الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ هِيَ أَيْ جَهَنَّمُ. وَوَصْفُ التَّكَبُّرِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهِ النَّارَ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ «1» .
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
(1) سورة النحل: 16/ 22.
خَسَفَ الْمَكَانُ يَخْسِفُ خُسُوفًا ذَهَبَ، وَخَسَفَهُ اللَّهُ يُرِيدُ أَذْهَبَهُ فِي الْأَرْضِ بِهِ. دَخَرَ دُخُورًا تَصَاغَرَ، وَفَعَلَ مَا يُؤْمَرُ شَاءَ أَوْ أَبَى. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَوَاضَعَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مَجْلِسٍ
…
وَمُنْجَحِرٌ فِي غير أرضك في حجر
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مَاذَا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةً لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، لِكَوْنِ ماذا مبتدأ وخبر، أَوِ الْجَوَابُ نَصْبٌ وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْمُطَابَقَةَ فِي الْإِعْرَابِ أَحْسَنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْرًا بِالنَّصْبِ أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمْ نَصَبَ هَذَا، وَرَفَعَ الْأَوَّلَ؟ (قُلْتُ) : فَصْلًا بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ، يَعْنِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا: لَمْ يَتَلَعْثَمُوا وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا: خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَيْرٌ بِالرَّفْعِ أَيِ:
الْمُنَزَّلُ فَتُطَابِقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَأْوِيلَ مَنْ جَعَلَ إِذَا مَوْصُولَةً، وَلَا تُطَابِقُ مَنْ جَعَلَ مَاذَا مَنْصُوبَةً، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ جَائِزًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ
كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوَاسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا جَاءَ الْوَفْدُ كَفَّهُ الْمُقْتَسِمُونَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَقَالُوا: إِنْ لَمْ تَلْقَهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ فَيَقُولُ: أَنَا شَرُّ وَافِدٍ إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَسْتَطْلِعَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَرَاهُ، فَيَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ، مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرِ الَّذِي أنزله اللَّهُ فِي الْوَحْيِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَنَعِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ خَيْرٍ، حِكَايَةً لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، فَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَسْمِيَتَهُ خَيْرًا ثُمَّ خكاه انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى وَعْدٌ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ إِحْسَانِ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَالَتِهِمْ. وَمَعْنَى حَسَنَةٍ مُكَافَأَةٌ فِي الدُّنْيَا بِإِحْسَانِهِمْ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحَذَفَ الْمُخَصَّصَ بِالْمَدْحِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَجَنَّاتُ عَدْنٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ انْتَهَى.
وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَبْلَهُمَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي إِعْرَابَ جَنَّاتُ عَدْنٍ بِالرَّفْعِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، ويدخلونها الخبر. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَنِعْمَتُ دَارِ، بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ، وَدَارٍ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الْخَبَرَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَدْخُلُونَهَا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ نَافِعٍ: يَدْخُلُونَهَا بِيَاءٍ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: تَجْرِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِجَنَّاتٌ انْتَهَى. فَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَحَظَ كَوْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مَعْرِفَةً، وَالْحَوْفِيُّ لَحَظَ كَوْنَهَا نَكِرَةً، وَذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدْنٍ هَلْ هِيَ عَلَمٌ؟ أَوْ نَكِرَةٌ بِمَعْنَى إِقَامَةٍ؟ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: جَزَاءٌ مِثْلُ جَزَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا يَجْزِي، وَطَيِّبِينَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ تَتَوَفَّاهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَالِحُو الْأَحْوَالِ مُسْتَعِدُّونَ لِلْمَوْتِ وَالطِّيبِ الَّذِي لَا خَبَثَ فِيهِ، وَمِنْهُ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» .
وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: طَيِّبِينَ طاهرين من الشرك بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. وَقِيلَ: طَيِّبِينَ سَهْلَةٌ وَفَاتُهُمْ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا وَلَا أَلَمَ، بِخِلَافِ مَا يَقْبِضُ رُوحَ الْكَافِرِ وَالْمُخْلِطِ. وَقِيلَ: طَيِّبَةٌ نُفُوسُهُمْ
(1) سورة الزمر: 39/ 73.
بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: زَاكِيَةٌ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ، وَقِيلَ: صَالِحِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَاهِرِينَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وَيَقُولُونَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَقَوْلُهُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، هُوَ وَقْتُ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، قاله: ابن مسعود، ومحمد بْنُ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوا التَّبْشِيرَ بِالْجَنَّةِ دُخُولًا مَجَازًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْحَسَنُ: عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بما صبرتم، فنعم عقبى الدَّارِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يَقُولُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ وَقْتَ التَّوَفِّي. وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ، وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَوَقْتَ الْمَوْتِ لَا يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَالتَّوَفِّي هُنَا تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ وَقْتَ الْحَشْرِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ظَاهِرُهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ:
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ طَعْنَ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ وَصَفَ الْقُرْآنُ بِالْخَيْرِيَّةِ بَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ، أَوْ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَأْتِيهِمْ بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَإِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَهُمْ ظَالِمُو أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْرُ رَبِّكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ أَوِ الْقِيَامَةُ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ:
مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي انْتِظَارِ الْمَلَائِكَةِ أَوَامِرَ اللَّهِ فِعْلُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَهُمْ. وَقِيلَ: مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالدَّيْمُومَةِ عَلَيْهِ فَعَلَ مُتَقَدِّمُوهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: فَعَلَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ اغْتِرَارِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِثْلُ اغْتِرَارِهِمْ بِاسْتِبْطَاءِ الْعَذَابِ اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ:
هَلْ يَنْظُرُونَ عليه، وما ظلمهم بالله بِإِهْلَاكِهِمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَصَابَهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى فَعَلَ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اعْتِرَاضٌ. وَسَيِّئَاتُ: عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ. وَحَاقَ بِهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَقَالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، فَأَغْنَى عَنِ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا يَعْنِي أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ نَسَبُوا فِعْلَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ نَفْعَلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُجَبِّرَةِ بِعَيْنِهِ. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَشْرَكُوا وَحَرَّمُوا حَلَالَ اللَّهِ، فَلَمَّا نُبِّهُوا على قبح فعلهم وركوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغُوا الْحَقَّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَطَّلِعُوا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقُبْحِهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُمْ فَاعِلُوهَا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَاعِثُهُمْ عَلَى جَمِيلِهَا، وَمُوَفِّقُهُمْ لَهُ وَزَاجِرُهُمْ عَنْ قَبِيحِهَا وَمُوعِدُهُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِهِ. فَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ الرَّبَّ الذي يعبده محمد وَيَصِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَعْلَمُ حَالَنَا، وَهَذَا جِدَالٌ مِنْ أي الصفنين كَانَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمِنَ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ مُطَابَقَةَ الْأَدِلَّةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ مَذْهَبِ خَصْمِهَا مُسْتَهْزِئَةً فِي ذَلِكَ.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ أَمَدَّ إِبْطَالَ قَدْرِ السُّوءِ وَمِشْيَةِ الشَّرِّ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ الطَّاغُوتُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ لَطَفَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْخِذْلَانُ وَالشِّرْكُ مِنَ اللُّطْفِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مُصَمَّمًا عَلَى الْكُفْرِ لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا مَا فَعَلْتُ بِالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَكُمْ شُبْهَةٌ وَإِنِّي لَا أُقَدِّرُ الشَّرَّ وَلَا أَشَاؤُهُ، حَيْثُ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ بِالْأَشْرَارِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا قَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، بَيَّنَ ذَلِكَ هُنَا بِأَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِعِبَادَتِهِ وَتَجَنُّبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فَهَدَاهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ وَكَفَرَ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاسْتِقْرَاءِ الْأُمَمِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَذَابِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ حَتَّمَ عَلَيْهِ بِالضَّلَالَةِ لَا يُجْدِي فِيهِ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَإِنْ بِزِيَادَة وَاوٍ وَهُوَ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَحْرَصْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُضَارِعُ حَرِصَ بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ مُضَارِعُ حَرَصَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَيْبَةُ، وَشِبْلٌ، وَمُزَاحِمٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْعُطَارِدِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: لَا يُهْدَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْفَاعِلُ فِي يُضِلُّ ضَمِيرُ اللَّهِ وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبَ، وَجَمَاعَةٌ: يَهْدِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي يَهْدِي ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ، وَعَلَى مَا حَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ هَدَى يَأْتِي بِمَعْنَى اهْتَدَى يَكُونُ لَازِمًا، وَالْفَاعِلُ مَنْ أَيْ لَا يَهْتَدِي مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ:
لَا يَهِدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالدَّالِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَعْنِي: وَتَشْدِيدُ الدَّالِ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي، فَأُدْغِمَ كَقَوْلِكَ فِي: يَخْتَصِمُ يَخْصِمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَهْدِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدَى لَازِمٌ بِمَعْنَى اهْتَدَى لَمْ تَكُنْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى اللَّازِمِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْعَلُ مُهْتَدِيًّا مَنْ أَضَلَّهُ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: لَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبِيٍّ فَإِنَّ اللَّهَ لَا هَادِيَ لِمَنْ يُضِلُّ وَلِمَنْ أضل. وقرىء: يَضِلُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ،
وَقَالَ أَيْضًا: حَرِصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِيمَانِ قُرَيْشٍ،
وَعَرَّفَهُ أَنَّهُمْ مَنْ قِسْمِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، وَأَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أَيْ:
لَا يَلْطُفُ بِمَنْ يَخْذُلُ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْعَبَثِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَأَقْسَمُوا عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقَاضَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُسْلِمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ الْمُشْرِكُ، وَأَنْكَرَ أَنَّكَ تُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَقْسَمُ بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلَى رَدَّ عَلَيْهِ مَا نَفَاهُ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلَى يَبْعَثُهُ. وَانْتَصَبَ وَعْدًا وَحَقًّا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَكِّدَانِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَلَى مِنْ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الحوفي: حقا نعت لو عدا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بَلَى وَعْدٌ حَقٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعْثُهُمْ وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَقٌّ صِفَةٌ لِوَعْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، إِيذَانًا بِأَنَّهُمَا كُفْرَتَانِ عَظِيمَتَانِ مَوْصُوفَتَانِ حَقِيقَتَانِ بِأَنْ تُحْكَيَا وَتُدَوَّنَا، تُورِيكَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَإِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ مُقْسِمِينَ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَذَا الْمَوْعِدِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ:
لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، لَا ثَوَابُ عَامِلٍ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مَوَاجِبِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَخَافَةٌ مِنَ الْقَوْلِ.
وَالْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ بَاطِلٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ عَلَى عَادَتِهِمْ، رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَاللَّامُ فِي لِيُبَيِّنَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ بَلَى أَيْ: نَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا ضَرَبْتَ أَحَدًا فَيَقُولُ: بَلَى زَيْدًا أَيْ: ضَرَبْتُ زَيْدًا. وَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي يَبْعَثُهُمْ الْمُقَدَّرُ، وَفِي لَهُمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَمُوتُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ. وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ جَعْلِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ، وَإِنْكَارِ النُّبُوَّاتِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ فَكَذَّبُوا بِهِ وَكَذَبُوا فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي قَوْلِهِمْ:
لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ لِيُبَيِّنَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمُ اخْتِلَافَهُمْ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، كَاذِبُونَ فِي رَدِّ مَا يَجِيءُ بِهِ الرُّسُلُ.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: لَمَّا تَقَدَّمَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ الَّذِي أَوَجَدَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلى «1» وَذَكَرَ حَقِّيَّةَ وَعْدِهِ بِذَلِكَ، أَوْضَحَ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِ شَيْءٍ أَوْجَدَهُ. وَقَدْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ هَذَا الْعَالَمِ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ ذَلِكَ لَمْ يُوقَفْ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا آلَةٍ، فَكَمَا قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ فِي الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لِشَيْءٍ وَفِي لَهُ لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لِزَيْدٍ قُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ لَامُ السَّبَبِ أَيْ: لِأَجْلِ إِيجَادِ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَيْ لِأَجْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَادِ، لَا إِلَى الْإِرَادَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُرَادَةَ الْمُكَوَّنَةَ فِي وُجُودِهَا اسْتِئْنَافٌ وَاسْتِقْبَالٌ، لَا فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَا فِي الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ ذَيْنَكَ قَدِيمَانِ. فَمِنْ أَجْلِ الْمُرَادِ عَبَّرَ بِإِذَا، وَنَقُولُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لِشَيْءٍ فَيَحْتَمِلُ وجهين:
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ حَتْمًا جَازَ أَنْ يُسَمَّى شَيْئًا وَهُوَ فِي حَالَةِ عَدَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا، وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مَوْجُودًا كَانَ مُرَادًا، وَقِيلَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، فَصَارَ مِثَالًا لِمَا يَتَأَخَّرُ مِنَ الْأُمُورِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا مَخْلَصٌ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ: إِذَا أَرَدْنَاهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ مُرَادٍ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِحَسْبِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَجِيءُ وَتَظْهَرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ الْمُرَادُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْرُجُ قَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ «1» وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَنَحْوُ هَذَا مَعْنَاهُ يَقَعُ مِنْكُمْ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ وَعَلِمَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ قَوْلُنَا، وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ تُعْطِي اسْتِئْنَافًا لَيْسَ في الصدر فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا، وَقَدْ تَجِيءُ فِي مَوَاضِعَ لَا يُلْحَظُ فِيهَا الزَّمَنُ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «2» وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ يَعْنِي الْمُضَارِعَ، وَقَوْلُهُ: فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ تَجِيءُ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ يُفْهَمْ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ أَنْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نِسْبَةِ قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِأَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
ونظيره كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً «3» فَكَانَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَذَا الْوَصْفِ مَاضِيًا وَحَالًا وَمُسْتَقْبَلًا، وَتَقْيِيدُ الْفِعْلِ بِالزَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ: فِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي صُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَأَضْرَابِهِمْ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، فَبَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ يَتَنَزَّلُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا ذَكَرَ اللَّهُ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ، وَرَدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَكَرَ مُؤْمِنِي مَكَّةَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ الْآيَةِ، لِأَنَّ هِجْرَةَ الْمَدِينَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا بَعْدَ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا، عُمُومٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ كَائِنًا مَا كَانُوا، فَيَشْمَلُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ. وَقَرَأَ الجمهور: لنبوأنهم، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ: تَبْوِئَةً حَسَنَةً. وَقِيلَ: انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى لنبوأنهم
(1) سورة التوبة: 9/ 105.
