المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

إِثْرَ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ كَانَتْ أَحْسَنَ مَوْقِعًا. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ، أَيْ: لَطِيفُ التَّدْبِيرِ لِمَا يَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ، رفيق. ومن فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَفِي مِنْ تَأْوِيلِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتِهِ إِلَّا بَعْضَ مُلْكِ الدُّنْيَا، وَلَا عَلَّمَهُ إِلَّا بَعْضَ التَّأْوِيلِ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ زَائِدَةً، أَوْ جَعَلَهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُلْكَ هُنَا مُلْكُ مِصْرَ. وَقِيلَ: مُلْكُ نَفْسِهِ مِنْ إِنْفَاذِ شَهْوَتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مُلْكُ حُسَّادِهِ بِالطَّاعَةِ، وَنَيْلُ الْأَمَانِي مِنَ الْمُلْكِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَمْرِو بْنِ ذَرٍّ:

آتَيْتَنِ، وَعَلَّمْتَنِ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهُمَا، مَعَ كَوْنِهِمَا ثَابِتَتَيْنِ خَطًّا. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ ذَرَانَةَ: قَرَأَ رَبِّ آتَيْتَنِي بِغَيْرٍ قَدْ، وَانْتَصَبَ فَاطِرَ عَلَى الصِّفَةِ، أو على النداء. وأنت وَلِيِّي تَتَوَلَّانِي بِالنِّعْمَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَتُوصِلُ الْمُلْكَ الْفَانِي بِالْمُلْكِ الْبَاقِي.

وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ لَمَّا عَدَّ نِعَمَ اللَّهِ عِنْدَهُ تَشَوَّقَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ وَلِحَاقِهِ بِصَالِحِي سَلَفِهِ، وَرَأَى أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا فَانِيَةٌ فَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ حَيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ النِّعَمَ فِي بَاقِي أَمْرِهِ أَيْ: تَوَفَّنِي إِذَا حَانَ أَجْلِي عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاجْعَلْ لِحَاقِي بِالصَّالِحِينَ. وَإِنَّمَا تَمَنَّى الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا الموت، والصالحين أَهْلُ الْجَنَّةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ آبَاؤُهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. وَعُلَمَاءُ التَّارِيخِ يَزْعُمُونَ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام عَاشَ مِائَةَ عَامٍ وَسَبْعَةَ أَعْوَامٍ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ: إفرائيم، وَمَنْشَا، وَرَحْمَةُ زَوْجَةُ أَيُّوبَ عليه السلام.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَوُلِدَ لِإِفْرَاثِيمَ نُونٌ، وَلِنُونٍ يُوشَعُ، وَهُوَ فَتَى مُوسَى عليه السلام. وَوُلِدَ لِمَنْشَا مُوسَى، وَهُوَ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عمران عليه السلام. وَيَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْخَضِرِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، وَتَوَارَثَتِ الْفَرَاعِنَةُ مُلْكَ مِصْرَ، وَلَمْ تَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ عَلَى بَقَايَا دِينِ يُوسُفَ عليه السلام إِلَى أَنْ بُعِثَ موسى عليه السلام.

[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

ص: 329

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ وَالْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فَنَزَلَتْ

مَشْرُوحَةً شَرْحًا وَافِيًا، وَأَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَخَالَفُوا تَأْمِيلَهُ، فَعَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: الثَّنَوِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي تَلْبِيَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ: عِنْدَ بَنِي يَعْقُوبَ حِينَ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْجُبِّ، وَلَا حِينَ أَلْقَوْهُ فِيهِ، وَلَا حِينَ الْتَقَطَتْهُ السَّيَّارَةُ، وَلَا حِينَ بِيعَ. وَهُمْ يَمْكُرُونَ أَيْ: يَبْغُونَ الْغَوَائِلَ لِيُوسُفَ، وَيَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ بِهِ. أَوْ يَمْكُرُونَ بِيَعْقُوبَ حِينَ أَتَوْا بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ لِقُرَيْشٍ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ يُسَمَّى بِالِاحْتِجَاجِ النَّظَرِيَّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ، وَهُوَ أَنْ يُلْزِمَ الْخَصْمَ مَا هُوَ لَازِمٌ لِهَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هُودٍ. وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِقُرَيْشٍ وَبِمَنْ كَذَّبَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَمَلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ، وَلَا لَقِيَ فِيهَا أَحَدًا وَلَا سَمِعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عِلْمِ قَوْمِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَقَصَّهُ هَذَا الْقَصَصَ

