الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَحَدَ. وَقِيلَ: كَفَرَ كَشَكَرَ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ. وَعَصَوْا رُسُلَهُ، قِيلَ: عَصَوْا هُودًا وَالرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِ، وَقِيلَ: يُنَزَّلُ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ مَنْزِلَةَ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ كَقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» وَاتَّبَعُوا أَيِ: اتَّبَعَ سُقَّاطُهُمْ أَمْرَ رُؤَسَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ، وَيُعَاقِبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَنَّهُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، الْمُتَكَبِّرُ عَلَى الْعِبَادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّبَعُوا عَامٌّ فِي جَمِيعِ عَادٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانُوا تَابِعِينَ لَهُ دُونَ الرُّسُلِ جُعِلَتِ اللَّعْنَةُ تَابِعَةً لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ تَكُبُّهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي عَذَابِ اللَّهِ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالتَّابِعِينَ لِلرُّؤَسَاءِ، وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ اتِّبَاعِ اللَّعْنَةِ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، فَالْكُفْرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ. ثُمَّ كَرَّرَ التَّنْبِيهَ بِقَوْلِهِ: أَلَا فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِمْ، وَتَفْظِيعًا لَهُ، وَبَعْثًا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمْ وَالْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ حَالِهِمْ. وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: قَوْمِ هُودٍ مَزِيدُ التَّأْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْصِيصِ، أَوْ تَعْيِينُ عَادٍ هَذِهِ مِنْ عَادِ إِرَمَ، لِأَنَّ عَادًا اثْنَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى عَادٍ هَذِهِ، وَلَمْ تلتبس بغيرها.
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70)
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
(1) سورة البقرة: 2/ 285.
الصَّيْحَةُ: فَعْلَةٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الصِّيَاحِ، يُقَالُ: صَاحَ يَصِيحُ إِذَا صَوَّتَ بِقُوَّةٍ.
حَنَذْتُ الشَّاةَ أَحْنِذُهَا حَنْذًا شَوَيْتُهَا، وَجَعَلْتُ فَوْقَهَا حِجَارَةً لِتُنْضِجَهَا فَهِيَ حَنِيذٌ، وَحَنَذْتُ الْفَرَسَ أَحْضَرْتُهُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ ثُمَّ ظَاهَرْتُ عَلَيْهِ الْجِلَالَ فِي الشَّمْسِ لِيَعْرَقَ. أو جس الرَّجُلُ قَالَ الْأَخْفَشُ: خَامَرَ قَلْبُهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اسْتَشْعَرَ، وَقِيلَ: أَحَسَّ. وَالْوَجِيسُ مَا يَعْتَرِي النَّفْسَ عِنْدَ أَوَائِلِ الْفَزَعِ، وَوَجَسَ فِي نَفْسِهِ كَذَا خَطَرَ بِهَا يَجِسُ وَجْسًا وَوُجُوسًا وَتَوَجَّسَ تَسَمَّعَ وَتَحَسَّسَ. قَالَ:
وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسَ لِلسُّرَى
…
لِهَجْسٍ خَفِيٍ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
الضَّحِكُ مَعْرُوفٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا «1» وَيُقَالُ: ضَحَكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالضُّحَكَةُ الْكَثِيرُ الضَّحِكُ، وَالضُّحْكَةُ الْمَضْحُوكُ مِنْهُ، وَيُقَالُ: ضَحِكَتِ الْأَرْنَبُ أَيْ حَاضَتْ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: ضَحِكَ بِمَعْنَى حَاضَ، وَعَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ أَنْشَدَهُ اللُّغَوِيُّونَ:
وَضِحْكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا
…
كَمِثْلِ دَمِ الْجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وقال آخر:
وَعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكًا فِي لُبَانَةٍ
…
وَلَمْ يَعُدْ حُقَّا ثَدْيِهَا أَنْ يَحْلُمَا
أَيْ حَائِضًا فِي لُبَانَةِ، وَاللُّبَانَةُ وَالْعَلَاقَةُ وَالشَّوْذَرُ وَاحِدٌ. وَمِنْهُ ضَحِكَتِ الْكَافُورَةُ إِذَا انْشَقَّتْ، وَضَحِكَتِ الشَّجَرَةُ سَالَ مِنْهَا صَمْغُهَا وَهُوَ شِبْهُ الدَّمِ، وَضَحِكَ الْحَوْضُ امْتَلَأَ وَفَاضَ.
الشَّيْخُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ شَاخَ يَشِيخُ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْأُنْثَى: شَيْخَةٌ. قَالَ:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْيَاخٍ وَشُيُوخٍ وَشَيْخَانِ، وَمِنْ أسماء الجموع مشيخه ومشيوخاء. الْمَجِيدُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرَّفِيعُ. يُقَالُ: مَجَدَ يَمْجُدُ مَجْدًا وَمَجَادَةً وَمَجُدَ، لُغَتَانِ أَيْ كَرُمَ وَشَرُفُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَجَدَتِ الْإِبِلُ تَمْجُدُ مَجْدًا شَبِعَتْ. وَقَالَ: أَمْجَدْتُ الدَّابَّةَ أَكْثَرْتُ عَلَفَهَا، وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
تزبد عَلَى صَوَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ
…
بِمَاجِدَةِ الطَّعَامِ وَلَا الشَّرَابِ
أَيْ: لَيْسَتْ بِكَثِيرَةِ الطَّعَامِ وَلَا الشَّرَابِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَمْجَدَ فُلَانٌ عَطَاءَهُ وَمَجَّدَهُ إِذَا كثره،
(1) سورة التوبة: 9/ 82.
وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ» وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ أَيِ اسْتَكْثَرَ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَجَدَ الشَّيْءُ إِذَا حَسُنَتْ أَوْصَافُهُ. الرَّوْعُ: الْفَزَعُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ
…
بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الْهَوْلِ أَرْوَعَا
وَالْفِعْلُ رَاعَ يَرُوعُ قَالَ:
مَا رَاعَنِي إِلَّا حَمُولَةُ أَهْلِهَا
…
وسط الديار نسف حَبَّ الْخِمْخِمِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كِلَابٍ فَبَاتَ لَهُ
…
طَوْعَ الشَّوَامِتِ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ صَرَدِ
وَالرُّوعُ بِضَمِّ الرَّاءِ النَّفْسُ، لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الرَّوْعِ. الذَّرْعُ مَصْدَرُ ذَرَعَ الْبَعِيرُ بِيَدَيْهِ فِي سَيْرِهِ إِذَا سَارَ عَلَى قَدْرِ خَطْوِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الذِّرَاعِ، ثُمَّ وُضِعَ مَوْضِعَ الطَّاقَةِ فَقِيلَ: ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا. وَقَدْ يَجْعَلُونَ الذِّرَاعَ مَوْضِعَ الذَّرْعِ قَالَ:
إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذَرْعًا وَقِيلَ: كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ ضِيقِ الصَّدْرِ. الْعَصِيبُ وَالْعَصَبْصَبُ وَالْعَصَوْصَبُ الشَّدِيدُ اللَّازِمُ، الشَّرِّ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ قَالَ:
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَدِّدْ
…
وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سُمِّيَ عَصِيبًا لِأَنَّهُ يَعْصِبُ النَّاسَ بِالشَّرِّ، وَالْعُصْبَةُ وَالْعِصَابَةُ الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ كَلَّمْتُهُمْ، أَوِ الْمُجْتَمِعُونَ فِي النَّسَبِ. وَتَعَصَّبْتُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ مَعْصُوبٌ أَيْ:
مُجْتَمِعُ الْخَلْقِ. الْإِهْرَاعُ: قَالَ شِمْرٌ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْجَمْزِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هَرَعَ الرَّجُلُ وَأَهْرَعَ اسْتَحَثَّ. الضَّيْفُ: مَصْدَرٌ، وَإِذَا أُخْبِرَ بِهِ أَوْ وُصِفَ لَمْ يُطَابِقْ فِي تَثْنِيَةٍ وَلَا جَمْعٍ، هَذَا الْمَشْهُورُ. وَسُمِعَ فِيهِ ضُيُوفٌ وَأَضْيَافٌ وَضِيفَانٌ. الرُّكْنُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ النَّاحِيَةُ مِنَ الْبَيْتِ، أَوِ الْجَبَلِ. وَيُقَالُ: رَكُنٌ بِضَمِّ الْكَافِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْكَانٍ وَأَرْكُنٍ. وَرَكَنْتُ إِلَى فُلَانٍ انْضَوَيْتُ إِلَيْهِ. سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ، وَعَنِ اللَّيْثِ سرى سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَسَرَى سَارَ آخِرَهُ، وَلَا يُقَالُ فِي النَّهَارِ إِلَّا سَارَ. السِّجِّيلُ وَالسِّجِّينُ الشَّدِيدُ مِنَ الْحَجَرِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طِينٌ طُبِخَ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ. وَقِيلَ: هُوَ فَارِسِيٌّ، وَسَنْكٌ الْحَجَرُ، وَكُلُّ الطِّينِ يُعَرَّبُ فَقِيلَ: سِجَّينٌ. الْمَنْضُودُ: الْمَجْعُولُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ.