(2)
سورة الروم: 30/ 25.
(3)
سورة الأحزاب: 33/ 27.
فِي الدُّنْيَا لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ، فَحَسَنَةٌ فِي مَعْنَى إِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَسَنَةً مفعول ثان لنبوأنهم، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَنُعْطِيَنَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ أي: دار حَسَنَةً انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: دَارًا حَسَنَةً وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَنْزِلَةً حَسَنَةً، وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَعَلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقِيلَ: مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ. وَقِيلَ: مَا بَقِيَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ، وَمَا صَارَ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٌ نَالَهُ الْمُهَاجِرُونَ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: لَنُثْوِيَنَّهُمْ بِالثَّاء الْمُثَلَّثَةِ
، مُضَارِعُ أَثْوَى الْمَنْقُولُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مَنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ أَقَامَ فِيهِ، وَانْتَصَبَ حَسَنَةً عَلَى تَقْدِيرِ إثواءة حَسَنَةً، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: فِي حَسَنَةً، أي: دار حَسَنَةً، أَوْ مَنْزِلَةً حَسَنَةً. وَدَلَّ هَذَا الْإِخْبَارُ بِالْمُؤَكَّدِ بِالْقَسَمِ عَلَى عَظِيمِ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُ بِسَبَبِهَا ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُ. وَفِي اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمَنْ هَاجَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ هِجْرَتُهُ لِمَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ بِجُمْلَةِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفَةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، خِلَافًا لِثَعْلَبٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لنبوأنهم، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ إِلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ. وَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّهُ.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ قَالَ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَيْ: وَلَأَجْرُ الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أَيْ: أَكْبَرُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدٌ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهِ كَمَا قَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا.
وَالضَّمِيرُ فِي يَعْلَمُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لَرَغِبُوا فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَزَادُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَقْدِيرِهِمُ الَّذِينَ، أَوْ أَعْنِي الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ، لَا سِيَّمَا حَرَمُ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ لِكُلِّ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ لِمَنْ كَانَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ؟ وَعَلَى بَذْلِ الرُّوحِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَاحْتِمَالِ الْغُرْبَةِ فِي دَارٍ لَمْ يَنْشَأْ بِهَا، وَنَاسٍ لَمْ يَأْلَفْهُمْ أَجَانِبَ حَتَّى فِي النَّسَبِ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
:
نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا؟ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ يُوسُفَ، وَالْمَعْنَى:
نُوحِي إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ:
بِالْيَاءِ وَكَسْرِهَا وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَحَفْصٌ: بِالنُّونِ وَكَسْرِهَا. وَأَهْلُ الذِّكْرِ:
الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْيَهُودُ.
وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «1» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَامٌّ فِيمَنْ يُعْزَى إِلَيْهِ عِلْمٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَيُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّازِلَةِ، إِنَّمَا يُخْبِرُونَ مِنَ الرُّسُلِ عَنِ الْبَشَرِ، وَإِخْبَارُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُصَدِّقِينَ لَهُمْ، وَلَا يُتَّهَمُونَ بِشَهَادَةٍ لَهُمْ لَنَا، لِأَنَّهُمْ مُدَافِعُونَ فِي صَدْرِ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا هُوَ كَسْرُ حُجَّتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، لا أنا افْتَقَرْنَا إِلَى شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ، بَلِ الْحَقُّ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى يَهُودِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ وَيُسْدُونَ إِلَيْهِمْ انْتَهَى.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، بِمُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ أُرْسِلُوا؟ قَالَ:
أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَيَكُونُ عَلَى كَلَامَيْنِ، وَقَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا، وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ التَّقْدِيمُ قَبْلَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا حَتَّى لَا يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مَعْمُولَيْنِ مُتَأَخِّرِينَ لَفْظًا وَرُتْبَةً، دَاخِلَيْنَ تَحْتَ الْحَصْرِ لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، بَلْ وَقَعَا بَعْدَ إِلَّا فِي نِيَّةِ الْحَصْرِ، وَهَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ قَالَ: تَتَعَلَّقُ بِمَا أَرْسَلْنَا دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ رِجَالًا أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَفِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى إِلَّا وَمَا يَلِيهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(1) سورة الأنبياء: 21/ 105.