ص: 330

الَّذِي أَعْجَزَ حَمَلَتَهُ وَرُوَاتَهُ لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ وَنَحْوُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «1» . فَقَوْلُهُ: وَمَا كُنْتَ، هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ: عَزَمُوا عَلَى إِلْقَاءِ يُوسُفَ فِي الْجُبِّ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَالْمَكْرُ: أَنْ يُدَبِّرَ عَلَى الْإِنْسَانِ تَدْبِيرًا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ والناس، الظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ. وَلَوْ حَرَصْتَ: وَلَوْ بَالَغْتَ فِي طَلَبِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَلَوْ حَرَصْتَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِنَّمَا يُؤْمِنُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ إِيمَانَهُ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ أَيْ: مَا تَبْتَغِي عَلَيْهِ أَجْرًا عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْبَاءِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. أَوْ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا تُحَدِّثُهُمْ بِهِ وَتُذَكِّرُهُمْ أَنْ يُنِيلُوكَ مَنْفَعَةً وَجَدْوَى، كَمَا يُعْطِي حملة الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ إِنْ هُوَ إِلَّا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَالَمِينَ عَامَّةً، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ النَّجَاةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَرَأَ بِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: وَمَا نَسْأَلُهُمْ بِالنُّونِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هِيَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وكأين. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَانَ فَهُوَ كَائِنٌ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى كَمْ فِي التَّكْثِيرِ انْتَهَى. وَهَذَا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ يُونُسَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ فِي النَّحْوِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَمِنْ أَيْ، وَتَلَاعَبَتِ الْعَرَبُ بِهِ فَجَاءَتْ بِهِ لُغَاتٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ وَكَيِ بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا أَلِفٍ وَلَا تَشْدِيدٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، فَهِيَ لُغَةٌ انْتَهَى. مِنْ آيَةٍ عَلَامَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَصِدْقِ مَا جِيءَ بِهِ عَنْهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ قائد: وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ. وَمَعْنَى يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فَيُشَاهِدُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ السُّدِّيُّ:

وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ: وَيَطْوُونَ الْأَرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا عَلَى آيَاتِهَا، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الدَّلَالَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا وَعَنْهَا فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ بِجَرِّ الْأَرْضِ، يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى آيَةٍ أَيْ: يَمُرُّونَ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ وَيُشَاهِدُونَ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالْأَرْضُ بِرَفْعِ

(1) سورة القصص: 28/ 44.

ص: 331

الضَّادِ، وَمَكَانُ يَمُرُّونَ يَمْشُونَ، وَالْمُرَادُ: مَا يَرَوْنَ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْهَالِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ.

وَهُمْ مُشْرِكُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: إِيمَانُهُمْ مُلْتَبِسٌ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَفَرُوا بِنَبِيِّهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ مَا قَالُوا فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ أَقَرُّوا بِالْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ، وَكَفَرُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ.

وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ قَالُوا: اللَّهُ رَبُّنَا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُهُ، فَأَشْرَكُوا وَلَمْ يُوَحِّدُوا.

وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ أَيْضًا ذَلِكَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ:

لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ يَقُولُ لَهُ: «قَطُّ قَطُّ»

أَيْ قِفْ هُنَا وَلَا تَزِدْ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ. وَقِيلَ: هُمُ الثَّنَوِيَّةُ قَالُوا بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ يَنْسَى الْكُفَّارُ رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، جَهَرُوا بِالْإِيمَانِ وَأَخْفَوُا الْكُفْرَ. وَقِيلَ: عَلَى بَعْضِ الْيَهُودِ عَبَدُوا عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى عَبَدُوا عيسى.

وَقِيلَ: قُرَيْشٌ لَمَّا غَشِيَهَمُ الدُّخَانُ فِي سِنِي الْقَحْطِ قَالُوا: إِنَّا مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِهِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الْخَلْقِ مُؤْمِنِهِمْ بِالرَّسُولِ وَكَافِرِهِمْ، فَالْكُفَّارُ تَقَدَّمَ شِرْكُهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُشَبِّهَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آمنوا محملا، وَكَفَرُوا مُفَصَّلًا. وَثَانِيهَا مَنْ يُطِيعُ الْخَلْقَ بِمَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَثَالِثُهَا مَنْ يَقُولُ: نَفَعَنِي فُلَانٌ وَضَرَّنِي فُلَانٌ.

