المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: يَخَافُونَ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ خَاصَّةً، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَالْمَلَائِكَةُ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْصُونَ. وَالْفَوْقِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَإِنْ علقته بيخافون كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: يَخَافُونَ عَذَابَهُ كَائِنًا مِنْ فَوْقِهِمْ، لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ، وَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِرَبِّهِمْ كَانَ حَالًا مِنْهُ أَيْ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ عَالِيًا لَهُمْ قَاهِرًا لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «1» وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «2» وَفِي نِسْبَةِ الْخَوْفِ لِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ السُّجُودُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمَلَائِكَةِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مُدَارُونَ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «3» وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفُ جَلَالٍ وَمَهَابَةٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَخَافُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي من لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِنَفْيِ الِاسْتِكْبَارِ وَتَأْكِيدًا لَهُ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَقَوْلِهِ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِحَسْبِ الشَّرْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ فَبِالتَّسْخِيرِ وَالْقَدْرِ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى مَا نَفَذَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

(1) سورة الأنعام: 6/ 18. [.....]

(2)

سورة الأعراف: 7/ 127.

(3)

سورة الأنبياء: 21/ 28.

ص: 541

وَصَبَ الشَّيْءُ دَامَ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:

ص: 542

لَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ

يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبًا

وَقَالَ حَسَّانُ:

غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ يُسْفَى بِهِ

وَهَزِيمُ رَعْدِهِ وَاصِبُ

وَالْعَلِيلُ وَصِيبٌ، لَكِنَّ الْمَرَضَ لَازِمٌ لَهُ. وَقِيلَ: الْوَصَبُ التَّعَبُ، وَصَبَ الشَّيْءُ شُقَّ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لها. الجوار: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا:

يُدَاوِمُ من صلوات المليك طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَيُرْوَى: يُرَاوِحُ. دَسَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ أَخْفَاهُ فِيهِ. الْفَرْثُ: كَثِيفٌ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَأْكُولِ فِي الْكَرِشِ أَوِ الْمِعَى. النَّحْلُ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ. الْحَفَدَةُ: الْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ، وَمَنْ يُسَارِعُ فِي الطَّاعَةِ حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا، وَمِنْهُ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ أَيْ:

نُسْرِعُ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوَّلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ

بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ

وَقَالَ الْأَعْشَى:

كَلَّفَتْ مَجْهُودَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً

إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا

وَتَتَعَدَّى فَيُقَالُ: حَفَدَنِي فَهُوَ حَافِدِي. قَالَ الشَّاعِرُ:

يَحْفِدُونَ الضَّيْفَ فِي أَبْيَاتِهِمْ

كَرَمًا ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذُلِّ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى، أَحْفَدَ إِحْفَادًا، وَقَالَ: الْحَفَدُ الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ:

الْأَخْتَانُ. وَأَنْشَدَ:

فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ

لَهَا حَفَدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ

وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ

عَيُوفٌ لِأَصْحَابِ اللِّئَامِ قَذُورُ

وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ انْقِيَادَ مَا في السموات وَمَا فِي

ص: 543

الْأَرْضِ لِمَا يُرِيدُهُ تَعَالَى مِنْهَا، فَكَانَ هُوَ الْمُتَفَرِّدَ بِذَلِكَ. نَهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَدَلَّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ قَدْ يُتَجَوَّزُ فِيهِ فَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ نَحْوَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ الرَّجُلَانِ الزَّيْدَانِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى

وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا الْكَلَامُ

أَكَّدَ الْمَوْضُوعَ لَهُمَا بِالْوَصْفِ، فَقِيلَ: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْمُ الْحَامِلُ لِمَعْنَى الْإِفْرَادِ أَوِ التَّثْنِيَة دَالٌّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْجِنْسِيَّةِ، وَالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ. فَإِذَا أَرَدْتَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ مُبْهَمٌ. وَالَّذِي يُسَاقُ بِهِ الْحَدِيثُ هُوَ الْعَدَدُ شَفَعَ بِمَا يُؤَكِّدُهُ، فَدَلَّ بِهِ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تُؤَكِّدْهُ بِوَاحِدٍ، لَمْ يَحْسُنْ، وَخُيِّلَ، أَنَّك تُثْبِتُ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَتَّخِذُوا، تُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَأْكِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَقِيلَ: تَقَدَّمَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ.

وَقِيلَ: حَذَفَ الثَّانِيَ لِلدَّلَالَةِ تَقْدِيرُهُ مَعْبُودًا وَاثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْكِيدٌ، وَتَقْرِيرُ مُنَافَاةِ الاثْنَيْنِيَّةِ لِلْإِلَهِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَلَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ، وَاسْتَلْزَمَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَبِالتَّأْكِيدِ بِالْوَحْدَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَرْهَبُوهُ، وَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الرَّهْبَةِ، وانتصب إياي بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرِ التَّأْخِيرِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَارْهَبُونِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِيَّايَ ارْهَبُوا. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: فَإِيَّايَ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَارْهَبُوا إِيَّايَ فَارْهَبُونِ، ذُهُولٌ عَنِ الْقَاعِدَةِ فِي النَّحْوِ، أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا وَالْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ هُوَ الضَّمِيرُ، وَجَبَ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:

إِلَيْكَ حِينَ بَلَغْتَ إِيَّاكَا ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ له ما في السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ كَانَ مَا سِوَاهُ مَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الدِّينَ وَاصِبًا.

(1) سورة البقرة: 2/ 163.

(2)

سورة فاتحة الكتاب 1/ 4.

ص: 544

قَالَ مُجَاهِدٌ: الدِّينُ الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعِبَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: الطَّاعَةُ، زَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُلْكُ. وَأَنْشَدَ:

فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ أَيْ: فِي طَاعَتِهِ وَمُلْكِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلُهُ الْحَدَّادُ أَيْ: دَائِمًا ثَابِتًا سَرْمَدًا لَا يَزُولُ، يَعْنِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ: وَاصِبًا دَائِمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاصِبُ الْوَاجِبُ الثَّابِتُ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ بِالطَّاعَةِ وَاجِبَةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ مِنَ الْوَصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ أَيْ: ذَا وَصَبٍ، كَمَا قَالَ: أَضْحَى فُؤَادِي بِهِ فَاتِنًا، أَيْ ذَا فُتُونٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ وَلَهُ الدِّينُ ذَا كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَكْلِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَهُ الدِّينُ وَالطَّاعَةُ رَضِيَ الْعَبْدُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَسْهُلُ فَلَهُ الدِّينُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْوَصَبُ. وَالْوَصَبُ: شِدَّةُ التَّعَبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:

وَاصِبًا خَالِصًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَاوُ فِي وله ما في السموات وَالْأَرْضِ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ:

إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ ابْتِدَاءٍ انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ وَاوُ ابْتِدَاءٍ إِلَّا لِوَاوِ الْحَالِ، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا الْحَالُ، وَإِنَّمَا هِيَ عَاطِفَةٌ: فَإِمَّا عَلَى الْخَبَرِ كَمَا ذَكَرَ أَوْلَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا الَّتِي هِيَ: إِنَّمَا هي إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَانْتَصَبَ وَاصِبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ.

أَفَغَيْرَ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّعَجُّبَ أَيْ: بعد ما عَرَفْتُمْ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ لَهُ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، كَيْفَ تَتَّقُونَ وَتَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا نَفْعَ وَلَا ضُرَّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ إِيجَادِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَى مَا أَسْدَى مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَنِعَمُهُ تَعَالَى لَا تُحْصَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «1» . وما مَوْصُولَةٌ، وَصِلَتُهَا بِكُمْ، وَالْعَامِلُ فِعْلُ الِاسْتِقْرَارِ أَيْ: وَمَا استقر بكم، ومن نِعْمَةٍ تَفْسِيرٌ لِمَا، وَالْخَبَرُ فَمِنَ اللَّهِ أَيْ: فَهِيَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِلِ بِكُمْ خَاصًّا كَحَلَّ أَوْ نَزَلَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْحَوْفِيُّ: أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً، وَحُذِفَ فِعْلُ الشَّرْطِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ. وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَهَذَا ضعيف جدا لأنه

(1) سورة ابراهيم: 14/ 34.

ص: 545

لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَحَّدَهَا فِي بَاب الِاشْتِغَالِ، أَوْ مَتْلُوَّةً بِمَا النَّافِيَةِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِمَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ:

فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءٍ

وَإِلَّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الْحُسَامُ

أَيْ: وَإِلَّا تُطَلِّقْهَا، حَذَفَ تطلقها الدلالة طَلِّقْهَا عَلَيْهِ، وَحَذْفُهُ بَعْدَ أَنْ مَتْلُوَّةً بِلَا مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ:

قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ

كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ

أَيْ: وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَمَّا غَيْرُ إِنْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا مَدْلُولًا عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. التَّقْدِيرُ: أَيْنَمَا تُمَيِّلْهَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنْهُ ذَكَرَ حَالَةَ افْتِقَارِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا يَدْعُو وَلَا يَتَضَرَّعُ لِسِوَاهُ، وَهِيَ حَالَةُ الضُّرِّ وَالضُّرُّ، يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَهْبِ مَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَجَرُونَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْجِيمِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: كَاشَفَ، وَفَاعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، وَإِذَا الثَّانِيَةُ لِلْفُجَاءَةِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذَا الشَّرْطِيَّةَ لَيْسَ الْعَامِلُ فِيهَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا. وَمِنْكُمْ: خِطَابٌ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، إِذْ بِكُمْ خِطَابٌ عَامٌّ. وَالْفَرِيقُ هُنَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَقِدُونَ حَالَةَ الرَّجَاءِ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَتُشْقِي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقُونَ. وَعَنِ ابن السائب: الكفار. ومنكم فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ لَا لِلتَّبْعِيضِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ فَإِذَا فَرِيقٌ كَافِرٌ وَهُمْ أَنْتُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ مَنِ اعْتَبَرَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «1» انْتَهَى وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا، إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ سَبَبُهُ كُفْرُهُمْ بِهِ، أَيْ جُحُودُهُمْ أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَتِهِ، وَبِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، أَوْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ، أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ لِلصَّيْرُورَةِ فَالْمَعْنَى: صَارَ أَمْرُهُمْ لِيَكْفُرُوا وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ أَنْ يَكْفُرُوا، بَلْ آلَ أَمْرُ ذَلِكِ الْجُؤَارِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جُحُودُهُ وَالشِّرْكُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَكْفُرُوا فَتَمَتَّعُوا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ انْتَهَى. وَلَمْ يَخْلُ كَلَامُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ قوله:

(1) سورة لقمان: 31/ 32.

ص: 546

فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَيُمَتَّعُوا بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، سَاكِنَ الْمِيمِ وَهُوَ مُضَارِعُ مَتَعَ مُخَفَّفًا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَكْفُرُوا، وَحُذِفَتِ النُّونُ إِمَّا لِلنَّصْبِ عَطْفًا إِنْ كَانَ يَكْفُرُوا مَنْصُوبًا، وَإِمَّا لِلْجَزْمِ إِنْ كَانَ مَجْزُومًا إِنْ كَانَ عَطْفًا، وَأَنْ لِلنَّصْبِ إِنْ كَانَ جَوَابَ الْأَمْرِ.

وَعَنْهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَدْ رَوَاهُمَا مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَآلُهَا إِلَى الزَّوَالِ.

وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

: الضَّمِيرُ فِي: وَيَجْعَلُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي يَعْلَمُونَ عائد عليهم. وما هِيَ الْأَصْنَامُ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ الْكُفَّارُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، أَوْ لَا يَعْلَمُونَ فِي اتِّخَاذِهَا آلِهَةً حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا. وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهُمْ جَاهِلُونَ بِهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَا يَعْلَمُونَ لِلْأَصْنَامِ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تَشْعُرُ بِهِ، إِذْ هِيَ جَمَادٌ لَمْ يَقُمْ بها علم الْبَتَّةِ. وَالنَّصِيبُ: هُوَ مَا جَعَلُوهُ لَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، قَبَّحَ تَعَالَى فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُفْرِدُوا نَصِيبًا مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِجَمَادَاتٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَنْتَفِعُ هِيَ بِجَعْلِ ذَلِكَ النَّصِيبِ لَهَا، ثُمَّ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ وَاخْتِلَاقِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَأَنَّهَا أَهْلٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِجَعْلِ النَّصِيبِ لَهَا، وَالسُّؤَالِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ أقوال. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّوَالُدَ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَرْتَضُوهُ، وَتَرْبَدُّ وُجُوهُهُمْ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِمْ وَيَكْرَهُونَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ: وَهُمُ الذُّكُورُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَا يَشْتَهُونَ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَنَاتِ أَيْ: وَجَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الذُّكُورِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنَ النَّصْبِ تَبِعَ فِيهِ الْفَرَّاءَ وَالْحَوْفِيَّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَقَدْ حَكَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَهِلَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَاعِدَةٍ فِي النَّحْوِ: وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِهِ الْمُتَّصِلِ

ص: 547

الْمَنْصُوبِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ ضَرَبَهُ زَيْدٌ، تُرِيدُ ضَرْبَ نَفْسِهِ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فَقْدٍ، وَعَدَمٍ، فَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائِمًا وَزَيْدٌ فَقَدَهُ، وَزَيْدٌ عَدِمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْحَرْفِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ تُرِيدُ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا يَجُوزُ النَّصْبُ إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. قَالُوا:

وَضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ، وَلَهُمْ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ، فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ.

وَإِذَا بُشِّرَ، الْمَشْهُورُ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ، وَهُنَا قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ تَغَيُّرُ الْبَشَرَةِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخَبَرِ السَّارِّ أَوِ الْمُخْبِرِينَ، وَفِي هَذَا تَقْبِيحٌ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْوَلَدِ الْبَنَاتِ وَاحِدُهُمْ أَكْرَهُ النَّاسِ فِيهِنَّ، وَأَنْفَرُهُمْ طَبْعًا عَنْهُنَّ. وَظَلَّ تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَبِمَعْنَى أَقَامَ نَهَارًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى اسْمِهَا تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَارَ، لِأَنَّ التَّبْشِيرَ قَدْ يَكُونُ فِي لَيْلٍ وَنَهَارٍ، وَقَدْ تُلْحَظُ الْحَالَةُ الْغَالِبَةُ. وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوِلَادَاتِ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَتَتَأَخَّرُ أَخْبَارُ الْمَوْلُودِ لَهُ إِلَى النَّهَارِ وَخُصُوصًا بِالْأُنْثَى، فَيَكُونُ ظُلُولُهُ عَلَى ذَلِكَ طُولَ النَّهَارِ. وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُبُوسِ وَالْغَمِّ وَالتَّكَرُّهِ وَالنَّفْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى. قِيلَ: إِذَا قَوِيَ الْفَرَحُ انْبَسَطَ رَوْحُ الْقَلْبِ مِنْ دَاخِلِهِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، فَتَرَى الْوَجْهَ مُشْرِقًا مُتَلَأْلِئًا.

وَإِذَا قَوِيَ الْغَمُّ انْحَصَرَ الرُّوحُ إِلَى بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الْوَجْهِ، فَيَرْبَدُّ الْوَجْهُ وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ، وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ، فَمِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةُ الْوَجْهِ وَإِشْرَاقُهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ ارْبِدَادُهُ وَاسْوِدَادُهُ، فَلِذَلِكَ كَنَّى عَنِ الْفَرَحِ بِالِاسْتِنَارَةِ، وَعَنِ الْغَمِّ بِالِاسْوِدَادِ. وَهُوَ كَظِيمٌ أي: ممتلىء الْقَلْبِ حُزْنًا وَغَمًّا. أَخْبَرَ عَمَّا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَعَنْ مَا يُجِنُّهُ فِي قَلْبِهِ. وَكَظِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِقَوْلِهِ:

وَهُوَ مَكْظُومٌ «1» وَيُقَالُ: سِقَاءٌ. مَكْظُومٌ، أَيْ مَمْلُوءٌ مَشْدُودُ الْفَمِ. وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ بِنْتًا سَمَّتْهَا الذَّلْفَاءَ، فَهَجَرَهَا زَوْجُهَا فَقَالَتْ:

مَا لِأَبِي الذَّلْفَاءِ لَا يَأْتِينَا

يَظَلُّ فِي الْبَيْتُ الذي يلينا

يحردان لَا نَلِدَ الْبَنِينَا

وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا يُعْطِينَا

يَتَوَارَى: يَخْتَفِي مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ سوء للتعليل أي: الحال لَهُ عَلَى التَّوَارِي هُوَ سُوءُ مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَى حَالَةَ الطَّلْقِ، فَإِنْ أُخْبِرَ بِذَكَرٍ ابْتَهَجَ، أو أنثى

(1) سورة القلم: 68/ 48.

ص: 548

حَزِنَ. وَتَوَارَى أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا مَا يَصْنَعُ. أَيُمْسِكُهُ قَبْلَهُ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: مُفَكِّرًا أَوْ مُدَبِّرًا أَيُمْسِكُهُ؟ وَذَكَرَ الضَّمِيرُ مُلَاحَظَةً لِلَّفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَيُمْسِكُهَا عَلَى هَوَانٍ، أَمْ يَدُسُّهَا بِالتَّأْنِيثِ عَوْدًا عَلَى قَوْلِهِ: بِالْأُنْثَى، أَوْ عَلَى مَعْنَى مَا بُشِّرَ بِهِ، وَافَقَهُ عِيسَى عَلَى قِرَاءَةِ هَوَانٍ عَلَى وَزْنٍ فَعَالٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَيُمْسِكُهُ بِضَمِيرِ التَّذْكِيرِ، أَمْ يَدُسُّهَا بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: عَلَى هَوْنٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عَلَى سُوءٍ، وَهِيَ عِنْدِي تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، لِمُخَالَفَتِهَا السَّوَادَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ حَبْسُهُ وَتَرْبِيَتُهُ، وَالْهُونُ الْهَوَانُ كَمَا قَالَ: عَذابَ الْهُونِ «1» وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «2» وَفِي قَوْلِهِ: عَلَى هُونٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَالْمَعْنَى:

أَيُمْسِكُهَا مَعَ رِضَاهُ بِهَوَانِ نَفْسِهِ، وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ؟ وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: أَيُمْسِكُهَا مُهَانَةً ذَلِيلَةً، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَنَّهُ يَئِدُهَا وَهُوَ دَفْنُهَا حَيَّةً حَتَّى تَمُوتَ.

وَقِيلَ: دَسُّهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ كَالْمَدْسُوسِ فِي التُّرَابِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ:

أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا هُوَ مُسْتَكْرَهٌ عِنْدَهُمْ، نَافِرٌ عَنْهُنَّ طَبْعُهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُونَ نِسْبَتَهُنَّ إِلَيْهِنَّ، وَيَئِدُونَهُنَّ اسْتِنْكَافًا مِنْهُنَّ، وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ الذَّكَرَ كَمَا قَالَ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «3» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ يُدَبِّرُ أَيُمْسِكُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَلَى هَوَانٍ يَتَجَلَّدُ لَهُ، أَمْ يَئِدُهَا فَيَدْفِنُهَا حَيَّةً فَهُوَ الدَّسُّ فِي التُّرَابِ؟ ثُمَّ اسْتَقْبَحَ اللَّهُ سُوءَ فِعْلِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِهَذَا فِي بَنَاتِهِمْ وَرِزْقُ الْجَمِيعِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. فَعَلَّقَ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ بِصُنْعِهِمْ فِي بَنَاتِهِمْ مَثَلَ السَّوْءِ. قِيلَ: مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: صِفَةُ السُّوءِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَكَرَاهَةُ الْإِنَاثِ، وَوَأْدُهُنَّ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشُّحِّ الْبَالِغِ. وَلِلَّهِ المثل الأعلى أي: الصفة الْعُلْيَا، وَهِيَ الْغِنَى عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالنَّزَاهَةُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ. وَقِيلَ: مَثَلُ السَّوْءِ هُوَ وَصْفُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ الْبَنَاتِ، وَسَمَّاهُ مَثَلَ السَّوْءِ لِنِسْبَتِهِمُ الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ، وَخُصُوصًا عَلَى طَرِيقِ الْأُنُوثَةِ الَّتِي هُمْ يَسْتَنْكِفُونَ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ السَّوْءِ النَّارِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَتْ فِرْقَةٌ مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ صِفَةُ السَّوْءِ، وَلِلَّهِ الْوَصْفُ الْأَعْلَى، وَهَذَا لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ اللَّفْظِ، بَلْ قَوْلُهُ: مَثَلُ، عَلَى بَابِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا:

(1) سورة الأنعام: 6/ 93.

(2)

سورة الفرقان: 25/ 63.

(3)

سورة النجم: 53/ 21.

ص: 549

إِنَّ الْبَنَاتِ لِلَّهِ فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا، فَالْبَنَاتُ مِنَ الْبَشَرِ وَكَثْرَةُ الْبَنَاتِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ ذَمِيمٌ فَهُوَ الْمَثَلُ السُّوءُ. وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْبَنَاتِ فَقَطْ، بَلْ لَمَّا جَعَلُوهُ هُمُ الْبَنَاتُ جَعَلَهُ هُوَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ سَوْءٍ، وَلَا غَايَةَ أَبْعَدُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيِ: الْكَمَالُ الْمُسْتَغْنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَثَلُ الْأَعْلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى، وَقَوْلُ قَتَادَةَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ، وَأَتَى ثَانِيًا مَا كَانَ مَنْسُوبًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَبَدَأَ هُنَا بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ: سبحانه وتعالى مِنَ التَّنْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُنَزَّهُ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالتَّوَالُدِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.

وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ: لَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّار عَظِيمَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةِ التولد لَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَيُؤَاخِذُ: مُضَارِعُ آخَذَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ أَخَذَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ أَحَدَ الْمُؤَاخِذَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ الْآخَرِ، إِمَّا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا هِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِإِذَايَةٍ فِي جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَأْخُذُ الْآخَرُ مِنَ الْأَوَّلِ بِالْمُعَاقَبَةِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ النَّاسِ. وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمِهِمْ لِلسَّبَبِ. وَظُلْمُهُمْ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ قَوْلُهُ:

مِنْ دَابَّةٍ، لِأَنَّ الدَّبِيبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «1» أَيْ بِالْمَكَانِ لِأَنَّ وَالْعادِياتِ «2» مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَعْدُو إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَكَذَلِكَ الْإِثَارَةُ وَالنَّقْعُ.

وَالظَّاهِرُ عُمُومُ مِنْ دَابَّةٍ فَيُهْلِكُ الصَّالِحَ بِالطَّالِحِ، فَكَانَ يُهْلِكُ جَمِيعَ مَا يدب على الأرض

(1) سورة العاديات: 100/ 4.

(2)

سورة العاديات: 100/ 1.

ص: 550

حَتَّى الْجِعْلَانُ فِي جُحْرِهَا قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى فِي زَمَنِ نُوحٍ عليه السلام. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا قَحِطَ الْمَطَرُ لَمْ تَبْقَ دَابَّةٌ إِلَّا هَلَكَتْ. وَسَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ حَتَّى إِنَّ الْحَبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ. وَهَذَا نَظِيرُ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً «1» الْآيَةَ

وَالْحَدِيثُ «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ»

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: مِنْ دَابَّةٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ النَّاسِ خَاصَّةً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دَابَّةٍ مِنْ مُشْرِكٍ يَدِبُّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا يُشْبِهُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَمَا فِي مَا يَكْرَهُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، أُرِيدَ بِهَا النَّوْعُ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «2» وَمَعْنَى: وَيَجْعَلُونَ، يَصِفُونَهُ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَمِنْ شُرَكَاءَ فِي رِئَاسَتِهِمْ، وَمِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِرُسُلِهِمْ وَالتَّهَاوُنِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ، وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «3» انْتَهَى.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى قَوْلُ قُرَيْشٍ لَنَا الْبَنُونَ، يَعْنِي قَالُوا: لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ.

وَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْمَكْرُوهَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ تَعْصِي اللَّهَ وَتَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّكَ تَنْجُو، أَيْ هَذَا بَعِيدٌ مَعَ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ يَقُولُ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِهِ. أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مِنَ الْبَعْثِ صَحِيحًا، وَأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ بِاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ: بِإِسْكَانِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ جمع لسانا الْمُذَكَّرِ نَحْوَ: حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَفِي التَّأْنِيثِ: أَلْسُنٌ كَذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ صِفَةً لِلْأَلْسُنِ، جَمْعُ كَذُوبٍ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ، وَهُوَ مَقِيسٌ، أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ وَلَا يَنْقَاسُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ لَهُمْ مَفْعُولُ تَصِفُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ أَنَّ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: لَهُمْ بِكَسْرِ الهمزة، وأن جَوَابُ قَسَمٍ أَغْنَتْ عَنْهُ

(1) سورة الأنفال: 8/ 25.

(2)

سورة النساء: 4/ 3. [.....]

(3)

سورة فصلت: 41/ 50.

ص: 551

لَا جَرَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ:

مُفْرِطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطَ حَقِيقَةً أَيْ: مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ، بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطْتُهُ إِلَى كَذَا قَدَّمْتُهُ، مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ فَرَطَ إِلَى كَذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ:

وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا

كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ

وَمِنْهُ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ»

أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي هِنْدٍ:

مُفْرَطُونَ مُخَلَّفُونَ مَتْرُوكُونَ فِي النَّارِ مِنْ أَفْرَطْتُ فُلَانًا خَلْفِي إِذَا خَلَّفْتُهُ وَنَسِيتُهُ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَنَسِيتُهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مُفَرِّطُونَ مُشَدَّدًا مِنْ فَرَّطَ أَيْ: مُقَصِّرُونَ مُضَيِّعُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُ الرَّاءِ وَشَدُّهَا أَيْ، مُقَدَّمُونَ مِنْ فَرَّطْتُهُ الْمُعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ مِنْ فَرَّطَ بِمَعْنَى: تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِإِرْسَالِ الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ أُمَمِكَ، مُقْسِمًا عَلَى ذَلِكَ وَمُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ وَبِقَدِ الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لما كَانَ يَنَالُهُ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ قَوْمِهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ مِنْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٌ أَيْ:

لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا هُوَ، أَوْ عَبَّرَ بِالْيَوْمِ عَنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَمُحَاوَرَةِ الرُّسُلِ لَهُمْ، أَوْ حِكَايَةُ حَالٍ آتِيَةٍ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْ فِي الْيَوْمِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ: قَرِينُهُمْ وَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَلِيُّهُمْ إِلَى أُمَمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُ زَيَّنَ لِلْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ أَمْثَالِهِمُ الْيَوْمَ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَاللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الْأَحْكَامِ:

كَتَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَانْتَصَبَا لِاتِّحَادِ الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِ وَفِيهِمَا، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ. وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ، وَالتَّبْيِينُ مُسْنَدٌ لِلْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَعْطُوفُ مَحَلِّ لِتُبَيِّنَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ لَيْسَ نَصْبًا فَيُعْطَفُ مَنْصُوبٌ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ؟.

ص: 552

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ:

الْإِلَهِيَّاتُ، وَالنُّبُوَّاتُ، والمعاد، والقدر، والأعظم مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ فَابْتَدَأَ فِي ذِكْرِ دَلَائِلِهَا بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ بِالْإِنْسَانِ ثُمَّ بِالْحَيَوَانِ، ثُمَّ بِالنَّبَاتِ ثُمَّ بِأَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا أَمَرَهُ بِتَبْيِينِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ قَصَّ الْعِبَرَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى بَيَانِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَبَدَأَ بِنِعْمَةِ الْمَطَرِ الَّتِي هِيَ أَبْيَنُ الْعِبَرِ، وَهِيَ مِلَاكُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا عَاقِلٌ انْتَهَى. وَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْكِتَابِ لِلتَّبْيِينِ كَانَ الْقُرْآنُ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ عِلَلِ الْعَقَائِدِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَ. وَالتَّصْدِيقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَكَذَا إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ وَسَبَبٌ لِبَقَائِهَا. ثُمَّ أَشَارَ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «1» فَكَمَا تَصِيرُ الْأَرْضُ خَضِرَةً بِالنَّبَاتِ نَضِرَةً بَعْدَ هُمُودِهَا، كَذَلِكَ الْقَلْبُ يَحْيَا بِالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْجَهْلِ. وَكَذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْمَعُونَ هَذَا التَّشْبِيهَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمْ يَخْتِمْ بلقوم يُبْصِرُونَ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مِمَّا يُبْصَرُ وَيُشَاهَدُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ يَسْمَعُونَ، يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْمُعْتَبَرِ فِيهِ وَتِبْيَانُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْبَتَّةَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ فَقَطْ.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: لما ذكر الله تعالى إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْمَطَرِ وَهُوَ حَيَاةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَأْلُوفُ الْعَرَبِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ النَّبَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْمَطَرِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِبْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِخِلَافٍ، وَالْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. نَسْقِيكُمْ هُنَا، وَفِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: بِفَتْحِ النُّونِ مُضَارِعُ سَقَى، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا مُضَارِعُ أَسْقَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَقَى وَأَسْقَى في قوله

(1) سورة الأنعام: 6/ 122.

ص: 553

فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «1» وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُسْقِيكُمْ بِالْيَاء مَضْمُومَةً، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ:

يَسْقِيكُمُ اللَّهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى النَّعَمِ، وَذَكَّرَ لِأَنَّ النَّعَمَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَمَعْنَاهُ: وَأَنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ نِعْمًا يَسْقِيكُمْ أَيْ: يَجْعَلُ لَكُمْ سُقْيًا انْتَهَى.

وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَضَعْفُهَا عِنْدَهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ حَيْثُ أَنَّثَ فِي تَسْقِيكُمْ، وَذَكَّرَ فِي قَوْلِهِ مِمَّا فِي بُطُونِهِ، وَلَا ضَعْفَ فِي ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ وَالتَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ وُقُوعُ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ مَقَامَ جَمْعِهِ جَازَ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَنْبَلُهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ هُوَ أَحْسَنُ فَتًى، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ. وَقِيلَ: جَمْعُ التَّكْسِيرِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَمُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. كَقَوْلِهِ:

مِثْلُ الْفِرَاخِ نَبَقَتْ حَوَاصِلُهُ وَقِيلَ: أَفْرَدَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

فَقَالَ: كَأَنَّهُ وَقَدَّرَ بَكَانَ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «2» فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «3» أَيْ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ. وَقَالَ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي «4» أَيْ هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ. وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ، لَا يَجُوزُ جَارِيَتُكَ ذَهَبَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَعْضِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، فَكَأَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ الْأَنْعَامَ فِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أفعال كقولهم: ثواب أَكْيَاشَ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا، وَأَمَّا فِي بُطُونِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَنْعَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَكْسِيرُ نَعَمٍ كَالْأَجْبَالِ فِي جَبَلٍ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا مُقْتَضِيًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ كَنَعَمٍ، فَإِذَا ذُكِّرَ فَكَمَا يُذْكَرُ نَعَمٍ فِي قَوْلِهِ:

(1) سورة الحجر: 15/ 22.

(2)

سورة المزمل: 73/ 19.

(3)

سورة عبس: 80/ 12.

(4)

سورة الأنعام: 6/ 78.

ص: 554

فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ

يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُونَهُ

وَإِذَا أُنِّثَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: إِنَّهُ تَكْسِيرُ نَعَمٍ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَفِي كِتَابِهِ فِي هَذَا فِي بَابِ مَا كَانَ عَلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَجَمَالٌ وَفُلُوسٌ فَإِنَّهَا تَنْصَرِفُ وَمَا أَشْبَهَهَا، لِأَنَّهَا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَقْوَالٌ وَأَقَاوِيلُ، وَأَعْرَابٌ وَأَعَارِيبُ، وَأَيْدٍ وَأَيَادٍ، فَهَذِهِ الْأَحْرُفُ تَخْرُجُ إِلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ كَمَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ إِذَا كُسِرَ لِلْجَمْعِ، وَأَمَّا مَفَاعِلُ وَمَفَاعِيلُ فَلَا يُكْسَرُ، فَيَخْرُجُ الْجَمْعُ إِلَى بِنَاءٍ غَيْرِ هَذَا، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ، فَلَمَّا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ صُرِفَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْفُعُولُ لَوْ كُسِرَتْ مِثْلُ الْفُلُوسِ لِأَنْ تُجْمَعَ جَمْعًا لَأَخْرَجَتْهُ إِلَى فَعَائِلَ، كَمَا تَقُولُ: جُدُودٌ وَجَدَائِدُ، وَرُكُوبٌ وَرَكَائِبُ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِمَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْبِنَاءَ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَتَى لِلْوَاحِدِ فَيَضُمُّ الْأَلِفَ، وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْأَنْعَامُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَزَّ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ يقولون: هذا ثواب أَكْيَاشَ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ، وَبَيْنَ أَفْعَالٍ وَفُعُولٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ أَبْنِيَةً لِلْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَا يُجْمَعَانِ، وَأَفْعَالٌ وَفُعُولٌ قَدْ يَخْرُجَانِ إِلَى بِنَاءِ شِبْهِ مَفَاعِلَ أَوْ مَفَاعِيلَ لِشَبَهِ ذَيْنَكَ بِالْمُفْرَدِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا وَامْتِنَاعُ هَذَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، ثُمَّ قَوَّى شَبَهُهُمَا بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ فِي أَتَى: أُتَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ جَاءَ نَادِرًا فُعُولٌ مِنْ غَيْرِ الْمَصْدَرِ لِلْمُفْرَدِ، وَبِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَدْ يُوقِعُ أَفْعَالًا لِلْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فَتَقُولُ: هُوَ الْأَنْعَامُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْأَنْعَامَ فِي مَعْنَى النَّعَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى

وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي

وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ تَحْرِيفٌ فِي اللَّفْظِ، وَفُهِمٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حِينَ ذَكَرَ أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَحِقَتْهُ الزَّوَائِدُ مِنْ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ:

أَفْعِيلٌ، وَلَا أُفَعْوِلٌ، وَلَا أَفْعَالٌ، وَلَا إِفْعِيلٌ، وَلَا إِفْعَالٌ إِلَّا أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُفْرَدَةِ. وَنَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ

ص: 555

تَبْيِينٌ لِلْعِبْرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ الْعِبْرَةُ؟ فَقِيلَ: نَسْقِيكُمْ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، أَيْ: يَخْلُقُ اللَّهُ اللَّبَنَ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ يَكْتَنِفَانِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ لَا يَبْغِي أَحَدَهُمَا عَلَيْهِ بِلَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ، بَلْ هُوَ خَالِصٌ مِنْ ذلك كُلِّهِ انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكِرْشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا يَبْقَى فِيهِ، وَأَعْلَاهُ دَمًا يَجْرِي فِي الْعُرُوقِ، وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا يَجْرِي فِي الضَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْفَرْثُ فِي أَوْسَطِ الْمَصَارِينِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهَا، وَاللَّبَنُ بَيْنَهُمَا، وَالْكَبِدُ يَقْسِمُ الْفَرْثَ إِلَى الْكَرِشِ، وَالدَّمَ إِلَى الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنَ إِلَى الضُّرُوعِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَكَانَ الرَّازِيُّ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُذْبَحُ وَلَا يُرَى فِي كَرِشِهِ دَمٌ وَلَا لَبَنٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْغِذَاءَ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْحَيَوَانُ وَصَلَ إِلَى الْكَرِشِ وَانْطَبَخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ، وَصَافِيًا انْحَدَرَ إِلَى الْكَبِدِ فَيَنْطَبِخُ فِيهَا وَيَصِيرُ دَمًا، وَهُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، فَتَذْهَبُ الصَّفْرَاءُ إِلَى الْمَرَارَةِ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ، وَخَالِصُ الدَّمِ يَذْهَبُ إِلَى الْأَوْرِدَةِ وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ فَيَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ. وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ يَنْصَبُّ الدَّمُ مِنْ تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ، وَهُوَ لَحْمٌ رِخْوٌ أَبْيَضُ فَيَنْقَلِبُ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَالُدِ اللَّبَنِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ. فَاللَّبَنُ مُتَوَلَّدٌ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنُ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا انْتَهَى، مُلَخَّصًا أَيْضًا.

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، وَالْبَيْنِيَّةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَادَّعَى الرَّازِيُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنِيَّةُ مَجَازِيَّةً، بِاعْتِبَارِ تَوَلُّدِهِ مِنْ مَا حَصَلَ فِي الْفَرْثِ أَوَّلًا، وَتُوَلُّدِهُ مِنَ الدَّمِ النَّاشِئِ مِنْ لَطِيفِ مَا كَانَ فِي الْفَرْثِ ثَانِيًا كما قرره الرازي. ومن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بنسقيكم، وَجَازَ تَعَلُّقُهُمَا بِعَامِلٍ

ص: 556

وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً أَيْ: كَائِنًا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ بَدَلًا مِنْ مَا فِي بُطُونِهِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: سَيِّغًا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: سَيْغًا مُخَفَّفًا مِنْ سَيِّغٍ كَهَيْنٍ الْمُخَفَّفِ مِنْ هَيِّنٍ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَازِمٍ كَانَ يَكُونُ سَوْغًا. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ فِي الْحَلْقِ اللَّذِيذُ،

وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ»

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ، ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ من ثمرات بتتخذون، وَكُرِّرَتْ مِنْ لِلتَّأْكِيدِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا رَاعِيًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الثَّمَرَاتِ وَهُوَ الثَّمَرُ، أَوْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بنسقيكم، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مِمَّا في بطونه، أو بنسقيكم مَحْذُوفَةً دَلَّ عَلَيْهَا نُسْقِيكُمُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعَامِلِ. وَقِيلَ:

مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَنْعَامِ أَيْ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عِبْرَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِبْرَةَ بِقَوْلِهِ:

تَتَّخِذُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ. فَحَذَفَ مَا هو لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: بِكَفِّي كَانَ مِنْ أَرْمَى البشر. تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: أَيْ وَإِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ، وَإِنْ شِئْتَ شَيْءٌ بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ خَبَرُهُ انْتَهَى.

وَالسَّكَرُ فِي اللُّغَةِ الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ

إِذَا جَرَى مِنْهُمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سُكْرًا وَسَكَرًا نَحْو: رَشُدَ رُشْدًا وَرَشَدًا.

قَالَ الشَّاعِرُ:

وَجَاءُونَا بِهِمْ سكر عَلَيْنَا

فَأُجْلِيَ الْيَوْمَ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي

وَقَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي السَّكَرِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إِذَا تُرِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطعم، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ

ص: 557

لك أي طعم، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَالسَّكَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُطْعَمُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

جَعَلَتْ أَعْرَاضَ الْكِرَامِ سَكَرًا أَيْ: تَنَقَّلَتْ بِأَعْرَاضِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَرَكَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ تَخَمَّرَ بِهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَ الزَّجَّاجُ قَالَ: يَصِفُ أَنَّهُ يُخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا نَسْخَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَا يَصِحُّ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقِيلَ: السَّكَرُ مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَقِيلَ: السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ انْتَهَى. وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّكَرِ الْخَمْرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِنَسْخٍ فَقِيلَ: جَمَعَ بَيْنَ الْعِتَابِ وَالْمِنَّةِ. يَعْنِي بِالْعِتَابِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحْرُمُ، وَبِالْمِنَّةِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحِلُّ، وَهُوَ الْخَلُّ وَالرُّبُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا هُوَ سَكَرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ.

وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ الْكَلَامِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقَوْلِهِ: يَعْقِلُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ «1» .

وَانْظُرْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نِعْمَةِ اللَّبَنِ وَنِعْمَةِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ، لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ. وَلَمَّا كَانَ السَّكَرُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ قَالَ: تَتَّخِذُونَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنْهُ السَّكَرَ وَالرِّزْقَ، وَلِأَمْرٍ مَا عَجَزَتِ الْعَرَبُ الْعَرْبَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمِنَّةَ بِالْمَشْرُوبِ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، أَتَمَّ النِّعْمَةَ بِذِكْرِ الْعَسَلِ النَّحْلِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَشْرُوبَاتِ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَسَلِ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وَغَيْرَهُ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ اللَّبَنَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَثِيرًا وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَالْخَمْرُ وَالْعَسَلُ، وَجَاءَ تَرْتِيبُهَا فِي الْجَنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى «2» فَفِي إِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنَ النِّعَمِ وَالسَّكَرِ، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَالْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ، دَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْإِيحَاءُ هُنَا الْإِلْهَامُ وَالْإِلْقَاءُ فِي رُوعِهَا، وَتَعْلِيمُهَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُنْهِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ. والنحل: جنس واحده

(1) سورة آل عمران: 3/ 13 وفي لفظها لأولي الأبصار.

(2)

سورة محمد: 47/ 15.

ص: 558

نَحْلَةٌ، وَيُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنِ اتَّخِذِي. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: النحل بفتح الحاء، وأن تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَوْلِ وَهُوَ: وَأَوْحَى. أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِاتِّخَاذٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِلْهَامُ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْهَامِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَالَ: قَرَّرَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهَا الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ مِنْهَا بِنَاؤُهَا الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ، مُتَسَاوِيَةٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَلَا يَتِمُّ مِثْلُ ذلك العقلاء إِلَّا بِآلَاتٍ كَالْمِسْطَرَةِ وَالْبُرْكَانِ، وَلَمْ تَبْنِهَا بِأَشْكَالٍ غَيْرِ تِلْكَ، فَتَضِيقُ تِلْكَ الْبُيُوتُ عَنْهَا لِبَقَاءِ فُرَجٍ لَا تَسَعُهَا، وَلَهَا أَمِيرٌ أَكْبَرُ جُثَّةً مِنْهَا نَافِذُ الْحُكْمِ يَخْدِمُونَهُ، وَإِذَا نَفَرَتْ عَنْ وَكْرِهَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وَبِوَسَاطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ تَعُودُ إِلَى وَكْرِهَا، فَلَمَّا امْتَازَتْ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ وَلَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، وَهِيَ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْوَحْيَ لِذَلِكَ قَالَ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ومن لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهَا لَا تَبْنِي فِي كُلِّ جَبَلٍ، وَكُلِّ شَجَرٍ، وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ، وَلَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُيُوتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْجِبَالِ، وَفِي مُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ. وَإِمَّا مِنْ مَا يَعْرِشُ ابْنُ آدم فالخلايا التي يصنها لِلنَّحْلِ ابْنُ آدَمَ، وَالْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِيطَانِ. وَلَمَّا كَانَ النَّحْلُ نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مَقَرُّهُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهُ أَحَدٌ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ النَّاسِ وَيُتَعَهَّدُ فِي الْخَلَايَا وَنَحْوِهَا، شَمِلَ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ النَّوْعَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ لَيْسَتِ الْكُوَى، وَإِنَّمَا هِيَ مَا تَبْنِيهِ هِيَ، فَقَالَ: أُرِيدَ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، يَعْنِي بِمِنْ، وَأَنْ لَا يُبْنَى بُيُوتُهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَكُلِّ شَجَرٍ وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ الْكُرُومُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِمَّا يَبْنُونَ مِنَ السُّقُوفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَهَذَا مِنْهُمَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَتَقْتَضِي ثُمَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرَاخِيَ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ الَّذِي تَدَّخِرُ مِنْهُ الْعَسَلَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّخِذِي، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلِّ الثَّمَرَاتِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَيِ: الْمُعْتَادَةِ، لَا كُلِّهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ ابْنِي الْبُيُوتَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيهَا انْتَهَى. فَدَلَّ قَوْلُهُ: أَيْ ابني

(1) سورة النمل: 27/ 18.

ص: 559

الْبُيُوتَ، أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ بُيُوتًا الْكُوَى الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ وَلَا الْخَلَايَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ البيوت المسدسة التي تبينها هِيَ. وَظَاهِرُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كل الثمرات أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، فَتَأْكُلُ مِنَ الْأَشْجَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْعَطِرَةِ أَشْيَاءَ يُوَلِّدُ اللَّهُ مِنْهَا فِي أَجْوَافِهَا عَسَلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا تَأْكُلُ النَّوَّارَ مِنَ الْأَشْجَارِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَوَاءِ ظِلًّا كَثِيرًا يَجْتَمِعُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ محسوسة مثل الترنجبين وهو محسوس، وقليلا لَطِيفُ الْأَجْزَاءِ صَغِيرُهَا، وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّحْلَ الْتِقَاطَهُ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْتَذِي بِهَا فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَوَضَعَتْهَا فِي بُيُوتِهَا كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَالْمُجْتَمِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا لِلتَّبْعِيضِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي فَاسْلُكِي أَنَّهُ بِعَقِيبِ الْأَكْلِ أَيْ: فَإِذَا أَكَلْتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ، أَيْ طُرُقَ رَبِّكِ إِلَى بُيُوتِكِ رَاجِعَةً، وَالسُّبُلُ إِذْ ذَاكَ مَسَالِكُهَا فِي الطَّيَرَانِ. وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَكَانَهَا فَانْتَجَعَتِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ.

وَقِيلَ: سُبُلَ رَبِّكِ أَيِ الطُّرُقَ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ، أَوْ فَاسْلُكِي مَا أَكَلْتِ أَيْ: فِي سُبُلِ رَبِّكِ، أَيْ فِي مَسَالِكِهِ الَّتِي يحيل فيها بقدرته النور الْمُرَّ عَسَلًا مِنْ أَجْوَافِكِ وَمَنَافِذِ مَأْكَلِكِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْتَصِبُ سُبُلَ رَبِّكِ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى مَا قَبْلَهُ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ كُلِي، ثُمَّ اقْصِدِي الْأَكْلَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي فِي طَلَبِهَا سُبُلَ رَبِّكِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي الْمَجَازِ فِي سُبُلَ رَبِّكِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّ كُلِي بِمَعْنَى اقْصِدِي الْأَكْلَ، مَجَازٌ أَضَافَ السُّبُلَ إِلَى رَبِّ النَّحْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا وَمَالِكُهَا وَالنَّاظِرُ فِي تَهْيِئَةِ مَصَالِحِهَا وَمَعَاشِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُلُلًا غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ عَلَيْهَا سَبِيلٌ تَسْلُكُهُ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنْ سَبِيلِ رَبِّكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا «1» وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مُطِيعَةً مُنْقَادَةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَخْرُجُونَ بِالنَّحْلِ يَنْتَجِعُونَ وَهِيَ تَتْبَعُهُمْ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنَ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ «2» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمِنَّةِ ثَمَرَةَ هَذَا الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ وَالسُّلُوكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ، وَهُوَ الْعَسَلُ. وَسَمَّاهُ شَرَابًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشْرَبُ، كَمَا ذَكَرَ ثَمَرَةَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ سَقْيُ اللَّبَنِ، وَثَمَرَةَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّكَرِ والرزق الحسن.

(1) سورة الملك: 67/ 15.

(2)

سورة يس: 36/ 72.

ص: 560

وَذَكَرَ تَعَالَى الْمَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّرَابُ وَهُوَ بُطُونُهَا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأُولَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَلِذَلِكَ قال الحريري:

تقل هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ

وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنَابِيرِ

وَالْمُجَاجُ وَالْقَيْءُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الْفَمِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْقِيرِ الدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ، وَأَشْرَفَ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ.

وَعَنْهُ أَيْضًا: أَمَّا الْعَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبَابٍ

، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، وَقَدْ خَفِيَ مِنْ أَيِّ الْمَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ، أَمِنَ الْفَمِ؟ أَمْ مِنْ أَسْفَلُ؟

وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَالْإِسْكَنْدَرَ، وَأَرِسْطَاطَالِيسَ، صَنَعُوا لَهَا بُيُوتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَهَلْ يَخْرُجُ الْعَسَلُ مِنْ فِيهَا أَمْ مِنْ أَسْفَلِهَا؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ الْعَسَلِ شَيْئًا حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ الزُّجَاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لُبَابُ الْبُرِّ بِلُعَابِ النَّحْلِ بِخَالِصِ السَّمْنِ مَا عَابَهُ مُسْلِمٌ، فَجَعَلَهُ لُعَابًا كَالرِّيقِ الدَّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ابْنِ آدَمَ. وَقِيلَ: مِنْ بُطُونِهَا مِنْ أَفْوَاهِهَا، سَمَّى الْفَمَ بَطْنًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَبْطَنُ وَلَا يَظْهَرُ. وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ بِالْبَيَاضِ وَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّحْلِ، وَاخْتِلَافِ الْمَرَاعِي. وَقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى كَمَا

فِي الْحَدِيثِ «جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعَرْفَطَ»

وَقِيلَ: الْأَبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبَابُ النَّحْلِ، وَالْأَصْفَرُ كُهُولُهَا، وَالْأَحْمَرُ شَبِيبُهَا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إِلَى الشَّرَابِ وَهُوَ الْعَسَلُ، لِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ النَّافِعَةِ. وَقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ، وَالْعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَزْمَانِ يُجْعَلُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا الْعَسَلَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْعُمُومَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِي دَوَائِهَا الْعَسَلُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِلنَّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ الْعَسَلُ فِي أَمْرَاضِهِمْ. وَنَكَّرَ شِفَاءً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ شِفَاءٌ أَيْ شِفَاءٌ، وَإِمَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الشِّفَاءِ أَيْ: فِيهِ بَعْضُ الشِّفَاءِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَى هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا فِي بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ

ص: 561

الْمُسَدَّسَةَ، وَفِي أَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ وَالْأَوْرَاقِ الْحَامِضِ وَالْمُرِّ وَالضَّارِّ، وَفِي طَوَاعِيَتِهَا لِأَمِيرِهَا وَلِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي النُّقْلَةِ مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَزِيَادَةِ تَدَبُّرٍ خَتَمَ بقوله تخ عالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالثَّمَرَاتِ وَالنَّحْلِ، ذَكَرَ مَا نَبَّهَنَا بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ فِي إِنْشَائِنَا مِنَ الْعَدَمِ وَإِمَاتَتِنَا، وَتَنَقُّلِنَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ قَدِيرٌ.

وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ آخِرُهُ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلُّ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ. وَخَصَّ بِالرَّذِيلَةِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ، بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ تَتَقَدَّمُ فِيهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَتَقَيَّدُ أَرْذَلُ الْعُمُرِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، كَمَا

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ تِسْعُونَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسْبِ إِنْسَانٍ إِنْسَانٍ فَرُبَّ ابْنِ خَمْسِينَ انْتَهَى، إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَرُبَّ ابْنِ مِائَةٍ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَامٌّ، فِيمَنْ يَلْحَقُهُ الْخَرَفُ وَالْهَرَمُ. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزْدَادُ بطول عمره لا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» أَيْ لَمْ يُرَدُّوا إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرذل لعمر.

وَاللَّامُ فِي لِكَيْ قَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ لَامُ كَيْ دَخَلَتْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرَدُّ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي مِثْلِ لِكَيْ أَنَّ كَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ وَهِيَ النَّاصِبَةُ كَأَنْ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ كَيْ وَالْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ تَقْدِيرًا، فَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهُمَا واختلاف

(1) سورة التين: 95/ 5- 6.

ص: 562

عَمَلِهِمَا، لِأَنَّ اللَّامَ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْلِيلِ، وَكَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، وَكَيْ نَاصِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ لَامَ صَيْرُورَةٍ وَالْمَعْنَى: لِيَصِيرَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا. وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا الْبَتَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

لِيَصِيرَ إِلَى حَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِهِ فِي النِّسْيَانِ، وَأَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ثُمَّ يُسْرِعُ فِي نِسْيَانِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهُ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْلَمَ زِيَادَةَ عِلْمٍ عَلَى عِلْمِهِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ شَيْئًا إِمَّا بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِهِ مَا يَلِي لِلْقُرْبِ، أو بيعلم عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِ مَا سَبَقَ لِلسَّبْقِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ فِي الْهَرَمِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَى وَالْقُدْرَةِ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ اللَّذَيْنِ لَا يَتَبَدَّلَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا الْحَوَادِثُ، وَوَلِيَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ مَا جَاوَرَهَا مِنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ مُنَاسَبَةٍ لِلْخَتْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَنَا، ثُمَّ إِمَاتَتَنَا وَتَفَاوُتَنَا فِي السِّنِّ، ذَكَرَ تَفَاوُتَنَا فِي الرِّزْقِ، وَأَنَّ رِزْقَنَا أَفْضَلُ مِنْ رِزْقِ الْمَمَالِيكِ وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَمْلُوكُ خَيْرًا مِنَ الْمَوْلَى فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الرِّزْقِ لَا يُسَاهِمُ مَمْلُوكَهُ فِيمَا رُزِقَ فَيُسَاوِيهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ فَضْلَ مَا رُزِقَ عَلَيْهِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ رِيءَ عَبْدُهُ وَإِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ مِثْلُ رِدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، عَمَلًا

بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ فَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ»

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْإِخْبَارَ بِقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ أَيْ: أَنَّ الْمُفَضَّلَيْنِ فِي الرِّزْقِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يُسَاهِمُوا مَمَالِيكَهُمْ فِيمَا أُعْطُوا حَتَّى تَسْتَوِيَ أَحْوَالُهُمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْبَشَرِ فَكَيْفَ تَنْسُبُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُشْرِكُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْجَمِيعُ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ مُشِيرَةٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا، فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ، فَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَوَالِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ أُجْرِيهِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ جُمْلَةَ إِخْبَارٍ عَنْ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي

(1) سُورَةِ الرُّومِ: 30/ 28.

ص: 563

مَوْضِعِ جَوَابِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَسْتَوُوا. وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَيْ: لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الرِّزْقِ، بَلِ التَّفْضِيلُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ جُحُودِهِمْ نِعْمَهُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَأَتَى بِالنِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلرِّزْقِ وَغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى أَيْ: إِنَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالنَّشْأَةِ أَوَّلًا ثُمَّ مِمَّا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِكُمْ جَدِيرٌ بِأَنْ تُشْكَرَ نِعَمُهُ وَلَا تُكْفَرَ.

وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْرَجُ بِخِلَافِ عَنْهُ: تَجْحَدُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: فَضَّلَ، تَبْكِيتًا لَهُمْ فِي جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ بِالْإِيجَادِ ثُمَّ بِالرِّزْقِ الْمُفَضَّلِ فِيهِ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ بِمَا يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيَخْدِمُهُ، وَاحْتَمَلَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَنِي آدَمَ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُجَازٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَطْفَ حَفَدَةً عَلَى بَنِينَ يُفِيدُ كَوْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْبَنِينَ.

فَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو ابْنِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْبَنُونَ صِغَارُ الْأَوْلَادِ، وَالْحَفَدَةُ كِبَارُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:

بِعَكْسِهِ، وَقِيلَ: الْبَنَاتُ لِأَنَّهُنَّ يَخْدِمْنَ فِي الْبُيُوتِ أَتَمَّ خِدْمَةٍ. فَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَصَّ الْبَنِينَ بِالذُّكْرَانِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ كَمَا قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» وَإِنَّمَا الزِّينَةُ فِي الذُّكُورَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَوْلَادُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ. وَقِيلَ:

وَحَفَدَةً مَنْصُوبٌ بِجَعَلَ مُضْمَرَةً، وَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الضُّحَى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَصْهَارُ، وَهُمْ قَرَابَةُ الزَّوْجَةِ كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَفَدَةُ هُمُ الْبَنُونَ أَيْ: جَامِعُونَ بَيْنَ الْبُنُوَّةِ وَالْخِدْمَةِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ جَعَلَ لَهُ مِنْ زَوْجِهِ بَنِينَ وَحَفَدَةً، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ وعظم النَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ أَيْ:

مِنْ أَزْوَاجِ الْبَشَرِ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ جَعَلَ الْخِدْمَةَ، وَهَكَذَا رَتَّبَتِ الْآيَةُ النِّعْمَةَ الَّتِي تَشْمَلُ الْعَالَمَ. وَيَسْتَقِيمُ لَفْظُ الْحَفَدَةِ عَلَى مَجْرَاهَا فِي اللُّغَةِ، إِذِ الْبَشَرُ بِجُمْلَتِهِمْ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ حَفَدَةٍ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا دَلَالَةٌ عَلَى كَذِبِ الْعَرَبِ في

(1) سورة الكهف: 18/ 46. [.....]

ص: 564

اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ يَتَزَوَّجُ مِنَ الْجِنِّ وَيُبَاضِعُهَا، حَتَّى حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هندانة تزوج سعلاة.

ومن فِي الطَّيِّبَاتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجٌ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هُنَا الْمُسْتَلَذَّاتُ لَا الْحَلَالُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كُفَّارٌ لَا يَتَلَبَّسُونَ بِشَرْعٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْأَزْوَاجِ وَمَا نَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، ذَكَرَ مِنَنَهُ بِالرِّزْقِ. وَالطَّيِّبَاتِ عَامٌّ فِي النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ:

الطَّيِّبَاتُ الْغَنَائِمُ. وَقِيلَ: مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ نَصَبٍ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَاعَةُ الشَّيْطَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: مَا يُرْجَى مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَا يعتقدون من مننفعة الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا، وَمَا هُوَ إِلَّا وَهْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ مُسْتَيْقَنٌ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ الْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِذِي عقل، وتمييزهم كَافِرُونَ بِهَا مُنْكِرُونَ لَهَا كَمَا يُنْكَرُ الْمُحَالَ الَّذِي لَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ. وَقِيلَ:

الْبَاطِلُ مَا يُسَوِّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم على إِيمَانِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَنْدَرِجُ فِي التَّوْقِيفِ الْمَعْطُوفِ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالتَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ، وَهُوَ خِطَابُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي التَّقْرِيعِ. وَيَعْبُدُونَ، اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِقَوْلِهِ:

أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ، نَعَى عَلَيْهِمْ فَسَادَ نَظَرِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَسْعَى عَابِدُهُ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْهُ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَلَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ. فَنَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ فِي مِلْكِهِمْ، وَنَفَى ثَانِيًا قُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُحَاوِلَ ذَلِكَ، وما لا تملك فِي جَمِيعِ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَجَازُوا فِي شَيْئًا انْتِصَابَهُ بِقَوْلِهِ: رِزْقًا، أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ بِأَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْمَرْزُوقُ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الرَّزْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ. وَرُدَّ عَلَى ابن الطراوة بأن الرزق بِالْكَسْرِ يَكُونُ أَيْضًا مَصْدَرًا، وَسُمِعَ ذَلِكَ فِيهِ، فَصَحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَعْنَى: مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ السموات والأرض شيئا. ومن السموات مُتَعَلِّقٌ إِذْ ذَاكَ بِالْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ مُنَوَّنًا: وَالْمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضَافًا بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ، وَلَا يَعْمَلُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ فِي حَالِ الْأَسْمَاءِ وَبَعُدَ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ. وَتَقْدِيرُ

ص: 565

الِانْفِصَالِ فِي الْإِضَافَةِ حَسُنَ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ الْبَيْتَ. وَقَوْلِهِ:

لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعًا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: يَعْمَلُ مُضَافَاً بِالِاتِّفَاقِ إِنْ عَنَى مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى مِنْ النَّحْوِيِّينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ أُضِيفَ لَا يَعْمَلُ، وَإِنْ نَصَبَ مَا بَعْدَهُ أَوْ رَفَعَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ مَحْضَةٍ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ، وَمَذْهَبُهُمَا فَاسِدٌ لِنَعْتِ هَذَا الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ، وَتَوْكِيدِهِ بِالْمَعْرِفَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَعْمَلُ إِلَى آخِرِهِ فَقَدْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ أَخِيرًا: وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَهُوَ مَذْهَبٌ مَنْقُولٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ إِعْمَالِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْدًا، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنَ الضَّارِبِ زَيْدًا، تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ. وَإِذَا كَانَ رِزْقًا يُرَادُ بِهِ الْمَرْزُوقُ فَقَالُوا: انْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ رِزْقًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ من السموات وَالْأَرْضِ شَيْئًا، وَهُوَ الْبَدَلُ جَارِيًا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ رِزْقٍ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ لَيْسَ مُرَادِفًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، إِذْ لَا يَخْلُوَ الْبَدَلُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ هَذَيْنِ: إِمَّا الْبَيَانُ، وَإِمَّا التَّوْكِيدُ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ تتعلق من السموات بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرِزْقٍ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.

وَمِنَ السموات رِزْقًا يَعْنِي بِهِ الْمَطَرَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رِزْقٌ لِأَنَّهُ عَنْهُ يَنْشَأُ الرِّزْقُ. وَالْأَرْضُ يَعْنِي: الشَّجَرَ، وَالثَّمَرَ، وَالزَّرْعَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَطِيعُونَ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا آلهتهم، بعد ما عَادَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَمْلِكُ، فَأَفْرَدَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صِلَةِ مَا، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا، بَلْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِانْتِفَاء الِاسْتِطَاعَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ يُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِطَاعَةِ التَّوْكِيدِ فَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمِلْكَ مُغَايِرٌ لِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:

ص: 566