المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، مَا يَرُدُّ عَنْهُمْ قَدَرًا لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى أَنْ يُصِيبَهُمْ عَيْنٌ لَأَصَابَتُهُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَإِنَّمَا طَمِعَ يَعْقُوبُ أَنْ تُصَادِفَ وَصِيَّتُهُ قَدَرَ السَّلَامَةِ، فَوَصَّى وَقَضَى بِذَلِكَ حَاجَةَ نَفْسِهِ فِي أَنْ بَقِيَ يَتَنَعَّمُ بِرَجَائِهِ أَنْ يُصَادِفَ وَصِيَّتَهُ الْقَدَرُ فِي سَلَامَتِهِمْ. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يَعْنِي لِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّ الْقَدَرَ لَا يَدْفَعُهُ الْحَذَرُ. وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى يَعْقُوبَ عليه السلام. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعَامِلٌ بِمَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَا يَعْمَلُ لَا يَكُونُ عَالِمًا، وَلَفْظَةُ ذُو عِلْمٍ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مما علمناه.

[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)

قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَاّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

ص: 299

الْعِيرُ الْإِبِلُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَالُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعِيرُ أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ. وَقِيلَ:

هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ قَافِلَةٍ عِيرٌ كَأَنَّهَا جَمْعُ عَيْرٍ. وَأَصْلُهَا فُعْلٌ كَسَقْفٍ، وَسُقْفٍ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ ببيض وعيد، وَالْعِيرُ مُؤَنَّثٌ. وَقَالُوا فِي الْجَمْعِ: عِيَرَاتٌ، فَشَذُّوا فِي جَمْعِهِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَفِي فَتْحِ يَائِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

غَشِيتُ دِيَارَ الْحَيِّ بِالْبَكَرَاتِ

فَعَارِمَةٍ فَبَرْقَةِ الْعِيَرَاتِ

قَالَ الأعلم: العيرات هُنَا مَوَاضِعُ الْأَعْيَارِ، وَهِيَ الْحَمِيرُ. الصُّوَاعُ الصَّاعُ، وَفِيهِ لُغَاتٌ تَأْتِي فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. الْوِعَاءُ: الظَّرْفُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَتُضَمُّ وَاوُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تبدل واوه همزة. فتى؟؟؟ أَخَوَاتِ كَانَ النَّاقِصَةِ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:

فَمَا فَتِئَتْ حَيٌّ كَأَنَّ غُبَارَهَا

سُرَادِقُ بُومٍ ذِي رِيَاحٍ يرفع

وَقَالَ أَيْضًا:

فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي

وَيَلْحَقُ مِنْهَا لَاحِقٌ وَتَقَطَّعُ

ص: 300

وَيُقَالُ فِيهَا: فَتَأَ عَلَى وَزْنِ ضَرَبَ، وَأَفْتَأَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ. وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى سَكَنَ وَأَطْفَأَ، فَتَكُونُ تَامَّةً. وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ تَصْحِيفٌ مِنْهُ. صَحَّفَ الثَّاءَ بِثَلَاثٍ، بِالتَّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَشَرَحَهَا بِسَكَنٍ وَأَطْفَأَ. الْحَرَضُ: الْمُشْفِي عَلَى الْهَلَاكِ يُقَالُ: حَرِضَ فَهُوَ حَرِضٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، حَرَضًا بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأَحْرَضَهُ الْمَرَضُ فَهُوَ مُحْرَضٌ قَالَ:

أَرَى الْمَرْءَ كَالْأَزْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا

كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ فِي الدِّيَارِ مَرِيضِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

إِنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي

حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ

وَقَالَ: رَجُلٌ حُرُضٌ بِضَمَّتَيْنِ كَجُنُبٍ وَشُلُلٍ.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ. قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ. قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ:

رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: هَذَا أَخُونَا قَدْ جِئْنَاكَ بِهِ، فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ، وَسَتَجِدُونَ ذَلِكَ عِنْدِي، فَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، ثُمَّ أَضَافَهُمْ، وَأَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى مَائِدَةٍ، فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحْدَهُ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ أَخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأَجْلَسَنِي مَعَهُ. فَقَالَ يُوسُفُ: بَقِيَ أَخُوكُمْ وَحِيدًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَجَعَلَ يُؤَاكِلُهُمْ وَقَالَ: أَنْتُمْ عَشَرَةٌ، فَلْيَنْزِلْ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْكُمْ بَيْتًا، وَهَذَا لَا ثَانِيَ لَهُ فَيَكُونُ مَعِي، فَبَاتَ يُوسُفُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيَشُمُّ رَائِحَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، وَسَأَلَهُ عَنْ وَلَدِهِ فَقَالَ: لِي عشرة بنين اشتققت أسماهم مِنِ اسْمِ أَخٍ لِي هَلَكَ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ بَدَلَ أَخِيكَ الْهَالِكِ؟ قَالَ: مَنْ يَجِدُ أَخًا مِثْلَكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلَا رَاحِيلُ، فَبَكَى يُوسُفُ وَقَامَ إِلَيْهِ وَعَانَقَهُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَخُوكَ يُوسُفُ فَلَا تَبْتَئِسْ، فَلَا تَحْزَنْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِنَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَجَمَعَنَا عَلَى خَيْرٍ، وَلَا تُعْلِمُهُمْ بِمَا أَعْلَمْتُكَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَعَرَّفَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، أَعْلَمَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ حَقِيقَةً وَاسْتَكْتَمَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَا تُبَالِي بِكُلِّ مَا تَرَاهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي تَحَيُّلِي فِي أَخْذِكَ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ

ص: 301

بِقَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِلَى مَا يَعْمَلُهُ فِتْيَانُ يُوسُفَ مِنْ أَمْرِ السِّقَايَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى.

وَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِغَيْرٍ كَانُوا، لَأَمْكَنَ عَلَى بُعْدِهِ، لِأَنَّ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِخْوَةِ يُوسُفَ. وَأَمَّا ذِكْرُ فِتْيَانِهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ:

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ، وَقَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا قَصَصٌ. وَاتَّسَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْوَةِ اتِّسَاقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ قَدِيمًا مِنَ الْأَذَى، إِذْ قَدْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَخِيهِ يُوسُفَ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ فِي الْوُدِّ مَقَامَ أَخِيهِ الذَّاهِبِ، وَلَمْ يَكْشِفْ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، بَلْ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ كَسَائِرِ إِخْوَتِهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ هُوَ يُوسُفُ، وَيَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَلِكًا أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بَلْ جَعَلَ غَيْرَهُ مِنْ فِتْيَانِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَجْعَلَهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ وَهْبٍ: أَنَّهُ لَمْ يَكْشِفْ لَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَنَّهُ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ.