لَيْتَهُمْ عَذَّبُوا بِالنَّارِ جَارَهُمْ
…
وَلَا يُعَذِّبُ إِلَّا اللَّهُ بِالنَّارِ
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا، إِلَّا مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا، وَمَا ظَنَّ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ عَامِلٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ تَقَعَ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا مَنْصُوبٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَخْفُوضٌ نَحْوَ: مَا مَرَّ إِلَّا زَيْدٌ بِعَمْرٍو، وَمَرْفُوعٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَرْفُوعِ، وَالْأَخْفَشُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْحَالِ. فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرِجَالٍ أَيْ:
رِجَالًا مُلْتَبِسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِمَا بَعْدَ:
إِلَّا، فَوُصِفَ رِجَالًا بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ الْعَامِلِ فِي بِالْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقُولُ: مَا أَكْرَمْتُ إِلَّا رَجُلًا مُسْلِمًا مُلْتَبِسًا بِالْخَيْرِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَا يَعْلَمُونَ. قَالَ:
عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ كَقَوْلِ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتَ عَمِلْتُ لَكَ فَأَعْطِنِي حَقِّي، وَقَوْلُهُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، اعْتِرَاضٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي: مِنَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرَ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ.
وَقِيلَ: الذِّكْرُ الْعِلْمُ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى بَيَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، وَوُعِدُوا وَأُوعِدُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِتُبَيِّنَ بِسَرْدِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِتُبَيِّنَ بِتَفْسِيرِكَ الْمُجْمَلِ وَشَرْحِكَ مَا أُشْكِلَ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ انْتَهَى. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: وَإِرَادَةُ أَنْ يُصْغُوا إِلَى تَنْبِيهَاتِهِ فَيَتَنَبَّهُوا وَيَتَأَمَّلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: الْمَكْرَاتِ السَّيِّئَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ مَفْعُولٌ يمكروا عَلَى تَضْمِينِ مَكَرُوا مَعْنَى فَعَلُوا وَعَمِلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ عَلَى هَذَا مَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ وَيَعْنِي بِهِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَسُوءُهُمْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَخِيرِ يَكُونُ أَنْ يَخْسِفَ بَدَلًا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَبْلَهُ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ، وَالَّذِينَ مَكَرُوا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ مَكَرُوا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نُمْرُودٌ، وَالْخَسْفُ بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفِ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهُ وَقَعَ الْخَسْفُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا فُعِلَ بِقَارُونَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَخْلَاطًا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ خُسِفَ بِهَا، وَحِينَ أَحَسَّ أَهْلُهَا بِذَلِكَ فَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَأَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ مِمَّنْ كَانَ يَرِدُ إِلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِتِجَارَتِهِ. مِنْ حَيْثُ
لَا يَشْعُرُونَ: مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا شُعُورَ لَهُمْ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ مِنْهَا، كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ فِي مَنَامِهِمْ رُوِيَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُقَاتِلٌ: فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ أَيْ: حَالَةَ ذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ، فَيَأْخُذُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُونَ فِيهِ، فَمَا هُمْ بِسَابِقِينَ اللَّهَ وَلَا فَائِتِيهِ. وَالْأَخْذُ هُنَا الْإِهْلَاكُ كَقَوْلِهِ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وعلى تَخَوُّفٍ عَلَى تَنَقُّصٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ خَوَّفْتُهُ وَتَخَوَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتُهُ وَأَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ وَجِسْمِهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: هُوَ النَّقْصُ بِلُغَةِ أَزْدِشَنُوءَةَ. وَفِي حَدِيثٍ لِعُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ التَّخَوُّفِ، فَأَجَابَهُ شَيْخٌ: بِأَنَّهُ التَّنَقُّصُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. وَأَنْشَدَهُ قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
تَخَوَّفَ الرجل مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا
…
كَمَا تخوف عود النبعة السقر
وَهَذَا التَّخَوُّفُ بِمَعْنَى التَّنَقُّصِ، قِيلَ: مِنْ أَعْمَالِهِ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَرُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُنْقِصُ ثِمَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ. وَقِيلَ: عَلَى تَخَوُّفٍ، عَلَى خَوْفِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ أَوْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى تَخَوُّفٍ مُتَخَوِّفِينَ، وَهُوَ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا قَبْلَهُمْ فَيَتَخَوَّفُوا، فَيَأْخُذَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُمْ مُتَخَوِّفُونَ مُتَوَقِّعُونَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ انْتَهَى. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، يَأْخُذُ قَرْيَةً فَتَخَافُ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ ضِدُّ الْبَغْتَةِ أَيْ: عَلَى حُدُوثِ حَالَاتٍ يُخَافُ مِنْهَا كَالرِّيَاحِ وَالزَّلَازِل وَالصَّوَاعِقِ، وَلِهَذَا خَتَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُهْلَةً وَامْتِدَادَ وَقْتٍ، فَيُمْكِنُ فِيهِ التَّلَافِي. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ عَلَى عَجَلٍ. وَقِيلَ: عَلَى تَقْرِيعٍ بِمَا قَدَّمُوهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِهَا نَاسَبَ وَصْفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى تَعْذِيبِ الْمَاكِرِينَ وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَخْذِ، ذَكَرَ تَعَالَى طَوَاعِيَةَ مَا خَلَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَخُضُوعَهُ ضِدَّ حَالِ الْمَاكِرِينَ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا طائعين
(1) سورة العنكبوت: 29/ 40.
مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، والأعرج، والأخوان: أو لم تَرَوْا، بِتَاءِ الْخِطَابِ إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ لِلْخَلْقِ اسْتُؤْنِفَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ إِذَا كَانَ خِطَابًا خَاصًّا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَاحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الذين مَكَرُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ: تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ظِلَالُهُ جَمْعُ ظِلٍّ.
وَقَرَأَ عِيسَى: ظُلَلُهُ جَمْعُ ظُلَّةٍ، كَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْقَلْبِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاعْتِبَارُ، وَلَكِنَّهَا بِوَاسِطَةِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. قِيلَ: وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبَ وَالتَّقْدِيرُ: تَعَجَّبُوا مِنِ اتِّخَاذِهِمْ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا وَقَدْ رَأَوْا هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي أَظْهَرَتْ عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبَ صُنْعِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي اتخذوها شركاء لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تَتَفَيَّئُوا، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ شَيْءٍ لَفْظٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا اقْتَضَتْهُ الصِّفَةُ في قوله: تتفيؤ ظِلَالُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَا عُرِضَ لِلْعِبْرَةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ مُبْهَمٌ بَيَانُهُ مِنْ شَيْءٍ تتفيؤ ظِلَالُهُ، وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ مِنْ جَبَلٍ وَشَجَرٍ وَبِنَاءٍ وَجِسْمٍ قَائِمٍ، وَقَوْلُهُ: تتفيؤ ظِلَالُهُ، إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ وَصْفٌ لَهُ، وَهَذَا الْإِخْبَار يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هو له ظل. وتتفيؤ تتفعل مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ يَفِيءُ فيأرجع، وعاد بعد ما نَسَخَهُ ضِيَاءُ الشَّمْسِ. وَفَاءَ إِذَا عُدِّيَ فَبِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ «1» أَوْ بِالتَّضْعِيفِ نَحْوَ: فَيَّأَ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأَ، وَتَفَيَّأَ مِنْ بَابِ الْمُطَاوَعَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو تَمَّامٍ مُتَعَدِّيًا قَالَ:
طَلَبْتُ رَبِيعَ رَبِيعَةَ الْمُمْهَى لها
…
وتفيأت ظلالها مَمْدُودًا
وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُتَعَدِّيًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَشِيِّ وَمَا انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، وَالظِّلُّ مَا يَكُونُ بِالْغَدَاةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَنَلْهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدَ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ
…
وَلَا الْفَيْءَ مَنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ
(1) سورة الحشر: 59/ 7.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْد ضَارِجٍ
…
يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طام
وَعَنْ رُؤْبَةَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ وَظِلٌّ مَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَهُوَ ظِلٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ تَنْسَخُ الظِّلَّ، فَإِذَا زَالَتْ رَجَعَ، وَلَا يَزَالُ يَنْمُو إِلَى أَنْ تَغِيبَ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ. فَمَعْنَى تَتَفَيَّؤُ تَتَنَقَّلُ وَتَمِيلُ، وَأَضَافَ الظِّلَالَ وَهِيَ جَمْعٌ إِلَى ضَمِيرٍ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهُ ضَمِيرُ مَا، وَهُوَ جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «1» وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فِي قِرَاءَةِ عِيسَى ظُلَلُهُ، وَظِلُّهُ الْغَيْمُ وَهُوَ جِسْمٌ، وَبِالْكَسْرِ الْفَيْءُ وَهُوَ عَرَضٌ فِي الْعَامَّةِ: فَرَأَى عِيسَى أَنَّ التَّفَيُّؤَ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ بِالْأَجْسَامِ أَوْلَى، وَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَعَلَى الِاسْتِعَارَةِ انْتَهَى.
قَالُوا فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ، بَحْثَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي:
مَا الْحِكْمَةُ فِي إِفْرَادِ الْيَمِينِ وَجَمْعِ الشَّمَائِلِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالُوا: يَمِينُ الْفَلَكِ وَهُوَ الْمَشْرِقُ.
