المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

حُمْرَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْحَجَرُ أَبْيَضُ فِيهِ نُقْطَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَسْوَدُ فِيهِ نُقْطَةٌ بَيْضَاءُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَيْضًا: فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْجِزْعِ. وقيل: وكانت مثل رؤوس الْإِبِلِ، وَمِثْلَ مَبَارِكِ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: قَبْضَةُ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَى مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، جَاءَتْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: مُعَدَّةٌ عِنْدَ رَبِّكَ قَالَهُ: أبو بكر الهذلي. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:

الْمَعْنَى لَزِمَ هَذَا التَّسْوِيمُ الْحِجَارَةَ عِنْدَ اللَّهِ إِيذَانًا بِنَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ هِيَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرَى الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ أَعَالِيَهَا أَسَافِلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَوَاتِ هَذِهِ الْمُدُنِ كَانَتْ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، يَمُرُّ عَلَيْهَا قُرَيْشٌ فِي مَسِيرِهِمْ، فَالنَّظَرُ إِلَيْهَا وَفِيهَا فِيهِ اعْتِبَارٌ وَاتِّعَاظٌ.

وَقِيلَ: هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى الْحِجَارَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا عُقُوبَتُهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ بِبَعِيدٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الظَّالِمِينَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِهِ قُرَيْشٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ بِالْحِجَارَةِ»

وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقِيلَ: قَوْمُ لُوطٍ أَيْ: لَمْ تَكُنِ الْحِجَارَةُ تُخْطِئُهُمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «سَيَكُونُ فِي أَوَاخِرِ أُمَّتِي قَوْمٌ يَكْتَفِي رِجَالُهُمْ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارْتَقِبُوا عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ثُمَّ تَلَا وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ»

وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا هِيَ، عائد عَلَى الْحِجَارَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ وَهِيَ مَكَانٌ بَعِيدٌ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا هَوِيَتْ مِنْهَا فَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ لُحُوقًا بِالْمَرْمِيِّ، فَكَأَنَّهَا بِمَكَانٍ قريب منه.

[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)

وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَاّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَاّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

ص: 192

الرَّهْطُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ جَمَاعَةُ الرَّجُلِ، وَقِيلَ: الرَّهْطُ وَالرَّاهِطُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يَقَعُ الرَّهْطُ وَالْعُصْبَةُ وَالنَّفَرُ إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقِيلَ: إِلَى التِّسْعَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْهُطٍ، وَيَجْمَعُ أَرْهُطٌ عَلَى أَرَاهِطَ، فَهُوَ جَمْعُ جَمْعٍ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: وَأَصْلُ الرَّهْطِ الشَّدُّ، وَمِنْهُ الرَّهِيطُ شِدَّةُ الْأَكْلِ، وَالرَّاهِطُ اسْمٌ لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ لِأَنَّهُ يَتَوَثَّقُ بِهِ وَيُخَبِّأُ فِيهِ وَلَدَهُ.

الْوِرْدُ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ وُرُودُ الْقَوْمِ الْمَاءَ، وَالْوِرْدُ الْإِبِلُ الْوَارِدَةُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْوُرُودُ، وَاسْمَ مَفْعُولٍ فِي الْمَعْنَى كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ.

رَفَدَ الرَّجُلُ يَرْفِدُهُ رَفْدًا وَرِفْدَا أَعْطَاهُ وَأَعَانَهُ، مِنْ رَفَدَ الْحَائِطَ دَعَمَهُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الرَّفْدُ بِالْفَتْحِ الْقَدْحُ، وَالرِّفْدُ بِالْكَسْرِ مَا فِي الْقَدَحِ مِنَ الشَّرَابِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَصْلُ الرَّفْدِ الْعَطَاءُ وَالْمَعُونَةُ، وَمِنْهُ رِفَادَةُ قُرَيْشٍ يُقَالُ رَفَدَهُ يَرْفِدُهُ رِفْدًا وَرَفْدًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. التَّتْبِيبُ التَّخْسِيرُ، تَبَّ خَسِرَ، وَتَبَّهُ خَسِرَهُ. وَقَالَ لَبِيدٌ:

وَلَقَدْ بُلِيتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ

يَبْلَى بِعُودٍ وَذَاكُمُ التَّتْبِيبُ

الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: زَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ نَهِيقِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ:

حَشْرَجَ فِي الصَّدْرِ صَهِيلًا وَشَهِقَ

حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقَ

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشَّهِيقُ ضِدُّ الزَّفِيرِ، لِأَنَّ الشَّهِيقَ رَدُّ النَّفَسِ، وَالزَّفِيرَ إِخْرَاجُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْجَرْيِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّفْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ لِشِدَّتِهِ. وَقَالَ الشَّمَّاخُ:

بَعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ

زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ

وَالشَّهِيقُ النَّفَسُ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ أَيْ طَوِيلٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الزَّفِيرُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّجُلُ صَدْرَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَمِّ الشَّدِيدِ مِنَ النَّفَسِ وَيُخْرِجَهُ، وَالشَّهِيقُ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ النَّفَسَ بِشِدَّةٍ يُقَالُ: إِنَّهُ عَظِيمُ الزَّفْرَةِ.

الشَّقَاءُ نكد العيش. وسوؤه. يُقَالُ مِنْهُ: شَقَى يَشْقَى شَقَاءً وَشِقْوَةً وَشَقَاوَةً وَالسَّعَادَةُ

ص: 194

ضِدُّهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَعِدَ يَسْعَدُ. وَيُعَدَّيَانِ بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَشْقَاهُ اللَّهُ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ. وقد قرىء شقوا وسعدوا بِضَمِّ الشِّينِ وَالسِّينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَدَّيَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَسْعُودٌ، وَذُكِرَ أَنَّ الْفَرَّاءَ حَكَى أَنْ هُذَيْلًا تَقُولُ: سَعِدَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَسْعَدَهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سَعِدَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ سَعِيدٌ، مِثْلَ سَلِمَ فَهُوَ سَلِيمٌ، وَسَعِدَ فَهُوَ مَسْعُودٌ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ:

وَرَدَ سَعِدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُسْعَدٌ.

الْجَذُّ الْقَطْعُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: جَذَذْتُ وَجَدَدْتُ، وَهُوَ بِالذَّالِ أَكْثَرُ.

قَالَ النَّابِغَةُ:

تجذ السلوقي المضاعف يسجه

وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ: كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَبْدَةَ أَوْثَانٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَبِالْكُفْرِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، وَلَمْ يُعَذِّبِ اللَّهُ أُمَّةً عَذَابَ اسْتِئْصَالٍ إِلَّا بِالْكُفْرِ، وَإِنِ انْضَافَتْ إِلَى ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ كَانَتْ تَابِعَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِخَيْرٍ أَيْ: فِي رُخْصِ الْأَسْعَارِ وَعَذَابُ الْيَوْمِ الْمُحِيطِ، هُوَ حُلُولُ الْغَلَاءِ الْمُهْلِكِ. وَيَنْظُرُ هَذَا التَّأْوِيلُ إِلَى

قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا ارْتَفَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ»

وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ بِخَيْرٍ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوَفَاءِ لَا لِلنَّقْصِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بِثَرْوَةٍ وسعة تُغْنِيكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ، أَوْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ حَقُّهَا أَنْ تَقَابَلَ بِغَيْرِ مَا تَفْعَلُونَ، أَوْ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ فَلَا تُزِيلُوهُ عَنْكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. يَوْمٍ مُحِيطٍ أَيْ: مُهْلِكٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «1» وَأَصْلُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فِي آخِرِهِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْإِحَاطَةِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِهِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ زَمَانٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَوَادِثِ، فَإِذَا أَحَاطَ بِعَذَابِهِ فَقَدِ اجْتَمَعَ لِلْمُعَذَّبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَحَاطَ بِنَعِيمِهِ. وَنُهُوا أَوَّلًا: عَنِ الْقَبِيحِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَفِي التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ نَعْيٌ عَلَى الْمَنْهِيِّ وَتَعْيِيرٌ لَهُ. وَأُمِرُوا ثَانِيًا: بِإِيفَائِهِمَا مُصَرَّحًا بِلَفْظِهِمَا تَرْغِيبًا فِي الْإِيفَاءِ، وَبَعْثًا عَلَيْهِ. وَجِيءَ بِالْقِسْطِ لِيَكُونَ الْإِيفَاءُ عَلَى جِهَةِ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ وَهُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الْعَدْلَ فضل وأمر منذوب إِلَيْهِ. وَنُهُوا ثَالِثًا: عَنْ نقص

(1) سورة الكهف: 18/ 42.