وروي أنه قال ليوسف: أَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ: قَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي، فَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ أَنْسُبَكَ إِلَى مَا لَا يُحْمَلُ. قَالَ: لَا أُبَالِي، فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي فِي رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِأَنَّكَ سَرَقْتَهُ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَافْعَلْ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلَ السقاية في رحل أخيه، أَمْهَلَهُمْ حَتَّى انْطَلَقُوا، ثُمَّ أَذَّنَ. وَفِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي جَعَلَ دُونَ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي رَحْلِ أَخِيهِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَقَدَهَا حَافِظُهَا كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ أَنْ يَجْعَلَ السِّقَايَةَ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ حَافِظَهَا فَقَدَهَا، فَنَادَى بِرَأْيِهِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَتَفْتِيشُ الْأَوْعِيَةِ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَأْذِينَ الْمُؤَذِّنِ كَانَ عَنْ أَمْرِ يُوسُفَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ هَذَا الْجَعْلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ بِنْيَامِينَ، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمٍ مِنْهُ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: السِّقَايَةُ إِنَاءٌ يَشْرَبُ بِهِ الْمَلِكُ، وَبِهِ كَانَ يُكَالُ الطَّعَامُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: كَانَ يُسْقَى بِهَا الْمَلِكُ ثُمَّ جُعِلَتْ صَاعًا يُكَالُ بِهِ، وَقِيلَ: كَانَتِ الدَّوَابُّ تَسْقِي بِهَا وَيُكَالُ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الصُّوَاعُ هُوَ مِثْلُ الْمَكُّوكِ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ إِنَاءُ يُوسُفَ الَّذِي يَشْرَبُ فِيهِ، وَكَانَ إِلَى الطُّولِ مَاهِرٌ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ يَشْرَبُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ

ص: 302

ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: الصُّوَاعُ الْمَكُّوكُ الْفَارِسِيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الْأَعَاجِمُ.

وَالسِّقَايَةُ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مُمَوَّهَةٍ بِالذَّهَبِ، أَوْ نُحَاسٍ، أَوْ مِسْكٍ، أَوْ كَانَتْ مُرَصَّعَةً بِالْجَوَاهِرِ أَقْوَالٌ أَوَّلُهَا لِلْجُمْهُورِ، وَلِعِزَّةِ الطَّعَامِ فِي تِلْكَ الْأَعْوَامِ قَصَرَ كَيْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنَاءِ.

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيْ: نَادَى مُنَادٍ، أَذَّنَ: أَعْلَمَ. وَآذَنَ أَكْثَرَ الْإِعْلَامَ، وَمِنْهُ الْمُؤَذِّنُ لكثرة ذلك منه. وثم تَقْتَضِي مُهْلَةً بَيْنَ جَعْلِ السِّقَايَةِ وَالتَّأْذِينِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ بِأَوْقَارِهَا وَخَرَجُوا مِنْ مِصْرَ أُدْرَكُوا وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ أُمِرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ. وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْعِيرَ الْإِبِلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ دَوَابُّهُمْ حَمِيرًا، وَمُنَادَاةُ الْعِيرِ وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا كَقَوْلِهِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ:

إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فَرُوعِيَ الْمَحْذُوفُ، وَلَمْ يُرَاعَ الْعِيرُ كَمَا رُوعِيَ فِي ارْكَبِي. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ الْعِيرُ عَلَى الْقَافِلَةِ، أَوِ الرُّفْقَةِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّحَيُّلَ، وَرَمْيَ أَبْرِيَاءٍ بِالسَّرِقَةِ، وَإِدْخَالَ الْهَمِّ عَلَى يَعْقُوبَ، بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ، وَلَمَّا أَرَادَ مِنْ مِحْنَتِهِمْ بِذَلِكَ. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانُوا بَاعُوا يُوسُفَ اسْتُجِيزَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا، وَنِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا: وَإِنْ كَانَ الصُّوَاعُ إِنَّمَا وُجِدَ فِي رَحْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ فَتَلُوا فُلَانًا، وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. قَالُوا: أَيْ إِخْوَةُ يُوسُفَ، وَأَقْبَلُوا جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ: وَقَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ: عَلَى طَالِبِيِ السِّقَايَةِ، أَوْ عَلَى الْمُؤَذِّنِ إِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ جَمْعٌ. كَأَنَّهُ جَعَلَ مُؤَذِّنِينَ يُنَادُونَ، وَسَاءَهُمْ أَنْ يُرْمَوْا بِهَذِهِ الْمَثْلَبَةِ وَقَالُوا: مَاذَا تَفْقِدُونَ؟ لِيَقَعَ التَّفْتِيشُ فَتَظْهَرُ بَرَاءَتُهُمْ، وَلَمْ يَلُوذُوا بِالْإِنْكَارِ مِنْ أَوَّلُ، بَلْ سَأَلُوا كَمَالَ الدَّعْوَى رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا تُبْطَلُ بِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى خِصَامٍ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بتفقدون، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا وحدها استفهاما مبتدأ، وذا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ ما، وتفقدون صِلَةٌ لِذَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: تَفْقِدُونَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تُفْقِدُونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَفْقَدْتُهُ إِذَا وَجَدْتَهُ فَقِيدًا نَحْوَ: أَحَمَدْتُهُ إِذَا أَصَبْتَهُ مَحْمُودًا. وَضَعَّفَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ، وَجْهُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَصُوَاعُ الْمَلِكِ هُوَ الْمِكْيَالُ، وَهُوَ السِّقَايَةُ سَمَّاهُ أَوَّلًا بِإِحْدَى جِهَتَيْهِ، وَآخِرًا بِالثَّانِيَةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صُوَاعَ بِضَمِّ الصَّادِ، بَعْدَهَا وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ، بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الصَّادَ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٌ: صَاعَ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، فَالْأَلِفُ فِيهَا بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ. وَقَرَأَ

ص: 303

أَبُو رَجَاءٍ: صَوْعَ عَلَى وَزْنِ قَوْسٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنِ بْنِ أبي أرطيان: صُوَعَ بِضَمِّ الصَّادِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فِي الصَّاعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْلَوَامِحِ:

صُوَاغَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى وَزْنِ غُرَابٍ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْذِفُ الْأَلِفَ وَيُسَكِّنُ الْوَاوَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: صَوْغَ مَصْدَرُ صَاغٍ، وصواغ صوغ مُشْتَقَّانِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ يَصُوغُ، أُقِيمَا مَقَامَ الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى مَصُوغِ الْمَلِكِ. وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ أَيْ: وَلِمَنْ دَلَّ عَلَى سَارِقِهِ وفضحه، وهذا جعل وأنا به زَعِيمٌ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَذِّنِ. وَأَنَا بِحَمْلِ الْبَعِيرِ كَفِيلٌ أؤديه إلى من جَاءَ بِهِ، وَأَرَادَ بِهِ وَسَقَ بَعِيرٍ مِنْ طَعَامٍ جَعْلًا لِمَنْ حَصَّلَهُ. قَالُوا: تَاللَّهِ أَقْسَمُوا بِالتَّاءِ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهَا التَّعَجُّبُ غَالِبًا كَأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ رَمْيِهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَدُّوا الْبِضَاعَةَ الَّتِي وَجَدُوهَا فِي الطَّعَامِ وَتَحَرَّجُوا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ بِلَا ثَمَنٍ، وَكَانُوا قَدِ اشْتُهِرُوا بِمِصْرَ بِصَلَاحٍ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَكَمَةَ فِي أَفْوَاهِ إِبِلِهِمْ لِئَلَّا تَنَالَ زُرُوعَ النَّاسِ، فَأَقْسَمُوا عَلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَجِيئَنَا لَمْ يَكُنْ لِفَسَادٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْيِ صِفَةِ السَّرِقَةِ عَنْهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قَطُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّاءُ فِي تَاللَّهِ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُرَاثٍ، وَفِي التَّوْرَاةِ، وَالتُّخْمَةِ، وَلَا تَدْخُلُ التَّاءُ فِي الْقَسَمِ إِلَّا فِي الْمَكْتُوبَةِ مِنْ بَيْنِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَقُولُ: تَالرَّحْمَنِ، وَلَا تَالرَّحِيمِ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالتَّاءُ فِي تَاللَّهِ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَخَالَفَهُمُ السُّهَيْلِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي التَّوْرَاةِ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِذْ زَعَمُوا أنّ الأصل ورواة مِنْ وَرَى الزَّنْدِ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّاءَ زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَدْخُلُ إِلَى آخِرِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ دُخُولَهَا عَلَى الرَّبِّ، وَعَلَى الرَّحْمَنِ، وَعَلَى حَيَاتِكَ، قَالُوا: تَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَتَالرَّحْمَنِ، وَتَحِيَّاتِكَ. وَالْخِطَابُ فِي لَقَدْ عَلِمْتُمْ لِطَالِبِي الصُّوَاعِ، وَالضَّمِيرُ فِي جَزَاؤُهُ عَائِدٌ عَلَى السَّارِقِ. فَمَا جَزَاءُ السَّارِقِ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِكُمْ: وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ لَهُ؟

قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا جَزَاؤُهُ الضَّمِيرُ لِلصُّوَاعِ أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَرِقَتِهِ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي جُحُودِكُمْ وَادِّعَائِكُمُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: هُوَ الظَّاهِرُ لِاتِّحَادِ الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ إِذْ ذَاكَ قَالَ: جَزَاءُ الصَّاعِ، أَيْ: سَرِقَتُهُ مَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، كَلَامُ مَنْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُمْ بُرَآءُ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَلِاعْتِقَادِهِمُ الْبَرَاءَةَ عَلَّقُوا الْحُكْمَ عَلَى وِجْدَانِ الصَّاعِ لَا عَلَى سَرِقَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ

ص: 304

يَقُولُونَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ نسرق، ألا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الصَّاعُ فِي رِحَالِنَا. وَكَانَ فِي دِينِ يَعْقُوبَ اسْتِعْبَادُ السَّارِقِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُنَّةٌ، وَكَانَ فِي دِينِ مِصْرَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُضَعَّفَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، وَلِذَلِكَ أَجَابُوا عَلَى شَرِيعَتِهِمْ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جزاؤه مبتدأ، ومن شَرْطِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً ثَانٍ، فَهُوَ جَزَاؤُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ مَا الْمَوْصُولَةِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ وُجِدَ إِلَى آخِرِهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَالُوا:

جَزَاؤُهُ لِلسَّارِقِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِخُلُوِّ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرَ جَزَاؤُهُ مِنْ رَابِطٍ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى قَالُوا: جَزَاءُ سَرِقَتِهِ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَمَا هِيَ خَبَرُهُ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ فِيهَا مَقَامُ الْمُضْمَرِ. وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ هُوَ.

فَمَوْضِعُ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ هُوَ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: مَنْ أَخُو زَيْدٍ؟ فَتَقُولُ: أَخُوهُ مَنْ يَقْعُدُ إِلَى جَنْبِهِ، فَهُوَ هُوَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ إِلَى مَنْ، وَالثَّانِي إِلَى الْأَخِ. ثُمَّ تَقُولُ: فَهُوَ أَخُوهُ مُقِيمًا لِلْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلرَّبْطِ إِنَّمَا هُوَ فَصِيحٌ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَغَيْرُ فَصِيحٍ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ نَحْوَ: زَيْدٌ قَامَ زَيْدٌ. وَيُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ ضِدَّ الْكَلَامِ، وَكَانَ هَاهُنَا ضَعِيفًا، وَلَمْ يَكُنْ كَقَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا هُوَ، لِأَنَّكَ قَدِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ إِظْهَارِهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تضمره. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ خبر مبتدأ محذوف أي الْمَسْئُولُ عَنْهُ جَزَاؤُهُ ثُمَّ أَفْتُوا بِقَوْلِهِمْ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَمَا تَقُولُ: مَنْ يَسْتَفْتِي فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ، ثُمَّ تَقُولُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «1» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ، إِذْ تَصِيرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْمَسْئُولُ عَنْهُ جَزَاؤُهُ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا جَزَاؤُهُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ جَزَاءُ سَرِقَتِهِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُطْقِهِمْ بِذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمِثَالُ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ مِنْ قَوْلِ الْمُسْتَفْتِي. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأً أَيْ: جَزَاءُ سَرِقَةِ الصَّاعِ، وَالْخَبَرُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أَيْ: أُخِذَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ، تَقْرِيرٌ لِحُكْمٍ أَيْ: فَأَخْذُ السَّارِقِ نَفْسِهِ هُوَ جَزَاؤُهُ لَا غَيْرَ كَقَوْلِكَ: حَقُّ زَيْدٍ أَنْ يُكْسَى وَيُطْعَمَ وَيُنْعَمَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَزَاؤُهُ، أَوْ فَهُوَ حَقُّهُ، لِتُقَرِّرَ مَا ذَكَرْتُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ الْوَاحِدَ قَوْلَيْنِ قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَبَرًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى جَزَاءُ السَّارِقِ من وجد

(1) سورة المائدة: 5/ 95.

