المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

‌سورة ابراهيم

ترتيبها 14 سورة إبراهيم آياتها 52

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

ص: 404

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية إِلَى قَوْلِهِ إِلَى النَّارِ «1» وَارْتِبَاطُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ قَبْلَهَا وَاضِحٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً «2» ثُمَّ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا «3» ثُمَّ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» فَنَاسَبَ هَذَا قَوْلَهُ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «5» وَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ «6» أَنْزَلَ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليك كأنه قيل: أو لم يَكْفِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ هِيَ الضَّلَالُ، إِلَى النُّورِ وَهُوَ الْهُدَى.

وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الر أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء، وكتاب الْخَبَرُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الر، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: الْزَمْ أَوِ اقْرَأْ الر. وكتاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ في هذين الإعرابين، وكتاب مُبْتَدَأٌ. وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا فِي التَّقْدِيرِ أي: كتاب أي: عَظِيمٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا كتاب، وأنزلناه جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَفِي قَوْلِهِ:

أَنْزَلْنَاهُ. وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ وَمُخَاطَبَتِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَيْكَ، وإسناد الإخراج إليه

(1) سورة ابراهيم: 14/ 28- 30.

(2)

سورة الرعد: 13/ 31.

(3)

سورة الرعد: 13/ 37.

(4)

سورة الرعد: 13/ 43.

(5)

سورة يونس: 10/ 20.

(6)

سورة الرعد: 13/ 27.

ص: 405

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَنْوِيهٌ عظيم وتشريف لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ الْمُشَارَكَةُ فِي تَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ بِإِنْزَالِهِ تَعَالَى، وَبِإِخْرَاجِهِ عليه الصلاة والسلام، إِذْ هُوَ الدَّاعِي وَالْمُنْذِرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَرِعُ الْهِدَايَةِ هُوَ اللَّهُ تعالى. والناس عَامٌّ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ مُسْتَعَارَانِ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ عِلَّةَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ قَالَ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بِتَسْهِيلِ مَالِكِهِمُ النَّاظِرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، إِذْ هُمْ عَبِيدُهُ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى مِنَّةِ الْمَالِكِ، وَكَوْنُهُ نَاظِرًا في حال عبيده. وبإذن ظَاهِرُهُ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَالَ: أَيْ مَأْذُونًا لَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ، مُسْتَعَارٌ مِنَ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ تَسْهِيلُ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ مَا يَمْنَحُهُمْ مِنَ اللُّطْفِ وَالتَّوْفِيقِ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى صِرَاطِ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى النُّورِ، وَلَا يَضُرُّ هَذَا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ، لِأَنَّ بِإِذْنِ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ لِتُخْرِجَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ إِلَى صِرَاطِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى أَيِّ نُورٍ، فَقِيلَ: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وقرىء: لِيَخْرُجَ مُضَارِعُ خَرَجَ بِالْيَاءِ بنقطتين من تحتها، والناس رُفِعَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَى النُّورِ، فِيهِ إِبْهَامٌ مَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَى صِرَاطِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا إِسْنَادُ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، نَاسَبَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صِفَةَ الْعِزَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَصِفَةُ الْحَمْدِ الْمُتَضَمِّنَةُ اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ الْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، إِذِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْإِيمَانِ هِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْحَمْدُ عَلَيْهَا وَالشُّكْرُ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْعَزِيزِ، لِتَقَدُّمِ مَا دَلَّ عَلَيْهَا، وَتَلِيهَا صِفَةُ الْحَمِيدِ لِتُلُوِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ اللَّهُ بِالرَّفْعِ فَقِيلَ: مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ اللَّهُ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَمْكَنَ لِظُهُورِ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَتَفَلُّتِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: اللَّهِ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْحَوْفِيِّ، وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَعَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لِغَلَبَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْمَعْبُودِ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا غَلَبَ النَّجْمُ عَلَى الثُّرَيَّا انْتَهَى. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْإِلَهَ، ثُمَّ نُقِلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَالْتَزَمَ فِيهِ النَّقْلَ وَالْحَذْفَ، وَمَادَّتُهُ إِذْ ذَاكَ الْهُمَزَةُ وَاللَّامُ وَالْهَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْحَمْدِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لَا تُقَدَّمُ صِفَةٌ عَلَى مَوْصُوفٍ إِلَّا حَيْثُ سُمِعَ وَذَلِكَ قَلِيلٌ، وَلِلْعَرَبِ فِيمَا وُجِدَ

