المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

‌سورة الرعد

ترتيبها 13 سورة الرّعد آياتها 43

[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

بسم الله الرحمن الرحيم

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ (14)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)

ص: 339

الْعَمَدُ: اسْمُ جَمْعٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمْعًا فَلِكَوْنِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْأَسَاطِينُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 340

وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ

يَبْغُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ

وَالْمُفْرَدُ عِمَادٌ وَعَمَدٌ، كَإِهَابٍ وَأَهَبٍ. وَقِيلَ: عَمُودٌ وَعَمَدٌ كَأَدِيمٍ وَأَدَمٍ، وَقَضِيمٍ وَقَضَمٍ. وَالْعِمَادُ وَالْعَمُودُ مَا يُعْمَدُ بِهِ يُقَالُ: عَمَدْتُ الْحَائِطَ أَعْمُدُهُ عَمْدًا إِذَا أَدَعَمْتَهُ، فَاعْتَمَدَ الْحَائِطُ عَلَى الْعِمَادِ أَيْ: امْتَسَكَ بِهَا. وَيُقَالُ: فُلَانٌ عُمْدَةُ قَوْمِهِ إِذَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فيما يحزبهم. وَيُجْمَعُ عِمَادٌ عَلَى عُمُدٍ بِضَمَّتَيْنِ كَشِهَابٍ وَشُهُبٍ، وَعَمُودٍ عَلَى عُمُدٍ أَيْضًا كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَزَبُورٍ وَزُبُرٍ هَذَا فِي الْكَثْرَةِ، وَيُجْمَعَانِ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَعْمِدَةٍ.

الصِّنْوُ: الْفَرْعُ يَجْمَعُهُ وَآخَرُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الْمِثْلُ وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْعَمِّ صِنْوٌ، وَجَمْعُهُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ صِنْوَانٌ بِكَسْرِ الصَّادِ كَقِنْوٍ وَقِنْوَانٍ، وبضمها فِي لُغَةِ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، كَذِئْبٍ وَذُؤْبَانٍ. وَيُقَالُ: صَنْوَانٌ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهِ.

الْجَدِيدُ ضِدُّ الْخَلَقِ وَالْبَالِي، وَيُقَالُ: ثَوْبٌ جَدِيدٌ أَيْ كَمَا فُرِغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَأَنَّهُ كَمَا قُطِعَ مِنَ النَّسْجِ.

الْمَثُلَةُ: الْعُقُوبَةُ، وَيُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ كَسَمُوَةٍ وَسَمَاوَاتٍ. وَلُغَةُ الْحِجَازِ مَثْلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ لِمَا بَيْنَ الْعِقَابِ وَالْمُعَاقَبِ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» أَوْ لِأَنَّهَا مِنَ الْمِثَالِ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ. يُقَالُ: أَمْثَلْتُ الرَّجُلَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَقْصَصْتُهُ. أَوْ لِأَنَّهَا لِعِظَمِ نَكَالِهَا يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ.

السَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَبَ أَيْ تَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنِّي سَرَبْتُ وَكُنْتُ غَيْرَ سَرُوبِ

وَتُقَرِّبُ الْأَحْلَامُ غَيْرَ قَرِيبِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ

وَنَحْنُ حَلَلْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ

أَيْ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ كَيْفَ شَاءَ، لَا يَدْفَعُ عَنْ جِهَةٍ، يَفْتَخِرُ بِعِزَّةِ قَوْمِهِ.

الْمِحَالُ: الْقُوَّةُ وَالْإِهْلَاكُ قَالَ الْأَعْشَى:

(1) سورة الشورى: 42/ 40.

ص: 341

فَرْعُ نَبْعٍ يَهُشُّ فِي غصن المه

دِ غَزِيرُ النَّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ

وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَلِّبِ:

لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ

وَمِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحَالَكَ

وَيُقَالُ: مَحَلَ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ مَكَرَ بِهِ وَأَخَذَهُ بِسِعَايَةٍ شَدِيدَةٍ، وَالْمُمَاحَلَةُ الْمُكَايَدَةُ وَالْمُمَاكَرَةُ وَمِنْهُ: تَمَحَّلَ لِكَذَا أَيْ: تَكَلَّفَ اسْتِعْمَالَ الْحِيلَةِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمِحَالُ النِّقْمَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمِحَالُ الْجِدَالُ مَا حَلَّ عَنْ أَمْرِهِ أَيْ جَادَلَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أَيْ شَدِيدُ الْكَيْدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِيلَةِ، جَعَلَ مِيمَهُ كَمِيمِ مَكَانٍ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَوْنِ، ثُمَّ يُقَالُ: تَمَكَّنْتُ. وَغَلَّطَهُ الْأَزْهَرِيُّ فِي زِيَادَةِ الْمِيمِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِفْعَلًا لَظَهَرَ مِنَ الْوَاوِ مِثْلَ مِرْوَدٍ وَمِحْوَلٍ وَمِحْوَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ كَمِهَادٍ وَمِرَاسٍ.

الْكَفُّ: عُضْوٌ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَكُفٌّ كَصَكٍّ وَأَصُكٍّ، وَفِي الْكَثْرَةِ كُفُوفٌ كَصُكُوكٍ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ كَفَّ.

ظِلُّ الشَّيْءِ: مَا يَظْهَرُ مِنْ خَيَالِهِ فِي النُّورِ، وَبِمِثْلِهِ فِي الضَّوْءِ.

الزَّبَدُ: قَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ هُوَ مَا يَطْرَحُهُ الْوَادِي إِذَا جَاشَ مَاؤُهُ وَاضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ غُثَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمَا يَرْمِي بِهِ عَلَى ضَفَّتَيْهِ مِنَ الْحُبَابِ الْمُلْتَبِكِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الزَّبَدُ وَضَرُ الْغَلَيَانِ وَخُبْثُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَمَا الْفُرَاتُ إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ لَهُ

تَرْمِي غَوَارِبُهُ الْعِبْرَيْنِ بِالزَّبَدِ

الْجُفَاءُ: اسْمٌ لَمَا يَجْفَاهُ السَّيْلُ أَيْ يَرْمِي، يُقَالُ: جفأت القدر بزبدها، وجفأ السَّيْلُ بِزَبَدَهِ، وَأَجْفَأَ وَأَجْفَلَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: جُفَاءً أَيْ مُتَفِرِّقًا مِنْ جَفَأْتِ الرِّيحُ الْغَيْمَ إِذَا قَطَعَتْهُ، وَجَفَأَتِ الرَّجُلَ صَرَعَتْهُ. وَيُقَالُ: جَفَّ الْوَادِي إِذَا نَشِفَ.

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ: الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ إِلَّا قَوْلَهُ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا «1» وَعَنْ غَيْرِهِ إِلَّا قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ

(1) سورة الرعد: 13/ 43.

ص: 342

الْبَرْقَ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ «1» وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ: الْكَلْبِيِّ، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَاسْتَثْنَيَا آيَتَيْنِ قَالَا: نَزَلَتَا بِمَكَّةَ وَهُمَا وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «2» إِلَى آخِرِهِمَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَعَنْ قَتَادَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا «4» الْآيَةَ حَكَاهُ الَمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ حَكَاهُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعْدِ الْبَلُّوطِيُّ وَمَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ السُّورَةُ أَيْ: تِلْكَ آيَاتُ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ الْعَجِيبَةِ فِي بَابِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ قَالَ حُرُوفُ أَوَائِلِ السُّورِ مِثَالٌ لِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ قَالَ: الْإِشَارَةُ هنا بتلك هِيَ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَيَصِحُّ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ والإنجيل. والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خَبَرُ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَيَكُونُ الرَّابِطُ اسم الإشارة وهو تلك. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَا قُصَّ عَلَيْهِ مِنْ أنباء الرسل المشار إليها بِقَوْلِهِ:

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَالَّذِي قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَالْإِشَارَةُ بتلك إِلَى جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ خَبَرَهَا هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ من ربك الخبر، والحق مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ كِلَاهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَهُوَ إِعْرَابٌ مُتَكَلِّفٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ وَالَّذِي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى آيَاتٍ، وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِي فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ يَكُونَ الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ الْحَقُّ، وَيَكُونُ وَالَّذِي أُنْزِلَ مِمَّا عُطِفَ فِيهِ الْوَصْفُ عَلَى الْوَصْفِ وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الظَّرِيفُ الْعَاقِلُ وَأَنْتَ تُرِيدُ شَخْصًا وَاحِدًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الهام

وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ

وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ صِفَةَ الَّذِي يَعْنِي: إِذَا جَعَلْتَ وَالَّذِي مَعْطُوفًا على آيات.

(1) سورة الرعد: 13/ 12- 14. [.....]

(2)

سورة الرعد: 13/ 31.

(3)

سورة الرعد: 13/ 31.

(4)

سورة الرعد: 13/ 31.

ص: 343

وَأَكْثَرُ النَّاسِ قِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ لَا يُصَدِّقُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَامٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فِيمَا يُفَكِّرُ فِيهِ الْعَاقِلُ وَيُشَاهِدُهُ مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ. وَالْجَلَالَةُ مبتدأ، والذي هُوَ الْخَبَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً. وَقَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَنْصُرُهُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِضَمَّتَيْنِ، وَبِغَيْرِ عَمَدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ:

خَالِيَةً عَنْ عَمَدٍ. وَالضَّمِيرُ فِي تَرَوْنَهَا عائد على السموات أي: تشاهدون السموات خَالِيَةً عَنْ عَمَدٍ. وَاحْتَمَلَ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ تَرَوْنَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ: رَفَعَهَا مَرْئِيَّةً لَكُمْ بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ حِينَ رَفَعَهَا لَمْ نَكُنْ مَخْلُوقِينَ.

وَقِيلَ: ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَرَوْنَهَا عَائِدٌ عَلَى عَمَدٍ أَيْ: بغير عمد مرئية، فترونها صِفَةٌ لِلْعَمَدِ.

وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صِفَةً لِعَمَدٍ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: تَرَوْنَهُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ عَمَدٍ، إِذْ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ. قَالَ أَيِ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْمُ جَمْعِ عَمُودٍ وَالْبَابُ فِي جَمْعِهِ عُمُدٌ بِضَمِّ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ انْتَهَى. وَهُوَ وَهْمٌ، وَصَوَابُهُ: بِضَمِّ الْحَرْفَيْنِ، لِأَنَّ الثَّالِثَ هُوَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ فَلَا يُعْتَبَرُ ضَمُّهُ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ. هَذَا التَّخْرِيجُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَهَا عَمَدٌ، وَلَا تُرَى تِلْكَ الْعَمَدُ، وَهَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا بِعَمَدٍ لَا تُرَى؟ وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَمَدَ جَبَلُ قَافٍ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ، وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ كَالْقُبَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَفْيَ الْعَمَدِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَدِ، فَلَا عَمَدَ وَلَا رُؤْيَةَ أَيْ: لَا عَمَدَ لَهَا فَتُرَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أن السموات لَا عَمَدَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ لَهَا عَمَدٌ لا حتاجت تِلْكَ الْعَمَدُ إِلَى عَمَدٍ، وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُمْسَكَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «2» وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْعِمَادُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ وَاقِفَةٌ فِي الْحَيِّزِ الْعَالِي بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَمَدُهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهَا عِمَادٌ فِي الْحَقِيقَةِ. إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْعَمَدَ إِمْسَاكُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِبْقَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْحَيِّزِ الْعَالِي، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ التَّدْبِيرَ، وَلَا تَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ مِنْ دونها دعامة

(1) سورة الرعد: 13/ 3.

(2)

سورة الحج: 22/ 65.

ص: 344

تَدْعَمُهَا، وَلَا فَوْقَهَا عَلَّاقَةٌ تُمْسِكُهَا. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَرَوْنَهَا خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ أي: رها وَانْظُرُوا هَلْ لَهَا مِنْ عَمَدٍ؟ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «1» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ هُنَا لِعَطْفِ الْجُمَلِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ قبل رفع السموات.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثم خلق السموات وَالْأَرْضَ»

انْتَهَى. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ: ذَلَّلَهُمَا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ. وَعَبَّرَ بِالْجَرَيَانِ عَنِ السَّيْرِ الَّذِي فِيهِ سُرْعَةٌ، وكل مُضَافَةٌ فِي التَّقْدِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ ضَمِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَيْ: كِلَيْهِمَا يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ضِمْنِ ذِكْرِهِمَا ذِكْرُ الْكَوَاكِبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:

كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: كُلُّ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ من المسخر، وكل لَفْظَةٌ تَقْتَضِي الْإِضَافَةَ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً انْتَهَى. وَشَرَحَ كُلٌّ بِقَوْلِهِ أَيْ: كُلُّ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَا أَخْرَجَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ ذِكْرِ جَرَيَانِهِمَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى زَعْمِهِ: إِنَّ الْكَوَاكِبَ فِي ضِمْنِ ذِكْرِهِمَا أَيْ، وَمِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهِمَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهِيَ الْحُدُودُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهَا، قَدَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَيْرًا خَاصًّا إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ. وَقِيلَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ الْجَرَيَانُ وَالتَّسْيِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «2» وَقَالَ:

وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمَعْنَى تَدْبِيرُ الْأَمْرِ إِنْفَاذُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَعَبَّرَ بِالتَّدْبِيرِ تَقْرِيبًا لِلْإِفْهَامِ، إِذِ التَّدْبِيرُ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي إِدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَالْأَمْرُ أَمْرُ مَلَكُوتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ إِيجَادٍ وَإِعْدَامٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ وَإِنْزَالِ وَحْيٍ وَبَعْثِ رُسُلٍ وَتَكْلِيفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يَقْضِيهِ وحده، ويفصل الْآيَاتِ يَجْعَلُهَا فُصُولًا مُبَيِّنَةً مُمَيِّزًا بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ. والآيات هُنَا دَلَائِلُهُ وَعَلَامَاتُهُ فِي سمواته عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، أَوْ آيَاتُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوْ آيَاتُ الْقُرْآنِ أَقْوَالٌ.

وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ، عَنْ قَتَادَةَ: نُدَبِّرُ الْأَمْرَ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ الْحَسَنِ فِيهِمَا، وَافَقَ فِي نُفَصِّلُ بِالنُّونِ الْخِفَافِ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ فَقَطْ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي يُدَبِّرُ، أَوْ لَيْسَ كَمَا قَالَ؟ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ أَبَانٍ. وَنَقَلَ الدَّانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ أَنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ

(1) سورة الأعراف: 7/ 54.

(2)

سورة التكوير: 81/ 1.

ص: 345

اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يُدَبِّرُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَسَخَّرَ، ونفصل حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُدَبِّرُ، وَالْخِطَابُ فِي لَعَلَّكُمْ للكفرة، وتوقنون بِالْجَزَاءِ أَوْ بِأَنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ وَالْمُفَصِّلَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: لَمَّا قَرَّرَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَرْدَفَهَا بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ. ومد الْأَرْضَ: بَسَطَهَا طُولًا وَعَرْضًا لِيُمْكِنَ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا. قِيلَ: مَدَّهَا وَدَحَاهَا مِنْ مَكَّةَ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَذَهَبَتْ كَذَا وَكَذَا.

وَقِيلَ: كَانَتْ مُجْتَمِعَةً عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مَدَّ الْأَرْضَ، يَقْتَضِي أَنَّهَا بَسِيطَةٌ لَا كُرَةٌ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّارَانِيُّ:

ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: مَدَّ الْأَرْضَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ. وَالْكُرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الكبر كان كل قِطْعَةٌ مِنْهَا تُشَاهَدُ كَالسَّطْحِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّطْحِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَالْجِبالَ أَوْتاداً «1» مَعَ أَنَّ الْعَالَمَ وَالنَّاسَ يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ هُنَا. وَأَيْضًا إِنَّمَا ذَكَرَ مَدَّ الْأَرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَوْنُهَا مُجْتَمِعَةً تَحْتَ الْبَيْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلَا مَحْسُوسٍ، فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. فَتَأْوِيلُ مَدَّ الْأَرْضَ أَنَّهُ جَعَلَهَا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَكَوْنُهَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ، وَتَقْدِيرِ مُقَدَّرٍ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمَدُّ الْبَسْطُ إِلَى مَا لَا يُرَى مُنْتَهَاهُ، فَالْمَعْنَى: جَعَلَ الْأَرْضَ حَجْمًا يَسِيرًا لَا يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَى مُنْتَهَاهُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ أَصْغَرَ حَجْمًا مِمَّا هِيَ الْآنَ عَلَيْهِ لَمَا كَمُلَ الانتفاع بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَصْغَرَ إِلَى آخِرِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَعْمُورُ، وَالْمَعْمُورُ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِ الْمَعْمُورِ بِكَثِيرٍ. فَلَوْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا مِقْدَارَ الْمَعْمُورِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمُتَنِعًا، فَتَحْصُلُ فِي قَوْلِهِ: مَدَّ الْأَرْضَ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ بَسَطَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، وَاخْتِصَاصُهَا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَجَعَلَ حَجْمَهَا كَبِيرًا لَا يُرَى مُنْتَهَاهُ. وَالرَّوَاسِي الثَّوَابِتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

بِهِ خَالِدَاتٌ مَا يرمن وهامد

وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

(1) سورة النبأ: 78/ 7.

ص: 346

وَالْمَعْنَى: جِبِالًا رَوَاسِيَ، وَفَوَاعِلُ الْوَصْفِ لَا يَطَّرِدُ إِلَّا فِي الْإِنَاثِ، إِلَّا أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنَ الْمُذَكَّرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ يُجْرَى مَجْرَى جَمْعِ الْإِنَاثِ. وَأَيْضًا فَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْجِبَالِ وَصْفُهَا بِالرَّوَاسِي، وَصَارَتِ الصِّفَةُ تُغْنِي عَنِ الْمَوْصُوفِ، فَجُمِعَ جَمْعَ الِاسْمِ كَحَائِطٍ وَحَوَائِطَ وَكَاهِلٍ وَكَوَاهِلَ. وَقِيلَ: رَوَاسِيَ جَمْعُ رَاسِيَةٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ وَصْفُ الْجَبَلِ.

كَانَتِ الْأَرْضُ مُضْطَرِبَةً فَثَقَّلَهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ فِي أَحْيَازِهَا فَزَالَ اضْطِرَابُهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. قِيلَ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ، فَحُصُولُ الْجَبَلِ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ قَادِرٍ حَكِيمٍ، وَمِنْ جِهَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الْجَوْهَرِيَّةِ وَالرُّخَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَالنِّفْطِ وَالْكِبْرِيتِ يَكُونُ الْجَبَلُ وَاحِدًا فِي الطَّبْعِ، وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ وَاحِدٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ قَاهِرٍ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ تَوَلُّدِ الأنهار منها. قيل: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَبَلَ جِسْمٌ صَلْبٌ، وَيَتَصَاعَدُ بُخَارُهُ مِنْ قعر الأرض إليه ويحتبس هُنَاكَ، فَلَا يَزَالُ يَتَكَامَلُ فِيهِ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَلِقُوَّتِهَا تَشُقُّ وَتَخْرُجُ وَتَسِيلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إذا ذكر الله تعالى الْجِبَالَ ذَكَرَ الْأَنْهَارَ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً «1» وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً «2» فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْأَنْهَارُ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَسِيلُ الْمَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَنْهَارِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأَنْهَارَ ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا وَهُوَ الثَّمَرَاتُ، وَالزَّوْجُ هُنَا الصِّنْفُ الْوَاحِدُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الِاثْنَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ حِينَ مَدَّ الْأَرْضَ جَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَكَثَّرَتْ وَتَنَوَّعَتْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالزَّوْجَيْنِ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ، وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ، وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ مَوْجُودٌ فِيهَا نَوْعَانِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ ثَمَرَةٍ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعَيْنِ فَغَيْرُ ضَارٍّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَالَ الْكِرِمَانِيُّ: الزَّوْجُ وَاحِدٌ، وَالزَّوْجُ اثْنَانِ، وَلِهَذَا قُيِّدَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجِ هُنَا الْفَرْدُ لَا التَّثْنِيَةُ، فَيَكُونُ أَرْبَعًا. وَخَصَّ اثْنَيْنِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، إِذْ لَا نَوْعَ تَنْقُصُ أَصْنَافُهُ عَنِ اثْنَيْنِ انْتَهَى. وَيُقَالُ: إِنَّ فِي كُلِّ ثمرة ذكر وَأُنْثَى، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالَمَ وَخَلَقَ فِيهِ الْأَشْجَارَ، خَلَقَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ اثْنَيْنِ فَقَطْ. فَلَوْ قَالَ: خلق

(1) سورة المرسلات: 77/ 27.

(2)

سورة النحل: 16/ 15.

ص: 347

زَوْجَيْنِ، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ أَوِ الشَّخْصُ، فَلَمَّا قَالَ: اثْنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ. فَالشَّجَرُ وَالزَّرْعُ كَبَنِي آدَمَ، حَصَلَ مِنْهُمْ كَثْرَةٌ، وَابْتِدَاؤُهُمْ مِنْ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بِالشَّخْصِ وَهُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الثَّمَرَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ رَبُو الْجَنَّةِ فِي الْأَرْضِ، وَشَقَّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، فَمِنَ الشَّقِّ الْأَعْلَى الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ الْعُرُوقُ الْغَائِصَةُ، وَطَبِيعَةُ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَاحِدَةٌ، وَتَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فِيهَا وَاحِدٌ. ثُمَّ يَخْرُجُ من الأعلى مَا يَذْهَبُ صُعُدًا فِي الْهَوَاءِ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ مَا يَغُوصُ فِي الثَّرَى، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ طَبِيعَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ حَكِيمٍ. ثُمَّ تِلْكَ الشَّجَرَةُ يَكُونُ بَعْضُهَا خَشَبًا، وَبَعْضُهَا لَوْزًا، وَبَعْضُهَا ثَمَرًا، ثُمَّ تِلْكَ الثَّمَرَةُ يَحْصُلُ فِيهَا أَجْسَامٌ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَلْخِيصٌ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ عَطْفِ الْمُفْرِدَاتِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: الزَّوْجَانِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقِيلَ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وقراءاتها فِي الْأَعْرَافِ. وَخَصَّ الْمُتَفَكِّرِينَ لِأَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الصَّنِيعِ الْعَجِيبِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالتَّفَكُّرِ.

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:

قِطَعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ وَهِيَ الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ: أَرْضٌ طَيِّبَةٌ وَأَرْضٌ سَبِخَةٌ، نَبَتَتْ هَذِهِ، وَهَذِهِ إِلَى جَنْبِهَا لَا تَنْبُتُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْقُرَى الْمُتَجَاوِرَةَ. وَقِيلَ: مُتَجَاوِرَةً فِي الْمَكَانِ، مُخْتَلِفَةً فِي الصِّفَةِ، صلبة إلى رخوة. وسحرا إِلَى مَرْدٍ أَوْ مُخْصِبَةً إِلَى مُجْدِبَةٍ، وَصَالِحَةً لِلزَّرْعِ لَا لِلشَّجَرِ، وَعَكْسَهَا مَعَ انْتِظَامِ جَمِيعِهَا فِي الْأَرْضِيَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مَعْطُوفٌ أَيْ: وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ. وَالْمُتَجَاوِرَاتُ الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ الْمُتَجَاوِرَاتِ الصَّحَارِي وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ وَصْفِهِ لَهَا بِالتَّجَاوُرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَوْعٍ وَاحِدٍ. وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهَا مَعَ اتِّفَاقِهَا في الترب وَالْمَاءِ تُفَضِّلُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ بَعْضَ أَكْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «الدَّقَلُ، وَالْقَارِسُ، وَالْحُلْوُ، وَالْحَامِضُ»

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَيَّدَ مِنْهَا فِي هَذَا الْمِثَالِ مَا جَاوَرَ وَقَرُبَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ ذَلِكَ فِي الْأَكْلِ أَغْرَبُ.

ص: 348

وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَعَلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَجَنَّاتٌ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِالنَّصْبِ، بِإِضْمَارِ فَعْلٍ. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى رَوَاسِيَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالْعَطْفِ عَلَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَوْ بِالْجَرِّ عَلَى كُلِّ الثَّمَرَاتِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى إِضْمَارُ فِعْلٍ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي هَذِهِ التَّخَارِيجِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ بِالرَّفْعِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى مُرَاعَاةِ قِطَعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى أَعْنَابٍ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً مُحَرَّرَةً أَيْضًا، لِأَنَّ فِيهَا مَا لَيْسَ بِعَطْفٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: صِنْوَانٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفْضِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مُرَاعَاةِ مِنْ أَعْنَابٍ قَالَ: وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مِنَ الْأَعْنَابِ مِنْ رَفْعِ الزَّرْعِ، وَالْجَنَّةُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْأَعْنَابُ، وَفِي ذَلِكَ تَجُوزُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

كَأَنَّ عَيْنِي فِي غَرْبَيَّ مُقْبِلَةٌ

مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سحقه

أَيْ نَخِيلَ جَنَّةٍ، إِذْ لَا يُوصَفُ بِالسُّحْقِ إِلَّا النَّخْلُ. وَمَنْ خَفَضَ الزَّرْعَ فَالْجَنَّاتُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ لَا مِنَ الزَّرْعِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَزْرَعَةِ جَنَّةٌ إِلَّا إِذَا خَالَطَهَا ثَمَرَاتٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

صِنْوَانٌ بِكَسْرِ الصَّادِّ فِيهِمَا، وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالسُّلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِضَمِّهَا، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِهَا، وَبِالْفَتْحِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ، كَالسَّعْدَانِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:

يُسْقَى بِالْيَاءِ، أَيْ: يُسْقَى مَا ذُكِرَ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ. أَنَّثُوا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى لَفْظِ مَا تَقَدَّمَ، ولقوله: ونفضل بِالنُّونِ. وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ فِي تُسْقَى، وَفِي نُفَضِّلُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ الوارث: ويفضل بالياء، وفتح الضاد بعضها بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:

وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَّطَ الْمَصَاحِفَ. وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي ضَمِّ الْكَافِ من الأكل وسكونها. والأكل بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الْمَأْكُولُ كَالنَّقْضِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ، وَبِفَتْحِهَا الْمَصْدَرُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَفْسِيرِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ لِلصِّنْوَانِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صِنْوَانٌ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: وَنَخِيلٌ. وَمَنْ فَسَّرَهُ مِنْهُمْ بِالْمِثْلِ جَعَلَهُ وَصْفًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ: أَشْكَالٌ، وَغَيْرُ أَشْكَالٍ. قِيلَ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِنْوٌ وَقِنْوَانٌ، وَلَا يُوجَدُ لَهُمَا ثَالِثٌ ونص على الصنوان لِأَنَّهَا بِمِثَالِ التَّجَاوُرِ فِي الْقِطَعِ، فَظَهَرَ فِيهَا غَرَابَةُ اخْتِلَافِ الْأُكُلِ. وَمَعْنَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ: مَاءُ مَطَرٍ، أَوْ مَاءُ بَحْرٍ، أَوْ مَاءُ نَهَرٍ، أَوْ مَاءُ عَيْنٍ، أَوْ مَاءُ نَبْعٍ لَا يَسِيلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَخَصَّ التَّفْضِيلَ فِي الْأُكُلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ غَالِبُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ

ص: 349

مِنَ الثَّمَرَاتِ. أَلَا تَرَى إِلَى تَقَارُبِهَا فِي الْأَشْكَالِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ؟ قِيلَ: نَبَّهَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّجَرَةَ تَخْرُجُ أَغْصَانُهَا وَثَمَرَاتُهَا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَلَا تَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَعَّدُ الْمَاءُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عُلُوًّا عُلُوًّا وَلَيْسَ مِنْ طَبْعِهِ إِلَّا التَّسَفُّلُ، يَتَفَرَّقُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَالثَّمَرِ كُلٌّ بِقِسْطِهِ وَبِقَدْرِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ طُعُومُ الثِّمَارِ وَالْمَاءُ وَاحِدٌ، وَالشَّجَرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُدَبِّرٍ دَبَّرَهُ وَأَحْكَمَهُ، لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ الرَّاجِزُ:

وَالْأَرْضُ فِيهَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ

تُخْبِرُ عَنْ صُنْعِ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ

تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ أَشْجَارُهَا

وَبُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ قَرَارُهَا

وَالشَّمْسُ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ يَخْتَلِفُ

وَأَكْلُهَا مُخْتَلِفٌ لَا يَأْتَلِفُ

لَوْ أَنَّ ذَا مِنْ عَمَلِ الطَّبَائِعِ

أَوْ أَنَّهُ صَنْعَةُ غَيْرِ صَانِعِ

لَمْ يَخْتَلِفْ وَكَانَ شَيْئًا وَاحِدَا

هَلْ يُشْبِهُ الْأَوْلَادَ إِلَّا الْوَالِدَا

الشَّمْسُ وَالْهَوَاءُ يَا مُعَانِدُ

وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ شَيْءٌ وَاحِدُ

فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ ذَا التَّفَاضُلَا

إِلَّا حَكِيمٌ لَمْ يُرِدْهُ بَاطِلًا

وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقُلُوبِ بَنِي آدَمَ، كَانَتِ الْأَرْضُ طِينَةً وَاحِدَةً فَسَطَّحَهَا، فَصَارَتْ قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا مَاءٌ وَاحِدٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَةً وَثَمَرَةً، وَتُخْرِجُ هَذِهِ سَبِخَةً وَمِلْحًا وَخُبْثًا. وَكَذَلِكَ النَّاسُ خُلِقُوا مِنْ آدَمَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مُذَكِّرَةً، فربت قُلُوبٌ وَخَشَعَتْ قُلُوبٌ، وَقَسَتْ قُلُوبٌ وَلَهَتْ قُلُوبٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. قَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1» انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ. إِنَّ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ، لَآيَاتٌ: لَحُجَجًا وَدَلَالَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: يَعْلَمُونَ الْأَدِلَّةَ فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشْيَاءَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ مِنْ مُشَاهَدَةِ تَجَاوُرِ الْقِطَعِ، وَالْجَنَّاتِ وَسَقْيِهَا وَتَفْضِيلِهَا، جَاءَ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَمَزِيدِ نَظَرٍ جَاءَ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

(1) سورة الإسراء: 17/ 82.

ص: 350

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ: وَلَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ مِنَ الْغَرَائِبِ فِي مَلَكُوتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِوَاهُ، عَجِبَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وَتَوْهِينِهِمْ قُدْرَتَهُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ فَنَزَلَ: وَإِنْ تَعْجَبْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ تَعْجَبْ من تكذيبهم إياك بعد ما كَانُوا حَكَمُوا عَلَيْكَ أَنَّكَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَهَذَا أَعْجَبُ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعا بعد ما عَرَفُوا الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَهَذَا أَعْجَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا مُحَمَّدُ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَقَوْلُهُمْ عَجِيبٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِنْشَاءِ مَا عَدَّدَ عَلَيْكَ مِنَ الْفِطَرِ الْعَظِيمَةِ، وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، كَانَتِ الْإِعَادَةُ أَهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَأَيْسَرَهُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُمْ أُعْجُوبَةً مِنَ الْأَعَاجِيبِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ عَجَبِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ قولهم في إنكار البعث، فَاتَّحَدَ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ، إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ أَنْ يَقَعَ مِنْكَ عَجَبٌ، فَلْيَكُنْ مِنْ قولهم: أءذا كُنَّا الْآيَةَ. وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ: هُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَرِعُ لِلْأَشْيَاءِ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِبْرَازِهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «1» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ: هَيِّنٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، أَيْ: إِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جَهَالَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، فَهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَعَجِيبٌ وَغَرِيبٌ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمُ الْعَوْدَ بَعْدَ كَوْنِنَا خَلْقًا جَدِيدًا. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَنْزَعًا آخَرَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدَ عَجَبًا فَهَلُمَّ، فَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ قَوْلَهُمْ انْتَهَى. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الِاسْتِفْهَامَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا، هُنَا مَوْضِعٌ، وَكَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْعَنْكَبُوتِ، وَفِي النَّمْلِ، وَفِي السَّجْدَةِ، وَفِي الْوَاقِعَةِ، وَفِي وَالنَّازِعَاتِ، وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْضِعَانِ، وَكَذَا فِي وَالصَّافَّاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِجَعْلِ الْأَوَّلِ اسْتِفْهَامًا، وَالثَّانِي خَبَرًا، إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ بِعَكْسِ نَافِعٍ. وجمع

(1) سورة الروم: 30/ 27.

ص: 351

الْكِسَائِيُّ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَأَمَّا فِي النَّمْلِ فَعَلَى أَصْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ نُونًا فَقَرَأَ:

إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ «1» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِجَعْلِ الْأَوَّلِ خَبَرًا، وَالثَّانِي اسْتِفْهَامًا، إِلَّا فِي النَّمْلِ وَالنَّازِعَاتِ فَعَكْسٌ، وَزَادَ فِي النَّمْلِ نُونًا كَالْكِسَائِيِّ. وَإِلَّا فِي الْوَاقِعَةِ فَقَرَأَهُمَا بِاسْتِفْهَامَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا قَرَأَ فِي الْعَنْكَبُوتِ بِالْخَبَرِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالِاسْتِفْهَامِ فِي الثَّانِي، وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَحْقِيقٍ وَفَصْلٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُمْ: فَعَجَبٌ، هُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ صِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَعْنَى بِمُطْلَقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِهِ وَتَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: فَعَجَبٌ أَيْ عَجَبٌ، أَوْ فَعَجَبٌ غَرِيبٌ. وَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مَوْصُوفًا جَازَ أَنْ يُعْرَبَ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِيهَا مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْوَصْفُ، وَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْخَبَرِ مَعْرِفَةً ذَلِكَ. كَمَا أَجَازَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فِي كَمْ مَالِكٍ؟ لِمُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ، وَفِي نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنْهُ أَبُوهُ، لِمُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ كَوْنُهُ عَامِلًا فِيمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَقِيلَ عَجَبٌ بِمَعْنَى مُعَجَّبٍ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ قَوْلُهُمْ بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ لَا يجوز، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الْعَمَلِ كَحُكْمِهِ، فَمُعَجَّبٌ يَعْمَلُ، وَعَجَبٌ لَا يَعْمَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلًا كَذَبَحَ، وَفِعْلًا كَقَبَضَ، وَفُعْلَةً كَغُرْفَةٍ، هِيَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَلَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذَبَحَ كَبْشَهُ، وَلَا بَرَجُلٍ قَبَضَ مَالَهُ، وَلَا بَرَجُلٍ غَرَفَ مَاءَهُ، بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ كَبْشُهُ وَمَقْبُوضٍ مَالُهُ وَمَعْرُوفٍ مَاؤُهُ. وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ تَنُوبُ فِي الدَّلَالَةِ لَا فِي الْعَمَلِ عَنِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ حَصَرَ النَّحْوِيُّونَ مَا يَرْفَعُ الْفَاعِلَ، والظاهر أن أءذا مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِمْ مَحْكِيٌّ بِهِ. وقال الزمخشري: أءذا كُنَّا إِلَى آخِرِ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ انْتَهَى. هَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ، وَعُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وإذا مُتَمَحِّضَةٌ لِلظَّرْفِ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، فَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنُبْعَثُ، أَوْ أَنُحْشَرُ. أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ مُصَمَّمٌ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ إِذْ عجزوا قدرته عن إِعَادَةِ مَا أَنْشَأَ وَاخْتَرَعَ ابْتِدَاءً. وَلَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ ما يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَغْلَالَ تَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَعْنَاقِهِمْ كَالْأَغْلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ

(1) سورة النمل: 27/ 67.

ص: 352

وَالسَّلَاسِلُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَيْ: هُمْ مَغْلُولُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَجْرِي إِذَا مَجْرَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا «1» وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ وَقِيلَ: الْأَغْلَالُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ كَالْأَغْلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مشار إِلَيْهِمْ رَادَّةٍ عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ الْبَعْثِ، إِذْ لَا يَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ إِلَّا بَعْدَ الْحَشْرِ. وَلَمَّا كَانُوا مُتَوَعَّدِينَ بِالْعَذَابِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، سَأَلُوا وَاسْتَعْجَلُوا فِي الطَّلَبِ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالُوا: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «2» وَقَالُوا:

أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «3» .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّيِّئَةُ الْعَذَابُ، وَالْحَسَنَةُ الْعَافِيَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالشَّرِّ قَبْلَ الْخَيْرِ.

وَقِيلَ: بِالْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَةِ قَبْلَ الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ أَيْ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُخْفِ عُقُولِهِمْ، إِذْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ. وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ تَعْذِيبُ أَمْثَالِهِمْ لَكَانُوا رُبَّمَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ، وَلَكِنَّهُمْ لا يعتبرون فيستهزؤون. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَثُلَاتُ الْعُقُوبَاتُ الْمُسْتَأْصِلَاتُ، كَمَثُلَاتِ قَطْعِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَنَحْوِهِمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّقِمَاتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَائِعُ اللَّهِ الْفَاضِحَةُ، كَمَسْخِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَيْرٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَأَبُو بَكْرٍ: بِضَمِّهِمَا، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثاء. ولذو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ترجية للغفران، وعلى ظُلْمِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِاكْتِسَابِ الذُّنُوبِ أَيْ: ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ في القرآن آية أرجى مِنْ هَذِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لِيَغْفِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى وَقَوْمٌ: لِيَغْفِرَ لَهُمُ الظُّلْمَ السَّالِفَ بِتَوْبَتِهِمْ فِي الْآنِفِ. وَقِيلَ: لِيَغْفِرَ السَّيِّئَاتِ الصَّغِيرَةَ لمجتنب الكبائر.

(1) سورة يس: 36/ 8. [.....]

(2)

سورة الأنفال: 8/ 32.

(3)

سورة الإسراء: 17/ 92.