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ: قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: وَإِلَى ثَمُودَ بِالصَّرْفِ عَلَى إِرَادَةِ الْحَيِّ، وَالْجُمْهُورِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ ذَهَابًا إِلَى الْقَبِيلَةِ. أَنْشَأَكُمْ: اخْتَرَعَكُمْ وَأَوْجَدَكُمْ، وَذَلِكَ بِاخْتِرَاعِ آدَمَ أَصْلِهِمْ، فَكَانَ إِنْشَاءُ الْأَصْلِ إِنْشَاءً لِلْفَرْعِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ النَّبَاتُ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ الْغِذَاءُ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَنِيُّ وَدَمُ الطَّمْثِ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْإِنْسَانُ. وَقِيلَ: مِنْ بمعنى في واستعمركم جَعَلَكُمْ عُمَّارًا، وَقِيلَ: اسْتَعْمَرَكُمْ مِنَ الْعُمُرِ أَيِ: اسْتَبَقَاكُمْ فِيهَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْ، أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُمْرَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. فَيَكُونُ اسْتَعْمَرَ فِي مَعْنَى أَعْمَرَ، كَاسْتَهْلَكَهُ فِي مَعْنَى أَهْلَكَهُ. وَالْمَعْنَى: أَعْمَرَكُمْ فِيهَا دِيَارَكُمْ، ثُمَّ هُوَ وَارِثُهَا مِنْكُمْ. أَوْ بِمَعْنَى: جَعَلَكُمْ مُعَمِّرِينَ دِيَارَكُمْ فِيهَا، لِأَنَّ مَنْ وَرِثَ دَارَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُ أَعْمَرَهُ إِيَّاهَا، لِأَنَّهُ يَسْكُنُهَا عُمُرَهُ ثُمَّ يَتْرُكُهَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: اسْتَعْمَرَكُمْ أَمَرَكُمْ بِعِمَارَةِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ بِنَاءِ مَسَاكِنَ وَغَرْسِ أَشْجَارٍ. وَقِيلَ: أَلْهَمَكُمْ عِمَارَتَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أَيْ: دَانِي الرَّحْمَةِ، مُجِيبٌ لِمَنْ دَعَاهُ. قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا.
قَالَ كَعْبٌ: كانوا يرجونه لِلْمَمْلِكَةِ بَعْدَ مُلْكِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا حَسَبٍ وَثَرْوَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
فَاضِلًا خَيِّرًا نُقَدِّمُكَ عَلَى جَمِيعِنَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إِلَى دِينِهِمْ، إِذْ كَانَ يُبْغِضُ أَصْنَامَهُمْ، وَيَعْدِلُ عَنْ دِينِهِمْ، فَلَمَّا أَظْهَرَ إِنْذَارَهُمُ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ يَرْجُونَ خَيْرَهُ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خَيْرَهُ. وَبَسَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: فِينَا فِيمَا بَيْنَنَا مَرْجُوًّا كَانَتْ تَلُوحُ فيك مخايل الخير وجمارات الرُّشْدِ، فَكُنَّا نَرْجُوكَ لِنَنْتَفِعَ بِكَ، وَتَكُونَ مُشَاوَرًا فِي الْأُمُورِ مُسْتَرْشَدًا فِي التَّدَابِيرِ، فَلَمَّا نَطَقْتَ بِهَذَا الْقَوْلِ انْقَطَعَ رَجَاؤُنَا عَنْكَ، وَعَلِمْنَا أَنْ لَا خَيْرَ فِيكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوِيَّ الْخَاطِرِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ، قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُمْ وَيُقَوِّيَ مَذْهَبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ الَّذِي حَكَاهُ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَرْجُوًّا مَشُورًا، نُؤَمِّلُ فِيكَ أَنْ تَكُونَ سَيِّدًا سَادًّا مَسَدَّ الْأَكَابِرِ، ثُمَّ قَرَّرُوهُ عَلَى التَّوْبِيخِ فِي زَعْمِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَتَنْهَانَا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ حَقِيرًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ مرجو بِمَعْنَى حَقِيرٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ لِلْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ بِقَوْلِهِمْ: مَرْجُوًّا بِقَوْلِ: لَقَدْ كُنْتَ فِينَا سَهْلًا مَرَامُكَ، قَرِيبًا رَدُّ أَمْرِكَ مِمَّنْ لَا يُظَنُّ أَنْ يُسْتَعْجَلَ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلُ هَذَا. فَمَعْنَى مَرْجُوًّا
أَيْ: مُؤَخَرًّا اطِّرَاحُهُ وَغَلَبَتُهُ. وَنَحْوَ هَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِقَارِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِحَقِيرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْلُهُمْ: أَتَنْهَانَا، عَلَى جِهَةِ التَّوَعُّدِ وَالِاسْتِبْشَاعِ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ منه انتهى. وما يَعْبُدُ آبَاؤُنَا حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَإِنَّا وَإِنَّنَا لُغَتَانِ لقريش. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَالَ إِنَّنَا أَخْرَجَ الْحَرْفَ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ كِنَايَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ نَا، فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ نُونَاتٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّا اسْتَثْقَلَ اجْتِمَاعَهَا، فَأَسْقَطَ الثَّالِثَةَ وَأَبْقَى الْأُولَتَيْنِ انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ نَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا تَكُونُ الْمَحْذُوفَةَ، لِأَنَّ فِي حَذْفِهَا حَذْفَ بَعْضِ اسْمٍ وَبَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُوفَةُ النُّونُ الثَّانِيَةُ مِنْ إِنَّ فَحُذِفَتْ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، وَبَقِيَ مِنَ الْحَرْفِ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ السَّاكِنَةُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَذْفِ مَا بَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ عُهِدَ حَذْفُ هَذِهِ النُّونِ مَعَ غَيْرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَمْ يُعْهَدْ حَذْفُ نُونِ نَا، فَكَانَ حَذْفُهَا مِنْ إِنَّ أَوْلَى. وَمُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مُتَعَدِّ، أَرَابَهُ أَوْقَعَهُ فِي الرِّيبَةِ، وَهِيَ قَلَقُ النَّفْسِ وَانْتِفَاءُ الطُّمَأْنِينَةِ. أَوْ مِنْ لَازِمِ أَرَابَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ ذَا رِيبَةٍ، وَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّكِّ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، وَوُجُودُ مِثْلِ هَذَا الشَّكِّ كَوُجُودِ التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ.
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا لِأَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْصِيهِ فِي تَرْكِ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَأَيْتُمْ هُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي بَعْدَهُ وَجَوَابُهُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمْتُ وَأَخَوَاتِهَا، وَإِدْخَالُ أَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي هِيَ إِنْ عَلَى جُمْلَةٍ مُحَقَّقَةٍ، وَهِيَ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، لَكِنَّهُ خَاطَبَ الْجَاحِدِينَ لِلْبَيِّنَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدِّرُوا إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَانْظُرُوا إِنْ تَابَعْتُكُمْ وَعَصَيْتُ رَبِّي فِي أَوَامِرِهِ، فَمَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيَضُرُّنِي شَكُّكُمْ، أَوْ أَيُمْكِنُنِي طَاعَتُكُمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَلِيقُ بِمَعْنَى الْآيَةِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اسْتِشْعَارٌ مِنْهُ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَرَأَيْتُمْ، وَأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ لَا يَقَعَانِ وَلَا يَسُدَّانِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ، وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ نَحْنُ هُوَ الظَّاهِرُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَيْرَ أَنْ أُخَسِّرَكُمْ أَيْ أَنْسُبَكُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ، وَأَقُولُ أَنَّكُمْ خَاسِرُونَ انْتَهَى.