وَشِمَالُهُ هُوَ الْمَغْرِبُ. وَخَصَّ هَذَانِ الِاسْمَانِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ يَقَعُ الظِّلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِنِ انْحَدَرَتْ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ عَنِ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَتِ الظِّلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذَا الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ من اليمين إلى الشمال. وَقِيلَ: الْبَلْدَةُ الَّتِي عَرْضُهَا أَقَلُّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي الصَّيْفِ عَنْ يَمِينِ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الظِّلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ. وَقَالَ الزمخشري: المعنى أَوْ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلَالٌ مُتَفَيِّئَةٌ عَنْ أَيْمَانِهَا وَشَمَائِلِهَا عَنْ جَانِبَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَشِقَّيْهِ، اسْتِعَارَةٌ مِنْ يَمِينِ الْإِنْسَانِ وَشِمَالِهِ بِجَانِبَيِ الشَّيْءِ أَيْ: تَرْجِعُ الظِّلَالُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ كُلُّ جِرْمٍ لَهُ ظِلٌّ كَالْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَتَرَتَّبُ فِيهِ أَيْمَانٌ وَشَمَائِلُ إِنَّمَا هُوَ الْبَشَرُ فَقَطْ، لَكِنَّ ذِكْرَ الْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ هُنَا عَلَى حَسْبِ الِاسْتِعَارَةِ لِغَيْرِ اللَّبْسِ تُقَدِّرُهُ: ذَا يَمِينِ وَشِمَالٍ، وَتُقَدِّرُهُ:
بِمُسْتَقْبِلِ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتَ، ثُمَّ تَنْظُرُ ظِلَّهُ فَتَرَاهُ يَمِيلُ إِمَّا إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَإِمَّا إِلَى جِهَةِ
(1) سورة الزخرف: 43/ 13.
الشِّمَالِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَعُمُّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَاتِّسَاعٌ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ غُدْوَةِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنِ الشِّمَالِ، وَهُوَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ فِيمَا قَدَّرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْيَمِينُ بِمَعْنَى الْأَيْمَانِ، فَجَعَلَهُ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَطَابَقَ الشَّمَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» يُرِيدُ الْإِدْبَارَ. وَقَالَ الفراء: كأنه إذا وجد ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، لفظه وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، فَعَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» وَقِيلَ: إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ، كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّمَائِلِ الشِّمَالُ وَالْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ، لِأَنَّ الظِّلَّ يَفِيءُ من الجهات كلها فبدىء بِالْيَمِينِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّفَيُّؤِ مِنْهَا، أَوْ تَيَمُّنًا بِذِكْرِهَا، ثُمَّ جَمَعَ الْبَاقِيَ عَلَى لَفْظِ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ مِنَ التَّضَادِّ، وَتَنَزُّلُ الْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ مَنْزِلَةَ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنَ الْخِلَافِ. وَقِيلَ: وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ يَنْقَبِضُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَصَدَقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَفْظَةُ الشِّمَالِ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْحَالَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ الْآخِرُ إِلَى الْغُرُوبِ هِيَ عَنِ الشَّمَائِلِ، وَأَفْرَدَ الْيَمِينَ فَتَخْلِيطٌ مِنَ الْقَوْلِ وَمُبْطَلٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ مَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ إِلَيْهِ الظِّلَّ، فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ دَوْرَةَ الشَّمْسِ بِالظِّلِّ عَنْ يَمِينِ مُسْتَقْبَلِ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَبْدَأُ الانحراف فهو عن الشَّمَائِلِ، لِأَنَّهُ حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَظِلَالٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ شَمَائِلُ كَثِيرَةٌ، فَكَانَ الظِّلُّ عَنِ الْيَمِينِ مُتَّصِلًا وَاحِدًا عَامًّا لِكُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْكُتَامِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ: أَفْرَدَ وَجَمَعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَايَتَيْنِ، لِأَنَّ ظِلَّ الْغَدَاةِ يَضْمَحِلُّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ فَكَأَنَّهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بِالْعَشِيِّ عَلَى الْعَكْسِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَلُحِظَتِ الْغَايَتَانِ فِي الْآيَةِ: هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ
(1) سورة القمر: 54/ 45.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 1.
(3)
سورة البقرة: 2/ 7.