ص: 195

النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّاسِ، وَفِيمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ مِمَّا تُكَالُ وَتُوزَنُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَنُهُوا رَابِعًا: عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا أَوْ غَيْرَهُ، فَبَدَأَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَعْصِيَةِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى عَامٍّ، ثُمَّ إِلَى أَعَمَّ مِنْهُ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي النُّصْحِ لَهُمْ وَلُطْفٌ فِي اسْتِدْرَاجِهِمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَتَفْسِيرُ مَعَانِي هَذِهِ الْجُمَلِ سَبَقَ فِي الْأَعْرَافِ. بَقِيَّةُ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَبْقَى اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ الْإِيفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْبَخْسِ، وَعَنْهُ رِزْقُ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ: طَاعَةُ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:

حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَخِيرَةُ اللَّهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَصِيَّةُ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ثَوَابُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَةُ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَرَائِضُ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا أَبْقَاهُ اللَّهُ حَلَالًا لَكُمْ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُعْطِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عِنْدِي إِبْقَاءُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ أَطَعْتُمْ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، شَرْطٌ فِي أَنْ يَكُونَ الْبَقِيَّةُ خَيْرًا لَهُمْ، وَأَمَّا مَعَ الْكُفْرِ فَلَا خَيْرَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مُتَقَدِّمٌ. وَالْحَفِيظُ الْمُرَاقِبُ الَّذِي يَحْفَظُ أَحْوَالَ مَنْ يَرْقُبُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ، وَالْحَفِيظُ الْمُحَاسِبُ هُوَ الَّذِي يُجَازِيكُمْ بِالْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَلَيْسَ جَوَابُ الشَّرْطِ مُتَقَدِّمًا كَمَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ كَفَرَةٌ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَا يَبْقَى لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً «1» وَإِضَافَةُ الْبَقِيَّةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا رِزْقُهُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُسَمَّى رِزْقًا انْتَهَى، عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الرِّزْقِ، وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَقِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَ فَعِلَ اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ نَحْوَ: سَجِيَتْ الْمَرْأَةُ فَهِيَ سَجِيَةٌ، فَإِذَا شَدَّدْتَ الْيَاءَ كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَقِيَّةُ بِالتَّاءِ، وَهِيَ تَقْوَاهُ وَمُرَاقَبَتُهُ الصَّارِفَةُ عَنِ الْمَعَاصِي.

قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي

(1) سورة الكهف: 18/ 46.

ص: 196

إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ: لَمَّا أَمَرَهُمْ شُعَيْبٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ، وَبِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، رَدُّوا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْهُزْءِ بِقَوْلِهِمْ: أَصَلَاتُكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى تَغَامَزُوا وَتَضَاحَكُوا أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ «1» أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ «2» وَكَوْنُ الصَّلَاةِ آمِرَةً هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، كَمَا كَانَتْ نَاهِيَةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «3» أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا تَأْمُرُ بِالْجَمِيلِ وَالْمَعْرُوفِ أَيْ: تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَبْعَثُ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّهُمْ سَاقُوا الْكَلَامَ مَسَاقَ الطَّنْزِ، وَجَعَلُوا الصَّلَاةَ آمِرَةً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِصَلَاتِهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَمْرُكَ بِتَكْلِيفِنَا أَنْ نَتْرُكَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّلَاةِ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ. وَقِيلَ: أُرِيدُ قِرَاءَتُكَ. وَقِيلَ: مَسَاجِدَكَ.

وَقِيلَ: دَعَوَاتَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: أَصَلَاتُكَ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ: نَفْعَلُ بِالنُّونِ، مَا نَشَاءُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

فَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ فِيهِمَا فَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ أَيْ: أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَفِعْلَنَا فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا أَوْ بِالنُّونِ فِيهِمَا فَمَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ نَتْرُكَ أَيْ: تَأْمُرُكَ بِتَرْكِ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَفِعْلِكِ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ، أَوْ وَفِعْلِنَا فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ.

وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ: تَأْمُرُكَ مَرَّةً بِهَذَا، وَمَرَّةً بِهَذَا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَمْوَالِهِمْ هُوَ بَخْسُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَرْضُهُمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ، وَإِجْرَاءُ ذَلِكَ مَعَ الصَّحِيحِ عَلَى جِهَةِ التَّدْلِيسِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: تَبْدِيلُ السِّكَكِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا أَوْ فِي نَشَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِيفَاءُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالزَّكَاةِ. وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عنه

(1) سورة الأعراف: 7/ 59.

(2)

سورة هود: 11/ 84.

(3)

سورة العنكبوت: 29/ 45.

ص: 197

بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْجَمِيلَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْحَقِيقَةَ أَيْ: إِنَّكَ لَلْمُتَّصِفُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَيْفَ وَقَعْتَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ مُخَالَفَتِكَ دِينَ آبَائِنَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْنَعُهُ حِلْمُهُ وَرُشْدُهُ عَنْ ذَلِكَ. أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ بِزَعْمِكَ إِذْ تَأْمُرُنَا بِمَا تَأْمُرُ بِهِ. أَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّهَكُّمِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.

وَالْمُرَادُ: نِسْبَتُهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالْعِيِّ كَمَا تَقُولُ لِلشَّحِيحِ: لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ، وَقَالُوا لِلْحَبَشِيِّ: أَبُو الْبَيْضَاءِ. قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ هَذِهِ مُرَاجَعَةٌ لَطِيفَةٌ وَاسْتِنْزَالٌ حَسَنٌ، وَاسْتِدْعَاءٌ رَقِيقٌ، وَلِذَلِكَ

قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ»

وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ نَوْعٌ لَطِيفٌ غَرِيبُ الْمَغْزَى يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مَعَ أَبِيهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ، وَفِي قِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِهِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ جَوَابُ أَرَأَيْتُمْ، وما له لَمْ يَثْبُتْ كَمَا ثَبَتَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَصَالِحٍ؟ (قُلْتُ) : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَّ عَلَى مَكَانِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ يُنَاوِي عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَكُنْتُ نَبِيًّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَيَصِحُّ لِي أَنْ لَا آمُرَكُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُبْعَثُونَ إِلَّا لِذَلِكَ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا جَوَابًا لِأَرَأَيْتُمْ لَيْسَ بِالْمُصْطَلَحِ، بَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّرَهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ أَرَأَيْتُمْ إِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى أَخْبِرْنِي تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْغَالِبُ فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً تَنْعَقِدُ مِنْهَا وَمِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي الْأَصْلِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: أرأيتك زيدا ما صنع. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الكلام عليه، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْدِلْ عَنْ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَضِلُّ كَمَا ضَلَلْتُمْ، أَوْ أَتْرُكُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْمُحَاجَّةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَضِلُّ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا حُذِفَ مِنْهُ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا.

وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: رِزْقًا حَسَنًا أَنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَطْفِيفٍ أَدْخَلْتُمُوهُ أَمْوَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَلَالُ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عليه السلام كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ.

وَقِيلَ: الْعِلْمُ. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْمَعْنَى: لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّيْءَ

ص: 198

الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنْ نَقْصِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَأَسْتَأْثِرَ بِالْمَالِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ ثُمَّ أَرْتَكِبُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي السِّرِّ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ. وَيُقَالُ: خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وَخَالَفَنِي عَنْهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَتَقُولُ:

خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، تُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا، وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا. وَالْمَعْنَى أَنْ أَسْبِقَكُمْ إِلَى شَهَوَاتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لَأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ، فَعَلَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِأُرِيدُ، أَيْ وَمَا أُرِيدُ مُخَالَفَتَكُمْ، وَيَكُونُ خَالَفَ بِمَعْنَى خَلَفَ نَحْوَ: جَاوَزَ وَجَازَ أَيْ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَخْلُفَكُمْ أَيْ: أَكُونُ خَلَفًا مِنْكُمْ. وَتَتَعَلَّقُ إِلَى بِأُخَالِفَكُمْ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: مَائِلًا إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ إِلَى تَقْدِيرِهِ: وَأَمِيلُ إِلَى، أَوْ يَبْقَى أَنْ أُخَالِفَكُمْ عَلَى ظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ بِأُرِيدُ، وَتُقَدَّرُ: مَائِلًا إِلَى، أَوْ يَكُونُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَتَتَعَلَّقُ إِلَى بِقَوْلِهِ وَمَا أُرِيدُ بِمَعْنَى، وَمَا أَقْصِدُ أَيْ: وَمَا أَقْصِدُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا أَقْصِدُ بِخِلَافِكُمْ إِلَى ارْتِكَابِ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ مُدَّةُ اسْتِطَاعَتِي لِلْإِصْلَاحِ، وَمَا دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ لَا آلُوا فِيهِ جُهْدًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْإِصْلَاحِ أَيِ: الْمُقَدَّرُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا الْإِصْلَاحَ إِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ فِي الْبَدَلِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا كَقَوْلِهِ:

ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ. أَيْ مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِصْلَاحَهُ مِنْ فَاسِدِكُمْ، وَهَذَا الثَّالِثُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُعَرَّفَ بِأَلْ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَإِعْمَالُهُ عِنْدَهُمْ فِيهِ قَلِيلٌ.

وَمَا تَوْفِيقِي أَيْ لِدُعَائِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ. أَوْ وَمَا تَوْفِيقِي لِأَنْ تَكُونَ أَفْعَالِي مُسَدَّدَةً مُوَافِقَةً لِرِضَا اللَّهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِعُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِي وَأَفْعَالِي. وَفِي هَذَا طَلَبُ التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ وَحَسْمٌ لِأَطْمَاعِهِمْ أَنْ يَنَالُوهُ بِشَرٍّ. وَمَعْنَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ: لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي، أَيْ خِلَافِي وَعَدَاوَتِي. قَالَ السُّدِّيُّ: كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ وَهُمْ فِي شِقٍّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ضِرَارِي جَعَلَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ: فِرَاقِي. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَجْرَمَ، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ، وَجَرَمَ فِي التَّعْدِيَةِ مِثْلُ كَسَبَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. جَرَمَ فُلَانٌ

ص: 199

الذَّنْبَ، وَكَسَبَ زَيْدٌ الْمَالَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَرَّمْتُ زَيْدًا الذَّنْبَ، وَكَسَّبْتُ زَيْدًا الْمَالَ.

وَبِالْأَلِفِ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ أَيْضًا، أَجْرَمَ زَيْدٌ عَمْرًا الذَّنْبَ، وَأَكْسَبْتُ زَيْدًا الْمَالَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَرَمَ فِي الْعُقُودِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ: مِثْلَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَخُرِّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن تَكُونَ الْفُتْحَةُ فُتْحَةَ بِنَاءٍ، وَهُوَ فَاعِلٌ كَحَالِهِ حِينَ كَانَ مَرْفُوعًا، وَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ جَازَ فِيهِ الْبِنَاءُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَالثَّانِي: أن تكون الفتحة فتحة إِعْرَابٍ، وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِصَابَةً مِثْلَ إِصَابَةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ: أَنْ يُصِيبَكُمْ هُوَ أَيِ الْعَذَابُ. وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، إِمَّا فِي الزَّمَانِ لِقُرْبِ عَهْدِ هَلَاكِهِمْ مِنْ عَهْدِكُمْ، إِذْ هُمْ أَقْرَبُ الْهَالِكِينَ، وَإِمَّا فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْهَلَاكُ. وَأَجْرَى بَعِيدًا عَلَى قَوْمٍ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، أَيْ: بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ. أَوْ بِاعْتِبَارِ مَوْصُوفٍ غَيْرِهِمَا أَيْ: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ إِلَى قَوْمٍ أَيْ: وَمَا إِهْلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى فِي قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَكَثِيرٍ وَقَلِيلٍ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَبَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالُوا: هُوَ صَدِيقٌ، وَهُمْ صَدِيقٌ، وَهِيَ صَدِيقٌ، وَهُنَّ صديق. وودود بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ وَدَّ الشَّيْءَ أَحَبَّهُ وَآثَرَهُ، وَهُوَ عَلَى فَعَلَ. وَسَمِعَ الْكِسَائِيُّ: وَدَدَتُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْمَصْدَرُ ود ووداد وَوِدَادَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَدُودٌ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَدُودٌ مُتَحَبِّبٌ إِلَى عِبَادِهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَحْبُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ سَبَبٌ فِي اسْتِغْفَارِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَفَّقَهُمْ إِلَى اسْتِغْفَارِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ الْوَادِّ بِمَنْ يَوَدُّهُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.

قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ: كَانُوا لَا يُلْقُونَ إِلَيْهِ أَذْهَانَهُمْ، وَلَا يُصْغُونَ لِكَلَامِهِ رَغْبَةً عَنْهُ وَكَرَاهَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ «1»

(1) سورة الأنعام: 6/ 25.

ص: 200

أَوْ كَانُوا يَفْهَمُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَعْبَأْ بِحَدِيثِهِ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. أَوْ جَعَلُوا كَلَامَهُ هَذَيَانًا وَتَخْلِيطًا لَا يُتَفَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَكَيْفَ لَا يُتَفَهَّمُ كَلَامُهُ وَهُوَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ الذي جاورهم بِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَخَاطَبَهُمْ بِهِ هُوَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَأَجَلِّهِ وَأَدَلِّهِ عَلَى مَعَانِيهِ بِحَيْثُ يَفْقَهُهُ مَنْ كَانَ بَعِيدَ الْفَهْمِ، فَضْلًا عَنِ الْأَذْكِيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ خِذْلَانَهُمْ. وَمَعْنَى ضَعِيفًا: لَا قُوَّةَ لَكَ وَلَا عِزَّ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الامتناع منا إِنْ أَرَدْنَاكَ بِمَكْرُوهٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ: ضَعِيفًا مَهِينًا.