يُفْعَلُ هَذَا لِلنِّسْبَةِ كَفَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ أي: نسبته إلى الْفِسْقُ وَالْفُجُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ مَا
تَزِيدُونَنِي بِعِبَادَتِكُمْ إِلَّا بَصَارَةً فِي خُسْرَانِكُمْ انْتَهَى. فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: غَيْرَ بَصَارَةِ تَخْسِيرِكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ بِاحْتِجَاجِكُمْ بِعِبَادَةِ آبَائِكُمْ إِلَّا خَسَارًا، وَأَضَافَ الزِّيَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ ذَلِكَ وَكَانَ سَأَلَهُمُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَمَا تُعْطُونِي فِيمَا اقْتَضَيْتُهُ مِنْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ لِأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ مِنَ الْخَسَارَةِ وَلَيْسَ التَّخْسِيرُ إِلَّا لَهُمْ، وَفِي حَيِّزِهِمْ، وَأَضَافَ الزِّيَادَةَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقْتَضٍ لِأَقْوَالِهِمْ مُوَكَّلٌ بِإِيمَانِهِمْ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُوصِيهِ: أَنَا أُرِيدُكَ خَيْرًا وَأَنْتَ تُرِيدُنِي سُوءًا، وَكَانَ الْوَجْهُ الْبَيِّنُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْتَ تُرِيدُ شَرًّا، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَنْتَ مُرِيدَ خَيْرٍ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يُضِيفَ الزِّيَادَةَ إِلَى نَفْسِكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَمَا تَحْمِلُونَنِي عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أُخْسِرُكُمْ أَيْ: أَرَى مِنْكُمُ الْخُسْرَانَ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ تُخْسِرُونِي أَعْمَالَكُمْ وَتُبْطِلُونَهَا. قِيلَ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ اتَّبَعْتُكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَدَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ لَمْ أَزْدَدْ إِلَّا خُسْرَانًا فِي الدِّينِ، فَأَصِيرُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَاسِرِينَ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ، وَالْخِلَافُ فِي النَّاصِبِ فِي نَحْوِ هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، أَهْوَ حَرْفُ التَّنْبِيهِ؟ أَوِ اسْمُ الْإِشَارَةِ؟ أَوْ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ؟
جَازَ فِي نصب آية ولكم فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا لآية، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى النَّكِرَةِ كَانَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَتَعَلَّقُ لَكُمْ؟ (قلت) : بآية حَالًا مِنْهَا مُتَقَدِّمَةً، لِأَنَّهَا لَوْ تَأَخَّرَتْ لَكَانَ صِفَةً لَهَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَتِ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تعلق لكم بآية كان لكم معمولا لآية، وَإِذَا كَانَ مَعْمُولًا لَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهَا، لِأَنَّ الْحَالَ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، فَتَنَاقَضَ هَذَا الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَعْمُولًا لَهَا كَانَتْ هِيَ الْعَامِلَةَ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حَالًا مِنْهَا كَانَ الْعَامِلُ غَيْرَهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَ آيَةً. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: تَأْكُلُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَلَى الحال. وقريب عَاجِلٌ لَا يَسْتَأْخِرُ عَنْ مَسِّكُمُوهَا بِسُوءٍ إِلَّا يَسِيرًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَقَعُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْإِخْبَارُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَقَرُوهَا نُسِبَ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْعَاقِرُ وَاحِدًا لأنه كان برضا منهم، وتمالؤ. وَمَعْنَى تَمَتَّعُوا اسْتَمْتِعُوا بِالْعَيْشِ فِي دَارِكُمْ فِي بَلَدِكُمْ، وَتُسَمَّى الْبِلَادُ الدِّيَارُ لِأَنَّهَا يُدَارُ فِيهَا أَيْ: يُتَصَرَّفُ، يُقَالُ: دِيَارُ بَكْرٍ لِبِلَادِهِمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي دَارِكُمْ جَمْعُ دَارَةٍ، كَسَاحَةٍ وَسَاحٍ وَسُوحٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لَهُ دَاعٍ بمكة مُشْمَعِلٌّ
…
وَآخَرُ فَوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّىَ جَمِيعُ مَسْكَنِ الْحَيِّ دَارًا انْتَهَى. ذَلِكَ أَيِ: الْوَعْدُ بِالْعَذَابِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، أَيْ صِدْقٌ حق. والأصل غير مَكْذُوبٌ فِيهِ، فَاتَّسَعَ فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَأُجْرِيَ الضَّمِيرُ مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَوْ جُعِلَ غَيْرُ مَكْذُوبٍ لِأَنَّهُ وَفَّى بِهِ فَقَدْ صَدَقَ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَكْذُوبَ هُنَا مَصْدَرٌ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ عَلَى زِنَةِ مَفْعُولٍ.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ: وَالْكَلَامُ فِي جَاءَ أَمْرُنَا كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ. قِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ فِي وَمِنْ أَيْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فَيَتَعَلَّقُ من بنجينا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُزَادُ عِنْدَهُمْ بَلْ تَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ، أَيْ وَكَانَتِ التَّنْجِيَةُ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: وَمِنْ خِزْيِ بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ يَوْمَئِذٍ عَلَى الظَّرْفِ مَعْمُولًا لِخِزْيٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِضَافَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، وَهِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى إِذْ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَالتَّنْوِينُ فِي إِذْ تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ أَيْ:
وَمِنْ فَضِيحَةِ يَوْمِ إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ وَحَلَّ بِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يريد بيومئذ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فَسَّرَ الْعَذَابَ الْغَلِيظَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي إِذْ تَنْوِينُ الْعِوَضِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا قَوْلُهُ، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ فِيهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا مَا يَكُونُ فِيهَا، فَيَكُونُ هَذَا التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنَاسَبَ مَجِيءُ الْأَمْرِ وَصْفَهُ تَعَالَى بِالْقَوِيِّ الْعَزِيزِ، فَإِنِّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ وَالِانْتِقَامِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْأَعْرَافِ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ، مَنَعَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ صَرْفَهُ، وَصَرَفَهُ الْبَاقُونَ، لِثَمُودَ صَرَفَهُ الْكِسَائِيُّ، وَمَنَعَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ.
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ: تَقَدَّمَ أَنَّ تَرْتِيبَ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ كَتَرْتِيبِ قَصَصِ الْأَعْرَافِ، وَإِنَّمَا أَدْرَجَ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بَيْنَ قِصَّةِ صَالِحٍ وَلُوطٍ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي قِصَّةِ لُوطٍ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ خَالَةِ لُوطٍ. وَالرُّسُلُ هُنَا الْمَلَائِكَةُ، بَشَّرَتْ
إِبْرَاهِيمَ بِثَلَاثِ بَشَائِرَ: بِالْوَلَدِ، وَبِالْخِلَّةِ، وَبِإِنْجَاءِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَحَدَ عَشَرَ، وَحَكَى صَاحِبُ الْغُنْيَانِ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تِسْعَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ثَمَانِيَةٌ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ:
أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: ثَلَاثَةٌ جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ.
وَرُوِيَ: أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ مُخْتَصًّا بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِيكَائِيلَ بِبُشْرَى إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ عليهما السلام، وَإِسْرَافِيلَ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ.
قِيلَ: وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ جُرْدًا مُرْدًا عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْبَهْجَةِ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فِي الْحُسْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّا قِيلَ فِي يُوسُفَ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» وَقَالَ الْغَزِّيُّ:
قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً
…
حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا
وَانْتَصَبَ سَلَامًا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ أَيْ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلَامًا، فسلاما قَطَعَهُ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ الْمُضْمَرِ المحكي بقالوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَلَامًا حِكَايَةً لِمَعْنَى مَا قَالُوا، لَا حِكَايَةً لِلَفْظِهِمْ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَلِذَلِكَ عَمِلَ فِيهِ الْقَوْلُ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ قَالَ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قُلْتَ: حَقًّا وَإِخْلَاصًا، وَلَوْ حَكَيْتَ لَفْظَهُمْ لَمْ يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْقَوْلُ انْتَهَى.
