الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَغْفِرُ زَلَلَهُ السَّابِقَ وَيَرْحَمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالنِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ، وَمِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ عَطَائِهِ وَهُوَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، إِذْ لَوْلَاهُمَا لَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَحَصَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْكُفْرَانُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ ظُلْمٌ فَاللَّهُ غَفُورٌ، أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَةٍ فَاللَّهُ رَحِيمٌ، لِعِلْمِهِ بِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ. وَدَعْوَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآية النَّحْلِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ السَّخَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيد بن أسلم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49)
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
جَنَبَ مُخَفَّفًا، وَأَجْنَبَ رُبَاعِيًّا لُغَةُ نَجْدٍ، وَجَنَّبَ مُشَدَّدًا لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: مَنَعَ، وأصله من الْجَانِبُ. الْهَوَى: الْهُبُوطُ بِسُرْعَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا رُمِيَتْ بِهِ الْفِجَاجُ رَأَيْتَهُ
…
تَهْوِي مَخَارِمُهَا هَوَى الْأَجْدَلِ
شَخَصَ الْبَصَرُ أَحَدَ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي مَكَانِهِ. الْمُهْطِعُ: الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِمُهْطِعٍ سَرَحَ كَأَنَّ عِنَانَهُ
…
فِي رَأْسِ جِذْعٍ مَنْ أَرَاكٍ مُشَذَّبِ
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:
إِذَا دَعَانَا فَأُهْطِعْنَا لِدَعْوَتِهِ
…
دَاعٍ سُمَيْعٍ فَلَبَوْنَا وَسَاقُونَا
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ يَكُونُ الْإِهْطَاعُ الْإِسْرَاعُ وَإِدَامَةُ النَّظَرِ. الْمُقْنِعُ: هُوَ الرَّافِعُ رَأْسَ الْمُقْبِلِ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْقُتَبِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يُبَاكِرُنَّ الْعُصَاةَ بِمُقْنِعَاتٍ
…
نَوَاجِذُهُنَّ كالحدإ الوقيع
نصف الْإِبِلَ بِالْإِقْنَاعِ عِنْدَ رَعْيِهَا أَعَالِيَ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ: أَقْنَعَ رَأْسَهُ نَكَّسَهُ وَطَأْطَأَهُ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى رَفَعَ أَعْرَفَ فِي اللُّغَة انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنْهُ قَنِعَ الرَّجُلُ إِذَا رَضِيَ، كَأَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السُّؤَالِ. وَفَمٌ مُقْنِعٌ مَعْطُوفَةٌ أَسْنَانُهُ إِلَيْهِ دَاخِلًا، وَرَجُلٌ مُقَنِّعٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ بَيْضَةُ الرَّأْسِ مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَرْؤُسٍ. الطَّرْفُ: الْعَيْنُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي
…
حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
وَيُقَالُ: طَرَفَ الرَّجُلُ طَبَّقَ جَفْنَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَسُمِّيَ الْجَفْنُ طَرَفًا لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ
ذَلِكَ. الْهَوَاءُ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْخَلَاءُ الَّذِي لَمْ تَشْغَلُهُ الْأَجْرَامُ الْكَثِيفَةُ، وَاسْتُعِيرَ لِلْجَبَانِ فَقِيلَ: قَلْبُ فُلَانٍ هَوَاءٌ. وَقَالَ الشاعر:
كأن الرحل مِنْهَا فَوْقَ صَعْلٍ
…
مِنَ الظُّلُمَاتِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ
الْمُقَرَّنُ: الْمَشْدُودُ فِي الْقَرْنِ، وَهُوَ الْحَبْلُ. الصَّفَدُ: الْغُلُّ، وَالْقَيْدُ يُقَالُ: صَفَدَهُ صَفْدًا قَيَّدَهُ، وَالِاسْمُ الصَّفْدُ، وَفِي التَّكْثِيرِ صَفَّدَهُ مُشَدَّدًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَبْقَى بِالْمُلُوكِ مُصْفِدِينَا وَأَصْفَدْتُهُ: أَعْطَيْتُهُ. وَقِيلَ: صَفَّدَ وَأَصْفَدَ مَعًا فِي الْقَيْدِ وَالْإِعْطَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فلم أَعْرِضْ أَبَيْتُ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ أَيْ: بِالْعَطَاءِ. وَسُمِّيَ الْعَطَاءُ صَفَدًا لأنه يقيده وَيُعْبَدُ. السِّرْبَالُ: الْقَمِيصُ، يُقَالُ: سَرْبَلْتُهُ فَتَسَرْبَلَ. الْقَطِرَانُ: مَا يُحْلَبُ مِنْ شَجَرِ الْأَبْهَلِ فَيُطْبَخُ، وَتَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَى، فَيُحْرَقُ الْجَرَبُ بِحَرِّهِ وَحِدَّتِهِ، وَهُوَ أَقْبَلُ الْأَشْيَاءِ اشْتِعَالًا، وَيُقَالُ فِيهِ قَطْرَانٌ بِوَزْنِ سَكْرَانَ، وَقِطْرَانٌ بِوَزْنِ سِرْحَانٍ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِسْكَانُهُ إِيَّاهُمْ حَرَمَهُ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَعَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنَةً، وَدَعَا بِأَنْ يُجَنِّبَ بَنِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي بَيْتِهِ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، لِيَنْظُرُوا فِي دِينِ أَبِيهِمْ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيَزْدَجِرُوا وَيَرْجِعُوا عَنْهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ هُنَا هَذَا الْبَلَدُ مُعَرَّفًا، وَفِي الْبَقَرَةِ مُنْكَرًا «1» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا سَأَلَ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَادِ الَّتِي يَأْمَنُ أَهْلُهَا وَلَا يَخَافُونَ، وَفِي الثَّانِي أَنْ يخرجه مِنْ صِفَةٍ كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَوْفِ إِلَى ضِدِّهَا مِنَ الْأَمْنِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَلَدٌ مَخُوفٌ، فَاجْعَلْهُ آمِنًا انْتَهَى. وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
(1) سورة البقرة: 2/ 126.
