الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا. وَقَالَ: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِلَى وَقْتٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ، أَوْ بَيَّنَّا مِقْدَارَهُ إِنْ آمَنْتُمْ، وَإِلَّا عَاجَلَكُمْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي طَرْفٍ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ «1» وَقِيلَ هُنَا: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعَذَابِ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا لَا فَضْلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَلَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْنَا، فَلِمَ تُخَصُّونَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَنَا؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى الْبَشَرِ رُسَلًا لَجَعَلَهُمْ مِنْ جِنْسٍ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِهِمُ اسْتِبْعَادُ بِعْثَةِ الْبَشَرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أَرَادُوا إِحَالَتَهُ، وَذَهَبُوا مَذْهَبَ الْبَرَاهِمَةِ، أَوْ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْأَجْنَاسَ لَا يَقَعُ فِيهَا هَذَا الْقِيَاسُ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَغْمَضُوا هَذَا الْإِغْمَاضَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُمْ حُجَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْهُمُ السُّلْطَانَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّعْجِيزِ أَيْ: بَعْثَتُكُمْ مُحَالٌ، وَإِلَّا فَأَتُوا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أَيْ: إِنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَتَقْوَى بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنَحَاهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ طَلَبَهُمُ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ وَقَدْ أَتَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، وَإِلَّا فَمَا أُتُوا بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ كَافٍ لِمَنِ اسْتَبْصَرَ، وَلَكِنَّهُمْ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مُمَاثِلُوهُمْ قَالُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَيْ:
لَيْسَ مَقْصُودُكُمْ إِلَّا أَنْ نَكُونَ لَكُمْ تَبَعًا، وَنَتْرُكُ مَا نَشَأْنَا عَلَيْهِ مِنْ دِينِ آبَائِنَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَنْ تَصُدُّونَا بِتَشْدِيدِ النُّونِ، جَعَلَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَدَّرَ فَصْلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنَّهُ تَصُدُّونَنَا، فَأَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَنْ الثُّنَائِيَّةَ الَّتِي تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ، لَكِنَّهُ هُنَا لَمْ يُعْمِلْهَا بَلْ أَلْغَاهَا، كَمَا أَلْغَاهَا مَنْ قَرَأَ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «2» بِرَفْعِ يُتِمُّ حَمَلًا عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ أختها.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
(1) سورة الأعراف: 7/ 34.
(2)
سورة البقرة: 2/ 233.
سَلَّمُوا لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُمَاثِلُونَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ، ونسبة ذلك إلى الله. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِمَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ، وَلَكِنْ أَبْرَزُوا ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَالْمَعْنَى: يَمُنُّ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَنْبِئَتَهُ. وَمَعْنَى بِإِذْنِ اللَّهِ: بِتَسْوِيغِهِ وَإِرَادَتِهِ، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا لَيْسَ لَنَا الْإِتْيَانُ بِهَا، وَلَا هِيَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَمَا كَانَ لَنَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. فَلْيَتَوَكَّلْ أَمْرٌ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَصَدُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا وَأَمَرُوهَا بِهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمِنْ حَقِّنَا أَنْ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مُعَانَدَتِكُمْ وَمُعَادَاتِكُمْ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْنَا مِنْكُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا لَنَا أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَاهُ: وَأَيُّ عُذْرٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا، فَعَلَ بِنَا مَا يُوجِبُ تَوَكُّلَنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ لِهِدَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا سَبِيلَهُ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ سُلُوكَهُ فِي الدِّينِ. وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لِاسْتِحْدَاثِ التَّوَكُّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّبَاتِ عَلَى ما استحدثوا من توكيلهم. وَلَنَصْبِرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ وَهُوَ الْأَذَى. وما مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي. وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا آذَيْتُمُونَاهُ وَكَانَ أَصْلُهُ بِهِ، فَهَلْ حُذِفَ بِهِ أَوِ الْبَاءِ فَوَصْلُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ قَوْلَانِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ فِي لِيَتَوَكَّلِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَقْسَمُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ، أَوْ عَوْدِهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ. وَتَقْدِيرُ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ فِي مَا بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَرْكِيبُ حَتَّى، وَلَا تَرْكِيبُ إِلَّا أَنْ مَعَ قَوْلِهِ: لَتَعُودُنَّ بِخِلَافِ لَأَلْزَمَنَّكَ، أَوْ تَقْضِيَّنِّي حَقِّي وَالْعَوْدُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ. أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَمَنْ آمَنُوا بِهِمْ. وَغَلَبَ حُكْمُ مَنْ آمَنُوا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَيَصِحُّ إِبْقَاءُ