ص: 353

وَقِيلَ: لِيَغْفِرَ لَهُمْ بِسَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، فَلَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ مَعَ تَعْجِيلِهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ هُنَا هُوَ سَتْرُهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمْهَالُهُ لِلْكَفَرَةِ. أَلَا تَرَى التَّيْسِيرَ فِي لَفْظِ مَغْفِرَةٍ، وَأَنَّهَا مُنْكَرَةٌ مُقَلَّدَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا مُبَالَغَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ «1» وَمَحَطُّ الْآيَةِ يُعْطِي هَذَا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ بِالنَّارِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ سُوءُ فِعْلِهِمْ وَجَبَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَعْذِيبُهُمْ، فَأَخْبَرَ بِسِيرَتِهِ فِي الْأُمَمِ، وَأَنَّهُ يُمْهِلُ مَعَ ظلم الكفرة انتهى. ولشديد الْعِقَابِ: تَخْوِيفٌ وَارْتِقَابٌ بَعْدَ تَرْجِيَةٍ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ لَمَا هَنَأَ لِأَحَدٍ عَيْشٌ، ولولا عقابه لا تكل كُلُّ أَحَدٍ»

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَوْ عَلِمَ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا أَمْسَكَ عَنْ ذَنْبٍ، وَلَوْ عَلِمَ قَدْرَ عُقُوبَتِهِ لَقَمَعَ نَفْسَهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل» .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ وَضَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: «أَنَا مُنْذِرٌ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْكِبِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي مَنْ بَعْدِي»

،

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

، وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِنْ مُشْرِكِيهِمْ وَالْكُفَّارِ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ الْمُنَزَّلَةِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ، وَانْقِلَابِ الْعَصَا سَيْفًا، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ. فَاقْتَرَحُوا عِنَادًا آيَاتٍ كَالْمَذْكُورَةِ فِي سُبْحَانَ، وَفِي الْفُرْقَانِ كَالتَّفْجِيرِ لِلْيَنْبُوعِ، وَالرُّقِيِّ فِي السَّمَاءِ، وَالْمُلْكِ، وَالْكَنْزِ، فقال تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ تُخَوِّفُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَنَاصِحٌ كَغَيْرِكَ مِنَ الرُّسُلِ، لَيْسَ لَكَ الْإِتْيَانُ بِمَا اقْتَرَحُوا. إِذْ قَدْ أَتَى بِآيَاتٍ عَدَدَ الْحَصَا، وَالْآيَاتُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، لَا تَفَاوُتَ فِيهَا. فَالِاقْتِرَاحُ إِنَّمَا هُوَ عِنَادٌ، وَلَمْ يُجْرِ اللَّهُ الْعَادَةَ بِإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرِحَةِ إِلَّا لِلْآيَةِ الَّتِي حَتَّمَ بِعَذَابِهَا وَاسْتِئْصَالِهَا.

وهاد: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَطَفَ عَلَى مُنْذِرٌ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ، وَبِهِ قَالَ:

عِكْرِمَةُ، وَأَبُو الضُّحَى. فَإِنْ أَخَذْتَ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، عَلَى الْعُمُومِ فَمَعْنَاهُ: وَدَاعٍ إِلَى الْهُدَى، كَمَا

قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ»

فَإِنْ أَخَذْتَ هاد على حقيقته فكل قَوْمٍ مَخْصُوصٌ أَيْ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ قَائِلِينَ هَادٍ. وَقِيلَ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ سَلَفَتْ هَادٍ أَيْ: نَبِيٌّ يَدْعُوهُمْ.

وَالْقَصْدُ: فَلَيْسَ أَمْرُكَ بِبِدْعٍ وَلَا مُنْكَرٍ، وَبِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالزَّجَّاجُ قَالَ: نبي

(1) سورة طه: 20/ 82.

ص: 354

يَدْعُوهُمْ بِمَا يُعْطَى مِنَ الْآيَاتِ، لَا بِمَا يَتَحَكَّمُونَ فِيهِ مِنَ الِاقْتِرَاحَاتِ. وَتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

فَقَالَ: هَادٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَهْدِيهِمْ إِلَى الدِّينِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَبِآيَةٍ خُصَّ بِهَا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَشْيَاءَ شَرْعًا وَاحِدًا فِي آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْهَادِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وابن جبير، وهاد: عَلَى هَذَا مُخْتَرِعٌ لِلْإِرْشَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَلْفَاظٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتُعْرَفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذَا الْقَوْلِ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ كَوْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ آيَاتٍ وَيُعَانِدُونَ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُنْذِرَ، لَا أَنْ تُثْبِتَ الْإِيمَانَ بِالْإِلْجَاءِ، وَالَّذِي يُثْبِتُهُ بِالْإِلْجَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي تبع فيه مجاهد، وَابْنَ زَيْدٍ مَا نَصُّهُ: وَلَقَدْ دَلَّ بِمَا أَرْدَفَهُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِ عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَضَايَا حِكْمَتِهِ، أَنَّ إِعْطَاءَ كُلِّ مُنْذِرٍ آيَاتٍ أَمْرٌ مُدَبَّرٌ بِالْعِلْمِ النَّافِذِ، مُقَدَّرٌ بِالْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَلَوْ عَلِمَ فِي إِجَابَتِهِمْ إِلَى مُقْتَرَحِهِمْ خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَةً لَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا فِي مَعْنَى أَنَّ الْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: بِالْإِلْجَاءِ عَلَى زَعْمِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْقُدْرَةِ قُدْرَتَهُ وَهَذَا عِلْمُهُ، هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ عَلَى هِدَايَتِهِمُ الْعَالِمُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَهْدِيهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْهَادِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِثَالًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَهُدَاتِهَا إِلَى الدِّينِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ يَا عَلِيُّ هَذَا وَصْفُكَ، لِيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُلَمَاءُ كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ دُعَاةٌ هُدَاةٌ إِلَى الْخَيْرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْهَادِي الْعَمَلُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: ولكل قوم سابق سَبَقَهُمْ إِلَى الْهُدَى إِلَى نَبِيِّ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: هَادٍ قَائِدٌ إِلَى الْخَيْرِ أَوْ إِلَى الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ «1» وَقَالَ فِي الشَّرِّ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «2» قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَوَقَفَ ابْنُ كثير على هاد وواق حيث واقعا، وعلى وال هنا وباق فِي النَّحْلِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِهَا. وَفِي الْإِقْنَاعِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ: الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِ الْبَابِ

(1) سورة الحج: 22/ 24.

(2)

سورة الصافات: 37/ 23.

ص: 355

لِابْنِ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَكِّيُّونَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَزْرَقِ عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ خَيَّرَهُ فِي الْوَقْفِ فِي جَمِيعِ الْبَابِ، بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بِالْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ بِحَذْفِهَا. وَالْبَابُ هُوَ كُلُّ مَنْقُوصٍ مُنَوَّنٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ.

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ الْكُفَّارُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم آيَةٌ وَكَمْ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ آيَاتِ عِلْمِهِ الْبَاهِرِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَلِيغَةِ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ كَافِيَةٌ لِمَنْ تَبَصَّرَ، فَلَا يَقْتَرِحُونَ غَيْرَهَا، وَأَنَّ نُزُولَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِتَفَرُّقِ الْأَجْزَاءِ وَاخْتِلَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَهَيَّأُ الِامْتِيَازُ بَيْنَهَا، نَبَّهَ على إحاط عِلْمِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ مَا أَنْشَأَ. وَقِيلَ:

مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا بِالسَّيِّئَةِ نَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَصْلَحَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَصَّ فِي هَذَا الْمَثَلِ الْمُنَبِّهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْقَاضِيَةَ بِتَجْوِيزِ الْبَعْثِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْجِنْسِ الَّتِي هِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ يَعْنِي:

الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا تَحْمِلُهُ الْإِنَاثُ مِنَ النُّطْفَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الْبَدْءُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى القادر عليها الإعادة. والله يَعْلَمُ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَنْ فَسَّرَ الْهَادِيَ بِاللَّهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ ابْتَدَأَ إِخْبَارًا عَنْهُ فقال: يعلم. ويعلم هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ هُنَا النِّسْبَةُ، إِنَّمَا الْمُرَادُ تَعَلُّقٌ العلم بالمفردات. وما جَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهَا مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ تَغِيضُ متعديا. وأن تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، فَيَكُونُ تَغِيضُ وَتَزْدَادُ لَازِمَانِ. وَسَمَاعُ تَعْدِيَتِهِمَا وَلُزُومِهِمَا ثَابِتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وأن تكون استفهاما مبتدأ، وتحمل خبره ويعلم مُتَعَلِّقُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وتحمل هُنَا مِنْ حَمْلِ الْبَطْنِ، لَا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّهْرِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى، وما تَضَعُ وَتَحْمِلُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغِيضُ تَنْقُصُ من الخلقة، وتزداد تَتِمُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْضُ الرَّحِمِ

ص: 356

أَنْ يَنْهَرِقَ دَمًا عَلَى الْحَمْلِ، فَيَضْعُفُ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ وَيُسْحَبُ، فَإِذَا بَقِيَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مُدَّةً كَمُلَ فِيهَا مِنْ خَمْسَةٍ وَصَحِبَهُ مَا نَقَصَ مِنْ هِرَاقَةِ الدَّمِ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَغِيضُ بِطَهُورِ الْحَيْضِ فِي الْحَبَلِ، وَتَزْدَادُ بِدَمِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْوَضْعِ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَيْضُ السَّقْطُ، وَالزِّيَادَةُ الْبَقَاءُ فَوْقَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غِيضَ الرَّحِمُ أَنْ تُسْقِطَ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، وَالزِّيَادَةُ أَنْ تَضَعَهُ لِمُدَّةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: الْغَيْضُ النَّقْصُ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: مِنْ عَدَدِ الْأَوْلَادِ، فَقَدْ تَحْمِلُ وَاحِدًا، وَقَدْ تَحْمِلُ أَكْثَرَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: غَيْضُ الرَّحِمِ الدَّمُ عَلَى الْحَمْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَالْمَعْنَى: أَنْ يَعْلَمَ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، وَتَمَامٍ وَخَدْجٍ، وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الحاضرة المترقبة.

وَيَعْلَمُ مَا تُغِيضُهُ الْأَرْحَامُ تنقصه، وما تَزْدَادُ أَيْ تَأْخُذُهُ زَائِدًا تَقُولُ: أَخَذْتُ مِنْهُ حَقِّي وَازْدَدْتُ مِنْهُ كَذَا، وَمِنْهُ: وَازْدَادُوا تِسْعاً «1» وَيُقَالُ: زِدْتُهُ فَزَادَ بِنَفْسِهِ وَازْدَادَ. وَمَا تنقصه الرحم وتزداده عَدَدُ الْوَلَدِ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ. وَيُرْوَى أَنْ شَرِيكًا كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمِنْهُ جَسَدُ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَامًّا وُمُخْدَجًا، وَمِنْهُ مُدَّةُ وِلَادَتِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى سَنَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَى أَرْبَعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَى خَمْسٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّحَّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ، وَهَرَمَ بْنَ حِبَّانَ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَرَمًا وَمِنْهُ الدَّمُ فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى، وَيَعْلَمُ غَيْضَ الْأَرْحَامِ وَازْدِيَادَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ غُيُوضُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَزِيَادَتُهُ، فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْأَرْحَامِ وَهُوَ لِمَا فِيهَا، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ:

الْغَيْضُوضَةُ أَنْ يَقَعَ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالِازْدِيَادُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ:

الْغَيْضُ الَّذِي يَكُونُ سَقْطًا لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَالِازْدِيَادُ وَلَدُ التَّمَامِ انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مُفَرَّقًا. وَبِمِقْدَارٍ يُقَدَّرُ، وَيُطْلَقُ الْمِقْدَارُ عَلَى الْقَدْرِ، وَعَلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ الشَّيْءُ.

وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، أَيْ: بِحَدٍّ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ أَيْ: بِقَدْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنَ الْغَيْضِ وَالِازْدِيَادِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ. وَقِيلَ: صِحَّةُ الْجَنِينِ

(1) سورة الكهف: 18/ 25.

ص: 357

وَمَرَضُهُ، وَمَوْتُهُ، وَحَيَاتُهُ، وَرِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ. وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمُ أَيْ: هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَمِّيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ الْمُبِينِ، فَامْتَنَعَ وُقُوعُ اللَّبْسِ فِي تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِنْدِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ كُلُّ حَادِثٍ بِوَقْتِهِ بِعَيْنِهِ، وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَإِرَادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمُ بِأَشْيَاءَ خَفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَكَانَتْ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ مِنْ خَفَايَا عِلْمِهِ، ذَكَرَ أَنَّ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَعِلْمُهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُشَاهِدُهُ الْعَالِمُ تَعَلُّقُهُ بِمَا يَغِيبُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ:

الْغَائِبُ الْمَعْدُومُ، وَالشَّاهِدُ الْمَوْجُودُ. وَقِيلَ: الْغَائِبُ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ، وَالشَّاهِدُ مَا حَضَرَ لِلْحِسِّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: عَالِمُ الْغَيْبِ بِالنَّصْبِ، الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، الْمُتَعَالِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، أَوِ الَّذِي كَبُرَ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدِثِينَ وَتَعَالَى عَنْهَا. وَأَثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: يَاءَ الْمُتَعَالِ وَقْفًا وَوَصْلًا، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ وَصْلًا وَوَقْفًا، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْخَطِّ. وَاسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهِ بِحَذْفِهَا فِي الْفَوَاصِلِ وَمِنَ الْقَوَافِي، وَأَجَازَ غَيْرُهُ حَذْفَهَا مُطْلَقًا. وَوَجْهُ حَذْفِهَا مَعَ أَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ، وَإِنْ تَعَاقَبَ التَّنْوِينُ، فَحُذِفَتْ مَعَ الْمُعَاقَبِ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْمُعَاقَبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُمُومِ، ذَكَرَ تَعَالَى تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِشَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَقَالَ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ فِي عِلْمِهِ الْمُسِرُّ الْقَوْلِ، وَالْجَاهِرُ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ. وسواء تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَفِي مَعَانِيهِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، وَهُوَ لَا يُثَنَّى فِي أَشْهَرِ اللُّغَاتِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ فَتَقُولُ: هما سواءان. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ أَيْ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ سَرَّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ، وَجَهَرَ مَنْ جَهَرَ بِهِ، وَأَعْرَبُوا سواء خبر مبتدأ مَنْ أَسَرَّ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُبْتَدَأً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بقوله: منكم، ومن الْمَعْطُوفُ الْخَبَرُ. وَكَذَا أَعْرَبَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْعَرَبِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ سِيبَوَيْهِ ضَعَّفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِنَكِرَةٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَخْفٍ مستتر وسارب ظَاهِرٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَخْفٍ بِالْمَعَاصِي.

