الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتَّخَذَ مَوْطِنًا، وَالظَّاهِرُ اتِّخَاذُ البيوت بمصر. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَهِيَ مِصْرُ المحروسة، ومصر مِنَ الْبَحْرِ إِلَى أَسْوَانَ، وَالْأَسْكَنْدَرِيَّةُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْأَسْكَنْدَرِيَّةُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرَّبَ مَسَاجِدَهُمْ وَمَوَاضِعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَكَلَّفَهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ. وَكَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لِئَلَّا يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، فَيَرُدُّوهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ: تَبَوَّيَا بِالْيَاءِ، وَهَذَا تَسْهِيلٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، وَلَوْ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ لَكَانَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَجْعَلَ قِبْلَةً هِيَ الْمَأْمُورُ بِتَبَوُّئِهَا. وَمَعْنَى قِبْلَةً مَسَاجِدَ: أُمِرُوا بِأَنْ يَتَّخِذُوا بُيُوتَهُمْ مَسَاجِدَ قَالَهُ:
النَّخَعِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: قِبَلَ مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: أُمِرُوا بِأَنْ يَجْعَلُوهَا مُسْتَقْبِلَةَ الْكَعْبَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وابن جبير: قِبْلَةً يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَهَذَا قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ إِجَارَةِ الْبَحْرِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي: بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لموسى عليه السلام أَنْ يَتَبَوَّآ لِقَوْمِهِمَا وَيَخْتَارَاهَا لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُفَوَّضُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ نَسَّقَ الْخِطَابَ عَامًّا لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْجُمْهُورِ، ثُمَّ خُصَّ مُوسَى عليه السلام بِالتَّبْشِيرِ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِلْمُبَشَّرِ بِهِ.
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: لَمَّا بَالَغَ مُوسَى عليه السلام فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ وَاشْتَدَّ أَذَاهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَرْضِ الْآيَاتِ إِلَّا كُفْرًا، وَعَلَى الإنذار إلا استكبارا. أو علم بِالتَّجْرِبَةِ وَطُولِ الصُّحْبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُمْ إِلَّا الْغَيُّ وَالضَّلَالُ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، دَعَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ كَمَا تَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَى الْكَفَرَةَ. كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الدُّعَاءِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ بِهِ وَلِشُكْرِ نِعَمِهِ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا لِجُحُودِهِ وَلِكُفْرِ نِعَمِهِ. وَالزِّينَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَيُتَحَسَّنُ مِنَ الْمَلْبُوسِ وَالْمَرْكُوبِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَالُ، مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّامِتِ وَالنَّاطِقِ. قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ: كَانَ لَهُمْ فُسْطَاطُ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ جِبَالٌ فِيهَا مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ. وَفِي تَكْرَارِ رَبَّنَا تَوْكِيدٌ لِلدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلُّوا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ عَلَى مَعْنَى: آتَيْتَهُمْ مَا آتَيْتَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ لِكَيْ يُضِلُّوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «2» وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ
…
وَلِلْخَرَابِ يَجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ لِيَثْبُتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَلِيَكُونُوا ضُلَّالًا، وَلِيَطْبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا. وَيَبْعُدُ أَنْ يكون دعاء قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لِيُضِلُّوا بِضَمِّ الْيَاءِ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَدْعُوَ بِأَنْ يَكُونُوا مُضِلِّينَ غَيْرَهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنِ، وَالْأَعْرَجِ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ:
بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ بِكَسْرِهَا، وَالَى بَيْنَ الْكَسَرَاتِ الثَّلَاثِ. وَقِيلَ: لَا مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ قَالَهُ: أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. وَقَرَأَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّقَاشِيُّ: أَإِنَّكَ آتَيْتَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْوَالِ وَهِيَ أَعَزُّ مَا ادُّخِرَ دَعَا بِالطُّمُوسِ عَلَيْهَا وَهِيَ التعفية
(1) سورة هود: 11/ 36.
(2)
سورة القصص: 28/ 8.
وَالتَّغْيِيرُ أَوِ الْإِهْلَاكُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: صَارَتْ دَرَاهِمُهُمْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً صِحَاحًا وَأَثْلَاثًا وَأَنْصَافًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْدِنٌ إِلَّا طَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ بَعْدُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: أَهْلَكَهَا حَتَّى لَا تُرَى. وقال ابن زيد: أرض دَنَانِيرُهُمْ وَدَرَاهِمُهُمْ وَفُرُشُهُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُمْ حِجَارَةً. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: سَأَلَنِي عمر بن عبد العزيز فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَا بخريطة أصيبت بمصر فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْفَوَاكِهَ وَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَأَنَّهَا الْحِجَارَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَسَخَ اللَّهُ الثِّمَارَ وَالنَّخْلَ وَالْأَطْعِمَةَ حِجَارَةً. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ وَهُوَ جَامِعُ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ: أَخْبَرَنِي جَمَاعِةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ كَانَ شُغْلُهُمُ السِّيَاحَةَ أَنَّهُمْ عَايَنُوا بِجِبَالِ مِصْرَ وَبَرَارِيهَا حِجَارَةً عَلَى هَيْئَةِ الدَّنَانِيرِ والدراهم، وفيها آثار النقش، وَعَلَى هَيْئَةِ الْفُلُوسِ، وَعَلَى هيئة البطيخ العبد لاويّ، وَهَيْئَةِ الْبِطِّيخِ الْأَخْضَرِ، وَعَلَى هَيْئَةِ الْخِيَارِ، وَعَلَى هَيْئَةِ الْقِثَّاءِ، وَحِجَارَةً مُطَوَّلَةً رَقِيقَةً مُعْوَجَّةً عَلَى هَيْئَةِ النُّقُوشِ، وَرُبَّمَا رَأَوْا عَلَى صُورَةِ الشَّجَرِ. وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ اطْبَعْ عَلَيْهَا وَامْنَعْهَا مِنَ الْأَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ: أَهْلِكْهُمْ كُفَّارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اشْدُدْ عَلَيْهَا بِالضَّلَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسِّ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: اشْدُدْ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أي لا يجدوا سَلْوًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا صَبْرًا عَلَى ذَهَابِهَا. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَفِرْقَةٌ:
اطْمُسْ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. فَلَا يُؤْمِنُوا مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
فلا ينبسط مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انزوى
…
ولا تلفينّ إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وَمَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ اشْدُدْ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَعْطُوفٌ عَلَى لِيُضِلُّوا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ قَالَهُ: الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن لَامَ لِيُضِلُّوا لَامُ الدُّعَاءِ، وَكَأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَذَابِ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِذْ ذَاكَ لَا يَنْفَعُ وَلَا تخرج مِنَ الْكُفْرَ، وَكَانَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ غَرَقَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤْمِنُ، فَنُسِبَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا دَعَوَا، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ:
كَنَّى عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ بُعْدَ مُخَاطَبَتِهِمَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَظْهَرْ إِجَابَتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَعْلَمَا أَنَّ دُعَاءَهُمَا صَادَفَ مَقْدُورًا، وَهَذَا مَعْنَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وقيل لهما: لا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فِي أَنْ تَسْتَعْجِلَا قَضَائِيَ، فَإِنَّ وَعْدِيَ لَا خُلْفَ لَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ: دَعَوَاتُكُمَا عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَكُمَا خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَصَبَ دَعْوَةٍ وَالرَّبِيعُ دَعْوَتَيْكُمَا، وَهَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَارُونَ دَعَا مَعَ مُوسَى.
