الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّحل
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
النُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ مِنَ الْمَاءِ، نَطَفَ رَأْسُهُ مَاءً أَيْ قَطَرَ. الدِّفْءُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَأُ بِهِ أَيْ يُسَخَّنُ. وتقول العرب: دفىء يَوْمُنَا فَهُوَ دَفِيءٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ سُخُونَةٌ تُزِيلُ البرد، ودفىء الرجل فداء وَدَفَأً، وَجَمْعُ الدِّفْءِ أَدَفَاءٌ. وَرَجُلٌ دَفْآنُ وَامْرَأَةٌ دَفْأَى، وَالدَّفِئَةُ الْإِبِلُ الْكَثِيرَةُ
الْأَوْبَارِ، لِإِدْفَاءِ بَعْضِهَا بَعْضًا بِأَنْفَاسِهَا. وَقَدْ تُشَدَّدُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الدَّفِئَةُ الْكَثِيرَةُ الْأَوْبَارِ وَالشُّحُومِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدِّفْءُ نِتَاجُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. الْبَغْلُ: مَعْرُوفٌ، وَلِعَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْجَاحِظِ كِتَابُ الْبِغَالِ. الْحِمَارُ: مُعَيْرُوفٌ، يُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَحْمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى حُمُرٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعَلَى حَمِيرٍ. الطَّرِيُّ: فَعِيلٌ مِنْ طَرَّ وَيُطِرُ، وَطَرَاوَةً مِثْلُ سَرَّ وَيُسِرُّ سَرَاوَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طَرِيَ يَطْرِي طِرَاءً وَطَرَاوَةً مِثْلُ: شَقِيَ، يَشْقَى، شَقَاءً، وَشَقَاوَةً.
الْمَخْرُ: شَقُّ الْمَاءِ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، يُقَالُ: مَخَرَ الْمَاءُ الْأَرْضَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ إِذَا اشْتَدَّتْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا. مَادَ: تَحَرَّكَ وَدَارَ. السَّقْفُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُقُوفٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى سُقُفٍ وَسَقَفٍ، وَفُعُلٌ وَفَعَلٌ مَحْفُوظَانِ فِي فَعْلٍ، وَلَيْسَا مَقِيسَيْنِ فِيهِ.
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرٌ: هِيَ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ حَمْزَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «1» وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ وَإِنْ عاقَبْتُمْ «2» الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ، وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «3» وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «4» وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: يُشْرِكُونَ مَدَنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ مَكِّيٌّ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَكْسُ هَذَا.
وَوَجْهُ ارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «5» كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حَشْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا أَجْرَمُوهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ: نَصْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
(1) سورة النحل: 16/ 95- 96.
(2)
سورة النحل: 16/ 126.
(3)
سورة النحل: 16/ 127.
(4)
سورة النحل: 16/ 110.
(5)
سورة الحجر: 15/ 92. [.....]
وَظُهُورُهُ عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ مَا وُعِدُوا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا بِالْوَعْدِ انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ:
الْأَمْرُ هُنَا مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ النَّصْرِ وَظَفَرِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَمْرُ هُنَا مَصْدَرُ أَمَرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: فَرَائِضُهُ وَأَحْكَامُهُ. قِيلَ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا: الْأَمْرُ عِقَابُ اللَّهِ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، وَاسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقِيلَ: الْأَمْرُ بَعْضُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَأَتَى قِيلَ: بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا. وَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، أَتَتْ مَبَادِئُهُ وَأَمَارَاتُهُ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُضَارِعِ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
تَسْتَعْجِلُوهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ. وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها «1» وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْيَاءِ نَهْيًا لِلْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ عَلَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِالْعَذَابِ، أَوْ بِإِتْيَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «2» وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُوهُ جَعْفَرٌ، وَابْنُ وَضَّاحٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ. وَقَرَأَ عِيسَى: الْأُولَى بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَالثَّانِيَةُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَعًا الْأَعْمَشُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَمَصْدَرِيَّةً. وَأَفْضَلُ قِرَاءَتِهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِاسْتِعْجَالِهِمْ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ، وَذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: يُنْزِلُ مُخَفَّفًا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ: تُنَزَّلُ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْجَحْدَرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ. وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ: بِفَتْحِ التَّاءِ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا نُنَزِّلُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَقَتَادَةُ بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَفِيهِمَا شُذُوذٌ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَشُذُوذُهُمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، وَالْمَلَائِكَةُ هَنَا جِبْرِيلُ وَحْدَهُ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُشَارُ إليهم بقوله:
(1) سورة الشورى: 42/ 18.
