَدَّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ؛ فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدَّرَهُ بِالزَّمَانِ كَالزِّنَا، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ مُشْتَبِهَةٌ، وَعِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَا إِجْمَاعَ بِدُونِ رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه،
فَلَوْ أُخِذَ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْإِمَامِ انْقَطَعَتْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ حُدَّ، وَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَبِالسُّكْرِ مِنَ النَّبِيذِ؛ وَالسَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ؛ وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنَ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا، وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فَإِنَّهُ شَرَطَ وُجُودَ الرَّائِحَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِ أَخٍ لَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِئْسَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْتَ لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْتَ عَلَيْهِ كَبِيرًا! تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ ثُمَّ اسْتَنْكِهُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ شَرَطَ وُجُودَ الرَّائِحَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا.
(فَلَوْ أُخِذَ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْإِمَامِ انْقَطَعَتْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ حُدَّ) فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ عُذْرٌ فَلَا يُعَدُّ تَقَادُمًا كَمَا قُلْنَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فَتَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ، وَيَسْقُطُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ عُقُوبَةً لَهُ.
قَالَ: (وَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَبِالسُّكْرِ مِنَ النَّبِيذِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
(وَالسَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ) وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَخْلِطُ كَلَامَهُ وَيَهْذِي لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَأَقْصَاهُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ حَتَّى لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ مَتَى مَيَّزَ فَذَلِكَ دَلَالَةُ الصَّحْوِ أَوْ بَعْضِهِ وَأَنَّهُ ضِدُّ السُّكْرِ، فَمَتَى ثَبَتَ أَحَدُهُمَا أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ لَا يَثْبُتُ الْآخَرُ.
(وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنَ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَغَيْرِهِمَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَكَذَلِكَ الشُّرْبُ مُكْرَهًا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَلِذَلِكَ شَرَطَ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) لِيَتَأَلَّمَ بِالضَّرْبِ فَيَحْصُلُ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ. قَالَ: (وَلَا يُحَدُّ مِنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُشْتَبِهَةٌ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا ثَابِتٌ، وَالْحُدُودُ لَا تَجِبُ بِالشَّكِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.