لَتَعُودُّنَ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْهَا أَوَّلًا إِذْ سَبَقَ كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي مِلَّتِهِمْ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ سُكُوتَهُمْ عَنْهُمْ، وَكَوْنَهُمْ أَغْفَالًا عَنْهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَيُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلِيُسْكِنَنَّكُمْ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، إِذْ لَفْظُهُ لَفْظُ الْغَائِبِ. وَجَاءَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لَهُمْ بِالْخِطَابِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ. وَلَمَّا أَقْسَمُوا بِهِمْ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ وَالْعَوْدَةِ فِي مِلَّتِهِمْ، أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى إِهْلَاكِهِمْ. وَأَيُّ إِخْرَاجٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِهْلَاكِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَوْدَةٌ إِلَيْهَا أَبَدًا، وَعَلَى إِسْكَانِ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَرْضَ أُولَئِكَ الْمُقْسِمِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِذْ جَائِزٌ أَنْ يُؤْمِنَ مِنَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ قَالُوا الْمَقَالَةَ نَاسٌ، وَإِنَّمَا تَوَعَّدَ لِإِهْلَاكِ مَنْ خَلَصَ لِلظُّلْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى تَوْرِيثِ الْأَرْضِ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بَعْدَ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» . وَمَقَامٌ يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالْمَكَانَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَقَامِي مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قِيَامِي عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ لِأَعْمَالِهِ، وَمُرَاقَبَتِي إِيَّاهُ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكَانُ وُقُوفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ مَوْقِفُ اللَّهِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «4» وَعَلَى إِقْحَامِ الْمَقَامِ أَيْ لِمَنْ خَافَنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَاسْتَفْتَحُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ: أَيِ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «5» ويجوز أن يكون الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ، أَيِ: اسْتَحْكَمُوا اللَّهَ طَلَبُوا مِنْهُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ. وَاسْتِنْصَارُ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ كَقَوْلِ نُوحٍ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي «6» وَقَوْلِ لُوطٍ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ «7» وَقَوْلِ شُعَيْبٍ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «8» وَقَوْلِ مُوسَى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ «9» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنِ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: وَاسْتَفْتَحَ الكفار
(1) سورة لقمان: 31/ 13.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 128. [.....]
(3)
سورة الرعد: 13/ 33.
(4)
سورة الرحمن: 55/ 46.
(5)
سورة الأنفال: 8/ 19.
(6)
سورة الشعراء: 26/ 118.
(7)
سورة الشعراء: 26/ 169.
(8)
سورة الأعراف: 7/ 89.
(9)
سورة يونس: 10/ 88.
عَلَى نَحْوِ مَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «1» وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقَطَعَنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا قَوِيَ تَكْذِيبُهُمْ وَأَذَاهُمْ وَلَمْ يُعَاجَلُوا بِالْعُقُوبَةِ، ظنوا أن ما جاؤوا بِهِ بَاطِلٌ فَاسْتَفْتَحُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «2» وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً «3» وَعَادٍ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «4» وَبَعْضِ قُرَيْشٍ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «5» . وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ: الْأَنْبِيَاءِ، وَمُكَذِّبِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُلُّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يُنْصَرَ الْمُحِقُّ وَيُبْطَلَ الْمُبْطِلُ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الرُّسُلِ خَاصَّةً قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَاسْتَفْتِحُوا بِكَسْرِ التَّاءِ، أَمْرًا لِلرُّسُلِ مَعْطُوفًا عَلَى لَيُهْلِكَنَّ أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: لَيُهْلِكَنَّ، وَقَالَ لَهُمُ:
اسْتَفْتِحُوا أَيِ: اطْلُبُوا النَّصْرَ وَسَلُوهُ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ مَكَّةَ قَدِ اسْتَفْتَحُوا أَيِ اسْتَمْطَرُوا، وَالْفَتْحُ الْمَطَرُ فِي سِنِي الْقَحْطِ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ فَلَمْ يُسْقَوْا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ خَيَّبَ رَجَاءَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَأَنَّهُ يُسْقَى فِي جَهَنَّمَ بَدَلَ سُقْيَاهُ مَاءً آخَرَ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَاسْتَفْتَحُوا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ حَدِيثِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ انْتَهَى. وَخَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَنُصِرُوا وَظَفِرُوا. وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُمْ قَوْمُ الرُّسُلِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ جَبَّارٍ. وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ كَالْخَلِيطِ بِمَعْنَى الْمُخَالِطِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْكُفَّارِ، كَأَنَّ وَخَابَ عَطْفًا عَلَى وَاسْتَفْتَحُوا. وَمِنْ وَرَائِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً
…
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَهْرَبُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن وَرَائِهِ أَيْ وَمِنْ أَمَامِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَأَنْشَدَ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فيه
…
يكون وراء فَرَجٌ قَرِيبٌ
وَهَذَا وَصْفُ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِجَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى شَفِيرِهَا، أَوْ وَصْفُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُبْعَثُ وَيُوقَفُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي
…
وَقَوْمُ تميم والفلاة ورائيا
(1) سورة ص: 38/ 16.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 70.
