المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

تُغَنِّيهِمْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، فَاسْتَعَادَ بَعْضُ خُلَصَائِهِ بَيْتَيْنِ مِنَ الْجَارِيَةِ كَانَتْ قَدْ غَنَّتْ بِهِمَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ جِيءَ بِرَأْسِ الْجَارِيَةِ مَقْطُوعًا فِي طَسْتٍ وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: اسْتَعِدِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ هَذَا الرَّأْسِ، فَسَقَطَ فِي يَدِ ذَلِكَ الْمُسْتَعِيدِ، وَمَرِضَ مُدَّةَ حَيَاةِ ذَلِكَ الملك.

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)

ص: 263

النِّسْوَةُ بِكَسْرِ النُّونِ فِعْلَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِلْقِلَّةِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النِّسْوَةُ اسْمٌ مُفْرَدٌ لِجَمْعِ الْمَرْأَةِ، وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِذَا لَمْ تَلْحَقْ فِعْلَهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ انْتَهَى. وَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لَا يُلْحِقُ التَّاءَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ: قَامَتِ الْهُنُودُ، وَقَامَ الْهُنُودُ. وَقَدْ تُضَمُّ نُونُهُ فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ اسْمُ جَمْعٍ، وَتَكْسِيرُهُ لِلْكَثْرَةِ عَلَى نِسْوَانٍ، وَالنِّسَاءُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِلْكَثْرَةِ أَيْضًا، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.

شَغَفَ: خَرَقَ الشَّغَافَ، وَهُوَ حِجَابُ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: سُوَيْدَاؤُهُ، وَقِيلَ: دَاءٌ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ فَيَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ. وَكَسْرُ الْغَيْنِ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقِيلَ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ يُقَالُ لَهَا لِسَانُ الْقَلْبِ، شَغَفَ وَصَلَتِ الْحِدَّةُ إِلَى الْقَلْبِ فَكَانَ يَحْتَرِقُ مِنْ شَغَفِ الْبَعِيرِ إِذَا هَنَّأَهُ فَأَحْرَقَهُ بِالْقَطْرَانِ، وَالْمَشْغُوفُ الَّذِي أَحْرَقَ الْحُبُّ قَلْبَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

يَعْصِي الْوُشَاةَ وَكَانَ الْحُبُّ آوِنَةً

مِمَّا يُزَيِّنُ لِلْمَشْغُوفِ مَا صَنَعَا

وَقَدْ تُكْسَرُ غَيْنُهُ. الْمُتَّكَأُ: الْوِسَادَةُ، وَالنَّمْرَقَةُ. الْمَتْكُ: الْأُتْرُجُّ، وَالْوَاحِدُ مُتْكَةٌ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لَهْيَ أَبِيهَا وَقِيلَ: اسْمٌ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ الْأُتْرُجَّ وَغَيْرَهُ من الفواكه. وقال:

يَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا

وَنَرَى الْمُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارًا

وَهُوَ مِنْ مُتْكٍ بِمَعْنَى بَتَكَ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: الْمُتْكُ بِالضَّمِّ عِنْدَ الْخَلِيلِ الْعَسَلُ، وَعِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ الْأُتْرُجُّ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالشَّرَابُ الْخَالِصُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، الْمُتْكُ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ الْخِلَالُ، وَقِيلَ: بَلِ

ص: 264

الْمِسْكُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: فِيهِ اللُّغَاتُ الثَّلَاثُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفَتْحِ الْمُجَمَّرِ عِنْدَ قُضَاعَةَ.

وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ يَكُونُ فِي اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ الْفَالُوذَ الْمُعَقَّدَ. وَقَالَ الْفَضْلُ: فِي اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ هُوَ الْبَزَمَاوَرْدُ، وَكُلُّ مَلْفُوفٍ بِلَحْمٍ وَرُقَاقٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُتْكُ بِالضَّمِّ الْمَائِدَةُ، أَوِ الْخَمْرُ فِي لُغَةِ كِنْدَةَ. السِّكِّينُ: تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ. وَلَمْ يَعْرِفِ الْأَصْمَعِيُّ فِيهِ إِلَّا التَّذْكِيرَ. حَاشَ: قَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُتِمُّهَا، وَفِي لُغَةِ الْحِجَازِ: حَاشَ لَكَ، وَبَعْضِ الْعَرَبِ: حَشَى زَيْدٌ كَأَنَّهُ أَرَادَ حَشَى لِزَيْدٍ، وَهِيَ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ انْتَهَى. وقال الزمخشري:

حاشى كَلِمَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّنْزِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، تَقُولُ: أَسَاءَ القوم حاشى زيد. قال:

حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ أَنَّ لَنَا

ضَنًّا عَنِ الْمِلْحَاةِ وَالشَّتْمِ

وَهِيَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَوُضِعَتْ مَوْضِعَ التَّنْزِيهِ وَالْبَرَاءَةِ، فَمَعْنَى حَاشَ اللَّهِ: بَرَاءَةُ اللَّهِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى التَّنْزِيهِ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَقَامَ الْقَوْمُ حَاشَى زَيْدٍ. وَلَمَّا مَثَّلَ بِقَوْلِهِ أَسَاءَ الْقَوْمُ حَاشَى زَيْدٌ، وَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ بَرَاءَةُ زَيْدٍ مِنَ الْإِسَاءَةِ، جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَأَمَّا مَا أَنْشَدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ، فَكَذَا يُنْشِدُهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ. وَهُوَ بَيْتٌ رَكَّبُوا فِيهِ صَدْرَ بَيْتٍ عَلَى عَجْزٍ آخَرَ، وَهُمَا مِنْ بَيْتَيْنِ وَهُمَا:

حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا

ثَوْبَانَ لَيْسَ بِبُكْمَةٍ فَدَمِ

عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ بِهِ

ضَنًّا عَنِ الْمِلْحَاةِ وَالشَّتْمِ

عَصْرُ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ أَخْرَجَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ بِقُوَّةٍ. الخبر: مَعْرُوفُ، وَجَمْعُهُ أَخْبَازٌ، وَمَعَانِيهِ خَبَّازٌ. الْبِضْعُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسَعِ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبِضْعُ لَا يَبْلُغُ الْعَقْدَ وَلَا نِصْفَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يُذْكَرُ الْبِضْعُ إِلَّا مَعَ الْعَشَرَاتِ، وَلَا يُذْكَرُ مَعَ مِائَةٍ وَلَا أَلْفٍ.

السِّمَنُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَصْدَرُ سَمِنَ يَسْمَنَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ سَمِينٌ، وَالْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. الْعَجْفَاءُ: الْمَهْذُولَةُ جِدًّا قَالَ:

وَرِجَالُ مَكَةَ مُسْتَنُّونَ عِجَافٌ الضِّغْثُ أَقَلُّ مِنَ الْحُزْمَةِ وَأَكْثَرُ مِنَ الْقَبْضَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْعُشْبِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ، مِنْ أَخْلَاطِ النَّبَاتِ وَالْعُشْبِ فَمِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَا

رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ

ص: 265

بِهِ «1» إِنَّهُ أَخَذَ عُثْكَالًا مِنَ النَّخْلِ.

وَرُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ نَحْوَ هَذَا فِي إِقَامَةِ حَدٍّ عَلَى رَجُلٍ.

وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

خود كان راشها وُضِعَتْ بِهِ

أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شِمَالِ

وَمِنَ الْأَخْلَاطِ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهَا: ضَغَثَ عَلَى إِمَالَةٍ.

وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: لَمْ تَلْحَقْ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرِ الْمُؤَنَّثِ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَنِسْوَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا جَمْعُ قِلَّةٍ. وَكُنَّ عَلَى مَا نُقِلَ خَمْسًا: امْرَأَةً خَبَّازَةً، وَامْرَأَةً سَاقِيَةً، وَامْرَأَةً بَوَّابَةً، وامرأة سبحانه، وَامْرَأَةَ صَاحِبِ دَوَابِّهِ فِي الْمَدِينَةِ هِيَ مِصْرُ. وَمَعْنَى فِي الْمَدِينَةِ: أَنَّهُمْ أَشَاعُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ حُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ، وَصَرَّحُوا بِإِضَافَتِهَا إِلَى الْعَزِيزِ مُبَالَغَةً فِي التَّشْنِيعِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَقْبَلُ لِسَمَاعِ ذَوِي الْأَخْطَارِ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ. وَعَبَّرَتْ بتراود وَهُوَ الْمُضَارِعُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهَا، تُخَادِعُهُ دَائِمًا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَلَمْ يَقُلْنَ: رَاوَدَتْ فَتَاهَا، ثُمَّ نَبَّهْنَ عَلَى عِلَّةِ دَيْمُومَةِ الْمُرَاوَدَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا أَيْ: بَلَغَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا. وَانْتَصَبَ حُبًّا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: مَلَأْتُ الْإِنَاءَ مَاءً، أَصْلُهُ مَلَأَ الْمَاءُ الْإِنَاءَ. وَأَصْلُ هَذَا شَغَفَهَا حُبُّهُ، وَالْفَتَى الْغُلَامُ وَعُرْفُهُ فِي الْمَمْلُوكِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي»

، وَقَدْ قِيلَ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ.

وَأَصْلُ الْفَتَى فِي اللُّغَةِ الشَّابُّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جُلُّ الْخِدْمَةِ شُبَّانًا اسْتُعِيرَ لَهُمُ اسْمُ الْفَتَى.

وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبَنَاتِيُّ: شَغَفَهَا بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ

، وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَابْنِ رَجَاءٍ كَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشغف في الحب، والشغف فِي الْبُغْضِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة فِي الْحُبِّ، وَالشَّغَفُ الْجُنُونُ، والمشغوف الْمَجْنُونُ. وَأَدْغَمَ النَّحْوِيَّانِ، وَحَمْزَةُ، وَهِشَامٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ دَالَّ قَدْ فِي شِينِ شَغَفَهَا. ثُمَّ نَقَمْنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَقُلْنَ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ:

فِي تحير واضح للناس.

(1) سورة ص: 38/ 44.

ص: 266

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ: رُوِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ النِّسْوَةِ إِنَّمَا قَصَدْنَ بِهَا الْمَكْرَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُغْضِبْنَهَا حَتَّى تَعْرِضَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفَ لِيَبِينَ عُذْرُهَا، أو يحق لومها ومكرهن هُوَ اغْتِيَابُهُنَّ إِيَّاهَا، وَسُوءُ مَقَالَتِهِنَّ فِيهَا أَنَّهَا عَشِقَتْ يُوسُفَ. وَسُمِّيَ الِاغْتِيَابُ مَكْرًا، لِأَنَّهُ فِي خُفْيَةٍ وَحَالِ غَيْبَةٍ، كَمَا يُخْفِي الْمَاكِرُ مَكْرَهُ. وَقِيلَ: كَانَتِ اسْتَكْتَمَتْهُنَّ سِرَّهَا فَأَفْشَيْنَهُ عَلَيْهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ لِيَحْضُرْنَ. قِيلَ: دَعَتْ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَاتُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى تِلْكَ النِّسْوَةِ الْقَائِلَةِ مَا قُلْنَ عَنْهَا.

وَأَعْتَدَتْ لهن متكئا أَيْ: يَسَّرْتَ وَهَيَّأْتَ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّمَارِقِ وَالْمَخَادِّ وَالْوَسَائِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ أُعِدَّ لِلْكَرَامَةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِكْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَهُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجِئْنَ وَاتَّكَأْنَ. وَمُتَّكَئًا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَعْتَدَتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُتَّكَئًا، كَمَا جَاءَتْ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَّكَئًا مَجْلِسًا، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ، وَيَكُونُ مُتَّكَئًا ظَرْفَ مَكَانٍ أَيْ: مَكَانًا يَتَّكِئْنَ فِيهِ. وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ تَكُونُ الْآلَاتُ الَّتِي يُتَّكَأُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

الْمُتَّكَأُ الطَّعَامُ يُحَزُّ حَزًّا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ أَكَلْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ عَبَّرَ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْآكِلُ الْمُتْرَفُ بِالْمُتَّكَأِ وَهِيَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى

قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا»

أَوْ كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُتَّكَأُ لَيْسَ مُعَبَّرًا بِهِ عَمَّا يُؤْكَلُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَيَكُونُ فِي جُمْلَةِ الطَّعَامِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ. فَقِيلَ: كَانَ لَحْمًا وَكَانُوا لَا يَنْهَشُونَ اللَّحْمَ، إِنَّمَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ حَزًّا بِالسَّكَاكِينِ.

وَقِيلَ: كَانَ أُتْرُجًّا، وَقِيلَ: كَانَ بَزْمَاوَرْدَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأُتْرُجِّ مَوْجُودٌ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ سُكَّرٍ وَلَوْزٍ وَأَخْلَاطٍ، وَمَضْمُونُهُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، وَعَادَةً مَنْ يَقْطَعُ شَيْئًا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ. قِيلَ: وَكَانَ قَصْدُهَا فِي بُرُوزِهِنَّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ مُتَّكِئَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ سَكَاكِينُ يَحْزُزْنَ بِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَهْشِهِنَّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَشَغْلِهِنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ، فَتَقَعُ أَيْدِيهِنَّ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فَيَقْطَعْنَهَا فَتُبَكِّتُهُنَّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرًا بِهِنَّ إِذْ ذَهَلْنَ عَمَّا أَصَابَهُنَّ مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا أَحْسَسْنَ بِهِ مَعَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ لِفَرْطِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِنَّ مِنِ اسْتِحْسَانِ يُوسُفَ وَسَلْبِهِ عُقُولَهُنَّ. وَالثَّانِي: التَّهْوِيلُ عَلَى يُوسُفَ بِمَكْرِهَا إِذَا خَرَجَ عَلَى نِسَاءٍ مُجْتَمِعَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ الْخَنَاجِرُ، تُوهِمُهُ أَنَّهُنَّ يَثِبْنَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ يَحْذَرُ مَكْرَهًا

ص: 267

دَائِمًا. وَلَعَلَّهُ يُجِيبُهَا إِلَى مُرَادِهَا عَلَى زَعْمِهَا ذَلِكَ، وَيُوسُفُ قَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا تُرِيدُهُ بِهِ مِنَ السُّوءِ.

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: مُتَّكِي مُشَدَّدُ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ بِوَزْنِ مُتَّقِي، فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاتِّكَاءِ، وَفِيهِ تَخْفِيفُ الْهَمْزِ كَمَا قَالُوا فِي تَوَضَّأْتُ تَوْضِئَةٌ. وَالثَّانِيَ: يَكُونُ مُفْتَعَلًا مِنْ أَوْكَيْتُ السِّقَاءَ إِذَا شَدَدْتُهُ أَيْ: مَا يَشْتَدِدْنَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِالِاتِّكَاءِ، وَإِمَّا بِالْقَطْعِ بِالسِّكِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: مُتَّكِئًا مفعلا من تكأ يتكأ إِذَا اتَّكَأَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: متكاء بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، وَهُوَ مُفْتَعَلٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَلِفُ كَمَا قَالُوا: وَمِنْ ذَمَّ الرِّجَالَ بِمُنْتَزَاحِ. وَقَالُوا:

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ

الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الْأَذْنَابِ

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَإِبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: متكئا بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتَنْوِينِ الْكَافِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُعَاذٌ، وَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الْمِيمَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُتْكٍ، وَمَتْكٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَتْ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، هَذَا الْخِطَابُ لِيُوسُفَ عليه السلام. وَخُرُوجُهُ يَدُلُّ عَلَى طَوَاعِيَتِهَا فِيمَا لَا يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ. وَمَعْنَى أَكْبَرْنَهُ:

أَعَظَمْنَهُ وَدَهِشْنَ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجَمَالِ الْفَائِقِ الرَّائِعِ.

قِيلَ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى نُجُومِ السَّمَاءِ.

وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُخْبِرَ بِلُقْيَا يُوسُفَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: «كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»

وَقِيلَ: كَانَ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مِصْرَ يُرَى تَلَأْلُؤُ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ، كَمَا يُرَى نُورُ الشَّمْسِ.

وَقِيلَ: كَانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ. وَقِيلَ: وَرِثَ الْجَمَالَ عَنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: مَعْنَاهُ حِضْنَ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ النِّسَاءِ حُجَّةً لِهَذَا التَّأْوِيلِ:

تَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا

تَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارَا

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْبَيْتُ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ، كَذَلِكَ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ عَبْدُ الصَّمَدِ مِنْ رُوَاةِ الْعِلْمِ رحمه الله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ: أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، وَحَقِيقَتُهُ مِنَ الْكِبَرِ لِأَنَّهَا بِالْحَيْضِ تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ إِلَى حَدِّ الْكِبَرِ، وَكَأَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ أَخَذَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلَهُ:

خَفِ اللَّهِ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ

فَإِنْ لُحْتَ حَاضَتْ فِي الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ

ص: 268

انْتَهَى. وَإِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ هَاءَ السَّكْتِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَاءَ السَّكْتِ، وَكَانَ مَنْ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، لَمْ يَضُمَّ الْهَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ فِي أَكْبَرْنَهُ عَلَى يُوسُفَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى حَاضَ، فَتَكُونُ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَكْبَرْنَ الْإِكْبَارَ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أَيْ جَرَحْنَهَا، كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي. وَالتَّضْعِيفُ لِلتَّكْثِيرِ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْقَاطِعَاتِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَكْثِيرِ الْحَزِّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. فَالْجُرْحُ كَأَنَّهُ وَقَعَ مِرَارًا فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَصَاحِبَتُهَا لا تشعر لما ذهلت بِمَا رَاعَهَا مِنْ جَمَالِ يُوسُفَ، فَكَأَنَّهَا غَابَتْ عَنْ حِسِّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْجَوَارِحُ الْمُسَمَّاةُ بِهَذَا الِاسْمِ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَيْدِي هُنَا الْأَكْمَامُ، وَلَمَّا فَعَلْنَ هَذَا الْفِعْلَ الصَّعْبَ مِنْ جَرْحِ أَيْدِيهِنَّ، وَغَلَبَ عَلَيْهِنَّ مَا رَأَيْنَ مِنْ يُوسُفَ وَحُسْنِهِ قُلْنَ: حَاشَ لِلَّهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَاشَ لِلَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الشِّينِ، ولله بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: حَاشَا لِلَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ: حَشَى عَلَى وَزْنِ رَمَى لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَاشَ بِسُكُونِ الشِّينِ وَصْلًا، وَوَقْفًا بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: حَاشَى اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ، وَعَنْهُمَا كَقِرَاءَةِ أبي عمر، وقاله صَاحِبُ الْلَوَامِحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَاشَ الْإِلَهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَحْذُوفًا مِنْ حَاشَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَرْفَ جَرٍّ يَجُرُّ مَا بَعْدَهُ. فَأَمَّا الْإِلَهُ فَإِنَّهُ فَكَّهُ عَنِ الْإِدْغَامِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ الْمَأْلُوهُ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ. قَالَ: وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ حَاشَ لِلتَّخْفِيفِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ الْلَوَامِحِ: مِنْ أَنَّ الْأَلِفَ فِي حَاشَى فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ مَحْذُوفَةٌ لَا تَتَعَيَّنُ، إِلَّا أَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقِفُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِسُكُونِ الشِّينِ، فَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، إِذِ الأصل حاشى الْإِلَهِ، ثُمَّ نُقِلَ فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ وَحَرَّكَ اللَّامَ بِحَرَكَتِهَا، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا التَّحْرِيكِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ، كَمَا تَنْحَذِفُ فِي يَخْشَى الْإِلَهَ. وَلَوِ اعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ لَمْ تُحْذَفِ الْأَلِفُ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ كَرَعْيًا لِلَّهِ، فَأَمَّا الْقِرَاآتُ لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ أَبِي السَّمَّالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَاشَى، أَوْ حَاشَ، أَوْ حَشَى، أَوْ حَاشْ حَرْفُ جَرٍّ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَدْخُلُ عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ، وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِمَا بِالْحَذْفِ، وَأَصْلُ التَّصَرُّفِ بِالْحَذْفِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْحُرُوفِ. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ كَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلِيَّتُهَا، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ أَيْ: حاشى يُوسُفَ أَنْ يُقَارِفَ مَا رَمَتْهُ بِهِ. وَمَعْنَى لِلَّهِ: لِطَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ لِمَكَانَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ لِتَرْفِيعِ اللَّهِ أَنْ يُرْمَى بِمَا رَمَتْهُ بِهِ، أَوْ

ص: 269

يُذْعِنَ إِلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ أَفْعَالُ الْبَشَرِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: جَانَبَ يُوسُفُ الْمَعْصِيَةَ لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ لِمَا ذَهَبَ قَبْلُ. وَذَهَبَ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ إِلَى أَنَّهَا اسْمٌ، وَانْتِصَابُهَا انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى اسْمِيَّتِهَا قِرَاءَةُ أَبِي السَّمَّالِ حَاشًا مُنَوَّنًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يتعلق الله بمحذوف على البيان كلك بَعْدَ سُقْيًا، وَلَمْ يُنَوَّنْ فِي الْقِرَاآتِ الْمَشْهُورَةِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِهِ الَّذِي نُقِلَ مِنْهُ وَهُوَ الْحَرْفُ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: مِنْ عَنْ يَمِينِهِ، فَجَعَلُوا عَنْ اسْمًا وَلَمْ يُعْرِبُوهُ؟

وَقَالُوا: مِنْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُثْبِتُوا أَلِفَهُ مَعَ الْمُضْمَرِ، بَلْ أَبْقُوا عَنْ عَلَى بِنَائِهِ، وَقَلَبُوا أَلِفَ عَلَى مَعَ الضَّمِيرِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِهَا؟ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِالْإِضَافَةِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى أَلِفِهِ كَمَا قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا قِرَاءَةُ أبي بن كعب وابن مَسْعُودٍ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّ حَاشَى حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ، كما قال الشاعر:

حاشى أَبِي ثَوْبَانَ انْتَهَى.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ حَاشْ بِالتَّسْكِينِ فَفِيهَا جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَقَدْ ضَعَّفُوا ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْعَجْزِ، وَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ جَمِيلٍ مِثْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حاشى لِلَّهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، فَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ. مَا هَذَا بَشَرًا لَمَّا كَانَ غَرِيبَ الْجَمَالِ فَائِقَ الْحُسْنِ عَمَّا عَلَيْهِ حُسْنُ صُوَرِ الْإِنْسَانِ، نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ، وَأَثْبَتْنَ لَهُ الْمَلَكِيَّةَ، لِمَا كَانَ مَرْكُوزًا فِي الطِّبَاعِ حُسْنُ الْمَلَكِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَى. وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ وَالْمُحَدِّثُونَ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ:

فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ

تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ:

قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً

حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا

وَانْتِصَابُ بَشَرًا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَا جَاءَ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ «1» وما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ الرَّفْعُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ عَلَى سَلِيقَتِهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَرَأَ بَشَرٌ بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الَحُوَيْرِثِ الْحَنَفِيُّ: مَا هَذَا بُشْرَى، قَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِمَبِيعٍ أَوْ

(1) سورة المجادلة: 58/ 2.

ص: 270

بِمُشْرًى أَيْ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُشْتَرَى وَيُبَاعُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ بِثَمَنٍ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَالشِّرَاءُ هُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ بِهِ.