أَفَأَمِنُوا: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَهْدِيدٌ، غَاشِيَةٌ نِقْمَةٌ تَغْشَاهُمْ أَيْ، تُغَطِّيهِمْ كَقَوْلِهِ:

يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الصَّوَاعِقَ وَالْقَوَارِعَ انْتَهَى. وَإِتْيَانُ الْغَاشِيَةِ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً فِي الزَّمَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ بَغْتَةً. قَالَ الْكِرِمْانِيُّ: لَا يَشْعُرُونَ بِإِتْيَانِهَا أَيْ: وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

تَأْخُذُهُمُ الصَّيْحَةُ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَفْصٍ، وَبِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ.

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ

(1) سورة العنكبوت: 29/ 55. [.....]

ص: 332

الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً «1» وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «2» دَالًّا عَلَى أنه حارص عَلَى إِيمَانِهِمْ، مُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ، دَاعٍ إِلَيْهِ، مُثَابِرٌ عليه. وذكر وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ «3» أَشَارَ إِلَى مَا فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانُ، وَتَوْحِيدُ اللَّهِ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَالدَّعْوَةُ طَرِيقِي الَّتِي سَلَكْتُهَا وَأَنَا عَلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ السَّبِيلَ فَقَالَ:

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يَعْنِي: لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ صَنَمٍ، إِنَّمَا دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبِيلِي أَيْ دَعْوَتِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَلَاتِي، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سُنَّتِي، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْجُمْهُورُ: دِينِي.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْ هَذَا سَبِيلِي عَلَى التَّذْكِيرِ. وَالسَّبِيلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَمَفْعُولُ أَدْعُو هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَدْعُو النَّاسَ. وَالظَّاهِرُ تعلق على بصيرة بأدعو، وأنا تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي أَدْعُو، وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ وَالْمَعْنَى: أَدْعُو أَنَا إِلَيْهَا مَنِ اتَّبَعَنِي.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بصيرة خبرا مقدما، وأنا مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ أَدْعُو، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ أَنَا فَاعِلًا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّائِبِ عَنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَمَنِ اتَّبَعَنِي مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ: وَمَنِ اتَّبَعَنِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ أَيْ: دَاعٍ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَمَعْنَى بَصِيرَةٍ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ وَبُرْهَانٌ مُتَيَقِّنٌ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «4» وَسُبْحَانَ اللَّهِ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ قُلْ: أَيْ قُلْ، وَتَبْرِئَةُ اللَّهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَيْ: بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ. وَلَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَدْعُو هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنِ الشُّرَكَاءِ، أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مُنْتَفٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أَشْرَكَ. وَهُوَ نَفْيٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَلَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. إِلَّا رِجَالًا حَصَرَ فِي الرُّسُلِ دُعَاةً إِلَى اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ مَلَكًا. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «5»

(1) سورة يوسف: 12/ 101.

(2)

سورة يوسف: 12/ 103.

(3)

سورة يوسف: 12/ 104.

(4)

سورة الأنعام: 6/ 104.

(5)

سورة فصلت: 41/ 14.

ص: 333

وَكَذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي رِجَالًا لَا نِسَاءً، فَالرَّسُولُ لَا يَكُونُ امْرَأَةً، وَهَلْ كَانَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ فِيهِ خِلَافٌ؟ وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ سَوَاءٌ أُرْسِلَ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي سَجَاحَ الْمُتَنَبِّئَةِ:

أَمْسَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا

وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا

فَلَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ

عَلَى سَجَاحَ وَمَنْ بِالْإِفْكِ أَغْرَانَا

أَعْنِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ لَا سَقِيَتْ

أَصْدَاؤُهُ مَاءَ مُزْنٍ أَيْنَمَا كَانَا

وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَلْحَةُ، وَحَفْصٌ: نُوحِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ:

وَمَا أَرْسَلْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الحاء مبنيا للمفعول. والقرى الْمُدُنُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:

أَهْلُ الْقُرَى أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَإِنَّهُمْ قليل نبلهم، ولم ينشىء اللَّهُ قَطُّ مِنْهُمْ رَسُولًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا مِنَ الْجِنِّ.