وَتَفْسِيرُ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ: الْمُسْتَخْفِي هُنَا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي اللُّغَةِ يَنْبُو عَنْهُ اقْتِرَانُهُ بِاللَّيْلِ، وَاقْتِرَانُ السَّارِبِ بِالنَّهَارِ. وَتَقَابَلَ الْوَصْفَانِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ، إِذْ قَابَلَ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ. وَفِي قَوْلِهِ: سَارِبٌ بِالنَّهَارِ إِذْ قَابَلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ. وَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-

ص: 358

إنه تعالى محيط علمه بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ مَنْ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ:

وَسَارِبٌ، مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ، لَا عَلَى مُسْتَخْفٍ، فَيَصِحُّ التَّقْسِيمُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: سَوَاءٌ شَخْصٌ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَشَخْصٌ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مستخف.

وأريد بمن اثْنَانِ، وَحَمَلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي تَقْسِيمِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ هُوَ، وَعَلَى لَفْظِ مَنْ فِي إِفْرَادِ هُوَ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ اللَّذَانِ هُمَا مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبُ بِالنَّهَارِ، هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يَسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَيَسْرِبُ بِالنَّهَارِ، وَلِيَرَى تَصَرُّفَهُ فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، جَعَلَ اللَّهُ نَهَارَ رَاحَتِهِ. وَالْمَعْنَى: هَذَا وَالَّذِي أَمْرُهُ كُلُّهُ وَاحِدٌ بَرِيءٌ مِنَ الرَّيْبِ، سَوَاءٌ فِي اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكُلِّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ عَطْفُ السَّارِبِ دُونَ تَكْرَارِ مَنْ، وَلَا يَأْتِي حَذْفُهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ. فَالَّذِي يُسِرُّ طَرَفٌ، وَالَّذِي يَجْهَرُ طَرَفٌ مُضَادٌّ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ مُتَوَسِّطٌ مُتَلَوِّنٌ يَعْصِي بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا وَيُظْهِرُ الْبَرَاءَةَ بِالنَّهَارِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ بِظُلْمَتِهِ، يُرِيدُ إِخْفَاءَ عَمَلِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ:

أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي. وَقَالَ:

وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى مَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أَسَرَّ، وَمَنْ جَهَرَ، وَمَنِ اسْتَخْفَى، وَمَنْ سَرَبَ: مُعَقِّبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ، وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الضَّمَائِرِ الَّتِي فِي الْآيَةَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا حَرَسُ الرَّجُلِ وَجَلَاوِزَتُهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قَالَ:

وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي الرُّؤَسَاءِ الْكَافِرِينَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ السُّلْطَانُ الْمُحْرَسُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَفَى تَقْرِيرَهُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ انْتَهَى. وَحَذَفَ لَا، لَا فِي الْجَوَابِ قَسَمٌ بَعِيدٌ. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْمُعَقِّبَاتِ الْحَرَسَ فَالْمَعْنَى: يَحْفَظُونَهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى ظَنِّهِ وَزَعْمِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: لِلَّهِ مُعَقِّبَاتٌ مَلَائِكَةٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَبْدِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْحَفَظَةُ لَهُمْ أَيْضًا. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، وَقَدْ

ص: 359

جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: يقولون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَفَظَةً مِنْ مُتَمَرِّدِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.

قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْآيَةُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَتْ فِي حِفْظِ اللَّهِ لَهُ مِنْ أَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ، وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ

، مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي سَنُشِيرُ إِلَيْهَا بَعْدُ فِي ذِكْرِ الصَّوَاعِقِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ هُوَ الْأَوْلَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ يُفَسَّرُ. وَيَقُولُ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنِ اسْتَخْفَى بِاللَّيْلِ وَسَرَبَ بِالنَّهَارِ، مُسْتَوٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ لِذَلِكَ الْمَذْكُورِ مُعَقِّبَاتٍ: جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَعْقُبُ فِي حِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ. وَمُعَقِّبٌ: وَزْنُهُ مُفَعِّلٌ، مِنْ عَقَّبَ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَ عَلَى عَقِبِ الْآخَرِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْقُبُ بَعْضًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَعْقُبُونَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فَيَكْتُبُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَصْلُ مُعْتَقِبَاتٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الْقَافِ كَقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ «2» يَعْنِي الْمُعْتَذِرُونَ. وَيَجُوزُ مُعِقِّبَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ، لَا تُدْغَمُ التَّاءُ فِي الْقَافِ، وَلَا الْقَافُ فِي التَّاءِ، لَا مِنْ كَلِمَةٍ وَلَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْقَافَ وَالْكَافَ يُدْغَمُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَلَا يُدْغَمَانِ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا يُدْغَمُ غَيْرُهُمَا فِيهِمَا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِقَوْلِهِ: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٌ تَوْجِيهُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ مُعِقِّبَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مُعْتَقِبَاتٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الْقَافِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَالْمُعَقِّبَاتُ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي مُعَقِّبَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ، فَيَكُونُ كَرِجْلٍ نَسَّابَةٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ مُعَقِّبَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ الْأُخْرَى، جُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَاتِ، وَمُعَقِّبَةٌ لَيْسَتْ جَمْعُ مُعَقِّبٍ كَمَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ.

وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ وَرِجَالٍ وَرِجَالَاتٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَجَمَلٍ وَجِمَالٍ وَجَمَالَاتٍ، وَمُعَقِّبَةٌ وَمُعَقِّبَاتٌ إِنَّمَا هِيَ كَضَارِبٍ وَضَارِبَاتٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُ الطَّبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ، أَنَّهُ أَطْلَقَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى جَمْعِ مُعَقِّبٍ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أن يطلق على مؤنث مُعَقِّبٌ، وَصَارَ مِثْلَ الْوَارِدَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَرِدُونَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مُؤَنَّثٍ وَارِدٍ، مِنْ حَيْثُ أَنْ يُجْمَعَ جُمُوعَ التَّكْسِيرِ لِلْعَامِلِ يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي الْأَخْبَارِ. وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ لِقَوْلِهِ: الْعُلَمَاءُ قَائِلَةٌ كَذَا، وَقَوْلُهُمُ الرِّجَالُ وَأَعْضَادُهَا، وَتَشْبِيهُ الطَّبَرِيِّ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورجال ورجالات من حيث

(1) سورة الرعد: 13/ 7.

(2)

سورة التوبة: 9/ 90.

ص: 360

الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ صِنَاعَةِ النَّحْوِيِّينَ، فَبَيَّنَ أَنَّ مُعَقِّبَةً مِنْ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ كَرِجَالٍ مِنْ حَيْثُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ، وَأَنْ مُعَقِّبَاتٍ مِنْ حَيْثُ اسْتُعْمِلَ جَمْعًا لِمُعَقِّبَةٍ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْجَمْعِ كَرِجَالَاتِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ رِجَالٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْمِنْبَرِ لَهُ الْمَعَاقِبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وإبراهيم. وقال الزمخشري: وقرىء لَهُ مَعَاقِيبُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ تَكْسِيرُ مُعْقِبٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ، كمطعم ومطاعيم، وَمُقْدِمٍ وَمَقَادِيمَ، وَكَانَ مُعَقِّبًا جَمْعٌ عَلَى مُعَاقَبَةٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ الْيَاءُ فِي مَعَاقِيبَ عِوَضًا مِنَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فِي مُعَاقَبَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ أَوْ مُعَقِّبَةٍ، وَالْيَاءُ عِوَضٌ مِنْ حَذْفِ أَحَدِ الْقَافَيْنِ فِي التَّكْسِيرِ. وقرىء لَهُ مُعْتَقِبَاتٌ مِنِ اعْتَقَبَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُقَبَاءُ مِنْ خَلْفِهِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ له مُعَقِّبَاتٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَرَقِيبٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَيَنْبَغِي حمل هذه القراآت عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ. قِيلَ: مِنْ لِلسَّبَبِ كَقَوْلِكَ:

كَسَرْتُهُ مِنْ عُرًى، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْبَاءِ سَوَاءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ، فَحِفْظُهُمْ إِيَّاهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَكْتُبُونَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ.

وَقِرَاءَةُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٌّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ

، يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ السَّبَبِيَّةِ فِي مِنْ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِحِفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ: يَحْفَظُونَهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَحَكُّمٍ وَوُرُودُ مِنْ لِلسَّبَبِ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ كَقَوْلِكَ: حَرَسْتُ زَيْدًا مِنَ الْأَسَدِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ أَنْ يُمْهِلَهُ رَجَاءَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيُنِيبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ «1» يَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى التَّضْمِينِ أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ بِالْحِفْظِ مِنْ نَقَمَاتِ اللَّهِ رَجَاءَ تَوْبَتِهِ. وَمَنْ جَعَلَ الْمُعَقِّبَاتِ الْحَرَسَ، وَجَعَلَهَا فِي رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ فَيَحْفَظُونَهُ مَعْنَاهُ: فِي زَعْمِهِ وَتَوَهُّمِهِ مِنْ هَلَاكِ الله، ويدفعون قَضَاءَهُ فِي ظَنِّهِ، وَذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ بِهِ، وَحَقِيقَةُ التَّهَكُّمِ هُوَ أَنْ يُخْبِرَ بِشَيْءٍ ظَاهِرُهُ مَثَلًا الثُّبُوتُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مُنْتَصِفٌ، وَلِذَلِكَ حَمَلَ بعضهم يحفظونه

(1) سورة الأنبياء: 21/ 42.

ص: 361

عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ: لَا يَحْفَظُونَهُ، فَحَذَفَ لَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مِنْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً- كَمَا ذَكَرْنَا- بِيَحْفَظُونَهُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَرْفُوعٍ، وَيَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، بَلْ وُصِفَتِ الْمُعَقِّبَاتُ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ فِي الظَّاهِرِ: أَحَدُهَا: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: يَحْفَظُونَهُ أَيْ: حَافِظَاتٌ لَهُ. وَالثَّالِثَةُ: كَوْنُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ جَعْلَنَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُعَقِّبَاتٌ وُصِفَتْ بِصِفَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ:

كَائِنَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أنه بدىء بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ قَبْلَ الْوَصْفِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَذَلِكَ شَائِعٌ فَصِيحٌ، وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْجُمْلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّيْمُومَةِ فِي الْحِفْظِ آكَدَ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْوَصْفَ بِهَا. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ عَلَيْنَا، وَفِي الْكَتَبَةِ مِنْهُمْ أَقْوَالًا عَنِ المنجمين وأصحاب الطلسمات، وَنَاسٍ سَمَّاهُمْ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ يُوقِفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِخَفَايَا الْأَشْيَاءِ وَجَلَايَاهَا، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُعَقِّبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِضَبْطِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَشَرًّا، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا خَوَّلَهُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يُزِيلُهُ عَنْهُمْ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا بِكُفْرِ تِلْكَ النِّعَمِ، وَإِهْمَالِ أَمْرِهِ بِالطَّاعَةِ، وَاسْتِبْدَالِهَا بِالْمَعْصِيَةِ. فَكَانَ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى لُزُومِ الطَّاعَةِ، وَتَحْذِيرٌ لِوَبَالِ الْمَعْصِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَقَعَ تَغَيُّرُ النِّعَمِ بِقَوْمٍ حَتَّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الموضع مؤول، لِأَنَّهُ صَحَّ الْخَبَرُ بِمَا قَدَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ أَخْذِ الْعَامَّةِ بِذُنُوبِ الْخَاصَّةِ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ «1» الْآيَةَ.

وَسُؤَالُهُمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ»

فَمَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ إِمَّا مِنْهُمْ، وَإِمَّا مِنَ النَّاظِرِ لَهُمْ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِنْهُمْ تَسَبَّبَ، كَمَا غَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الرُّمَاةِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، إِلَى غَيْرِ هَذَا فِي أَمْثَلِهِ الشَّرِيعَةِ. فَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْزِلُ بِأَحَدٍ عُقُوبَةٌ إِلَّا بِأَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْهُ ذَنْبٌ، بَلْ قَدْ تَنْزِلُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِ الْغَيْرِ. وَثَمَّ أَيْضًا مَصَائِبُ يَزِيدُ اللَّهُ بِهَا أجر

(1) سورة الأنفال: 8/ 25.

ص: 362

الْمُصَابِ، فَتِلْكَ لَيْسَتْ تَغْيِيرًا انْتَهَى.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»

وَقِيلَ: هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ «1» فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا ينزل بهم عذاب الاستئصال إِلَّا وَالْمَعْلُومُ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، إِلَّا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ، أَوْ فِي عَقِبِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ بِهِمْ عذاب الاستئصال. وما مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا بِقَوْمٍ، وَكَذَا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَفِي مَا إِبْهَامٌ لَا يَتَغَيَّرُ الْمُرَادُ مِنْهَا: إِلَّا بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاعْتِقَادِ مَحْذُوفٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ إِلَى تَوَالِي معصيته.

والسوء يجمع على كُلَّ مَا يَسُوءُ مِنْ مَرَضٍ وَخَيْرٍ وَعَذَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ. وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ اقْتَصَرَ على قوله: سوء، وَإِلَّا فَالسُّوءُ وَالْخَيْرُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْهَا فَلَا مَرَدَّ لَهُ، فَذَكَرَ السُّوءَ مُبَالَغَةً فِي التَّخْوِيفِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ وال من ملجأ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ يَلِي أَمْرَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ نَاصَرٍ يَمْنَعُ مِنْ عَذَابِهِ.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ: لَمَّا خَوَّفَ تَعَالَى الْعِبَادَ بقوله تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ «2» أَتْبَعَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ تُشْبِهُ النِّعَمَ مِنْ وَجْهٍ، وَالنِّقَمَ مِنْ وَجْهٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ وَالسَّحَابِ فِي الْبَقَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَطَمَعًا فِي الْغَيْثِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ فِي نَفْعِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ: خَوْفًا لِلْبَلَدِ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الْمَطَرِ لَهُ، وَطَمَعًا لِمَنْ يَرْجُو الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَطَمَعًا فِي الثَّوَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ كَنَّى بِالْبَرْقِ عَنِ الْمَاءِ، لَمَّا كَانَ الْمَطَرُ يُقَارِبُهُ غَالِبًا وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الشَّيْءِ مَجَازًا عَلَى مَا يُقَارِبُهُ غَالِبًا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: خَوْفًا وَطَمَعًا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ، قَالَ: وَمَعْنَى الْخَوْفِ

(1) سورة الرعد: 13/ 6.

(2)

سورة الرعد: 13/ 11.

ص: 363

وَالطَّمَعِ، أَنَّ وُقُوعَ الصَّوَاعِقِ يُخَوِّفُ عِنْدَ لَمْعِ الْبَرْقِ، وَيُطْمِعُ فِي الْغَيْثِ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:

فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يُخْشَى وَيُرْتَجَى

يُرْجَى الْحَيَا مِنْهُ وَتُخْشَى الصَّوَاعِقُ

وقيل: يخاف البرق المطر مَنْ لَهُ مِنْهُ ضَرَرٌ كَالْمُسَافِرِ، وَمَنْ فِي جَرِينَتِهِ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، وَمَنْ لَهُ بَيْتٌ يَكُفُّ، وَمِنَ الْبِلَادِ مَا لَا يَنْتَفِعُ أَهْلُهُ بِالْمَطَرِ كَأَهْلِ مِصْرَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: كَأَهْلِ مِصْرَ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَطَرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِ نُمُوِّ الزَّرْعِ، وَأَنَّهُ بِهِ يَنْمُو وَيَجُودُ، بَلْ تَمُرُّ عَلَى الزَّرْعِ أَوْقَاتٌ يَتَضَرَّرُ وَيَنْقُصُ نُمُوُّهُ بِامْتِنَاعِ الْمَطَرِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَرْقِ، كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَوْفٌ وَطَمَعٌ، أَوْ عَلَى ذَا خَوْفٍ وَطَمَعٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَوْفًا وَطَمَعًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ:

إِرَادَةَ خَوْفٍ وَطَمَعٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى إِخَافَةً وَإِطْمَاعًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا لَمْ يَكُونَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ فِعْلُ اللَّهِ، وَالْخَوْفَ وَالطَّمَعَ فِعْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَتَّحِدِ الْفَاعِلُ فِي الْفِعْلِ فِي الْمَصْدَرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ شَرْطِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ فِيهِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ خروف.

والسحاب اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيُفْرَدُ وَيُجْمَعُ، قَالَ:«وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ» «1» وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: الثِّقَالَ، وَيَعْنِي بِالْمَاءِ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ تُحْمَلُ الْمَاءُ، وَالْعَرَبُ تَصِفُهَا بِذَلِكَ. قَالَ قَيْسُ بْنُ أَخْطَمَ:

فَمَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْقَطَا

كَأَنَّ الْمَصَابِيحَ جَوَدَانُهَا

بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَلَا مُزْنَةَ

وَلَوْحٌ يَكْشِفُ أَوْجَانَهَا

وَالدُّلُوجُ الْمُثْقَلَةُ، وَالظَّاهِرُ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ. فَإِنْ كَانَ مما يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْبِيحُ فَهُوَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ. وَتَنْكِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ «2» يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَلَمًا لِمَلَكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْإِخْبَارُ بِالصَّوْتِ عَنِ التَّسْبِيحِ مَجَازٌ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: قَدْ غَمَّنِي كَلَامُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُسَبِّحُ سَامِعُو الرَّعْدِ مِنَ الْعِبَادِ الرَّاجِينَ لِلْمَطَرِ حَامِدِينَ لَهُ، أَيْ: يَضِجُّونَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ والحمد لله.

وفي

(1) سورة ق: 50/ 10.

(2)

سورة البقرة: 2/ 19. [.....]

ص: 364

الْحَدِيثِ: «سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ»

وَعَنْ عَلِيٍّ: «سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ إِذَا اشْتَدَّ الرَّعْدُ»

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ»

وَمِنْ بِدَعِ الْمُتَصَوِّفَةِ: الرَّعْدُ صَعَقَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَرْقُ زَفَرَاتُ أَفْئِدَتِهِمْ، وَالْمَطَرُ بُكَاؤُهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ فِي الرَّعْدِ أَنَّهُ رِيحٌ يَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحَابِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا نَزَغَاتُ الطَّبِيعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِقُوًى رُوحَانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَلِلسَّحَابِ رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ، وَفِي سَائِرِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ. وَهَذَا عَيْنُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحُكَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْعَاقِلِ الْإِنْكَارُ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الرَّجُلُ غَرَضُهُ جَرَيَانُ مَا تَنْتَحِلُهُ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى مَنَاهِجِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ لَا يكون أبدا، وقد تقدمت أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرَّعْدِ فِي الْبَقَرَةِ، فَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَلَكٍ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الملك يدبر لا السحاب وَلَا غَيْرِهِ، إِذْ لَا يُسْتَفَادُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، لَا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الضُّلَّالِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِيفَتِهِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِحَمْدِهِ. وَمَعْنَى خِيفَتِهِ: مِنْ هَيْبَتِهِ وَإِجْلَالِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرَّعْدِ. وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُهُ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ خَائِفُونَ خَاضِعُونَ طَائِعُونَ لَهُ. وَالرَّعْدُ وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. ومن مَفْعُولُ فَيُصِيبُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أَعْمَلَ فِيهِ الثَّانِيَ إِذْ يُرْسِلُ يَطْلُبُ من وفيصيب يَطْلُبُهُ، وَلَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَكِنْ جَاءَ عَلَى الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ إِعْمَالُ الثَّانِي. وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ يَشَاءُ إِصَابَتَهُ.

وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى جَبَّارٍ مِنَ الْعَرَبِ لِيُسْلِمَ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ إِلَهِ مُحَمَّدٍ؟ أَمِنْ لُؤْلُؤٍ هُوَ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ صَاعِقَةٌ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَاظَرَ يَهُودِيٌّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ نَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْ قَحْفَ رَأْسِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُمَا الْمَشْهُورَةَ مَضْمُونُهَا أَنَّ عَامِرًا تَوَعَّدَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَنَّهُ وَأَرْبَدَ رَامَا الْفَتْكَ بِهِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَصَابَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ فَمَاتَ غَرِيبًا، وَأَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ فَقَتَلَتْهُ،

وَلِأَخِيهِ لَبِيدٍ فيه عدة مراث مِنْهَا قَوْلُهُ:

ص: 365

أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا

أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ

فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصَّوَاعِقُ بِالَفَا

رِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ

وَهَذِهِ الصِّلَاتُ الْأَرْبَعُ الَّتِي وُصِلَتْ بِهَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، فَالْمُتَّصِفُ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَادِلَ فِيهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَهُمْ يُجَادِلُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، الْمُنْكِرِينَ الْآيَاتِ، يُجَادِلُونَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْخَلْقِ بقولهم:

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «1» وَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَنِسْبَةُ التَّوَالُدِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عز وجل مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمَعَ ذَلِكَ رَتَّبُوا عَلَيْهَا غَيْرَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْمُجَادَلَةِ فِيهِ وَفِي أَوْصَافِهِ تَعَالَى، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا التَّسْلِيمَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: وَهُمْ يُجَادِلُونَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ يَشَاءُ أَيْ: فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ فِي حَالِ جِدَالِهِمْ كَمَا جَرَى لِلْيَهُودِيِّ. وَكَذَلِكَ الْجَبَّارُ، وَلِأَرْبَدَ. وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمِحَالِ بِكَسْرِ الْمِيمِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمِحَالُ الْعَدَاوَةُ، وَعَنْهُ الْحِقْدُ.

وَعَنْ عَلِيٍّ: الْأَخْذُ،

وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْقُوَّةُ. وَعَنْ قُطْرُبٍ: الْغَضَبُ.

وَعَنِ الْحَسَنِ: الْهَلَاكُ بِالْمَحَلِّ، وَهُوَ الْقَحْطُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ: الْمَحَالِ بِفَتْحِ الْمِيمِ.

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَوْلُ. وَعَنْ عُبَيْدَةَ: الْحِيلَةُ. يُقَالُ: الْمَحَالُ وَالْمَحَالَةُ وَهِيَ الْحِيلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي مَثَلٍ: الْمَرْءُ يَعْجِزُ لَا الْمَحَالَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى شَدِيدَ الْعِقَابِ، وَيَكُونُ مَثَلًا فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، كَمَا جَاءَ: فَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ، وَمُوسَاهُ أَحَدُّ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَايَةً كَانَ مَنْعُوتًا بِشِدَّةِ الْقُوَّةِ وَالِاضْطِلَاعِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: فَقَرَتْهُ الْفَوَاقِرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقَارَ عَمُودُ الظَّهْرِ وَقِوَامُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعْوَةُ الْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعْوَةُ الْحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي مَعْنَاهَا.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَدُعَاؤُهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْعَى فِيهِ إِلَّا هُوَ، كَمَا قَالَ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ «2» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الطَّلَبِ الْحَقُّ أَيْ: مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَدُعَاءُ غَيْرِ اللَّهِ لَا يُجَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَافَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، كَمَا تُضَافُ الكلمة إليه في

(1) سورة يس: 36/ 78.

(2)

سورة الإسراء: 17/ 67.

ص: 366

قَوْلِهِ: «كَلِمَةُ الْحَقِّ» لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَأَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُدْعَى فَيَسْتَجِيبُ الدَّعْوَةَ، وَيُعْطِي الدَّاعِيَ سُؤْلَهُ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةً لَهُ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُ مُلَابِسَةً لِلْحَقِّ لِكَوْنِهِ حَقِيقًا بِأَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الدُّعَاءُ، لِمَا فِي دَعْوَتِهِ مِنَ الْجَدْوَى وَالنَّفْعِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يُجْدِي دُعَاؤُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تُضَافَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اللَّهُ عز وجل عَلَى مَعْنَى دَعْوَةِ الْمَدْعُوِّ الْحَقَّ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ. وَعَنِ الْحَسَنِ رحمه الله: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ دُعَاءٍ إِلَيْهِ دَعْوَةُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَى تَقْدِيرِ: لله دعوة الله، كَمَا تَقُولُ: لِزَيْدٍ دَعْوَةُ زَيْدٍ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يَصِحُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ بَاطِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الدَّعْوَةُ لَهُ هِيَ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جِدَالَ الْكُفَّارِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ جِدَالُهُمْ فِي إِثْبَاتِ آلِهَةٍ مَعَهُ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ أَيْ: مَنْ يَدْعُو لَهُ فَدَعْوَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي جَادَلُوا فِي اللَّهِ لِأَجْلِهَا، فَإِنَّ دُعَاءَهَا بَاطِلٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْآلِهَةُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ أَيْ: كَاسْتِجَابَةِ الْمَاءِ مِنْ بَسْطِ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ فَاهُ، وَالْمَاءُ جَمَادٌ لَا يَشْعُرُ بِبَسْطِ كَفَّيْهِ وَلَا بِعَطَشِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَيَبْلُغَ فَاهُ.