(2)
سورة الحج: 22/ 27، والعنكبوت: 29/ 53- 54.
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً «1» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوحُ الْوَحْيُ تَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنَظِيرُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «2» وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «3» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ أَرْوَاحُ الْخَلْقِ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا مَعْنَاهُ الرُّوحُ الْهِدَايَةُ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ، كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ جِبْرِيلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «4» وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالرُّوحِ. وَقِيلَ:
بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: الرُّوحُ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا الْمَلَائِكَةُ حَفَظَةٌ عَلَيْنَا لَا تَرَاهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرُّوحُ اسْمُ مَلَكٍ، وَمِنْهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «5» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَصُوَرِ ابْنِ آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول ضَعِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ سَنَدٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، بِمَا تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ الْمَيِّتَةُ بِالْجَهْلِ، مِنْ وَحْيِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ فِي الدِّينِ مَقَامَ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ انْتَهَى. ومن لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَمَنْ يَشَاءُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأن مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ الْمُضَارِعَ، وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ كَمَا وُصِلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ.
أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ: بِأَنْ أَنْذِرُوا، فَيَجْرِي الْخِلَافِ فِيهِ: أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؟ أَوْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ أَنْذِرُوا بَدَلًا مِنَ الرُّوحِ أَيْ: نُنَزِّلُهُمْ بِأَنْ أَنْذِرُوا، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْذِرُوا أَيْ: بِأَنَّ الشَّأْنَ أَقُولُ لَكُمْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا انْتَهَى. فجعلها المخفف مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَضْمَرَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَقَدَّرَ إِضْمَارَ الْقَوْلِ: حَتَّى يَكُونَ الْخَبَرُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً وَهِيَ أَقُولُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ مَعَ سُهُولَةِ كَوْنِهَا الشَّانِيَّةَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا نَصْبُ الْمُضَارِعِ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصَاحِبُ الْغُنْيَانِ: أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي التَّنَزُّلِ بِالْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ مِنْ نَذَرْتُ بِكَذَا إِذَا أَعْلَمْتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقُولُ لَهُمْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ قَوْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ انْتَهَى. لَمَّا جَعَلَ أَنْ هِيَ الَّتِي حُذِفَ مِنْهَا ضَمِيرُ الشأن قدر هذا
(1) سورة النازعات: 79/ 1.
(2)
سورة غافر: 40/ 15.
(3)
سورة الشورى: 42/ 52.
(4)
سورة الشعراء: 26/ 193.
(5)
سورة النبأ: 78/ 38.
التَّقْدِيرَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أعلموا. وقرىء: لِيُنْذِرُوا أَنَّهُ، وَحَسُنَتِ النِّذَارَةُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا فِيهِ خَوْفٌ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُنْذِرُونَ كَافِرِينَ بِأُلُوهِيَّتِهِ، فَفِي ضِمْنِ أَمْرِهِمْ مَكَانُ خَوْفٍ، وَفِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ نَهْيٌ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَوَعِيدٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَمَعْنَى: فَاتَّقُونِ أَيِ اتَّقُوا عِقَابِي بِاتِّخَاذِكُمْ إِلَهًا غَيْرِي. وَجَاءَتِ الْحِكَايَةُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنَا، وَلَوْ جَاءَتْ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكِلَاهُمَا سَائِغٌ.
وَحِكَايَةُ الْمَعْنَى هُنَا أَبْلَغُ إِذْ فِيهَا نِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِمَا ذَكَرَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ من خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا. وَبِالْحَقِّ أَيْ: بِالْوَاجِبِ اللَّائِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِفَاتٍ تُحِقُّ لِمَنْ كَانَتْ لَهُ أَنْ يَخْلُقَ وَيَخْتَرِعَ وَهِيَ: الْحَيَاةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي لَا يَحِقُّ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَتَعَالَى بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِدِ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْخَارِجِ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، فَذَكَرَ إِنْشَاءَهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَكَانَ حَقُّهُ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ وَيَنْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْخَصِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ خَصَمَ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، أَوْ بِمَعْنَى مُخَاصِمٍ، كَالْخَلِيطِ وَالْجَلِيسِ، وَالْمُبِينُ الظَّاهِرُ الْخُصُومَةِ أَوِ الْمُظْهِرُهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِيَاقَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ ذَمٍّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرُوا الْآيَةَ. ولتكرير تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَلِقَوْلِهِ فِي يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ «1» الْآيَةَ وَقَالَ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «2» وَعَنَى بِهِ مُخَاصَمَتَهُمْ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالْحُجَجِ الدَّاحِضَةِ، وَأَكْثَرُ مَا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، أَوِ مُرْدَفًا بِالذَّمِّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَنَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: سِيَاقُ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ الْمَدْحِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَوَّاهُ عَلَى مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ، وَجَعَلَهُ مُبَيِّنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَنَقَلَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْجَمَادِيَّةِ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً إِلَى الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ: حالة النطق والإبانة.