وَيَعْنِي لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي لَفْظِهِمُ الْقَوْلُ، يَعْنِي فِي اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مَا لَفَظُوا بِهِ فِي مَوْضِعِ المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي: أَمْرِي أَوْ أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، وَالْجُمْلَةُ محكية وَإِنْ كَانَ حُذِفَ مِنْهَا أَحَدُ جُزْءَيْهَا كَمَا قَالَ:
إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمَ مُدَامَةٍ أَيْ طَعْمُهُ طَعْمُ مُدَامَةٍ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانَ قَالَ: سِلْمٌ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ كَحِرْمٍ وَحَرَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ
…
كَمَا اكْتَلَّ بِالْبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ
اكْتَلَّ اتَّخَذَ إِكْلِيلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسِّلْمِ ضِدَّ الْحَرْبِ تَقُولُ: نَحْنُ سِلْمٌ لَكُمْ انْتَهَى. وَنَصْبُ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَرَفْعُ سَلَامٌ يَدُلُّ على الثبوت
(1) سورة يوسف: 12/ 31.
وَالِاسْتِقْرَارِ، وَالْأَقْرَبُ فِي إِعْرَابِ فَمَا لَبِثَ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَلَبِثَ مَعْنَاهُ تأخر وأبطأ، وأن جَاءَ فَاعِلٌ بِلَبِثَ التَّقْدِيرُ فَمَا تَأَخَّرَ مَجِيئُهُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي لَبِثَ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ فهو فاعل، وأن جَاءَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ فَقُدِّرَ بِأَنْ وَبِعْنَ، وَبِفِي، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ بِمَعْنَى حَتَّى حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَأَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: فَلَبْثُهُ، أَوِ الَّذِي لَبِثَهُ، وَالْخَبَرُ أَنْ جَاءَ عَلَى حَذْفِ أَيْ: قَدْرُ مَجِيئِهِ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الضِّيَافَةِ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الْقِرَى. وَكَانَ مَالُ إِبْرَاهِيمَ الْبَقَرَ، فَقَدَّمَ أَحْسَنَ مَا فِيهِ وَهُوَ الْعِجْلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: حَنِيذٍ مَطْبُوخٍ، وقال الحسن:
نضيج مَشْوِيٍّ سَمِينٍ يَقْطُرُ وَدَكًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَمِينٍ، وَقِيلَ: سَمِيطٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْعِجْلِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَكْلِهِ، فَلَمْ يَنْفِ الْوُصُولَ النَّاشِئَ عَنِ الْمَدِّ بَلْ جَعَلَ عَدَمَ الْوُصُولِ اسْتِعَارَةً عَنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ. نَكِرَهُمْ أَيْ أَنْكَرَهُمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ
…
مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا
وَقِيلَ: نَكِرَ فِيمَا يُرَى، وَأَنْكَرَ فِيمَا لَا يُرَى مِنَ الْمَعَانِي، فَكَأَنَّ الشَّاعِرَ قَالَ: وَأَنْكَرَتْ مَوَدَّتِي ثُمَّ جَاءَتْ بِنُكْرِ الشَّيْبِ وَالصَّلَعِ مِمَّا يُرَى بِالْبَصَرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
فَنَكِرْنَهُ فَنَفَرْنَ وَامْتَرَسَتْ بِهِ
…
هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكُثُونَ بِقِدَاحٍ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ فِي اللَّحْمِ وَلَا تَصِلُ أَيْدِيهِمْ إِلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ مِنَ الضَّيْفِ هَلْ يَأْكُلُ أَوْ لَا وَيَكُونُ بِتَلَفُّتٍ وَمُسَارَعَةٍ، لَا بِتَحْدِيدِ النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ الضَّيْفَ مُقَصِّرًا فِي الْأَكْلِ. قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يَنْزِلُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ مَخَافَةَ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ مَكْرُوهًا. وَقِيلَ: كَانَتْ عَادَتُهُمْ إِذَا مَسَّ مِنْ يَطْرُقُهُمْ طَعَامَهُمْ أَمِنُوا وَإِلَّا خَافُوهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَحَسَّ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَنَكِرَهُمْ، لِأَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِأَمْرٍ أَنْكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ لُوطٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِمَنْ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْ فِيمَا أُرْسِلُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَوْجَسَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ، قِيلَ: وَأَصْلُ الْوُجُوسِ الدُّخُولُ، فَكَأَنَّ الْخَوْفَ دَخَلَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لِمَجِيئِهِمْ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَكَانَ مَشْغُوفًا بِإِكْرَامِ الأضياف، فلذلك جاؤوا فِي صُوَرِهِمْ، وَلِمُسَارَعَتِهِ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأَكْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ بِقَوْلِهِمْ:
لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ لُوطٍ، فَنَهَوْهُ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، وَعَرَفُوا خِيفَتَهُ بِكَوْنِ اللَّهِ
جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ «1»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبِّي عَبْدُكَ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً»
الْحَدِيثَ، أَوْ بِمَا يَلُوحُ فِي صَفَحَاتِ وَجْهِ الْخَائِفِ. وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ جُمْلَةٌ مِنِ ابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ قَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَرْسَلْنَا، يَعْنِي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّيهِ فَاعِلًا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالتَّقْدِيرُ أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فِي حَالِ قِيَامِ امْرَأَتِهِ، يَعْنِي امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ قَالُوا أَيْ: قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ لَا تَخَفْ فِي حَالِ قِيَامِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ سَارَةُ بِنْتُ هَارَانَ بْنِ نَاخُورَ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، قَائِمَةٌ أَيْ: لِخِدْمَةِ الْأَضْيَافِ، وَكَانَتْ نِسَاؤُهُمْ لَا تَحْتَجِبُ كَعَادَةِ الْأَعْرَابِ، وَنَازِلَةِ الْبَوَادِي وَالصَّحْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّبَرُّجُ مَكْرُوهًا، وَكَانَتْ عَجُوزًا، وَخِدْمَةُ الضِّيفَانِ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَجَاءَ فِي شَرِيعَتِنَا مِثْلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ:
وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَرُوسًا، فَكَانَتْ خَادِمَةَ الرَّسُولِ وَمَنْ حَضَرَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ وَهْبٌ:
كَانَتْ قَائِمَةً وَرَاءَ السَّتْرِ تَسْمَعُ مُحَاوَرَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَائِمَةٌ تُصَلِّي. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
قَائِمَةٌ عَنِ الْوَلَدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَهِيَ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ فَيُضْمَرُ، لَكِنَّهُ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: فَضَحِكَتْ حَاضَتْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ.
فَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَسُرُورِهِ بِنَجَاةِ أَخِيهَا وَهَلَاكِ قَوْمِهِ، يُقَالُ: أَتَيْتُ عَلَى رَوْضَةٍ تَضْحَكُ أَيْ مُشْرِقَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ. فَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَحِكَتْ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي أهله وغلمانه. والذين جاؤوه ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ تَعْهَدُهُ يَغْلِبُ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: الْمِائَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ضَحِكَتْ مِنْ غَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَقُرْبِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ضَحِكَتْ مِنْ إِمْسَاكِ الْأَضْيَافِ عَنِ الْأَكْلِ وَقَالَتْ: عَجَبًا لِأَضْيَافِنَا نَخْدُمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا، وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
ضحكت من الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ، وَقَالَ: هَذَا مُقَدَّمٌ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ ضَحِكَهَا كَانَ سُرُورًا بِصِدْقِ ظَنِّهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِإِبْرَاهِيمَ: اضْمُمْ إِلَيْكَ ابْنَ أَخِيكَ لُوطًا وَكَانَ أَخَاهَا، فَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ الْعَذَابُ بِقَوْمِهِ. وَقِيلَ: ضَحِكَتْ لِمَا رَأَتْ مِنَ الْمُعْجِزِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَسَحَتِ الْعِجْلَ الْحَنِيذَ فَقَامَ حَيًّا يَطْفِرُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمَّا لم يأكلوا،
(1) سورة الانفطار: 82/ 12.
وَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً بعد ما نَكِرَ حَالَهُمْ، لَحِقَ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ مَا لَحِقَ الرَّجُلَ. فَلَمَّا قَالُوا: لَا تَخَفْ، وَذَكَرُوا سَبَبَ مَجِيئِهِمْ زَالَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَسُرَّ، فَلَحِقَهَا هِيَ مِنَ السُّرُورِ أَنْ ضَحِكَتْ، إِذِ النِّسَاءُ فِي بَابِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ أَطْرَبُ مِنَ الرِّجَالِ وَغَالَبٌ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى طَرَفٍ من هذا فقال: فضحكت سُرُورًا بِزَوَالِ الْخِيفَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ سَبَبًا لِضَحِكِهَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ لِفَظَاعَتِهِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَعْرَابِيُّ رَجُلٌ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ: فَضَحِكَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ الْمَهَدَوِيُّ: وَفَتْحُ الْحَاءِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَبَشَّرْنَاهَا هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، وَالْمَعْنَى:
فَبَشَّرْنَاهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِنَا بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِإِسْحَاقَ، وَبِأَنَّ إِسْحَاقَ سَيَلِدُ يَعْقُوبَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَضَافَ فِعْلَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَوَحْيِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ عليهما السلام مِنْ هَاجَرَ تَمَنَّتْ سَارَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْنٌ، وَأَيِسَتْ لِكِبَرِ سِنِّهَا، فَبُشِّرَتْ بِوَلَدٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَيَلِدُ نَبِيًّا، فَكَانَ هَذَا بِشَارَةً لَهَا بِأَنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهَا. وَإِنَّمَا بَشَّرُوهَا دُونَهُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَعْجَلُ فَرَحًا بِالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدْ بَشَّرُوهُ وَأَمَّنُوهُ مِنْ خَوْفِهِ، فَأَتْبَعُوا بِشَارَتَهُ بِبِشَارَتِهَا. وَقِيلَ: خُصِّتْ بِالْبِشَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَرَاءِ هُنَا ظَرْفٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ، أَوْ مِنْ خَلْفِ إِسْحَاقَ، وَبِمَعْنَى بَعْدُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ مُقَاتِلٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
وَتَسْمِيَتُهُ وَرَاءَ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى وَرَاءَ الظَّرْفِ، إِذْ هُوَ مَا يَكُونُ خَلْفَ الشَّيْءِ وَبَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ يَعْقُوبُ وَرَاءً لِإِسْحَاقَ وَهُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْوَرَاءُ وَلَدُ الْوَلَدِ؟ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَقَالَ: الْمَعْنَى وَمِنَ الْوَرَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْوَرَاءُ لِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ، فَلَوْ قَالَ: وَمِنَ الْوَرَاءِ يَعْقُوبُ، لَمْ يُعْلَمْ أَهَذَا الْوَرَاءُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِسْحَاقَ أَمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، فَأُضِيفَ إِلَى إِسْحَاقَ لِيَنْكَشِفَ الْمَعْنَى وَيَزُولَ اللَّبْسُ انْتَهَى. وَبُشِّرَتْ مِنْ بَيْنِ أولاد إسحاق بيعقوب، لِأَنَّهَا رَأَتْهُ وَلَمْ تَرَ غَيْرَهُ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ لِسَارَةَ كَانْتَ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الذَّبِيحُ، لِأَنَّ سَارَةَ حِينَ أَخْدَمَهَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ شَابَّةً جَمِيلَةً، فَاتَّخَذَ إِبْرَاهِيمُ هَاجَرَ سُرِّيَّةً، فَغَارَتْ مِنْهَا سَارَةُ،
فَخَرَجَ بِهَا وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَجَاءَ مِنْ يَوْمِهِ مَكَّةَ، وَانْصَرَفَ إِلَى الشَّامِ مِنْ يَوْمِهِ، ثُمَّ كَانَتِ الْبِشَارَةُ بإسحاق وَسَارَةُ عَجُوزٌ مُحَالَةً. وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَمَّاهَا حَالَةَ الْبِشَارَةِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمَانِ حَدَثَا لَهَا وَقْتَ الْوِلَادَةِ، وَتَكُونُ الْبِشَارَةُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ بَعْدَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَحَالَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْبِشَارَةِ ذَكَرًا باسمهما كَمَا يَقُولُ الْمُخْبِرُ: إِذَا بُشِّرَ فِي النَّوْمِ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ فَسَمَّاهُ مَثَلًا عَبْدَ اللَّهِ: بُشِّرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالنَّحْوِيَّانِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَنْ وَرَاءِ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ كَائِنٌ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَوْلُودٌ أَوْ مَوْجُودٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجُمْلَةُ حَالٌ دَاخِلَةٌ فِي البشارة أي: فبشرناها بإسحاق مُتَّصِلًا بِهِ يَعْقُوبُ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، كَمَا أَجَازَهُ الْأَخْفَشُ أَيْ:
وَاسْتَقَرَّ لَهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: رَفْعُهُ عَلَى الْقَطْعِ بِمَعْنَى وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَحْدُثُ يَعْقُوبُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ:
وَيَحْدُثُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يعقوب. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ الْبِشَارَةُ انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْقَطْعِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ الْمُقْتَضِي لِلدُّخُولِ فِي الْبِشَارَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً، وَلَا نَاعِبٍ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَعْقُوبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَهَبْنَا يَعْقُوبَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَبَشَّرْنَاهَا، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو عَلِيٍّ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ بِإِسْحَاقَ، أَوْ عَلَى مَوْضِعِهِ. فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِالظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَمَعْطُوفِهِ الْمَجْرُورِ، لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْيَوْمَ وَأَمْسَ عَمْرٍو، فَإِنْ جَاءَ فَفِي شِعْرٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مَنْصُوبًا أَوْ مَرْفُوعًا، فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافٌ نَحْوَ: قَامَ زَيْدٌ وَالْيَوْمَ عَمْرٌو، وَضَرَبْتُ زَيْدًا وَالْيَوْمَ عَمْرًا والظهر أن الألف في يا ويلتا بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ: يَا لَهْفَا وَيَا عَجَبَا، وَأَمَالَ الْأَلِفَ مِنْ يا ويلتا عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْأَعْشَى، إِذْ هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يَا وَيْلَتِي بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقِيلَ:
الْأَلِفُ أَلِفُ النُّدْبَةِ، ويوقف عليها بالهاء. وأصل الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَنَحْوِهِ فِي التَّفَجُّعِ لِشِدَّةِ مَكْرُوهٍ يَدْهَمُ النَّفْسَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدُ فِي عَجَبٍ يَدْهَمُ النَّفْسَ. وَيَا وَيْلَتَا كَلِمَةٌ تَخِفُّ عَلَى أَفْوَاهِ النِّسَاءِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِنَّ مَا يَعْجَبْنَ مِنْهُ، وَاسْتَفْهَمَتْ بِقَوْلِهَا أَأَلِدُ استفهام إنكار وتعجب،
وأنا عَجُوزٌ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَتَا حَالٍ، وَانْتَصَبَ شَيْخًا عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَبَرِ التَّقْرِيبِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِنَّمَا تَقَعُ بِهَذِهِ الْحَالِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ فَأَرَدْتَ أَنْ تُفِيدَ الْمُخَاطَبَ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ، فَتَجِيءُ الْحَالُ عَلَى بَابِهَا مُسْتَغْنًى عَنْهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي مُصْحَفِهِ وَالْأَعْمَشُ، شَيْخٌ بِالرَّفْعِ. وَجَوَّزُوا فِيهِ. وَفِي بَعْلِي أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، وأن يكونن بعلى الخبر، وشيخ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ بَعْلِي، وَأَنْ يَكُونَ بَعْلِي بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وشيخ الْخَبَرَ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْوِلَادَةِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ حُدُوثِ وَلَدٍ بَيْنَ شَيْخَيْنِ هَرِمَيْنِ، وَاسْتَغْرَبَتْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ، لَا إِنْكَارًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: أَيِ الْمَلَائِكَةُ أَتَعْجَبِينَ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِعَجَبِهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي بَيْتِ الْآيَاتِ وَمَهْبِطِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، فَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَفَّرَ وَلَا يَزْدَهِيَهَا مَا يَزْدَهِي سَائِرَ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنْ تُسَبِّحَ اللَّهَ وَتُمَجِّدَهُ مَكَانَ التَّعَجُّبِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِهِمْ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَرَادُوا أَنَّ هَذِهِ وَأَمْثَالَهَا مِمَّا يُكْرِمُكُمْ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيَخُصُّكُمْ بِالْإِنْعَامِ بِهِ يَا أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ؟ فَلَيْسَتْ بمكان عجيب، وأمر اللَّهُ قُدْرَتُهُ وَحِكْمَتُهُ. وَقَوْلُهُ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ إِنْكَارُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِيَّاكَ وَالتَّعَجُّبَ، فَإِنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ مُتَكَاثِرَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وَالْبَرَكَاتُ الْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَى. وَقِيلَ: رَحْمَتُهُ تَحِيَّتُهُ، وَبَرَكَاتُهُ فَوَاضِلُ خَيْرِهِ بِالْخِلَّةِ وَالْإِمَامَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَارَةَ قَالَتْ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: مَا آيَةُ ذَلِكَ؟ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَلَوَاهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَاهْتَزَّ أَخْضَرَ، فَسَكَنَ رَوْعُهَا وَزَالَ عَجَبُهَا.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَأْنَفَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حُصُولَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ مَرْجُوحٌ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْرٌ يُتَرَجَّى وَلَمْ يَتَحَصَّلْ بَعْدُ. وأهل مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَبَيْنَ النَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ وَالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَرْقٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمَا سِيبَوَيْهِ فِي بَابَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ لَفْظٌ يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الْمَدْحَ، كَمَا أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الذَّمِّ يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الذَّمَّ، وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الْمَدْحَ وَلَا الذَّمَّ كَقَوْلِهِ:
بِنَا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبَابُ. وَقَوْلِهِ: وَلَا الْحَجَّاجَ عَيْنِي بِنْتُ مَاءٍ. وَخِطَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِمْ: أَهْلَ الْبَيْتِ، دَلِيلٌ عَلَى انْدِرَاجِ الزَّوْجَةِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي
سُورَةِ الْأَحْزَابِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ إِذْ لَا يَعُدُّونَ الزَّوْجَةَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْبَيْتُ يُرَادُ بِهِ بَيْتُ السُّكْنَى. إِنَّهُ حَمِيدٌ: وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَاعِلٌ مَا يُسْتَوْجَبُ مِنْ عِبَادِهِ، مَجِيدٌ كَرِيمٌ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ: الرَّوْعُ الْخِيفَةُ الَّتِي كَانَ أَوْجَسَهَا فِي نَفْسِهِ حِينَ نَكِرَ أَضْيَافَهُ، وَالْمَعْنَى: اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَالْبُشْرَى تَبْشِيرُهُ بِالْوَلَدِ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَجِيئِهِمْ غَيْرُهُ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «1» وَتَقْدِيرُهُ: اجْتَرَأَ عَلَى الْخِطَابِ إِذْ فَطِنَ لِلْمُجَادَلَةِ، أَوْ قَالَ: كَيْتَ وَكَيْتَ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَأْنِفَةُ وَهِيَ يُجَادِلُنَا، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ يُجَادِلُنَا وُضِعَ الْمُضَارِعُ مَوْضِعَ الْمَاضِي، أَيْ جَادَلَنَا. وَجَازَ ذَلِكَ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: يُجَادِلُنَا حَالٌ من إبراهيم، وجاءته حَالٌ أَيْضًا، أَوْ مِنْ ضَمِيرٍ فِي جَاءَتْهُ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قُلْنَا يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَاخْتَارَ هَذَا التَّوْجِيهَ أَبُو عَلِيٍّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ظَلَّ أَوْ أَخَذَ يُجَادِلُنَا، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا لِدِلَالَةِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْمُجَادَلَةُ قِيلَ: هِيَ سُؤَالُهُ الْعَذَابُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخَافَةِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: تَكَلَّمَا عَلَى سَبِيلِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَعْنَى: تَجَادَلَ رُسُلُنَا. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ لَمَّا قالوا له: إنا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ:
أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين، أتهكلونها؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَرْبَعُونَ؟ قَالُوا:
لَا. قَالَ: فَثَلَاثُونَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعِشْرُونَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ شَكَّ الرَّاوِي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ حِرْصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِ لُوطٍ وَنَجَاتِهِمْ، وَكَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ إِنْسَانٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ حَلِيمٍ وَأَوَاهٍ وَمُنِيبٍ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجِدَالِ وَالْمُحَاوَرَةِ فِي شَيْءٍ مَفْرُوغٍ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ مَا قَضَاهُ وَحَكَمَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ الْوَاقِعِ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَلَا مَرَدَّ لَهُ بِجِدَالٍ، وَلَا دُعَاءٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ هَرِمٍ: وَإِنَّهُمْ أَتَاهُمْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَعَذَابٌ فَاعِلُ بِهِ عَبِّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُضَارِعِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ «2» .
(1) سورة يوسف: 12/ 15. [.....]
(2)
سورة النحل: 16/ 1.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ:
خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى قَرْيَةِ لُوطٍ وَبَيْنَهُمَا قِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، فَأَتَوْهَا عِشَاءً. وَقِيلَ: نِصْفَ النَّهَارِ، وَوَجَدُوا لُوطًا فِي حَرْثٍ لَهُ. وَقِيلَ: وَجَدُوا ابْنَتَهُ تَسْتَقِي مَاءً فِي نَهْرِ سَدُومَ، وَهِيَ أَكْبَرُ حَوَاضِرَ قَوْمِ لُوطٍ، فَسَأَلُوهَا الدِّلَالَةَ عَلَى مَنْ يُضَيِّفُهُمْ، وَرَأَتْ هَيْئَتَهُمْ فَخَافَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَقَالَتْ لَهُمْ: مَكَانَكُمْ، وَذَهَبَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تُضَيِّفَنَا اللَّيْلَةَ فَقَالَ لَهُمْ: أَوَ مَا سَمِعْتُمْ بِعَمَلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَقَالُوا:
وَمَا عَمَلُهُمْ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ شَرُّ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ كَانَ اللَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ:
لَا تُعَذِّبُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ قَالَ جِبْرِيلُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ مِنْهُمْ حَتَّى كَرَّرَ لُوطٌ الشَّهَادَةَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ لُوطٌ الْمَدِينَةَ فَحِينَئِذٍ سِيءَ بِهِمْ أَيْ: لَحِقَهُ سُوءٌ بِسَبَبِهِمْ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِهِمْ، وَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أَيْ شَدِيدٌ، لِمَا كَانَ يَتَخَوَّفُهُ مِنْ تَعَدِّي قَوْمِهِ عَلَى أَضْيَافِهِ. وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، لَمَّا جَاءَ لُوطٌ بِضَيْفِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَتَتْ مَجَالِسَ قَوْمِهَا فَقَالَتْ: إِنَّ لُوطًا قَدْ أَضَافَ اللَّيْلَةَ فَتْيَةً مَا رؤي مِثْلُهُمْ جَمَالًا وَكَذَا وَكَذَا، فحينئذ جاؤوا يُهْرَعُونَ أَيْ: يُسْرِعُونَ، كَمَا يَدْفَعُونَ دَفْعًا فِعْلَ الطَّامِعِ الْخَائِفِ فَوْتَ مَا يَطْلُبُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُهْرَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَهْرَعَ أَيْ يُهْرِعُهُمُ الطَّمَعُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَهْرَعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ هرع. وقال مهلهل:
فجاؤوا يَهْرَعُونَ وَهُمْ أُسَارَى
…
يَقُودُهُمْ عَلَى رَغْمِ الْأُنُوفِ
وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ دَيْدَنَهُمْ وَعَادَتَهُمْ، أَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَمَرَنُوا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَوَّلِ إِنْشَاءِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، جاؤا يَهْرَعُونَ لَا يَكُفُّهُمْ حَيَاءٌ لِضَرَاوَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ فِي وَمِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِمْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَضْيَافِ وَطَلَبِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ:
وَمِنْ قَبْلِ بَعْثِ لُوطٍ رَسُولًا إِلَيْهِمْ. وَجُمِعَتِ السَّيِّئَاتُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَعْصِيَةَ إِتْيَانِ الذُّكُورِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ فَاعِلِيهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ تكررها. وقيل: كانت سيآت كَثِيرَةً بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْهَا إِتْيَانُ الذُّكُورِ، وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتِيِّ، وَحَذْفُ الْحَصَا، وَالْحَيْقُ فِي الْمَجَالِسِ وَالْأَسْوَاقِ، وَالْمُكَاءُ، وَالصَّفِيرُ، وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ، وَالْقِمَارُ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالنَّاسِ فِي
الطُّرُقَاتِ، وَوَضْعُ دِرْهَمٍ عَلَى الْأَرْضِ وَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْهُ فَمَنْ أَخَذَهُ صَاحُوا عَلَيْهِ وَخَجِلُوهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ صَبِيٌّ تَابَعُوهُ وَرَاوَدُوهُ. هَؤُلَاءِ بَنَاتِي: الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ مَجَازِيَّةً، أَيْ:
بَنَاتُ قَوْمِي، أَيِ الْبَنَاتُ أَطْهَرُ لَكُمْ، إِذِ النَّبِيُّ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَبِ لِقَوْمِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِيمَا قِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ الابنتان، وَهَذَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَأَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَيْهِ مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: أَشَارَ إِلَى بَنَاتِ نَفْسِهِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى النِّكَاحِ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمُ تَزْوِيجُ الْمُؤْمِنَةِ بِالْكَافِرِ. أَوْ عَلَى أَنَّ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: كَانَ لَهُمْ سَيِّدَانِ مُطَاعَانِ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهُمَا ابْنَتَيْهِ زَغُورَا وَزَيْتَا. وَقِيلَ: كُنَّ ثَلَاثًا.
