المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

أَيْ: مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَاضِي، نُفَصِّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:

لِقَوْمٍ يَتَذَكَّرُونَ بِالذَّالِ بَدَلَ الْفَاءِ.

وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: لَمَّا ذَكَرَ مَثَلَ الحياة الدنيا وما يؤول إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى دَارِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، إِذْ أَهْلُهَا سَالِمُونَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ الشَّرِيفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّشْرِيفِ كَمَا قيل: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى السَّلَامَةِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ لِفُشُوِّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَلِتَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «1» . قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ السَّلَامَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ تَحِيَّتُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «2» وَقَدْ وَرَدَتْ فِي دَعْوَةِ اللَّهِ عِبَادَهُ أَحَادِيثُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ انْتَهِ. وَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ عَامًّا لَمْ تَتَقَيَّدْ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ خَاصَّةً تَقَيَّدَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَهْدِي يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّ اللُّطْفَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ.

[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَاّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)

أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)

هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)

وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

(1) سورة الواقعة: 56/ 25- 26.

(2)

سورة يونس: 10/ 10.

ص: 40

رَهَقَهَ غَشِيَهُ، وَقِيلَ: لَحِقَهُ وَمِنْهُ. وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، وَرَجُلٌ مُرْهَقٌ يَغْشَاهُ الْأَضْيَافُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّهَقُ اسْمٌ مِنَ الْإِرْهَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُطِيقُ. يُقَالُ: أَرْهَقْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا أَعْجَلْتَهُ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الرَّهَقِ الْمُقَارَبَةُ، يُقَالُ: غُلَامٌ مُرَاهِقٌ أَيْ قَارَبَ الْحُلُمَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَرْهِقُوا الْقِبْلَةَ»

أَيِ ادْنُوا مِنْهَا. وَيُقَالُ:

رَهِقَتِ الْكِلَابُ الصَّيْدَ إِذَا لَحِقَتْهُ، وَأَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ أَخَّرْنَاهَا حَتَّى تَدْنُوَ مِنَ الْأُخْرَى.

ص: 42

الْقَتَرُ وَالْقَتَرَةُ الْغُبَارُ الَّذِي مَعَهُ سَوَادٌ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُبَارُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ

مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا

أَيْ غُبَارُ الْعَسْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَصْلُ الْقَتَرِ دُخَانُ النَّارِ، وَمِنْهُ قُتَارُ الْقِدْرِ انْتَهَى. وَيُقَالُ:

الْقَتْرُ بِسُكُونِ التَّاءِ الشَّأْنُ والأمر، وجمعه شؤون. وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ مِنْ شَأَنْتُ شَأْنَهُ إِذَا قَصَدْتَ قَصْدَهُ. عَزَبَ يَعْزُبُ وَيَعْزِبُ بِكَسْرِ الزَّايِ وَضَمِّهَا غَابَ حَتَّى خَفِيَ، وَمِنْهُ الرَّوْضُ الْعَازِبُ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:

وَقَلْقَلُ نَأْيٌ مِنْ خُرَاسَانَ جَأْشَهَا

فَقُلْتُ اطْمَئِنِّي أَنْضَرُ الرَّوْضِ عَازِبُهُ

وَقِيلَ لِلْغَائِبِ عَنْ أَهْلِهِ عَازِبٌ، حَتَّى قَالُوهُ لِمَنْ لَا زَوْجَةَ لَهُ.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: أَحْسَنُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْأَصَمُّ:

أَحْسَنُوا فِي كُلِّ مَا تَعَبَّدُوا بِهِ أَيْ: أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّ. وَقِيلَ:

أَحْسَنُوا مُعَامَلَةَ النَّاسِ.

وَرَوَى أَنَسٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا»

وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

وَعَنْ عِيسَى عليه السلام: لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ذَلِكَ مُكَافَأَةٌ، وَلَكِنَّ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ» .

وَالْحُسْنَى قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

، وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْحُسْنَى عَامٌّ فِي كُلِّ حَسَنٍ، فَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا قِيلَ وَوَعَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِهَا بِالزِّيَادَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْحُسْنَى الْجَنَّةَ لَكَانَ فِي الْقَوْلِ تَكْرِيرٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: هِيَ النَّضْرَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْأُمْنِيَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وَمَا يَزِيدُ عَلَى الْمَثُوبَةِ وَهُوَ التَّفَضُّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَعَنْ عَلِيٍّ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحُسْنَى الْحَسَنَةُ وَالزِّيَادَةُ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ:

الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ شَجَرَةَ: الزِّيَادَةُ أَنْ تَمُرَّ السحابة بأهل الجنة

(1) سورة النساء: 4/ 173.

ص: 43

فَتَقُولُ: مَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ فَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ. وَزَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجْبِرَةُ أَنَّ الزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى،

وَجَاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَكْشِفُونَ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فو الله مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ»

انْتَهَى. أَمَّا تَفْسِيرُهُ أَوَّلًا وَنَقْلُهُ عَمَّنْ ذَكَرَ تَفْسِيرَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ نَصُّ الْجُبَّائِيِّ وَنَقْلُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، بَلْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صُهَيْبٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَخَرَّجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي دَقَائِقِهِ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى وَقَالَ: بِأَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي رِوَايَةٍ وَحُذَيْفَةُ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأَبُو مُوسَى، وَصُهَيْبٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ وَلَا يَلْحَقُهَا خِزْيٌ، وَالْخِزْيُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَجْهُ وَيَسْوَدُّ. قَالَ ابن ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالذِّلَّةُ الْكَآبَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْهَوَانُ. وَقِيلَ: الْخَيْبَةُ نَفَىَ عَنِ الْمُحْسِنِينَ مَا أَثْبَتَ لِلْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «1» وَقَوْلِهِ: عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ «2» وَكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَهَا، وَلِظُهُورِ أَثَرِ السرر وَالْحُزْنِ فِيهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالْأَعْمَشُ: قَتْرٌ بِسُكُونِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ كَالْقَدَرِ، وَالْقَدْرِ وَجُعِلُوا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيهَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلَّاكُ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا وَحَالُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَآلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِأَضْدَادِهِمْ وَحَالَهُمْ وَمَآلَهُمْ، وَجَاءَتْ صِلَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُوا، وَصِلَةُ الْكَافِرِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَصَّلَهَا بِالْإِحْسَانِ، وَعَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ انْتَقَلَ عَنْهَا وَكَسَبَ السَّيِّئَاتِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مُحْسِنًا، وَهَذَا كَاسِبًا لِلسَّيِّئَاتِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ سَلَكَ مَا يَنْبَغِي، وَهَذَا سَلَكَ مَا لَا يَنْبَغِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، وَجَوَّزُوا فِي الْخَبَرِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ وَهِيَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، وَجَزَاءُ مُبْتَدَأٌ فَقِيلَ: خَبَرُهُ مُثْبَتٌ وَهُوَ بِمِثْلِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فَقِيلَ: زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا، كَمَا قَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، كَمَا زِيدَتْ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: فمنعكها بشيء يستطاع،

(1) سورة يونس: 10/ 27.

(2)

سورة عبس: 80/ 41.

ص: 44

أَيْ شَيْءٌ يُسْتَطَاعُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مُقَدَّرٌ بِمِثْلِهَا أَوْ مُسْتَقِرٌّ بِمِثْلِهَا. وَقِيلَ:

مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: لَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ قَالَ: وَدَلَّ عَلَى تَقْدِيرِ لَهُمْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى «1» حَتَّى تُشَاكَلَ هَذِهِ بِهَذِهِ. وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَاقِعٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءُ، وَالْعَائِدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ الْحَوْفِيِّ: لَهُمْ جَزَاءُ يَكُونُ الرَّابِطُ لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِجُمْلَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِأَرْبَعِ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِثَلَاثِ جُمَلٍ، وَالصَّحِيحُ مَنْعُ الِاعْتِرَاضِ بِثَلَاثِ جمل وبأربع جمل، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَيَكُونُ جَزَاءُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: وَلِلَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، فَيَتَعَادَلُ التَّقْسِيمُ، كَمَا تَقُولُ: فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَالْقَصْرِ عَمْرٌو، أَيْ: وَفِي الْقَصْرِ عَمْرٌو. وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَخَرَّجَهُ الْأَخْفَشُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ. وَخَرَّجَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَجَرُّهُ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ لَا بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ هُنَا هِيَ سَيِّئَاتُ الْكُفْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ أَوْصَافِهِمْ بَعْدُ. وَقِيلَ:

السَّيِّئَاتُ الْمَعَاصِي، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْكُفْرُ وَغَيْرُهُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعُمُّ السَّيِّئَاتُ هَاهُنَا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي، فَمِثْلُ سَيِّئَةِ الْكُفْرِ التَّخْلِيدُ فِي النَّارِ، وَمِثْلُ سَيِّئَاتِ الْمَعَاصِي مَصْرُوفٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى بِمِثْلِهَا أَيْ: لَا يُزَادُ عَلَيْهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ الْفَضْلُ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِتَرْكِ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ عَلَى عَدْلِهِ، وَدَلَّ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَثُوبَةِ عَلَى فَضْلِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَعْنَى بِمِثْلِهَا أَيْ: بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، فَالْعُقُوبَاتُ تَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ السَّيِّئَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ جَهَنَّمُ دَرَكَاتٍ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ

(1) سورة يونس: 10/ 26.

ص: 45

الأسفل لقبح معصيتهم. وقرىء: وَيَرْهَقُهُمْ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الذِّلَّةِ مَجَازٌ، وَفِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ نَفْيِ الْقَتَرِ وَالذِّلَّةِ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَهُنَا غَشِيَتْهُمُ الذِّلَّةُ، وَبُولِغَ فِيمَا يُقَابِلُ الْقَتَرَ فَقِيلَ:

كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي سَوَادِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي قَوْلِهِ: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ، أَوْ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَعْصِمُهُمْ كَمَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأُغْشِيَتْ: كَسَبَتْ، وَمِنْهُ الْغِشَاءُ. وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْوَدَّةً هِيَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، فَتَكُونُ أَلْوَانُهُمْ مُسْوَدَّةً. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:

وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّوَادِ هَاهُنَا سَوَادُ الْجَهْلِ وَظُلْمَةُ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ طَبْعُهُ طَبْعُ الظُّلْمَةِ. فَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، الْمُرَادُ نُورُ الْعِلْمِ وَرُوحُهُ وَبِشْرُهُ وَبِشَارَتُهُ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، الْمُرَادُ مِنْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ وَكُدُورَةُ الضَّلَالَةِ انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ هَذَا الرَّجُلُ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْسِيرِ، وَيَنْقُلُ كَلَامَهُمْ تَارَةً مَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، وَتَارَةً مُسْتَنِدًا بِهِ وَيُعْنَى: بِحُكَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ خُلِقُوا فِي مُدَّةِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُسَمَّوْا سُفَهَاءَ جُهَلَاءَ مِنْ أَنْ يُسَمَّوْا حُكَمَاءَ، إِذْ هُمْ أَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُحَرِّفُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ كَوْنِهَا كِتَابًا إِلَهِيًّا، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ أَحَقُّ. وَقَدْ غَلَبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ بِقَلِيلٍ الِاشْتِغَالُ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَيُسَمُّونَهَا الْحِكْمَةَ، وَيَسْتَجْهِلُونَ مَنْ عُرِّيَ عَنْهَا، ويعتقدون أنهم الكلمة مِنَ النَّاسِ، وَيَعْكُفُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا، وَلَا تَكَادُ تَلْقَى أحدا منهم يحفظ قُرْآنًا وَلَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ غَضَضْتُ مَرَّةً مِنَ ابْنِ سِينَا وَنَسَبْتُهُ لِلْجَهْلِ فَقَالَ لِي بَعْضُهُمْ وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْ كَوْنِ أَحَدٍ يَغُضُّ مِنَ ابْنِ سِينَا: كَيْفَ يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ يُنْسَبُ لِلْجَهْلِ؟ وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبِي الْوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الِاعْتِنَاءَ بِمَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُمْ، أَغْرَى بِهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِالْأَنْدَلُسِ الْمَنْصُورَ مَنْصُورَ الْمُوَحِّدِينَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مَلِكَ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ ضَرْبِهِ وَلَعْنِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِهَانَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ، وَكَانَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْمَنْصُورُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الشُّعَرَاءِ:

(1) سورة آل عمران: 3/ 106.