وَتَابَعَهُمَا عبد الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو عَلَى ذَلِكَ، وَزَادَ عَلَيْهِمَا: إِلَّا مَلِكٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَاحِدُ الْمُلُوكِ، فَهُمْ نَفُوا بِذَلِكَ عَنْهُ ذُلَّ الْمَمَالِيكِ وَجَعَلُوهُ فِي حَيِّزِ الْمُلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَسْرَ اللَّامِ لِلْحَسَنِ وَأَبِي الْحُوَيْرِثِ اللَّذَيْنِ قَرَآ بُشْرَى قَالَ: لَمَّا اسْتَعْظَمْنَ حُسْنَ صُورَتِهِ قُلْنَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا بُشْرَى، إِنْ هَذَا إِلَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا كَرِيمًا. وقال الزمخشري: وقرىء مَا هَذَا بُشْرَى أَيْ: بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لَئِيمٍ، إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كريم. تَقُولُ: هَذَا بُشْرَى أَيْ حَاصِلُ بُشْرَى، بِمَعْنَى هَذَا مُشْتَرِي. وَتَقُولُ: هَذَا لَكَ بُشْرَى، أَيْ بِكْرًا. وَقَالَ: وَإِعْمَالُ مَا عَمَلَ لَيْسَ هِيَ اللُّغَةُ الْقُدْمَى الْحِجَازِيَّةُ، وَبِهَا وَرَدَ الْقُرْآنُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ الْقُدْمَى، لِأَنَّ الْكَثِيرَ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ إِنَّمَا هُوَ جَرُّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ، فَتَقُولُ: مَا زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا نَصْبُ الْخَبَرِ فَمِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ الْقَدِيمَةِ، حَتَّى أَنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يَجِدُوا شَاهِدًا عَلَى نَصْبِ الْخَبَرِ فِي أشعار الحجازيين غَيْرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ

تَصِلُ الْجُيُوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا

أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أباهم

حنقو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلَادُهَا

وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ سَامِعُ لُغَةٍ حَافِظٌ ثِقَةٌ: لَا يَكَادُ أَهْلُ الْحِجَازِ يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْبَاءِ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ النُّطْقُ بِالْبَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللُّغَةُ القدمى الحجازية، فَالْقُرْآنُ جَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ الْقُدْمَى وَغَيْرِهَا.

قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ. قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ: ذَا اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَاللَّامُ لِبُعْدِ الْمُشَارِ، وكن خِطَابٌ لِتِلْكَ النِّسْوَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَمَّا رَأَى دَهْشَهُنَ وَتَقْطِيعَ أَيْدِيهِنَّ بِالسَّكَاكِينِ وَقَوْلِهِنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا، بَعُدَ عَنْهُنَّ إِبْقَاءً عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ لَا تَزْدَادَ فِتْنَتُهُنَّ، وَفِي أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى حُسْنِهِنَّ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي لِلْبَعِيدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَشَارَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ لِلْبُعْدِ قَرِيبٌ بِلَفْظِ الْبَعِيدِ رَفْعًا لِمَنْزِلَتِهِ فِي الْحُسْنِ، وَاسْتِبْعَادًا لِمَحَلِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ بَعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَضَمَّنَ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ:

ص: 271

الَّذِي قَطَعْتُنَّ أَيْدِيَكُنَّ بِسَبَبِهِ وَأَكْبَرْتُنَّهُ وَقُلْتُنَّ فِيهِ مَا قُلْتُنَّ مِنْ نَفْيِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْمَلَكِيَّةِ لَهُ، هُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أَيْ: فِي مَحَبَّتِهِ وَشَغَفِي بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمَعْنَى بِقَوْلِهِنَّ: عَشِقَتْ عَبْدَهَا الْكَنْعَانِيَّ تَقُولُ: هَذَا ذَلِكَ الْعَبْدُ الْكَنْعَانِيُّ الَّذِي صَوَّرْتُنَّ فِي أَنْفُسِكُنَّ ثُمَّ لُمْتُنَّنِي فِيهِ، يَعْنِي: إِنَّكُنَّ لَوْ تُصَوِّرْنَهُ بِحَقٍّ صُورَتِهِ، وَلَوْ صَوَّرْتُنَّهُ بِمَا عَايَنْتُنَّ لَعَذَرْتُنَّنِي فِي الِافْتِتَانِ بِهِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حُبِّ يُوسُفَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحُبِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى غَائِبٍ عَلَى بَابِهِ انْتَهَى. ثُمَّ أَقَرَّتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لِلنِّسْوَةِ بِالْمُرَاوَدَةِ، وَاسْتَنَامَتْ إِلَيْهِنَّ في ذلك، إذا عَلِمَتْ أَنَّهُنَّ قَدْ عَذَرْنَهَا.

فَاسْتَعْصَمَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ طَلَبَ الْعِصْمَةَ، وَتَمَسَّكَ بِهَا وَعَصَانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالِاسْتِعْصَامُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ الْبَلِيغِ وَالتَّحَفُّظِ الشَّدِيدِ، كَأَنَّهُ فِي عِصْمَةٍ وَهُوَ يَجْتَهِدُ فِي الِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا، وَنَحْوَ: اسْتَمْسَكَ، وَاسْتَوْسَعَ، وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ، وَاسْتَفْحَلَ الْخَطْبُ. وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا كَانَ مِنْ يُوسُفَ عليه السلام لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَبُرْهَانٌ لَا شَيْءَ أَنْوَرُ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا أَضَافَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَشْوِ مِمَّا فَسَّرُوا بِهِ الْهَمَّ وَالْبُرْهَانَ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَ التَّصْرِيفِيُّونَ فِي اسْتَعْصَمَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِاعْتَصَمَ، فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافِقٌ لِافْتَعَلَ، وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ جَعْلِ اسْتَفْعَلَ فِيهِ لِلطَّلَبِ، لِأَنَّ اعْتَصَمَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اعْتِصَامِهِ، وَطَلَبَ الْعِصْمَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهَا. وَأَمَّا أَنَّهُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِصْمَةِ، فَلَمْ يَذْكُرِ التَّصْرِيفِيُّونَ هَذَا الْمَعْنَى لِاسْتَفْعَلَ. وَأَمَّا اسْتَمْسَكَ وَاسْتَوْسَعَ وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِافْتَعَلَ، وَالْمَعْنَى: امْتَسَكَ وَاتَّسَعَ وَاجْتَمَعَ الرَّأْيَ، وَأَمَّا اسْتَفْحَلَ الْخَطْبُ فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِتَفَعَّلَ أَيْ: تَفَحَّلَ الْخَطْبُ نَحْوَ: اسْتَكْبَرَ وَتَكَبَّرَ. ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَوَعَّدُهُ مُقْسِمَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَسْمَعُ قَوْلَهَا بِقَوْلِهَا: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي أَمْرُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ أَيْ: مَا آمُرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْجَارُّ، كَمَا حُذِفَ فِي أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ.

وَمَفْعُولُ آمُرُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ مَا آمُرُهُ بِهِ. وَإِنْ جَعَلْتَ مَا مَصْدَرِيَّةً جَازَ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى يُوسُفَ أَيْ: أَمْرِي إِيَّاهُ، وَمَعْنَاهُ: مُوجِبٌ أَمْرِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَلَيَكُونَنَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَكَتْبُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ مُرَاعَاةً لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى.

وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا

ص: 272

وَمِنَ الصَّاغِرِينَ: مِنَ الْأَذِلَّاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي ذَكَرَتْهُ فِي مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ فِي طَرَاوَةِ غَيْظِهَا وَمُتَنَصِّلَةً مِنْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ، فَنَاسَبَ هُنَاكَ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهَا فِي طَمَاعِيَةٍ وَرَجَاءٍ، وَأَقَامَتْ عُذْرَهَا عِنْدَ النِّسْوَةِ، فَرَقَتْ عَلَيْهِ، فَتَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ. وَقَالَ لَهُ النِّسْوَةُ: أَطِعْ وَافْعَلْ مَا أَمَرَتْكَ بِهِ، فَقَالَ:

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِنَّ لِمَا يَنْصَحْنَ لَهُ وَزَيَّنَّ لَهُ مُطَاوَعَتَهَا، وَنَهَيْنَهُ عَنْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي السِّجْنِ وَالصَّغَارِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ:

دُخُولُ السِّجْنِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَمَوْلَاهُ طَارِقٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَيَعْقُوبُ: السَّجْنُ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَ أَيْ: حَبْسُهُمْ إِيَّايَ فِي السجن أحب إليّ وأحب هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ مَا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هَذَانِ شَرَّانِ، فَآثَرَ أَحَدَ الشَّرَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَشَقَّةٌ وَفِي الْآخَرِ لَذَّةٌ، لَكِنْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ اللَّذَّةِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، لَمْ يَخْطُرْ لَهُ بِبَالٍ. وَلِمَا فِي الْآخِرِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ، وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ دَاعِيًا لَهُ فِي تَخْلِيصِهِ. آثَرَهُ ثُمَّ نَاطَ الْعِصْمَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلَّهِ كَعَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ.

فَقَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَيْ: أَمِلْ إِلَى مَا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. وَجَعَلَ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلَهُ: أَصْبُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُشْعِرَةٌ بِالْمَيْلِ فَقَطْ، لَا بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ. وقرىء أَصْبُ إِلَيْهِنَّ مِنْ صَبَبْتُ صبابة فَأَنَا صَبٌّ، وَالصَّبَابَةُ إِفْرَاطُ الشَّوْقِ، كَأَنَّهُ يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَى.

وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: أَصْبُ مِنْ صَبَا إِلَى اللَّهْوِ يَصْبُو صَبًا وَصَبْوًا، وَيُقَالُ: صَبَا يَصْبَا صَبًا، وَالصِّبَا بِالْكَسْرِ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ. وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ مِنَ الَّذِينَ يعملون بما، لِأَنَّ مَنْ لَا جَدْوَى لِعِلْمِهِ فَهُوَ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ سَوَاءٌ، أَوْ مِنَ السُّفَهَاءِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي مُوَافَقَةِ النِّسَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ سَفَاهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

أَحْدَى بِلَيْلِي وَمَا هَامَ الْفُؤَادُ بها

إلا السفاه والاذكرة حُلُمًا

وَذَكَرَ اسْتِجَابَةَ اللَّهِ لَهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظُ دُعَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي، فِيهِ مَعْنَى طَلَبِ الصَّرْفِ وَالدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ أَيْ: حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِدُعَاءِ الْمُلْتَجِئِينَ إِلَيْهِ، الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ

ص: 273

نِيَّاتُهُمْ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ، وَالْفَاعِلُ لبدا ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: بَدَا لَهُمْ هُوَ أَيْ رَأَى أَوْ بَدَا. كَمَا قَالَ:

بَدَا لَكَ مِنْ تِلْكَ الْقَلُوصِ بَدَاءُ هَكَذَا قَالَهُ النُّحَاةُ وَالْمُفَسِّرُونَ، إِلَّا مَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فَاعِلَةً، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيَسْجُنُنَّهُ فِي مَوْضِعِ الفاعل لبدا أَيْ: سَجَنَهُ حَتَّى حِينٍ، وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى السِّجْنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَيُسْجَنَنَّ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: السِّجْنُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى السَّجْنُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ السِّينَ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِلْعَزِيزِ وأهله، والآيات هِيَ: الشَّوَاهِدُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: قَدُّ الْقَمِيصِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ طِفْلًا فَهِيَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالْعَادَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، وَجَمْعُهَا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أُمُورٍ وَاضِحَةٍ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْآيَاتُ الَّتِي رَأَوْهَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى جَمِيعِهَا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ رَأَوْا قَوْلَ الشَّاهِدِ. وَقَدَّ الْقَمِيصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ خَمْشُ وَجْهِهَا، وَالسُّدِّيُّ مِنْ حَزِّ أَيْدِيهِنَّ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ فلا يكون آية. وليسجننه جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْقَسَمُ وَجَوَابُهُ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَتَسْجُنُنَّهُ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ بَعْضِهِمُ الْعَزِيزَ وَمَنْ يَلِيهِ، أَوِ الْعَزِيزَ وَحْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَتَّى بِإِبْدَالِ حَاءِ حَتَّى عَيْنًا، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَأَقْرَأَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إليه يأمره أن يقرىء بِلُغَةِ قُرَيْشٍ حَتَّى لَا بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَى زَمَانٍ. وَالْحِينُ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَمَنْ عَيَّنَ لَهُ هُنَا زَمَانًا فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مُدَّةِ سِجْنِ يُوسُفَ، لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا اقْتَرَحَتْ زَمَانًا حَتَّى تُبْصِرَ مَا يَكُونُ مِنْهُ. وَفِي سَجْنِهِمْ لِيُوسُفَ دَلِيلٌ عَلَى مَكِيدَةِ النِّسَاءِ، وَاسْتِنْزَالُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَمُطَاوَعَتِهِ لَهَا، وَعِشْقِهِ لَهَا، وَجَعْلِهِ زِمَامَ أَمْرِهِ بِيَدِهَا، هَذَا مَعَ ظُهُورِ خِيَانَتِهَا وَبَرَاءَةِ يُوسُفَ.

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ يُوسُفُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَيَئِسَتْ مِنْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ الْعِبْرَانِيَّ قَدْ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ وَيَصِفُ الْأَمْرَ بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ، وَأَنَا مَحْبُوسَةٌ مَحْجُوبَةٌ، فَإِمَّا أَذِنْتَ لِي فَخَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرْتُ وَكَذَّبْتُهُ، وَإِلَّا حَبَسْتَهُ كَمَا أَنَا مَحْبُوسَةٌ، فَحِينَئِذٍ بَدَا لَهُمْ سَجْنُهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَمَرَ بِهِ فَحُمِلَ عَلَى حِمَارٍ، وَضُرِبَ بِالطَّبْلِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ أَنَّ يُوسُفَ الْعِبْرَانِيَّ أَرَادَ سَيِّدَتَهُ، فَهَذَا جَزَاؤُهُ أَنْ يُسْجَنَ.

قَالَ أَبُو صَالِحٍ: مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا بَكَى.

ص: 274

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَجَنُوهُ، فَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ غُلَامَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا لِلْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الْوَلِيدِ بْنِ الرَّيَّانِ، أَحَدُهُمَا خَبَّازُهُ، وَالْآخَرُ سَاقِيهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ اتَّهَمَهُمَا بِأَنَّ الْخَابِزَ مِنْهُمَا أَرَادَ سَمَّهُ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّاقِي، فَسَجَنَهُمَا قَالَهُ: السُّدِّيُّ. وَمَعَ تَدُلُّ عَلَى الصُّحْبَةِ وَاسْتِحْدَاثِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَجَنُوا الثَّلَاثَةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَلَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ السِّجْنَ اسْتَمَالَ النَّاسَ بِحُسْنِ حَدِيثِهِ وَفَضْلِهِ وَنُبْلِهِ، وَكَانَ يُسَلِّي حَزِينَهُمْ، وَيَعُودُ مَرِيضَهُمْ، وَيَسْأَلُ لِفَقِيرِهِمْ، وَيَنْدُبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ، فَأَحَبَّهُ الْفَتَيَانِ وَلَزِمَاهُ، وَأَحَبَّهُ صَاحِبُ السِّجْنِ وَالْقَيِّمُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْ فِي أَيِّ الْبُيُوتِ شِئْتَ فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: لَا تُحِبَّنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلَقَدْ أَدْخَلَتْ عَلَيَّ الْمَحَبَّةُ مَضَرَّاتٍ، أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهَا، وَأَحَبَّنِي أَبِي فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهِ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهَا بِمَا تَرَى. وَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام قَدْ قَالَ لِأَهْلِ السِّجْنِ: إِنِّي أَعْبُرُ الرُّؤْيَا وَأُجِيدُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْفَتَيَيْنِ قَالَا لَهُ: إِنَّا لَنُحِبُّكَ مِنْ حِينِ رَأَيْنَاكَ فَقَالَ:

أُنْشُدُكُمَا اللَّهَ أَنْ لَا تُحِبَّانِي

، وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ.