وَقِرَاءَةُ دَعْوَتَيْكُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ قَدْ أَجَبْتُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، ثُمَّ أُمِرَا بِالِاسْتِقَامَةِ، وَالْمَعْنَى: الدَّيْمُومَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا أُمِرْتُمَا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلْزَامِ حُجَّةِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَتَّبِعَانِّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالنُّونِ، وَابْنُ عباس وابن زكوان بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَشَدِّ النُّونِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ أَيْضًا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَفِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَرَوَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، فَأَمَّا شَدُّ النُّونِ فَعَلَى أَنَّهَا نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ لَحِقَتْ فِعْلَ النَّهْيِ الْمُتَّصِلَ بِهِ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ، وَأَمَّا تَخْفِيفُهَا مَكْسُورَةً فَقِيلَ:
هِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ، وَكُسِرَتْ كَمَا كُسِرَتِ الشَّدِيدَةُ. وَقَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ كَسْرَ النُّونِ الْخَفِيفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَنِ الْعَرَبِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ هُنَا الْخَفِيفَةُ، وَيُونُسُ وَالْفَرَّاءُ يَرَيَانِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: النُّونُ الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ هِيَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، وَالْفِعْلُ مَنْفِيٌّ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: غَيْرُ مُتَّبِعِينَ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ.
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الْقَضَاءَ قَبْلَ مَجِيئِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَجَوَّزْنَا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في الباء في ببني إِسْرَائِيلَ، وَكَمْ كَانَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَ مُوسَى عليه السلام فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَاتَّبَعَهُمْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وجاوزنا فاتبعهم رُبَاعِيًّا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ مَنْ جَوَّزَ الَّذِي فِي بَيْتِ الْأَعْشَى:
وَإِذَا تُجَوُّزُهَا جبال قَبِيلَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْهُ لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يقال: وجوزنا ببني إِسْرَائِيلَ فِي الْبَحْرِ كَمَا قَالَ:
كَمَّا جَوَّزَ السُّبْكِيُّ فِي الْبَابِ فَيْنَقُ انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَبِعَ وَاتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَتْبَعَهُمْ لَحِقَهُمْ، يُقَالُ:
تَبِعَهُ حَتَّى اتَّبَعَهُ. وَفِي اللَّوَامِحِ: تَبِعَهُ إِذَا مَشَى خَلْفَهُ، وَاتَّبَعَهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حَاذَاهُ فِي الْمَشْيِ وَاتَّبَعَهُ لَحِقَهُ، وَمِنْهُ الْعَامَّةُ يَعْنِي: وَمِنْهُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَأَتْبَعَهُمْ وَجُنُودُ فِرْعَوْنَ قِيلَ: أَلْفُ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَعُدُوًّا عَلَى وَزْنِ عُلُوٍّ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأَنْعَامِ. وَعَدْوًا وَعُدُوًّا مِنَ الْعُدْوَانِ، وَاتِّبَاعُ فِرْعَوْنَ هُوَ فِي مُجَاوَزَةِ الْبَحْرِ. رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ فَوَجَدَهُ قَدِ انْفَرَقَ وَمَضَى فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّمَا انْفَلَقَ بِأَمْرِي، وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ ذَكَرٍ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، وَدَنَوْا فَدَخَلَ بِهَا الْبَحْرَ وَلَجَّ فَرَسُ فِرْعَوْنَ ورآه وَجَنْبُ الْجُيُوشِ خَلْفَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الِانْفِرَاقَ ثَبَتَ لَهُ اسْتَمَرَّ، وَبَعَثَ اللَّهُ مِيكَائِيلَ عليه السلام يَسُوقُ النَّاسَ حَتَّى حَصَلَ جَمِيعُهُمْ فِي الْبَحْرِ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ: بِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، أَوْ بَدَلًا مِنْ آمَنَتْ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: قَائِلًا أَنَّهُ. وَلَمَّا لَحِقَهُ مِنَ الدَّهَشِ مَا لَحِقَهُ كَرَّرَ الْمَعْنَى بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّلَعْثُمِ إِذْ ذَلِكَ مَقَامٌ تَحَارُ فِيهِ الْقُلُوبُ، أَوْ حِرْصًا عَلَى الْقَبُولِ وَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ إِذْ فَاتَهُ وَقْتُ الْقَبُولِ وَهُوَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَقَاءُ التَّكْلِيفِ، وَالتَّوْبَةُ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ لَا تَنْفَعُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ «1» وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْآنَ فِي قَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ «2» وَالْمَعْنَى: أَتُؤْمِنُ السَّاعَةَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ حِينَ أَدْرَكَكَ الْغَرَقُ وَأَيِسْتَ مِنْ نَفْسِكَ؟ قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ. وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ غَرِقَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ قَالَ: آمَنْتُ، أخذ جبريل من حال الْبَحْرِ فَدَسَّهُ فِي فِيهِ، فَلِلْغَضَبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَالِ الْكَافِرِ فِي وَقْتٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّ إِيمَانَهُ لَا يَنْفَعُهُ. وَأَمَّا مَا يُضَمُّ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ زِيَادَاتِ الْبَاهِتِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ، وَفِيهِ جَهَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ بِالْقَلْبِ كإيمان الأخرس، فحال الْبَحْرِ لَا يَمْنَعُهُ.