ص: 305

فِي رَحْلِهِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ، زِيَادَةَ بَيَانٍ وَتَأْكِيدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ جَزَاؤُهُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ أَبْرَزَ الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ الذَّاتَ لَا تَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْمَصْدَرِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ جَزَاؤُهُ أخذ من وجد في رَحْلِهِ، أَوِ اسْتِرْقَاقُ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ التَّكَلُّفِ. كَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الِاسْتِرْقَاقُ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أَهْلِ السَّرِقَةِ.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ قِيلَ: قَالَ لَهُمْ مَنْ وُكِّلَ بِهِمْ: لَا بُدَّ مِنْ تَفْتِيشِ أَوْعِيَتِكُمْ، فَانْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى يُوسُفَ، فَبَدَأَ بِتَفْتِيشِ أَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ بِنْيَامِينَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَتَمْكِينِ الْحِيلَةِ، وَإِبْقَاءِ ظُهُورِهَا حَتَّى بَلَغَ وِعَاءَهُ، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ هَذَا أَخَذَ شَيْئًا فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا تَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْظُرَ فِي رَحْلِهِ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَأَنْفُسِنَا، فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنْ وُعَاءِ بِضَمِّ الْوَاوِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ إِعَاءِ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا: إِشَاحٌ وَإِسَادَةٌ فِي وِشَاحٍ وَوِسَادَةٍ، وَذَلِكَ مُطَّرَدٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، يُبَدِّلُونَ مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ الْوَاقِعَةِ أَوَّلًا هَمْزَةً، وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا عَلَى مَعْنَى السِّقَايَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الصُّوَاعِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُؤَنَّثُ الصُّوَاعُ مِنْ حَيْثُ سُمِّيَ سِقَايَةً، وَيُذَكَّرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَاعٌ، وَكَأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ لَمْ يَحْفَظْ تَأْنِيثَ الصُّوَاعِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا عَائِدٌ عَلَى السَّرِقَةِ، كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْدِ الْعَظِيمِ كِدْنَا لِيُوسُفَ يَعْنِي: عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ، وَأَوْحَيْنَا بِهِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: كِدْنَا صَنَعْنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَيْدَ إِلَى ضَمِيرِهِ، لَمَّا أَخْرَجَ الْقَدْرَ الَّذِي أَبَاحَ لِيُوسُفَ أَخَذَ أَخِيهِ مَخْرَجَ مَا هُوَ فِي اعْتِيَادِ النَّاسِ كَيْدٌ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي دِينِ الْمَلِكِ بِسُلْطَانِهِ، وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تَفْسِيرٌ لِلْكَيْدِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ، وَمَا كَانَ يَحْكُمُ بِهِ فِي السَّارِقِ أَنْ يَغْرَمَ مِثْلَيْ مَا أَخَذَ إِلَّا أَنْ يُلْزَمَ وَيُسْتَعْبَدَ. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالِاسْتِثْنَاءُ حِكَايَةٌ حَالَ

ص: 306

التَّقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ مَا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ:

لَكِنْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَخَذَهُ فِي دِينٍ غَيْرِ الْمَلِكِ، وَهُوَ دِينُ آلِ يَعْقُوبَ: أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ جَزَاءُ السَّارِقِ.

وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: نَرْفَعُ بِنُونٍ دَرَجَاتٍ مُنَوَّنًا مَنْ نَشَاءُ بِالنُّونِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَضَافُوا دَرَجَاتٍ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ فِي يَرْفَعُ، وَيَشَاءُ أَيْ: يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ رَفْعَ دَرَجَاتِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى الْبَصْرَةِ: نَرْفَعُ بِالنُّونِ دَرَجَاتٍ مُنَوَّنًا مَنْ يَشَاءُ بِالْيَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مَرْغُوبٌ عَنْهَا تِلَاوَةً وَجُمْلَةً، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِنْكَارُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَرْفَعُ عَلَى ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ وَكَذَلِكَ نَشَاءُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَيَعْقُوبُ: بِالْيَاءِ أَيْ: اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ فِي الْعِلْمِ كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَةَ يُوسُفَ فِيهِ. وعليم صِفَةُ مُبَالَغَةٍ. وَقَوْلُهُ: ذِي عِلْمٍ أَيْ: عَالِمٍ. فَالْمَعْنَى أَنَّ فَوْقَهُ أَرْفَعَ مِنْهُ دَرَجَةً فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وابن عباس. وعنه أَنَّ الْعَلِيمَ هُوَ اللَّهُ عز وجل. قِيلَ: رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ عَجِيبٍ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَ فَقَالَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، إِنَّمَا الْعَلِيمُ اللَّهُ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عَالِمٍ، فَخَرَجَتْ عَلَى زِيَادَةِ ذِي، أَوْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَالِمٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى عِلْمٍ كَالْبَاطِلِ، أَوْ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي شَخْصٍ عَالِمٌ.

رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عليه السلام لَمَّا رَأَوْا إِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ قالوا: يا بنيامين ابن رَاحِيلَ قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَلَدَتْ أُمُّكَ أَخَوَيْنِ لِصَّيْنِ، كَيْفَ سَرَقْتَ هَذِهِ السِّقَايَةَ؟ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ، فَقَالُوا: فَمَنْ وَضَعَهَا فِي رَحْلِكَ؟

قَالَ: الَّذِي وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: رُمُوا بِالسَّرِقَةِ تَوْرِيَةً عَمَّا جَرَى مَجْرَى السَّرِقَةِ مِنْ فِعْلِهِمْ بِيُوسُفَ. وَإِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، فَرْضٌ لِانْتِفَاءِ بَرَاءَتِهِمْ، وَفَرْضُ التَّكْذِيبِ لَا يَكُونُ تَكْذِيبًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِالتَّسْرِيقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ «1» وَالْكَيْدُ حُكْمُ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَصَالِحَ وَمَنَافِعَ دِينِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَيَتَخَلَّصُ مِنْ جِلْدِهَا وَلَا يَحْنَثُ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: هِيَ أُخْتِي لِتَسْلَمَ مِنْ يَدِ الْكَافِرِ. وَعَلِمَ اللَّهُ فِي هَذِهِ

(1) سورة يوسف: 12/ 17.