وَعَنْ قَتَادَةَ: كَانَ فِي السِّجْنِ نَاسٌ قَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَطَالَ حُزْنُهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: اصْبِرُوا وَابْشِرُوا تُؤْجَرُوا إِنَّ لِهَذَا لَأَجْرًا فَقَالُوا: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ، وَمَا أَحْسَنَ خُلُقَكَ! لَقَدْ بُورِكَ لَنَا فِي جِوَارِكَ فَمَنْ أَنْتَ يَا فَتَى؟

قَالَ يُوسُفُ: ابْنُ صَفِّي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق ابن خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ لَهُ عَامِلُ السِّجْنِ: لَوِ اسْتَطَعْتُ خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ.

وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي لِلْفَتَيَيْنِ قَالَ مُجَاهِدٌ: رَأَيَا ذَلِكَ حَقِيقَةً فأرادا سُؤَالَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ: اسْتَعْمَلَاهَا لِيُجَرِّبَاهُ. وَالَّذِي رَأَى عَصْرَ الْخَمْرِ اسْمُهُ بُنُو قَالَ: رَأَيْتُ حَبْلَةً مِنْ كَرْمٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَغْصَانٍ حِسَانٍ، فِيهَا عَنَاقِيدُ عِنَبٍ حِسَانٌ، فَكُنْتُ أَعْصِرُهَا وَأَسْقِي الْمَلِكَ. وَالَّذِي رَأَى الْخُبْزَ اسْمُهُ مُلْحَبُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَطْبَخَةِ الْمَلِكِ وَعَلَى رَأْسِي ثَلَاثُ سِلَالٍ فِيهَا خُبْزٌ، وَالطَّيْرُ تَأْكُلُ مِنْ أعلاه، ورأى الْحُلْمِيَّةُ جَرَتْ مَجْرَى أَفْعَالِ الْقُلُوبِ فِي جَوَازِ كَوْنِ فَاعِلِهَا وَمَفْعُولِهَا ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ المعنى، فأراني فِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنُّ، وَقَدْ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ رَافِعٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَكِلَاهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اضْرِبْنِي وَلَا أَكْرِمْنِي. وَسُمِّيَ الْعِنَبُ خَمْرًا بِاعْتِبَارِ ما يؤول إِلَيْهِ. وَقِيلَ:

الْخَمْرُ بِلُغَةِ غَسَّانَ اسْمُ الْعِنَبِ. وَقِيلَ: فِي لُغَةِ أَزْدِ عُمَانَ. وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ: لَقِيتُ أَعْرَابِيًّا يَحْمِلُ عِنَبًا فِي وِعَاءٍ فَقُلْتُ: مَا تَحْمِلُ؟ قَالَ: خَمْرًا، أَرَادَ الْعِنَبَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ:

ص: 275

أَعْصِرُ عِنَبًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَلِلثَّابِتِ عَنْهُمَا بِالتَّوَاتُرِ قِرَاءَتُهُمَا أَعْصِرُ خَمْرًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْخَمْرِ بِأَنَّهَا مَعْصُورَةٌ، إِذِ الْعَصْرُ لَهَا وَمِنْ أَجْلِهَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: فَوْقَ رَأْسِي ثَرِيدًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي تَأْوِيلِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا قَصَا عَلَيْهِ، أُجْرِيَ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّهُمَا رَأَيَا مِنْهُ مَا عَلِمَا بِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي حَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِ السِّجْنِ وَإِجْمَالِهِ مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَرَادَا إِخْبَارَهُ أَنَّهُمَا يَرَيَانِ لَهُ إِحْسَانًا عَلَيْهِمَا وَيَدًا، إِذَا تَأَوَّلَ لَهُمَا مَا رَأَيَاهُ.

قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا اسْتَعْدَاهُ وَوَصَفَاهُ بِالْإِحْسَانِ افْتَرَضَ ذَلِكَ، فَوَصَفَ يُوسُفُ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ فَوْقَ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّهُ يُنْبِئُهُمَا بِمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمَا مِنَ الطَّعَامِ فِي السِّجْنِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمَا، وَيَصِفُهُ لَهُمَا وَيَقُولَ: الْيَوْمَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَجِدَانِهِ كَمَا أَخْبَرَهُمَا، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ تَخْلِيصًا إِلَى أَنْ يَذْكُرَ لَهُمَا التَّوْحِيدَ، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِمَا الْإِيمَانَ وَيُزَيِّنَهُ لَهُمَا، وَيُقَبِّحَ لَهُمَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يَسْلُكَهَا مَعَ الْجُهَّالِ وَالْفَسَقَةِ إِذَا اسْتَفْتَاهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِرْشَادَ وَالْمَوْعِظَةَ وَالنَّصِيحَةَ أَوَّلًا، وَيَدْعُوهُ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِمَّا اسْتَفْتَى فِيهِ، ثُمَّ يُفْتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا جُهِلَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْعِلْمِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَغَرَضُهُ أَنْ يُقْتَبَسَ مِنْهُ، وَيُنْتَفَعَ بِهِ فِي الدِّينِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِبَيَانِ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الْمُشْكَلِ وَالْإِعْرَابَ عَنْ مُعَايَنَةٍ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ الطَّعَامِ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَرَادَ يُوسُفُ لَا يَأْتِيكُمَا فِي الْيَقَظَةِ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا منه بعلم، وبما يؤول إليه أمر كما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا، فَعَلَى هَذَا أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مُغَيَّبَاتٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا، وَهَذَا عَلَى ما روي أنه نبىء فِي السِّجْنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا عَلِمَ مِنْ تَعْبِيرِ مَنَامِهِ رَأَى الْخُبْزَ أَنَّهَا تُؤْذَنُ بِقَتْلِهِ، أَخَذَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ تَنْسِيَةً لَهُمَا أَمْرَ الْمَنَامِ، وَطَمَاعِيَةً فِي إِيمَانِهِمَا، لِيَأْخُذَ الْمَقْتُولُ بِحَظِّهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَسْلَمَ لَهُ آخِرَتُهُ فَقَالَ لَهُمَا مُعْلِنًا بِعَظِيمِ عِلْمِهِ لِلتَّعْبِيرِ: إِنَّهُ لَا يَجِيئُكُمَا طَعَامٌ فِي يَوْمِكُمَا تَرَيَانِ

ص: 276

أَنَّكُمَا رُزِقْتُمَاهُ إِلَّا أَعْلَمْتُكُمَا بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَيْ: بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الْيَقَظَةِ، قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أُعْلِمُكُمَا بِهِ.

فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ مَا تَدَّعِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَأَنْتَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ؟ فَقَالَ لَهُمَا: ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:

لَا يَأْتِيكُمَا إِلَى آخِرِهِ، أَنَّهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ نَبِيًّا يُوحَى إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنِّي تَرَكْتُ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَا قَدْ أَحَبَّاهُ وَكَلِفَا بِحُبِّهِ وَبِحُسْنِ أَخْلَاقِهِ، لِيُعْلِمَهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمَا فَيَتْبَعَاهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خير لك من حمر النِّعَمِ»