وَالْآخَرُ: أَنَّ مَنْ كَرِهَ الْإِيمَانِ لِلْكَافِرِ وَأَحَبَّ بَقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: آلْآنَ إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ. فَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ.
وَقِيلَ: مِيكَائِيلُ. وَقِيلَ: غَيْرُهُمَا، لِخِطَابِهِ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي نَفْسِهِ وَإِفْسَادِهِ وَإِضْلَالِهِ النَّاسَ، وَدَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ «3» فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ. وَقِيلَ: هو استفهام
(1) سورة غافر: 40/ 85.
(2)
سورة يونس: 10/ 51.
(3)
سورة النحل: 16/ 88. [.....]
فِيهِ تَهْدِيدٌ أَيْ: أَفَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ؟ فَهَلَّا كَانَ الْإِيمَانُ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلِقَوْلِهِ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لا يناسب هنا الِاسْتِفْهَامَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُنَجِّيكَ نُلْقِيكَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَبِبَدَنِكَ بِدِرْعِكَ، وَكَانَ مِنْ لُؤْلُؤٍ مَنْظُومٍ لَا مِثَالَ لَهُ. وَقِيلَ: مِنْ ذَهَبٍ. وَقِيلَ: مِنْ حَدِيدٍ وَفِيهَا سَلَاسِلُ مِنْ ذَهَبٍ. وَالْبَدَنُ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَالْبَدَنُ الدِّرْعُ الْقَصِيرَةُ. قَالَ:
تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ
…
عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْكَلْبِ الْحَصِينَا
يَعْنِي: الدُّرُوعَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كرب:
أَعَاذِلَ شَكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي
…
وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسِ الْقِيَادِ
وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ مِنْ ذَهَبٍ يُعْرَفُ بِهَا. وَقِيلَ: نُلْقِيكَ بِبَدَنِكَ عُرْيَانًا لَيْسَ عَلَيْكَ ثِيَابٌ وَلَا سِلَاحٌ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إِهَانَتِهِ. وَقِيلَ: نُخْرِجُكَ صَحِيحًا لَمْ يَأْكُلْكَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ.
وَقِيلَ: بِدْنًا بِلَا رُوحٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: نُخْرِجُكَ مِنْ مُلْكِكَ وَحِيدًا فَرِيدًا. وَقِيلَ: نُلْقِيكَ فِي الْبَحْرِ مِنَ النَّجَاءِ، وَهُوَ مَا سَلَخْتَهُ عَنِ الشَّاةِ أَوْ أَلْقَيْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ سِلَاحٍ.
وَقِيلَ: نَتْرُكُكَ حَتَّى تَغْرَقَ، وَالنَّجَاءُ التَّرْكُ. وَقِيلَ: نَجْعَلُكَ عَلَامَةً، وَالنَّجَاءُ الْعَلَامَةُ. وَقِيلَ:
نُغْرِقُكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَجَّى الْبَحْرُ أَقْوَامًا إِذَا أَغْرَقَهُمْ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاةِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ أَيْ: نُسْرِعُ بِهَلَاكِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى بِبَدَنِكَ بِصُورَتِكَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا، وَكَانَ قَصِيرًا أَشْقَرَ أَزْرَقَ قَرِيبَ اللِّحْيَةِ مِنَ الْقَامَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَبِيهٌ لَهُ يَعْرِفُونَهُ بِصُورَتِهِ، وَبِبَدَنِكَ إِذَا عُنِيَ بِهِ الْجُثَّةُ تَأْكِيدٌ كَمَا تَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ بِلِسَانِهِ وَجَاءَ بِنَفْسِهِ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: نُنْجِيكَ مُخَفَّفًا مُضَارِعُ أَنْجَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ، وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ: نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّنْحِيَةِ. وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ: نُلْقِيكَ بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ. قَالَ كَعْبٌ: رَمَاهُ الْبَحْرُ إِلَى الساحل كأنه ثور. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَبْدَانِكَ أَيْ بِدُرُوعِكَ، أَوْ جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ بَدَنًا كَقَوْلِهِمْ: شَابَتْ مَفَارِقُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ: بِنِدَائِكَ مَكَانَ بِبَدَنِكَ، أَيْ: بِدُعَائِكَ، أَيْ بِقَوْلِكَ آمَنْتُ إِلَى آخِرِهِ. لِنَجْعَلَكَ آيَةً مَعَ نِدَائِكَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، أَوْ بِمَا نَادَيْتَ بِهِ فِي قَوْمِكَ. وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، ويا أيها الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. وَلَمَّا كَذَّبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِغَرَقِ فِرْعَوْنَ رَمَى بِهِ الْبَحْرُ عَلَى سَاحِلِهِ حَتَّى رَأَوْهُ قَصِيرًا أَحْمَرَ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ. لِمَنْ خَلْفَكَ لِمَنْ وَرَاءَكَ عَلَامَةً وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ أَنْ
يَغْرَقَ، وَكَانَ مَطْرَحُهُ عَلَى مَمَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قِيلَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. وَقِيلَ: لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنَ الْقُرُونِ، وَقِيلَ: لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ وغيرهم. وقرىء: لِمَنْ خَلَفَكَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْفَرَاعِنَةِ لِيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَكَ إِذَا فَعَلُوا فِعْلَكَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ آيَةً: أَنْ يَظْهَرَ لِلنَّاسِ عُبُودِيَّتُهُ وَمَهَانَتُهُ، أَوْ لِيَكُونَ عِبْرَةً يَعْتَبِرُ بِهَا الْأُمَمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: لِمَنْ خَلَقَكَ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: لِيَجْعَلَكَ اللَّهُ آيَةً لَهُ فِي عِبَادِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَكُونَ طَرْحُكَ عَلَى السَّاحِلِ وَحْدَكَ، وَتَمْيِيزُكَ مِنْ بَيْنِ الْمُغْرَقِينَ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُكَ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا لِادِّعَائِكَ الْعَظَمَةَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَغْرَقُ وَلَا يَمُوتُ، آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ظَاهِرُهُ النَّاسُ كَافَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ آيَاتِنَا أَيِ: العلامات الدالة على الوحدانية وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَلِيِّ، لَغَافِلُونَ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَهَذَا خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ تَوَعَّدٌ.
