المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

عَلَيْهِمْ مَعَ هَذِهِ الرُّؤْيَا غَيْرَهَا. وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلْمٍ، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ أَيْ: لَسْنَا مِنْ أَهْلِ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَحْلَامُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهَا أَرَادُوا بِهَا الْمَوْصُوفَةَ بِالتَّخْلِيطِ وَالْأَبَاطِيلِ أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ الَّتِي هِيَ أَضْغَاثٌ بِعَالِمِينَ أَيْ: لَا يَتَعَلَّقُ عِلْمٌ لَنَا بِتَأْوِيلِ تِلْكَ، لِأَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لَهَا إِنَّمَا التَّأْوِيلُ لِلْمَنَامِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ نَفْيٌ لِلْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْمَنَامِ الصَّحِيحِ، وَلَا تَصَوُّرُ عِلْمِهِمْ. وَالْبَاءُ فِي بِتَأْوِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بقوله بعالمين.

[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَاّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَاّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)

قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

ص: 282

أَمَهَ يَأْمَهُ أَمَهًا وَأَمْهًا نَسِيَ. يُغَاثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغَوْثِ وَهُوَ الْفَرَجُ، يُقَالُ:

أَغَاثَهُمُ اللَّهُ فَرَّجَ عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَيْثِ تَقُولُ: غِيثَتِ الْبِلَادُ إِذَا أُمْطِرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيَّةِ: غِثْنَا مَا شِئْنَا. الْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ خَطَرٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خُطُوبٍ قَالَ:

وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ

بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ

حَصْحَصَ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْخَفَاءِ، قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصَّةِ حَصْحَصَ الْحَقُّ بَانَتْ حِصَّتُهُ مِنْ حِصَّةِ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا مِنْ حَصْحَصَ الْبَعِيرُ أَلْقَى ثَفِنَاتِهِ لِلْإِنَاخَةِ قَالَ: حَصْحَصَ فِي صُمِّ الصَّفَا ثَفِنَاتِهِ. الْجِهَازُ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ مِنْ زَادٍ وَمَتَاعٍ، وَكُلُّ مَا يُحْمَلُ، وَجِهَازُ الْعَرُوسِ مَا يَكُونُ مَعَهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالشُّورَةِ، وَجِهَازُ الْمَيِّتِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دَفْنِهِ. الرَّحْلُ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْمَرْكُوبِ مِنْ مَتَاعِ الرَّاكِبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَمْعُهُ رِحَالٌ فِي الْكَثْرَةِ، وَأَرْحُلٌ فِي الْقِلَّةِ. مَارَ يَمِيرُ، وَأَمَارَ يَمِيرُ، إِذَا جَلَبَ الْخَيْرَ وَهِيَ الْمِيرَةُ قَالَ:

بَعَثْتُكَ مَائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلًا

مَتَى يَأْتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ

الْبَعِيرُ فِي الْأَشْهَرِ الْجَمَلُ مُقَابِلُ النَّاقَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى النَّاقَةِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَلِ

ص: 283

فَيَقُولُ: عَلَى هَذَا نِعْمَ الْبَعِيرُ، الْجَمَلُ لِعُمُومِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْأَشْهَرِ لِتَرَادُفِهِ. وَفِي لُغَةٍ تُكْسَرُ بَاؤُهُ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَبْعِرَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى بِعِرَانٍ.

وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ: لَمَّا اسْتَثْنَى الْمَلِكُ فِي رُؤْيَاهُ وَأَعْضَلَ عَلَى الْمَلَأِ تَأْوِيلَهَا، تَذَكَّرَ النَّاجِي مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ سَاقِي الْمَلِكِ يُوسُفَ، وَتَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ وَرُؤْيَا صَاحِبِهِ، وَطَلَبَهُ إِلَيْهِ لِيَذْكُرَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ. وَادَّكَرَ أَيْ تَذَكَّرَ مَا سَبَقَ لَهُ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ: مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَادَّكَرَ حَالِيَّةٌ، وَأَصْلُهُ: وَاذْتَكَرَ أُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا وَأُدْغِمَتِ الذَّالُ فِيهَا فَصَارَ ادَّكَرَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَاذَّكَرَ بِإِبْدَالِ التَّاءِ ذَالًا، وَإِدْغَامُ الذَّالِ فِيهَا. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: بَعْدَ إِمَّةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى يُوسُفَ فِي تَقْرِيبِ إِطْلَاقِهِ، وَالْأُمَّةُ النِّعْمَةُ قَالَ:

أَلَا لَا أَرَى ذَا إِمَّةٍ أَصْبَحَتْ بِهِ

فَتَتْرُكُهُ الْأَيَّامُ وَهِيَ كَمَا هِيَا

قَالَ الْأَعْلَمُ: الْأُمَّةُ النِّعْمَةُ، وَالْحَالُ الْحَسَنَةُ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو: بَعْدَ أَمَهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْمِيمُ مُخَفَّفَةٌ، وَهَاءٌ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَاخْتَلَفَ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَيْضًا مُجَاهِدٌ، وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ: بَعْدَ أُمْهِ بِسُكُونِ الْمِيمِ، مَصْدَرُ أَمَهَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْمِيمِ فَقَدْ أَخْطَأَ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي نِسْبَتِهِ الْخَطَأَ إِلَى القراء. أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ عَمَّنْ عِنْدَهُ عِلْمُهُ لَا مِنْ جِهَتِي.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَنَا أَتِيكُمُ مُضَارِعُ أَتَى مِنَ الْإِتْيَانِ، وَكَذَا فِي الْإِمَامِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ:

فَأَرْسِلُونِ، أَيِ ابْعَثُونِي إِلَيْهِ لِأَسْأَلَهُ، وَمُرُونِي بِاسْتِعْبَارِهِ، اسْتَأْذَنَ فِي الْمُضِيِّ إِلَى يُوسُفَ.

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي السِّجْنِ فِي غَيْرِ مَدِينَةِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا، وَيَرْسُمُ النَّاسُ الْيَوْمَ سِجْنَ يُوسُفَ فِي مَوْضِعٍ عَلَى النِّيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُسْطَاطِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَأَرْسِلُوهُ إِلَى يُوسُفَ فأتاه فقال: والصديق بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ كَالشَّرِّيبِ وَالسِّكِّيرِ، وَكَانَ

ص: 284

قَدْ صَحِبَهُ زَمَانًا وَجَرَّبَ صِدْقَهُ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ كَتَأْوِيلِ رُؤْيَاهُ وَرُؤْيَا صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أَيْ: بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. وَاحْتَرَزَ بِلَفْظَةِ لَعَلِّي، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ يَخْتَرِمَ دُونَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، كَالتَّعْلِيلِ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ وَمَكَانَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَيَطْلُبُونَكَ وَيُخَلِّصُونَكَ مِنْ مِحْنَتِكَ، فَتَكُونُ لَعَلَّ كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: أَفْتِنَا. قَالَ: تَزْرَعُونَ إِلَى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ يُوسُفَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوْلِ: أَحَدُهَا: تَعْبِيرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ.

وَالثَّانِي: عَرْضُ رَأْيٍ وَأَمَرَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. وَالثَّالِثُ: الْإِعْلَامُ بِالْغَيْبِ فِي أَمْرِ الْعَامِ الثَّامِنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ غَيْبًا، بَلْ عِلْمُ الْعِبَارَةِ أَعْطَى انْقِطَاعَ الْخَوْفِ بَعْدَ سَبْعٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْأَخْصَبُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دأبا خبر، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَتَوَالَى لَهُمْ هذه السنون السبع لَا يَنْقَطِعُ فِيهَا زَرْعُهُمْ لِلرَّيِّ الَّذِي يُوجَدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ «1» وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِنْجَازِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ وُجِدَ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ في معنى الأمر قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ فِي سُنْبُلِهِ عَلَى أَنَّ تَزْرَعُونَ فِي مَعْنَى ازْرَعُوا، بَلْ تَزْرَعُونَ إِخْبَارُ غَيْبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ تَوَالِي الزَّرْعِ سَبْعَ سِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فَهُوَ أَمْرُ إِشَارَةٍ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوهُ. وَمَعْنَى دَأَبًا: مُلَازَمَةً، كَعَادَتِكُمْ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: دَأَبًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَأَبَ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِنْ لَفْظِهِ أَيْ: تَدَابُونَ دَأَبًا، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَعِنْدَ المبرد بتزرعون بِمَعْنَى تَدْأَبُونَ، وَهِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: دَائِبِينَ، أَوْ ذَوِي دَأْبٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تزرعون. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا حَصَدْتُمْ شرطية أو موصولة، فذروه فِي سُنْبُلِهِ إِشَارَةً بِرَأْيِ نَافِعٍ بِحَسَبِ طَعَامِ مِصْرَ وَحِنْطَتِهَا الَّتِي لَا تَبْقَى عَامَيْنِ بِوَجْهٍ إِلَّا بِحِيلَةِ إِبْقَائِهَا فِي السُّنْبُلِ، فَإِذَا بَقِيَتْ فِيهَا انْحَفَظَتْ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُوا الزَّرْعَ فِي السُّنْبُلِ إِلَّا مَا لَا غِنَى عَنْهُ لِلْأَكْلِ، فَيَجْتَمِعُ الطَّعَامُ وَيَتَرَكَّبُ وَيُؤْكَلُ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ، فَإِذَا جَاءَتِ السُّنُونَ الْجَدْبَةُ تُقُوِّتَ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُدَّخَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: مِمَّا يَأْكُلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ أَيْ: يَأْكُلُ النَّاسُ، وَحَذَفَ الْمُمَيَّزَ فِي قَوْلِهِ: سَبْعٌ شِدَادٌ أَيْ: سَبْعُ سِنِينَ شِدَادٌ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: سَبْعُ سِنِينَ عَلَيْهِ. وَأَسْنَدَ

(1) سورة الصف: 61/ 11.

ص: 285

الْأَكْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: يَأْكُلْنَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ فِيهِمَا كَمَا قَالَ: وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1» . وَمَعْنَى تُحْصِنُونَ تُحْرِزُونَ وَتُخْبِئُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمَلْجَأُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: يُغَاثُ مِنَ الْغَيْثِ، وَقِيلَ: مِنَ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْفَرَجُ.

فَفِي الْأَوَّلِ بُنِيَ مِنْ ثُلَاثِيٍّ، وَفِي الثَّانِي مِنْ رُبَاعِيٍّ، تَقُولُ: غَاثَنَا اللَّهُ مِنَ الْغَيْثِ، وَأَغَاثَنَا مِنَ الْغَوْثِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: تَعْصِرُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَصْرِ النَّبَاتِ كَالْعِنَبِ وَالْقَصَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَالْفِجْلِ وَجَمِيعِ مَا يُعْصَرُ، وَمِصْرُ بَلَدُ عَصِيرٍ لِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَالْحَلْبُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ عَصْرٌ لِلضُّرُوعِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْصِرُوا شَيْئًا مُدَّةَ الْجَدْبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُصْرَةِ، وَالْعَصْرُ وَهُوَ الْمُنَجِّي، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي زُبَيْدٍ فِي عُثْمَانَ رضي الله عنه:

صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ

وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ الْمَنْجُودِ

فَالْمَعْنَى: يَنْجُونَ بِالْعُصْرَةِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ يُعْصَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْ عِيسَى أَيْضًا: تُعْصَرُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ: يَنْجُونَ مِنْ عَصْرِهِ إِذَا أَنْجَاهُ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: يُغَاثُ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسْتَنِيرِ: مَعْنَاهُ يُمْطَرُونَ، مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحَابَةُ مَاءَهَا عَلَيْهِمْ فَجُعِلُوا مُعْصِرِينَ مَجَازًا بِإِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ لِلْمَاءِ الَّذِي يُمْطَرُونَ بِهِ. وحكى النقاش أنه قرىء يُعَصِّرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَشَدِّهَا، مِنْ عَصَّرَ مُشَدَّدًا لِلتَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَفِيهِ تِعِصِّرُونَ، بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ وَالصَّادِ وَشَدِّهَا، وَأَصْلُهُ تَعْتَصِرُونَ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ وَنَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَأَتْبَعَ حَرَكَةَ التَّاءِ لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اعْتَصَرَ الْعِنَبَ وَنَحْوِهِ. وَمِنِ اعْتَصَرَ بِمَعْنَى نَجَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ

كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي

أَيْ نَجَاتِي. تَأَوَّلَ يُوسُفُ عليه السلام الْبَقَرَاتِ السِّمَانَ وَالسُّنْبُلَاتِ الْخُضْرَ بسين مُخْصِبَةٍ، وَالْعِجَافَ وَالْيَابِسَاتِ بِسِنِينَ مُجْدِبَةٍ، ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا بِمَجِيءِ الْعَامِ الثَّامِنِ مُبَارَكًا خَصِيبًا كَثِيرَ الْخَيْرِ غَزِيرَ النِّعَمِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: زَادَهُ اللَّهُ عِلْمَ سَنَةٍ، وَالَّذِي مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ هُوَ التَّفْضِيلُ بِحَالِ الْعَامِ بِأَنَّهُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ بِانْتِهَاءِ السَّبْعِ الشِّدَادِ مَجِيءُ الْخِصْبِ.

(1) سورة يونس: 10/ 67.

ص: 286

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَحَفِظَ الرَّسُولُ مَا أَوَّلَ بِهِ يُوسُفُ الرُّؤْيَا، وَجَاءَ إِلَى الْمَلِكِ وَمَنْ أَرْسَلَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمَلِكُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي تَضَاعِيفِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَحْذُوفَاتٌ يُعْطِيهَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَ الْمَلِكِ فَنَصَّ عَلَيْهِمْ مَقَالَةَ يُوسُفَ، فَرَأَى الْمَلِكُ وَحَاضِرُوهُ نُبْلَ التَّعْبِيرِ، وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَتَضَمُّنَ الْغَيْبِ فِي أَمْرِ الْعَامِ الثَّامِنِ مَعَ مَا وَصَفَهُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْمَنَامِ الْمُتَقَدِّمِ، فَعَظُمَ يُوسُفُ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ وَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَرَ بِأَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ أَيْ: إِلَى الْمَلِكِ وَقُلْ لَهُ: مَا بَالُ النِّسْوَةِ؟ وَمَقْصِدُ يُوسُفَ عليه السلام إِنَّمَا كَانَ وَقُلْ لَهُ يَسْتَقْصِي عَنْ ذَنْبِي، وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِي، هَلْ سُجِنْتُ بِحَقٍّ أَوْ بِظُلْمٍ؟ وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ يُوسُفَ إِنَاءَةً وَصَبْرًا وَطَلَبًا لِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِيمَا رُوِيَ خَشِيَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَنَالَ مِنَ الْمَلِكِ مَرْتَبَةً، وَيَسْكُتَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ صَفْحًا، فَيَرَاهُ النَّاسُ بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَبَدًا وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ، فَأَرَادَ يُوسُفُ عليه السلام أَنْ يُبَيِّنَ بَرَاءَتَهُ وَيَتَحَقَّقَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْعِفَّةِ وَالْخَيْرِ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ لِلْإِحْظَاءِ وَالْمَنْزِلَةِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا تَأَنَّى وَتَثَبَّتَ فِي إِجَابَةِ الْمَلِكِ، وَقَدَّمَ سُؤَالَ النِّسْوَةِ لِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ سَاحَتِهِ عَمَّا فُرِقَ بِهِ وَسُجِنَ فِيهِ، لِئَلَّا يَتَسَلَّقَ بِهِ الْحَاسِدُونَ إِلَى تَقْبِيحِ أَمْرِهِ عِنْدَهُ، وَيَجْعَلُوهُ سُلَّمًا إِلَى حَطِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ، وَلِئَلَّا يقولوا: ما خلد فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ إِلَّا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَجُرْمٌ كَبِيرٌ حَقَّ بِهِ أَنْ يُسْجَنَ وَيُعَذَّبَ، وَيُكْشَفَ سِرُّهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي نَفْيِ التُّهَمِ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ إِبْقَاءِ الْوُقُوفِ فِي مَوَاقِفِهَا.

قَالَ عليه السلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ»

انْتَهَى. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَانَ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ قَدْ أَثْبَتَ عَلَى الْقُضَاةِ أَنَّ رِجْلَهُ لَمْ تُقْطَعْ فِي خِيَانَةٍ وَلَا فَسَادٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ فِي كُلِّ بَلَدٍ دَخَلَهُ خَوْفًا مِنْ تُهْمَةِ السُّوءِ. وَإِنَّمَا قَالَ: سَلِ الْمَلِكَ عَنْ شَأْنِ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَقُلْ سَلْهُ أَنْ يُفَتِّشَ عَنْهُنَّ، لِأَنَّ السُّؤَالَ مِمَّا يُهَيِّجُ الإنسان ويحركه للبحث عنما سُئِلَ عَنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ لِيُجْرِيَ التَّفْتِيشَ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِصَّةِ، وَقَصَّ الْحَدِيثَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ بَرَاءَتُهُ بَيَانًا مَكْشُوفًا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَمِنْ كَرَمِ يُوسُفَ عليه السلام أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ زَوْجَ الْعَزِيزِ

ص: 287

مَعَ مَا صَنَعَتْ بِهِ وَتَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنَ السِّجْنِ وَالْعَذَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُقَطِّعَاتِ الْأَيْدِي.

وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ النُّسْوَةِ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ اللاي بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ الَّتِي. إِنَّ رَبِّي أَيْ: إِنَّ اللَّهَ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. أَرَادَ أَنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِبُعْدِ عَوْدِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِعِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُنَّ كِدْنَهُ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا قُذِفَ بِهِ. أَوْ أَرَادَ الْوَعِيدَ لَهُنَّ، أَوْ هُوَ عَلِيمٌ بِكَيْدِهِنَّ فَيُجَازِيهِنَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّبِّ الْعَزِيزَ مَوْلَاهُ، فَفِي ذَلِكَ اسْتِشْهَادٌ بِهِ وَتَقْرِيعٌ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَسُوغُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِكَيْدِهِنَّ عَائِدٌ عَلَى النِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ لَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ تَوْقِيفٍ عَلَى ذَنْبٍ. قَالَ: مَا خَطْبُكُنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ يُوسُفُ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ وَامْرَأَةَ الْعَزِيزِ وَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ؟ وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمْنَهُ بِالْقِصَّةِ، وَنَزَّهَ جَانِبَ يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمُرَاوَدَتُهُنَّ لَهُ قَوْلُهُنَّ لِيُوسُفَ: أَطِعْ مَوْلَاتَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلْ وَجَدْتُنَّ مِنْهُ مَيْلًا؟ لَكُنَّ قُلْنَ: حَاشَ لِلَّهِ تَعَجُّبًا مِنْ عِفَّتِهِ، وَذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الرِّيبَةِ، وَمِنْ نَزَاهَتِهِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجَابَ النِّسَاءُ بِجَوَابٍ جَيِّدٍ تَظْهَرُ مِنْهُ بَرَاءَةُ أَنْفُسِهِنَّ جُمْلَةً، وَأَعْطَيْنَ يُوسُفَ بَعْضَ بَرَاءَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا قَرَّرَهُنَّ أَنَّهُنَّ رَاوَدْنَهُ قُلْنَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ: حَاشَ لِلَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ:

حَاشَ لِلَّهِ، فِي جِهَةِ يُوسُفَ عليه السلام. وَقَوْلُهُنَّ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ لَيْسَ بِإِبْرَاءٍ تَامٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِبْرَاءُ التَّامُّ وَصْفُ الْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِنَّ، فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مَقَالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْخِزْيِ قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.

وقرىء حُصْحِصَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالْمُرَاوَدَةِ، وَالْتَزَمَتِ الذَّنْبَ، وَأَبْرَأَتْ يُوسُفَ الْبَرَاءَةَ التَّامَّةَ.

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قَالَتْ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ، لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي غَيْبَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، وَأَرْمِيهِ بِذَنْبٍ هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ. ثُمَّ اعْتَذَرَتْ عَمَّا وَقَعَتْ فِيهِ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْبَشَرُ مِنَ الشَّهَوَاتِ بِقَوْلِهَا: وما أبرىء نَفْسِي، وَالنُّفُوسُ مَائِلَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. وَقَالَ الزمخشري: وما أبرىء نَفْسِي مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنِّي قَدْ خُنْتُهُ حِينَ قَذَفْتُهُ وَقُلْتُ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، وَأَوْدَعْتُهُ السِّجْنَ تُرِيدُ الِاعْتِذَارَ لِمَا كَانَ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا نَفْسًا رَحِمَهَا اللَّهُ بِالْعِصْمَةِ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ

ص: 288

رَحِيمٌ، اسْتَغْفَرَتْ رَبَّهَا وَاسْتَرْحَمَتْهُ مِمَّا ارْتَكَبَتْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ إِلَى آخِرِهِ، مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ رَبْطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ يُوسُفَ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَالْتِمَاسِهِ البراءة أي: هذا ليعلم سَيِّدِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حِينَ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَلَامَهَا إِلَى قَوْلِهَا: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا إِلَى قَوْلِهَا وَصُنْعِ اللَّهَ فِيهِ، وَهَذَا يَضْعُفُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حُضُورَهُ مَعَ النِّسْوَةِ عِنْدَ الْمَلِكِ. فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ: ائْتُونِي بِهِ؟ وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ فَقَالَ: أَيْ ذَلِكَ التَّثَبُّتُ وَالتَّشَمُّرُ لِظُهُورِ الْبَرَاءَةِ، لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فِي حُرْمَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ لَا يُنْفِذُهُ وَلَا يُسَدِّدُهُ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِامْرَأَتِهِ فِي خِيَانَتِهَا فِي أَمَانَةِ زَوْجِهَا، وَبِهِ فِي خِيَانَتِهِ أَمَانَةَ اللَّهِ حِينَ سَاعَدَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى حَبْسِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِأَمَانَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَائِنًا لَمَا هَدَى اللَّهُ كَيْدَهُ، وَلَا سَدَّدَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلَّهِ وَيَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهَا مُزَكِّيًا، وَلِحَالِهَا فِي الْأَمَانَةِ مُعْجَبًا كَمَا

قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»

وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمَانَةِ لَيْسَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَعِصْمَتِهِ. فَقَالَ: وَمَا أبرىء نَفْسِي مِنَ الزَّلَلِ، وَمَا أَشْهَدُ لَهَا بِالْبَرَاءَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا أُزَكِّيهَا، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. أَرَادَ الْجِنْسَ أَيْ: هَذَا الْجِنْسُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ، وَيَحْمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكْثِيرٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِشْكَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ قَالَ:

(فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : كَفَى بِالْمَعْنَى دَلِيلًا قَائِدًا إِلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلِهِ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ يُخَاطِبُهُمْ وَيَسْتَشِيرُهُمْ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ تَقَدَّمَهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقَالُوا ذَلِكَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ خِطَابًا لِلْمَلَأِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ خِطَابًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلَا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: غَائِبًا عَنْهُ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: غَائِبًا عَنِّي، أَوْ ظَرْفًا أَيْ بِمَكَانِ الْغَيْبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ

ص: 289

الْجِنْسَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا النَّفْسَ الَّتِي رَحِمَهَا رَبِّي فَلَا تَأْمُرُ بِالسُّوءِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً من الضمير المستكن في أَمَّارَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنَى مِنْ مَفْعُولِ أَمَّارَةٌ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ صَاحِبَهَا، إِلَّا الَّذِي رَحِمَهُ رَبِّي فَلَا تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنَى مِنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ الْمَفْهُومِ عُمُومُهُ مِنْ مَا قبل الاستثناء، وما ظَرْفِيَّةٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مُدَّةَ بَقَائِهَا إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ اللَّهِ الْعَبْدَ وَذَهَابِهِ بِهَا عَنِ اشْتِهَاءِ الْمَعَاصِي. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، وما مَصْدَرِيَّةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَيْ: وَلَكِنْ رَحْمَةَ رَبِّي هِيَ الَّتِي تَصْرِفُ الْإِسَاءَةَ.

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ:

رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَهُ فَقَالَ: أَجِبِ الْمَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَدَعَا لِأَهْلِهِ اللَّهُمَّ عَطِّفَ عَلَيْهِمْ قُلُوبَ الْأَخْيَارِ، وَلَا تُعْمِ عَلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ فِي الْوَاقِعَاتِ. وَكَتَبَ عَلَى بَابِ السِّجْنِ: هَذِهِ مَنَازِلُ الْبَلْوَى، وَقُبُورُ الْأَحْيَاءِ، وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَنَظَّفَ مِنْ دَرَنِ السِّجْنِ، وَلَبِسَ ثِيَابًا جُدُدًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِخَيْرِكَ مِنْ خَيْرِهِ، وَأَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ مِنْ شَرِّهِ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَقَالَ: مَا هَذَا اللِّسَانُ؟ فَقَالَ: لِسَانُ آبَائِي، وَكَانَ الْمَلِكُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِينَ لِسَانًا فَكَلَّمَهُ بِهَا، فَأَجَابَهُ بِجَمِيعِهَا، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ وَقَالَ:

أَيُّهَا الصِّدِّيقُ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ رُؤْيَايَ مِنْكَ قَالَ: رأيت بقرات سمان فَوَصَفَ لَوْنَهُنَّ وَأَحْوَالَهُنَّ، وَمَا كَانَ خُرُوجَهُنَّ، وَوَصَفَ السَّنَابِلَ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ لَا يَخْرِمُ مِنْهَا حَرْفًا، وَقَالَ لَهُ: مِنْ حِفْظِكَ أَنْ تَجْعَلَ الطَّعَامَ فِي الْأَهْرَاءِ فَيَأْتِيكَ الْخَلْقُ مِنَ النَّوَاحِي يَمْتَارُونَ مِنْكَ، وَيَجْتَمِعُ لَكَ مِنَ الْمَكْنُونِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ. وَكَانَ يُوسُفُ قَصَدَ أَوَّلًا بِتَثَبُّتِهِ فِي السِّجْنِ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى أَعْلَى الْمَنَازِلِ، فَكَانَ اسْتِدْعَاءُ الْمَلِكِ إِيَّاهُ أَوَّلًا بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّؤْيَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: ائْتُونِي بِهِ فَقَطْ، فَلَمَّا فَعَلَ يُوسُفُ مَا فَعَلَ فَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ وَصَبْرُهُ وَهِمَّتُهُ وَجَوْدَةُ نَظَرِهِ وَتَأَنِّيهِ فِي عَدَمِ التَّسَرُّعِ إِلَيْهِ بِأَوَّلِ طَلَبٍ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، فَطَلَبَهُ ثَانِيًا وَمَقْصُودُهُ: اسْتِخْلَاصُهُ لِنَفْسِهِ.

وَمَعْنَى أَسْتَخْلِصْهُ: أَجْعَلْهُ خَالِصًا لِنَفْسِي وَخَاصًّا بِي، وَسَمَّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ مِصْرَ مَلِكًا إِذْ هِيَ حِكَايَةُ اسْمٍ مَضَى حُكْمُهُ وَتَصَرَّمَ زَمَنُهُ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ حُكْمًا لَهُ إِذَا قِيلَ لِكَافِرٍ مَلِكٌ أَوْ أَمِيرٌ، وَلِهَذَا

كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هر قل عَظِيمِ الرُّومِ وَلَمْ

ص: 290

يَقُلْ مَلِكًا وَلَا أَمْيِرًا

، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَالْجَوَابُ مُسَلَّمٌ وَتَسَلَّمُوا. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَظِيمَهُمْ فَتِلْكَ صِفَةٌ لَا تُفَارِقُهُ كَيْفَ مَا تَقَلَّبُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَسَمِعَ الْمَلِكُ كَلَامَ النِّسْوَةِ وَبَرَاءَةَ يُوسُفَ مِمَّا رُمِيَ بِهِ، فَأَرَادَ رُؤْيَتَهُ وَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ فَأَتَاهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بكلمة هُوَ ضَمِيرُ الْمَلِكِ أَيْ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْمَلِكُ وَرَأَى حُسْنَ جَوَابِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ أَيْ: فَلَمَّا كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ، وَرَأَى الْمَلِكُ حُسْنَ مَنْطِقِهِ بِمَا صَدَّقَ به الْخَبَرَ، وَالْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، قَالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَيْ: ذُو مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ، أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: أَمِينٌ آمِينَ، وَالْوَصْفُ بِالْأَمَانَةِ هُوَ الْأَبْلَغُ فِي الْإِكْرَامِ، وَبِالْأَمْنِ يَحُطُّ مِنْ إِكْرَامِ يُوسُفَ. وَلَمَّا وَصَفَهُ الْمَلِكُ بِالتَّمَكُّنِ عِنْدَهُ، وَالْأَمَانَةِ، طَلَبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يُنَاسِبُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَيْ: وَلِّنِي خَزَائِنَ أَرْضِكَ إِنِّي حَفِيظٌ أَحْفَظُ مَا تَسْتَحْفِظُهُ، عَلِيمٌ بِوُجُوهِ التَّصَرُّفِ. وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَفَاءَةِ وَهُمَا مَقْصُودُ الْمُلُوكِ مِمَّنْ يُوَلُّونَهُ، إِذْ هُمَا يَعُمَّانِ وُجُوهَ التَّثْقِيفِ وَالْحِيَاطَةِ، وَلَا خَلَلَ مَعَهُمَا لِقَائِلٍ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِلْحِسَابِ، عَلِيمٌ بِالْأَلْسُنِ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي، عَلِيمٌ بِسِنِي الْجُوعِ. وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَدَلَّ إثنا يُوسُفَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ إِذَا جَهُلَ أَمْرُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّزْكِيَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا. وَعَلَى جَوَازِ عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ التَّاجِرِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ وَالْعَدْلُ، لَا بِمَا يَخْتَارُهُ وَيَشْتَهِيهِ مِمَّا لَا يُسِيغُهُ الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ يُوسُفُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى إِمْضَاءِ حُكْمِ اللَّهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَبَسْطِ الْعَدْلِ، وَالتَّمَكُّنِ مِمَّا لِأَجْلِهِ تُبْعَثُ الْأَنْبِيَاءُ إِلَى الْعِبَادِ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَدْ أَسْلَمَ كَمَا رَوَى مُجَاهِدٌ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ إِلَّا بِتَمْكِينِهِ، فَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْمَلِكُ يُصْدِرُ عَنْ رَأْيِ يُوسُفَ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا رَأَى، فَكَانَ فِي حُكْمِ التَّابِعِ.

وَمَا زَالَ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ يَتَوَلَّوْنَ الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَيْسَ بِصَالِحٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، فَهُمْ مُثَابُونَ عَلَى ذلك إذا عدلوا. وَكَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّمْكِينِ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ أَيْ: يَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَنْزِلًا كُلَّ مَكَانٍ أَرَادَ، فَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِهَا، وَدَخَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِ.

رُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ تَوَجَّهَ بِتَاجِهِ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ، وَرَدَاهُ بِسَيْفِهِ، وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ، وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ، وَفَوَّضَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ أَمَرَهُ وَعَزَلَ قِطْفِيرَ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدُ، فَزَوَّجَهُ الْمَلِكُ امْرَأَتَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا طَلَبْتِ؟ فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ، لِأَنَّ

ص: 291

الْعَزِيزَ كَانَ لَا يَطَأُ، فولدت له ولدين: إفرائيم، وَمَنْشَا. وَأَقَامَ الْعَدْلَ بِمِصْرَ، وَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ الْمَلِكُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَبَاعَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِي سِنِي الْقَحْطِ الطَّعَامَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي السَّنَّةِ الْأُولَى حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ بِالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ، ثُمَّ بِالدَّوَابِّ، ثُمَّ بِالضَّيَاعِ وَالْعَقَارِ، ثُمَّ بِرِقَابِهِمْ، ثُمَّ اسْتَرَقَّهُمْ جَمِيعًا فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ مَلِكًا أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ: كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ اللَّهِ بِي فِيمَا خَوَّلَنِي، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: الرَّأْيُ رَأْيُكَ قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكَ أَنِّي أَعْتَقْتُ أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ. وَكَانَ لَا يَبِيعُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُمْتَارِينَ أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ بَعِيرٍ تَقْسِيطًا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَصَابَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَبِلَادَ الشَّامِ نَحْوَ مَا أَصَابَ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ يَعْقُوبُ بَنِيهِ لِيَمْتَارُوا، وَاحْتَبَسَ بِنْيَامِينَ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ: حَيْثُ نَشَاءُ بِالنُّونِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْيَاءِ يَكُونُ فَاعِلُ نَشَاءُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى يُوسُفَ، وَمَشِيئَتُهُ محذوقة بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ نَبِيُّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ أَيْ: حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا أَيْ: بِنِعْمَتِنَا مِنَ الْمُلْكِ وَالْغِنَى وَغَيْرِهِمَا، وَلَا نُضِيعُ فِي الدُّنْيَا أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، لِأَنَّهُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَفْنَى. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْفَاجِرُ يُعَجَّلُ لَهُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُوَافِقُ مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَالَ يُوسُفَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ حَالَتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا.

وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ. قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ. وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي جاؤوا مِنَ الْقُرَيَاتِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ بِأَرْضِ الشَّامِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَوْلَاجِ مِنْ نَاحِيَةِ الشِّعْبِ إِلَى مِصْرَ لِيَمْتَارُوا مِنْهَا، فَتَوَصَّلُوا إِلَى يُوسُفَ لِلْمِيرَةِ، فَعَرَفَهُمْ لِأَنَّهُ فَارَقَهُمْ وَهُمْ رِجَالٌ، وَرَأَى زِيَّهُمْ قَرِيبًا مِنْ زِيِّهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّ هِمَّتَهُ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِهِمْ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ، فَكَانَ يَتَأَمَّلُ وَيَتَفَطَّنُ.

وَرُوِيَ أَنَّهُمُ انْتَسَبُوا فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: مَا عَرَفَهُمْ حَتَّى تَعَرَّفُوا لَهُ، وَإِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ كَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِطُولِ الْعَهْدِ وَمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ، وَلِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، وَلِذَهَابِهِ عَنْ أَوْهَامِهِمْ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهِ، وَلِبُعْدِ

ص: 292

حَالِهِ الَّتِي بَلَغَهَا مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي فَارَقُوهُ عَلَيْهَا طَرِيحًا فِي الْبِئْرِ مَشْرِيًّا بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، حَتَّى لَوْ تَخَيَّلَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ لَكَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلِأَنَّ الْمُلْكَ مِمَّا يُبَدِّلُ الزِّيَّ وَيُلْبِسُ صَاحِبَهُ مِنَ التَّهَيُّبِ وَالِاسْتِعْظَامِ مَا يُنْكَرُ مِنْهُ الْمَعْرُوفُ. وَقِيلَ: رَأَوْهُ عَلَى زِيِّ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ، فَمَا خَطَرَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ. وَقِيلَ: مَا رَأَوْهُ إِلَّا مِنْ بَعِيدٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ وَحِجَابٌ، وَمَا وَقَفُوا إِلَّا حَيْثُ يَقِفُ طُلَّابُ الْحَوَائِجِ.

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ، وَكَانَ الْجِهَازُ الَّذِي لَهُمْ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي امْتَارُوهُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَدْ كَانَ اسْتَوْضَحَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَهُمْ أَخٌ قَعَدَ عِنْدَ أَبِيهِمْ.

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَهُمْ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِجَمِيعِ أَمْرِهِمْ، فَبَاحَثَهُمْ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ تُرْجُمَانُهِ: أَظُنُّكُمْ جَوَاسِيسَ، فَاحْتَاجُوا إِلَى التَّعْرِيفِ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ رَجُلٍ صِدِّيقٍ، وَكُنَّا اثَّنَيْ عَشَرَ، ذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ فِي الْبَرِيَّةِ، وَبَقِيَ أَصْغَرُنَا عِنْدَ أَبِينَا، وَجِئْنَا نَحْنُ لِلْمِيرَةِ، وَسُقْنَا بِعِيرِ الْبَاقِي مِنَّا وَكَانُوا عَشَرَةً وَلَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا. فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: وَلِمَ تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ؟ قَالُوا: لِمَحَبَّةِ أَبَيْنَا فِيهِ قَالَ: فَأَتَوْنِي بِهَذَا الْأَخِ حَتَّى أَعْلَمَ حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ، وَأَرَى لِمَ أَحَبَّهُ أَبُوكُمْ أَكْثَرَ مِنْكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟

وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَصَصَ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ تُقَارِبُ هَذِهِ فِي الْمَعْنَى،

وَفِي آخِرِهِ قَالَ: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ بِعُيُونٍ، وَأَنَّ الَّذِي تَقُولُونَ حَقٌّ؟ قَالُوا: إِنَّا بِبِلَادٍ لَا يَعْرِفُنَا فِيهَا أَحَدٌ يَشْهَدُ لَنَا. قَالَ: فَدَعُوا بَعْضَكُمْ عِنْدِي رَهِينَةً وَائْتُونِي بِأَخِيكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ وَهُوَ يحمل رِسَالَةٍ مِنْ أَبِيكُمْ حَتَّى أُصَدِّقَكُمْ، فَاقْتَرَعُوا فَأَصَابَ الْقُرْعَةُ شَمْعُونَ، وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فِي يُوسُفَ، فَخَلَّفُوهُ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِنْزَالَهُمْ وَضِيَافَتَهُمْ.

وَقِيلَ: لَمْ يَرْتَهِنْ أَحَدًا، وَرُوِيَ غَيْرُ هَذَا فِي طَلَبِ الْأَخِ مِنْ أَبِيهِمْ.

قِيلَ: كَانَ يُوسُفُ مُلَثَّمًا أَبَدًا سَتْرًا لِجَمَالِهِ، وَكَانَ يَنْقُرُ فِي الصُّوَاعِ فَيُفْهَمُ مِنْ طَنِينِهِ صِدْقَ الْحَدِيثِ أَوْ كَذِبَهُ، فَسُئِلُوا عَنْ أَخْبَارِهِمْ، فَكُلَّمَا صَدَقُوا قَالَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ، فَلَمَّا قَالُوا: وَكَانَ لَنَا أَخٌ أَكَلَهُ الذِّئْبُ أَطَنَّ يُوسُفُ الصُّوَاعَ وَقَالَ: كَذَبْتُمْ، ثُمَّ تَغَيَّرَ لَهُمْ وَقَالَ: أَرَاكُمْ جَوَاسِيسَ، وَكَلَّفَهُمْ سَوْقَ الْأَخِ الباقي ليظهر صدقهم.

وقرىء:

بِجِهَازِهِمْ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَنَكَّرَ أَخٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَخِيكُمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَّفَهُ وعرفهم مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ لَهُمْ، وَلَا أَنَّهُ يُدْرِي مَنْ هُوَ. أَلَا تَرَى فَرْقًا بَيْنَ مَرَرْتُ بِغُلَامِكَ، وَمَرَرْتُ بِغُلَامٍ لَكَ؟ إِنَّكَ فِي التَّعْرِيفِ تَكُونُ عَارِفًا بِالْغُلَامِ، وَفِي التَّنْكِيرِ أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ.

فَالتَّعْرِيفُ يُفِيدُ فَرْعَ عَهْدٍ فِي الْغُلَامِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُخَاطَبِ، وَالتَّنْكِيرُ لَا عَهْدَ فِيهِ الْبَتَّةَ. وَجَائِزٌ أن تخبر عَمَّنْ تَعْرِفُهُ أَخْبَارُ النَّكِرَةِ فَتَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لَنَا وَأَنْتَ تَعْرِفُهُ لِصِدْقِ إِطْلَاقِ النَّكِرَةِ عَلَى

ص: 293

الْمَعْرِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُحَرِّضُهُمْ بِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَخِيهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَوْنَ أني أوف الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أَيِ الْمُضِيفِينَ؟ يَعْنِي فِي قُطْرِهِ وَفِي زَمَانِهِ يُؤْنِسُهُمْ بِذَلِكَ وَيَسْتَمِيلُهُمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ إِلَيْهِ بِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبُونِ، أَنْ يَكُونَ نَهْيًا، وَأَنْ يَكُونَ نَفْيًا مُسْتَقِلًّا وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَحُذِفَتِ النُّونُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، كَمَا حذفت في فبم تبشرون أَنْ يَكُونَ نَفْيًا دَاخِلًا فِي الْجَزَاءِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلٍّ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي، فَيَكُونُ مَجْزُومًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْرُبُونَ لَهُ بِكَذَا وَلَا طَاعَةٍ. وَظَاهِرُ كُلِّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عليه السلام مَعَهُمْ أَنَّهُ بِوَحْيٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الْبِرِّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَبِيهِ وَيَسْتَدْعِيَهُ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ تَكْمِيلَ أَجْرِ يَعْقُوبَ وَمِحْنَتِهِ: وَلِتَتَفَسَّرَ الرُّؤْيَا الْأُولَى قَالُوا: سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ أَيْ:

سَنُخَادِعُهُ وَنَسْتَمِيلُهُ فِي رِفْقٍ إِلَى أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْتِيَ مَعَنَا إِلَيْكَ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُمْ فَاعِلُو ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، لَا نُفَرِّطُ فِيهِ وَلَا نَتَوَانَى. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: لِفِتْيَانِهِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِفِتْيَتِهِ، فَالْكَثْرَةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَأْمُورِينَ، وَالْقِلَّةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ. فَهُمُ الْخَدَمَةُ الْكَائِلُونَ أَمَرَهُمْ بِجَعْلِ الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ الطَّعَامَ فِي رِحَالِهِمْ مُبَالِغَةً فِي اسْتِمَالَتِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا أَيْ: يَعْرِفُونَ حَقَّ رَدِّهَا، وَحَقَّ التَّكَرُّمِ بِإِعْطَاءِ الْبَدَلَيْنِ فَيَرْغَبُونَ فِينَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم، وفرغوا ظروفهم. ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل، ولعلهم يَرْجِعُونَ تَعْلِيقٌ بِتَرَجِّي مَعْرِفَةِ الْبِضَاعَةِ لِلرُّجُوعِ إِلَى يُوسُفَ. قِيلَ: وَكَانَتْ بِضَاعَتُهُمُ النِّعَالَ وَالْأُدُمَ. وَقِيلَ: يَرْجِعُونَ مُتَعَدٍّ، فَالْمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَرُدُّونَ الْبِضَاعَةَ. وَقِيلَ: تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ أَبِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى رَدِّ الْبِضَاعَةِ، لَا يَسْتَحِلُّونَ إِمْسَاكَهَا فَيَرْجِعُونَ لِأَجْلِهَا. وَقِيلَ: جَعَلَهَا تَوْطِئَةً لَجَعْلِ السِّقَايَةِ فِي رَحْلِ أَخِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ لِمَنْ يَتَأَمَّلُ الْقِصَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ مِنْ صِلَتِهِمْ وَجَبْرِهِمْ فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَلِكٌ عَادِلٌ وَهُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ وَنُبُوَّةٍ.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ: أَيْ: رَجَعُوا مِنْ مِصْرَ مُمْتَارِينَ، بَادَرُوا بِمَا كَانَ أَهَمَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْطِئَةِ لِإِرْسَالِ أَخِيهِمْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَتَاعِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِإِحْسَانِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِمْ مِنْ رَدِّ بِضَاعَتِهِمْ. وَأَخْبَرُوا بِمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ الْعَزِيزِ الَّذِي عَلَى إِهْرَاءِ مِصْرَ، وَأَنَّهُمُ اسْتَدْعَى مِنْهُمُ الْعَزِيزُ أَنْ يَأْتُوا بِأَخِيهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَوَاسِيسَ، وَقَوْلُهُمْ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي. وَيَكُونُ مُنِعَ يُرَادُ بِهِ فِي

ص: 294