وَمَعْنَى أَطْهَرُ: أَنْظَفُ فِعْلًا. وَقِيلَ: أَحَلُّ وَأَطْهَرُ بَيْتًا لَيْسَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، إِذْ لَا طَهَارَةَ فِي إِتْيَانِ الذُّكُورِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَطْهَرُ بِالرَّفْعِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَجُوِّزَ فِي بَنَاتِي أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وهن فصل وأطهر الْخَبَرُ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ: أَطْهَرَ بِالنَّصْبِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ لَحْنٌ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: احْتَبَى فِيهِ ابْنُ مَرْوَانَ فِي لَحْنِهِ يَعْنِي: تَرَبَّعَ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ نَصْبَ أَطْهَرَ عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: هؤلاء مبتدا، وبناتي هُنَّ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ هَؤُلَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْمُبَرِّدِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وهن مبتدأ ولكم خَبَرُهُ، وَالْعَامِلُ قِيلَ: الْمُضْمَرُ. وَقِيلَ: لَكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وهن فصل، وأطهر حَالٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَصْلَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَيْنَ جزءي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَقَعُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَادَّعَى السَّمَاعَ فِيهِ عَنِ الْعَرَبِ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَنْ يُؤْثِرُوا الْبَنَاتِ عَلَى الْأَضْيَافِ. ولا تخزون: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخِزْيِ وَهُوَ الْفَضِيحَةُ، أَوْ مِنَ الْخَزَايَةِ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ، لِأَنَّهُ إِذَا خُزِيَ ضَيْفُ الرَّجُلِ أَوْ جَارُهُ فَقَدْ خُزِيَ هُوَ، وَذَلِكَ مِنْ عَرَاقَةِ الْكَرَمِ وَأَصْلِ الْمُرُوءَةَ. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَهْتَدِي إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَفِعْلِ الْجَمِيلِ، وَالْكَفِّ عَنِ السُّوءِ؟ وَفِي ذَلِكَ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ رَشِيدٌ الْبَتَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَشِيدٌ مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَرَشِيدٌ ذُو رُشْدٍ، أَوْ مُرْشِدٌ كَالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى مِنْ حَقٍّ مِنْ نصيب، ولا من
(1) سورة الأحزاب: 33/ 6.
غَرَضٍ وَلَا مِنْ شَهْوَةٍ، قَالُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخَلَاعَةِ. وَقِيلَ: مِنْ حَقٍّ، لِأَنَّكَ لَا تَرَى مِنَّا كُحَّتَنَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَطَبُوا بَنَاتَهُ فَرَدَّهُمْ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُمْ أَنَّ مَنْ رُدَّ فِي خِطْبَةِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا. وَقِيلَ: لَمَّا اتَّخَذُوا إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ مَذْهَبًا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّ نِكَاحَ الْإِنَاثِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مُتَزَوِّجِينَ. وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ يَعْنِي: مِنْ إِتْيَانِ الذكور، وما لهم فِيهِ مِنَ الشَّهْوَةِ. قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً، قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَجُّعِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» وَتَقْدِيرُهُ: لَفَعَلْتُ بِكُمْ وَصَنَعْتُ. وَالْمَعْنَى فِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ: مَنْ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَيَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، شَبَّهَ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِهِ بِالرُّكْنِ مِنَ الْجَبَلِ فِي شِدَّتِهِ وَمَنَعَتِهِ، وَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَصِرَ وَيَمْتَنِعَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ آوِي عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: أَوْ أَنِّي آوِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ إِنْ قَدَّرْتَ أَنِّي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ أَيْ: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً، أَوْ آوِي. وَيَكُونُ الْمُضَارِعُ الْمُقَدَّرُ وَآوِي هَذَا وَقَعَا مَوْقِعَ الْمَاضِي، وَلَوِ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ نَقَلَتِ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي، وَإِنْ قَدَّرْتَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةً اسْمِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَوْ تَأْتِي بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ اسْمِيَّةً إِذَا كَانَ الَّذِي يَنْسَبِكُ إِلَيْهَا أَنَّ وَمَعْمُولَاهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْ آوِي مُسْتَأْنَفًا انْتَهَى. وَيَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَيَكُونُ قَدْ أَضْرَبَ عَنِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَقَالَ: بَلْ آوِي فِي حَالِي مَعَكُمْ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ شَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: أَوْ آوِي بِنَصْبِ الْيَاءِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ، أَوْ فَتَتَقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: قُوَّةً. وَنَظِيرُهُ مِنَ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ أَوْ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رِزَامَ أَعِزَّةٌ
…
وآل سُبَيْعٍ أَوْ يَسُوؤُكَ عَلْقَمَا
أَيْ أَوْ وَمُسَاءَتُكَ عَلْقَمًا.
قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما
(1) سورة الرعد: 13/ 31.
هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ:
رُوِيَ أَنَّ لُوطًا عليه السلام غَلَبُوهُ، وَهَمُّوا بِكَسْرِ الْبَابِ وَهُوَ يُمْسِكُهُ قَالَ لَهُ الرُّسُلُ: تَنَحَّ عَنِ الْبَابِ فَتَنَحَّى، وَانْفَتَحَ الْبَابُ فَضَرَبَهُمْ جِبْرِيلُ عليه السلام بِجَنَاحِهِ، فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ وَعُمُوا، وَانْصَرَفُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَقُولُونَ: النَّجَاةَ النَّجَاةَ، فَعِنْدَ لُوطٍ قَوْمٌ سَحَرَةٌ وَتَوَعَّدُوا لُوطًا، فَحِينَئِذٍ قَالُوا لَهُ: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَقَبَ مِنْ خَصَاصِ الْبَابِ، وَرَمَى فِي أَعْيُنِهِمْ فَعُمُوا. وَقِيلَ: أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ وَأَذْرَاهَا فِي وجوههم، فأوصل إِلَى عَيْنِ مَنْ بَعُدُ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، فَطُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقًا وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ. وَقِيلَ: كَسَرُوا بَابَهُ وَتَهَجَّمُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلَ بِهِمْ جِبْرِيلُ مَا فَعَلَ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، مُوَضِّحَةٌ لِلَّذِي قَبْلَهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ لَنْ يَصْلُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ضَرَرِهِ، ثُمَّ أَمَرُوهُ بِأَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ: فَأَسْرِ، وَأَنِ أَسْرِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنْ سَرَى، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِقَطْعِهَا، وَأَهْلُهُ ابْنَتَاهُ، وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِبَقِيَّةٍ مِنْ آخِرِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرٍ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: بِظُلْمَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نِصْفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نِصْفُ اللَّيْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَطْعِهِ نِصْفَيْنِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَنَائِحَةٌ تَنُوحُ بِقِطْعِ لَيْلٍ
…
عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصَّعِيدِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: السَّحَرُ، لِقَوْلِهِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَسْرَى بِأَهْلِهِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ حَتَّى جَاوَزَ الْبَلَدَ الْمُقْتَلَعَ، وَوَقَعَتْ نَجَاتُهُ بِسَحَرٍ. فَتَجْتَمِعُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْلِهِ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ «1» انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقِطْعُ بِمَعْنَى الْقِطْعَةُ، مُخْتَصٌّ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُقَالُ عِنْدِي قِطْعٌ مِنَ الثَّوْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالرَّفْعِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ. فَوَجْهُ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ بِأَهْلِكَ، إِذْ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْوَاجِبِ. وَيَتَعَيَّنُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَهْلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، إِذْ سَقَطَ فِي قِرَاءَتِهِ وَفِي مُصْحَفِهِ: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَهْيٌ، وَالنَّهْيُ كَالنَّفْيِ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ بِالنَّصْبِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَفْيٌ. وَوَجْهُ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ أَحَدٍ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ وَلَا يَلْتَفِتْ بِرَفْعِ الْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ. فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ الْمَرْأَةَ مِنْ أَحَدٌ وَجَبَ أَنْ تكون المرأة أبيح
(1) سورة القمر: 54/ 34.
لَهَا الِالْتِفَاتُ، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْآيَةِ يَعْنِي أَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ إِلَّا امْرَأَتُكَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُنْهَ عَنْ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ حَسَنٌ يَلْزَمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَحَدٌ رَفَعْتَ التَّاءَ أَوْ نَصَبْتَ، وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ يَتَرَتَّبُ بِكَلَامٍ مَحْكِيٍّ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ لُوطٌ وَحْدَهُ، وَالِالْتِفَاتَ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ، فَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَلْتَفِتُ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ: لَا يَقُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَسْمَعُوكَ، فالمعنى: لا تدع مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُومُ، وَالْقِيَامُ فِي الْمَعْنَى مَنْفِيٌ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي إِخْرَاجِهَا مَعَ أَهْلِهِ رِوَايَتَانِ: رُوِيَ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَعَهُمْ وَأُمِرَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا هِيَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ هَدَّةَ العذاب التفتت وقالت: وا قوماه، فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يُخَلِّفَهَا مَعَ قَوْمِهَا، وَأَنَّ هَوَاهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَسِرْ بِهَا.
وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ إِذْ بَنَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ أَنَّهُ سَرَى بِهَا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَهَذَا تَكَاذُبٌ فِي الْأَخْبَارِ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَتَانِ وَهْمًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَتَرَتَّبَانِ عَلَى التَّكَاذُبِ. وَقِيلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْأَهْلِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ سَرَى بِهَا، وَلَمَّا الْتَفَتَتْ كَانَتْ قَدْ سَرَتْ مَعَهُمْ قَطْعًا، وَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا تَبِعَتْهُمُ الْتَفَتَتْ. وَقِيلَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُنْقَطِعٌ، لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، وَلَكِنِ اسْتُؤْنِفَ الْإِخْبَارُ عَنْهَا، فَالْمَعْنَى: لَكِنَّ امْرَأَتَكَ يَجْرِي لَهَا كَذَا وَكَذَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَلَيْسَ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ الْبَتَّةَ قَالَ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، فَلَمْ تَقَعِ الْعِنَايَةُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِذِكْرِ مِنْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَجَاءَ شَرْحُ حَالِ امْرَأَتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا بِالْإِخْرَاجِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِذَا اتَّضَحَ هَذَا الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ وَرَدَتَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، فَفِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ.
فَالنَّصْبُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَالرَّفْعُ لِبَنِي تَمِيمٍ وَعَلَيْهِ اثْنَانِ مِنَ الْقُرَّاءِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي طُوِّلَ بِهِ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، وَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ الَّذِي لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْعَامِلُ بِحَالٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَجِبُ فِيهِ النَّصْبُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ. وَفِي كِلَا النَّوْعَيْنِ يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،
فَكَوْنُهُ جَازَ فِيهِ اللُّغَتَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَهُوَ قَدْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُهَا عَنِ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ فِيهِ إِذْ ذَاكَ النَّصْبُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَلْتَفِتْ، مِنَ الْتِفَاتِ الْبَصَرِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مِنْ لَفَتَ الشَّيْءَ يَلْفِتُهُ إِذَا ثَنَاهُ وَلَوَاهُ، فَمَعْنَاهُ: وَلَا يَتَثَبَّطْ. وَفِي كِتَابِ الزَّهْرَاوِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إِلَى مَا خَلَّفَ بَلْ يَخْرُجْ مُسْرِعًا. وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، ومصيبها مبتدأ، وما أَصَابَهُمْ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مصيبها خبر إن، وما أَصَابَهُمْ فَاعِلَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِنَّهُ قَائِمٌ أَخَوَاكَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ إلا جملة مصرحا بجزأيها، فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْإِعْرَابُ عِنْدَهُمْ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: الصُّبُحُ بِضَمِّ الْبَاءِ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِتْبَاعًا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: إِنَّ مَوْعِدَ هَلَاكِهِمُ الصُّبْحُ.
وَيُرْوَى أَنَّ لُوطًا عليه السلام قَالَ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ وَجُعِلَ الصُّبْحُ مِيقَاتًا لِهَلَاكِهِمْ، لِأَنَّ النُّفُوسَ فِيهِ أَوْدَعُ، وَالرَّاحَةَ فِيهِ أَجْمَعُ.
وَيُرْوَى أَنَّ لُوطًا خَرَجَ بِابْنَتَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُمَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَطَوَى اللَّهُ لَهُ الْأَرْضَ فِي وَقْتِهِ حَتَّى نَجَا، وَوَصَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام.
وَالضَّمِيرُ فِي عَالِيَهَا عَائِدٌ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ، جَعَلَ جِبْرِيلُ جَنَاحَهُ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُبَاحَ الْكِلَابِ وَصِيَاحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهِيَ الْمُؤْتَفِكَاتُ سَبْعُ مَدَائِنَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ عَدَّهَا الْمُفَسِّرُونَ، وَفِي ضَبْطِهَا إِشْكَالٌ، فَأَهْمَلْتُ ذِكْرَهَا. وسدوم هي الْقَرْيَةِ الْعُظْمَى، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا أَيْ عَلَى أَهْلِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحِجَارَةَ أَصَابَتْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ خَارِجَ مُدُنِهِمْ حَتَّى قَتَلَتْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجَرُ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ الْحَجَرُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ زَيْدٍ: السِّجِّيلُ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوَصْفِهِ بِمَنْضُودٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ أَسْجَلَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ، وَقِيلَ: مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَ بِهِ مِنَ السِّجِلِّ، وَسَجَّلَ لِفُلَانٍ. وَمَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ: مَاءٌ وَطِينٌ، هَذَا قَوْلِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وعكرمة، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي رُمُوا بِهَا كَانَتْ كَالْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ أَيْ حَجَرٌ وَطِينٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ هَذَا إِلَى الْآجُرِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّدِيدُ مِنَ الْحِجَارَةِ الصُّلْبُ، مُسَوَّمَةً عَلَيْهَا سِيمَا يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الْأَرْضِ قَالَهُ: ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ كَانَ فِيهَا بَيَاضٌ. وَقِيلَ:
مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ: بَيَاضٌ فِي