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا جرى لفرعون وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، ذَكَرَ ما أحسن به لبني إِسْرَائِيلَ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْ مَسَاكِنِهِمْ خَائِفِينَ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ أَحْسَنَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بموسى وَنَجَوْا مِنَ الْغَرَقِ، وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَشْهَدُ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَانْتَصَبَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَبَوَّأْنَا كَقَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. وَمَعْنَى صِدْقٍ أَيْ: فَضْلٍ وَكَرَامَةٍ وَمِنْهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «2» . وَقِيلَ: مَكَانَ صِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَانَ وَعَدَهُمْ فَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ. وَقِيلَ: صِدْقٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبِرَّ مِنَ الصِّدْقِ. وَقِيلَ: صَدَقَ فِيهِ ظَنُّ قَاصِدِهِ وَسَاكِنِهِ. وَقِيلَ:
مَنْزِلًا صَالِحًا مُرْضِيًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ: الشَّامُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: مِصْرُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: مِصْرُ وَالشَّامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ الشَّامُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بِحَسَبِ مَا حُفِظَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى مِصْرَ، عَلَى أَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَذَلِكَ. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «3» يَعْنِي مَا تَرَكَ الْقِبْطُ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ يحتمل أن يكون
(1) سورة العنكبوت: 29/ 58.
(2)
سورة القمر: 54/ 55.
(3)
سورة الشعراء: 26/ 59.
وَأَوْرَثْنَاهَا مَعْنَاهَا الْحَالَّةُ مِنَ النِّعْمَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ مِنْ أَرْضِ يَثْرِبَ ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ بَوَّأَهُمْ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ذَكَرَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهِيَ: الْمَآكِلُ الْمُسْتَلَذَّاتُ، أَوِ الْحَلَّالُ، فَمَا اخْتَلَفُوا أَيْ: كَانُوا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ مُوسَى عليه السلام فِي أَوَّلِ حَالِهِ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ:
عِلْمُ التَّوْرَاةِ فَاخْتَلَفُوا، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ. أَيْ أَنَّ سَبَبَ الْإِيقَافِ هُوَ الْعِلْمُ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ، فَتَشَعَّبُوا شعبا بعد ما قرؤوا التَّوْرَاةَ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ بِمَعْنَى المعلوم، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ رِسَالَتَهُ كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ مَكْتُوبَةً فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ:
يَسْتَنْصِرُونَ، وَكَانُوا قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُجْمِعِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فِي الْحُرُوبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ بِحُرْمَةِ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ انْصُرْنَا فَيُنْصَرُونَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالُوا:
النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، وَهَذَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَيْسَ هُوَ ذَاكَ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ الْقُرْآنُ، وَاخْتِلَافُهُمْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ لَنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْعَرَبِ. وَصَدَّقَ بِهِ قَوْمٌ فَآمَنُوا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَقْضِي فِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُمَيِّزُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ.
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ إِنْ شَرْطِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِمَّا كُنْتَ في شك فسئل، يَعْنِي: لَا نَأْمُرُكَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّكَ شَاكٌّ، وَلَكِنْ لِتَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا ازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِمُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ إِنْ شَرْطِيَّةً فَذَكَرُوا أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ وَجُودُهُ، أو المحقق وجوده، الْمُبْهَمِ زَمَانُ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» وَالَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ تَقْتَضِي تَعْلِيقَ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ تَحَتُّمَ وُقُوعِهِ وَلَا إِمْكَانِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2» وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ فِي شَكٍّ، وَفِي الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ «3» أَيْ فافعل. لكنّ
(1) سورة الأنبياء: 21/ 34.
(2)
سورة الزخرف: 43/ 81.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 35.