وَهُوَ كَوْنُ مَحَلِّ الْعَابِدِ آمِنًا لَا يَخَافُ فِيهِ، إِذْ يَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ دَعَا ثَانِيًا بِأَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَمَعْنَى وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ: أَدِمْنِي وَإِيَّاهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَبَنِيَّ أَوْلَادَهُ، مِنْ صُلْبِهِ الْأَقْرِبَاءِ. وَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا، وَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ الْأَقْرِبَاءِ لِصُلْبِهِ صَنَمًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَدْ سُئِلَ، كَيْفَ عَبَدَتِ الْعَرَبُ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ: مَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ صَنَمًا وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، إِنَّمَا كَانَتْ لهم حجارة ينصبوها وَيَقُولُونَ: حَجَرٌ، فَحَيْثُ مَا نَصَبُوا حَجَرًا فَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْتِ، فَكَانُوا يَدُورُونَ بِذَلِكَ الْحَجَرِ وَيُسَمُّونَهُ الدُّوَارَ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْخَلِيلِ عليه السلام يَقْتَضِي إِفْرَاطَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي رُتْبَتِهِ فَكَيْفَ يَخَافُ أَنْ يَعْبُدَ صَنَمًا؟ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهَا فِي الْخَوْفِ وَطَلَبِ الْخَاتِمَةِ. وَكَرَّرَ النِّدَاءَ اسْتِعْطَافًا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ سَبَبَ طَلَبِهِ: أَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، إِذْ قَدْ شَاهَدَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَمَعْنَى أَضْلَلْنَا: كُنَّا سَبَبًا لِإِضْلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ضَلُّوا بِعِبَادَتِهَا، كَمَا تَقُولُ: فِتْنَتُهُمُ الدُّنْيَا أَيِ: افْتَتَنُوا بِهَا، وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَأَجْنِبْنِي مِنْ أَجْنَبَ، وَأَنَّثَ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ كَمَا تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ إِخْبَارُ جَمْعِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ وَمَجَازٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا. فَمَنْ تَبِعَنِي أَيْ: عَلَى دِينِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنِّي. جَعَلَهُ لِفَرْطِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمُلَابَسَتِهِ
كَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
أَيْ لَيْسَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى تَعْظِيمِ الْغِشِّ بِحَيْثُ هُوَ يَسْلُبُ الْغَاشَّ الْإِيمَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَمَنْ عَصَانِي، هَذَا فِيهِ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ طَاعَةٌ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ عَصَانِي فَيُحَادُّونَ الشِّرْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَغْفِرُ لِي مَا سَلَفَ مِنَ الْعِصْيَانِ إِذَا بَدَا لِي فِيهِ وَاسْتَحْدَثَ الطَّاعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ عَصَانِي ظَاهِرُهُ بِالْكُفْرِ لِمُعَادَلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَعْنَاهُ حِين يُؤْمِنُوا، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ كَافِرٍ، لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا كَانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالنُّطْقِ الْحَسَنِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِكَ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عليه السلام: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» .
(1) سورة المائدة: 5/ 118.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ: كَرَّرَ النِّدَاءَ رَغْبَةً فِي الْإِجَابَةِ وَإِظْهَارًا لِلتَّذَلُّلِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَتَى بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَذَكَرَ بَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ. وَذَلِكَ هَاجَرُ لَمَّا وَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ غَارَتْ مِنْهَا سَارَّةُ،
فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاقَ هُوَ وَهَاجَرُ وَالطِّفْلُ، فَجَاءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ، وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ
، وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا وَلِيَ دَعَا بِمَا فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ بَقَاءِ هَاجَرَ وَمَا جَرَى لَهَا وَلِإِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ فَفِي كِتَابِ البخاري والسير وغيره. ومن لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ إِسْحَاقَ كَانَ فِي الشَّامِ، وَالْوَادِي مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، لِأَنَّهُ كَانَ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ هَاجَرَ وَابْنَهَا فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَأَنَّهُ يَرْزُقُهَا الْمَاءَ، وَإِنَّمَا نَظَرَ النَّظَرَ الْبَعِيدَ فَقَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَقَالَ: غَيْرِ ذِي مَاءٍ، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ ذَا زَرْعٍ مُسْتَلْزِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ زَرْعٌ إِلَّا حَيْثُ وُجِدَ الْمَاءُ، فَنَفَى مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْمَاءِ وَهُوَ الزَّرْعُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَاءُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِوَادٍ هُوَ وَادِي مَكَّةَ، غَيْرِ ذِي زَرْعٍ: لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ زَرْعٍ قَطُّ كَقَوْلِهِ:
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «1» بِمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ اعْوِجَاجٌ، مَا فِيهِ إِلَّا اسْتِقَامَةٌ لَا غَيْرَ انْتَهَى. وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ وَهِيَ ظَرْفٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمَاضِي مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ هُوَ مَاضِيًا، وَهُوَ مَكَانُ أَبَدًا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْتِ حَالَةَ الدُّعَاءِ، وَسَبَقَهُ قِبَلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَيْتِ وَمَتَى وُضِعَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ. وَوُصِفَ بِالْمُحَرَّمِ لِكَوْنِهِ حُرِّمَ عَلَى الطُّوفَانِ أَيْ: مُنِعَ مِنْهُ، كَمَا سُمِّيَ بِعَتِيقٍ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا مُمَنَّعًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُحْتَرَمًا لَا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دُعَاءٌ مُعْتَرِضٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَا يَخْلُو هَذَا الْبَيْتُ الْمُعَظَّمُ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ، دَعَا لَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَخَصَّ الصَّلَاةَ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا أَفْضَلُهَا، أَوْ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ. وَقَوْلُهُ: لِيُقِيمُوا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُهُ بِأَنَّ
(1) سورة الزمر: 39/ 28.