ص: 307

الْحِيلَةِ الَّتِي لَقَّنَهَا لِيُوسُفَ مَصَالِحَ عَظِيمَةً، فَجَعَلَهَا سَلَمًا وَذَرِيعَةً إِلَيْهَا، فَكَانَتْ حَسَنَةً جَمِيلَةً انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ سَرَقَ، بَلْ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ أَيْ: إِنْ كَانَ وَقَعَتْ مِنْهُ سَرِقَةٌ فَهُوَ يَتَأَسَّى مِمَّنْ سَرَقَ قَبْلَهُ، فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالتَّعْلِيقُ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ فِي حَقِّ بِنْيَامِينَ وَأَخِيهِ لَيْسَ مَجْزُومًا بِهَا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي رُمِيَ بِهِ بِنْيَامِينُ حَقًّا، فَالَّذِي رُمِيَ بِهِ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ حَقٌّ، لَكِنَّهُ قَوِيَ الظَّنُّ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ يُوسُفَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ جَرَى مِنْ بِنْيَامِينَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. وَقِيلَ: حَقَّقُوا السَّرِقَةَ فِي جَانِبِ بِنْيَامِينَ وَأَخِيهِ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ قَدْ سَرَقَ فَغَيْرَ بِدْعٍ مِنِ ابْنَيْ رَاحِيلَ، لِأَنَّ أَخَاهُ يُوسُفَ قَدْ كَانَ سَرَقَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُمْ إِنْحَاءً عَلَى يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَقَدْ قِيلَ عَنْ يُوسُفَ إِنَّهُ سَرَقَ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا هُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَالْإِخْبَارِ بِأَمْرٍ جَرَى لِتَزُولَ الْمَعَرَّةُ عَنْهُمْ، وَتَخْتَصَّ بِالشَّقِيقَيْنِ. وَتَنْكِيرُ أَخٍ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّ الْحَاضِرِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَقَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ كَانَ شَقِيقَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ الَّتِي نُسِبَتْ هِيَ أَنَّ عَمَّتَهُ رَبَّتْهُ وَشَبَّ، وَأَرَادَ يَعْقُوبُ أَخْذَهُ، فَأَشْفَقَتْ مِنْ فِرَاقِهِ فَأَخَذَتْ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ مُتَوَارَثَةً عِنْدَهُمْ، فَنَطَقَتْهُ بِهَا مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ ثُمَّ صَاحَتْ وَقَالَتْ: فَقَدْتُ الْمِنْطَقَةَ فَفَتَّشَتْ فَوُجِدَتْ عِنْدَ يُوسُفَ، فَاسْتَرَقَّتْهُ حَسْبَمَا كَانَ فِي شَرْعِهِمْ وَبَقِيَ عِنْدَهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَصَارَ عِنْدَ أَبِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَمَرَتْ أُمُّهُ أَنْ يَسْرِقَ صَنَمًا. وَفِي كِتَابِ الزَّجَّاجِ: مِنْ ذَهَبٍ لِأَبِيهَا فَسَرَقَهُ وَكَسَرَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ.

وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّمَا أَكَلَ بَنُو يَعْقُوبَ طَعَامًا، فَأَخَذَ يُوسُفُ عَرْقًا فَنَحَّاهُ. وَقِيلَ: كَانَ فِي الْبَيْتِ غَاقٌ أَوْ دَجَاجَةٌ، فَأَعْطَاهَا السَّائِلَ.

وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ، وَابْنُ أَبِي شُرَيْحٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرُهُمْ: فَقَدْ سُرِّقَ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا للفعول بِمَعْنَى نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ، بِمَعْنَى جُعِلَ سَارِقًا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ حَقِيقَةً. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّهَا يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ: الْحَزَازَةُ الَّتِي حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ كَمَا فَسَّرَهُ فِي قَوْلِ حَاتِمٍ:

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى

إِذَا حَشْرَجَتْ نَفْسٌ وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

وَقِيلَ: أَسَرَّ الْمُجَازَاةَ، وَقِيلَ: الْحُجَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اخْتَارَ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ تَفْسِيرَهُ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا جُمْلَةٌ أَوْ كَلِمَةٌ عَلَى تَسْمِيَتِهِمُ الطَّائِفَةَ مِنَ الْكَلَامِ كَلِمَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَسَرَّ الْجُمْلَةَ أَوِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ،

ص: 308

وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَأَسَرَّهُ بِضَمِيرِ تَذْكِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، خِطَابُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ، فَكَأَنَّهُ أَسَرَّ كَرَاهِيَةَ مَقَالَتِهِمْ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةٌ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَنْ يَشْفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى الشَّفَاعَةِ بِأَبِيهِ الشَّيْخِ يَعْقُوبَ عليه السلام. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ هَذَا الْكَلَامَ لَهُمْ مُوَاجَهَةً، إِنَّمَا قَالَهُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: الَّذِي أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ. وَمَعْنَى شَرٌّ مَكَانًا أَيْ منزلة في السرق، لِأَنَّكُمْ سَارِقُونَ بِالصِّحَّةِ لِسَرِقَتِكُمْ أَخَاكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ. وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ يَعْنِي: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَكَيْفَ كَانَتْ سَرِقَةُ أَخِيهِ الَّتِي أَحَلْتُمْ سَرِقَتَهُ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ أَنْ رُوبِيلَ غَضِبَ وَوَقَفَ شَعْرُهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ ثِيَابِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ ابْنًا لَهُ يَمَسُّهُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَقَالَ رُوبِيلُ: لَقَدْ مَسَّنِي أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِي مُحَارَبَةِ يُوسُفَ وَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ لَا يُدَانُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَحَسَّ يُوسُفَ بِذَلِكَ قَامَ إِلَى رُوبِيلَ فَلَبَّبَهُ وَصَرَعَهُ، فَرَأَوْا مِنْ قُوَّتِهِ مَا اسْتَعْظَمُوهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ.

قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ: اسْتَعْطَفُوا يُوسُفَ إِذْ كَانَ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ. وَمَعْنَى كَبِيرًا فِي السِّنِّ، أَوِ الْقَدْرِ. وَكَانُوا قَدْ أَعْلَمُوا يُوسُفَ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ قَدْ هَلَكَ، وَهَذَا شَقِيقُهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، وَخَاطَبُوهُ بِالْعَزِيزِ إِذْ كَانَ فِي تِلْكَ الْخُطَّةِ بِعَزْلِ قِطْفِيرَ، أَوْ مَوْتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى مَكَانَهُ أَيْ: بَدَلَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِرْهَانِ أَوِ الِاسْتِعْبَادِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: يُحْتَمَلُ قَوْلُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ حُرٍّ بِسَارِقٍ بَدَلَ مَنْ قَدْ أَحْكَمَتِ السُّنَّةُ رِقَّهُ، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَنَ يَقُولُ لِمَنْ يُكْرَهُ فِعْلُهُ:

اقْتُلْنِي وَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ وَلَكِنَّكَ تُبَالِغُ فِي اسْتِنْزَالِهِ، وَعَلَى هَذَا يَتَّجِهُ قَوْلُ يُوسُفَ: مَعَاذَ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنْ غَيْرِ جَائِزٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حَقِيقَةً، وَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ أَنْ يُرِيدُوا اسْتِرْقَاقَ حُرٍّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ الْجَمَّالَةِ، أَيْ:

خُذْ أَحَدَنَا حَتَّى يَنْصَرِفَ إِلَيْكَ صَاحِبُكَ. وَمَقْصِدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى أَبِيهِ وَيَعْرِفَ يَعْقُوبُ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَصَفُوهُ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ إِحْسَانِهِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، أَوْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْيَدِ إِنْ أَسْدَيْتَهَا إِلَيْنَا، وَهَذَا تأويل ابن إسحاق ومعاذ اللَّهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ عَلَى قَضِيَّةِ فَتْوَاكُمْ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِهِ وَاسْتِعْبَادُهُ. فَلَوْ أَخَذْنَا غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا فِي مَذْهَبِكُمْ، فَلِمَ تَطْلُبُونَ مَا

ص: 309

عَرَفْتُمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَبَاطِنُهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي وَأَوْحَى إِلَيَّ بِأَخْذِ بِنْيَامِينَ وَاحْتِبَاسِهِ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ مَصَالِحَ جَمَّةٍ عَلِمَهَا فِي ذَلِكَ. فَلَوْ أَخَذْتَ غَيْرَ مَنْ أَمَرَنِي بِأَخْذِهِ كُنْتُ ظَالِمًا وَعَامِلًا عَلَى خِلَافِ الْوَحْيِ. وَأَنْ نَأْخُذَ تَقْدِيرُهُ: مِنْ أَنْ نأخذ، وإذن جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ: إِنْ أَخَذْنَا بَدَلَهُ ظَلَمْنَا.

وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَيْأَسَهُمْ مِنْ حَمْلِهِ مَعَهُمْ: إِذَا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وَقُولُوا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ مِصْرَ يَدْعُو لَكَ أَنْ لَا تَمُوتَ حَتَّى تَرَى وَلَدَكَ يُوسُفَ، لِيَعْلَمَ أَنَّ فِي أَرْضِ مِصْرَ صِدِّيقِينَ مِثْلَهُ.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ: اسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، يَئِسَ وَاسْتَيْأَسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ نَحْوَ: سَخِرَ وَاسْتَسْخَرَ، وَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ زِيَادَةَ السِّينِ وَالتَّاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ قَالَ:

نَحْوَ مَا مَرَّ فِي اسْتَعْصَمَ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: اسْتَيْأَسُوا اسْتَفْعَلُوا، مِنْ أَيِسَ مَقْلُوبًا مِنْ يَئِسَ، وَدَلِيلُ الْقَلْبِ كَوْنُ يَاءِ أَيِسَ لَمْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَمَعْنَى خَلَصُوا نَجِيًّا: انْفَرَدُوا مِنْ غَيْرِهِمْ يُنَاجِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالنَّجِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، كَالْخَلِيطِ وَالْعَشِيرِ. وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّنَاجِي كَمَا قِيلَ: النَّجْوَى بِمَعْنَى التَّنَاجِي، وَهُوَ لَفْظٌ يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَهُ نَجْوًى وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، مُؤَنَّثًا أَوْ مُذَكَّرًا، فَهُوَ كَعَدْلٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْجِيَةٍ قَالَ لَبِيَدٌ:

وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الْأَفَاقَةِ عَالِيًا

كَعْبِي وَأَرْدَافُ الْمُلُوكِ شُهُودُ

وَقَالَ آخَرُ:

إِنِّي إِذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ وَيَقُولُ: قَوْمٌ نَجِيٌّ وَهُمْ نَجْوَى تَنْزِيلًا لِلْمَصْدَرِ مَنْزِلَةَ الْأَوْصَافِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ نَجِيٌّ مِنْ بَابِ هُمْ صَدِيقٌ، لِأَنَّهُ بِزِنَةِ الْمَصَادِرِ مَحْصُوًّا لِلتَّنَاجِي، يَنْظُرُونَ مَاذَا يَقُولُونَ لِأَبِيهِمْ فِي شَأْنِ أَخِيهِمْ لِهَذَا الَّذِي دَهَمَهُمْ مِنَ الْخَطْبِ فِيهِ، فاحتاجوا إلى التشاور. وكبيرهم أَيْ:

رَأْيًا وَتَدْبِيرًا وَعِلْمًا، وَهُوَ شَمْعُونُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوْ كَبِيرُهُمْ فِي السِّنِّ وَهُوَ رُوبِيلُ قَالَهُ:

ص: 310

قَتَادَةُ. وَقِيلَ: فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ يَهُوذَا. ذَكَّرَهُمُ الْمِيثَاقَ فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يحاط بكم، وما زَائِدَةٌ أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ هَذَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ. ومن قبل متعلق بفرطتم، وَقَدْ جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: وَمِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَهُوَ وَمِنْ قَبْلُ وَمَعْنَاهُ: وَوَقَعَ مِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ قبل، متعلقا بما فَرَّطْتُمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مَصْدَرِيَّةً، التَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ وَاقِعٌ وَمُسْتَقِرٌّ. وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ انْتَهَى. وَهَذَا وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ: إِنَّ مَا فَرَّطْتُمْ يُقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ بِالِابْتِدَاءِ، ومن قَبْلُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَذَهْلًا عَنْ قَاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَحَقَّ لَهُمَا أَنْ يَذْهَلَا وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ الَّتِي هِيَ غَايَاتٌ إِذَا ثَبَتَتْ لَا تَقَعُ أَخْبَارًا لِلْمُبْتَدَأِ جُرَّتْ أَوْ لَمْ تُجَرَّ، تَقُولُ: يَوْمُ السَّبْتِ مُبَارَكٌ وَالسَّفَرُ بَعْدَهُ، وَلَا يجوز والسفر بعد وعمرو زيد خلفه. ولا يقال: عمرو زيد خَلْفُ. وَعَلَى مَا ذَكَرَاهُ يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قَبْلُ خَبَرٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مَرْفُوعٌ بالابتداء، وفي يُوسُفَ هُوَ الْخَبَرُ أَيْ: كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ فِي يُوسُفَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي يُوسُفَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: فَرَّطْتُمْ، لَا أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ.

وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَصْدَرُ الْمَسْبُوكُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبِيكُمْ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ قَبْلُ وَتَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْرِيطُكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي يُوسُفَ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ، فَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَبِسَيْفِ عَمْرًا. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَفْرِيطُكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي يُوسُفَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ انْتَهَى. يَعْنِي بِالرَّفْعِ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ ومن قَبْلُ الْخَبَرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَيَعْنِي بِالنَّصْبِ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ، وَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ. وَأَحْسَنُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مَا بَدَأْنَا بِهِ مِنْ كَوْنِ مَا زَائِدَةً، وَبَرِحَ التَّامَّةُ تَكُونُ بِمَعْنَى ذَهَبَ وَبِمَعْنَى ظَهَرَ، وَمِنْهُ بَرِحَ الْخَفَاءُ أَيْ ظَهَرَ. وَذَهَبَ لَا يَنْتَصِبُ الظَّرْفُ الْمَكَانِيُّ الْمُخْتَصُّ بِهَا، إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي

ص: 311

فَاحْتِيجَ إِلَى اعْتِقَادِ تَضْمِينِ بَرِحَ بِمَعْنَى فَارَقَ، فَانْتَصَبَ الْأَرْضُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنِ اسْمِهَا، وَالْأَرْضُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الظَّرْفِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَّا بِحَرْفِ فِي. لَوْ قُلْتَ: زَيْدُ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ، وَعُنِيَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي فِيهَا الْوَاقِعَةُ، ثُمَّ غَيَّا ذَلِكَ بِغَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: خَاصَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، يَعْنِي فِي الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: عَامَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، لِأَنَّ إِذْنَ اللَّهِ لَهُ هُوَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ لَهُ فِي مُفَارَقَةِ أَرْضِ مِصْرَ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْغَايَةِ الْخَاصَّةِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَأَتَى بِغَايَةٍ عَامَّةٍ تَفْوِيضًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُجُوعًا إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ حَقِيقَةً، وَمَقْصُودُهُ التَّضْيِيقُ عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنَّهُ سَجَنَهَا فِي الْقُطْرِ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى سُخْطِ أَبِيهِ إِبْلَاءً لِعُذْرِهِ. وَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعُذْرِ كَالْمَوْتِ، وَخَلَاصِ أَخِيهِ، أَوِ انْتِصَافِهِ مِنْ أَخْذِ أَخِيهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِالسَّيْفِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. والظاهر أن أو يَحَكُمَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَأْذَنَ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ أَوْ فِي جَوَابِ النَّفْيِ، وَهُوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ: إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، كَقَوْلِكَ: لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي، وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ.

رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى يَعْقُوبَ أَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ فَبَكَى وَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا تَذْهَبُونَ عَنِّي مَرَّةً إِلَّا نَقَصْتُمْ، ذَهَبْتُمْ فَنَقَصَتُمْ شَمْعُونَ حَيْثُ ارْتُهِنَ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ بِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّجُوعِ هُوَ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

سَرَقَ ثُلَاثِيًّا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، إِخْبَارًا بِظَاهِرِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ سُرِّقَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَمْ يَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ ذَكَرُوا أَنَّهُ نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ. وَيَكُونُ مَعْنَى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنَ التَّسْرِيقِ. وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ أَيْ: لِلْأَمْرِ الْخَفِيِّ حَافِظِينَ، أَسَرَقَ بِالصِّحَّةِ أَمْ دُسَّ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ؟ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سَارِقٌ اسْمُ فَاعِلٍ، وَعَلَى قِرَاءَةِ سُرِّقَ وسارق اخْتَلَفَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَا عَلِمْنَا مِنْ سَرِقَتِهِ، وَتَيَقَّنَّا لِأَنَّ الصُّوَاعَ أُخْرِجَ مِنْ وِعَائِهِ، وَلَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ، وَقَوْلُنَا لَكَ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ عِنْدَكَ بِمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ مَا جَرَى، وَالْعِلْمُ فِي الْغَيْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ ذَلِكَ فِي حِفْظِنَا، هَذَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادُوا وَمَا شَهِدْنَا بِهِ عِنْدَ يُوسُفَ أَنَّ السَّارِقَ يَسْتَرِقُّ فِي شَرْعِكَ، إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ أَنَّ السَّرِقَةَ تَخْرُجُ مِنْ رَحْلِ أَحَدِنَا، بَلْ حَسِبْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ، فَشَهِدْنَا عِنْدَهُ حِينَ سَأَلَنَا بِعِلْمِنَا. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ

ص: 312

أَيْ: حِينَ وَاثَقْنَاكَ، إِنَّمَا قَصَدْنَا أَنْ لَا يَقَعَ مِنَّا نَحْنُ فِي جِهَتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلَمْ نَعْلَمِ الْغَيْبَ فِي أَنَّهُ سَيَأْتِي هُوَ بِمَا يُوجِبُ رِقَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ، وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ حِينَ أَعْطَيْنَاكَ الْمَوْثِقَ، أَوْ رُبَّمَا عَلِمْنَا أَنَّكَ تُصَابُ كَمَا أُصِبْتَ بيوسف. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ: لِلْغَيْبِ، لِلَّيْلِ وَالْغَيْبُ اللَّيْلُ بِلُغَةِ حِمْيَرٍ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا شَهِدْنَا إلا بما علمنا من ظَاهِرِ حَالِهِ، وَمَا كُنَّا بِاللَّيْلِ حَافِظِينَ لِمَا يَقَعُ مِنْ سَرِقَتِهِ هُوَ، أَوِ التَّدْلِيسِ عَلَيْهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: رَجَعُوا إِلَى أبيهم وأخبروه بِالْقِصَّةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: ارْجِعُوا ثُمَّ اسْتَشْهَدُوا بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا وَهِيَ مِصْرَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ: أَرْسِلْ إِلَى الْقَرْيَةِ وَاسْأَلْ عَنْ كُنْهِ الْقِصَّةِ. وَالْعِيرُ كَانُوا قَوْمًا مِنْ كَنْعَانَ مِنْ جِرَانِ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ أَهْلٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ، إِلَّا أَنْ أُرِيدَ بِالْعِيرِ الْقَافِلَةُ، فَلَا إِضْمَارَ فِي قَوْلِهِ وَالْعِيرَ. وَأَحَالُوا فِي تَوْضِيحِ الْقِصَّةِ عَلَى نَاسٍ حَاضِرِينَ الْحَالَ فَيَشْهَدُونَ بِمَا سَمِعُوا، وَعَلَى نَاسٍ غُيَّبٍ يُرْسَلُ إِلَيْهِمْ فَيَسْأَلُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أَحَالُوهُ عَلَى سُؤَالِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ حَقِيقَةً، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحَقِيقَةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَجَازٌ. وَحَكَى أَبُو الْمَعَالِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مِنَ الْحَذْفِ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَجَازُ لَفْظَةٌ اسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِ مَا هِيَ لَهُ قَالَ: وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عين المجاز، وعظمه هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ. وَحَكَى أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْ نَحْوُ هَذَا انْتَهَى. وَفِي الْمَحْصُولِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، وَفِي مُخْتَصَرَاتِهِ أَنَّ الْإِضْمَارَ وَالْمَجَازَ مُتَبَايِنَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا قِسْمًا من الآخر. وبل لِلْإِضْرَابِ، فَيَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا قَبْلَهَا حَتَّى يَصِحَّ الْإِضْرَابُ فِيهَا وَتَقْدِيرُهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً كَمَا أَخْبَرْتُمْ، بَلْ سَوَّلَتْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا، إِنَّمَا هُوَ ظَنُّ سُوءٍ بِهِمْ كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ قَبْلُ، فَاتَّفَقَ أَنْ صَدَقَ ظَنَّهُ هُنَاكَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا أَرَدْتُمُوهُ، وَإِلَّا فَمَا أَدْرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ أَنَّ السَّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ لَوْلَا فَتْوَاكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ سَوَّلَتْ، وَإِعْرَابُ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. ثُمَّ تَرَجَّى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ: يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَكَبِيرُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ. وَتَرَجَّى يَعْقُوبُ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ، فَكَانَ يَنْتَظِرُهَا وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَلِمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مَلِكِ مِصْرَ أَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَةِ ابْنِهِ، وَوَصْفُهُ اللَّهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لَائِقٌ بِمَا يُؤَخِّرُهُ تَعَالَى مِنْ لِقَاءِ بَنِيهِ، وَتَسْلِيمٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قالُوا