وُقُوعَ إِنْ لِلتَّعْلِيقِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ قَلِيلٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّوَابُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ بِهَا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ أَوْ يُعَارِضَ انْتَهَى. ولذلك جاء: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «1» وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَبِرَّنِي، وَلَيْسَ هَذَا الْمِثَالُ بِجَيِّدٍ، وَإِنَّمَا مِثَالُ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِعِيسَى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ «2» انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، وَضَعُفَ بِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةَ: أَأَنْتَ فِي شَكٍّ؟ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّكِّ. وَقِيلَ: كَنَّى هُنَا بِالشَّكِّ عَنِ الضِّيقِ أَيْ: فَإِنْ كُنْتَ فِي ضَيْقٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَيْكَ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالشَّكِّ عَنِ الْعَجَبِ أَيْ: فَإِنْ كُنْتَ فِي تَعَجُّبٍ مِنْ عِنَادِ فِرْعَوْنَ. وَمُنَاسَبَةُ الْمَجَازِ أَنَّ التَّعَجُّبَ فِيهِ تَرَدُّدٌ، كَمَا إِنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أَنَّ هَذَا عَادَتُهُمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَسَلْهُمْ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ مُوسَى عليه السلام حِينَ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِمَعْنَى الْعَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ مَثَلًا وَخَيَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ خَيَالًا مِنْهُ تَقْدِيرًا فسئل الذين يقرؤون الْكِتَابَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ قَرَأَةُ الْكِتَابِ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ جَاءَهُمْ، لِأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيُبَالِغَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا وَسَبِيلُ مَنْ خَالَجَتْهُ شُبْهَةٌ فِي الدِّينِ أَنْ يُسَارِعَ إِلَى حَلِّهَا وَإِمَاطَتِهَا، إِمَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوَانِينِ الدِّينِ وَأَدِلَّتِهِ، وَإِمَّا بِمُقَادَحَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُنَبِّهِينَ عَلَى الْحَقِّ انْتَهَى. وَقِيلَ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَقَرَأَ يحيى وابراهيم: يقرؤون الْكُتُبَ عَلَى الْجَمْعِ. وَالْحَقُّ هُنَا: الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ النُّبُوَّةُ، أَوِ الْآيَاتُ، وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، أَقْوَالٌ. فَاثْبُتْ وَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ انْتِفَاءِ الْمِرْيَةِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْخِطَابُ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْخِطَابُ فِي ظَاهِرِهِ لِشَخْصٍ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ بَلْ أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا شَكَّ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا سَأَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَالِامْتِرَاءُ التَّوَقُّفُ فِي الشَّيْءِ وَالشَّكُّ فِيهِ، وَأَمْرُهُ أَسْهَلُ مِنْ أمر المكذب فبدىء بِهِ أَوَّلًا فَنُهِيَ عَنْهُ، وَأُتْبِعَ بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِ وَنَهَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ.
(1) سورة يونس: 10/ 104.
(2)
سورة المائدة: 5/ 116.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ: ذَكَرَ تَعَالَى عِبَادًا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي حَقَّتْ عَلَيْهِمْ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ. وَقِيلَ: وَعِيدُهُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كَتَبَ فِي اللَّوْحِ وَأَخْبَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ كُفَّارًا فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ، وَتِلْكَ كِتَابَةُ مَعْلُومٍ لَا كتابة مقدر ومراد لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ أَخِيرًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَلِمُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَإِخْبَارُهُ عَنْهُ، وَخَلْقُهُ فِي الْعَبْدِ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِيَةَ وَهُوَ مُوجِبٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ لَهُمْ سَخَطَهُ مِنَ الْأَزَلِ وَخَلَقَهُمْ لِعَذَابِهِ، فَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمْ كُلُّ بَيَانٍ وَكُلُّ وُضُوحٍ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُمْ فِيهِ الْإِيمَانُ، كَمَا صَنَعَ فِرْعَوْنُ وَأَشْبَاهُهُ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ. وَفِي ضِمْنِ الْأَلْفَاظِ التَّحْذِيرُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَبَعْثُ كُلٍّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْفِرَارِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ عِنْدَ تَقَطُّعِ أَسْبَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ كَلِمَةٌ بِالْإِفْرَادِ وَبِالْجَمْعِ.
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ: لَوْلَا هُنَا هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ الَّتِي صَحِبَهَا التَّوْبِيخُ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّحْضِيضِ، فَهِيَ بِمَعْنَى هَلَّا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ فَهَلَّا، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفَيْهِمَا. وَالتَّحْضِيضُ أَنْ يُرِيدَ الْإِنْسَانُ فِعْلَ الشَّيْءِ الَّذِي يَحُضُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ لِلتَّوْبِيخِ فَلَا يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ الْحَضَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ
…
بَنِي ضَوْطَرَيْ لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
لَمْ يَقْصِدْ حَضَّهُمْ عَلَى عَقْرِ الْكَمِيِّ الْمُقَنَّعِ، وَهُنَا وَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ النَّافِعِ.
وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا آمَنَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ عَلَى مَهَلٍ لَمْ يَلْتَبِسِ الْعَذَابُ بِهِمْ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ نَافِعًا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وقوم مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسُوا مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ قَرْيَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الْهَالِكَةِ إِلَّا قَوْمُ يُونُسَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَكَذَلِكَ رَسَمَهُ النَّحْوِيُّونَ وَهُوَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ مَا آمَنَ أَهْلُ قَرْيَةٍ إِلَّا قَوْمُ يُونُسَ، وَالنَّصْبُ هُوَ الْوَجْهُ، وَلِذَلِكَ
أَدْخَلَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ، وَذَلِكَ مَعَ انْقِطَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ، وَهَذَا مَعَ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَرْيَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ عَنِ الْحَرَمِيِّ وَالْكِسَائِيِّ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ يُونُسَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَذُكِرَ جَوَازُ فَتْحِهَا.
وَقَوْمُ يُونُسَ: هُمْ أَهْلُ نِينَوَى مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ، كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يُونُسَ فَأَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ سَبْعَ سِنِينَ، وَتَوَعَّدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةَ قَوْمِ يُونُسَ وَتَفَاصِيلَ فِيهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذَكَرَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الأمم بأن ينب عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ دَنَا مِنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَمْ يُبَاشِرْهُمْ كَمَا بَاشَرَ فِرْعَوْنَ، فَكَانُوا كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ الْمَوْتَ وَيَرْجُو الْعَافِيَةَ، فَأَمَّا الَّذِي يُبَاشِرُهُ الْعَذَابُ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَلِمَ مِنْهُمْ صِدْقَ النِّيَّاتِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ. قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى حِينٍ، إِلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ.
وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ بَاقِينَ أَحْيَاءً، وَسَتَرَهُمُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ:
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَسِفَ بِمَوْتِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِ.