وَقِيلَ: كَانَ نَاحِلَ الْبَدَنِ زَمِنَهُ لَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ هَيْبَةٌ وَلَا فِي الْعَيْنِ مِنْهُ امْتِلَاءٌ

، وَالْعَرَبُ تُعَظِّمُ بِكِبَرِ الْأَجْسَامِ، وَتَذُمُّ بِدَمَامَتِهَا.

وَقَالَ الْبَاقِرُ: مَهْجُورًا لَا تُجَالَسُ وَلَا تُعَاشَرُ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَعِيفًا أَيْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ رَهْطُكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَحِيدًا فِي مَذْهَبِكَ وَاعْتِقَادِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَشَرِيكٌ الْقَاضِي: ضَعِيفًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَعْمَى. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ حِمْيَرَ تُسَمِّي الْأَعْمَى ضَعِيفًا، وَيُبْعِدُهُ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِأَعْمَى أَوْ بِنَاحِلِ الْبَدَنِ أَوْ بِضَعِيفِ الْبَصَرِ كَمَا قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. وَزَعَمَ أَبُو رَوْقٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا أَعْمَى، وَلَا نَبِيًّا بِهِ زَمَانَةٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ ضَعِيفُ الِانْتِصَارِ وَالْقُدْرَةِ. وَلَوْلَا رَهْطُكَ احْتَرَمُوهُ لِرَهْطِهِ إِذْ كَانُوا كُفَّارًا مِثْلَهُمْ، أَوْ كَانَ فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ مِنْهُمْ لَرَجَمْنَاكَ. ظَاهِرُهُ الْقَتْلُ بِالْحِجَارَةِ، وَهِيَ مِنْ شَرِّ الْقِتْلَاتِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: رَجَمْنَاكَ بِالسَّبِّ، وَهَذَا أَيْضًا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ وَمِنْهُ: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «1» وَقِيلَ: لَأَبْعَدْنَاكَ وَأَخْرَجْنَاكَ مِنْ أَرْضِنَا. وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ أَيْ: لَا تُعَزُّ وَلَا تُكْرَمُ حَتَّى نُكْرِمَكَ مِنَ الْقَتْلِ، وَنَرْفَعَكَ عَنِ الرَّجْمِ. وَإِنَّمَا يَعِزُّ عَلَيْنَا رَهْطُكُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِنَا لَمْ يَحْتَاجُّوكَ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: بِعَزِيزٍ بِذِي مَنَعَةٍ، وَعِزَّةِ مَنْزِلَةِ فِي نُفُوسِنَا. وَقِيلَ: بِذِي غَلَبَةٍ. وَقِيلَ: بِمُلْكٍ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمَلِكَ عَزِيزًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ دَلَّ إِيلَاءُ ضَمِيرِهِ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَاقِعٌ فِي الْفَاعِلِ، لَا فِي الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ بَلْ رَهْطُكَ هُمُ الْأَعِزَّةُ عَلَيْنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَوَابِهِمْ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟ وَلَوْ قِيلَ: وَمَا عَزَزْتَ عَلَيْنَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَالْكَلَامُ وَاقِعٌ فِيهِ وَفِي رَهْطِهِ وَأَنَّهُمُ الْأَعِزَّةُ عَلَيْهِمْ دُونَهُ، فَكَيْفَ صَحَّ قَوْلُهُ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟ (قُلْتُ) : تَهَاوُنُهُمْ بِهِ وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ تَهَاوُنٌ بِاللَّهِ فَحِينَ عَزَّ عَلَيْهِمْ رَهْطُهُ دُونَهُ، كَانَ رَهْطُهُ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الله

(1) سورة مريم: 19/ 46.

(2)

سورة النساء: 4/ 80.

ص: 201

تَعَالَى أَيْ: وَنَسِيتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالظِّهْرِيُّ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي النَّسَبِ إِلَى الْأَمْسِ إِمْسِيٌّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَلَمَّا خَاطَبُوهُ خِطَابَ الْإِهَانَةِ وَالْجَفَاءِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، خَاطَبَهُمْ خِطَابَ الِاسْتِعْطَافِ وَالتَّلَطُّفِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي إِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ حَتَّى جَعَلْتُمْ مُرَاعَاتِي مِنْ أَجْلِهِمْ وَلَمْ تُسْنِدُوهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَا أَوْلَى وَأَحَقُّ أَنْ أُرَاعَى مِنْ أَجْلِهِ. فَالْمُرَاعَاةُ لِأَجْلِ الْخَالِقِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُرَاعَاةِ لِأَجْلِ الْمَخْلُوقِ، وَالظِّهْرِيُّ الْمَنْسِيُّ الْمَتْرُوكُ الَّذِي جُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفُ الظَّهْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذْتُمُوهُ به عَائِدٌ عَلَى الشَّرْعِ الَّذِي جَاءَ شُعَيْبٌ عليه السلام. وَقِيلَ: الظِّهْرِيُّ الْعَوْنُ وَمَا يُتَقَوَّى بِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَالْمَعْنَى وَاتَّخَذْتُمُ الْعِصْيَانَ عِنْدَهُ لِدَفْعِي انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ أَيْ عِصْيَانَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ أَيْ وَأَنْتُمْ مُتَّخِذُونَ اللَّهَ سَنَدَ ظُهُورِكُمْ وَعِمَادَ آمَالِكُمْ. فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: عَلَى أَنَّ كُفْرَ قَوْمِ شُعَيْبٍ كَانَ جَحْدًا بِاللَّهِ وَجَهْلًا بِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْخَالِقِ الرَّازِقِ وَيَعْتَقِدُونَ الْأَصْنَامَ وَسَائِطَ وَوَسَائِلَ، وَمِنَ اللَّفْظَةِ الِاسْتِظْهَارُ بِالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الظِّهْرِيُّ الْفَضْلُ، مِثْلَ الْحَمَّالِ يَخْرُجُ مَعَهُ بِإِبِلٍ ظِهَارِيَّةٍ يَعُدُّهَا إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ فَضْلَةٌ. مُحِيطٌ أَحَاطَ بِأَعْمَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَفِي ضِمْنِهِ تَوَعُّدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ «1» وَخِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي مَكَانَتِكُمْ. وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَنْ يَأْتِيهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَفْعُولَةً بِقَوْلِهِ: تَعْلَمُونَ أَيْ: تَعْلَمُونَ الشَّقِيَّ الَّذِي يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَالَّذِي هُوَ كَاذِبٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وتعلمون مُعَلَّقٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، وَأَيُّنَا هُوَ كَاذِبٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، يَعْنِي كَوْنَهَا مَفْعُولَةً قَالَ:

لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَلَا يُوصَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَيَقْضِي بِصِلَتِهَا أَنَّ الْمَعْطُوفَةَ عَلَيْهَا مَوْصُولَةٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَيَقْضِي بِصِلَتِهَا إِلَخْ لَا يَقْضِي بِصِلَتِهَا، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ، بَلْ تَكُونُ اسْتِفْهَامِيَّةً إِذَا قَدَّرْتَهَا مَعْطُوفَةً عَلَى مَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ وَأَيُّنَا هُوَ كَاذِبٌ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إِدْخَالِ الْفَاءِ وَنَزْعِهَا فِي سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟

(قُلْتُ) : إِدْخَالُ الْفَاءِ وَصْلٌ ظَاهِرٌ بِحَرْفٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَصْلِ، وَنَزْعُهَا وَصْلٌ خفي تقديري

(1) سورة الأنعام: 6/ 135.

ص: 202

بِالِاسْتِئْنَافِ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا عَمِلْنَا نَحْنُ عَلَى مَكَانَتِنَا، وَعَمِلْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، يُوصَلُ تَارَةً بِالْفَاءِ، وَتَارَةً بِالِاسْتِئْنَافِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ مِنَ الْعَرَبِ. وَأَقْوَى الْوَصْلَيْنِ وَأَبْلَغُهُمَا الِاسْتِئْنَافُ، وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ تَتَكَاثَرُ مَحَاسِنُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : قد ذَكَرَ عَمَلَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَعَمَلَهُ عَلَى مَكَانَتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ ذِكْرَ عَاقِبَةِ الْعَامِلِينَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ حَتَّى يَنْصَرِفَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ إِلَى الْجَاحِدِينَ، وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ إِلَى النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ. (قُلْتُ) : الْقِيَاسُ مَا ذَكَرْتُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَعُدُّونَهُ كَاذِبًا قَالَ:

وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ يَعْنِي فِي زَعْمِكُمْ وَدَعْوَاكُمْ تَجْهِيلًا لَهُمُ انْتَهَى. وَفِي أَلْفَاظِ هَذَا الرَّجُلِ سُوءُ أَدَبٍ، وَالَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، لِأَنَّ التَّهْدِيدَ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّهْدِيدِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، إِذْ لَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، وَأَعْمَلُ عَلَى مَكَانَتِي، وَلَا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُ أَنَّ التَّهْدِيدَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ. وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: قَدْ ذَكَرَ عَمَلَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَعَمَلَهُ عَلَى مَكَانَتِهِ، فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ سُؤَالًا فَاسِدًا، لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى مَا لَيْسَ مَذْكُورًا لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ، وَجَمِيعُ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ تَنْزِيلُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ «1» فَهَذَا جَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ كَمَا جَاءَ هُنَا، وَارْتَقِبُوا: انْتَظِرُوا الْعَاقِبَةَ، وَمَا أَقُولُ لَكُمْ. وَالرَّقِيبُ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرَاقِبِ كَالْعَشِيرِ وَالْجَلِيسِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرْتَقِبِ كَالْفَقِيرِ وَالرَّفِيعِ بِمَعْنَى الْمُفْتَقِرِ وَالْمُرْتَفِعِ، وَيُحَسِّنُ هَذَا مُقَابَلَةُ فَارْتَقِبُوا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا بَالُ سَاقَتَيْ قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ جَاءَتَا بِالْوَاوِ وَالسَّاقَتَانِ الْوَسَطِيَّانِ بِالْفَاءِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ وَقَعَتِ الْوَسَطِيَّانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ «2» ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «3» فَجِيءَ بِالْفَاءِ الَّتِي لِلتَّسَبُّبِ كَمَا تَقُولُ:

وَعَدْتُهُ فَلَمَّا جَاءَ الْمِيعَادُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَلَمْ يَقَعَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتَا مُبْتَدَأَتَيْنِ، فَكَانَ حَقُّهُمَا أَنْ يُعْطَفَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، كَمَا تُعْطَفُ قِصَّةٌ عَلَى قِصَّةٍ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا إِلَى قَوْلِهِ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. وقرأ السلمي وأبو

(1) سورة هود: 11/ 39. [.....]

(2)

سورة هود: 11/ 81.

(3)

سورة هود: 11/ 65.

ص: 203

حَيْوَةَ: كَمَا بَعِدَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُرْبِ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، أَرَادَتِ الْعَرَبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْبُعْدِ مِنْ جِهَةِ الْهَلَاكِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَغَيَّرُوا الْبِنَاءَ وَقِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ جَاءَتْ على الأصل اعتبار المعنى الْبُعْدِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ فُلَانٌ، وَمَضَى فِي مَعْنَى الْقُرْبِ. وقيل: معناه بعد الهم مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بَعُدَ يَبْعُدُ إِذَا كَانَ بُعْدُهُ هَلَكَةً، وبعد يبعد إذا أتاني. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا وَبَعَدًا إِذَا هَلَكَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: بَعُدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَعِدَ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُرْبِ، فَيَقُولُ فِيهِمَا بَعُدَ يَبْعُدُ، وَبَعِدَ يَبْعُدُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: فِي بَعُدَ بِمَعْنَى هَلَكَ:

يَقُولُونَ لَا تبعدوهم يَدْفِنُونَنِي

وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إلا مكانيا

وبعد الفلان دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُدْعَى بِهِ إِلَّا عَلَى مُبْغَضٍ كَقَوْلِكَ: سُحْقًا لِلْكَافِرِينَ.

وَقَالَ أَهْلُ عِلْمِ الْبَيَانِ: لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ اسْتِطْرَادٌ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَالِاسْتِطْرَادُ قَالُوا: هُوَ أَنْ تَمْدَحَ شَيْئًا أَوْ تَذُمَّهُ، ثُمَّ تَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ بِشَيْءٍ هُوَ غَرَضُكَ فِي أَوَّلِهِ. قَالَ حَسَّانُ:

إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي

فنجوت منجى الحرث بْنِ هِشَامِ

تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ

وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ النَّقْصَ بِإِظْلَالِ الْجَبَلِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ التَّوْرَاةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ إِلَى فِرْعَوْنَ وملائه، وَالتَّوْرَاةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ هلاك فرعون وملائه. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ هُوَ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ فِيهَا أَيْ فِي الْآيَاتِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عليه السلام. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْعَصَا لِأَنَّهَا أَبْهَرُ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَنَصَّ عَلَيْهَا كَمَا نَصَّ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ بِالذِّكْرِ.

وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمْرَ فِرْعَوْنَ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ وَجَحْدِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الطَّرِيقَ وَالشَّأْنَ. وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ: نَفَى عَنْهُ الرُّشْدَ، وَذَلِكَ تَجْهِيلٌ لِمُتَّبِعِيهِ حَيْثُ شَايَعُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ فِيهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنَ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ

ص: 204

ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. عَايَنُوا الْآيَاتِ وَالسُّلْطَانَ الْمُبِينَ فِي أَمْرِ مُوسَى عليه السلام، وَعَلِمُوا أَنَّ مَعَهُ الرُّشْدَ وَالْحَقَّ، ثُمَّ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَى اتِّبَاعِ مَنْ لَيْسَ فِي اتِّبَاعِهِ رُشْدٌ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدٌ بِمَعْنَى رَاشِدٍ، وَيَكُونَ رَشِيدٍ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ.

وَكَانَ فِرْعَوْنُ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ سُلْطَانِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ خَالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالرُّشْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحْمَدُ وَيُرْتَضَى، وَالْغَيُّ ضِدُّهُ. وَيُقَالُ: قَدَمَ زَيْدٌ الْقَوْمَ يَقْدُمُ قَدْمًا، وَقُدُومًا تَقَدَّمَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ الْمُغْرِقِينَ إِلَى النَّارِ، وَكَمَا كَانَ قُدْوَةً فِي الضَّلَالِ مُتَّبَعًا كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِرَشِيدٍ بِحَمِيدِ، الْعَاقِبَةِ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ، تَفْسِيرًا لِذَلِكَ وَإِيضَاحًا أَيْ: كَيْفَ يَرْشُدُ أَمْرُ مَنْ هَذِهِ عَاقِبَتُهُ؟ وَعَدَلَ عَنْ فَيُورِدُهُمْ إِلَى فَأَوْرَدَهُمُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِرْهَابِ وَالتَّخْوِيفِ. أَوْ هُوَ مَاضٍ حَقِيقَةً أَيْ: فَأَوْرَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا النَّارَ أَيْ: مُوجِبَهُ وَهُوَ الْكُفْرُ. وَيُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْفَاءُ وَالْوُرُودُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وُرُودُ الْخُلُودِ وَلَيْسَ بِوُرُودِ الْإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِشْفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ تُصِيبُهُ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي لِأَنَّهُ تُنَازِعُهُ يَقْدُمُ أَيْ: إِلَى النَّارِ وَفَأَوْرَدَهُمْ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَحُذِفَ مَعْمُولُ الْأَوَّلِ. وَالْهَمْزَةُ فِي فَأَوْرَدَهُمُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَرَدَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَلَمَّا أُدْخِلَتِ الْهَمْزَةُ تَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَتَضَمَّنَ وَارِدًا وَمَوْرُودًا. وَيُطْلَقُ الْوِرْدُ عَلَى الْوَارِدِ، فَالْوِرْدُ لَا يَكُونُ الْمَوْرُودَ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفٍ لِيُطَابِقَ فَاعِلَ بِئْسَ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، فَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ مَكَانُ الْوِرْدِ الْمَوْرُودُ وَيَعْنِي بِهِ النَّارَ. فَالْوِرْدُ فَاعِلٌ بِبِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ الْمَوْرُودُ وَهِيَ النَّارُ.

وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ الْمَوْرُودُ مَا يَجُوزُ فِي زَيْدٍ مِنْ قَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْرُودُ صِفَةً لِلْوِرْدِ أَيْ: بِئْسَ مَكَانُ الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ النَّارُ، وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: فَبِئْسَ الْمِهادُ «2» وَهَذَا التَّخْرِيجُ يُبْتَنَى عَلَى جَوَازِ وَصْفِ فَاعِلِ نِعْمَ وَبِئْسَ، وَفِيهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوِرْدُ الْمَوْرُودُ الَّذِي وَرَدُوهُ شَبَّهَهُ بِالْفَارِطِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ إِلَى الْمَاءِ، وَشَبَّهَ اتِّبَاعَهُ بِالْوَارِدَةِ، ثُمَّ قِيلَ: بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النَّارُ، لِأَنَّ الْوِرْدَ إِنَّمَا يُورَدُ لِتَسْكِينِ الْعَطَشِ وَتَبْرِيدِ الْأَكْبَادِ، وَالنَّارُ ضِدُّهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْوِرْدُ الْمَوْرُودُ إِطْلَاقُ

(1) سورة القصص: 28/ 23.

(2)

سورة ص: 38/ 56.

ص: 205

الْوِرْدِ عَلَى الْمَوْرُودِ مَجَازٌ، إِذْ نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ صَدْرًا بِمَعْنَى الْوُرُودِ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَارِدَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النَّارُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْرُودَ صِفَةٌ لِلْوِرْدِ، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ النَّارَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى جَوَازِ وَصْفِ فَاعِلِ بِئْسَ وَنِعْمَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِئْسَ الْقَوْمُ الْمَوْرُودُ بِهِمْ هُمْ، فَيَكُونُ الْوِرْدُ عُنِيَ بِهِ الْجَمْعُ الْوَارِدُ، وَالْمَوْرُودُ صِفَةٌ لَهُمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ هُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لِلْوَارِدِينَ، لَا ذَمًّا لِمَوْضِعِ الْوُرُودِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي هَذِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي قِصَّةِ هُودٍ، وَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الْآخِرَةُ. فَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فِي هَذِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُلْحِقُوا لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي هَذِهِ لَعْنَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْغَرَقِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِالنَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَهُمْ لَعْنَتَانِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّقْسِيمَ هُوَ أَنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْفِدُونَ بِهِ فَهِيَ لَعْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَوَّلًا، وقبح ارفادا آخِرًا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لَبِئْسَ، وَبِئْسَ لَا يَتَصَرَّفُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ تَأَخَّرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أَنْتَ إِذَا

دُعِيَتْ نِزَالِ وَلُجَّ فِي الذُّعْرِ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ رِفْدُهُمْ، أَيْ: بِئْسَ الْعَوْنُ الْمُعَانُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا رِفْدٌ لِلْعَذَابِ وَمَدَدٌ لَهُ، وَقَدْ رُفِدَتْ بِاللَّعْنَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: بِئْسَ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَرْفُودَ صِفَةٌ لِلرِّفْدِ، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:

رِفْدُهُمْ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ تَفْسِيرِهِ أَيْ بِئْسَ الْعَوْنُ الْمُعَانُ هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَسُمِّيَ الْعَذَابُ رِفْدًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضرب وجيع. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الرِّفْدُ الرِّفَادَةُ أَيْ بِئْسَ مَا يَرْفِدُونَ بِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ النَّارُ.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْمِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ أَيْ ذَلِكَ النَّبَأُ بَعْضُ أَنْبَاءِ الْقُرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْنَى بِالْقُرَى قُرَى أُولَئِكَ الْمُهْلَكِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وَأَنْ يَعْنِيَ الْقُرَى عُمُومًا أَيْ: هَذَا النَّبَأُ الْمَقْصُوصُ عَلَيْكَ هُوَ دَيْدَنُ الْمُدُنِ إِذْ كَفَرَتْ، فَدَخَلَ الْمُدُنُ الْمُعَاصِرَةُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْقُرَى. قَالَ

ص: 206

ابْنُ عَبَّاسٍ: قَائِمٌ وَحَصِيدٌ عامر كزغر وَدَاثِرٍ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ عُمُومِ الْقُرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قَائِمُ الْجُدْرَانِ وَمُنْهَدِمٌ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ خُصُوصِ الْقُرَى، وَأَنَّهَا قُرَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهَا بَاقٍ وَبَعْضُهَا عَافِي الْأَثَرِ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ، وَالَّذِي حُصِدَ انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ، قَالَ قَتَادَةُ: قَائِمُ الْأَثَرِ وَدَارِسُهُ، جَعَلَ حَصْدَ الزَّرْعِ كِنَايَةً عَنِ الْفَنَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالنَّاسُ فِي قَسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ

كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَائِمٌ لَمْ يُخْسَفْ، وحصيد قَدْ خُسِفَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَائِمٌ لَمْ يَهْلَكْ بعد، وحصيد قَدْ أُهْلِكَ. وَقِيلَ: قَائِمٌ أَيْ بَاقٍ نَسْلُهُ، وَحَصِيدٌ أَيْ مُنْقَطِعٌ نَسْلُهُ. وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْقُرَى. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْقُرَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حَصِيدٌ أَيْ مَحْصُودٌ، وَجَمْعُهُ حَصْدَى وَحِصَادٌ، مِثْلَ: مَرْضَى وَمِرَاضٌ، وَبَابُ فَعْلَى جَمْعًا لِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ يَعْقِلُ نَحْوَ: قَتِيلٍ وَقَتْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؟ قُلْتُ: هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا انْتَهَى.

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْهَا قَائِمٌ ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الهاء في نقصه، وحصيد مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَمِنْهَا حَصِيدٌ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ تَجَوُّزٌ أَيْ: نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وَحَالُ الْقُرَى ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْحَاضِرِينَ أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْقُرَى وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ يُشَاهِدُونَ فِعْلَ اللَّهِ بِهَا. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ أَيْ: بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، بَلْ وَضَعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَضْعِ الْكُفْرِ مَوْضِعَ الْإِيمَانِ، وَارْتِكَابِ مَا بِهِ أُهْلِكُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا أَغْنَتْ، نَفْيٌ أَيْ، لَمْ تَرُدَّ عَنْهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا أَجْدَتْ. يَدْعُونَ حِكَايَةُ حَالٍ أَيِ: الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَ، أَيْ يَعْبُدُونَ، أَوْ يَدْعُونَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَهُبَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا مَنْصُوبٌ بِمَا أَغْنَتْ انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَمَّا ظَرْفٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهَا حَرْفُ وُجُوبٍ لوجوب. وأمر رَبِّكَ هُوَ عَذَابُهُ وَنِقْمَتُهُ. وَمَا زَادُوهُمْ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَاوِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ لِمَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَنْفَعُ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالتَّتْبِيبُ التَّخْسِيرُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّخْسِيرُ، وَقِيلَ: التَّدْمِيرُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَصُورَةُ زِيَادَةِ الْأَصْنَامِ التَّتْبِيبُ، إِنَّمَا هُوَ يُتَصَوَّرُ بِأَنَّ تَأْمِيلَهَا وَالثِّقَةَ بِهَا وَالتَّعَبَ فِي عِبَادَتِهَا شَغَلَتْ نُفُوسَهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ

ص: 207

وَعَاقِبَتِهِ، فَلَحِقَ مِنْ ذَلِكَ عِقَابٌ وَخُسْرَانٌ. وَأَمَّا بِأَنَّ عَذَابَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يُزَادُ بِهِ عَذَابٌ عَلَى مُجَرَّدِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.

وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ: أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ أَخْذِ اللَّهِ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ أَخْذُ رَبِّكَ. وَالْقُرَى عَامٌّ فِي الْقُرَى الظَّالِمَةِ، وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ ظُلْمَ الْكُفْرِ وَغَيْرَهُ. وَقَدْ يُمْهِلُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْكَفَرَةِ. وَأَمَّا الظَّلَمَةُ فِي الْغَالِبِ فَمُعَاجَلُونَ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»

ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا.

وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ، إذ أَخَذَ عَلَى أَنَّ أَخْذُ رَبِّكَ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، وَإِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِي إِهْلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وكذلك أحذ رَبُّكَ إِذَا أَخَذَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قراءة مُتَمَكِّنَةُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ تُعْطِي الْوَعِيدَ وَاسْتِمْرَارَهُ فِي الزَّمَانِ، وَهُوَ الْبَابُ فِي وَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الْمَاضِي، والقرى مفعول بأخذ عَلَى الْإِعْمَالِ إِذْ تَنَازَعَهُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ: أَخْذُ رَبِّكَ، وأخذ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهِيَ ظَالِمَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ مُوجِعٌ صَعْبٌ عَلَى الْمَأْخُوذِ.

وَالْأَخْذُ هُنَا أَخْذُ الْإِهْلَاكِ.

إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِهْلَاكِهِمْ لَآيَةً لَعَلَامَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ، وَهِيَ دَارُ الْعَمَلِ فَلَأَنْ يُعَذَّبُوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ أَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا بِاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ. وَوَقَعَ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَفْقَ إِخْبَارِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ صِدْقٌ لَا شَكَّ فِيهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَآيَةً لِمَنْ خَافَ لَعِبْرَةً لَهُ، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ إِلَّا أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا رَأَى عَظَمَتَهُ وَشِدَّتَهُ اعْتَبَرَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ فَيَكُونُ لَهُ عِظَةً وَعِبْرَةً وَلُطْفًا فِي زِيَادَةِ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَنَحْوُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى «1» ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالنَّاسُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ رَافِعُهُ مَجْمُوعٌ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد

(1) سورة النازعات: 79/ 26.

ص: 208

الضَّمِيرِ فِي مَجْمُوعٌ، وَقِيَاسُهُ على إعرابه مجموعون، ومجموع لَهُ النَّاسُ عِبَارَةٌ عَنِ الحشر، ومشهود عَامٌّ يَشْهَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ أُوثِرَ اسْمُ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ؟

(قُلْتُ) : لِمَا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ دِلَالَتِهِ عَلَى ثَبَاتِ مَعْنَى الْجَمْعِ لِلْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِيعَادًا مَضْرُوبًا لِجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً، وَهُوَ أَثْبَتُ أَيْضًا لِإِسْنَادِ الْجَمْعِ إِلَى النَّاسِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْهُ، وَفِيهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ وَثَبَاتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْفِعْلِ. وَمَعْنَى مَشْهُودٌ، مَشْهُودٌ فِيهِ، فَاتُّسِعَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ إجراء له مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى السَّعَةِ لِقَوْلِهِ:

وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا وَالْمَعْنَى: يَشْهَدُ فِيهِ الْخَلَائِقُ الْمَوْقِفَ لَا يَغِيبُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِفُلَانٍ: مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، وَطَعَامٌ مَحْضُورٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلِ الْيَوْمُ مَشْهُودًا فِي نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ «1» لِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْهَوْلِ وَالْعِظَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، وَكَوْنُهُ مَشْهُودًا فِي نَفْسِهِ لَا يُمَيِّزُهُ، إِذْ هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَيَّامِ فِي كَوْنِهَا مَشْهُودَةً. وَمَا نُؤَخِّرُهُ أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَزَاءِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أَيْ لِقَضَاءٍ سَابِقٍ قَدْ نَفَذَ فِيهِ بِأَجَلٍ مَحْدُودٍ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَنَافِعٌ: يَأْتِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا، وَحَذْفِهَا وَقْفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَسَقَطَتْ فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ عُثْمَانَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَأْتُونَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتُهَا وَصْلًا وَوَقْفًا هُوَ الْوَجْهُ، وَوَجْهُ حَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ التَّشْبِيهُ بِالْفَوَاصِلِ، وَقْفًا وَوَصْلًا التَّخْفِيفُ كَمَا قَالُوا: لَا أَدْرِ وَلَا أُبَالِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ كَثِيرٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ:

كَفَّاكَ كف ما يليق دِرْهَمًا

جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِيَأْتِي ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي نُؤَخِّرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:

ذَلِكَ يَوْمٌ، وَالنَّاصِبُ لَهُ لَا تَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ يَوْمَ يَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ عِظَمِ الْمَهَابَةِ وَالْهَوْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَهُوَ نَظِيرُ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ

(1) سورة البقرة: 2/ 185.

ص: 209

الرَّحْمنُ «1» هُوَ نَاصِبٌ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «2» وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِ الْيَوْمِ إِتْيَانُ أَهْوَالِهِ وَشَدَائِدِهِ، إِذِ الْيَوْمُ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِإِتْيَانِ الْيَوْمِ.

وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَأْتِي ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ قَالَ: كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «3» وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ

«4» وَجَاءَ رَبُّكَ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ «5» وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَنْتَصِبَ يَوْمَ يَأْتِي بِاذْكُرْ أَوْ بِالِانْتِهَاءِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، أَيْ يَنْتَهِي الْأَجَلُ يَوْمَ يَأْتِي. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ لَا تَكَلَّمُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَشْهُودٍ، أَوْ نَعْتًا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ يَوْمَ يَأْتِي إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي يَأْتِي، وَهُوَ الْعَائِدُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ يَوْمٌ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا عَائِدُ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي، أَوْ يَوْمَ يَأْتِي يُرَادُ بِهِ الْحِينُ وَالْوَقْتُ لَا النَّهَارُ بِعَيْنِهِ. وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ كَلَامِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي التَّلَازُمِ وَالتَّسَاؤُلِ وَالتَّجَادُلِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذِهِ مُخْتَصَّةً هُنَا فِي تَكَلُّمِ شَفَاعَةٍ أَوْ إِقَامَةِ حُجَّةٍ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي إِعْرَابِ لَا تَكَلَّمُ كَأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ لَهُ مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يُجَادِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَكُفُّونَ عَنِ الْكَلَامِ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ، وَفِي بَعْضِهَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَمْ يُذْكَرُوا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:

نَفْسٌ، إِذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّقِيُّ مَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَالسَّعِيدُ الَّذِي كُتِبَتْ لَهُ السَّعَادَةُ. وَقِيلَ: مُعَذَّبٌ وَمُنَعَّمٌ، وَقِيلَ: مَحْرُومٌ وَمَرْزُوقٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ

(1) سورة النبأ: 78/ 38.

(2)

سورة النبأ: 78/ 38.

(3)

سورة البقرة: 2/ 210.

(4)

سورة النحل: 16/ 33.

(5)

سورة البقرة: 2/ 255.

ص: 210

وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ آخِرُهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: الزَّفِيرُ زَفِيرُ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ شَهِيقُ الْبِغَالِ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: مُدَّةُ دَوَامِ السموات وَالْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ التأييد كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا أَقَامَ ثَبِيرٌ وَمَا لَاحَ كَوْكَبٌ، وَضَعَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ لِلتَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِفَنَاءِ ثَبِيرٍ أَوِ الْكَوْكَبِ، أَوْ عدم فنائهما. وقيل: سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا بُدَّ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «1» وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «2» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مما يقلهم ويظلمهم، إِمَّا سَمَاءٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ، أو يظلهم العرش وكلما أَظَلَّكَ فَهُوَ سَمَاءٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إِلَى النُّورِ الَّذِي أُخِذَتَا مِنْهُ، فَهُمَا دَائِمَتَانِ أَبَدًا فِي نُورِ الْعَرْشِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الزَّمَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ فِي النَّارِ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَفْصِلُ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَوْنِ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ يَخْلُو فِيهِ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْخُلُودِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، وَيَكُونُ الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَلَيْسُوا خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِذْ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْهَا وَصَارُوا فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ الَّذِينَ شَقُوا شَامِلًا لِلْكُفَّارِ وَعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ مَا تَأَتَّى فِي أَهْلِ النَّارِ، إِذْ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لَا يَخْلُدُ فِيهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الَّذِي فَاتَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّهُمْ بِفَوَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا الْجَنَّةَ وَخُلِّدُوا فِيهَا صَدَقَ عَلَى الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ مَا خُلِّدُوا فِي الْجَنَّةِ تَخْلِيدَ مَنْ دَخَلَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ فِي خَالِدِينَ، وَتَكُونُ مَا وَاقِعَةً عَلَى نَوْعِ مَنْ يَعْقِلُ، كما

(1) سورة ابراهيم: 14/ 48.

(2)

سورة الزمر: 39/ 74

ص: 211

وَقَعَتْ فِي قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» أَوْ تَكُونُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى وُقُوعَهَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ مُطْلَقًا، وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى فِي قِصَّةِ النَّارِ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قِصَّةِ الْجَنَّةِ هُمْ، أَوْ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَا خُلِّدُوا فِيهَا خُلُودَ مَنْ دَخَلَهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاء رَبُّكَ، وَقَدْ ثَبَتَ خُلُودُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ؟ (قُلْتُ) : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْخُلُودِ فِي عَذَابِ النَّارِ، وَمِنَ الْخُلُودِ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ وَحْدَهُ، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ وَبِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ يُسَاوِي عَذَابَ النَّارِ، وَبِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا كُلِّهَا وَهُوَ سَخَطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَخَسْؤُهُ لَهُمْ وَإِهَانَتُهُ إِيَّاهُمْ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ لَهُمْ مَعَ تَبَوُّءِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا وَأَجَلُّ مَوْقِعًا مِنْهُمْ، وَهُوَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» وَلَهُمْ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ سِوَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ مَا لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ إِلَّا هُوَ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، أَنَّهُ يَفْعَلُ بِأَهْلِ النَّارِ، مَا يُرِيدُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا يُعْطِي أَهْلَ الْجَنَّةِ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يَخْدَعَنَّكَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يُنَادِي عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَيُسَجِّلُ بِافْتِرَائِهِمْ. وَمَا ظَنُّكَ بِقَوْمٍ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ لِمَا رَوَى لَهُمْ بَعْضُ الثَّوَابِتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أحد، وذلك عند ما يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الضُّلَّالِ مَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ الْمُبِينِ زَادَنَا اللَّهُ هِدَايَةً إِلَى الْحَقِّ وَمَعْرِفَةً بِكِتَابِهِ، وَتَنْبِيهًا عَنْ أَنْ نَغْفُلَ عَنْهُ.

وَلَئِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ أَبِي الْعَاصِ فَمَعْنَاهُ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ، فَذَلِكَ خُلُوُّ جَهَنَّمَ وَصَفْقُ أَبْوَابِهَا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ غَيْرِ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ، إِذْ يَنْتَقِلُونَ إلى الزمهرير فلا يصدق عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ، فَقَدْ يَتَمَشَّى.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِدِينَ، فَلَا يَتَمَشَّى لِأَنَّهُمْ مَعَ مَا أعطاهم

(1) سورة النساء: 4/ 3. [.....]

(2)

سورة التوبة: 9/ 72.

ص: 212

اللَّهُ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَمَا نفضل عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ سِوَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، لَا يُخْرِجُهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا، بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا إِلَى الزَّمْهَرِيرِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، فَقِيلَ فِيهِ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ كَلَامٍ، فَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» اسْتِثْنَاءٌ فِي وَاجِبٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يُوصَفَ بِمُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا

رُوِيَ أَنَّ جَهَنَّمَ تُخَرَّبُ وَيُعْدَمُ أَهْلُهَا، وَتَخْفُقُ أَبْوَابُهَا، فَهُمْ على هذا يخدلون حَتَّى يَصِيرَ أَمْرُهُمْ إِلَى هذا

وهذا قول محيل. وَالَّذِي رُوِيَ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا تَخْلُو مِنَ النَّارِ إِنَّمَا هُوَ الدَّرْكُ الْأَعْلَى الْمُخْتَصُّ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى جَهَنَّمُ، وَسُمِّيَ الْكُلُّ بِهِ تَجَوُّزًا. وَقِيلَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وما شَاءَ اللَّهُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى سِوَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ كَمَا تَقُولُ: لِي عِنْدَكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ إِلَّا الْأَلْفَ الَّتِي كُنْتُ أَسْلَفْتُكَ، بِمَعْنَى سِوَى تِلْكَ الْأَلْفِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِدِينَ فيها ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: سِوَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ كَالزَّمْهَرِيرِ. وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مدة السموات وَالْأَرْضِ الَّتِي فَرَطَتْ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فِي الْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ فِي دُخُولِ النَّارِ إِذْ دُخُولُهُمْ إِنَّمَا هُوَ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَفِي النَّارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ أبو نصرة عَنْ جَابِرٍ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، ثُمَّ أَخْبَرَ مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ بِعَذَابٍ يَكُونُ جَزَاؤُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَلَا يُدْخِلُهُ النَّارَ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، قِيلَ: كَقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «2» أَيْ كَمَا قَدْ سَلَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:

شُقُوا بِضَمِّ الشِّينِ، وَالْجُمْهُورِ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ والجمهور

(1) سورة الفتح: 48/ 27.

(2)

سورة النساء: 4/ 22.

ص: 213