ص: 313

تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ كَرَاهَةً لما جاؤوا بِهِ، وَأَنَّهُ سَاءَ ظَنُّهُ بِهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْ قَوْلَهُمْ، وَجَعَلَ يَتَفَجَّعُ وَيَتَأَسَّفُ. قَالَ الْحَسَنُ: خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالِاسْتِرْجَاعِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يعقوب: يا أسفى، وَنَادَى الْأَسَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَلَى مَعْنَى: هَذَا زَمَانُكَ فَاحْضُرْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ قُلِبَتْ أَلِفًا، كَمَا قَالُوا: فِي يَا غُلَامِي يَا غُلَامًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى النُّدْبَةِ، وَحَذَفَ الْهَاءَ الَّتِي لِلسَّكْتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّجَانُسُ بين لفظتي الأسف ويوسف مِمَّا يَقَعُ مَطْبُوعًا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَيُمْلِحُ وَيُبْدِعُ، وَنَحْوُهُ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ انْتَهَى. وَيُسَمَّى هَذَا تَجْنِيسُ التَّصْرِيفِ، وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ. وَذَكَرَ يَعْقُوبُ مَا دَهَاهُ مِنْ أمر بنيامين، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يُوسُفَ، فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ بِخِلَافِ إِخْوَتِهِ. وَلِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُ الرَّزَايَا عِنْدَهُ، إِذْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ دَائِمًا يَذْكُرُهُ وَلَا يَنْسَاهُ. وَابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ مِنْ تَوَالِي الْعَبْرَةِ، فَيَنْقَلِبُ سَوَادُ الْعَيْنِ إِلَى بَيَاضٍ كَدِرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ عَمِيَ لِقَوْلِهِ: فَارْتَدَّ بَصِيرًا.

وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ «1» فَقَابَلَ الْبَصِيرَ بِالْأَعْمَى. وَقِيلَ: كَانَ يُدْرِكُ إِدْرَاكًا ضَعِيفًا، وَعَلَّلَ الِابْيِضَاضَ بِالْحُزْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْبُكَاءِ الْمُتَوَالِي، وَهُوَ ثَمَرَةُ الْحُزْنِ، فَعَلَّلَ بِالْأَصْلِ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُ الْبُكَاءُ وَهُوَ الْحُزْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَزَنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَقَتَادَةُ: بِضَمِّهَا، وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَالْكَظِيمُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِحَالِ يَعْقُوبَ أَيْ: شَدِيدُ الْكَظْمِ كَمَا قَالَ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «2» وَلَمْ يَشْكُ يَعْقُوبُ إِلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُمُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُمْسِكُ هَمَّهُ فِي صَدْرِهِ، فَكَانَ يَكْظِمُهُ أَيْ: يَرُدُّهُ إِلَى قَلْبِهِ وَلَا يُرْسِلُهُ بِالشَّكْوَى وَالْغَضَبِ وَالضَّجَرِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَهُ قَوْمٌ كَمَا قَالَ فِي يُونُسَ: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ «3» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَلِيءٌ بِحُزْنِهِ، فَكَأَنَّهُ كَظَمَ حُزْنَهُ فِي صَدْرِهِ. وَفَسَّرَ نَاسٌ الْكَظِيمَ بِالْمَكْرُوبِ وَبِالْمَكْمُودِ.

وَرُوِيَ: أَنَّهُ مَا جَفَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ فِرَاقِ يُوسُفَ إلى لقائه ثمانين

(1) سورة فاطر: 35/ 19.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 134. [.....]

(3)

سورة القلم: 68/ 48.

ص: 314

عَامًا، وَأَنَّ وَجْدَهُ عَلَيْهِ وَجْدُ سَبْعِينَ ثَكْلَى، وَأَجْرَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ كَظِيمٌ، فَهُوَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَلَا يُظْهِرُ مَا يسوؤهم انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لَا ينقاس، وجواب القسم تفتؤ حُذِفَتْ مِنْهُ، لَا لِأَنَّ حَذْفَهَا جَائِزٌ، وَالْمَعْنَى:

لَا تَزَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتُرُ مِنْ حُبِّهِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الْفُتُوءَ وَالْفُتُورَ أَخَوَيْنِ، وَالْحَرَضُ الَّذِي قَدَّرْنَا مَوْتُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا دُونَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَالِي الْهَرِمُ، وَقَالَ نَحْوَهُ: الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْفَاسِدُ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ. وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَفْنِيدِ الرَّأْيِ أَيْ: لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ إِلَى حَالِ الْقُرْبِ مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ إِلَى أَنْ تَهْلَكَ فَقَالَ هُوَ:

إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: لَا أَشْكُو إِلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، وَلَا غَيْرِكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: الْبَثُّ أَشَدُّ الْحُزْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ لَا يَطِيقُ حَمْلَهُ، فَيَبُثُّهُ أَيْ يَنْشُرُهُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى: وَحَزَنِي بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: بِضَمَّتَيْنِ. وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: أَعْلَمُ مِنْ صُنْعِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحُسْنِ ظَنِّي بِهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْفَرَجِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الرُّؤْيَا الْمُنْتَظَرَةِ، أَوْ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مَلِكِ مِصْرَ إِنِّي أَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَتِهِ ابْنَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ.

وَقِيلَ: رَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ فِي مَنَامِهِ فَسَأَلَهُ: هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ يُوسُفَ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَيٌّ فَاطْلُبْهُ.

اذْهَبُوا: أَمْرٌ بِالذَّهَابِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي جاؤوا مِنْهَا وَتَرَكُوا بِهَا أَخَوَيْهِمْ بِنْيَامِينَ وَالْمُقِيمَ بِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَسُّسِ وَهُوَ الِاسْتِقْصَاءُ، وَالطَّلَبُ بِالْحَوَاسِّ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ والشر. وقرىء: بِالْجِيمِ، كَالَّذِي فِي الْحُجُرَاتِ: وَلا تَجَسَّسُوا «1» وَالْمَعْنَى: فَتَحَسَّسُوا نَبَأً مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا لِأَنَّ الَّذِي أَقَامَ وَقَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ، إِنَّمَا أَقَامَ مُخْتَارًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَيْأَسُوا، وَفِرْقَةٌ: تَأَيْسُوا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: تئسوا بكسر التاء. وروح اللَّهِ رَحْمَتُهُ، وَفَرَجُهُ، وَتَنْفِيسُهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مِنْ رَوْحِ اللَّهِ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا تَيْأَسُوا مِنْ حَيٍّ مَعَهُ رُوحُ اللَّهِ الَّذِي وَهَبَهُ، فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ رُوحُهُ يُرْجَى. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَفِي غَيْرِ مَنْ قدورات الْأَرْضُ فَاطْمَعِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:

وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

(1) سورة الحجرات: 49/ 12.

ص: 315