وَلَمَّا كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَأَسْعَى فِي وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ اجْتِهَادًا فِي نَجَاةِ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَذَابِ، أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ وَأَهْلًا لِلشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ لَفَعَلَ، وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدٍ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَاهِرَةَ وَالْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ تَعَالَى. وَتَقْدِيمُ الِاسْمِ فِي الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْفِعْلِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى الْإِيمَانِ لَوْ شَاءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَشِيئَةَ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ جَمِيعًا، مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ، مُطْبِقِينَ عَلَيْهِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يَعْنِي إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ وَاضْطِرَارِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ هَؤُلَاءِ أَنْتَ. وَإِتْلَاءُ الِاسْمِ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ
مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُكْرِهِ مَنْ هُوَ، وَمَا هُوَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَلَا يُشَارَكُ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا يَضْطَرُّونَ عِنْدَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لِلْبَشَرِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَشِيئَةُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ الْجَمِيعُ مُؤْمِنًا، فَلَا تَتَأَسَّفْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ، وَادْعُ وَلَا عَلَيْكَ، فَالْأَمْرُ مَحْتُومٌ. أَتُرِيدُ أَنْتَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ بِإِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَضْطَرَّهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ عز وجل قَدْ شَاءَ غَيْرَهُ؟ فَهَذَا التَّأْوِيلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ مَحْكَمَةٌ أَيِ: ادْعُ وَقَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ، وَإِيمَانُ مَنْ آمَنَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمَشِيئَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ؟ وَزَعَمَتْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ رَادَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ انْتَهَى. وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَفْسِيرِ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي. وَمَعْنَى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَسْهِيلِهِ وَهُوَ مَنْحُ الْإِلْطَافِ.
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ: وَهُوَ الْخِذْلَانُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَسُمِّيَ الْخِذْلَانُ رِجْسًا وَهُوَ الْعَذَابُ، لِأَنَّهُ سَبَبُهُ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ السَّخَطُ، وَعَنْهُ الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالزَّجَّاجُ: الْعَذَابُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَذَابُ وَالْغَضَبُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْكُفْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّيْطَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَلَكِنْ نَقَلْنَا مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ هُنَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْزَ بِالزَّايِ.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ:
أَمَرَ تَعَالَى بِالْفِكْرِ فِيمَا أَوْدَعَهُ تَعَالَى في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى هُوَ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، فَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْضَاعِهَا وَالْكَوَاكِبِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فِي أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَخُصُوصًا حَالُ الْإِنْسَانِ. وَكَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَضَّ عَلَى الْفِكْرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ تَعَالَى وَقَالَ: مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ تَنْبِيهًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْعَاقِلُ يَتَنَبَّهُ لِتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّظَرِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ لَا تُغْنِيهِ الْآيَاتُ.
وَالنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ، إِمَّا مَصْدَرٌ فَمَعْنَاهُ الْإِنْذَارَاتُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مُنْذِرٌ فَمَعْنَاهُ الْمُنْذِرُونَ وَالرُّسُلُ. وَمَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلنَّفْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي الْآيَاتُ وَهِيَ الدَّلَائِلُ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ. وَفِي الْآيَةِ تَوْبِيخٌ لِحَاضِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْكِسَائِيُّ: قُلِ انْظُرُوا بِضَمِّ اللام، وقرىء: وَمَا تُغْنِي بِالتَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَبِالْيَاءِ. وَمَاذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، والخبر في السموات. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَصِلَتُهُ في السموات. وَانْظُرُوا مُعَلَّقَةٌ، فَالْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ مَفْعُولًا لِقَوْلِهِ: انْظُرُوا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ بِإِلَى، وَإِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً تَعَدَّتْ بِفِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي، مَفْعُولَةً لِقَوْلِهِ: انْظُرُوا، مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: مَاذَا أَيْ: تَأَمَّلُوا نُذُرَ غِنَى الْآيَاتِ. وَالنُّذُرِ عَنِ الْكُفَّارِ إِذَا قَبِلُوا ذَلِكَ، كَفِعْلِ قَوْمِ يُونُسَ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُنْجِي مِنَ الْهَلَكَاتِ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَجَوُّزُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَهَذَا احْتِمَالٌ فِيهِ ضَعْفٌ. وَفِي قَوْلِهِ: مَفْعُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ مَاذَا، تَجَوُّزٌ يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ الَّتِي هِيَ مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ مَاذَا مَنْصُوبٌ وَحْدَهُ بِانْظُرُوا، فَيَكُونُ مَاذَا مَوْصُولَةً. وَانْظُرُوا بَصَرِيَّةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَيَّامُ هُنَا وَقَائِعُ اللَّهِ فيم، كَمَا يُقَالُ أَيَّامُ الْعَرَبِ لِوَقَائِعِهَا. وَفِي الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٌ وَتَوَعَّدٌ، وَحَضٌّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا لَجُّوا فِي الْكُفْرِ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَإِذَا آمَنُوا نَجَوْا، هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. قُلْ فَانْتَظِرُوا أَمْرُ تَهْدِيدٍ أَيِ: انْتَظِرُوا مَا يَحِلُّ بِكُمْ كَمَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ.