هَذَا الطِّفْلَ سَيُعَقَّبُ هُنَالِكَ، وَيَكُونُ لَهُ نَسْلٌ. وَأَفْئِدَةٌ: جَمْعُ فُؤَادٍ وَهِيَ الْقُلُوبُ، سمي القلب فؤاد لإنفاده مَأْخُوذٌ مِنْ فَأَدَ، وَمِنْهُ الْمُفْتَأَدُ، وَهُوَ مُسْتَوْقَدُ النَّارِ حَيْثُ يُشْوَى اللَّحْمُ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ الْأَفْئِدَةُ: الْقَطْعُ مِنَ النَّاسِ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ بَحْرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: أَفْئِدَةُ النَّاسِ، لَازْدَحَمَتْ عَلَى الْبَيْتِ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَحَجَّتْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَفْئِدَةٌ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِكَ: الْقَلْبُ مِنِّي سَقِيمٌ يُرِيدُ قَلْبِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْئِدَةُ نَاسٍ، وَإِنَّمَا نَكَّرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِتَنْكِيرِ أَفْئِدَةٍ، لِأَنَّهَا فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ لِتَتَنَاوَلَ بَعْضَ الْأَفْئِدَةِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يُبْتَدَأُ فِيهِ لِغَايَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، إِذْ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً جَعْلُ الْأَفْئِدَةِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي مِنْ التبعيض. وقرأ هشام: أفئدة بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحُلْوَانِيُّ عَنْهُ وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْإِشْبَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ هِشَامًا قَرَأَ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ كَالْيَاءِ، فَعَبَّرَ الرَّاوِي عَنْهَا بِالْيَاءِ، فَظَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَهْمَهُ أَنَّهَا بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَالْمُرَادُ بِيَاءٍ عِوَضًا مِنَ الْهَمْزَةِ، قَالَ: فَيَكُونُ هَذَا التَّحْرِيفُ مِنْ جِنْسِ التَّحْرِيفِ الْمَنْسُوبِ إِلَى مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَارِئُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ، وَنَحْوُهُ بِإِسْكَانِ حَرَكَةِ لإعراب، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَاسًا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالدَّانِيُّ الْحَافِظُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّقَلَةَ عَنْ هشام وأبي عمرو كانوا مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَةِ وَوُجُوهِهَا، وَلَيْسَ يُفْضِي بِهِمُ الْجَهْلُ إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ فيهم مثل هذا وقرىء آفِدَةً: عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ لِلْحَذْفِ مَنْ أَفِدَ أَيْ دَنَا وَقَرُبَ وَعَجِلَ أَيْ: جَمَاعَةٌ آفِدَةٌ، أَوْ جَمَاعَاتٌ آفِدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ ذَلِكَ فُؤَادٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَصَارَ بِالْقَلْبِ أَأْفِدَةً، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ أَلِفًا كَمَا قَالُوا. فِي آرَآمٍ أَأْرَامٍ، فَوَزْنُهُ أعفلة. وقرىء أَفِدَّةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِلَّةٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ فُؤَادٍ وَذَلِكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ هُوَ الْوَجْهَ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِل مِنْ أَفِدَ كَمَا تَقُولُ: فَرِحَ فَهُوَ فَرِحٌ. وَقَرَأَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ: أَفْوِدَةٌ بِالْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ جَمْعُ وَفَدٍ، وَالْقِرَاءَةُ حَسَنَةٌ: لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، بَلْ ذَكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ انْتَهَى. أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ فِي فُؤَادٍ بَعْدَ الضَّمَّةِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي جَوْنٍ، ثُمَّ جَمَعَ فَأَقَرَّهَا فِي الْجَمْعِ إِقْرَارَهَا فِي المفرد. أو هو جَمْعُ وَفَدٍ كَمَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَلَبَ إِذِ الْأَصْلُ أَوْفَدَهُ. وَجَمْعَ فَعْلٍ عَلَى أَفْعِلَةٍ شَاذٌّ نَحْوَ: نَجْدٍ وَأَنْجِدَةٍ، وَوَهْيٍ وَأَوْهِيَةٍ. وَأُمُّ الْهَيْثَمِ امْرَأَةٌ نُقِلَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ
عَلِيٍّ: إِفَادَةٌ عَلَى وَزْنِ إِشَارَةٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ كَمَا قَالُوا: إِشَاحٌ فِي وِشَاحٍ، فَالْوَزْن فِعَالَةٌ أَيْ: فَاجْعَلْ ذَوِي وِفَادَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ أَفَادَ إِفَادَةً، أَوْ ذَوِي إِفَادَةٍ، وَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يُفِيدُونَ وَيُنْتَفَعُ بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ أَيْ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ وَتَطِيرُ نَحْوَهُمْ شَوْقًا وَنِزَاعًا، وَلَمَّا ضَمَّنَ تَهْوِي مَعْنَى تَمِيلُ عَدَّاهُ بِإِلَى، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ بِهَا
…
طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا تَبْكِ
وَمِثَالُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى
…
مَا مُؤْمِنُ الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: تُهْوَى بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَهْوَى الْمَنْقُولَةِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مِنْ هَوَى اللَّازِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُسْرِعُ بِهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُجَاهِدٌ: تَهْوَى مُضَارِعُ هَوَى بِمَعْنَى أَحَبَّ
، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى النُّزُوعِ وَالْمَيْلِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَعَ سُكَّانِهِمْ وَادِيًا مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ يُجْلَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ كَقَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «1»
وَرُوِيَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِفِيِّ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا عليه السلام بِأَنْ يَرْزُقَ سُكَّانَ مَكَّةَ الثَّمَرَاتِ، بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عليه السلام فَاقْتَلَعَ بِجَنَاحِهِ قِطْعَةٌ مِنْ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: مِنَ الْأُرْدُنِّ فَجَاءَ بِهَا، وَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا، وَوَضَعَهَا قَرِيبَ مَكَّةَ فَهِيَ الطَّائِفُ.
وَبِهَذِهِ الْقِصَّةِ سُمِّيَتْ وَهِيَ مَوْضِعُ ثَقِيفٍ، وَبِهَا أَشْجَارٌ وَثَمَرَاتٌ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النِّعْمَةُ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ حَاضِرَةً فِي وَادٍ بِبَابٍ لَيْسَ فِيهِ نَجْمٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا، ثُمَّ فَضَّلَهُ فِي وُجُودِ أَصْنَافِ الثِّمَارِ فِيهِ عَلَى كُلِّ رِيفٍ، وَعَلَى أَخْصَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا ثِمَارًا، وَفِي أَيِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ تَرَى الْأُعْجُوبَةَ الَّتِي يُرِيكُهَا اللَّهُ.