ص: 46

خَلِيفَتَنَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا

عَنِ الْإِسْلَامِ وَالسَّعْيِ الْكَرِيمِ

فَحَقُّ جِهَادِهِ جَاهَدْتَ فِيهِ

إِلَى أَنْ فُزْتَ بِالْفَتْحِ الْعَظِيمِ

وَصَيَّرْتَ الْأَنَامَ بِحُسْنِ هَدْيٍ

عَلَى نَهْجِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ

فَجَاهِدْ فِي أُنَاسٍ قَدْ أَضَلُّوا

طَرِيقَ الشَّرْعِ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ

وَحَرِّقْ كُتْبَهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا

فَفِيهَا كَامِنًا شَرُّ الْعُلُومِ

يَدُبُّ إِلَى الْعَقَائِدِ مِنْ أَذَاهَا

سُمُومٌ وَالْعَقَائِدُ كَالْجُسُومِ

وَفِي أَمْثَالِهَا إِذْ لَا دَوَاءَ

يَكُونُ السَّيْفُ تِرْيَاقَ السُّمُومِ

وَقَالَ:

يَا وَحْشَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ فِرْقَةٍ

شَاغِلَةً أَنْفُسَهَا بِالسَّفَهْ

قَدْ نَبَذَتْ دِينَ الْهُدَى خَلْفَهَا

وَادَّعَتِ الْحِكْمَةَ وَالْفَلْسَفَهْ

وَقَالَ:

قَدْ ظَهَرَتْ فِي عَصْرِنَا فِرْقَةٌ

ظُهُورُهَا شُؤْمٌ عَلَى الْعَصْرِ

لَا تَقْتَدِي فِي الدِّينِ إِلَّا بِمَا

سَنَّ ابْنُ سِينَا أَوْ أَبُو نَصْرِ

وَلَمَّا حَلَلْتُ بِدِيَارِ مِصْرَ وَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا يَشْتَغِلُونَ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ أَحَدٌ تَعَجَّبْتُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كُنَّا نَشَأْنَا فِي جَزِيرَةِ الأندلس على التبرؤ مِنْ ذَلِكَ وَالْإِنْكَارِ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا بِيعَ كِتَابٌ فِي الْمَنْطِقِ إِنَّمَا يُبَاعُ خُفْيَةً، وَأَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَنْطِقَ بِلَفْظِ الْمَنْطِقِ، إِنَّمَا يُسَمُّونَهُ الْمَفْعِلَ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَنَا وَزِيرَ الْمَلِكِ ابْنِ الْأَحْمَرِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْحَكِيمِ كَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ يَسْأَلُنِي أَنْ أَشْتَرِيَ أَوْ أَسْتَنْسِخَ كِتَابًا لِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي الْمَنْطِقِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَنْ يَنْطِقَ بِالْمَنْطِقِ وَهُوَ وَزِيرٌ، فَسَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ لِي بِالْمَفْعِلِ. وَلَمَّا أُلْبِسَتْ وُجُوهُهُمُ السَّوَادَ قَالَ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ، وَلَمَّا كَانَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ نِهَايَةً فِي السَّوَادِ شُبِّهَ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ بِقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ حَالَ اشْتِدَادِ ظُلْمَتِهِ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ قِطْعًا بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَقْطُوعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، بِسَوَادٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْقِطْعُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مُظْلِمًا صِفَةً لِقَوْلِهِ:

قِطَعًا، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: كَأَنَّمَا تَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ. وَقَرَأَ ابْنُ

ص: 47

أَبِي عَبْلَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الطَّاءَ. وَقِيلَ: قِطْعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ، نَحْوَ سِدْرٍ وَسِدْرَةٍ، فَيَجُوزُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يُوصَفَ بِالْمُذَكَّرِ نَحْوَ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَبِالْمُؤَنَّثِ نَحْوَ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مُظْلِمًا حَالًا مِنَ اللَّيْلِ كَمَا أَعْرَبُوهُ فِي قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا بِتَحْرِيكِ الطَّاءِ بِالْفَتْحِ مِنَ اللَّيْلِ: مُظْلِمًا بِالنَّصْبِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا جَعَلْتَ مُظْلِمًا حَالًا مِنَ اللَّيْلِ، فَمَا الْعَامِلُ فِيهِ؟

(قُلْتُ) : لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُغْشِيَتْ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مِنَ اللَّيْلِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قِطَعًا، فَكَانَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَإِفْضَائِهِ إِلَى الصِّفَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلَ فِي ذِي الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي اللَّيْلِ هُوَ مُسْتَقَرُّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ بِمِنْ، وَأُغْشِيَتْ عَامِلٌ فِي قَوْلِهِ: قِطَعًا الْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ، فَاخْتَلَفَا فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ أَوْلَى أَيْ: قِطَعًا مُسْتَقِرَّةً مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ كَائِنَةً مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالِ إِظْلَامِهِ. وَقِيلَ: مُظْلِمًا حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: قِطَعًا، أَوْ صِفَةٌ. وَذُكِرَ فِي هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لِأَنَّ قِطَعًا فِي مَعْنَى كَثِيرٍ، فَلُوحِظَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ الطَّاءَ أَنْ يَكُونَ مُظْلِمًا حَالًا مِنْ قِطْعٍ، وَحَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِذَا كَانَ نَعْتًا يَعْنِي: مُظْلِمًا نَعْتًا لِقِطْعٍ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا، وَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ، قِطْعًا اسْتَقَرَّ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «1» انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ الْعَامِلِ فِي الْمَجْرُورِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً، بَلِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَدَّرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ وَالتَّقْدِيرُ: قِطْعًا كَائِنًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ: الضَّمِيرَ فِي نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا «2» وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ «3» وقرأ الحسن وشيبة وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ: نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْيَاءِ. وَقِيلَ: يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، وَمِنْهُمْ عَابِدُ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا. وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: ذَكِّرْهُمْ أَوْ خَوِّفْهُمْ وَنَحْوَهُ. وجميعا

(1) سورة الأنعام: 3/ 92.

(2)

سورة يونس: 10/ 26. [.....]

(3)

سورة يونس: 10/ 27.

ص: 48

حَالٌ، وَالشُّرَكَاءُ الشَّيَاطِينُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْأَصْنَامُ أَوْ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ قَالَ: الْأَصْنَامُ، قَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ فَيُنْطِقُهَا اللَّهُ بِذَلِكَ مَكَانَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِهَا أَطْمَاعَهُمْ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ، فَتَقُولُ الْآلِهَةُ:

فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا»

الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُحَاوَرَتَهُمْ إِنَّمَا هِيَ مَعَ الْأَصْنَامِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وعيسى ابْنِ مَرْيَمَ، بِدَلِيلِ الْقَوْلِ لَهُمْ: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَدُونَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْجِنِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَغْفُلُوا قَطُّ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ. وَمَكَانَكُمْ عَدَّهُ النَّحْوِيُّونَ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقُدِّرَ بِاثْبُتُوا كَمَا قَالَ:

وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأْتُ وَجَاشَتْ

مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي

أَيِ اثْبُتِي. وَلِكَوْنِهَا بِمَعْنَى اثْبُتِي جُزِمَ تُحْمَدِي، وَتَحَمَّلَتْ ضَمِيرًا فَأُكِّدَ وَعُطِفَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ. وَالْحَرَكَةُ الَّتِي فِي مَكَانَكَ وَدُونَكَ، أَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، أَوْ حَرَكَةُ بِنَاءٍ تُبْتَنَى عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ النحويين فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ؟ أَلَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا؟

فَمَنْ قَالَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ جَعَلَ الْحَرَكَةَ إِعْرَابًا، وَمَنْ قَالَ: لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ جَعَلَهَا حَرَكَةَ بِنَاءٍ. وَعَلَى الْأَوَّلِ عَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مَكَانَكُمُ الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا حَتَّى تَنْظُرُوا مَا يُفْعَلُ بِكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنْتُمْ، فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي مَكَانَكُمْ، وَشُرَكَاؤُكُمْ عَطْفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: وَأَنْتُمْ أَكَّدَ بِهِ الضَّمِيرَ فِي مَكَانَكُمْ لِسَدِّهِ مَسَدَّ قَوْلِهِ: الْزَمُوا وَشُرَكَاؤُكُمْ عَطْفٌ عَلَيْهِ انْتَهَى. يَعْنِي عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ، وَتَقْدِيرُهُ: الْزَمُوا، وَأَنَّ مَكَانَكُمْ قَامَ مَقَامَهُ، فَيُحْمَلُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الْزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَكَانَكَ الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ يَتَعَدَّى كَمَا يَتَعَدَّى الْزَمُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ لَازِمًا كَانَ اسْمُ الْفِعْلِ لَازِمًا، وَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مُتَعَدِّيًا مِثَالُ ذَلِكَ: عَلَيْكَ زَيْدًا لَمَّا نَابَ مَنَابَ، الْزَمْ تَعَدَّى.

وَإِلَيْكَ لَمَّا نَابَ مَنَابَ تَنَحَّ، لَمْ يَتَعَدَّ. وَلِكَوْنِ مَكَانَكَ لَا يَتَعَدَّى، قَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ اثْبُتْ، وَاثْبُتْ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ الْحَوْفِيُّ: مَكَانَكُمْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ أَوِ اثْبُتُوا.

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَكَانَكُمْ ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ، أَيِ الْزَمُوا انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيرَ الْزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ مَكَانَكَ زَيْدًا فَتُعَدِّيهِ، كَمَا تَعَدَّى الْزَمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

ص: 49

أَنْتُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَخْزِيُّونَ أَوْ مُهَانُونَ وَنَحْوُهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مَكَانَكُمْ قَدْ تَمَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَذَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِفَكِّ الكلام الظاهر اتصال بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِبَعْضٍ، وَلِتَقْدِيرِ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ: فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ثَبَتُوا هُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ حَتَّى وَقَعَ التَّزْيِيلُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ التَّفْرِيقُ. وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنْتُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْفِعْلِ. وَلَوْ كَانَ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ حُذِفَ خَبَرُهُ، لَمَا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْتُمْ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي هُوَ قِفُوا أَوْ نَحْوُهُ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالْفِعْلِ لَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الظَّرْفِ، إِذِ الظَّرْفُ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضَمِيرًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لَا تَقُولُ: أَنْتَ مَكَانَكَ، وَلَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْأَصَحُّ أَنْ لا يجوز حذف المؤكد فِي التَّأْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، فَكَذَلِكَ هَذَا، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُنَافِي الْحَذْفَ. وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ: أَنْتَ زَيْدًا لِمَنْ رَأَيْتَهُ قَدْ شَهَرَ سَيْفًا، وَأَنْتَ تريد اضرب أنت زيد، إِنَّمَا كَلَامُ الْعَرَبِ زَيْدًا تُرِيدُ اضْرِبْ زَيْدًا.

يُقَالُ زِلْتُ الشَّيْءَ عَنْ مَكَانِهِ أُزِيلُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: زِلْتُ الضَّأْنَ مِنَ الْمَعْزِ فَلَمْ تَزُلْ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّزْيِيلُ وَالتَّزَيُّلُ وَالْمُزَايَلَةُ التَّمْيِيزُ وَالتَّفَرُّقُ انْتَهَى. وَزَيَّلَ مُضَاعَفٌ لِلتَّكْثِيرِ، وَهُوَ لِمُفَارَقَةِ الحبث مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، بِخِلَافِ زَالَ يَزُولُ فَمَادَّتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَزَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ زَيَّلْنَا مِنْ مَادَّةِ زَالَ يَزُولُ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَزَيَّلْنَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَاوٌ لِأَنَّهُ مِنْ زَالَ يَزُولُ، وَإِنَّمَا قلبت لِأَنَّ وَزْنَ الْكَلِمَةِ فَيْعَلَ أَيْ: زَيْوَلْنَا مِثْلَ بَيْطَرَ وَبَيْقَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ قُلِبَتْ يَاءً انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فَعَّلَ أَكْثَرُ مِنْ فَيْعَلَ، وَلِأَنَّ مَصْدَرَهُ تَزْيِيلٌ. وَلَوْ كَانَ فَيْعَلَ لَكَانَ مَصْدَرُهُ فَيْعَلَةً، فَكَانَ يَكُونُ زَيَّلَةً كَبَيْطَرَةٍ، لِأَنَّ فَيْعَلَ مُلْحَقٌ بِفَعْلَلَ، وَلِقَوْلِهِمْ فِي قَرِيبٍ مِنْ مَعْنَاهُ: زَايَلَ، وَلَمْ يَقُولُوا زَاوَلَ بِمَعْنَى فَارَقَ، إِنَّمَا قَالُوهُ بِمَعْنَى حَاوَلَ وَخَالَطَ وَشَرَحَ، فَزَيَّلْنَا فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ وَقَطَعْنَا أَقْرَانَهُمْ، وَالْوُصَلَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فَبَاعَدْنَا بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا «1» وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَزَايَلْنَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ صَاعَرَ خَدَّهُ، وَصَعَّرَ، وَكَالَمْتُهُ وَكَلَّمْتُهُ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَزَايَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى فَارَقَ. قال:

(1) سورة الأنعام: 6/ 22.