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ المكذبة ومضرحا بِهَلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِكَايَةِ حَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ فَقَالَ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ خَلَوْا أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، ثُمَّ نَجَّيْنَا الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ نُنَجِّي مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نُهْلِكُ الْأُمَمَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا عَلَى مِثْلِ الْحِكَايَاتِ الْمَاضِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ الَّذِي نَجَّيْنَا الرُّسُلَ وَمُؤْمِنِيهِمْ، نُنَجِّي مَنْ آمَنَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَيَكُونُ حَقًّا عَلَى تَقْدِيرِ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو
الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا بَدَلًا مِنَ الْمَحْذُوفِ النَّائِبِ عَنْهُ الْكَافُ تَقْدِيرُهُ: إِنْجَاءُ مِثْلِ ذَلِكَ حَقًّا. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَحَقًّا مَنْصُوبَيْنِ بِنُنْجِي الَّتِي بَعْدَهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ منصوبا بننجي الأولى، وحقا بننجي الثَّانِيَةِ، وَأَجَازَ هُوَ تَابِعًا لابن عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَقَدَّرَهُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: وَحَقًّا مَنْصُوبٌ بِمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَنُهْلِكُ الْمُشْرِكِينَ، وَحَقًّا عَلَيْنَا اعْتِرَاضٌ يَعْنِي حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا. قَالَ الْقَاضِي: حَقًّا عَلَيْنَا الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ، لِأَنَّ تَخْلِيصَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَى الثَّوَابِ وَاجِبٌ، ولو لاه مَا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُلْزِمَهُمُ: الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ. وَإِذَا ثَبَتَ لِهَذَا السَّبَبِ جَرَى مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِلسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَقٌّ. بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَالْحُكْمِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خَالِقِهِ شَيْئًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ مُضَارِعُ أَنْجَى، وَخَطُ الْمُصْحَفِ نُنْجِ بِغَيْرِ يَاءٍ.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ مَا أَنَا عَلَيْهِ فَأَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالِانْتِفَاءِ مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ تَسْفِيهًا لِآرَائِهِمْ، وَأَثْبَتَ ثَانِيًا مَنِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ. وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ الْوَسَطِ الدَّالِّ عَلَى التَّوَفِّي. دِلَالَةٌ عَلَى الْبَدْءِ وَهُوَ الْخَلْقُ، وَعَلَى الْإِعَادَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَيَتَوَفَّاكُمْ وَيُعِيدُكُمْ، وَكَثِيرًا مَا صُرِّحَ فِي الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْأَطْوَارِ الثَّلَاثَةِ، وَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْتِ وَإِرْهَابِ النُّفُوسِ بِهِ، وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ بَعْدَهُ، فَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَنْ يُخَافَ وَيُتَّقَى وَيُعْبَدَ لَا الْحِجَارَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَغْلَبَ مَا عَلَيْهَا عَمَلُ الْجَوَارِحِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ له، المفرد لَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَانْتَقَلَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ إِلَى نُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَطَابَقَ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِمَا رَكَّبَ فِيَّ مِنْ الْعَقْلِ، وَبِمَا أَوْحَى إِلَيَّ فِي كِتَابِهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وَمِمَّا أَنَا عَلَيْهِ، أَأَثْبُتُ أَمْ أَتْرُكُهُ وَأُوَافِقُكُمْ، فَلَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْمُحَالِ، وَلَا تَشُكُّوا فِي
أَمْرِي، وَاقْطَعُوا عَنِّي أَطْمَاعَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَا أَخْتَارُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى كَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ «1» وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَصْلُهُ: بِأَنْ أَكُونَ، فَحُذِفَ الْجَارُ وَهَذَا الْحَذْفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَذْفِ الْمُطَّرِدِ الَّذِي هُوَ حَذْفُ الْحُرُوفِ الْجَارَّةِ، مَعَ أَنْ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَذْفِ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» انْتَهَى يَعْنِي بِالْحَذْفِ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، إِنَّهُ لَا يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي إِلَّا فِي أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا وَهِيَ:
اخْتَارَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَأَمَرَ، وَسَمَّى، وَلَبَّى، وَدَعَا بِمَعْنَى سَمَّى، وَزَوَّجَ، وَصَدَّقَ، خِلَافًا لِمَنْ قَاسَ الْحَذْفَ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، حَيْثُ يَعْنِي الْحَرْفَ وَمَوْضِعُ الْحَذْفِ نَحْوُ:
بَرَيْتُ الْقَلَمَ بِالسِّكِّينِ، فَيُجِيزُ السِّكِّينَ بِالنَّصْبِ. وَجَوَابُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ قَوْلُهُ: فَلَا أَعْبُدُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنَا لَا أَعْبُدُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيُّ بِلَا إِذَا وَقَعَ جَوَابًا انْجَزَمَ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ عُلِمَ أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ. وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَفَعَ دُونَ لَا لِقَوْلِهِ.
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: فَلَا أَعْبُدُ، مَعْنَى فَأَنَا مُخَالِفُكُمْ. وَأَنْ أَقِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ، مُرَاعًى فِيهَا الْمَعْنَى. لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ كُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ أَنْ مَصْدَرِيَّةً صِلَتُهَا الْأَمْرُ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ، فَلَمْ يَلْتَزِمُوا فِي صِلَتِهَا مَا الْتُزِمَ فِي صِلَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا خَبَرِيَّةً بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي النَّحْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَقِمْ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُقَدَّرَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ وَإِضْمَارُ الْفِعْلِ أَوْلَى، لِيَزُولَ قَلَقُ الْعَطْفِ لِوُجُودِ الْكَافِ، إِذْ لَوْ كَانَ وَأَنْ أَقِمْ عَطْفًا عَلَى أَنْ أَكُونَ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ وَجْهِي بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمَ وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِضْمَارُ الْفِعْلِ أَكْثَرُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ هُنَا الْمَنْحَى، وَالْمَقْصِدُ أَيِ:
اسْتَقِمْ لِلدِّينِ وَلَا تَحِدْ عَنْهُ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ صَرْفِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى طَلَبِ الدِّينِ.
وحنيفا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقِمْ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الدِّينِ، وَلَا تَدْعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ نَهْيٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَقِمْ، فَيَكُونُ فِي حَيِّزِ أَنْ عَلَى قِسْمَيْهَا مِنْ كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً، وَكَوْنِهَا حَرْفَ تَفْسِيرٍ. وَإِذَا كَانَ دُعَاءُ الْأَصْنَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَأَحْرَى أَنْ يُنْهَى عَنْ عِبَادَتِهَا، فَإِنْ فَعَلْتَ كَنَّى بِالْفِعْلِ عَنِ الدُّعَاءِ إِيجَازًا أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَإِنَّكَ وَخَبَرُهَا، وَتَوَسَّطَتْ إِذَا بين
(1) سورة الكافرون: 109/ 1- 2.