الْمُطَابَقَةُ، لِأَنَّ سُجَّدًا جَمْعٌ فَطَابَقَهُ جَمْعُ الشَّمَائِلِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، وَلَحْظُهُمَا مَعًا وَتِلْكَ الْغَايَةُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الظِّلَالِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ وَقَعَ كَلَامُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقِبْلَةِ كَانَ الظِّلُّ قُدَّامَكَ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَلَى يَمِينِكَ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَلْفَكَ فَإِذَا أرادت الْغُرُوبَ كَانَ عَلَى يَسَارِكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الظِّلَالُ هُنَا الْأَشْخَاصُ وَهِيَ الْمُرَادَةُ نَفْسُهَا، وَالْعَرَبُ تُخْبِرُ أَحْيَانًا عَنِ الْأَشْخَاصِ بِالظِّلَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:
إِذَا نَزَلْنَا نَصَبْنَا ظِلَّ أَخْبِيَةٍ
…
وَفَارَ لِلْقَوْمِ بِاللَّحْمِ الْمَرَاجِيلُ
وَإِنَّمَا تُنْصَبُ الْأَخْبِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَتْبَعُ أَفْيَاءَ الظِّلَالِ عَشِيَّةً أَيْ: أَفْيَاءَ الْأَشْخَاصِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ قَرَّرَهُ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ، وَجَرَيَانِهَا عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَيَلَانِ تِلْكَ الظِّلَالِ وَدَوَرَانِهَا كَمَا يُقَالُ لِلْمُشِيرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ: سَاجِدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُجَّدًا حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ، وَهُمْ دَاخِرُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهُوَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الدُّخُورَ مِنْ أَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ مَنْ يَعْقِلُ فَغُلِّبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَالَ مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَخَّرَهَا لَهُ مِنَ التَّفَيُّؤِ وَالْإِجْرَامِ في أنفسها. ذاخرة أَيْضًا صَاغِرَةٌ مُنْقَادَةٌ لِأَفْعَالِ اللَّهِ فِيهَا لَا تَمْتَنِعُ انْتَهَى. فَغَايَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، جَعَلَ سُجَّدًا حَالًا من الظلال، ووهم دَاخِرُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي سُجَّدًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً مِنَ الظِّلَالِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا وَهُوَ ضَاحِكٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ ضَاحِكٌ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَاكِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ زَيْدٍ، وَهَذَا الثَّانِي عِنْدِي أَظْهَرُ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالَيْنِ هُوَ تَتَفَيَّؤُ، وعن مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقِيلَ: عَنِ اسْمِ أَيْ: جَانِبِ الْيَمِينِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ دَاخِرُونَ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالِهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ ضَاحِكَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ جَازَ، وَقَدْ يُخْبِرُ هُنَا وَيَقُولُ: الظِّلَالُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جُزْءًا مِنَ الْأَجْرَامِ فَهِيَ كَالْجُزْءِ، لأن وجودها ناشىء عَنْ
وُجُودِهَا. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ هُنَا حَقِيقَةٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ نَبْتٍ وَشَجَرٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّالِحُونَ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا تَسْجُدُ الظِّلَالُ دُونَ الْأَشْخَاصِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَّا ظِلُّكَ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَسْجُدُ لَهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الظِّلَالُ مُلْصَقَةً بِالْأَرْضِ وَاقِعَةً عَلَيْهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّاجِدِ وُصِفَتْ بِالسُّجُودِ، وَكَوْنُ السُّجُودِ يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْوُقُوعُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِهَا يَبْعُدُ، إِذْ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقَصْدَ بِالْعِبَادَةِ. وَخَصَّ الظِّلَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ، وَالتَّغَيُّرُ يَقْتَضِي مُغَيِّرًا غَيْرَهُ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ الظِّلَالِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ بدىء بِهِ، ثُمَّ انْتُقِلَ إِلَى سجود ما في السموات والأرض. ومن دَابَّةٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الظَّرْفَيْنِ، ويكون من في السموات خَلْقٌ يَدِبُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ. وَعَطَفَ وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي عُمُومِ مَا تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْحَفَظَةُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَبِمَا في السموات مَلَائِكَتُهُنَّ، فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي العموم. قيل: بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَخَسَّهَا وَهِيَ الدَّوَابُّ مُنْقَادَةٌ له تَعَالَى، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُنْقَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:
الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مُخْتَصَّةٌ بِحَرَكَةٍ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ فَلْسَفِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي السُّجُودِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ لِإِرَادَةِ اللَّهِ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ السُّجُودِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا جيء بمن دُونَ مَا تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّغْلِيبِ، فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْعُقَلَاءِ خَاصَّةً، فَجِيءَ بِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ إِرَادَةَ الْعُمُومِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ السُّؤَالِ تَسْلِيمُ أَنَّ مَنْ قَدْ تَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ، وَظَاهِرُ الْجَوَابِ تَخْصِيصُ مَنْ بِالْعُقَلَاءِ، وَأَنَّ الصَّالِحَ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَا دُونَ مَنْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ، لِأَنَّهُ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَلَى غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يُغَلَّبُ بِهَا، وَالْجَوَابُ لَا يُغَلَّبُ بِهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
يَخَافُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمُ السُّجُودُ. فِي وَلِلَّهِ يَسْجُدُ، وَقَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.