ص: 406

مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُقَدَّمَ الصِّفَةُ وَتَبْقِيَتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَفِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِعْرَابُهُ نَعْتًا مُقَدَّمًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعْدَ الصِّفَةِ بَدَلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُضِيفَ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ إِذَا قَدِمَتْهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُعْرَبَانِ صِفَتَيْنِ مُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَيُعْرَبُ لَفْظُ اللَّهِ مَوْصُوفًا مُتَأَخِّرًا. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ تقديم ما لو تأخير لَكَانَ صِفَةً، وَتَأْخِيرُ مَا لَوْ تَقَدَّمَ لَكَانَ مَوْصُوفًا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا

رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسَّعَدِ

فَلَوْ جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَالْمُؤْمِنِ الطَّيْرَ الْعَائِذَاتِ، وَارْتَفَعَ وَيْلٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلِلْكَافِرِينَ خَبَرُهُ. لَمَّا تَقَدَّمَ ذكر الظُّلُمَاتِ دَعَا بِالْهَلَكَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، ومن عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي مَوْضِعِ الصفة لويل. وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ وَالْخَبَرُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بويل لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِالْخَبَرِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. قَالَ:(فَإِنْ قُلْتَ) : مَا وَجْهُ اتِّصَالِ قَوْلِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ بِالْوَيْلِ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَيَضِجُّونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَاهُ كَقَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «1» انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ هَذَا الْعَذَابُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالِاسْتِحْبَابُ الْإِيثَارُ وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا وَأَفْضَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ، وَلَمَّا ضَمِنَ مَعْنَى الْإِيثَارِ عدي بعلى. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الذَّمِّ، إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَذُمُّ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْكَافِرِينَ. وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي موضع الصفة لويل، أَمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:

يَضِجُّونَ وَيُوَلْوِلُونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. وَنَظِيرُهُ إِذَا كَانَ صِفَةً أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ لِزَيْدٍ الْحَسَنَةُ الْقُرَشِيِّ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ زَيْدٍ وَصِفَتِهِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ صِفَةُ الدَّارِ، وَالتَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ الْحَسَنَةُ لِزَيْدٍ الْقُرَشِيِّ، أَوِ الدَّارُ لزيد القرشي

(1) سورة الفرقان: 25/ 13.

ص: 407

الْحَسَنَةُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَيُصِدُّونَ مُضَارِعُ أَصَدَّ، الدَّاخِلِ عَلَيْهِ هَمْزَةُ النَّقْلِ مِنْ صَدَّ اللَّازِمِ صُدُودًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْغُونَها عِوَجاً «1» فِي آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى وَصْفِ الضَّلَالِ بِالْبُعْدِ قَوْلُهُ عز وجل:

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: مَا بَالُ الْكُتُبِ كُلِّهَا أَعْجَمِيَّةٌ وَهَذَا عَرَبِيٌّ؟ فَنَزَلَتْ. وَسَاقَ قِصَّةَ مُوسَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ بِلِسَانِهِ، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا أَرْسَلَكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ، الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، أَوِ انْدَرَجَ فِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مَنْ لَيْسَ مِنْ قَوْمِهِ، كَانَ مَنْ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ لُغَةَ ذَلِكَ النَّبِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى تَعَلُّمِ تِلْكَ اللُّغَةِ حَتَّى يَفْهَمَهَا، وَأَنْ يَرْجِعَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى مَنْ يَعْلَمُهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ قَبْلَكَ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَأَنْتَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِلِسَانِ قَوْمِكَ، وَقَوْمُكَ يُتَرْجِمُونَ لِغَيْرِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَعْنَى بِلِسَانِ قَوْمِهِ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ.

وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: بِلِسْنِ بِإِسْكَانِ السِّينِ، قَالُوا:

هُوَ كَالرِّيشِ وَالرِّيَاشِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَاللِّسْنُ خَاصٌّ بِاللُّغَةِ، وَاللِّسَانُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْعُضْوِ، وَعَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: اللِّسَانُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ اللُّغَةُ، وَيُقَالُ: لِسْنٌ وَلِسَانٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَمَّا الْعُضْوُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ لِسْنٌ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْجَحْدَرِيُّ: لُسُنِ بِضَمِّ اللَّامِ وَالسِّينِ، وَهُوَ جَمْعُ لسان كعماد وعمد. وقرىء أَيْضًا بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ السِّينِ مُخَفَّفٌ كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى رَسُولٍ أَيْ: قَوْمِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ أَدَّاهَا كُلُّ نَبِيٍّ بِلُغَةِ قَوْمِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، ضَمِيرُ الْقَوْمِ وَهُمُ الْعَرَبُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ مِنَ السَّمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِيُبَيِّنَ لِلْعَرَبِ، وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَمِيعُ الْكُتُبِ أُدَّتْ إِلَى جِبْرِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ كُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا سُؤَالًا وَابْنُ عَطِيَّةَ أَخَّرَهُمَا فِي كِتَابَيْهِمَا، وَيَقُولُ: قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْبَشَرِ بِإِذْعَانِ الْفُصَحَاءِ الذين يظن

(1) سورة الأعراف: 7/ 45 وآل عمران: 3/ 99.

ص: 408

بِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَإِقْرَارُهُمْ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَامَتْ بِإِذْعَانِ السَّحَرَةِ لِمُوسَى، وَالْأَطِبَّاءِ لعيسى عليهما السلام. وبين تَعَالَى الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَ مِنَ الرُّسُلِ بِلُغَةِ قَوْمِهِ وَهِيَ التَّبْيِينُ لَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ، فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولِ غَيْرُ التَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَهْدِيَ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الْوَاضِعُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ التَّخْلِيَةُ وَمَنْعُ الْإِلْطَافِ، وَبِالْهِدَايَةِ التَّوْفِيقُ وَاللُّطْفُ، وَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ فَلَا يُغْلَبُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، الْحَكِيمُ فَلَا يَخْذُلُ إِلَّا أَهْلَ الْخِذْلَانِ، وَلَا يَلْطُفُ إِلَّا بِأَهْلِ اللُّطْفِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِآيَاتِنَا، إِنَّهَا تِسْعُ الْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ مُوسَى عليه السلام.

وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ التَّوْرَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ وَهُوَ آيَاتُنَا، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى بالتوراة بلسان قومه، وأن أَخْرِجْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيَضْعُفُ زَعْمُ مِنْ زَعَمَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: قَوْمَكَ خُصُوصٌ لِرِسَالَتِهِ إِلَى قَوْمِهِ، بِخِلَافِ لِتُخْرِجَ النَّاسَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَهُ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ.

وَقِيلَ: الْقِبْطُ. فَإِنْ كَانُوا الْقِبْطَ فَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، وَإِنْ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْنَا: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَالظُّلُمَاتُ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالنُّورُ الْعِزَّةُ بِالدِّينِ وَظُهُورُ أَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانُوا أَشْيَاعًا مُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ، قَوْمٌ مَعَ الْقِبْطِ فِي عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْمٌ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، فَالظُّلُمَاتُ الْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِيمَانُ. قِيلَ: وَكَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا إِلَى الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَقِيلَ: إِلَى الْقِبْطِ بِالِاعْتِرَافِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمُوسَى، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّكْلِيفِ وَبِفُرُوعِ شَرِيعَتِهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَيَحْتَمِلُ وَذَكِّرْهُمْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ أخرج، فيكون في حيزان. وأيام اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَرَوَاهُ أُبَيٌّ مَرْفُوعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ

عَصَيْنَا الْمَلِكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: وَقَائِعُهُ وَنَقَمَاتُهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ أَيْ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا وَمَلَاحِمِهَا: كَيَوْمِ ذِي قَارٍ، وَيَوْمِ الْفِجَارِ، وَيَوْمِ فِضَّةَ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَاؤُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا

ص: 409

أَيْ وَقَائِعُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَنَعْمَاؤُهُ: بِتَظْلِيلِهِ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ. وَبَلَاؤُهُ: بِاسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، وَتَذْبِيحِ أَبْنَائِهِمْ، وَإِهْلَاكِ الْقُرُونِ قَبْلَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ عليهما السلام، بَيْنَمَا مُوسَى عليه السلام فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ الْآخَرَ. وَلَفْظَةُ الْأَيَّامِ تَعُمُّ الْمَعْنَيَّيْنِ، لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقَعُ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعْظِيمُ الْكَوَائِنِ الْمُذَكَّرِ بِهَا. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالظَّرْفِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْإِسْنَادُ إِلَى الظَّرْفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْإِسْنَادُ لِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَوْمٌ عَبُوسٌ، وَيَوْمٌ عَصِيبٌ، وَيَوْمٌ بَسَّامٌ. وَالْحَقِيقَةُ وَصْفُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ أَوْ سُرُورٍ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ، إِلَى التذكير بأيام الله. وصبار، شَكُورٍ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا مُشْعِرَتَانِ بِأَنَّ أَيَّامَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهِمَا بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ أَيْ: صَبَّارٌ عَلَى بَلَائِهِ، شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ.

فَإِذَا سَمِعَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ عَلَى الْأُمَمِ، أَوْ بِمَا أَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، تَنَبَّهَ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ إذا أصابه بلاء، من والشكر إِذَا أَصَابَتْهُ نَعْمَاءُ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ وَالشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يَنْتَفِعَانِ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ وَيَتَّعِظَانِ بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ نَاظِرٍ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ سَجَايَا أَهْلِ الْإِيمَانِ.

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرُهُ تَعَالَى لِمُوسَى بِالتَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَجَاتِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِي ضِمْنِهَا تَعْدَادُ شَيْءٍ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَقَمَاتِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ إِذْ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً «1» وَتَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا: وَيُذَبِّحُونَ بِالْوَاوِ، وَفِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْأَعْرَافِ يُقَتِّلُونَ فَحَيْثُ لَمْ يُؤْتَ بِالْوَاوِ جَعَلَ الْفِعْلَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ:

يَسُومُونَكُمْ. وَحَيْثُ أَتَى بِهَا دَلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ. وَأَنَّ سَوْمَ سُوءِ الْعَذَابِ كَانَ بِالتَّذْبِيحِ وَبِغَيْرِهِ، وَحَيْثُ جَاءَ يُقَتِّلُونَ جَاءَ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّذْبِيحِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَيَذْبَحُونَ مُضَارِعُ ذَبَحَ ثُلَاثِيًّا، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حذف الواو.

(1) سورة آل عمران: 3/ 103.