وَكَذَلِكَ مَا يَدْعُونَهُ جَمَادٌ لَا يَحِسُّ بِدُعَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ.

وَقِيلَ: شُبِّهُوا فِي قِلَّةِ جَدْوَى دُعَائِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ بِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِفَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ لِيَشْرَبَهُ، فَبَسَطَهُمَا نَاشِرًا أَصَابِعَهُ فَلَمْ تُبْقِ كَفَّاهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يَبْلُغْ طَلَبَتُهُ مِنْ شُرْبِهِ انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي يَدْعُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَدْعُونَهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِي تَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْيَزِيدِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ أَيْ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَدْعُونَ، وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَدْعُونَ الْأَصْنَامَ. وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ الْوَاوُ فِي يَدْعُونَ، وَالْوَاوُ فِي لَا يَسْتَجِيبُونَ عَائِدٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَفْعُولِ يَدْعُونَ الْمَحْذُوفِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالنَّاظِرِ إِلَى خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ يُرِيدُ تَنَاوُلَهُ، فَكَذَا الْمُحْتَاجُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ خَيَالُ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَمَنْ بَسَطَ يَدَيْهِ

(1) سورة الرعد: 13/ 14 والنحل: 16/ 20.

ص: 367

إِلَى الْمَاءِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ بِلَا اغْتِرَافٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ فِي السَّاعِي فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ بِالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

فَأَصْبَحَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا

مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءِ فِي الْيَدِ

وَقَالَ آخَرُ:

وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُمُ

كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسَعْهُ أَنَامِلُهُ

وَقِيلَ: شَبَّهُ الْكُفَّارَ فِي دُعَائِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ بِرَجُلٍ عَطْشَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ يَدْعُو الْمَاءَ لِيَبُلَّ غَلَّتَهُ، فَلَا هُوَ يَبْلُغُ قَعْرَ الْبِئْرِ إِلَى الْمَاءِ، وَلَا الْمَاءُ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ جَمَادٌ وَلَا يَحِسُّ بِعَطَشِهِ وَدُعَائِهِ، كَذَلِكَ مَا يَدْعُو الْكُفَّارُ مِنَ الْأَوْثَانِ جَمَادٌ لَا يَحِسُّ بِدُعَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ انْتَهَى. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مثل اسْتِجَابَةٍ، وَاسْتِجَابَةٌ مُضَافَةٌ فِي التَّقْدِيرِ إِلَى بَاسِطٍ، وَهِيَ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَفَاعِلُ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَإِجَابَةِ الْمَاءِ مَنْ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حُذِفَ أُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ لَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ. هَذَا الَّذِي يُقَدَّرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى حَوَائِجِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ لَا يُجِيبُونَ، ثُمَّ مَثَّلَ تَعَالَى مِثَالًا لِإِجَابَتِهِمْ بِالَّذِي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِالْإِقْبَالِ، فَهُوَ لَا يَبْلُغُ فَمَهُ أَبَدًا، فَكَذَلِكَ إِجَابَةُ هَؤُلَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِمْ لَا يَقَعُ انْتَهَى. وَفَاعِلُ لِيَبْلُغَ ضَمِيرُ الْمَاءِ، وليبلغ متعلق بباسط، وَمَا هُوَ أَيْ: وَمَا الْمَاءُ بِبَالِغِهِ، أَيْ: بِبَالِغِ الْفَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرُ الْفَمِ، وَالْهَاءُ فِي بِبَالِغِهِ لِلْمَاءِ أَيْ: وَمَا الْفَمُ بِبَالِغِ الْمَاءِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَبْلُغُ الْآخَرَ عَلَى هَذِهِ الحالة. وقرىء: كَبَاسِطٍ كَفَّيْهِ بِتَنْوِينِ بَاسِطٍ. وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أَيْ: فِي حَيْرَةٍ، أَوْ فِي اضْمِحْلَالٍ، لِأَنَّهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا وَلَا يُفِيدُ، فَقَدْ ضَلَّ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَنْهُمْ كَمَا ضَلَّ الْمَدْعُونَ. قَالَ تَعَالَى: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا فِي ضَيَاعٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ دَعَوُا اللَّهَ لَمْ يُجِبْهُمْ، وَإِنْ دعوا الآلهة لم نستطع إِجَابَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْوَاتُ الْكَافِرِينَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الله فلا يسمع دعاءهم.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا

(1) سورة الأعراف: 7/ 37.

ص: 368

ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ: إِنْ كَانَ السُّجُودُ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، فَمِنْ عُمُومِهَا يَنْقَادُ كُلُّهُمْ إِلَى مَا أراده تعالى بهم شاؤوا أَوْ أَبَوْا، وَتَنْقَادُ لَهُ تَعَالَى ظِلَالُهُمْ حَيْثُ هِيَ عَلَى مَشِيئَتِهِ مِنَ الِامْتِدَادِ وَالتَّقَلُّصِ، وَالْفَيْءِ وَالزَّوَالِ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ عِبَارَةً عَنِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ: وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَاضِعُ، فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا إِذْ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ لَا يَسْجُدُ، وَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ بِالطَّوْعِ عَنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِالْكَرْهِ عَنْ سُجُودِ مَنْ ضَمَّهُ السَّيْفُ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ: فَيَسْجُدُ كَرْهًا وَإِمَّا نِفَاقًا، أَوْ يَكُونُ الْكَرْهُ أَوَّلَ حَالِهِ، فَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الصِّفَةُ وَإِنْ صَحَّ إِيمَانُهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: طَوْعًا لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وكرها يَثْقُلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِلْزَامَ التَّكَالِيفِ مَشَقَّةٌ. وَقِيلَ: مَنْ طَالَتْ مُدَّةُ إِسْلَامِهِ، فَأَلِفَ السجود. وكرها مَنْ بَدَا بِالْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَأْلَفَ السُّجُودَ قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ السجود عبارة عن الهيئة الْمَخْصُوصَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ يَسْجُدُ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَدْلُولُهُ أَثَرٌ. أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ:

يَجِبُ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ كُلُّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْوُجُوبِ بِالْوُقُوعِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مَقْهُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى، خَاضِعٌ لِمَا أَرَادَ مِنْهُ، مَقْصُورٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ، لَا يَكُونُ مِنْهُ إِلَّا مَا قَدَّرَ تَعَالَى. فَالَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ كَائِنًا مَا كَانُوا دَاخِلُونَ تَحْتَ الْقَهْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَشْرِيكُ الظِّلَالِ فِي السُّجُودِ. وَالظِّلَالُ لَيْسَتْ أَشْخَاصًا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا السُّجُودُ بِالْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى يَصْرِفُهَا عَلَى مَا أَرَادَ، إِذْ هِيَ مِنَ الْعَالَمِ. فَالْعَالَمُ جَوَاهِرُهُ وَأَعْرَاضُهُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ إِرَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «1» وَكَوْنُ الظِّلَالِ يُرَادُ بِهَا الْأَشْخَاصُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ ضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلظِّلَالِ عُقُولًا تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ بِهَا، كَمَا جَعَلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامًا حَتَّى خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ، لِأَنَّ الْجَبَلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَقْلٌ بِشَرْطِ تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الظِّلُّ فَعَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْحَيَاةِ بِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى سُجُودِ الظِّلَالِ مَيْلُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ كَمَا أَرَادَ تَعَالَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

الظِّلُّ مَصْدَرٌ يَعْنِي فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخَيَالِ الَّذِي يَظْهَرُ لِلْجُرْمِ، وَطُولِهِ بِسَبَبِ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ، وَقِصَرِهِ بِسَبَبِ ارْتِفَاعِهَا، فَهُوَ مُنْقَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي طُولِهِ وَقِصَرِهِ وَمَيْلِهِ مِنْ

(1) سورة النحل: 16/ 48.

ص: 369

جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَخَصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الظِّلَالَ إِنَّمَا تُعَظَّمُ وَتَكْثُرُ فِيهِمَا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ «1»

رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا سَجَدَ لِصَنَمِهِ كَانَ ظِلُّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ حِينَئِذٍ.

وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: وَالْإِيصَالُ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هُوَ مَصْدَرُ أَصْلٍ أَيْ: دَخَلَ فِي الْأَصِيلِ كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ أَيْ دَخَلَ فِي الْإِصْبَاحِ. وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ أَمْرٍ وَاضِحٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ أَحَدٌ، كَانَ جَوَابُهُ مِنَ السَّائِلِ، فَكَانَ السَّبْقُ إِلَيْهِ أَفْصَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ إِلَيْهِمْ وَأَسْرَعُ فِي قَطْعِهِمْ فِي انْتِظَارِ الْجَوَابِ مِنْهُمْ، إِذْ لَا جَوَابَ إِلَّا هَذَا الَّذِي وَقَعَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ «2» وَيَبْعُدُ مَا قَالَ مَكِّيٌّ مِنْ أَنَّهُمْ جهلوا الجواب فطلبوه من جِهَةِ السَّائِلِ فَأَعْلَمَهُمْ بِهِ السَّائِلُ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» فَإِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ منشىء السموات وَالْأَرْضِ وَمُخْتَرِعَهَا هُوَ اللَّهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا الْجَوَابَ فَطَلَبُوهُ مِنَ السَّائِلِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُلِ اللَّهُ حكاية لاعترافهم تأكيد لَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّ السموات وَالْأَرْضِ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، كَقَوْلِهِ قُلْ مَنْ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سيقولون الله «4» وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُنَاظِرُ لِصَاحِبِهِ: أَهَذَا قَوْلُكَ؟ فَإِذَا قَالَ:

هَذَا قَوْلِي، قَالَ: هَذَا قَوْلُكَ، فَيَحْكِي إِقْرَارَهُ تَقْرِيرًا عَلَيْهِ وَاسْتِئْنَافًا مِنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَيَلْزَمُكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا أَيْ: إِنْ كَفُّوا عَنِ الْجَوَابِ فَلَقَّنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَقَّنُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ مَنْ رب السموات وَالْأَرْضِ؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَاسْتِنْطَاقٍ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا قُلِ: اللَّهُ، أَيْ هُوَ كَمَا قُلْتُمْ. وَقِيلَ: فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا قُلِ: اللَّهُ، إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُ هَذَا انْتَهَى. وَهُوَ تَلْخِيصُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أَجِبْ أَنْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ انْتَهَى. وَاسْتَفْهَمَ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ؟

عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ السموات وَالْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَتَتْرُكُونَهُ، فَجَعَلْتُمْ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّوْحِيدِ مِنْ عِلْمِكُمْ وَإِقْرَارِكُمْ سَبَبًا لِلْإِشْرَاكِ، ثُمَّ وَصَفَ تِلْكَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِفَةِ الْعَجْزِ وَهِيَ كَوْنُهَا لَا تملك لانفسها

(1) سورة الأعراف: 7/ 205.

(2)

سورة سبأ: 34/ 24.

(3)

سورة لقمان: 31/ 25.

(4)

سورة المؤمنون: 23/ 86- 87.

ص: 370

نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمَنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا؟ ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ حَالَةَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، ثُمَّ حَالَةَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلَّذِي يُبَادِرُ الْمُخَاطَبُ إِلَى الْجَوَابِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ بِقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْوَصْفَيْنِ الْقَائِمَيْنِ بِالْكَافِرِ وَهُوَ: الظُّلُمَاتُ، وَبِالْمُؤْمِنِ وَهُوَ النُّورُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: أَمْ هل يستوي بِالْيَاءِ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، أَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ، هَلْ منقطعة تتقدو بِبَلْ؟ وَالْهَمْزَةُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَهَلْ تَسْتَوِي؟ وَهَلْ وَإِنْ نَابَتْ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَقَدْ جَامَعَتْهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي الْقَفْرِ ذِي الْأُكَمِ وَإِذَا جَامَعَتْهَا مَعَ التَّصْرِيحِ بِهَا فَلَإِنْ تُجَامِعُهَا مَعَ أَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهَا أَوْلَى، وَهَلْ بَعْدَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا لِشَبَهِهَا بِالْأَدَوَاتِ الِاسْمِيَّةِ الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ فِي عَدَمِ الأصالة فيه كقوله: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا بَعْدَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ، لِأَنَّ أَمْ تَتَضَمَّنُهَا، فَلَمْ يَكُونُوا لِيَجْمَعُوا بَيْنَ أَمْ وَالْهَمْزَةِ لِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِهَلْ بَعْدَ أَمْ وَالْإِتْيَانِ بِهَا:

هَلْ مَا عَلِمْتَ وَمَا اسْتَوْدَعْتَ مَكْتُومُ

أَمْ حِبْلَهَا إِذْ نَأَتْكَ الْيَوْمَ مَصْرُومُ

أَمْ هَلْ كَبِيرٌ بَكَى لَمْ يَقْضِ عَبْرَتَهُ

إِثْرَ الْأَحِبَّةِ يَوْمَ الْبَيْنِ مَشْكُومُ

ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ غَائِبًا إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى تَوْبِيخِهِمْ فِي جَعْلِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَتَعْجِيبًا مِنْهُمْ، وَإِنْكَارًا عَلَيْهِمْ. وَتَضَمَّنَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّهَكُّمَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَمَا اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ ذَرَّةٍ، وَلَا إِيجَادِ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الشركاء هُمْ خَالِقُونَ شَيْئًا حَتَّى يَسْتَحِقُّوا الْعِبَادَةَ، وَجَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ أَيْ: جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ مَوْصُوفِينَ بِالْخَلْقِ مِثْلَ خَلْقِ اللَّهِ، فَتَشَابَهَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْبُدُونَهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ فِي الْعِبَادَةِ؟ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «2» ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ: مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَعْبُودَاتِهِمْ وَغَيْرِهَا. وَهُمْ أَيْضًا مُقِرُّونَ بذلك، وَلَئِنْ

(1) سورة يونس: 10/ 31.

(2)

سورة النحل: 16/ 17.

ص: 371

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، دَاخِلًا تَحْتَ الأمر بقل، فَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الواحد المنفرد بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْقَهَّارُ الَّذِي جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ فِيهِ يُقَالُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْقَهْرِ. فَهُوَ تَعَالَى لَا يُغَالَبُ، وَمَا سِوَاهُ مَقْهُورٌ مَرْبُوبٌ لَهُ عز وجل.

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَالْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ، كَمَا ضَرَبَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، مَثَلًا لَهُمَا. فَمَثَّلَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ بِهِ أَوْدِيَةٌ لِلنَّاسِ فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَنْفَعُهُمْ أَنْوَاعَ الْمَنَافِعِ، وَبِالْفِلِزِّ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي صَوْغِ الْحُلِيِّ مِنْهُ وَاتِّخَاذِ الْأَوَانِي وَالْآلَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيدَ الَّذِي فِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ لَكَفَى فِيهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَاكِثٌ فِي الْأَرْضِ بَاقٍ بَقَاءً ظَاهِرًا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي مَنَافِعِهِ، وَتَبْقَى آثَارُهُ فِي العيون والبئار والجبوب وَالثِّمَارِ الَّتِي تَنْبُتُ بِهِ مِمَّا يُدَّخَرُ وَيَكْثُرُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ تَبْقَى أَزْمِنَةً مُتَطَاوِلَةً. وَشَبَّهَ الْبَاطِلَ فِي سُرْعَةِ اضْمِحْلَالِهِ وَوَشْكِ زَوَالِهِ وَانْسِلَاخِهِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ بِزَبَدِ السَّيْلِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَبِزَبَدِ الْفِلِزِّ الَّذِي يَطْفُو فَوْقَهُ إِذَا أُذِيبَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَفَرَةِ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذِكْرُ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِثَالًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالشَّكِّ فِي الشَّرْعِ وَالْيَقِينِ بِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَالْقُلُوبِ، وَالْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ. فَالْمَاءُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَبَقَاءِ الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا عَلَى سِعَةِ الْقُلُوبِ وَضِيقِهَا، فمنها ما انتفع بِهِ فَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَتَدَبَّرَ فِيهِ، فَظَهَرَتْ ثَمَرَتُهُ وَأَدْرَكَ تَأْوِيلَهُ وَمَعْنَاهُ، وَمِنْهَا دُونَ ذَلِكَ بِطَبَقَةٍ، وَمِنْهَا دُونَهُ بِطَبَقَاتٍ. وَالزَّبَدُ مِثْلُ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَإِنْكَارِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَدَفْعِهِمْ إِيَّاهُ بِالْبَاطِلِ. وَالْمَاءُ الصَّافِي الْمُنْتَفِعُ بِهِ مِثْلُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا

(1) سورة لقمان: 31/ 25.

ص: 372

يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَهُوَ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبُ فَأَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَكَانَتْ مِنْهَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، يُرِيدُ بِهِ الشَّرْعَ وَالدِّينَ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ يُرِيدُ الْقُلُوبَ، أَيْ: أَخَذَ النَّبِيلُ بِحَظِّهِ، وَالْبَلِيدُ بِحَظِّهِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ يَنْحُو إِلَى أَقْوَالِ أَصْحَابِ الرُّمُوزِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَهْلُ تِلْكَ الطَّرِيقِ، وَلَا تَوْجِيهَ لِإِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَإِنَّ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، مَعْنَاهُ: الْحَقُّ الَّذِي يَتَقَرَّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي يَعْتَرِيهَا أَيْضًا انْتَهَى. وَالْمَاءُ الْمَطَرُ. وَنَكَّرَ أَوْدِيَةٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاوَبَةِ، فَتَسِيلُ بَعْضُ الْأَوْدِيَةِ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا أَيْ: عَلَى قَدْرِ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، أَوْ بِمَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ الْمَاءِ بِسَبَبِ نَفْعِ الْمَمْطُورِ عَلَيْهِمْ لَا ضَرَرِهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فَالْمَطَرُ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فَهُوَ نَافِعٌ خَالٍ مِنَ الضَّرَرِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقَدَرِهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: بِسُكُونِهَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بِقَدَرِهَا متعلق بسالت. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بِقَدَرِهَا صفة لأودية، وَعَرَّفَ السَّيْلَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ مَا فُهِمَ مِنَ الْفِعْلِ، وَالَّذِي يَتَضَمَّنُهُ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ هُوَ نَكِرَةٌ، فَإِذَا عَادَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ كَانَ مَعْرِفَةً، كَمَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ نَكِرَةً، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَ إِذَا عَادَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ: مَنْ كَذَّبَ كَانَ شَرًّا لَهُ أَيْ: كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ، وَلَوْ جَاءَ هُنَا مُضْمَرًا لَكَانَ جَائِزًا عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَسَالَتْ. وَاحْتَمَلَ بِمَعْنَى حَمَلَ، جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى المجرد كاقتدر وقدر. ورابيا مُنْتَفِخًا عَالِيًا عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ. وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ أَيْ: وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوقِدُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَدِيدُ، وَالنُّحَاسُ، وَالرَّصَاصُ، وَالْقَصْدِيرُ، وَنَحْوُهَا مِمَّا يُوقَدُ عَلَيْهِ وَلَهُ زَبَدٌ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَيَحْيَى، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ يُوقِدُ النَّاسُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بتوقدون وفي النَّارِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَالْحَوْفِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِتُوقِدُونَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يُوقَدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي النَّارِ

ص: 373

كقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ «1» فَذَلِكَ الْبِنَاءُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يُوقَدُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُصِيبُهُ لَهَبُهَا. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: فِي النَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا، أَوْ ثَابِتًا. وَمَنَعُوا تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ: تُوقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أنه لا يوقد على شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي النَّارِ، وَتَعْلِيقُ حَرْفِ الْجَرِّ بِتُوقِدُونَ يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ حَالٍ مِنْ حَالٍ أُخْرَى انْتَهَى. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُوقَدُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي النَّارِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتُوقِدُونَ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، وَانْتَصَبَ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ:

مُبْتَغِينَ حِلْيَةً، وَفِي ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ ابْتِغَاءَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْفَعَةِ مَا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ. وَالْحِلْيَةُ مَا يُعْمَلُ لِلنِّسَاءِ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمَتَاعُ مَا يُتَّخِذُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْعَيْشِ كَالْأَوَانِي، وَالْمَسَاحِي، وَآلَاتِ الْحَرْبِ، وَقَطَّاعَاتِ الْأَشْجَارِ، وَالسِّكَكِ، وَغَيْرِ ذلك. وزبد مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ. وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الزَّبَدَ هُوَ بَعْضُ مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَادِنِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: وَمِنْهُ يَنْشَأُ زَبَدٌ مِثْلَ زَبَدِ الْمَاءِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهِمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِثْلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. شَبَّهَ الْحَقَّ بِمَا يَخْلُصُ مِنْ جُرْمِ هَذِهِ الْمَعَادِنِ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْخَبَثِ وَدَوَامِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَشَبَّهَ الْبَاطِلَ بِالزَّبَدِ وَالْمُجْتَمِعِ مِنَ الْخَبَثِ وَالْأَقْذَارِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ. وَفَصَّلَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ وَمِنَ الزَّبَدِ، فَبَدَأَ بِالزَّبَدِ إِذْ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي قَوْلِهِ: زَبَدًا رَابِيًا، وَفِي قَوْلِهِ: زَبَدٌ مِثْلُهُ، وَلِكَوْنِ الْبَاطِلِ كِنَايَةً عَنْهُ وَصْفٌ مُتَأَخِّرٌ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ فَصِيحَةٌ يَبْدَأُ فِي التَّقْسِيمِ بِمَا ذُكِرَ آخِرًا كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «2» وَالْبِدَاءَةُ بِالسَّابِقِ فَصِيحَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «3» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ «4» وَكَأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَبْدَأُ فِي التَّفْصِيلِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ فِي الذِّكْرِ. وَانْتَصَبَ جُفَاءً عَلَى الْحَالِ أَيْ: مُضْمَحِلًّا مُتَلَاشِيًّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ. وَالزَّبَدُ يُرَادُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ مَا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ وَمَا خَرَجَ مِنْ حَيْثُ الْمَعَادِنُ، وَأَفْرَدَ الزَّبَدَ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يُثَنِّ، وَإِنْ تَقَدَّمَ زَبَدَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الزَّبَدِيَّةِ، فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَرَأَ رُؤْبَةُ: جُفَالًا بِاللَّامِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ مِنْ

(1) سورة القصص: 28/ 38.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 106. [.....]

(3)

سورة هود: 11/ 105.

(4)

سورة هود: 11/ 106.

ص: 374

قَوْلِهِمْ: جَفَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ إِذَا حَمَلَتْهُ وَفَرَّقَتْهُ. وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ: لَا يُقْرَأُ بِقِرَاءَةِ رُؤْبَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْفَأْرَ بِمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ أَعْرَابِيًّا جَافِيًا. وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ أَيْ: مِنَ الْمَاءِ الخالص من الغثاء وَمِنَ الْجَوْهَرِ الْمَعْدِنِيِّ الْخَالِصِ مِنَ الْخَبَثِ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبُ كَمَثَلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ انْتَقَلَ إِلَى مَا لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَهْلِ الْبَاطِلِ مِنَ الْعِقَابِ، فَقَالَ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى، أَيْ: الَّذِينَ دَعَاهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ دِينِهِ الْحَالَةَ الْحُسْنَى، وَذَلِكَ هُوَ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا وَمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. فالحسنى مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَغَايَرَ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الِابْتِدَاءِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ، وَعَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْحُسْنَى لَا لِغَيْرِهِمْ. وَلِأَنَّ قِرَاءَةَ شُيُوخِنَا يَقِفُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَمْثَالَ، وَيَبْتَدِئُونَ لِلَّذِينَ. وَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ أَعْرَبَ الحوفي الحسنى مبتدأ، وللذين خَبَرَهُ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَفَهِمَ السَّلَفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاءُ الْحُسْنَى وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

الْحَيَاةُ الْحُسْنَى مَا فِي الطِّيبَةِ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ لِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنَى. وَقِيلَ: الْمُكَافَأَةُ أَضْعَافًا. وَعَلَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلَّذِينَ بِقَوْلِهِ يَضْرِبُ فَقَالَ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا متعلقة بيضرب أَيْ:

كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا، وَلِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا أَيْ:

هُمَا مِثْلَا الْفَرِيقَيْنِ. والحسنى صِفَةٌ لِمَصْدَرِ اسْتَجَابُوا أَيْ: اسْتَجَابُوا الِاسْتِجَابَةَ الْحُسْنَى.

وَقَوْلُهُمْ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِغَيْرِ الْمُسْتَجِيبِينَ انْتَهَى. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ فِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمَثَلِ هَذَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَرَبَ أَمْثَالًا كَثِيرَةً فِي هَذَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ فِيهِ ذِكْرُ ثَوَابِ الْمُسْتَجِيبِينَ بِخِلَافِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَكَمَا ذَكَرَ مَا لِغَيْرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ مَا لِلْمُسْتَجِيبِينَ مِنَ الثَّوَابِ. وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهُ الِاسْتِجَابَةَ الْحُسْنَى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها لَيْسَ نَفْيَ الِاسْتِجَابَةِ مُطْلَقًا، إِنَّمَا مُقَابِلُهَا نَفْيُ الِاسْتِجَابَةِ الْحُسْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى الِاسْتِجَابَةَ مُطْلَقًا. وَلِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، كَلَامًا مُفْلَتًا مِمَّا قَبْلَهُ، أَوْ كَالْمُفْلَتِ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ بِحَرْفٍ رَابَطَ لَوْ بِمَا قَبْلَهَا زَالَ التَّفَلُّتُ، وَأَيْضًا فَيُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ فِي الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْكَافِرِينَ مَعْلُومًا لَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّرْكِيبُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا

ص: 375