وَالتَّبَدِّي مَكْرُوهٌ إِلَّا فِي الْفِتَنِ،

فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَدَا جَفَا»

ثُمَّ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ. وَالضَّمِيرُ فِي يَسِيرُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، وَمَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ وَأَنْكَرَ رِسَالَتَهُ كَفَرَ أَيْ: هَلَا يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ فَيَعْلَمُونَ بِالتَّوَاتُرِ أَخْبَارَ الرُّسُلِ السَّابِقَةِ، وَيَرَوْنَ مَصَارِعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، فَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ؟ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، هَذَا حَضٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِدَارِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَاتِّقَاءِ الْمُهْلِكَاتِ. فَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَخْرِيجَانِ: أَحَدُهُمَا:

أَنَّهَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَأَصْلُهُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَأَصْلُهُ: وَلَدَارُ الْمُدَّةِ الْآخِرَةِ أَوِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ:

تَخْرِيجٌ كُوفِيٌّ، وَالثَّانِي: تَخْرِيجٌ بَصْرِيٌّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ بِالْيَاءِ رَعْيًا لِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ: بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ أَنَّهَا خَيْرٌ، فَيَتَوَسَّلُوا إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ انْتَهَى. وَالِاسْتِيئَاسُ مِنَ النَّصْرِ، أَوْ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ قولان. وحتى غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَكُونُ لَهُ غَايَةٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرٍ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا، فَتَرَاخَى نَصْرُهُمْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسُوا عَنِ النَّصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا إِلَى مَا قَبْلَهُمْ، أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى دَعَوْهُمْ فَلَمْ

(1) سورة الأنعام: 6/ 90.

ص: 334

يُؤْمِنُوا بِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَصَارُوا فِي حَيِّزِ مَنْ يَعْتَبِرُ بِعَاقِبَتِهِ، فَلِهَذَا الْمُضَمَّنِ حَسَنٌ أَنْ يَدْخُلَ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَحَصَّلْ لَنَا مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ يَكُونُ مَا بَعْدَ حَتَّى غَايَةً لَهُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْغَايَةَ بِمَا ادَّعَى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى فَتَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رجالا يدعوا قَوْمَهُمْ فَكَذَّبُوهُمْ، وَصَبَرُوا وَطَالَ دُعَاؤُهُمْ، وَتَكْذِيبُ قَوْمِهِمْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمَعْنَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رِجَالًا، ثُمَّ لَمْ نُعَاقِبْ أُمَمَهُمْ بِالْعِقَابِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْكُوفِيُّونَ: كُذِبُوا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ،

وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وابن أبي مُلَيْكَةَ، وَالْأَعْرَجُ وَعَائِشَةُ بِخِلَافٍ عَنْهَا بِتَشْدِيدِهَا. وَهُمَا مَبْنِيَّانِ لِلْمَفْعُولِ، فَالضَّمَائِرُ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ عَائِدَةٌ كُلُّهَا عَلَى الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرُّسُلَ أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ يَعْنِي مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ قَالَ: وَالضَّمِيرُ لِلرُّسُلِ، وَالْمُكَذِّبُونَ مُؤْمِنُونَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْ: لَمَّا طَالَتِ الْمَوَاعِيدُ حَسِبَتِ الرُّسُلُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا قَدْ كَذَّبُوهُمْ وَارْتَابُوا بِقَوْلِهِمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ، فَالضَّمِيرُ فِي وَظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِهِمْ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلِأَنَّ الرُّسُلَ تَسْتَدْعِي مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ، وَفِي أَنَّهُمْ. وَفِي قَدْ كُذِبُوا عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَّبَهُمْ مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ وَبِنَصْرِهِمْ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ.

وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةً عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَيْ: وَظَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبَهُمُ الرُّسُلُ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا يُوعِدُونَ بِهِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَشْهُورُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَأْوِيلُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدَةً عَلَى الرُّسُلِ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُ مَنْ جَاءَهُ بِالْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسُوا مِنَ النَّصْرِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أَيْ: كَذَّبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حِينَ حَدَّثَتْهُمْ أَنَّهُمْ يُنْصُرُونَ أَوْ رَجَاهُمْ كَقَوْلِهِ: رَجَاءٌ صَادِقٌ وَرَجَاءٌ كَاذِبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُدَّةَ التَّكْذِيبِ وَالْعَدَاوَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَانْتِظَارُ النَّصْرِ مِنَ اللَّهِ وَتَأْمِيلُهُ قَدْ تَطَاوَلَتْ عَلَيْهِمْ وَتَمَادَتْ، حَتَّى اسْتَشْعَرُوا الْقُنُوطَ، وَتَوَهَّمُوا أَنْ لَا نَصْرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ انْتَهَى. فَجَعَلَ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا لِلرُّسُلِ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ الَّذِي صُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ كُذِبُوا، إِمَّا أَنْفُسُهُمْ، وَإِمَّا

ص: 335

رَجَاؤُهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِخْرَاجُ الظَّنِّ عَنْ مَعْنَى التَّرْجِيحِ، وَعَنْ مَعْنَى الْيَقِينِ إِلَى معنى التوهم، حتى تجري الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ على سنن واحد. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَظَنُّوا، وَفِي قَدْ كُذِبُوا، عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى:

كَذَّبَهُمْ من تباعدهم عَنِ اللَّهِ وَالظَّنُّ عَلَى بَابِهِ قَالُوا: وَالرُّسُلُ بَشَرٌ، فَضَعُفُوا وَسَاءَ ظَنُّهُمْ.

وَرَدَّتْ عَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُوصَفَ الرُّسُلُ بِهَذَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَيَهْجِسُ فِي الْقَلْبِ مِنْ شُبَهِ الْوَسْوَسَةِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ. وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا بَالُ رُسُلِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَعْرَفُ بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ خَلْفِ الْمِيعَادِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ انْتَهَى. وَآخِرُهُ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى ظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ أُمَمَهُمْ عَلَى لِسَانِهِمْ قَدْ كُذِبُوا فِيهِ، فَقَدْ أَتَى عَظِيمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ مِثْلُهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا إِلَى صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ ضَعُفُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أُخْلِفُوا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: قَدْ كَذَبُوا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: وَظَنَّ المرسل إليهم أن الرسل قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا قَالُوا عَنِ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالظَّنِّ عَلَى بَابِهِ. وَجَوَابُ إذ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَنُجِّيَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَشَدِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ هُرْمُزَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتْ فِيهِ النُّونُ فِي الْجِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا تُدْغَمُ النُّونُ فِي الْجِيمِ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهَا سُكِّنَتِ الْيَاءُ فِيهِ لُغَةَ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْحَرَكَةَ صِلَةً عَلَى الْيَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ «1» بِسُكُونِ الْيَاءِ.

وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَقَرَأَهُمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ فَنُنْجِي بِنُونَيْنِ مُضَارِعُ أَنْجَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَاهَا هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ هُبَيْرَةَ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ غَلَطًا، وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُمَا الْمُضَارِعُ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «2»

(1) سورة المائدة: 5/ 89.

(2)

سورة البقرة: 2/ 284.

ص: 336

بِنَصْبِ يَغْفِرَ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَدَاةُ الشَّرْطِ جَازِمَةً، أَوْ غَيْرَ جَازِمَةٍ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَنَجَى، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا مُخَفَّفَ الْجِيمِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَقَرَأْتُ لِابْنِ مُحَيْصِنٍ فَنَجَّى بِشَدِّ الْجِيمِ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى مَعْنَى فَنَجَّى النَّصْرَ. وَذَكَرَ الدَّانِيُّ أَنَّ الْمَصَاحِفَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى كَتْبِهَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي التَّحْبِيرِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ فَنُنَجِّي بِنُونَيْنِ، الثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَالْجِيمُ مُشَدَّدَةٌ، وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: مِنَ يَشَاءُ بِالْيَاءِ أَيْ: فَنُجِّيَ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ نَجَاتَهُ. ومن يَشَاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْبَأْسُ هُنَا الْهَلَاكُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بَأْسُهُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ أَيْ: بَأْسُ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: الضَّمِيرُ فِي قَصَصِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَوْ عَلَى يُوسُفَ وَأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، أَوْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

الْأَوَّلُ: اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَيَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ قِصَصَهُمْ بِكَسْرِ الْقَافِ انْتَهَى.

وَلَا يَنْصُرُهُ إِذْ قَصَصُ يُوسُفَ وَأَبِيهِ وَأُخْوَتِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِصَصٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْبَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالَّذِي قَرَأَ بِكَسْرِ الْقَافِ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَالْقَصَبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو جمع قِصَّةٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ الثَّالِثَ، بَلْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ. وَالْعِبْرَةُ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ. وَإِذَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام وَأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِقَصَصِهِمْ مِنْ وُجُوهِ إِعْزَازِ يُوسُفَ عليه السلام بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، وَإِعْلَاؤُهُ بَعْدَ حَبْسِهِ فِي السِّجْنِ، وَتَمَلُّكُهُ مِصْرَ بَعْدَ اسْتِعْبَادِهِ، وَاجْتِمَاعُهُ مَعَ وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الطَّوِيلَةِ. وَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الْقَصَصِ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْإِعْلَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ وَلَا يَجُولُ فِي فِكْرٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ أُولُو الْأَلْبَابِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ، وَمَنْ لَهُ لُبٌّ وَأَجَادَ النَّظَرَ، وَرَأَى مَا فِيهَا مِنِ امْتِحَانٍ وَلُطْفٍ وَإِحْسَانٍ، عَلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ كَانَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْقَصَصِ أَيْ: مَا كَانَ الْقَصَصُ حَدِيثًا مختلقا، بَلْ هُوَ حَدِيثُ صِدْقٍ نَاطِقٌ بِالْحَقِّ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَلَا تَتَلْمَذَ لِأَحَدٍ، وَلَا خَالَطَ الْعُلَمَاءَ، فَمُحَالٌ أَنْ يَفْتَرِيَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِحَيْثُ تُطَابِقُ مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مَا كَانَ الْقُرْآنُ

ص: 337

الَّذِي تَضَمَّنَ قَصَصَ يُوسُفَ عليه السلام وَغَيْرِهِ حَدِيثًا يُخْتَلَقُ، وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَاقِعٍ لِيُوسُفَ مَعَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى قَصَصِ يُوسُفَ، أَوْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلِهِ فِي الشَّرِيعَةِ إِنْ عَادَ عَلَى الْقُرْآنِ.

وَقَرَأَ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيُنَ، وَعِيسَى الْكُوفِيُّ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ بِرَفْعِ الْأَرْبَعَةِ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ أَيْ: كَانَ هُوَ، أَيِ الْحَدِيثُ ذَا تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُنْشِدُ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:

وَمَا كَانَ مَالِي مِنْ تُرَابٍ وَرِثْتُهُ

وَلَا دِيَةٍ كَانَتْ وَلَا كَسْبِ مَأْثَمِ

وَلَكِنْ عَطَاءُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ رِحْلَةٍ

إِلَى كُلِّ مَحْجُوبِ السَّوَارِقِ خِضْرِمِ

بِالرَّفْعِ فِي عَطَاءُ وَنَصْبِهِ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ عَطَاءُ اللَّهِ، أَوْ وَلَكِنْ كَانَ عَطَاءَ اللَّهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ لُوطِ بْنِ عُبَيْدٍ الْعَائِيِّ اللِّصِّ:

وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا مَالَ مُسْلِمٍ

أَخَذْتُ وَلَا مُعْطِيَ الْيَمِينَ مُحَالِفٌ

وَلَكِنْ عَطَاءُ اللَّهِ مِنْ مَالِ فَاجِرٍ

قَصِيِّ الْمَحَلِّ مُعْوِرٍ لِلْمُقَارِفِ

وَهُدًى أَيْ سَبَبُ هِدَايَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَرَحْمَةً أَيْ: سَبَبٌ لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَخُصَّ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «3» وَفِي آخِرِهَا: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى إِلَى آخِرِهِ، فَلِذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَصَصِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(1) سُورَةُ البقرة: 2/ 2.

(2)

سورة يوسف: 12/ 2.

(3)

سورة يوسف: 12/ 3.

ص: 338