ص: 410

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَأَذَّنَ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ «1» وَاحْتَمَلَ إِذْ أَنْ يكون منصوبا باذكروا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِذْ أَنْجَاكُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ بِالْمَزِيدِ عَلَى الشُّكْرِ مَنْ نِعَمِهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ هُوَ الْإِنْعَامُ أَيْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ إِنْعَامِي، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ. قَالَ الْحَسَنُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي. وَقَالَ الرَّبِيعُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ فَضْلِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَئِنْ وَحَّدْتُمْ وَأَطَعْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي الثَّوَابِ. وَكَأَنَّهُ رَاعَى ظَاهِرَ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. وَظَاهِرُ الْكُفْرِ الْمُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ، فَلِذَلِكَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، أَيْ نِعْمَتِي فَلَمْ تَشْكُرُوهَا، رَتَّبَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحَلِّ الزِّيَادَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذُكِرَ الْعَذَابُ بَعْدَهُ عَدَلَ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَأَزِيدَنَّكُمْ، فَنَسَبَ الزِّيَادَةَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَأُعَذِّبَنَّكُمْ، وَخَرَجَ فِي لَأَزِيدَنَّكُمْ بِالْمَفْعُولِ، وَهُنَا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: إِنَّ عَذَابِي لَكُمْ لَشَدِيدٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ: تَأَذَّنَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَذِنَ أَيْ: أَعْلَمَ، وَأَعْلَمَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ. ثُمَّ نَبَّهَ مُوسَى عليه السلام قَوْمَهُ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى، وَإِنْ أَوْعَدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شُكْرِكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ شُكْرِكُمْ، الْحَمِيدُ الْمُسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَسْبَغَ مِنْ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ الْحَامِدُونَ، فَثَمَرَةُ شُكْرِكُمْ إِنَّمَا هي عائدة إليكم. وأنتم خِطَابٌ لِقَوْمِهِ وَقَالَ: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي: النَّاسَ كُلَّهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَدْخُلُونَ فِي مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَجَوَابُ إِنْ تَكْفُرُوا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى التَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا ضَرَرُ كفركم لا حق بِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ. وَالْحَمْدِ سَوَاءٌ كَفَرُوا أَمْ شَكَرُوا، وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ فِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا

(1) سورة الأعراف: 7/ 167.

ص: 411

تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَخَبَرُ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، إِمَّا عَلَى الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الاعتراض تكون بين جزءين، يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي مِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بَعْدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَالٌ مِمَّا جُرَّ بِالْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَحَلُّ إِعْرَابٍ مِنْ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، وَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّائِبِ عَنِ الْعَامِلِ أَمْكَنَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا، وَكَذَلِكَ جَاءَتْهُمْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا انْتَهَى. وَلَيْسَتْ بِاعْتِرَاضٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ جزءين: أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ.

وَالضَّمِيرُ فِي جَاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنَّبَأِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْجَوَارِحُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَيْدِيهِمْ وَفِي أَفْوَاهِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَيْدٍ أَيْ: جَعَلُوا، أَيْ: أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ لِيَعَضُّوهَا غَيْظًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.

وَالْعَضُّ بِسَبَبٍ مَشْهُورٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قَدْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ أَزْمُهْ

وَأَضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا

وَقَالَ آخَرُ:

لَوْ أَنَّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي

وَدَقَّةً فِي عَظْمِ سَاقِي وَيَدِي

وَبُعْدَ أَهْلِي وَجَفَاءَ عُوَّدِي

عَضَّتْ مِنَ الْوَجْدِ بِأَطْرَافِ الْيَدِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ.

وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إليكم، وأشاروا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ أَنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ، وَرَدًّا لِقَوْلِهِ، وَاسْتِبْشَاعًا لِمَا جَاءَ بِهِ. وَقِيلَ: رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ضَحِكًا وَاسْتِهْزَاءً كَمَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ. وَقِيلَ: أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى

ص: 412

أَلْسِنَتِهِمْ وَمَا نَطَقَتْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ

أَيْ: هَذَا جَوَابٌ لَكُمْ لَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى الرُّسُلِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، قَالَ:

أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: جَعَلُوا أيدي أنفسهم في أفواه الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا أَشْنَعُ فِي الرَّدِّ وَأَذْهَبُ فِي الِاسْتِطَالَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ على الكفار، وفي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي هُنَا النِّعَمُ، جَمْعُ يَدٍ الْمُرَادُ بِهَا النِّعْمَةُ أَيْ: رَدُّوا نِعَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ النِّعَمِ مِنْ مَوَاعِظِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ، وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْآيَاتِ فِي أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فَكَأَنَّهُمْ رَدُّوهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَرَجَعُوهَا إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَفْوَاهِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِأَفْوَاهِهِمْ، وَالْمَعْنَى: كَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ يُقَالُ: جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، وَبِالْبَيْتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ فِي مَوْضِعَ الْبَاءِ فَتَقُولُ:

أَدْخَلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَفِي الْجَنَّةِ. وَأَنْشَدَ:

وَأَرْغَبُ فِيهَا مِنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ

ولكنني عَنْ شِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ

يُرِيدُ: أَرْغَبُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُجِيبُوا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ وَأَمْسَكَ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ إِذَا تَرَكَ مَا أَمَرَ بِهِ انْتَهَى. وَمَنْ سَمِعَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ نَقَلَا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، كَأَنَّ الْمُمْسِكَ عَنِ الْجَوَابِ السَّاكِتَ عَنْهُ وَضَعَ يَدَهُ فِيهِ.

وَقَدْ رَدَّ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ أَجَابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَلَا يَرُدُّ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا وَسَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ الْمُرْضِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ.

قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يَتَجَوَّزَ فِي لَفْظَةِ الْأَيْدِي أَيْ: أَنَّهُمْ رَدُّوا قُوَّتَهُمْ وَمُدَافَعَتَهُمْ وَمُكَافَحَتَهُمْ فِيمَا قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: رَدُّوا جَمِيعَ مُدَافَعَتِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُدَافَعَةِ بِالْأَيْدِي، إِذِ الْأَيْدِي مَوْضِعُ أَشَدِّ الْمُدَافَعَةِ وَالْمَرَادَّةِ انْتَهَى. بَادَرُوا أَوَّلًا إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ الْمَحْضُ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ وَهُوَ التَّرَدُّدُ، كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا بَعْضَ نَظَرٍ اقْتَضَى أَنِ انْتَقَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ الْمَحْضِ إِلَى

ص: 413

التَّرَدُّدِ، أَوْ هُمَا قَوْلَانِ مِنْ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ بَادَرَتْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، وَطَائِفَةٍ شَكَّتْ، وَالشَّكُّ فِي مِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُفْرٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مِمَّا تَدْعُونَا بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، كَمَا تُدْغَمُ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ فِي مِثْلِ: أَتُحَاجُّونِّي وَالْمَعْنَى: مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.

ومريب صِفَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الشَّكِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَشَهَادَتِهَا عَلَيْهِ. وَقُدِّرَ مُضَافٌ فَقِيلَ: أَفِي إِلَاهِيَّةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ الْبَتَّةَ وَهُوَ كَوْنُهُ منشىء الْعَالَمِ وَمُوجِدَهُ، فَقَالَ: فَاطِرِ السموات والأرض. وفاطر صِفَةٌ لِلَّهِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُبْتَدَأِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: فِي الدَّارِ زِيدٌ الْحَسَنَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي الدَّارِ الْحَسَنَةِ زَيْدٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَاطِرَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِيهِ شَكٌّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ أَيْ: يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ يَدْعُوكُمْ لِأَجْلِ الْمَغْفِرَةِ، نَحْوَ: دَعَوْتُهُ لِيَنْصُرَنِي. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا

فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مسور

ومن ذُنُوبِكُمْ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ إِلَى زِيَادَةِ مِنْ أَيْ: لِيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.

وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ، وَلَا إِذَا جُرَّتِ الْمَعْرِفَةُ، وَالتَّبْعِيضُ يُصْبِحُ فِيهَا إِذِ الْمَغْفُورُ هُوَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَظَالِمِ. وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يَصِحُّ التَّبْعِيضُ وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَيَبْقَى مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنَ الذُّنُوبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، هُوَ فِي الْمَشِيئَةِ وَالْوَعْدُ إِنَّمَا هُوَ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ، لَا بِغُفْرَانِ مَا يُسْتَأْنَفُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ فِي الْكَافِرِينَ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ ذُنُوبَكُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، وَلِأَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ انْتَهَى.

وَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ، إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ وَمَا تَخَيَّلْتَ فِيهِ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي الْكَافِرِ الَّذِي آمَنَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي تَابَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ الْمُرَادُ تَمْيِيزُ خِطَابِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خِطَابِ الْكَافِرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الطَّامَّاتِ، لِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا

ص: 414