وَعَبَّرَ بِتَرَكْتُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَشَبَّثْ بِتِلْكَ الْمِلَّةِ قَطُّ، إِجْرَاءٌ لِلتَّرْكِ مَجْرَى التَّجَنُّبِ مِنْ أَوَّلِ حَالَةٍ، وَاسْتِجْلَابًا لَهُمَا لِأَنْ يَتْرُكَا تِلْكَ الْمِلَّةِ الَّتِي كَانَا فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنِّي تَرَكْتُ تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: عَلَّمَنِي ذَلِكَ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَفَضْتُ مِلَّةَ أُولَئِكَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ أَهْلُ مِصْرَ، وَمَنْ كَانَ الْفَتَيَانُ عَلَى دِينِهِمْ. وَنَبَّهَ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ وَهُمَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِدَارِ الْجَزَاءِ، وَكَرَّرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَحُسْنِ ذَلِكَ الْفَصْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَكْرِيرُهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خُصُوصًا كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا. وَلِتَوْكِيدِ كُفْرِهِمْ بِالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا إِلَّا مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِدَارِ الْجَزَاءِ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ عِنْدَنَا هُمْ تَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبَاقِي أَلْفَاظِهِ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَفَضَ مِلَّةَ أُولَئِكَ ذَكَرَ اتِّبَاعَهُ مِلَّةَ آبَائِهِ لِيُرِيَهُمَا أَنَّهُ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمَا أَنَّهُ نَبِيٌّ، بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ لِتَقْوَى رَغْبَتُهُمَا فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: آبَائِي بِإِسْكَانِ الياء، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. مَا كَانَ لَنَا مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ عُمُومٌ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ وَالْإِنْسِيِّ، فَكَيْفَ بِالصَّنَمِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ؟ فَشَيْءٌ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرَكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَيْ: مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِشْرَاكِ، فَيَعُمُّ الْإِشْرَاكُ، وَيَلْزَمُ عُمُومُ مُتَعَلِّقَاتِهِ. ومن زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، إِذِ الْمَعْنَى: مَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَيْ: ذَلِكَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ الْحَنِيفِيُّ الَّذِي انْتَفَى فِيهِ الإشراك بالله، مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَيْ: عَلَى الرُّسُلِ، إِذْ خُصُّوا بِأَنْ كَانُوا وَسَائِطَ بين الله وعباده. وعلى النَّاسِ أَيْ: عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، إِذْ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّجَاةِ حَيْثُ أَرْشَدُوهُمْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ:

لَا يَشْكُرُونَ أَيْ: لَا يَشْكُرُونَ فَضْلَ اللَّهِ فَيُشْرِكُونَ وَلَا يَنْتَبِهُونَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُ نَصَبَ لَنَا الْأَدِلَّةَ الَّتِي نَنْظُرُ فِيهَا وَنَسْتَدِلُّ بِهَا، وَقَدْ نَصَبَ مِثْلَ ذَلِكَ لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ

ص: 277

غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ وَلَا يَشْكُرُونَ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَيَبْقُونَ كافرين غير شاكرين.

يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ تَلَطَّفَ فِي حُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُ الْفَتَيَيْنِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَنَادَاهُمَا بَاسِمِ الصُّحْبَةِ فِي الْمَكَانِ الشَّاقِّ الَّذِي تَخْلُصُ فِيهِ الْمَوَدَّةُ وَتَتَمَخَّضُ فِيهِ النَّصِيحَةُ.

وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: يا صاحبي السِّجْنِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ، وَالْمَعْنَى:

يَا صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى شِبْهِ الْمَفْعُولِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا سَاكِنَيِ السِّجْنِ، كَقَوْلِهِ أَصْحابُ النَّارِ «1» وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ «2» ثُمَّ أَوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ مِلَّةِ قَوْمِهِمَا بِقَوْلِهِ: أَأَرْبَابٌ، فَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى لَا تَنْفِرَ طِبَاعُهُمَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ بِالدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ. وَهَكَذَا الْوَجْهُ فِي مُحَاجَّةِ الْجَاهِلِ أَنْ يُؤْخَذَ بِدَرَجَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الِاحْتِجَاجِ يَقْبَلُهَا، فَإِذَا قَبِلَهَا لَزِمَتْهُ عَنْهَا دَرَجَةٌ أُخْرَى فَوْقَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الْإِذْعَانِ بِالْحَقِّ. وَقَابَلَ تَفَرُّقَ أَرْبَابِهِمْ بِالْوَاحِدِ، وَجَاءَ بِصِفَةِ الْقَهَّارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي مَعْنَاهُ الْغَلَبَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، وَإِعْلَامًا بِعُرُوِّ أَصْنَامِهِمْ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا الْمُتَّصِفُ بِهِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ جَمَادٌ. وَالْمَعْنَى:

أَعِبَادَةُ أَرْبَابٍ مُتَكَاثِرَةٍ فِي الْعَدَدِ خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ وَاحِدٍ قَهَّارٍ وَهُوَ اللَّهُ؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَاقِلِ يَرَى خَيْرِيَّةَ عِبَادَتِهِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى إِخْبَارٍ عَنْ حَقِيقَةِ مَا يَعْبُدُونَ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ:

مَا تَعْبُدُونَ، لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا مِنْ أَهْلٍ. وَمَعْنَى إِلَّا أَسْمَاءً: أَيْ أَلْفَاظًا أَحْدَثْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فَهِيَ فَارِغَةٌ لَا مُسَمَّيَاتِ تَحْتَهَا، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَعْرَافِ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَا الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَةِ وَالدِّينِ إِلَّا لِلَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ مَا حَكَمَ بِهِ فَقَالَ أَمَرَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. وَمَعْنَى الْقَيِّمُ: الثَّابِتُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ. لَا يَعْلَمُونَ بِجَهَالَاتِهِمْ وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ.

يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ

(1) سورة الحشر: 59/ 20.

(2)

سورة الحشر: 59/ 20.

ص: 278

فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ: لَمَّا أَلْقَى إِلَيْهِمَا مَا كَانَ أَهَمُّ وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمَا، نَادَاهُمَا ثَانِيًا لِتَجْتَمِعَ أَنْفُسُهُمَا لِسَمَاعِ الْجَوَابِ،

فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لِبُنُو: أَمَّا أَنْتَ فَتَعُودُ إِلَى مَرْتَبَتِكَ وَسِقَايَةَ رَبِّكَ، وَمَا رَأَيْتَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَحُسْنِهَا هُوَ الْمَلِكُ وَحُسْنُ حَالِكَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْقُضْبَانُ الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَمْضِي فِي السَّجْنِ ثُمَّ تَخْرُجُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ لِمُلَحِّبَ: أَمَّا أَنْتَ فَمَا رَأَيْتَ مِنَ السُّلَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُصْلَبُ، فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَحَالَمْنَا لِنُجَرِّبَكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا الَّذِي حَدَّثَهُ بِالصَّلْبِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا رَأَيَا ثُمَّ أَنْكَرَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَسْقِي رَبَّهُ مِنْ سَقَى، وَفِرْقَةٌ: فَيُسْقِي مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ بمعنى واحد. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: نَسْقِيكُمْ وَنُسْقِيكُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ سَقَاهُ نَاوَلَهُ لِيَشْرَبَ، وَأَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ سُقْيًا. وَنُسِبَ ضَمُّ الْفَاءِ لِعِكْرِمَةَ وَالْجَحْدَرِيِّ، وَمَعْنَى رَبَّهُ.

سَيِّدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَيُسْقَى رَبُّهُ خَمْرًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ مَا يَرْوِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَيُسْقَى رَبُّهُ، فَيُسْقَى مَا يُرْوَى بِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمَا يُوسُفُ عليه السلام عَنْ غَيْبِ عِلْمِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ قُضِيَ وَوَافَقَ الْقَدَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْكُمَا حُلْمٌ، أَوْ تَحَالُمٌ. وَأَفْرَدَ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ أَمْرُ هَذَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمَا الَّذِي أدخلا به السجن، وهو اتِّهَامُ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا بِسَمِّهِ، فَرَأَيَا مَا رَأَيَا، أَوْ تَحَالَمَا بِذَلِكَ، فَقُضِيَتْ وَأُمْضِيَتْ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ مِنْ نَجَاةِ أحدهما، وهلاك الآخر. وقال أَيْ: يُوسُفُ لِلَّذِي ظَنَّ: أَيْ أَيْقَنَ هُوَ أَيْ يُوسُفُ: أَنَّهُ نَاجٍ وَهُوَ السَّاقِي.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ عَلَى بَابِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي وَهُوَ السَّاقِي أَيْ: لَمَّا أَخْبَرَهُ يُوسُفُ بِمَا أَخْبَرَهُ، تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَنْجُو، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ مُسْنَدًا إِلَى يُوسُفَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَتَادَةُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا ظَنٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّانُّ هُوَ يُوسُفُ عليه السلام إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَيَبْعُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ، فِيهِ تَحَتُّمُ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ وَإِمْضَاؤُهُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ قُضِيَ الْأَمْرُ عَلَى قُضِيَ كَلَامِي، وَقُلْتُ مَا عِنْدِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى يُوسُفَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام قال لِسَاقِي الْمَلِكِ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مَعَ الْمَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ الْمَلِكِ أَيْ: بِعِلْمِي وَمَكَانَتِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِمَّا آتَانِي اللَّهُ، أَوِ اذْكُرْنِي بِمَظْلَمَتِي وَمَا امْتُحِنْتُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهَذَا مِنْ يُوسُفَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّعَاوُنِ فِي تَفْرِيجِ كَرْبِهِ، وَجَعْلِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ كَمَا جَاءَ عَنْ عِيسَى عليه السلام:

ص: 279

مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» وَكَمَا كَانَ الرَّسُولُ يَطْلُبُ مَنْ يَحْرُسُهُ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يُوسُفَ إِنَّمَا قَالَ لِسَاقِي الْمَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى هِدَايَتِهِ وَإِيمَانِهِ بِاللَّهِ، كَمَا تَوَصَّلَ إِلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ لِلسَّاقِي وَرَفِيقِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَأَنْسَاهُ عَائِدٌ عَلَى السَّاقِي، وَمَعْنَى ذِكْرَ رَبِّهِ: ذِكْرَ يُوسُفَ لِرَبِّهِ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَإِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِمَا يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ حَتَّى يُذْهَلَ عَمَّا قَالَ لَهُ يُوسُفُ، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِيُوسُفَ مِنْ إِجْزَالِ أَجْرِهِ بِطُولِ مَقَامِهِ في السجن. وبضع سِنِينَ مُجْمَلٌ، فَقِيلَ: سَبْعٌ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ، إِخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ مَقَامِهِ فِي السِّجْنِ، مُنْذُ سُجِنَ إِلَى أَنْ أُخْرِجَ. وَقِيلَ: هَذَا اللَّبْثُ هُوَ مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْفَتَيَيْنِ وَذَلِكَ سَبْعٌ. وَقِيلَ: سَنَتَانِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَنْسَاهُ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ. وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَخْبَارًا لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ: لَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عليه السلام رَأَى مَلِكُ مِصْرَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ رُؤْيَا عَجِيبَةً هَالَتْهُ، فَرَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ خَرَجْنَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ، وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ. وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ وَأُدْرِكَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى غَلَبْنَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَجِدْ فِي قَوْمِهِ مَنْ يُحْسِنُ عِبَارَتَهَا. أَرَى: يَعْنِي فِي مَنَامِهِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ:

أفتوني في رؤياي. وأرى حِكَايَةُ حَالٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بالمضارع دون رأيت. وسمان صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: بَقَرَاتٍ، مَيَّزَ الْعَدَدَ بِنَوْعٍ مِنَ الْبَقَرَاتِ وَهِيَ السِّمَانُ مِنْهُنَّ لَا يُحْسِنُهُنَّ. وَلَوْ نَصَبَ صِفَةً لِسَبْعٍ لَكَانَ التَّمْيِيزُ بِالْجِنْسِ لَا بِالنَّوْعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الْبَقَرَاتِ بِالسِّمَنِ وَصْفُ السَّبْعِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ السَّبْعِ بِهِ وَصْفُ الْجِنْسِ بِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى سَبْعًا مِنَ الْبَقَرَاتِ سِمَانًا.

وَفَرِّقْ بَيْنَ قَوْلِكَ: عِنْدِي ثَلَاثُ رِجَالٍ كِرَامٍ، وَثَلَاثَةُ رِجَالٍ كِرَامٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الرِّجَالِ الْكِرَامِ، فَيَلْزَمُ كَرَمُ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنَ الرِّجَالِ الْكِرَامِ. وَالْمَعْنَى فِي الثَّانِي:

ثَلَاثَةٌ مِنَ الرِّجَالِ كِرَامٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الرِّجَالِ بِالْكَرَمِ. وَلَمْ يُضِفْ سَبْعَ إِلَى عِجَافٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ لَا يُضَافُ إِلَى الصِّفَةِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، إِنَّمَا تَتْبَعُهُ الصِّفَةُ. وَثَلَاثَةُ فُرْسَانٍ، وَخَمْسَةُ أَصْحَابٍ مَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: سَبْعَ بقرات على أن

(1) سورة آل عمران: 3/ 52.

ص: 280

السَّبْعَ الْعِجَافَ بَقَرَاتٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: سَبْعُ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ، أَوْ بَقَرَاتُ سَبْعٍ عِجَافٍ. وَجَاءَ جَمْعُ عَجْفَاءَ عَلَى عِجَافٍ، وَقِيَاسُهُ عَجَفَ كَخَضْرَاءَ أَوْ خُضْرٍ، حَمَلًا عَلَى سِمَانٍ لِأَنَّهُ نَقِيضُهُ. وَقَدْ يُحْمَلُ النَّقِيضُ عَلَى النَّقِيضِ، كما يحمل النظير عَلَى النَّظِيرِ. وَالتَّقْسِيمُ فِي الْبَقَرَاتِ يَقْتَضِي التَّقْسِيمَ فِي السُّنْبُلَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ حَذَفَ اسْمَ الْعَدَدِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، لِدَلَالَةِ قِسْمَيْهِ وَمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَأُخَرَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُمَيَّزِ سَبْعَ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أُخَرَ كان مباينا لسبع، فَتَدَافَعَا بِخِلَافٍ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَيَابِسَاتٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصِحُّ الْعَطْفُ، وَيَكُونُ مِنْ تَوْزِيعِ السُّنْبُلَاتِ إِلَى خُضْرٍ ويابسات. والملأ: أَشْرَافُ دَوْلَتِهِ وَأَعْيَانُهُمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمَلِكِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِالْإِدْغَامِ فِي الرُّؤْيَا، وَبَابُهُ بَعْدَ قَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ قَلَبَهَا يَاءً، لِاجْتِمَاعِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ.

وَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِهِ، لِأَنَّ الْوَاوَ هِيَ بَدَلٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَاللَّامُ فِي الرُّؤْيَا مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ قَدْ تَقْوَى بِهَا فَتَقُولُ: زَيْدٌ ضَارِبٌ لِعُمَرَ وَفَصِيحًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ كُنْتُمْ هُوَ قَوْلُهُ: تَعْبُرُونَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وُجُوهًا مُتَكَلِّفَةً أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا لِلْبَيَانِ قَالَ: كَقَوْلِهِ: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، فَتَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْنِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ هَذَا إِنْ كُنْتُمْ أَعْنِي الرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، وَيَكُونُ مَفْعُولُ تَعْبُرُونَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ تَعْبُرُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا خَبَرَ كَانَ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ لِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا به متمكنا منه، وتعبرون خَبَرًا آخَرَ أَوْ حَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَضْمَنَ تَعْبَرُونَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَنْتَدِبُونَ لِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا، وَعِبَارَةُ الرُّؤْيَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَبَرَ النَّهْرِ إِذَا جَازَهُ مِنْ شَطٍّ إِلَى شَطٍّ، فَكَانَ عَابِرُ الرُّؤْيَا يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ تَأْوِيلِهَا. وَعَبَرَ الرُّؤْيَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ ثُلَاثِيًّا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ التَّشْدِيدَ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَرْتُهَا

وَكُنْتُ لِلْأَحْلَامِ عبارا

وأضغاث جَمْعُ ضِغْثٍ أَيْ تَخَالِيطُ أَحْلَامٍ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، أَوْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، أَوْ مِزَاجِ الْإِنْسَانِ. وَأَصْلُهُ أَخْلَاطُ النَّبَاتِ، اسْتُعِيرَ لِلْأَحْلَامِ، وَجَمَعُوا الْأَحْلَامَ. وَأَنَّ رُؤْيَاهُ وَاحِدَةٌ إِمَّا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا إِذْ هِيَ أَشْيَاءُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا وَاحِدًا، تَعْلِيقًا بِالْجِنْسِ. وَإِمَّا بِكَوْنِهِ قَصَّ

ص: 281