(2)
سورة الحجر: 15/ 94.
اسْمِ إِنَّ وَالْخَبَرِ، وَرُتْبَتُهَا بَعْدَ الْخَبَرِ، لَكِنْ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ الْفَاصِلَةُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَإِذَا مُتَوَسِّطَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا يُرَادُ بِهَا فِي هَذَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ هَذَا تَفْسِيرُ، الْمَعْنَى لَا يَجِيءُ عَلَى مَعْنَى الْجَوَابِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَجَوَابٌ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ تَبِعَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَجُعِلَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي إِذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيهَا مُشْبَعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ دُعَاءِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ذَكَرَ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ، وَأَتَى فِي الضُّرِّ بِلَفْظِ الْمَسِّ، وَفِي الْخَيْرِ بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ، وَطَابَقَ بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ مُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً لَا لَفْظِيَّةً، لِأَنَّ مُقَابِلَ الضُّرِّ النَّفْعُ وَمُقَابِلَ الْخَيْرِ الشَّرُّ، فَجَاءَتْ لَفْظَةُ الضُّرِّ أَلْطَفَ وَأَخَصَّ مِنْ لَفْظَةِ الشَّرِّ، وَجَاءَتْ لَفْظَةُ الْخَيْرِ أَتَمَّ مِنْ لَفْظَةِ النَّفْعِ، وَلَفْظَةُ الْمَسِّ أَوْجَزَ مِنْ لَفْظِ الْإِرَادَةِ وَأَنَصَّ عَلَى الْإِصَابَةِ وَأَنْسَبَ لقوله: فلا كاشف إلا هو، ولفظه الْإِرَادَةِ أَدَلُّ عَلَى الْحُصُولِ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ وَفِي غَيْرِهِ وَأَنْسَبُ لِلَفْظِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ وَالْإِرَادَةُ مَعْنَاهُمَا الْإِصَابَةُ.
وَجَاءَ جَوَابُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِنَفْيٍ عَامٍّ وَإِيجَابٍ، وَجَاءَ جَوَابُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِنَفْيٍ عَامٍّ، لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِيءِ التَّرْكِيبُ فَلَا رَادَّ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَالْمَسُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ صِفَةُ فِعْلٍ يُوقِعُهُ وَيَرْفَعُهُ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّهَا صِفَةُ ذَاتٍ، وَجَاءَ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ سَمَّى الْخَيْرَ فَضْلًا إِشْعَارًا بِأَنَّ الْخُيُورَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هِيَ صَادِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ. ثُمَّ اتَّسَعَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فَقَالَ:
يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالصِّفَتَيْنِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ وَهُمَا: الْغَفُورُ الَّذِي يَسْتُرُ وَيَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالرَّحِيمُ الَّذِي رَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، فَأَخَرَّ الضُّرَّ، نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالضُّرِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ الضُّرُّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّفْعُ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ، كَانَ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ الضُّرِّ آكَدُ فِي الإخبار فبدىء بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) :
لِمَ ذَكَرَ الْمَسَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْإِرَادَةَ فِي الثَّانِي؟ (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا:
الْإِرَادَةَ، وَالْإِصَابَةَ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمَا، وَلَا مُزِيلَ لِمَا يُصِيبُ بِهِ مِنْهُمَا، فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ بِأَنْ ذَكَرَ الْمَسَّ وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي أحدهما، والإرادة في
(1) سورة لقمان: 31/ 13.
الْإِنْجَازِ، لِيَدُلَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى مَا تَرَكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ الْإِصَابَةَ فِي الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ المصلحة.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ الْحَقُّ: الْقُرْآنُ، أَوِ الرَّسُولُ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْمَعْنَى:
فَإِنَّمَا ثَوَابُ هِدَايَتِهِ حَاصِلٌ لَهُ، وَوَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ وَاقِعَانِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ فِي الْأَزَلِ بِالِاهْتِدَاءِ فَسَيَقَعُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالضَّلَالِ فَكَذَلِكَ وَلَا حِيلَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَكْمَلَ الشَّرِيعَةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ السَّعْيِ فِي إِيصَالِكُمْ إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَفِي تَخْلِيصِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، أَزْيَدُ مِمَّا فَعَلْتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَبْقَ لَكُمْ عُذْرٌ وَلَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُجَّةٌ، فَمَنِ اخْتَارَ الْهُدَى وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فَمَا نَفَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَّا نَفْسَهُ، وَمَنْ آثَرَ الضَّلَالَ فَمَا ضَرَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَاللَّامُ وَعَلَى عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَكَّلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ بَعْدَ إِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِبَانَةِ الْحَقِّ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِتْيَانِ الْهُدَى وَاطِّرَاحِ الضَّلَالِ مَعَ ذَلِكَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بِحَفِيظٍ مَوْكُولٍ إِلَيَّ أَمْرُكُمْ وَحَمْلُكُمْ عَلَى مَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ تَذْيِيلُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمْرُهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِاتِّبَاعٍ مَا يُوحَى إِلَيْهِ أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُكَ فِي اللَّهِ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَغَيَّا الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كَمَا وَقَعَ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ واصبر، مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ، وَحَمَلُوا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَفِيظٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ عَلَى، الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَحَمْلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْمُحَقِّقُونَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: وَاصْبِرْ، جَمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ فَقَالَ:«إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بِعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي»
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنِّي أُمِرْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا سَامَنِي الْكَفَرَةُ، فَصَبَرْتُ وَاصْبِرُوا أَنْتُمْ عَلَى مَا يَسُومُكُمُ الْأُمَرَاءُ الْجَوَرَةُ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً جَرَتْ بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِهِ.