المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

بِفَتْحِهَا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ سَعِدُوا مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ. وَقَدِ احْتَجَّ الْكِسَائِيُّ بِقَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ، قِيلَ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَكَانٌ مَسْعُودٌ فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ فِيهِ وَسُمِّيَ بِهِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ سَعِدُوا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَسْعُودٍ، وَهُوَ شَاذٌّ قَلِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ سَعَدَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَسْعَدَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَانْتَصَبَ عَطَاءً عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أُعْطُوا عَطَاءً بِمَعْنَى إِعْطَاءٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» أَيْ إِنْبَاتًا. وَمَعْنَى غَيْرَ مَجْذُوذٍ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ مُمْتَدٌّ إِلَى غَيْرِ نهاية.

[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116)

الزُّلْفَةُ قَالَ اللَّيْثُ: طَائِفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزُّلَفُ أَوَّلُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا زُلْفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَآنَاؤُهُ، وَكُلُّ سَاعَةٍ زلفة. وقال العجاج:

(1) سورة نوح: 71/ 17.

ص: 214

ناح طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا

طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا

سَمَاؤُهُ الْهِلَالُ حَتَّى احقوفا وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الزُّلْفَى وَهِيَ الْقُرْبَةُ، وَيُقَالُ: أَزْلَفَهُ فَازْدَلَفَ أَيْ قَرَّبَهُ فَاقْتَرَبَ، وَأَزْلَفَنِي أَدْنَانِي. التَّرَفُ: النِّعْمَةُ، صَبِيٌّ مُتْرَفٌ مُنَعَّمُ الْبَدَنِ، وَمُتْرَفٌ أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَتْرَفَ عُوِّدَ التُّرْفَةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ.

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَصَصَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ، شَرَحَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَحْوَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُو آبَائِهِمْ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ فِي اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَهَؤُلَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِاتِّفَاقٍ، وَأَنَّ دَيْدَنَهُمْ كَدَيْدَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْعَمَى عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَعِدَةٌ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، إِذْ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ حَالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ مَا جَرَى لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَا يَعْبُدُ، مَعْنَاهُ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الشِّرْكِ مِثْلُ حَالِ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَقَدْ بَلَغَكَ مَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ، فَسَيَنْزِلُ بِهِمْ مِثْلُهُ. وَمَا يَعْبُدُ اسْتِئْنَافٌ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمِرْيَةِ، وَمَا فِي مِمَّا وَفِي كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَبِمَعْنَى الَّذِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

لَمُوَفُّوهُمْ مُشَدَّدًا مِنْ وَفَّى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مُخَفَّفًا مِنْ أَوْفَى، وَالنَّصِيبُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنَ الرِّزْقِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ الْعَذَابِ، وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَمَا وَفَّيْنَا آباءهم أنصباءهم، وغير مَنْقُوصٍ حَالٌ مِنْ نَصِيبِهِمْ، وَهُوَ عِنْدِي حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَقْتَضِي التَّكْمِيلَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ نُصِبَ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مِنَ النَّصِيبِ الْمُوَفَّى؟

(قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى وَهُوَ نَاقِصٌ، وَيُوَفَّى وَهُوَ كَامِلٌ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: وَفَّيْتُهُ شَطْرَ حَقِّهِ، وَثُلُثَ حَقِّهِ، وَحَقَّهُ كَامِلًا وَنَاقِصًا؟ انْتَهَى وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ إِذَا قَالَ: وَفَّيْتُهُ شَطْرَ حَقِّهِ، فَالتَّوْفِيَةُ وَقَعَتْ فِي الشَّطْرِ، وَكَذَا ثُلُثَ حَقِّهِ، وَالْمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ الشَّطْرَ أَوِ الثُّلُثَ كَامِلًا لَمْ أَنْقُصْهُ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَقَّهُ كَامِلًا وَنَاقِصًا، أَمَّا كَامِلًا فَصَحِيحٌ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَقْتَضِي الْإِكْمَالَ، وَأَمَّا وَنَاقِصًا فَلَا يُقَالُ لِمُنَافَاتِهِ التَّوْفِيَةَ. وَالْخِطَابُ فِي فَلَا تَكُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ دَاخَلَهُ الشَّكُّ، لَا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكُلِّ مَنْ شَكَّ لَا تَكُ

ص: 215

فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ آبَاءَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ وَإِعْرَاضًا عَنْ حُجَجِ الْعُقُولِ.

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِصْرَارَ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَانُوا عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَيْسَ ذلك ببدع من من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُوَ: إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ، فَقَبِلَهُ بَعْضٌ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضٌ، كَمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ عَلَى الْكِتَابِ لِقُرْبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى عليه السلام. وَيَلْزَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أَحَدِهِمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْآخَرِ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ تَعَنُّتًا عَلَى مُوسَى وَأَكْثَرَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «1» وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عليه السلام، إِذْ هُمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ، أَوْ فِي الْكِتَابِ.

وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الرَّسُولِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّفْظُ أَحْسَنُ عِنْدِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيَتِهِ أَيْضًا.

وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: الظَّاهِرُ عُمُومُ كُلٍّ وَشُمُولُهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالَ الزمخشري: التنوين عوض من الْمُضَافِ إِلَيْهِ يَعْنِي: وَإِنَّ كُلَّهُمْ، وَإِنَّ جَمِيعَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ كُلًّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ سَاكِنَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي يس والطَّارِقِ وَأَجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلَى نَصْبِ كُلًّا، فَتُصُوِّرَ فِي قِرَاءَتِهِمْ أربع قراءات: إِحْدَاهَا: تَخْفِيفُ إِنْ وَلَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَرَمِيَّيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: تَشْدِيدُهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ. وَالثَّالِثَةُ: تَخْفِيفُ إِنْ وَتَشْدِيدُ لَمَّا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ. وَالرَّابِعَةُ:

تَشْدِيدُ إِنَّ وَتَخْفِيفُ لَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ كُلٌّ بِالرَّفْعِ لَمَّا مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَخْفِيفِ إِنَّ وَلَا تَشْدِيدِهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:

الَّذِي فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَإِنَّ مِنْ كُلٍّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَإِنَّ كُلٌّ إِلَّا، وَهُوَ حَرْفُ

(1) سورة يونس: 10/ 19.

ص: 216

ابْنِ مَسْعُودٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ فِي الشَّاذِّ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَإِعْمَالُ إِنْ مُخَفَّفَةً كَإِعْمَالِهَا مُشَدَّدَةً، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ: ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ تَخْفِيفَ إِنْ يُبْطِلُ عَمَلَهَا، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَعْمَلَ. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ إِعْمَالَهَا جَائِزٌ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ إِلَّا مَعَ الْمُضْمَرِ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شَعْرٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الثِّقَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْعَرَبِ أَنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ، وَلِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَقَدْ تَأَوَّلَهَا الْكُوفِيُّونَ. وَأَمَّا لَمَّا فَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَاللَّامُ فِيهَا هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي كَمَا جَاءَ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «1» وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَجَوَابِهِ الَّذِي هُوَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ صِلَةُ، لَمَّا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «2» وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، وَمِنْ إِيقَاعِ مَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ قَوْلُهُمْ: لَا سِيَّمَا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، أي لاسي الَّذِي هُوَ زَيْدٌ.

وَقِيلَ: مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَهِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَالْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا قَامَتْ مَقَامَ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَخُلِقَ مُوَفًّى عَمَلُهُ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:

الْعُرْفُ أَنْ تَدْخُلَ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُنَا هُوَ الْقَسَمُ وَفِيهِ لَامٌ تَدْخُلُ عَلَى جَوَابِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ اللَّامَانِ وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ، وَاتَّفَقَا فِي اللَّفْظِ، وَفِي تَلَقِّي الْقَسَمِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَا كَمَا فَصَلُوا بَيْنَ إِنَّ وَاللَّامِ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ اللَّامَ فِي لَمَّا هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، وَنَصَّ الْحَوْفِيُّ عَلَى أَنَّهَا لَامُ إِنَّ، إِلَّا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَتَحْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لَمَّا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَمَا مَزِيدَةٌ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا، وَإِلَى هَذَا القول في التحقيق يؤول قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَتَشْدِيدُ إِنَّ وَإِعْمَالُهَا فِي كُلٍّ وَاضِحٌ. وَأَمَّا تَشْدِيدُ لَمَّا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا لَحْنٌ، لَا تَقُولُ الْعَرَبُ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا خَارِجٌ، وَهَذِهِ جَسَارَةٌ مِنَ الْمُبَرِّدِ عَلَى عَادَتِهِ. وَكَيْفَ تَكُونُ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَحْنًا وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ كَتَرْكِيبِ الْمِثَالِ الَّذِي قَالَ: وَهُوَ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا خَارِجٌ هَذَا الْمِثَالُ لَحْنٌ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لَحْنًا، وَلَوْ سَكَتَ وَقَالَ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ قَدْ وُفِّقَ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهَا. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ لما منونا وقد قرىء كَذَلِكَ، ثُمَّ بُنِيَ مِنْهُ فَعْلَى، فَصَارَ كَتَتْرَى نُوِّنَ إِذْ جُعِلَتْ أَلِفُهُ لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى، وَمُنِعَ الصَّرْفَ إِذْ جُعِلَتْ أَلِفَ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ لَمَمْتُهُ أَيْ جَمَعْتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا جَمِيعًا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَيَكُونُ جَمِيعًا فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ كَكُلٍّ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا هَذِهِ هِيَ لَمَّا الْمُنَوَّنَةُ وُقِفَ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّنْوِينِ، وَأَجْرَى الْأَصْلَ مجرى الوقف،

(1) سورة النساء: 4/ 3.

(2)

سورة النساء: 4/ 72

ص: 217

لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بَعِيدٌ، إِذْ لَا يُعْرَفُ بِنَاءُ فَعْلَى مِنَ اللَّمِّ، وَلِمَا يَلْزَمُ لِمَنْ أَمَالَ فَعْلَى أَنْ يُمِيلَهَا وَلَمْ يُمِلْهَا أَحَدٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ كِتَابَتِهَا بِالْيَاءِ وَلَمْ تُكْتَبْ بِهَا، وَقِيلَ: لَمَّا الْمُشَدَّدَةُ هِيَ لَمَا الْمُخَفَّفَةُ، وَشَدَّدَهَا فِي الْوَقْفِ كَقَوْلِكِ: رَأَيْتُ فَرَّحًا يُرِيدُ فَرَحًا، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَرُوِيَ عَنِ الْمَازِنِيِّ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُ: تَقَعُ إِلَّا زَائِدَةً، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ لَمَّا بِمَعْنَاهَا زَائِدَةً انْتَهَى. وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ فِي إِلَّا. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ ثُقِّلَتْ، وَهِيَ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا، كَمَا خُفِّفَتْ إِنْ وَمَعْنَاهَا الْمُثَقَّلَةُ، وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ تَثْقِيلُ إِنِ النَّافِيَةِ، وَلِنَصْبِ كُلٍّ وَإِنِ النَّافِيَةُ لَا تَنْصِبُ. وَقِيلَ: لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا كَقَوْلِكَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، تُرِيدُ إِلَّا فَعَلْتَ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَضَعَّفَهُ أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: لِأَنَّ لَمَّا هَذِهِ لَا تُفَارِقُ الْقَسَمَ انْتَهَى.

وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، قَدْ تُفَارِقُ الْقَسَمَ. وَإِنَّمَا يَبْطُلُ هَذَا الْوَجْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ دُخُولِ إِلَّا، لَوْ قُلْتَ: إِنْ زَيْدًا إِلَّا ضَرَبْتُهُ لَمْ يَكُنْ تَرْكِيبًا عَرَبِيًّا. وَقِيلَ: لَمَّا أَصْلُهَا لَمَنْ مَا، وَمَنْ هِيَ الْمَوْصُولَةُ، وَمَا بَعْدَهَا زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ إِنَّ، وَالصِّلَةُ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ، فَلَمَّا أدغمت ميم مَنْ فِي مَا الزَّائِدَةِ اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ، فَحُذِفَتِ الْوُسْطَى مِنْهُنَّ وَهِيَ الْمُبْدَلَةُ مِنَ النُّونِ، فَاجْتَمَعَ الْمِثْلَانِ، فَأُدْغِمَتْ مِيمُ مَنْ فِي مِيمِ مَا، فَصَارَ لَمَّا وَقَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ نَصْرٌ الشِّيرَازِيُّ: أَصْلُ لَمَّا لَمِنْ مَا دَخَلَتْ مِنَ الْجَارَّةُ عَلَى مَا، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنَّا لَمِنْ مَا يَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً

عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ

فَعَمِلَ بِهَا مَا عَمِلَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا لَمْ يُعْهَدْ حَذْفُ نُونِ مَنْ، وَلَا حَذْفُ نُونِ مِنْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، إِذَا لَقِيَتْ لَامَ التَّعْرِيفِ أَوْ شِبْهَهَا غَيْرَ الْمُدْغَمَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: مِلْمَالِ يُرِيدُونَ مِنَ الْمَالِ.

وَهَذِهِ كُلُّهَا تَخْرِيجَاتٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا. وَكُنْتُ قَدْ ظَهَرَ لِي فِيهَا وَجْهٌ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَمَّا هَذِهِ هِيَ لَمَّا الْجَازِمَةُ حُذِفَ فِعْلُهَا الْمَجْزُومُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، كَمَا حَذَفُوهُ فِي قَوْلِهِمْ قَارَبْتُ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا يُرِيدُونَ وَلَمَّا أَدْخُلْهَا. وَكَذَلِكَ هُنَا التَّقْدِيرُ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا يَنْقُصُ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، لَمَّا أَخْبَرَ بِانْتِفَاءِ نَقْصِ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ فَقَالَ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، وَكُنْتُ اعْتَقَدْتُ أَنِّي سَبَقْتُ إِلَى هَذَا التَّخْرِيجِ السَّائِغِ الْعَارِي مِنَ التَّكَلُّفِ وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ مَنْ

ص: 218

يَقْرَأُ عَلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَلِتَرْكِي النَّظَرَ فِي كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ نَقْلَ هَذَا التَّخْرِيجِ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَالَ: لَمَّا هَذِهِ هِيَ الْجَازِمَةُ حُذِفَ فِعْلُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ جَوَازِ حَذْفِ فِعْلِهَا فِي قَوْلِهِمْ: خَرَجْتُ وَلَمَّا سَافَرْتُ، وَلَمَّا وَنَحْوُهُ، وَهُوَ سَائِغٌ فَصِيحٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمَّا يُتْرَكُوا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَجْمُوعَيْنِ فِي قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» ثُمَّ ذَكَرَ الْأَشْقِيَاءَ وَالسُّعَدَاءَ وَمُجَازَاتَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَ: وَمَا أَعْرِفُ وَجْهًا أَشْبَهَ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ النُّفُوسُ تَسْتَبْعِدُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَتَخْرِيجُهُمَا مَفْهُومٌ مِنْ تَخْرِيجِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَبْلَهُمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَإِنَّ نَافِيَةٌ، وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، وَالتَّقْدِيرُ: مَا كُلٌّ إِلَّا وَاللَّهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَكُلٌّ مُبْتَدَأٌ الخبر الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا الَّتِي بَعْدَ لَمَّا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ «2» إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «3» وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ مِنْ إِنْكَارِهِمَا أَنَّ لَمَّا تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ:

رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَمَّا أَخَاكَ يُرِيدُ إِلَّا أَخَاكَ، وَهَذَا غيره مَوْجُودٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَّا مَنْ جَعَلَ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ مَعَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ: لَمَّا قُمْتَ عَنَّا، وَإِلَّا قُمْتَ عَنَّا، فَأَمَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ نَنْقُلْهُ فِي شِعْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَسُمِعَ فِي الْكَلَامِ:

ذَهَبَ النَّاسُ لَمَّا زَيْدًا؟ وَالْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا، وإن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا، حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَكَوْنُ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا نَقَلَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ، وَكَوْنُ الْعَرَبِ خَصَّصَتْ مَجِيئَهَا بِبَعْضِ التَّرَاكِيبِ لَا يَقْدَحُ وَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ خُصَّ بِتَرْكِيبٍ دُونَ مَا أَشْبَهَهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَرْقَمَ: لَمًّا بِالتَّنْوِينِ وَالتَّشْدِيدِ، فَلَمَّا مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ جَمَعْتُهُ، وَخُرِّجَ نَصْبُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن يَكُونَ صِفَةً لِكُلًّا وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ وَقُدِّرَ كُلٌّ مُضَافًا إِلَى نَكِرَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الْوَصْفُ بِالنَّكِرَةِ، كَمَا وُصِفَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا «4» وَهَذَا تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ:

لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قِيَامًا لأقومن، وقعودا لا قعدن، فَالتَّقْدِيرُ تَوْفِيَةٌ جَامِعَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ لَيَوَفِّيَنَّهُمْ. وَهَذَا تَخْرِيجُ ابْنِ جِنِّيٍّ وَخَبَرُ إِنَّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ جُمْلَةُ القسم وجوابه.

(1) سورة هود: 11/ 105.

(2)

سورة يس: 36/ 32.

(3)

سورة الطارق: 86/ 4.

(4)

سورة الفجر: 89/ 19.

ص: 219

وَأَمَّا مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَإِنْ نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ فَوَاضِحَةٌ، وَالْمَعْنَى:

جَمِيعُ مَا لَهُمْ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَوْكِيدَاتٍ بِإِنْ وَبِكُلٍّ وَبِاللَّامِ فِي الْخَبَرِ وَبِالْقَسَمِ، وَبِمَا إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً، وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ وَبِاللَّامِ قَبْلَهَا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَعْدِ الطَّائِعِ وَوَعِيدِ الْعَاصِي، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَهِيَ: إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي عِلْمَ مَا خَفِيَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: بِمَا تَعْمَلُونَ عَلَى الْخِطَابِ.

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ بِالْجِهَادِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:

امْضِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ رَبِّكَ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ،

وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: اسْتَقِمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ بِصِحَّةِ الْعَزْمِ

، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَقِمِ اسْتِقَامَةً مِثْلَ الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا عَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ غَيْرَ عَادِلٍ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُمِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ. وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ وَلِسَائِرِ الْأُمَّةِ، فَالْمَعْنَى: وَأُمِرْتَ مُخَاطَبَةُ تَعْظِيمٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ أَيِ: اطْلُبِ الْإِقَامَةَ عَلَى الدِّينِ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَغْفِرْ أَيِ اطْلُبِ الْغُفْرَانَ. وَمَنْ تَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي فَاسْتَقِمْ، وَأَغْنَى الْفَاصِلُ عَنِ التَّوْكِيدِ: وَلَا تَطْغَوْا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْقُرْآنِ فَتُحِلُّوا وَتُحَرِّمُوا مَا لَمْ آمُرْكُمْ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تَعْصُوا رَبَّكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَخْلِطُوا التَّوْحِيدَ بِالشَّكِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَخْرُجُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يَرَاهَا وَيُجَازِي عَلَيْهَا.

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الرُّكُونِ الْمَيْلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: لَا تُدَاهِنُوا الظَّلَمَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْحَقُوا بِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَدْنُوَا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ، وَقِيلَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ،

وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ

، وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَقِيلَ: لَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْكَنُوا بِفَتْحِ الْكَافِ، وَالْمَاضِي رَكِنَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:

هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مُضَارِعِ عَلِمَ غَيْرَ الْيَاءِ.

وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَشْهَبُ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَتَرْكُنُوا بِضَمِّ الْكَافِ مَاضِي رَكَنَ

ص: 220

بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَأَهْلُ نَجْدٍ. وَشَذَّ يَرْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ، مُضَارِعُ رَكَنَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَرْكَنُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَرْكَنَهُ إِذَا أَمَالَهُ، والنهي متناول لانحطاط فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتَهُمْ، وَمُجَالَسَتَهُمْ، وَزِيَارَتَهُمْ، وَمُدَاهَنَتَهُمْ، وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِمْ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَمَدَّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرَهُمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: وَلَا تَرْكَنُوا، فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ. وَقَوْلَهُ: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَيِ الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلِ الظَّالِمِينَ، قَالَهُ:

الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرِّضَا بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:

الرُّكُونُ الرِّضَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرُّكُونُ الْإِدْهَانُ، وَالرُّكُونُ يَقَعُ فِي قَلِيلِ هَذَا وَكَثِيرِهِ. وَالنَّهْيُ هُنَا يَتَرَتَّبُ مِنْ مَعْنَى الرُّكُونِ عَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ مَعَهُمْ إِلَى أَقَلِّ الرُّتَبِ، مِنْ تَرْكِ التَّعْيِيرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُنَا هُمُ الْكَفَرَةُ، وَهُوَ النَّصُّ لِلْمُتَأَوِّلِينَ، وَيَدْخُلُ بِالْمَعْنَى أَهْلُ الْمَعَاصِي انْتَهَى. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ الْمُلُوكَ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ هَلْ يُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ؟ فَقَالَ:

لَا. فَقِيلَ لَهُ: يَمُوتُ، فَقَالَ: دَعْهُ يَمُوتُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ فِي أَرْضِهِ»

وَكَتَبَ إِلَى الزُّهْرِيِّ حِينَ خَالَطَ السَّلَاطِينَ أَخٌ لَهُ فِي الدِّينِ كِتَابًا طَوِيلًا قَرَّعَهُ فِيهِ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَحَمْزَةُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: فَتَمَسَّكُمُ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالْمَسُّ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ. وَانْتَصَبَ الْفِعْلُ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا حَالٌ. وَمَعْنَى مِنْ أَوْلِيَاءَ، مِنْ أَنْصَارٍ يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ. ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لَا يَنْصُرُكُمْ هُوَ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي حِكْمَتِهِ تَعْذِيبُكُمْ، وَتَرْكُ الْإِبْقَاءِ عَلَيْكُمْ. (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى؟ ثُمَّ قُلْتُ: مَعْنَاهَا الِاسْتِبْعَادُ، لِأَنَّ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ مُسْتَبْعَدَةٌ مَعَ اسْتِيجَابِهُمُ الْعَذَابَ وَقَضَاءِ حِكْمَتِهِ لَهُ انْتَهَى، وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ثُمَّ لَا تُنْصَرُوا بِحَذْفِ النُّونِ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَتَمَسَّكُمُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَوِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ.