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَهِيَ: اجْتِمَاعُ الْبَوَاكِيرِ وَالْفَوَاكِهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَزْمَانِ مِنَ الرَّبِيعِيَّةِ وَالصَّيْفِيَّةِ وَالْخَرِيفِيَّةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ بِعَجِيبٍ.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
(1) سورة القصص: 28/ 57.
السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ: كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّضَرُّعِ وَالِالْتِجَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ عَامٌّ فِيمَا يُخْفُونَهُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ. وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْوَجْدِ لِمَا وَقَعَ بَيْنَنَا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَمَا نُعْلِنُ مِنَ الْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ.
وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنْ كَآبَةِ الِافْتِرَاقِ، وَمَا نُعْلِنُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَاجَرَ حِينَ قَالَتْ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَكِلُكُمْ. قَالَتْ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ:
لَا نَخْشَى تَرَكْتَنَا إِلَى كَافٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِاكْتِنَافِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ مَا يَخْفَى هُوَ وَمَنْ كَنَّى عَنْهُ، تَمَّمَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ خَافِيَةٍ عَنْهُ تَعَالَى. وَقِيلَ:
وَمَا يَخْفَى الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل تَصْدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا وَقَعَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَةَ دُعَائِهِ، إِذْ تَرَكَ هاجر والطفل بِمَكَّةَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْدَهُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هِبَةِ وَلَدَيْهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ إِسْحَاقَ، وَعَلَى الْكِبَرِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي وُهِبَ لَهُ فِيهَا وَلَدَاهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَإِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِيهَا بِهِبَةِ الْوَلَدِ أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكِبَرَ مَظِنَّةُ الْيَأْسِ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَحْلَى فِي النَّفْسِ وَأَبْهَجُ لَهَا. وَعَلَى الْكِبَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قال: وأنا كبير، وعلى عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ، إِذِ الْكِبَرُ مَعْنَى لَا جَرَمَ يَتَكَوَّنُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسَنَّ وَكَبِرَ صَارَ مُسْتَعْلِيًا عَلَى الْكِبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ:
إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي
…
أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وَكَنَّى بِسَمِيعِ الدُّعَاءِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَالتَّقَبُّلِ، وَكَانَ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يهبه ولدا بقوله:
(1) سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: 26/ 74. [.....]
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «1» فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَأَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ سَمِيعٍ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى إِعْمَالِ فَعِيلٍ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَفْعُولِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِيهِ. وَفِي إِعْمَالِ بَاقِي الْخَمْسَةِ الْأَمْثِلَةِ فَعُولٍ، وَفَعَّالٍ، وَمِفْعَالٍ، وَفَعِلٍ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا لَيْسَ ذَلِكَ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ فَيَلْزَمُ جَوَازُ إِعْمَالِهِ، بَلْ هِيَ إِضَافَةٌ كَإِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ فَعِيلٍ إِلَى فَاعِلِهِ، وَيَجْعَلُ دُعَاءَ اللَّهِ سَمِيعًا عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَالْمُرَادُ: سَمَاعُ اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ بَعِيدٌ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصفة الْمُشَبَّهَةِ، وَالصِّفَةُ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْد أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَبْسٌ.
وَأَمَّا هُنَا فَاللَّبْسُ حَاصِلٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ لِلْمَفْعُولِ، لَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فِي مِثْلِ: زَيْدٌ ظَالِمُ الْعَبِيدِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ لَهُ عَبِيدًا ظَالِمِينَ.
وَدُعَاؤُهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُقِيمُهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الدَّيْمُومَةَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ أُعْلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، أَوْ مَنْ يُهْمِلُ إِقَامَتَهَا وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: دُعَاءُ رَبِّنَا بِغَيْرِ يَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ فِي الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْوَقْفِ. وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ: إِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ الْمَغْفِرَة لِأَبَوَيْهِ الْقَرِيبَيْنِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ إِيمَانِهِ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ عَدَاوَةُ اللَّهِ، وَهَذَا يَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَ هُنَا أَشْيَاء مِمَّا كَانَ دَعَا بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أُمَّهُ، وَنُوحًا عليه السلام. وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ جَاءَ نَصًّا دُعَاؤُهُ لِأَبِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «2» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَا كَافِرَيْنِ؟
(قُلْتُ) : هُوَ مِنْ تَجْوِيزَاتِ الْعَقْلِ، لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ.
وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدٌ، وَزَيْدٌ:
رَبَّنَا عَلَى الْخَبَرِ.
وَابْنُ يَعْمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: وَلِوَلَدَيَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ اللَّامِ يَعْنِي:
(1) سورة الصافات: 37/ 100.
(2)
سورة الشعراء: 26/ 86.
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَأَنْكَرَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: إن فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: وَلِأَبَوِيَّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: وَلِوُلْدَيَّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ وَلَدٍ كَأَسُدٍ فِي أَسَدٍ، ويكون قد دعا لذريته، وَأَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي الْوَلَدِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ
…
وَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ وَلَدَ حِمَارٍ
كَمَا قَالُوا: الْعَدَمُ وَالْعُدْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَلِوَالِدِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ كَقَوْلِهِ:
وَاغْفِرْ لِأَبِي، وَقِيَامُ الْحِسَابِ مَجَازٌ. عَنْ وُقُوعِهِ وَثُبُوتِهِ كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلِ الْحِسَابِ كما قال: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» .
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، لِلسَّامِعِ الَّذِي يُمْكِنُ مِنْهُ حُسْبَانُ مِثْلِ هَذَا لِجَهْلِهِ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِلظَّالِمِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَا تَحْسَبْ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَكَذَا فَلَا تَحْسَبِ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِهِ غَافِلًا الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «2» يُرِيدُ الْوَعِيدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُ، يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمُ الْمُحَاسِبِ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهَارُونَ الْعَتَكِيِّ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَنُؤَخِّرُهُمْ بِنُونِ الْعَظْمَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ أَيْ: يُؤَخِّرُهُمُ اللَّهُ. مُهْطِعِينَ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ:
ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. وَذَلِكَ بِذِلَّة وَاسْتِكَانَةٍ كَإِسْرَاعِ الْأَسِيرِ وَالْخَائِفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الضُّحَى: شَدِيدِي النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْرُقُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غير رافعي رؤوسهم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَدَّ يَمِينِ النَّظَرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُقْبِلِينَ للإصغاء، وأنشد:
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ
…
بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ
وَقَالَ الحسن: مقنعي رؤوسهم وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَوَاءٌ صُفْرٌ مِنَ الْخَيْرِ خَاوِيَةٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَوْفٌ لا عقول
(1) سورة المطففين: 83/ 6.
(2)
سورة البقرة: 2/ 283.
لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: خَرِبَةٌ خَاوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَلَا عَقْلٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: خَالِيَةٌ إِلَّا مِنْ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا، أَيْ: إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى. وَهَوَاءٌ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِهَوَاءٍ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي فَرَاغِهَا مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الرَّحْمَةِ، فَهِيَ منحرقة مُشْبِهَةُ الْهَوَاءِ فِي تَفَرُّغِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَانْخِرَاقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي اضْطِرَابِ أَفْئِدَتِهِمْ وَجَيَشَانِهَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهَا تَجِيءُ وَتَذْهَبُ وَتَبْلُغُ عَلَى مَا رَوى حَنَاجِرَهُمْ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَبَدًا فِي اضْطِرَابٍ. وَحُصُولُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ لِلظَّالِمِينَ قَبْلَ الْمُحَاسَبَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ. وَقِيلَ: عِنْدَ إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: عِنْدَ ذَهَابِ السُّعَدَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَشْقِيَاءِ إِلَى النَّارِ.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ،. وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَيَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لا نذر، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَيْسَ بِزَمَانٍ لِلْإِنْذَارِ، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْمَعْنَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ الظَّالِمِينَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبَشِّرُونَ وَلَا يُنْذِرُونَ. وَقِيلَ: الْيَوْمُ يَوْمُ هَلَاكِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، أَوْ يَوْمُ مَوْتِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِشِدَّةِ السَّكَرَاتِ، وَلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِلَا بُشْرَى كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «1» وَمَعْنَى التَّأَخُّرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ الرَّدُّ إِلَى الدُّنْيَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، إِذِ الْإِمْهَالُ إِلَى أَمَدٍ وَحَدٍّ مِنَ الزَّمَانِ قَرِيبٌ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَيْ: لِتَدَارُكِ مَا فَرَّطُوا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ. أَوْ لَمْ تَكُونُوا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فَيُقَالُ لَهُمْ، وَالْقَائِلُ الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْقَائِلُ اللَّهُ تَعَالَى. يُوَبِّخُونَ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُونَ مَقَالَتَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِقْسَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «2» وَمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ، مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْ:
لَا نُبْعَثُ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ: أَوْ لَمْ تَكُونُوا، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بَطَرًا وَأَشَرًا، وَلِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ من عادة الجهل
(1) سورة المنافقون: 63/ 10.
(2)
سورة النحل: 16/ 38.
وَالسَّفَهِ. وَأَنْ يَقُولُوا بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ بَنَوْا شَدِيدًا، وَأَمْلَوْا بَعِيدًا. وَمَا لَكُمْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: أَقْسَمْتُمْ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الْمُقْسِمِينَ لَقِيلَ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ، وَالْمَعْنَى: أَقْسَمْتُمْ أَنَّكُمْ بَاقُونَ فِي الدُّنْيَا لَا تَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ، وَقِيلَ: لَا تَنْتَقِلُونَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا مَحْكِيًّا بِقَوْلِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَا يَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَقَوْلُهُ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَسَكَنْتُمْ إِنْ كَانَ مِنَ السُّكُونِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَرُّوا فِيهَا وَاطْمَأَنُّوا طَيِّبِي النُّفُوسِ سَائِرِينَ بِسَيْرَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، لَا يُحَدِّثُونَهَا بِمَا لَقِيَ الظَّالِمُونَ قَبْلَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّكْنَى، فَإِنَّ السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ اللُّبْثُ، وَالْأَصْلُ تَعْدِيَتُهُ بفي كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ فِي الدَّارِ وَقَرَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ عَلَى سُكُونٍ خَاصٍّ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سَكَنَ الدَّارَ كَمَا قِيلَ: تَبَوَّأَهَا، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِالْخَبَرِ وَبِالْمُشَاهَدَةِ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالِانْتِقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَبَيَّنَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَيْ:
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ هُوَ أَيْ حَالُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ كَيْفَ، لِأَنَّ كَيْفَ إِنَّمَا تَأْتِي اسْمَ اسْتِفْهَامٍ أَوْ شَرْطٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا مِنْ دُخُولِ عَلَى عَلَى كَيْفَ فِي قَوْلِهِمْ: عَلَى كيف تبيع الأحمرين، وإلى فِي قَوْلِهِمْ: أَنْظُرُ إِلَى كَيْفَ تَصْنَعُ، وَإِنَّمَا كَيْفَ هُنَا سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَعَلْنَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ:
وَنُبَيِّنُ بِضَمِّ النُّونِ، وَرَفْعِ النُّونِ الْأَخِيرَةِ مُضَارِعُ بَيَّنَ، وَحَكَاهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ السُّلَمِيِّ: إِنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَزَمَ النُّونَ عطفا على أو لم تَكُونُوا أَيْ: وَلَمْ نُبَيِّنْ فَهُوَ مُشَارِكٌ فِي التَّقْرِيرِ. وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ أَيْ: صِفَاتِ مَا فَعَلُوا وَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِكُلِّ ظَالِمٍ.
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ:
الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَرُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ:
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ «1» أَيْ مَكَرُوا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ «2» أَيْ: وَقَدْ مَكَرَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» الْآيَةَ وَمَعْنَى مَكْرُهُمْ أَيِ: الْمَكْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ جُهْدَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مَقُولًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلظَّلَمَةِ الَّذِينَ سَكَنَ فِي مَنَازِلِهِمْ. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أَيْ: عِلْمُ مَكْرِهِمْ فَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُنَفِّذُ لَهُمْ فِيهِ قَصْدًا، وَلَا يُبَلِّغُهُمْ فِيهِ أَمَلًا أَوْ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُهُ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ مَكْرٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ، كَمَا هُوَ مُضَافٌ فِي الْأَوَّلِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعِنْدَ اللَّهِ مَا مَكَرُوا أَيْ مَكْرُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَهُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، يَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ كَانَ مَكْرٌ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ هُوَ، إِذْ قُدِّرَ يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ مَكَرَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِنَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «4» وَتَقُولُ: زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِهِ، وَلَا يُحْفَظُ زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِسَبَبِ كَذَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ.
وَقَرَأَ عَمْرٌو، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَإِنْ كَادَ بِدَالٍ مَكَانَ النُّونِ لَتَزُولُ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ
، وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْكِسَائِيُّ كذلك، إلا أنهم قرأوا وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ، فَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا. فَمَنْ قَرَأَ كَادَ بِالدَّالِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْرُبُ زَوَالُ الْجِبَالِ بِمَكْرِهِمْ، وَلَا يَقَعُ الزَّوَالُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ كَانَ بِالنُّونِ، يَكُونُ زَوَالُ الْجِبَالِ قَدْ وَقَعَ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَكْرِهِمْ وَشِدَّتُهُ، وَهُوَ بِحَيْثُ يَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ وَتَنْقَطِعُ عَنْ أَمَاكِنِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِتَزُولَ لَيَقْرُبُ زَوَالُهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى قِرَاءَةِ كَادَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَلَوْلَا كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الْجِبَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ بكسر اللام،
(1) سورة ابراهيم: 14/ 44.
(2)
سورة ابراهيم: 14/ 44.
(3)
سورة الأنفال: 8/ 30.
(4)
سورة الأنفال: 8/ 30.
وَنَصْبِ الْأَخِيرَةِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ
، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِهَا. فَعَنِ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ، وكان تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: وَتَحْقِيرُ مَكْرِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِتَزُولَ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ وَأَقْدَارُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ فِي ثُبُوتِهَا وَقُوَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا كَانَ بِمَا النَّافِيَةِ: لَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِرَاءَةِ وَمَا بِالنَّفْيِ، يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمَ مَكْرِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيرُهُ.
وَيُحْتَمَلُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ أَنْ تَكُونَ كَانَ نَاقِصَةً، وَاللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَخَبَرُ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: أَهْوَ مَحْذُوفٌ؟ أَوْ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ؟ وَعَلَى أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ وَكَانَ نَاقِصَةٌ، وَاللَّامُ فِي لِتَزُولَ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، خَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَإِنْ عَظُمَ مَكْرُهُمْ وَتَتَابَعَ فِي الشِّدَّةِ بِضَرْبِ زَوَالِ الْجِبَالِ مِنْهُ مَثَلًا لِتَفَاقُمِهِ وَشِدَّتِهِ أَيْ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ مُسْتَوٍ لِإِزَالَةِ الْجِبَالِ مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ أَيْ: وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا بِمَا يَفْعَلُ لِيَذْهَبَ بِهِ عِظَامُ الْأُمُورِ انْتَهَى. وَعَلَى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكَانَ هِيَ النَّاقِصَةُ. وعلى هذا التخريج تنفق مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ أَوْ تَتَقَارَبُ، وَعَلَى تَخْرِيجِ النَّفْيِ تَتَعَارَضُ كما ذكرنا. وقرىء لتزول بفتح اللام الأولى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ فَتَحَ لَامَ كَيْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ زَوَالَ الْجِبَالِ مَجَازٌ ضُرِبَ مَثَلًا لِمَكْرِ قُرَيْشٍ، وَعِظَمِهِ وَالْجِبَالُ لَا تَزُولُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغُلُوِّ وَالْإِيغَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَكْرِهِمْ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ جَبَلًا زَالَ بِحَلِفِ امْرَأَةٍ اتَّهَمَهَا زَوْجُهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِبًا مَاتَ، فَحَمَلَهَا لِلْحَلِفِ، فَمَكَرَتْ بِأَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَنِ الدَّابَّةِ وَكَانَتْ وَعَدَتْ مَنِ اتُّهِمَتْ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ عَنِ الدَّابَّةِ، فَأَرْكَبَهَا زَوْجُهَا وَذَلِكَ الرَّجُلُ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْجَبَلِ أَنَّهَا مَا مَسَّهَا غَيْرُهُمَا، فَنَزَلَتْ سَالِمَةً، وَأَصْبَحَ الْجَبَلُ قَدِ انْدَكَّ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عَدْنَانَ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ النَّمْرُودِ أَوْ بُخْتُ نَصَّرَ، وَاتِّخَاذُ الْأَنْسَرِ وَصُعُودُهُمَا عَلَيْهَا إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْجِبَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ لِثُبُوتِهِ وَرُسُوخِهِ، وَعَبَّرَ بِمَكْرِهِمْ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ هَذَا شِعْرٌ هَذَا إِفْكٌ، فَأَقْوَالٌ يَنْبُو عَنْهَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَبِعِيدٌ جِدًّا قِصَّةُ الْأَنْسَرِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُسْبَانِ كَهَوَ فِي قَوْلِهِ:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «1» وَأَطْلَقَ الْحُسْبَانَ عَلَى الْأَمْرِ الْمُتَحَقِّقِ هُنَا كما قال الشاعر:
(1) سورة ابراهيم: 14/ 42.
فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَضِلُّ مَنِيَّتِي
…
فَكُلُّ امْرِئٍ كَأْسَ الْحِمَامِ يَذُوقُ
وَهَذَا الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «1» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «2» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى وَعْدِهِ، وَنَصْبِ رُسُلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي إعرابه فقال الجمهور والفراء، وَقُطْرُبٌ، وَالْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ: هَذَا مُعْطِي دِرْهَمٍ زَيْدًا، لَمَّا كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَنْتَصِبُ مَا تَأَخَّرَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ نَظِيرًا لَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ
…
وَسَائِرُهُ بَادٍ إِلَى الشَّمْسِ أَجْمَعَ
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: لَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يُبَالِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَلِمَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : قَدَّمَ الْوَعْدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «3» ثُمَّ قَالَ: رُسُلَهُ، لِيُؤْذِنَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ، كَيْفَ يَخْلُفُهُ رُسُلُهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ؟ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَنْ وَعَدَهُ بِالنَّارِ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَصْلًا. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَشْرُوطٌ إِنْفَاذُهُ بِالْمَشِيئَةِ. وَقِيلَ: مُخْلِفُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «4» فَأُضِيفَ إِلَيْهِ، وَانْتَصَبَ رُسُلَهُ بِوَعْدِهِ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: مُخْلِفَ مَا وَعَدَ رُسُلَهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، لَا بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ، وَإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى رُسُلِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَقِرَاءَةِ: قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُشَبَّعًا فِي الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيَّدُ إِعْرَابَ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ مِمَّا تَعَدَّى فِيهِ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يُغَالَبُ ذُو انْتِقَامٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لَا يَعْفُو عَنْهُمْ. وَالتَّبْدِيلُ يَكُونُ فِي الذَّاتِ أَيْ: تَزُولُ ذَاتٌ وَتَجِيءُ أُخْرَى. وَمِنْهُ: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «5» وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «6» وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ
(1) سورة غافر: 4/ 51.
(2)
سورة المجادلة: 58/ 21.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 9. [.....]
(4)
سورة آل عمران: 3/ 9.
(5)
سورة النساء: 4/ 56.
(6)
سورة سبأ: 34/ 16.
الْحَلَقَةَ خَاتَمًا، فَالذَّاتُ لَمْ تُفْقَدْ لَكِنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّبْدِيلِ هُنَا، أَهْوَ فِي الذَّاتِ، أَوْ فِي الصِّفَاتِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ، وَتُزَالُ عَنْهَا جِبَالُهَا وَآكَامُهَا وَشَجَرُهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَوِيَةً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أمتا، وتبدل السموات بِتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَانْتِثَارِ كَوَاكِبهَا، وَانْشِقَاقِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بِأَرْضٍ كَالْفِضَّةِ نَقِيَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ. وَقَالَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ فِضَّةٍ وَالْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَرْضٌ مِنْ خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَجَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقِيلَ: تَصِيرُ نَارًا وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا تَرَى أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا. وقال أبي: تصير السموات حِقَابًا. وَقِيلَ: تَبْدِيلُهَا طَيُّهَا.
وَقِيلَ: مَرَّةً كَالْمُهْلِ، وَمَرَّةً وَرْدَةٌ كَالدِّهَانِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: بِانْشِقَاقِهَا فَلَا تَظَلُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَرْضَ بِأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قُرْصَةُ نَقِيٍّ»
وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ
وَعَنْ عَلِيٍّ: تُبَدَّلُ أرضا من فضة، وسموات مِنْ ذَهَبٍ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَرْضًا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ كَالصَّحَائِفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ وَإِنَّمَا تُغَيَّرُ، وَأَنْشَدَ:
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ
…
وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْلَمُ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمِعْتُ مِنْ أُبَيٍّ رضي الله عنه رَوَى أَنَّ التَّبْدِيلَ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ تُبَدَّلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ عَلَى خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ يَكُونُونَ عَلَى فِضَّةٍ إِنْ صَحَّ السَّنَدُ بِهَا، وَفَرِيقُ الْكَفَرَةِ يَكُونُونَ عَلَى نَارٍ وَنَحْوِ هَذَا، وَكُلُّهُ وَاقِعٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ وَقْتَ التَّبْدِيلِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ عَلَى الصِّرَاطِ»
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ تَبْدِيلِ الْأَرْضِ والسموات هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الأرض جهنم، ويجعل السموات الْجَنَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ «1» وَقَوْلُهُ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «2» انْتَهَى. وَكَلَامُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا، وَصَحَّ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ خَلْقِهِمَا.
وَبَرَزُوا: أَيْ ظَهَرُوا. لَا يُوَارِيهِمْ بِنَاءٌ وَلَا حِصْنٌ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ قَالَهُ الزمخشري، أو معمولا لمخلف وَعْدِهِ. وَإِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعتراض قاله الحوفي.
(1) سورة المطففين: 83/ 7.
(2)
سورة المطففين: 83/ 18.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا فَالْمُخْلِفُ وَلَا لِوَعْدِهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ أَنْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنْ جُوِّزَ أَنْ يَلْحَقَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ أَيْ: لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ يَوْمَ تُبَدَّلُ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ إِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا، لَمْ يُبَالِ أَنَّهُ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ، أَوْ مَعْمُولًا لِانْتِقَامٍ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، أَوَّلًا ذَكَرَ قاله أبو البقاء. وقرىء:
نُبَدِّلُ بِالنُّونِ الْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات، حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ. وَبَرَزُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الأرض، وقد مَعَهُ مُزَادَةٌ. وَمَعْنَى لِلَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ، أَوْ لِمَوْعُودِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبرزوا بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالَمِ وَكَثْرَتِهِمْ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ. وَجِيءَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَهُمَا: الْوَاحِدُ وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لا يشركه أحد في أُلُوهِيَّتِهِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تَنْفَعُ. وَالْقَهَّارُ وَهُوَ الْغَالِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «1» . وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إِذْ تُبَدَّلُ، وَبَرَزُوا مُقَرَّنِينَ مَشْدُودِينَ فِي الْقَرْنِ أَيْ: مَقْرُونٌ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، أَوْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي غُلٍّ أَوْ تُقْرَنُ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَرْجُلِهِمْ مُغَلَّلِينَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقٌ فِي الْأَصْفَادِ بِقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ أَيْ: يُقْرَنُونَ فِي الْأَصْفَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لمقرنين، وَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُسْتَقِرِّينَ فِي الْأَصْفَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِي جَهَنَّمَ وَادٍ، وَلَا مَفَازَةٌ، وَلَا قَيْدٌ، وَلَا سِلْسِلَةٌ، إِلَّا اسْمُ صَاحِبِهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحْنِقِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ مِنْ قَطِرٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتَنْوِين الرَّاء
، أَنَّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ أَنَّى صِفَةٌ لِقِطْرٍ. قِيلَ: وَهُوَ الْقَصْدِيرُ، وَقِيلَ: النُّحَاسُ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِالْقَطِرَانِ، وَلَكِنَّهُ النُّحَاسُ يَصِيرُ بِلَوْنِهِ. وَالْآنِيُّ الذَّائِبُ الْحَارُّ الَّذِي قَدْ تَنَاهَى حَرُّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ سُعِّرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، فَتَنَاهَى حَرُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ آنَ أَنْ يُعَذَّبُوا بِهِ يَعْنِي: حَانَ تَعْذِيبُهُمْ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ شَأْنِهِ.
أَيِ: الْقَطْرَانُ، أَنْ يُسْرِعَ فِيهِ اشْتِعَالُ النَّارِ، وَقَدْ يَسْتَسْرِجُ بِهِ، وَهُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ منتن الريح،
(1) سورة غافر: 40/ 16.
فَيُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَعُودَ طِلَاؤُهُ لَهُمْ كَالسَّرَابِيلِ وَهِيَ الْقُمُصُ، لِتَجْتَمِع عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعُ: لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتُهُ، وَإِسْرَاعُ النَّارِ فِي جُلُودِهِمْ، وَاللَّوْنُ الْوَحْشُ، وَنَتَنُ الرِّيحِ.
عَلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقَطِرَانَيْنِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّارَيْنِ. وَكُلُّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ، أَوْ أَوْعَدَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَكَأَنَّهُ مَا عِنْدَنَا مِنْهُ إِلَّا الْأَسَامِيَ وَالْمُسَمَّيَاتِ ثَمَّةَ، فَبِكَرَمِهِ الْوَاسِعِ نَعُوذُ مِنْ سُخْطِهِ وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا يُنْجِينَا مِنْ عَذَابِهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مِنْ قَطْرَانٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ
، وَهُوَ فِي شِعْرِ أَبِي النَّجْمِ قَالَ: لَبِسْنَهُ الْقَطْرَانَ وَالْمُسُوحَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بالنصب، وقرىء بِالرَّفْعِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى «1» فَهِيَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَشَيَانِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى التَّجَوُّزِ، جَعَلَ وُرُودَ الْوَجْهِ عَلَى النَّارِ غشيانا. وقرىء:
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بِمَعْنَى تَتَغَشَّى، وَخَصَّ الْوُجُوهَ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «2» لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَأَشْرَفِهِ كَالْقَلْبِ فِي بَاطِنِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «3» . وليجزي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ مَا يَفْعَلُ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ أَيْ: مُجْرِمَةٍ بِمَا كَسَبَتْ، أَوْ كُلَّ نَفْسٍ مِنْ مُجْرِمَةٍ وَمُطِيعَةٍ: لِأَنَّهُ إِذَا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ لِإِجْرَامِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُ يُثِيبُ الْمُطِيعِينَ لِطَاعَتِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَبَرَزُوا أَيِ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ عَامًّا أَيْ: مُطِيعَةٌ وَمُجْرِمَةٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَى، مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَ هَذَا، أَوْ أَنْفَذَ هَذَا الْعِقَابَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ لِيَجْزِيَ فِي ذَلِكَ الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «4» إِلَى قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ «5» وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِلَى السُّورَةِ. وَمَعْنَى بَلَاغٌ كِفَايَةٌ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: هُوَ عَطْفٌ مُفْرَدٌ على مُفْرَدٌ أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ وَإِنْذَارٌ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تفسير إعراب. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: لِيُبَلِّغُوا وَلِيُنْذِرُوا. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: وَلِيَذَّكَّرَ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ لَا غَيْرُ انْتَهَى. وَلَا يَخْدِشُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ وَلِيَذَّكَّرَ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ، بَلْ يُضْمِرُ لَهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ. وقال
(1) سورة الليل: 92/ 1.
(2)
سورة القمر: 54/ 48.
(3)
سورة الهمزة: 104/ 7.
(4)
سورة ابراهيم: 14/ 42.
(5)
سورة ابراهيم: 14/ 51.
ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، وَهُوَ لِيُنْذَرُوا بِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرًا لِهُوَ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُنْذَرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: لِيُنْصَحُوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ بِهَذَا الْبَلَاغِ انْتَهَى. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ: بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الذَّالِ، كَانَ الْبَلَاغُ الْعُمُومَ، وَالْإِنْذَارُ لِلْمُخَاطِبِينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ: الذَّرَّاعُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ: وَلِيَنْذَرُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ، مُضَارِعُ نَذَرَ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمَ بِهِ فَاسْتَعَدَّ لَهُ. قَالُوا: وَلَمْ يُعْرَفْ لِهَذَا الْفِعْلِ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مِثْلُ عَسَى وَغَيْرِهِ مِمَّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ. وَلِيَعْلَمُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا خَافُوا مَا أَنْذَرُوا بِهِ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى النَّظَرِ، فَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، إِذِ الْخَشْيَةُ أَصْلُ الْخَيْرِ. وَلِيَذَّكَّرَ أَيْ: يَتَّعِظَ وَيُرَاجِعَ نَفْسَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْمَوَاعِظِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ وَالِاتِّعَاظَ إِلَى مَنْ لَهُ لُبٌّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُجْدِي فِيهِمُ التَّذَكُّرُ.
وَقِيلَ: هِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَنَاسَبَ مُخْتَتَمُ هَذِهِ السُّورَة مُفْتَتَحَهَا، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله: لتخرج الناس.