(3)
سورة الشعراء: 26/ 187.
(4)
سورة الشعراء: 26/ 138.
(5)
سورة الأنفال: 8/ 32.
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
…
لُزُومُ العصا نحني عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَوَرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اسْمٌ لِمَا تَوَارَى عَنْكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَمَامَكَ أَمْ خَلْفَكَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى مِنْ خَلْفِهِ أَيْ: فِي طَلَبِهِ كَمَا تَقُولُ الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ أَيْ: سَوْفَ يَأْتِيكَ. وَيُسْقَى مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يُلْقَى فِيهَا وَيُسْقَى، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ. وَارْتِفَاعُ جَهَنَّمَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ حَقِيقَةِ الْمَاءِ. وَصَدِيدٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَاءٍ، كَمَا تَقُولُ:
هَذَا خَاتَمُ حَدِيدٍ وَلَيْسَ بِمَاءٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ بَدَلَ الْمَاءِ فِي الْعُرْفِ عِنْدَنَا يَعْنِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ مَاءٌ.
وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ عَلَى إِسْقَاطِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ أَسَدٍ التَّقْدِيرُ: مِثْلُ صَدِيدٍ.
فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ هُوَ نَفْسُ الصَّدِيدِ وَلَيْسَ بِمَاءٍ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ صَدِيدًا وَلَكِنَّهُ مَا يُشَبَّهُ بِالصَّدِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَدِيدٍ عَطْفُ بَيَانٍ لِمَاءٍ قَالَ: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ، فَأَبْهَمَهُ إِبْهَامًا، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صَدِيدٍ انْتَهَى. وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ عَطْفَ الْبَيَانِ فِي النَّكِرَاتِ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ، فَأَعْرَبَ زَيْتُونَةٍ «1» عطف بيان ل شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «2» فَعَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صَدِيدٍ، عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: صَدِيدٍ نَعْتٌ لِمَاءٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ: هُوَ غُسَالَةُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي. وَقِيلَ: صَدِيدٍ بِمَعْنَى مَصْدُودٍ عَنْهُ أَيْ: لِكَرَاهَتِهِ يُصَدُّ عَنْهُ، فَيَكُونُ مَأْخُوذًا عَنْهُ مِنَ الصَّدِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة عن الرسول قاله فِي قَوْلِهِ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ قَالَ: «يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، وَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ»
يَتَجَرَّعُهُ يَتَكَلَّفُ جَرْعَهُ.
وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ أَيْ: وَلَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْإِسَاغَةُ. وَالظَّاهِرُ هُنَا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ إِسَاغَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِذَا انْتَفَتِ انْتَفَتِ الْإِسَاغَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكَدْ يَراها «3» أَيْ لَمْ يَقْرُبُ مِنْ رُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا؟
وَالْحَدِيثُ: «جَاءَنَا ثُمَّ يَشْرَبُهُ»
فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ الْمَعْنَى:
وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَهُ ثُمَّ شَرِبَهُ، كَمَا جَاءَ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «4» أَيْ وَمَا
(1) سورة النور: 24/ 35.
(2)
سورة النور: 24/ 35. [.....]
(3)
سورة النور: 24/ 40.
(4)
سورة البقرة: 2/ 71.