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي عَالَجَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ، فَأَصَابَ مِنْهَا مَا سِوَى إِتْيَانِهَا فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ:

ص: 221

«لَا، بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً»

وَانْظُرْ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، حَيْثُ جَاءَ الْخِطَابُ فِي الْأَمْرِ، فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «1» ، وأقم الصَّلَاةَ، مُوَحَّدًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَامًّا، وَجَاءَ الْخِطَابُ فِي النَّهْيِ: وَلا تَرْكَنُوا «2» مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، مُخَاطَبًا بِهِ أُمَّتُهُ. فَحَيْثُ كَانَ بِأَفْعَالِ الْخَيْرِ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ، وحيث كان النهي عَنِ الْمَحْظُورَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ أُمَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ جليل الفصاحة. ولا خلاف أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِقَامَتِهَا هِيَ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ، وَإِقَامَتُهَا دَوَامُهَا، وَقِيلَ:

أَدَاؤُهَا عَلَى تَمَامِهَا، وَقِيلَ: فِعْلُهَا فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.

وَانْتَصَبَ طَرَفَيِ النَّهَارِ عَلَى الظَّرْفِ. وَطَرَفُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْءِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النَّهَارِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَعَمِّدًا أَنَّ يَوْمَهُ يَوْمُ فِطْرٍ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَدِ ادَّعَى الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: هُمَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ: الزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الظهر فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هِيَ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الطَّرَفُ الْأَوَّلُ الصُّبْحُ، وَالثَّانِي الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الصُّبْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: هُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَالزُّلَفُ الْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: هُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ رَاعَى الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِخْفَاءَ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، وَجَعْلُ الظُّهْرِ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي لَيْسَ بِوَاضِحٍ، إِنَّمَا الظُّهْرُ نِصْفُ النَّهَارِ، وَالنِّصْفُ لَا يُسَمَّى طَرَفًا إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ.

وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ هُمَا الصُّبْحُ والمغرب، ولا نجعل الْمَغْرِبُ طَرَفًا لِلنَّهَارِ إِلَّا بِمَجَازٍ، إِنَّمَا هُوَ طَرَفُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً قَالَ: وَصَلَاةُ الْغُدْوَةِ الصُّبْحُ، وَصَلَاةُ الْعَشِيَّةِ الظَّهْرُ وَالْعَصْرُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَشِيٌّ، وَصَلَاةُ الزُّلَفِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَشِيِّ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَنْ يَكُونَ الظُّهْرُ طَرَفًا لِلنَّهَارِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا جَاءَ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، لَا فِي الغداة والعشي.

(1) سورة هود: 11/ 112.

(2)

سورة هود: 11/ 113.

ص: 222

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَزُلَفًا بِفَتْحِ اللَّامِ، وَطَلْحَةُ وَعِيسَى الْبَصْرَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا كَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ: بِإِسْكَانِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُمَا: وَزُلْفَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى عَلَى صِفَةِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى المنزلة. وأما القراآت الْأُخَرُ مِنَ الْجُمُوعِ فَمَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، فَزُلَفٌ جَمْعٌ كَظُلَمٍ، وَزُلْفٌ كَبُسْرٍ فِي بُسُرٍ، وَزُلُفٌ كَبُسُرٍ فِي بُسْرَةٍ، فَهُمَا اسْمَا جِنْسٍ، وَزُلْفَى بِمَنْزِلَةِ الزُّلْفَةِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ عَلَى طَرَفَيِ النَّهَارِ، عَطَفَ طَرَفًا عَلَى طَرَفٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذُكِرَ هَذِهِ القراآت وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، وَقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، وَحَقُّهَا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ: أَقِمِ الصَّلَاةَ فِي النَّهَارِ، وَأَقِمْ زُلْفَى مِنَ اللَّيْلِ عَلَى مَعْنَى صَلَوَاتٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عز وجل فِي بَعْضِ اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْحَسَنَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ. وَخُصُوصُ السَّيِّئَاتِ وَهِيَ الصَّغَائِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ

الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُثْمَانُ عند وضوئه عَلَى الْمَقَاعِدِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَالِكٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَسَنَاتُ قَوْلُ الرَّجُلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ فِي الْحِسَابِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ هِيَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ. وَالصَّغَائِرُ الَّتِي تَذْهَبُ هِيَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَهَذَا نَصُّ حُذَّاقِ الْأُصُولِيِّينَ. وَمَعْنَى إِذْهَابِهَا: تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ، وَالصَّغَائِرُ قَدْ وُجِدَتْ وَأَذْهَبَتِ الْحَسَنَاتُ مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، لَا أَنَّهَا تَذْهَبُ حَقَائِقُهَا، إِذْ هِيَ قَدْ وُجِدَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ يَكُونُ لُطْفًا فِي تَرْكِ السَّيِّئَاتِ، لَا أنها واقعة كقوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «1» والظاهر أنّ الإشارة قوله ذَلِكَ، إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ أَيْ إِقَامَتَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. ذِكْرَى أَيْ: سَبَبُ عِظَةٍ وَتَذْكِرَةٍ لِلذَّاكِرِينَ أَيِ الْمُتَّعِظِينَ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الذِّكْرَى حَضًّا عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى القرآن، وقيل:

(1) سورة العنكبوت: 29/ 45. [.....]

ص: 223

ذِكْرَى مَعْنَاهَا تَوْبَةٌ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالْمَكَارِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمُنَبِّهًا عَلَى مَحَلِّ الصَّبْرِ، إِذْ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِلَّا بِهِ، وَأَتَى بِعَامٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، لِيَنْدَرِجَ فِيهِ كُلُّ مَنْ أَحْسَنَ بِسَائِرِ خِصَالِ الْإِحْسَانِ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ فِيهِ، وَمَا قَدْ لَا يُحْتَاجُ كَطَبْعِ مَنْ خُلِقَ كَرِيمًا، فَلَا يَتَكَلَّفُ الْإِحْسَانَ إِذْ هُوَ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْسِنُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ، كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُخْلِصُونَ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْمُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ.

فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ: لَوْلَا هُنَا لِلتَّحْضِيضِ، صَحِبَهَا مَعْنَى التَّفَجُّعِ وَالتَّأَسُّفِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَهْتَدِ، وَهَذَا نحو قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «1» وَالْقُرُونُ: قَوْمُ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْبَقِيَّةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْخَيْرُ وَالنَّظَرُ وَالْجَزْمُ فِي الدِّينِ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ مَثَلًا في الجودة والفضل. ويقال فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ، وَبِهِ فُسِرَّ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:

فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا. وَإِنَّمَا قِيلَ: بَقِيَّةٌ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ وَالدُّوَلَ وَنَحْوَهَا قُوَّتُهَا فِي أَوَّلِهَا، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَضْعُفُ، فَمَنْ ثَبَتَ فِي وَقْتِ الضَّعْفِ فَهُوَ بَقِيَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. وَبَقِيَّةٌ فَعِيلَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى، كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى أَيْ: فلا كان منهم ذو وبقاء عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لَهَا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ.

وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بَقِيَةٍ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَقِيَ، نَحْوُ: شَجِيَتْ فَهِيَ شَجِيَّةٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بُقْيَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وسكون القاف، وَزْنِ فُعْلَةٍ. وَقُرِيءَ: بَقْيَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ لِلْمَرَّةِ من بقاه يبقيه إِذَا رَقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنِ انْتِقَامِ اللَّهِ، كَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ إِيقَاعَهُ بِهِمْ لِإِشْفَاقِهِمْ. وَالْفَسَادُ هُنَا الْكُفْرُ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَضٌّ لَهَا عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ. إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جَمَاعَاتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مَعَ بَقَاءِ التَّحْضِيضِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى أَنَّ النَّاجِينَ لَمْ يُحَرِّضُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ. وَالْكَلَامُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بالتحضيض واجب، وغيره

(1) سورة يس: 36/ 30.

ص: 224