ص: 50

وَقَالَ الْعَذَارَى إِنَّمَا أَنْتَ عَمُّنَا

وَكَانَ الشَّبَابُ كَالْخَلِيطِ يُزَايِلُهْ

وَقَالَ آخَرُ:

لَعَمْرِي لِمَوْتٍ لَا عُقُوبَةَ بَعْدَهُ

لِذِي الْبَثِّ أَشَفَى مَنْ هَوَى لَا يُزَايِلُهْ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّزْيِيلَ أَوِ الْمُزَايَلَةَ هُوَ بِمُفَارَقَةِ الْأَجْسَامِ وَتَبَاعُدِهِ. وَقِيلَ: فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ فِي الْحُجَّةِ وَالْمَذْهَبِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفَزَيَّلْنَا. وَقَالَ: هُنَا مَاضِيَانِ لَفْظًا، وَالْمَعْنَى: فَنُزَيِّلُ بَيْنَهُمْ وَنَقُولُ: لِأَنَّهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا لِلَّهِ تَعَالَى أَنْدَادًا فَأَطَعْتُمُوهُمْ، وَلَمَّا تَنَازَعُوا اسْتَشْهَدَ الشُّرَكَاءُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَانْتَصَبَ شَهِيدًا، قِيلَ: عَلَى الْحَالِ، وَالْأَصَحُّ عَلَى التَّمْيِيزِ لِقَبُولِهِ مِنْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَفَى وَفِي الْيَاءِ، وَإِنْ هِيَ الْخَفِيفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ.

وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. وَاكْتِفَاؤُهُمْ بِشَهَادَةِ اللَّهِ هُوَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ. ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً أَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ عِبَادَتِهِمْ أَيْ: لَا شُعُورَ لَنَا بِذَلِكَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الشُّرَكَاءَ هِيَ الْأَصْنَامُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ مِمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ إِنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ لَكَانَ لَهُ شُعُورٌ بِعِبَادَتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ سَبَبًا لِلْغَفْلَةِ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ، إِذْ لَا تُحِسُّ وَلَا تَشْعُرُ بِشَيْءٍ البتة.

هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ: هُنَالِكَ ظَرْفُ مَكَانٍ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَالْمَقَامِ الْمُقْتَضِي لِلْحَيْرَةِ وَالدَّهْشِ.

وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَقْتِ، اسْتُعِيرَ ظَرْفُ الْمَكَانِ لِلزَّمَانِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وزيد بن علي: تتلوا بِتَاءَيْنِ أَيْ: تَتْبَعُ وَتَطْلُبُ مَا أَسْلَفَتْ مِنْ أَعْمَالِهَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِنَّ الْمُرِيبَ يَتَّبِعُ الْمُرِيبَا

كَمَا رَأَيْتَ الذِّيبَ يَتْلُو الذِّيبَا

قِيلَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ أَيْ: تَقْرَأُ كُتُبَهَا الَّتِي تُدْفَعُ إِلَيْهَا. وقرأ باقي السبعة: تبلوا بِالتَّاءِ وَالْبَاءِ أَيْ: تَخْتَبِرُ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ الْعَمَلِ فَتَعْرِفُ كَيْفَ هُوَ أَقَبِيحٌ أَمْ حَسَنٌ، أَنَافِعٌ أَمْ ضَارٌّ، أَمَقْبُولٌ أَمْ مَرْدُودٌ؟ كَمَا يَتَعَرَّفُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِاخْتِبَارِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: نبلوا بِنُونٍ وَبَاءٍ أَيْ: نَخْتَبِرُ. وَكُلُّ نَفْسٍ بِالنَّصْبِ، وَمَا أَسْلَفَتْ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ: مَا أسلفت. أو يكون نبلوا مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَيْ:

نُصِيبُ كُلَّ نَفْسٍ عَاصِيَةٍ بِالْبَلَاءِ بِسَبَبِ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسِيءِ. وعن الحسن تبلوا

ص: 51

تَتَسَلَّمُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: تَعْلَمُ. وقيل: تذوق. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: وَرِدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ، لَمَّا سَكَّنَ لِلْإِدْغَامِ نَقَلَ حَرَكَةَ الدَّالِّ إِلَى حَرَكَةِ الرَّاءِ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَتِهَا. وَمَعْنَى إِلَى اللَّهِ: إِلَى عِقَابِهِ. وَقِيلَ: إِلَى مَوْضِعِ جَزَائِهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، لَا مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، إِذْ هُوَ الْمُتَوَلِّي حِسَابَهُمْ. فَهُوَ مَوْلَاهُمْ فِي الْمِلْكِ وَالْإِحَاطَةِ، لَا فِي النَّصْرِ وَالرَّحْمَةِ. وقرىء الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ نَحْوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَهْلَ الْحَمْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ هذا عبد الله الحق لَا الْبَاطِلَ، عَلَى تَأْكِيدِ قَوْلِهِ: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَرُدُّوا إِلَى الله، جعلوا ملجأين إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:

مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ. وَضَلَّ عَنْهُمْ أَيْ: بَطَلَ وَذَهَبَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ شَافِعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ: لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِحَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا يُوَبِّخُهُمْ، وَيَحُجَّهُمْ بِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ حَالِ رِزْقِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ، وَإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. فَبَدَأَ بِمَا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ وَهُوَ الرِّزْقُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمِنَ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ. فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وهيىء الرِّزْقَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السفلي معالم يَقْتَصِرْ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، تَعَالَى تَوْسِعَةً مِنْهُ وَإِحْسَانًا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلْبَيَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِلْكَهُ لِهَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ:

السَّمْعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مَدَارِكِ الْأَشْيَاءِ، وَالْبَصَرِ الَّذِي يرى ملكوت السموات وَالْأَرْضِ.

وَمَعْنَى مِلْكِهِمَا أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِمَا بِمَا يَشَاءُ تَعَالَى مِنْ إِبْقَاءٍ وَحِفْظٍ وَإِذْهَابٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ مَنْ يَسْتَطِيعُ خَلْقَهُمَا وَتَسْوِيَتَهُمَا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي سُوِّيَا عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْعَجِيبَةِ، أَوْ مَنْ يَحْمِيهِمَا وَيَعْصِمُهُمَا مِنَ الْآفَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا فِي الْمَدَدِ الطِّوَالُ، وَهُمَا لَطِيفَانِ يُؤْذِيهِمَا أَدْنَى شَيْءٍ بِكِلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا من لفظ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ.

وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: سُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ.

وَأَمْ هُنَا تَقْتَضِي تَقْدِيرَ بَلْ دُونَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» فَلَا تَتَقَدَّرُ ببل، فالهمزة لأنها دخلت

(1) سورة النمل 27/ 84.

ص: 52

عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَيْسَ إضراب إبطال به هُوَ لِانْتِقَالٍ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى الْحَوَاسِّ لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُهَا، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ إِدَامَةِ الْحَيَاةِ وَسَبَبَ انْتِفَاعِ الْحَيِّ بِالْحَوَاسِّ، ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ تَعَالَى وَاخْتِرَاعَهُ لِلْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وَذَلِكَ مِنْ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الضِّدِّ مِنْ ضِدِّهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ شَامِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَالْأُمُورُ الَّتِي يُدَبِّرُهَا تَعَالَى لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ بَعْدَ تَفْصِيلِ بَعْضِ الْأُمُورِ. وَاعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ الرَّازِقَ وَالْمَالِكَ وَالْمُخْرِجَ وَالْمُدَبِّرَ هُوَ اللَّهُ أَيْ: لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ وَلَا الْمُنَافَسَةُ فِيهِ. وَمَعْنَى أَفَلَا تَتَّقُونَ: أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي افْتِرَائِكُمْ وَجَعْلِكُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً؟ وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّعِظُونَ فَتَنْتَهُونَ عَنْ مَا حَذَّرَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَوْعِظَةُ.

فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: فَذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَنِ اخْتَصَّ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، الْحَقُّ الثَّابِتُ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَاعْتِقَادِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا أَصْنَامِكُمُ الْمَرْبُوبَةُ الْبَاطِلَةُ. وَمَاذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا، وَصَحِبَهُ التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، فَالْحَقُّ وَالضَّلَالُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، إِذْ هما نقيضان، فمن يخطىء الْحَقَّ وَقَعَ فِي الضَّلَالِ. وَمَاذَا مُبْتَدَأٌ تَرَكَّبَتْ ذَا مَعَ مَا فَصَارَ مَجْمُوعُهُمَا اسْتِفْهَامًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ. وَالْخَبَرُ بَعْدَ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَا مَوْصُولَةً وَيَكُونَ خَبَرَ مَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي بَعْدَ الْحَقِّ؟ وَبَعْدَ صِلَةِ كَذَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ مَالِكُهُمْ وَأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ كَيْفَ يَقَعُ صَرْفُكُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَقِيَامِ حُجَجِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَكَيْفَ تُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ لَا يُشَارِكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَاسْتِنْبَاطُ كَوْنِ الشَّطْرَنْجِ ضَلَالًا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، لَا يَكَادُ يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا مَسَاقُهَا فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَسَاقُهَا فِي الْأُمُورِ الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْوَالُ عُلَمَاءِ مَلَّتِنَا. وَقَدْ تَعَلَّقَ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُجْبِرَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْكُفَّارَ عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا قَالَ: أَنَّى تُصْرَفُونَ. كَمَا لَوْ أَعْمَى بَصَرَ أَحَدِهِمْ لَا يَقُولُ:

إِنِّي عميت. كَذَلِكَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ: إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ تُصْرَفُونَ، مِثْلَ صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ حَقَّ

ص: 53

الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ أَيْ: جَازَاهُمْ مِثْلَ أَفْعَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

كَذَلِكَ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، أَيْ كَمَا حَقَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ بَعْدَ الضَّلَالِ، أَوْ كَمَا حَقَّ أَنَّهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنِ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَذَلِكَ أَيْ كَمَا كَانَتْ صِفَاتُ اللَّهِ كَمَا وَصَفَ، وَعِبَادَتُهُ وَاجِبَةً كَمَا تَقَرَّرَ، وَانْصِرَافُ هَؤُلَاءِ كَمَا قَدَّرَ عَلَيْهِمْ، وَاكْتَسَبُوا كَذَلِكَ حَقَّتْ. وَمَعْنَى فَسَقُوا: تَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ وَخَرَجُوا إِلَى الْحَدِّ الْأَقْصَى فِيهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةِ رَبِّكَ أَيْ: حَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلِمَةِ عِدَةُ الْعَذَابِ، وَيَكُونُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تَعْلِيلًا أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْكَسْرِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْكُفَّارِ مَنْ حَتَّمَ اللَّهُ بِكُفْرِهِ وَقَضَى بِتَخْلِيدِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالصَّاحِبَانِ: كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ هُنَا وَفِي آخِرِ السُّورَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْإِفْرَادِ.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: لَمَّا اسْتَفْهَمَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتَرَفُوا بِهَا، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ صَرْفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ سَبَبُ الْعِبَادَةِ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَلْقِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ثُمَّ أَعَادَ الْخَلْقَ وَهُمْ مُنْكِرُونَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى يسلمونه ليعلم أيهما سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لِوُضُوحِهِ وَقِيَامِ بُرْهَانِهِ، قُرِنَ بِمَا يُسَلِّمُونَهُ إِذْ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، إِذْ هُوَ مِنَ الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِي إِمْكَانِهَا الْعُقَلَاءُ. وَجَاءَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُهُ. وَلَمَّا كَانُوا لِمُكَابَرَتِهِمْ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبَ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَأَبْرَزَ الْجَوَابَ فِي جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُصَرَّحٍ بِخَبَرِهَا، فَعَادَ الْخَبَرُ فِيهَا مُطَابِقًا لِخَبَرِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَثْبِيتٌ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ قَبْلَ هَذَا لَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِهِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مَحْذُوفًا مِنْهَا أَحَدُ جزءيها فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِتَصْرِيحِ خَبَرِهَا. وَمَعْنَى تُؤْفَكُونَ تُصْرَفُونَ وَتُقْلَبُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى عَجْزَ أَصْنَامِهِمْ عَنِ الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ وأعظم دلائل

(1) سورة لقمان: 31/ 25.

ص: 54

الْأُلُوهِيَّةِ، بَيَّنَ عَجْزَهُمْ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى مَنَاهِجِ الصَّوَابِ، وَقَدْ أَعْقَبَ الْخَلْقَ بِالْهِدَايَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكَلِيمِ:

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «1» وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «2» فَاسْتَدَلَّ بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَهُمَا حَالَانِ لِلْجَسَدِ وَالرُّوحِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْعُقُولُ يَلْحَقُهَا الِاضْطِرَابُ وَالْغَلَطُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لا يهديهما إِلَّا هُوَ بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْهَا لَا رُوحَ فِيهِ جَمَادٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَمَا فِيهِ رُوحٌ فَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى الْهِدَايَةِ، بَلِ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَهْدِيهِ. وَهَدَى تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى اثْنَيْنِ، وَإِلَى الثَّانِي بِإِلَى وَبِاللَّامِ. وَيَهْدِي إِلَى الْحَقِّ حُذِفُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِمَعْنَى يَهْتَدِي، لِأَنَّ مُقَابِلَهُ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَيْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ مَا قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَدَى بِمَعْنَى اهْتَدَى، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ هَذَا. وَأَحَقُّ لَيْسَتْ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّبَعَ. وَلَمَّا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَلَا يُسَلِّمُونَ حَصْرَ الْهِدَايَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَادِرَ بِالْجَوَابِ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، ثُمَّ عَادَلَ فِي السُّؤَالِ بِالْهَمْزَةِ وَأَمْ بَيْنَ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِالِاتِّبَاعِ، وَمَنْ هُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ، وَجَاءَ عَلَى الْأَفْصَحِ الْأَكْثَرِ مِنْ فَصْلِ أَمْ مِمَّا عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ «3» بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ «4» وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي تَرْجِيحِ الْوَصْلِ هُنَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَرْشًا: أَمَّنْ لَا يَهْدِّي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ، فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ رَامَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَ حَرَكَةً خَفِيفَةً، وَسِيبَوَيْهِ يُسَمِّي هَذَا اخْتِلَاسَ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ كَذَلِكَ: إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَسَ الْحَرَكَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْهَاءَ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي، فَقُلِبَ حَرَكَةُ التَّاءِ إِلَى الْهَاءِ، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ حفص، ويعقوب، وَالْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْهَاءَ لَمَّا اضْطُرَّ إِلَى الْحَرَكَةِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْيَاءَ. وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يجيز يهدي،

(1) سورة طه: 20/ 50.

(2)

سورة الأعلى: 87/ 2- 3.

(3)

سورة الفرقان: 25/ 15.

(4)

سورة الأنبياء: 21/ 109.

ص: 55

وَيُجِيزُ تَهِدِّي وَنَهِدِّي وَأَهِدِّي قَالَ: لِأَنَّ الْكَسْرَةَ فِي الْيَاءِ تَثْقُلُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: يَهْدِي مُضَارِعُ هَدَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْهِدَايَةُ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الَّذِي لَا يَهِدِّي، أَيْ لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ أَوْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ، إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: معناه أَمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي مِنَ الْأَوْثَانِ إِلَى مَكَانٍ فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُهْدَى، إِلَّا أَنْ يُنْقَلَ أَوْ لَا يَهْتَدِي، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ إِلَّا بِنَقْلَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهُ حَيَوَانًا مُطْلَقًا فَيَهْدِيَهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ إِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ مَا قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَنَّ هَدَى بِمَعْنَى اهْتَدَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَصَفَ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا لَا تَهْتَدِي إِلَّا أَنْ تُهْدَى، وَنَحْنُ نَجِدُهَا لَا تَهْتَدِي وَإِنْ هُدِيَتْ. فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَامِلٌ فِي الْعِبَادَةِ عَنْهَا مُعَامَلَتَهُمْ فِي وَصْفِهَا بِأَوْصَافِ مَنْ يَعْقِلُ، وَذَلِكَ مَجَازٌ وَمَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي أَحَدًا إِلَّا أَنْ يُهْدَى ذَلِكَ الْأَحَدُ بِهِدَايَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي مُقْتَضَاهَا أَمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَيَتَّجِهُ الْمَعْنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ كَثِيرٌ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ هُوَ اهْتِدَاؤُهَا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أم من لا يهدي أَيْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُهْدَى اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُهْدَى كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ. وَقِيلَ: أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي فِي الرُّؤَسَاءِ الْمُضِلِّينَ انْتَهَى. وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فِيهِمْ قَابِلِيَّةُ الْهِدَايَةِ، بِخِلَافِ الْأَصْنَامِ. فَمَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي اتِّخَاذِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ إِذْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ هِدَايَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْدُوا غَيْرَهُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ أَيْ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِالْبَاطِلِ وَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَشُرَكَاءَ؟ وَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ أَنْكَرَ فِي الْأُولَى، وَتَعَجَّبَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ مَنْ لَا يَهْدِي وَلَا يَهْتَدِي، وَأَنْكَرَ فِي الثَّانِي حُكْمَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَتَسْوِيَةَ الْأَصْنَامِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ:

الظَّاهِرُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَبَصَّرَ فِي الْأَصَنَامِ وَرَفَضَهَا كَمَا قَالَ:

أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ

لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَكْثَرِهِمْ جَمِيعُهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ إِلَّا ظَنًّا، لَيْسُوا مُتَبَصِّرِينَ وَلَا مُسْتَنِدِينَ إِلَى بُرْهَانٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ تَلَقَّفُوهُ مِنْ آبَائِهِمْ.

ص: 56

وَالظَّنُّ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا أَيْ: مِنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَجْوِيزٌ لَا قَطْعٌ. وَقِيلَ: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي جَعْلِهِمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تَفْعَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ الْتِفَاتًا وَالْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتِ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ في رؤساء اليهود وقريش.

وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ «1» وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ افْتَرَاهُ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى أَيْ: مَا صَحَّ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ مُفْتَرًى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا فِيهَا تَفْخِيمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَتَعْظِيمُهُ، وَكَوْنُهُ جَامِعًا لِلْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَنْ يُفْتَرَى هُوَ خَبَرُ كَانَ أَيِ: افْتِرَاءً، أَيْ: ذَا افْتِرَاءٍ، أَوْ مُفْتَرًى. وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ أَنْ هَذِهِ هِيَ الْمُضْمَرَةُ بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِكَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيَفْعَلَ، وَأَنَّهُ لَمَّا حُذِفَتِ اللَّامُ أُظْهِرَتْ أَنْ وَأَنَّ اللَّامَ وَأَنْ يَتَعَاقَبَانِ، فَحَيْثُ جِيءَ بِاللَّامِ لَمْ تَأْتِ بِأَنْ بَلْ تُقَدِّرُهَا، وَحَيْثُ حُذِفَتِ اللَّامُ ظَهَرَتْ أَنْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا يَتَعَاقَبَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ وَإِظْهَارُ أَنْ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى زَعْمِ هَذَا الزَّاعِمِ لَا يَكُونُ أَنْ يُفْتَرَى خَبَرًا لِكَانَ، بَلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَأَنْ يُفْتَرَى مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ بَعْدَ إِسْقَاطِ اللَّامِ، وَوَقَعَتْ لَكِنْ هُنَا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ إِذْ كَانَتْ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ وَهُمَا: الْكَذِبُ وَالتَّصْدِيقُ الْمُتَضَمِّنُ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَلَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى قُرَيْشٍ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّ الْآتِيَ بِهِ يَقْطَعُونَ أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ تِلْكَ الْكُتُبَ وَلَا غَيْرَهَا، وَلَا هِيَ فِي بَلَدِهِ وَلَا قَوْمِهِ، لَا بِتَصْدِيقِ الْأَشْرَاطِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهَا. وَتَفْصِيلُ الْكِتَابِ تَبْيِينُ مَا فُرِضَ وَكُتِبَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَصْدِيقَ وَتَفْصِيلَ بِالنَّصْبِ، فَخَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ وَالزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةً أَيْ: وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ أَيْ مُصَدِّقًا وَمُفَصِّلًا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ أُنْزِلَ لِلتَّصْدِيقِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ:

تَفْصِيلُ وَتَصْدِيقُ بِالرَّفْعِ، وَفِي يُوسُفَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ. كَمَا قَالَ الشاعر:

(1) سورة يونس: 10/ 15.

ص: 57

وَلَسْتُ الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ

وَلَكِنْ مَدَّهُ الْحَرْبُ الْعَوَالِي

أَيْ وَلَكِنْ أَنَا. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ وَلَكِنْ بِالْوَاوِ آثَرَتْ تَشْدِيدَ النُّونِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ آثَرَتِ التَّخْفِيفَ. وَقَدْ جَاءَ فِي السَّبْعَةِ مَعَ الْوَاوِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ تَصْدِيقًا وَتَفْصِيلًا مُنْتَفِيًا عَنْهُ الرَّيْبُ، كَائِنًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَفْصِيلًا مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، وَيَكُونُ لَا رَيْبَ فِيهِ اعْتِرَاضًا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ لَا شَكَّ فِيهِ كَرِيمٌ انتهى. فقوله: فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، إِنَّمَا يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ وَانْتِفَاءِ الرَّيْبِ عَنْهُ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ:

ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا «2» .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: لَمَّا نَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى، بَلْ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهَا، ذَكَرَ أَعْظَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِعْجَازُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَأَبْطَلَ بِذَلِكَ دَعْوَاهُمُ افْتِرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «3» الْآيَةَ. وَأَمْ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ.

وَالْهَمْزَةُ تَقْرِيرٌ لِالْتِزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ وَاسْتِبْعَادٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَمْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمَجَازُهُ، وَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقِيلَ: الْمِيمُ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَقُولُونَ. وَقِيلَ: أَمْ هِيَ الْمُعَادِلَةُ لِلْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ:

أَيُقِرُّونَ بِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قُلْ فَأْتُوا جُمْلَةَ شَرْطٍ مَحْذُوفَةً فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا أَنْتُمْ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْأَلْمَعِيَّةِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شَبِيهَةٍ بِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: بِسُورَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ لَنَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْإِعْجَازُ.

وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ قَائِدٍ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ: بِسُورَةِ كِتَابٍ أَوْ كَلَامٍ مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلِ

(1) سورة البقرة: 2/ 2.

(2)

سورة البقرة: 2/ 23.

(3)

سورة البقرة: 2/ 23.

ص: 58

الْقُرْآنِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هَذَا مِمَّا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ مِنْهُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ أَيْ:

بِصُورَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِ، فَالْهَاءُ فِي ذَلِكَ وَاقِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْعَامَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَدْعُوهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا تَسْتَعِينُوهُ وَحْدَهُ، وَاسْتَعِينُوا بِكُلِّ مَنْ دُونَهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّهُ افْتَرَاهُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ قَالُوا:

لِأَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ وَطَلَبَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ وَعَجَزُوا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقَدِيمِ مُحَالًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّحَدِّي بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَرَاتِبُ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ سِتٌّ تَحَدٍّ بِكُلِّ الْقُرْآنِ فِي: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ «1» الْآيَةَ، وَتَحَدٍّ بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَتَحَدٍّ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَحَدٍّ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ «2» وَفِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ طَلَبَ أَنْ يُعَارِضَ رَجُلٌ يُسَاوِي الرَّسُولَ فِي عَدَمِ التَّتَلْمُذِ وَالتَّعْلِيمِ، وَتَحِدٍّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ كَانَ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّمْهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ تَحَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَتَحِدٍّ طَلَبَ من المجموع واستعانة بَعْضٍ بِبَعْضٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ كَذَّبُوا، بَلْ سَارَعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ، وفاجأوه فِي بَدِيهَةِ السَّمَاعِ قَبْلَ أَنْ يَفْهَمُوهُ وَيَعْلَمُوا كُنْهَ أَمْرِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ وَيَفْقَهُوا تَأْوِيلَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ نُفُورِهِمْ عَمَّا يُخَالِفُ دِينَهَمْ، وَشِرَادِهِمْ عَنْ مُفَارَقَةِ دِينِ آبَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِمَا الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا يُرِيدُ بِهِ ما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «3» وَالْآيَةُ مَحْمِلُهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بَلْ كَذَّبُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُنْبِئِ بِالْغُيُوبِ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ بِهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا أَحَاطُوا بِمَعْرِفَةِ غُيُوبِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَلَا جَاءَهُمْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجُوهًا، الْأَوَّلُ: كُلَّمَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنَ الْقَصَصِ قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ نَفْسَ الْحِكَايَةِ، بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا العالم، ونقله

(1) سورة الإسراء: 17/ 88.

(2)

سورة الطور: 52/ 34. [.....]

(3)

سورة الأعراف: 7/ 53.

(4)

سورة الأنفال: 8/ 31- النحل: 16/ 24، الفرقان: 25/ 5- القلم: 68/ 15- المطففين: 83/ 13.

ص: 59

أَهْلَهُ مِنْ عِزٍّ إِلَى ذُلٍّ، وَمِنْ ذُلٍّ إِلَى عِزٍّ، وَبِفَنَاءِ الدُّنْيَا، فَيَعْتَبِرُ بِذَلِكَ. وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَصَصَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، إِذْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَتَتَلْمَذْ. الثَّانِي: كلما سمعوا خروف التَّهَجِّي وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا سَاءَ ظَنُّهُمْ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ «1» الْآيَةَ. الثَّالِثُ: ظُهُورُ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَسَاءَ ظَنُّهُمْ وَقَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2» وَقَدْ أَجَابَ تَعَالَى وَشَرَحَ فِي مَكَانِهِ.

الرَّابِعُ: الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحَشْرِ، وَكَانُوا أَلِفُوا الْمَحْسُوسَاتِ، فَاسْتَبْعَدُوا حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ صِحَّةَ الْمَعَادِ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَاتِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِلَهُ الْعَالَمِ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَتِنَا، وَهُوَ أَجَلُّ أَنْ يَأْمُرَنَا بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ. وَأَجَابَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ «3» الْآيَةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَشُبَهُ الْكُفَّارِ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا رَأَوُا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ مَا عَرَفُوا حَقِيقَتَهَا وَلَا اطَّلَعُوا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ:

بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جُهْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ أَسْرَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى التَّوَقُّعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؟

(قُلْتُ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ، وَكَذَّبُوهُ بَعْدَ التَّدَبُّرِ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا فَذَمَّهُمْ بِالتَّسَرُّعِ إِلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، وَجَاءَ بِكَلِمَةِ التَّوَقُّعِ لِيُؤْذِنَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بَعْدَ عُلُوِّ شَأْنِهِ وَإِعْجَازِهِ لَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ التَّحَدِّيَ وَرَازُوا قُوَاهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ، وَاسْتَيْقَنُوا عَجْزَهُمْ عَنْ مَثَلِهِ، فَكَذَّبُوا بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ كَلَامُهُ هَذَا إِلَى نَظَرٍ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ولما يأتهم تأويله، ولم يَأْتِهِمْ بَعْدُ تَأْوِيلُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ أَيْ عَاقِبَتُهُ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَكَذِبٌ هُوَ أَمْ صِدْقٌ؟ يَعْنِي: أَنَّهُ كِتَابٌ مُعْجِزٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ إِعْجَازِ نَظْمِهِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ. فَتَسَرَّعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي نَظْمِهِ وَبُلُوغِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَقَبْلَ أَنْ يُخْبَرُوا إِخْبَارَهُ بِالْمَغِيبَاتِ وَصِدْقَهُ وَكَذِبَهُ انْتَهَى. وَبَقِيَتْ جُمْلَةُ الْإِحَاطَةِ بِلَمْ، وَجُمْلَةُ إِتْيَانِ التَّأْوِيلِ بِلَمَّا، وَيُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى فَرْقٍ دَقِيقٍ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي: قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ تَدَبُّرِهَا مِنْ غَيْرِ إِنْصَافٍ مِنْ

(1) سورة آل عمران: 3/ 97.

(2)

سورة الفرقان: 25/ 32.

(3)

سورة الإسراء: 17/ 7.

ص: 60

أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ قَلَّدُوا الْآبَاءَ عاندوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى خَبَرِ كَانَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ، هَذَا قَانُونُ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوا كَيْفَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مُعَامَلَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ. فِي قَوْلِكَ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ وَلِكَيْفَ تَصَرُّفَاتٌ غَيْرُ هَذَا تَحُلُّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ كَيْفِيَّةٌ، وَيَنْخَلِعُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْمَوْضِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَمِنْ تَصَرُّفَاتِهَا قَوْلُهُمْ: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، وَانْظُرْ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَقِمْ انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، وَتَعْلِيلُهُ: يُرِيدُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ لَفْظًا، لَكِنَّ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا نظر مُعَلَّقَةً، وَهِيَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: هَذَا قَانُونُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى آخِرِ تَعْلِيلِهِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ لِكَيْفَ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْهَيْئَةِ، إِلَّا أَنْ تُعَلِّقَ عَنْهَا الْعَامِلَ فَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا إِذَا عُلِّقَ عَنْهَا الْعَامِلُ. وَالثَّانِي: الشَّرْطُ. لِقَوْلِ الْعَرَبِ: كَيْفَ تَكُونُ أَكُونُ وَقَوْلُهُ: وَلِكَيْفَ تَصَرُّفَاتٌ إِلَى آخِرِهِ، لَيْسَ كَيْفَ تَحُلُّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ، وَلَا لَفْظُ كَيْفِيَّةٍ هُوَ مَصْدَرٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ نِسْبَةٌ إِلَى كَيْفَ.

وَقَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْهَا وَمِنْ تَصَرُّفَاتِهَا قَوْلُهُمْ: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ كَيْفَ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةٍ وَادِّعَاءِ مَصْدَرِ كَيْفِيَّةٍ. وَأَمَّا كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، فَكَيْفَ لَيْسَتْ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطِيَّةٌ وَهُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي لَهَا. وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، كَمَا تَقُولُ: قُمْ مَتَى شِئْتَ، فَمَتَى اسْمُ شَرْطٍ ظَرْفٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ قُمْ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَتَى شِئْتَ فَقُمْ، وَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمُ: اضْرِبْ زَيْدًا إِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ: إِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَاضْرِبْهُ، وَحُذِفَ فَاضْرِبْهُ لِدِلَالَةِ اضْرِبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ كَأَنَّ قَائِلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ فَأَجَابَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ. وَالظَّالِمِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ بَلْ كَذَّبُوا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِأَنَّ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مَنْ سَيُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فَيُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُوَ تَقْسِيمٌ فِي الْكُفَّارِ الْبَاقِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَاطِنًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ عِنَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، إِمَّا لِسُرْعَةِ تَكْذِيبِهِ وَكَوْنِهِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَظَرَ فِيهِ فَعَارَضَتْهُ الشُّبُهَاتُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْفَهْمِ مَا

ص: 61

يَدْفَعُهَا. وَفِيهِ تَفْرِيقُ كَلِمَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ مُضْطَرِبُونَ وَإِنْ شَمِلَهُمُ التَّكْذِيبُ وَالْكُفْرُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ أَمْ يَقُولُونَ، وَتَعَلُّقُ الْعِلْمَ بِالْمُفْسِدِينَ وَحْدَهُمْ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ.

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ: أَيْ وَإِنْ تَمَادَوْا عَلَى تَكْذِيبِكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ قَدْ أَعْذَرْتَ وَبَلَّغْتَ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «1» وَمَعْنَى لِي عَمَلِي أَيْ: جَزَاءُ عَمَلِي وَلَكُمْ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ.

وَمَعْنَى عَمَلِي الصَّالِحُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْعِصْيَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا آيَةُ مُنَابَذَةٍ لَهُمْ وَمُوَادَعَةٍ، وَضَمَّنَهَا الْوَعِيدَ كقوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» السُّورَةَ. وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ اسْتِمَالَتُهُمْ وَتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَمَدْلُولُهَا اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِأَفْعَالِهِ، وَثَمَرَاتِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَمْ تَرْفَعْ آيَةُ السَّيْفِ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَبَدَأَ فِي الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: لِي عَمَلِي لِأَنَّهُ آكَدُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُمْ وَفِي الْبَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَاءَتْ كَالتَّوْكِيدِ وَالتَّتْمِيمِ لِمَا قَبْلَهَا، فَنَاسَبَ أَنْ تَلِيَ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. وَلِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، إِذْ لَوْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَرَاءَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لِي عَمَلِي لَمْ تَقَعِ الْجُمْلَةُ فَاصِلَةً، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ وَأَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ الْآيَتَانِ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَقْسِيمُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَالضَّمِيرُ فِي يَسْتَمِعُونَ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَالْعَوْدِ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ الْعَوْدِ عَلَى اللَّفْظِ فِي الْكَثْرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ «3» وَالْمَعْنَى: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إِذَا

(1) سورة الشعراء: 26/ 216.

(2)

سورة الكافرون: 109/ 1.

(3)

سورة الأنبياء: 21/ 82.

ص: 62

قَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَعَلِمْتَ الشَّرَائِعَ، ثُمَّ نَفَى جَدْوَى ذَلِكَ الِاسْتِمَاعِ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَيْ هُمْ، وَإِنِ اسْتَمَعُوا إِلَيْكَ صُمٌّ عَنْ إِدْرَاكِ مَا تُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُمْ وَعْيٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَا سِيَّمَا قَدِ انْضَافَ إِلَى الصَّمَمِ انْتِفَاءُ العقل، فحري بِمِنْ عَدَمُ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِدْرَاكٌ لِشَيْءٍ الْبَتَّةَ، بِخِلَافٍ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَصَمُّ عَاقِلًا فَإِنَّهُ بِعَقْلِهِ يَهْتَدِي إِلَى أَشْيَاءَ. وَأَعَادَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَعْنَى:

أَنَّهُمْ عُمْيٌ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ إلى رؤية الدلائل قد فَقَدُوهُ، هَذَا وَهُمْ مَعَ فَقْدِ الْبَصَرِ قَدْ فَقَدُوا الْبَصِيرَةَ، إِذْ مَنْ كَانَ أَعْمَى فَإِنَّهُ مُهْدِيهِ نُورُ بَصِيرَتِهِ إِلَى أَشْيَاءَ بِالْحَدْسِ، وَهَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ فقدان البصر والبصيرة، وهذه مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي انْتِفَاءِ قَبُولِ مَا يُلْقَى إِلَى هَؤُلَاءِ، إِذْ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّمَمِ وَانْتِفَاءِ الْعَقْلِ، وَبَيْنَ الْعَمَى وَفَقْدِ الْبَصِيرَةِ. وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ؟ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وإن لَا يَكْتَرِثَ بِعَدَمِ قَبُولِهِمْ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَ يَنْظُرُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَإِذَا جَاءَ الْفِعْلُ عَلَى لَفْظِهَا فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ آخَرُ عَلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَاءَ أَوَّلًا عَلَى مَعْنَاهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِآخَرَ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُلْبَسُ حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَاعِي الْمَعْنَى أَوَّلًا فَتُعِيدَ الضَّمِيرَ عَلَى حَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَعْنَى مِنْ تَأْنِيثٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، ثُمَّ تُرَاعِي اللَّفْظَ فَتُعِيدُ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَتَيْنِ:

إِعْلَامُهُ عليه السلام بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ قَدِ انْتَهَوْا فِي النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ الشَّدِيدِ فِي رُتْبَةِ مَنْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ عِلَاجٌ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَصَمَّ أَحْمَقَ وَأَعْمَى فَاقِدَ الْبَصِيرَةِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا أَنْ يَرَى مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَقَدْ أَيِسَ مِنْ هِدَايَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِذَا خفيت على المعني فعاذر

أن لا تراءى مُقْلَةٌ عَمْيَاءُ

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءَ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، إِذْ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَتَحْذِيرِهِمْ من عقابه، ولكن هم ظَالِمُوا أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَاحْتَمَلَ هَذَا النَّفْيُ لِلظُّلْمِ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَيْ: لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَدْلٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِيهِ بِاكْتِسَابِ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَدَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي، وَلَكِنَّ النَّاسَ مِنْ تَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ النَّاسِ وَتَخْفِيفِهَا وَالرَّفْعِ.

ص: 63

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ: يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ رَاجِعًا الضَّمِيرَ غَائِبًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، إِذْ تَقَدَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «1» وَلَمَّا ذَكَرَ أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، وَوَصْفِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقُبُورِ يَعْنِي: فَقَلِيلٌ لُبْثُهُمْ، وَذَلِكَ لِهَوْلِ مَا يُعَايِنُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ، أَوْ لِطُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوُقُوفِهِمْ لِلْحِسَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَوْا أَنَّ طُولَ أَعْمَارِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ الْخُلُودِ كَسَاعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَوْمَ ظَرْفٌ، وَنَصْبُهُ يَصِحُّ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ. وَيَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَيَصِحُّ نَصْبُهُ بِيَتَعَارَفُونَ، وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَأَنْ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِلْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَحْشُرُهُمْ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَمْ يُبَيِّنِ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ: مِنْ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ وَهُوَ السُّرْعَةُ انْتَهَى. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يُسْرِعُونَ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ كَأَنْ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ مَعْرِفَةٌ، وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ، وَلَا تُنْعَتُ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْجُمَلَ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَسْمَاءُ الزَّمَانِ نَكِرَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي التَّقْدِيرِ تُنْحَلُ إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَإِنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا يَتَعَرَّفُ وَإِنْ كَانَتْ تُنْحَلُ إِلَى نَكِرَةٍ كَانَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا نَكِرَةً، تَقُولُ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ قَدِمَ زَيْدٌ الْمَاضِي، فَتَصِفُ يَوْمَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَجِئْتُ لَيْلَةَ قَدِمَ زَيْدٌ الْمُبَارَكَةُ عَلَيْنَا. وَأَيْضًا فكأن لم يلبثوا إلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْيَوْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ الْمَحْشُورِينَ لَا مِنْ وَصْفِ يَوْمِ حَشْرِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ بعضهم تقدير محذوف يربط فَقَدَّرَهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ، فَحُذِفَ قَبْلَهُ أَيْ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا الرَّابِطِ لَا يَجُوزُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ مَفْعُولِ نَحْشُرُهُمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ آخِرًا، وَكَذَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا وَيَتَعَارَفُونَ كَيْفَ مَوْقِعُهُمَا؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْأُولَى فَحَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: نَحْشُرُهُمْ مُشَبَّهِينَ بِمَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا سَاعَةً. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِمَّا أَنْ تتعلق

(1) سورة يونس: 10/ 44.

ص: 64

بِالظَّرْفِ يَعْنِي: فَتَكُونُ حَالًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً، لِأَنَّ التَّعَارُفَ يَبْقَى مَعَ طُولِ الْعَهْدِ وَيَنْقَلِبُ تَنَاكُرًا انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَتَعَارَفُونَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَلْبَثُوا وَهُوَ الْعَامِلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مُتَعَارِفِينَ، الْمَعْنَى: اجْتَمَعُوا مُتَعَارِفِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي نَحْشُرُهُمْ وَهُوَ الْعَامِلُ انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِلْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، فَقَدْ حَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: وَقِيلَ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَذْفَ مِثْلِ هَذَا الرَّابِطِ لَا يَجُوزُ. وَجَوَّزُوا فِي يَتَعَارَفُونَ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْخِلَافِ في ذي الحال والعامل فِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقَعُ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَعْرِفَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَهُوَ تَعَارُفُ تَوْبِيخٍ وَافْتِضَاحٍ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي وَأَغْوَيْتَنِي، وَلَيْسَ تَعَارُفَ شَفَقَةٍ وَعَطْفٍ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ إِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ «1» . وَقِيلَ: يُعَرِّفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَأِ وَالْكُفْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَارَفُ تَعَاطُفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرُونَ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ مُوَاطِنُ، فَفِي مَوْطِنٍ يَتَعَارَفُونَ وَفِي مَوْطِنٍ لَا يَتَعَارَفُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهِ جملة مستأنفة، أخبر تعالى بِخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَائِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَخْسَرَهُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَابْتَدَأَ بِهِ قَدْ خَسِرَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَيْ: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَقِيلَ إِنَّهُ إِخْبَارُ الْمَحْشُورِينَ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ كَقَوْلِ غَيْرِهِ: نَحْشُرُهُمْ قَائِلِينَ قَدْ خَسِرَ، فَاحْتَمَلَ هَذَا الْمُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَيَتَعَارَفُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِنَحْشُرُهُمْ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْخُسْرَانِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِلِقَاءِ اللَّهِ. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمَحْشُورِينَ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ قَدْ خَسِرَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِخُسْرَانِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَبِانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ أَيْ: كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَانْتَفَتْ هِدَايَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ كالتوكيل بِجُمْلَةِ الصِّلَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِلِقَاءِ اللَّهِ هُوَ غَيْرُ مُهْتَدٍ. وَقِيلَ: وَمَا

(1) سورة المعارج: 70/ 10.

ص: 65

كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى غَايَةِ مَصَالِحِ التِّجَارَةِ. وَقِيلَ: لِلْإِيمَانِ. وَقِيلَ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ هُمْ مِمَّنْ حَتَّمَ ضَلَالَهُمْ وَقَضَى بِهِ.

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ: إِمَّا هِيَ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلِأَجْلِهَا جَازَ دُخُولُ النُّونِ الثَّقِيلَةِ. وَلَوْ كَانَتْ إِنْ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزِ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ دُخُولَ النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ زِيَادَةِ مَا بَعْدَ إِنْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: أَجَازَ سِيبَوَيْهِ الْإِتْيَانَ بِمَا، وَأَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا، وَالْإِتْيَانَ بِالنُّونِ مَعَ مَا وَأَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا، وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَبَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ يَعْنِي: مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعًا مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا لِلْأَمْوَالِ وَسَبْيًا لِلذَّرَارِي، وَضَرْبَ جِزْيَةٍ، وَتَشْتِيتَ شَمْلٍ بِالْجَلَاءِ إِلَى غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ، وَكَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْوَعِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تبارك وتعالى أَيْ: إِنْ أَرَيْنَاكَ عُقُوبَتَهُمْ أَوْ لَمْ نُرِكَهَا فَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ رَاجِعُونَ إِلَيْنَا إِلَى الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ اللَّهُ شَهِيدٌ مِنْ أَوَّلِ تَكْلِيفِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ. فَثُمَّ هَاهُنَا لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، لَا لِتَرْتِيبِ الْقَصَصِ فِي أَنْفُسِهَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جَوَابُ نَتَوَفَّيَنَّكَ، وَجَوَابُ نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَذَاكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ أَنْ نُرِيَكَهُ، فَنَحْنُ نُرِيكَ فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى.

فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْكَلَامَ شَرْطَيْنِ لَهُمَا جَوَابَانِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ جَوَابٍ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَذَاكَ هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ جَوَابُ شَرْطٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِجُمْلَةٍ يَتَّضِحُ مِنْهَا جَوَابَ الشَّرْطِ، إِذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَاكَ الْجُزْءُ الَّذِي حُذِفَ الْمُتَحَصِّلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِسْنَادِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: ثَمَّ اللَّهُ بِفَتْحِ الثَّاءِ أَيْ: هُنَالِكَ. وَمَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا وَنَتِيجَتُهَا وَهُوَ الْعِقَابُ، كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ مُعَاقِبُهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُؤَدٍّ شَهَادَتَهُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَنْطِقَ جُلُودُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: لَمَّا بَيَّنَ

ص: 66

حَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمِهِ بَيَّنَ حَالَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، تَسْلِيَةً لَهُ وَتَطْمِينًا لِقَلْبِهِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَهْمَلَ أُمَّةً، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» وَقَوْلُهُ: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ حَالَةٍ مَاضِيَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَيُنَبِّئُهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَذَّبُوهُ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ:

بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ، فَأَنْجَى الرَّسُولَ وَعُذِّبَ الْمُكَذِّبُونَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ أَيْ: فَإِذَا جَاءَهُمْ رَسُولُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: بَيْنَ الْأُمَّةِ بِالْعَدْلِ، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَوْمٌ إِلَى النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «2» .

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: الضَّمِيرُ فِي وَيَقُولُونَ، عَائِدٌ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ مُنْكِرِي الْحَشْرِ، اسْتَعْجَلُوا بِمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: لَسْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا وَعَدْتُمْ بِهِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا يَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا حكاية حال ماضية. وأن مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ وَكَذَّبُوهُ قُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ وَعَدَ أُمَّتَهُ بِالْعَذَابِ في الدنيا وإن هِيَ كَذَّبَتْ.

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ: لَمَّا الْتَمَسُوا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ أَوْ تَعْجِيلَ السَّاعَةِ، أَمَرَهُ عليه السلام أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كُنْتُ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فَكَيْفَ أَمْلِكُهُ لِغَيْرِي؟ أَوْ كَيْفَ أَطَّلِعُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللَّهُ؟

وَلَكِنْ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ «3» . وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: آجَالُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ. وَإِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْلِكَهُ وَأَقْدِرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَائِنٌ، فَكَيْفَ أَمْلِكُ لَكُمُ الضَّرَرَ وَجَلْبَ الْعَذَابِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أَيْ: إِنَّ عَذَابَكُمْ لَهُ أَجَلٌ مَضْرُوبٌ عِنْدَ الله.

(1) سورة فاطر: 35/ 24.

(2)

سورة الزمر: 39/ 69.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 34.

ص: 67

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ «1» وَقَرَّرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُضَمِّنُ أَرَأَيْتَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَأَنَّهَا تَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِي أَكْثَرُ مَا يَكُونُ جُمْلَةَ اسْتِفْهَامٍ ينعقد منها مع قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَقَوْلِ الْعَرَبُ:

أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ: الْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ مَا صَنَعَ. وَقَبْلَ دُخُولِ أَرَأَيْتَ كَانَ الْكَلَامُ:

زَيْدٌ مَا صَنَعَ؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَرَأَيْتُمْ هُنَا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَهَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ تَنَازَعَ. أَرَأَيْتَ وَإِنْ أَتَاكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: عَذَابُهُ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي إِذْ هُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ السَّمَاعُ أَكْثَرَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ. فَلَمَّا أُعْمِلِ الثَّانِي حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُضْمَرْ، لِأَنَّ إِضْمَارَهُ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ، أَوْ قَلِيلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى اخْتِلَافِ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرُونِي عَنْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ أَتَاكُمْ أَيُّ شَيْءٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ يستعجله عاقل، إذا الْعَذَابُ كُلُّهُ مُرُّ الْمَذَاقِ مُوجِبٌ لِنِفَارِ الطَّبْعِ مِنْهُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ لَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْجِلَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالتَّهْوِيلِ لِلْعَذَابِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَدِيدٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، أَيْ: مَا أَشَدَّ وَأَهْوَلَ مَا تَسْتَعْجِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الرُّؤْيَةُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ الَّتِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ مَا يستعجل مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ: أَنَّ أَرَأَيْتُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَوْضُوعِهَا الْأَوَّلِ لَمْ تُضَمَّنْ مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى أَعَلِمْتُمْ، وَأَنَّ جملة الاستفهام سدت مسد الْمَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحَوْفِيُّ مَا يُفِيدُ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَعَلَّقُ الِاسْتِفْهَامُ؟ وَأَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) :

تَعَلَّقَ بِأَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَخْبِرُونِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ: وَهُوَ تَنْدَمُوا عَلَى الِاسْتِعْجَالِ وَتَعْرِفُوا الْخَطَأَ فِيهِ انْتَهَى. وَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ سَائِغٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ الْجَوَابَ إِلَّا مِمَّا تَقَدَّمَهُ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا تَقُولُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ،

(1) سورة الأنعام: 6/ 46. [.....]

ص: 68

فَالتَّقْدِيرُ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ. وَكَذَلِكَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَهْتَدِ.

فَالَّذِي يُسَوِّغُ أَنْ يُقَدَّرَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ فَأَخْبِرُونِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا وَالْمَعْنَى:

إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ آمنتم بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ؟ انْتَهَى. أَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَاءِ، تَقُولُ: إِنْ زَارَنَا فُلَانٌ فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ، وَإِنْ زَارَنَا فُلَانٌ فَأَيُّ يَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا إِنْ كَانَ فِي ضَرُورَةٍ، وَالْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ: إِنْ أَتَيْتُكَ مَاذَا تُطْعِمُنِي؟ هُوَ مِنْ تَمْثِيلِهِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَعَلَّقُ الْجُمْلَةُ بِأَرَأَيْتُمْ، إِنْ عُنِيَ بِالْجُمْلَةِ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ، وَإِنْ عُنِيَ بِالْجُمْلَةِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ فَقَدْ فَسَّرَ هُوَ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَأَخْبِرْنِي تَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا مَفْعُولًا، وَلَا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَ مَفْعُولِ أَخْبِرْنِي. وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يَكُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَمَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَقَعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا وَمَعَهَا فَاءُ الْجَوَابِ. وَأَيْضًا فَثُمَّ هُنَا وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ، تَعْطِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقَعَ جَوَابَ شَرْطٍ. وَأَيْضًا فَأَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي تَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولٍ، وَلَا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَهُ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَياتاً «1» فِي الْأَعْرَافِ مَدْلُولًا وَإِعْرَابًا. وَالْمَعْنَى إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ وَأَنْتُمْ سَاهُونَ غَافِلُونَ، إِمَّا بِنَوْمٍ وَإِمَّا بِاشْتِغَالٍ بِالْمَعَاشِ وَالْكَسْبِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

بَغْتَةً «2» لِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا فَاجَأَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كَانَ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ، بِخِلَافِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ وتهيىء لِحُلُولِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ.

وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ يَكُونَ مَا مُبْتَدَأً وَذَا خَبَرَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَسْتَعْجِلُ صِلَتُهُ، وَحَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ التَّقْدِيرُ أَيُّ: شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ. وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ مَفْعُولًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَضَعَّفَهُ أَبُو عَلِيٍّ لِخُلُوِّ الْجُمْلَةِ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ عَلَى الْعَذَابِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الرَّبْطُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَفْعُولِ أَرَأَيْتُمُ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأٌ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ

(1) سورة الأعراف: 7/ 4.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 31- 44- 47.

ص: 69

تَعَالَى. وَالْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ وَهُوَ الْإِجْرَامُ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُجْرِمِ أَنْ يَخَافَ التَّعْذِيبَ عَلَى إِجْرَامِهِ، وَيَهْلَكَ فَزَعًا مِنْ مَجِيئِهِ وَإِنْ أَبْطَأَ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ؟ وَثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ وَتَقَدَّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «1» وَفِي أَوَلَمْ يَسِيرُوا «2» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَخِلَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِلْجَمَاعَةِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً عُطِفَتْ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَثُمَّ بِضَمِّ الثَّاءِ، أَنَّ مَعْنَاهُ أَهُنَالِكَ قَالَ: وَلَيْسَتْ ثُمَّ هَذِهِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ ثُمَّ هُنَا لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ دَعْوَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَهُنَالِكَ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا أَنَّ ثُمَّ الْمَضْمُومَةَ الثَّاءِ مَعْنَاهَا مَعْنَى هُنَالِكَ.

وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: أَثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ، وَهَذَا يُنَاسِبُهُ تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ أَهُنَالِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آلْآنَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بِالْمَدِّ، وَكَذَا آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْرَجُ: بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِغَيْرِ مَدٍّ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ آلْآنَ آمَنْتُمْ بِهِ، فَالنَّاصِبُ لِقَوْلِهِ: آلْآنَ هُوَ آمَنْتُمْ بِهِ، وَهُوَ مَحْذُوفٌ. قِيلَ: تَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: اللَّهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عِيسَى الْبَصْرِيُّ وَطَلْحَةُ: آمَنْتُمْ بِهِ الْآنَ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، بَلْ عَلَى الْخَبَرِ، فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِ مِنْ آمَنْتُمْ بِهِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ آمَنْتُمْ بِهِ الْمَذْكُورُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ أَخَذَ صَدْرَ الْكَلَامِ، فَيَمْنَعُ مَا قَبْلُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا بَعْدَهُ انْتَهَى.

وَقَدْ كُنْتُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يَعْنِي تُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَكُمْ كَانَ عَلَى جِهَةِ التَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْتَعْجِلُونَ مُكَذِّبِينَ بِهِ.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ: أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ هَذَا الْكَلَامَ. وَالظُّلْمُ ظُلْمُ الْكُفْرِ لَا ظُلْمُ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْلُدُ فِيهَا. وَثُمَّ قِيلَ عَطْفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ قَبْلَ آلْآنَ. وَمَنْ قَرَأَ بِوَصْلِ أَلَّفِ الْآنَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَمَّا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تُجْزَوْنَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَوْضِيحٌ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ عَلَى كَسْبِ العبد.

(1) سورة يوسف: 12/ 109. وسورة الحج: 22/ 46.

(2)

سورة الروم: 30/ 9.

ص: 70

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: أَيْ يَسْتَخْبِرُونَكَ. وَأَحَقٌّ هُوَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَلَى الشَّرْعِ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ:

عَلَى الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: عَلَى أَمْرِ السَّاعَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

بِيَقُولُونَ أَحَقٌّ هُوَ فَجَعَلَ يَسْتَنْبِئُونَكَ تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ يَسْتَخْبِرُونَكَ، وَهِيَ عَلَى هَذَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْكَافُ، وَالْآخَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرِ فَعَلَى مَا قَالَ: يَكُونُ يَسْتَنْبِئُونَكَ مُعَلَّقَةً. وَأَصْلُ اسْتَنْبَأَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِعَنْ، تَقُولُ:

اسْتَنْبَأْتُ زَيْدًا عَنْ عَمْرٍو أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يُنْبِئَنِي عَنْ عَمْرٍو، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى يَسْتَعْلِمُونَكَ. قَالَ: فَهِيَ عَلَى هَذَا تَحْتَاجُ إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا الْكَافُ، وَالِابْتِدَاءُ، وَالْخَبَرُ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ اسْتَعْلَمَ لَا يُحْفَظُ كَوْنُهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ، لَا يُحْفَظُ اسْتَعْلَمْتُ زَيْدًا عَمْرًا قَائِمًا فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا بِمَعْنَى يَسْتَعْلِمُونَكَ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اسْتَعْلَمَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَارْتَفَعَ هُوَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَحَقٌّ خَبَرُهُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَقٌّ مُبْتَدَأً وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِ سُدَّ مَسَدُّ الْخَبَرِ، وَحَقٌّ لَيْسَ اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ لِأَنَّهُ بِمَعْنًى ثَابِتٍ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:

الْحَقُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ، أَوْ أَهْوَ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ الْحَقَّ؟ انْتَهَى.

وَأَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ مُجِيبًا لَهُمْ: قُلْ إِي وَرَبِّي، أَيْ نَعَمْ وَرَبِّي. وَإِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ خَاصَّةً، كَمَا تُسْتَعْمَلُ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ فِيهِ خَاصَّةً. قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِي التَّصْدِيقِ إِي و، فَيَصِلُونَهُ بِوَاوِ الْقَسَمِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِيمَا سَمِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحُجِّيَّةِ فِي كَلَامِهِ لِفَسَادِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ وَقَبْلَهُ بِأَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لَفْظَةٌ تَتَقَدَّمُ الْقَسَمَ، وَهِيَ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَيَجِيءُ بَعْدَهَا حَرْفُ الْقَسَمِ وَقَدْ لَا يَجِيءُ، تَقُولُ: إِي رَبِّي إِي وَرَبِّي انْتَهَى. وَقَدْ كَانَ يُكْتَفَى فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ:

إِي وَرَبِّي، إِلَّا أَنَّهُ أوكد بِإِظْهَارِ الْجُمْلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُضْمَرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِي وَرَبِّي، مَسُوقَةً مُؤَكَّدَةً بِإِنَّ. وَاللَّامِ مُبَالَغَةً فِي التَّوْكِيدِ فِي الْجَوَابِ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ أَحَقٌّ هُوَ السُّؤَالَ عَنِ الْعَذَابِ، وَكَانَ سُؤَالًا عَنِ الْعَذَابِ اللَّاحِقِ بِهِمْ لَا عَنْ مُطْلَقِ عَذَابٍ يَقَعُ بِمَنْ يَقَعُ. قِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ فَائِتِينَ الْعَذَابَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ لَاحِقٌ بِكُمْ. وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ

ص: 71

أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَوَابِ قَبْلَهَا. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا، مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ لَا عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ. وَأَعْجَزَ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا قَالَ: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا، لَكِنَّهُ كَثُرَ فِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ حَتَّى قَالَتِ الْعَرَبُ: أَعْجَزَ فُلَانٌ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا أَنْتُمْ مِمَّنْ يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبُكُمْ.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ وَأَقْسَمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ، ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَظَلَمَتْ صِفَةٌ لِنَفْسٍ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، وَافْتَدَى يَأْتِي مُطَاوِعًا لَفَدَى، فَلَا يَتَعَدَّى تَقُولُ: فَدَيْتُهُ فَافْتَدَى، وَبِمَعْنَى فَدَى فَيَتَعَدَّى، وَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا كَانَ لَهَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَزَائِنِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَأَسَرُّوا مِنَ الْأَضْدَادِ تَأْتِي بِمَعْنَى أَظْهَرَ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ

أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَظْهَرَا

وَقَالَ آخَرُ:

فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى

بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي

وَتَأْتِي بِمَعْنَى أَخْفَى وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ «1» وَيَحْتَمِلُ هُنَا الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا الْإِظْهَارُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِ تَصَبُّرٍ وَلَا تَجَلُّدٍ وَلَا يَقْدِرُ فِيهِ الْكَافِرُ عَلَى كِتْمَانِ مَا نَالَهُ، وَلِأَنَّ حَالَةَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ يَتَحَسَّرُ الْإِنْسَانُ عَلَى اقْتِرَافِهِ مَا أَوْجَبَهُ، وَيُظْهِرُ النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَمِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ قَالُوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا. وَأَمَّا إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ فَقِيلَ: أَخْفَى رُؤَسَاؤُهُمُ النَّدَامَةَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الْعَذَابَ هُوَ مَشْغُولٌ بِمَا يُقَاسِيهِ مِنْهُ فَكَيْفَ لَهُ فِكْرٌ فِي الْحَيَاءِ وَفِي التَّوْبِيخِ الْوَارِدِ مِنَ السَّفَلَةِ. وَأَيْضًا وَأَسَرُّوا عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ عَامٌّ فِي الرُّؤَسَاءِ وَالسَّفَلَةِ. وَقِيلَ: إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ هُوَ مِنْ كَوْنِهِمْ بُهِتُوا لِرُؤْيَتِهِمْ مَا لَمْ يَحْسَبُوهُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ، وَمُعَايَنَتُهُمْ مَا أَوْهَى قُوَاهُمْ فَلَمْ يُطِيقُوا عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً وَلَا صُرَاخًا. وَلَا مَا يَفْعَلُهُ الْجَازِعُ سِوَى إِسْرَارِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا يَعْرِضُ لِمَنْ يُقَدَّمُ لِلصَّلْبِ لَا يَكَادُ يَنْبِسُ بِكَلِمَةٍ، وَيَبْقَى مَبْهُوتًا جَامِدًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ، أَخْلَصُوا لِلَّهِ فِي تِلْكَ النَّدَامَةِ، أَوْ بَدَتْ بِالنَّدَامَةِ أَسِرَّةُ وُجُوهِهِمْ أَيْ: تَكَاسِيرُ جِبَاهِهِمْ فَفِيهِ بُعْدٌ عن

(1) سورة البقرة: 2/ 77.

ص: 72

سِيَاقِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، جُمْلَةُ أَخْبَارٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا فِي حَيِّزِ لَمَّا، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

بَيْنَ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الظُّلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقِيلَ: عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: قِيلَ: تَعَلُّقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَرَضَ أَنَّ النَّفْسَ الظَّالِمَةَ لَوْ كَانَ لَهَا مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَهِيَ لَا شَيْءَ لَهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، إِذْ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمِلْكُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا سَأَلُوا عَمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَحَقٌّ هُوَ؟ وَأَجِيبُوا بِأَنَّهُ حَقٌّ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا كَافِيًا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِيمَانِ،

كَمَا كَانَ جَوَابًا لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قوله عليه السلام له: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» فَقَنِعَ مِنْهُ بِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ

، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. انْتَقَلَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إِلَى ذِكْرِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى حُجَّتِهِ. وَتَقْرِيرِهِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ ملكه وملكه، وعبر عن هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقْصَى الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً «2» فَاكْتَفَى هُنَا عَنْ ذِكْرِهَا. وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا فِي الْعَالَمِ مُلْكَهُ، وَمِلْكَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَبِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَادِرًا عَلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ بِالدَّلَائِلِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ، فَبَطَلَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّعْجِيزُ. وَبِتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما في السموات وَالْأَرْضِ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ. أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَأَلَا كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَنْبِيهًا لِلْغَافِلِ، إِذْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُ تَصَرُّفٍ فِيهَا وَاسْتِخْلَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي:

لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. فَيَجِبُ أن يكون

(1) سورة يونس: 10/ 6.

(2)

سورة يونس: 10/ 5.

ص: 73

قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَتَرَوْنَ مَا وَعَدَ بِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَحَقٌّ هُوَ؟ فَالنَّاسُ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر الْأَدِلَّةَ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالطَّرِيقَ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ هُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، هُوَ شِفَاءٌ أَيْ: دَوَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَدُعَاءٌ إِلَى الْحَقِّ وَرَحْمَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْكُمُ انْتَهَى. وَمِنْ رَبِّكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَاءَتْكُمْ، فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ: مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّكُمْ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَعَلَهُ مَوْعِظَةً بِحَسَبِ النَّاسِ أَجْمَعَ، وَجَعَلَهُ هُدًى وَرَحْمَةً بِحَسَبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ صَحِيحُ المعنى إذا تؤوّل بِأَنْ وَجَّهَهُ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هُنَا كَلَامًا كَثِيرًا مَمْزُوجًا بِمَا يُسَمُّونَهُ حِكْمَةً، نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ ذَلِكَ الَّذِي قَرَّرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَطَوَّلَ فِي ذَلِكَ، وَضَرَبَ أَمْثِلَةً حِسِّيَّةً يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ تَفْسِيرِهِ، ثُمَّ قَالَ آخِرَ كَلَامِهِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالشِّفَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ، وَالْهُدَى إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ نُورِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، وَالرَّحْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا بَالِغَةً فِي الْكَمَالِ، وَالْإِشْرَاقِ إِلَى حَيْثُ تَصِيرُ تُكْمِلُ النَّاقِصِينَ وَهِيَ النُّبُوَّةُ. فَهَذِهِ دَرَجَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَمَرَاتِبُ بُرْهَانِيَّةٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ تَأَخُّرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَا تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ:

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَقَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ» فَضْلُهُ الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ مَا وَعَدَ عَلَيْهِ

انْتَهَى. وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وقتادة، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ: فَضْلُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ

ص: 74

الْقُرْآنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَكْسَ هَذَا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: الْفَضْلُ الْقُرْآنُ، وَالرَّحْمَةُ أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ: الْفَضْلُ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَضْلُ الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةُ تَزْيِينُهُ فِي الْقُلُوبِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَضْلُ وَالرَّحْمَةُ الْقُرْآنُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: الْفَضْلُ الْقُرْآنُ، وَالرَّحْمَةُ السُّنَّةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْفَضْلَ الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةَ السَّتْرُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: فَضْلُ اللَّهِ كَشْفُ الْغِطَاءِ، وَرَحْمَتُهُ الرُّؤْيَةُ وَاللِّقَاءُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ فَضْلٍ: الْفَضْلُ الْإِيمَانُ، وَالرَّحْمَةُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ التَّوْفِيقُ، وَالرَّحْمَةُ الْعِصْمَةُ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ نِعَمُهُ الظَّاهِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ نِعَمُهُ الْبَاطِنَةُ.

وَقَالَ الصَّادِقُ: الْفَضْلُ الْمَغْفِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ التَّوْفِيقُ.

وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْفَضْلُ الْجِنَانُ، وَرَحْمَتُهُ النَّجَاةُ مِنَ النِّيرَانِ. وَهَذِهِ تَخْصِيصَاتٌ تَحْتَاجُ إِلَى دَلَائِلَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهَا تَمْثِيلَاتٌ، لِأَنَّ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ أُرِيدَ بِهِمَا تَعْيِينُ مَا ذُكِرَ وَحَصْرُهُمَا فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْفَضْلَ هُوَ هِدَايَةُ اللَّهِ إِلَى دِينِهِ وَالتَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَالرَّحْمَةَ هِيَ عَفْوُهُ وَسُكْنَى جَنَّتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا جَزَاءً عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَقَعِ الْفَرَحُ مِنْكُمْ، لَا بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمَا يُجْمَعُ مِنْ حُطَامِهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ يُقَالُ لَهُمْ: فَلْيَفْرَحُوا وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِعِلَّةِ الْفَرَحِ وَسَبَبِهِ، وَمُخْلِصُونَ لِفَضْلِ اللَّهِ مُنْتَظِرُونَ لِرَحْمَتِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَالُ لَهُمْ:

بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا عَلَى مَعْنَى أَنْ لَوِ اتَّفَقَ لَكُمْ أَوْ لَوْ سَعِدْتُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا جُمْلَتَانِ، وَحُذِفَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ لِيَفْرَحُوا، ثُمَّ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، وَإِيجَابُ اخْتِصَاصِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ بِالْفَرَحِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنْ فَوَائِدِ الدُّنْيَا، فَحُذِفَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ لِدِلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَلْيَخُصُّوهُمَا بِالْفَرَحِ، فَإِنَّهُ لَا مَفْرُوحَ بِهِ أَحَقُّ مِنْهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَعْتَنُوا بِذَلِكَ، فَلْيَفْرَحُوا.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ أَيْ: فَبِمَجِيئِهِمَا فَلْيَفْرَحُوا انْتَهَى. أَمَّا إِضْمَارُ فَلْيَعْنَتُوا فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِقَوْلِهِ: قَدْ جَاءَتْكُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ مَحْذُوفًا بَعْدَ قُلْ، ولا يكون متعلقا بجاءتكم الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقُلْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ:

الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: قَدْ جَاءَتْكُمُ الْمَوْعِظَةُ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفَاءُ الْأُولَى

ص: 75

زَائِدَةٌ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ بَدَلًا مما قَبْلَهُ، وَأُشِيرَ بِهِ إِلَى الِاثْنَيْنِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: كُرِّرَتِ الْفَاءُ الثَّانِيَةُ لِلتَّوْكِيدِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْأُولَى زَائِدَةً، وَيَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فَبِذَلِكَ لِيَفْرَحُوا، وَفِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ يَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ بِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْفَرَحِ هُنَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا الْفَرَحُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وَالْمَنْهِيُّ هُنَاكَ الْفَرَحُ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ لِرِئَاسَةِ الدُّنْيَا وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ بِهَا والفساد والأشر، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «2» وَقَبْلَهُ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ «3» وَقَوْلُهُ:

لَفَرِحٌ فَخُورٌ «4» جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِفَرَحِهِ بِإِذَاقَةِ النَّعْمَاءِ بَعْدَ الضَّرَّاءِ، وَيَأْسِهِ وَكُفْرَانِهِ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ، وَهَذِهِ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الْفَرَحُ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِذَا قُيِّدَ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا كَمَا قَالَ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «5» لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، إِذْ جَاءَ مُقَيَّدًا فِي الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «6» وَإِنَّمَا يُمْدَحُ الْفَرَحَ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ، فَإِذَا كَانَ بِنَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ كَانَ مَحْمُودًا، وَإِذَا كَانَ بِنَيْلِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا كَانَ مَذْمُومًا.

وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأُبَيٌّ، وَأَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَمْرُو بْنُ قَائِدٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ:

فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقَالَ وَقَدْ جَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْحَسَنُ: عَلَى مَا زَعَمَ هَارُونُ.

وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَفْرَحُوا وَتَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْمُخَاطَبَةِ

، وَهِيَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَثِيرَةٍ، وَعَنْ أَكْثَرِهِمْ خِلَافٌ انْتَهَى. وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ عَلَى أَمْرِ الْغَائِبِ.

وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ قَرَأَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ لَيْسَ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، إِنَّمَا قِرَاءَتُهُ فِي مَشْهُورِ السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ أَمْرًا لِلْغَائِبِ، لَكِنَّهُ قَرَأَ تَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: فَبِذَلِكَ فَافْرَحُوا، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّهِيرَةُ فِي أَمْرِ الْمُخَاطَبِ. وَأَمَّا فَلْيَفْرَحُوا بِالْيَاءِ فَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ.

وَفِي الحديث: «لتأخذوا

(1) سورة القصص: 28/ 76.

(2)

سورة القصص: 28/ 77.

(3)

سورة القصص: 28/ 76.

(4)

سورة هود: 11/ 10.

(5)

سورة آل عمران: 3/ 170.

(6)

سورة الأنعام: 6/ 44.

ص: 76

مَصَافَّكُمْ»

وَقَرَأَ أَبُو التَّيَّاحِ وَالْحَسَنُ: فَلْيَفْرَحُوا بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُشِيرَ بِهِ إِلَى وَاحِدٍ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُوَحَّدًا فِي قَوْلِهِ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ عُبِّرَ عَنْهُ بِاسْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَجْمَعُونَ يَعْنِي مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذكر تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» وَكَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كِتَابَ اللَّهِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، بَيَّنَ فَسَادَ شَرَائِعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ فِي ذَلِكَ إِلَى وَحْيٍ. وَأَرَأَيْتُمْ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي. وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْزَلَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَفْعُولًا أَوَّلَ لِأَرَأَيْتُمْ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي قَوْلُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، وَالْعَائِدُ عَلَى المبتدأ من الخير مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِيهِ، وَكُرِّرَ قُلْ قَبْلَ الْخَبَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَإِنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مَنْصُوبَةً بِأَنْزَلَ قَالَهُ: الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالضَّمِيرُ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِيهِ أَوْ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِحَذْفِ هَذَا الْعَائِدِ. وَجَعْلُ مَا مَوْصُولَةً هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءَ. أَرَأَيْتَ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَتَعَدَّى إِلَى الْأَوَّلِ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ، بِخِلَافِ جَعْلِهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، فَإِنَّ أَرَأَيْتَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ مُعَلَّقَةً، وَيَكُونُ مَا قَدْ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَأَنْتُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأِذْنِهِ أَمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ؟ فَنَبَّهَ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ ادِّعَاءُ إِذْنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ افْتِرَاؤُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَأَمْ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى بَلْ، أَتَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ تَقْرِيرًا لِلِافْتِرَاءِ انْتَهَى، وَأَنْزَلَ هُنَا قِيلَ مَعْنَاهُ: خَلَقَ كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2» وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «3» . وَقِيلَ: أَنْزَلَ عَلَى بَابِهَا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ سَبَبِ رِزْقٍ وَهُوَ الْمَطَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْزَلَ لَفْظَةٌ فِيهَا تَجَوُّزٌ، وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ضمن إنزال المطر بالمئال، وَنُزُولِ الْأَمْرِ بِهِ الَّذِي هُوَ ظُهُورُ الْأَثَرِ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْهُ الْمُخْتَرَعِ وَالْمَجْعُولِ حَرَامًا وَحَلَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا حَكَمُوا بِهِ من تحريم البحيرة

(1) سورة يونس: 7/ 57. [.....]

(2)

سورة الحديد: 57/ 25.

(3)

سورة الزمر: 39/ 6.

ص: 77

وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالِحَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» .

وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ خَبَرُهَا ظَنُّ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيٍّ ظَنَّ الْمُفْتَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أُبْهِمَ الْأَمْرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَالْإِبْعَادِ يَوْمَ يَكُونُ الْجَزَاءُ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ. وَيَوْمَ مَنْصُوبٌ بِظَنُّ، وَمَعْمُولُ الظَّنِّ قِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَا ظَنُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَاعِلٌ بِهِمْ، أَيُنَجِّيهِمْ أَمْ يُعَذِّبُهُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: وما ظَنَّ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ أي ظَنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ، فَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ قَدْ تَنُوبُ عَنِ الْمَصْدَرِ تَقُولُ:

مَا تَضْرِبْ زَيْدًا تُرِيدُ أَيَّ: ضَرْبٍ تَضْرَبُ زَيْدًا.

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

مَاذَا يَغِيرُ ابنتي ريع عويلهما

لا يرقدان وَلَا بُؤْسَى لِمَنْ رَقَدَا

وَجِيءَ بِلَفْظِ ظَنَّ مَاضِيًا لِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنْ قَدْ كَانَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنَّ فِي مَعْنَى يَظُنُّ، لِكَوْنِهِ عَامِلًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَفَصَّلَ لَهُمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْكُرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ.

وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَمَذَاهِبِهِمْ وَالرَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَمُحَاوَرَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ، وَذَكَرَ فَضْلَهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ، ذَكَرَ تَعَالَى اطِّلَاعَهُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَحَالِ الرَّسُولِ مَعَهُمْ فِي مُجَاهَدَتِهِ لَهُمْ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيُظْهِرَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقِ الشَّيْطَانِ وَفَرِيقِ الرَّحْمَنِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وما تتلوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَامٌّ بِجَمِيعٍ شؤونه عليه السلام. وما تتلوا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ شَأْنٍ، وَانْدَرَجَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْخِطَابِ كُلُّ ذِي شَأْنٍ. وَمَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ نَافِيَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى

(1) سورة الأنعام: 6/ 136.

ص: 78

شَأْنٍ، وَمِنْ قُرْآنٍ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ، وَخُصَّ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ شؤونه عليه السلام. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَفُسِّرَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ قُرْآنٌ، وَأُضْمِرَ قَبْلَ الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أي: وما تتلوا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ قُرْآنٍ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ، وَكَذَا إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا. وَوَلِيَ إِلَّا هُنَا الْفِعْلُ غَيْرَ مَصْحُوبٍ بِقَدْ، لِأَنَّهُ قد تقدم الأفعل. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا حَالٌ وَشُهُودًا رُقَبَاءَ نُحْصِي عَلَيْكُمْ، وَإِذْ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ: شُهُودًا. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ السَّابِقَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ وَتَنْسَحِبُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ كَانَ الظَّرْفُ مَاضِيًا، وَكَانَ الْمَعْنَى: وَمَا كُنْتَ فِي شَأْنٍ وَمَا تَلَوْتَ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا عَمِلْتُمْ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ أَفَضْتُمْ فِيهِ. وَإِذْ تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا فِيهِ تَحْذِيرٌ وَتَنْبِيهٌ عَدَلَ عَنْ خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خِطَابِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ شَهِيدًا عَلَى أَعْمَالِ الخلق كلهم.

وتفيضون: تَخُوضُونَ، أَوْ تَنْشُرُونَ، أَوْ تَدْفَعُونَ، أَوْ تَنْهَضُونَ، أَوْ تَأْخُذُونَ، أَوْ تَنْقُلُونَ، أَوْ تَتَكَلَّمُونَ، أَوْ تَسْعَوْنَ، أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ ثُمَّ وَاجَهَهُ تَعَالَى بِالْخِطَابِ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا. وَلَمَّا ذَكَرَ شَهَادَتَهُ تَعَالَى عَلَى أَعْمَالِ الْخَلْقِ نَاسَبَ تَقْدِيمُ الْأَرْضِ الَّذِي هِيَ مَحَلُّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى السَّمَاءِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْأَرْضِ.

وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْكِسَائِيُّ، يَعْزِبُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَكَذَا فِي سَبَأٍ «1» . وَالْمِثْقَالُ اسْمٌ لَا صِفَةٌ، وَمَعْنَاهُ هُنَا وَزْنُ ذَرَّةٍ. وَالذَّرُّ صِغَارُ النَّمْلِ، وَلَمَّا كَانَتِ الذَّرَّةُ أَصْغَرَ الْحَيَوَانِ الْمُتَنَاسِلِ الْمَشْهُورِ النَّوْعِ عِنْدَنَا جَعَلَهَا اللَّهُ مِثَالًا لِأَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرِهَا، إِذْ هِيَ أَحْقَرُ مَا نُشَاهِدُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: مِنَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ أَدَقُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا، نَاسَبَ تَقْدِيمُ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِقَوْلِهِ: وَلَا أَكْبَرَ، عَلَى سَبِيلِ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَدَقَّ الْأَشْيَاءِ وَأَخْفَاهَا كَانَ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقًا بِأَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ وَأَظْهَرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى ذَرَّةٍ أَوْ عَلَى مِثْقَالِ عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ: بِرَفْعِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ مِثْقَالِ لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فهو مرفوع بيعزب، هَكَذَا وَجَّهَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِاخْتِيَارِ الزَّجَّاجِ: وَالْوَجْهُ النَّصْبُ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً. وَفِي

(1) سورة سبأ: 34/ 3.

ص: 79