وإذ هُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَبَعْدَ خَلْقِهِ مِنَ النُّطْفَةِ لَمْ تَقَعِ الْمُفَاجَأَةُ بِالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بَعْدَ أَحْوَالٍ تَطَوَّرَ فِيهَا، فَتِلْكَ الْأَحْوَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَتَقَعُ الْمُفَاجَأَةُ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ
(1) سورة يس: 36/ 77.
(2)
سورة الزخرف: 43/ 58.
أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ أَشْرَفُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ فِي قِوَامِ مَعِيشَتِهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، وَأَلْزَمَ لِمَنْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ وَذَلِكَ الْأَنْعَامُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَنْعَامِ فِي الْأَنْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذَكَرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَدِفْءٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَكُمْ، وَيَتَعَلَّقُ فِيهَا بِمَا فِي لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَالًا مِنْ دِفْءٍ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ حَالًا مِنْ دِفْءٍ وَفِيهَا الْخَبَرُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَالَ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا، لَا يَجُوزُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْحَالُ عَنِ الْجُمْلَةِ جَازَتْ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ تَوَسَّطَتْ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَرْتَفِعَ دِفْءٌ بلكم أو نعتها بأل، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ انْتَهَى. وَلَا تُسَمَّى جُمْلَةً، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ:
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ، أَوْ خَلَقهَا لَكُمْ كَائِنًا فِيهَا دِفْءٌ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْجُمْلَةِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِخَلَقَهَا، وَفِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ.
وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ يَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِئْنَافُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ، فَقَابَلَ الْمَنْفَعَةَ الضَّرُورِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدِّفْءُ نَسْلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرُهُ الْأُمَوِيُّ عَنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَالْأَنْعَامَ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَحَسَّنَ النَّصْبَ كَوْنُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تَقَدَّمَتْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَتُهُ فِي الشَّاذِّ بِرَفْعِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وعلى هذا يكون لَكُمْ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقَهَا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: دفء بِضَمِّ الْفَاءِ وَشَدِّهَا وَتَنْوِينِهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ الْحَرَكَةَ مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ بَعْدَ حَذْفِهَا، ثُمَّ شَدَّدَ الْفَاءَ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، إِذْ يَجُوزُ تَشْدِيدُهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: دِفٌ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ دُونَ تَشْدِيدِ الْفَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: الزُّهْرِيُّ دُفٌّ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالْفَاءُ مُحَرَّكَةٌ بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ مِنْ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فَيُشَدِّدُ الْفَاءَ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَقْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنَافِعُ الرُّكُوبِ، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عَلَيْهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِالذِّكْرِ، كَمَا أَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الدِّفْءِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : تَقَدُّمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ مُؤْذِنٌ، بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا (قُلْتُ) : الْأَكْلُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي
مَعَائِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَكَغَيْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ، وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ. وَمَا قَالَهُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ أَوِ الْمَفْعُولِ دَالٌّ عَلَى الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِكَ: إِذَا أَكَلْتَ مِنَ الرَّغِيفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ طُعْمَتَكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ، وَالْحَبُّ وَالثِّمَارِ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَتَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ، وَتَبِيعُونَ نِتَاجَهَا وَأَلْبَانَهَا وَجُلُودَهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّبْعِيضُ مَجَازًا، أَوْ تَكُونُ مِنْ لِلسَّبَبِ. الْجَمَالُ مَصْدَرُ جَمُلَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالرَّجُلُ جَمِيلٌ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ وَجَمْلَاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَنْشَدَ:
فَهِيَ جَمْلَاءُ كَبَدْرٍ طَالِعٍ
…
بَزَّتِ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ
وَيُطْلَقُ الْجَمَالُ وَيُرَادُ بِهِ التَّجَمُّلُ، كَأَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّوَائِدِ. وَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ بِحُسْنِ التَّرْكِيبِ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، وَيُلْقِيهِ فِي أَلْقَابٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ. وَفِي الْأَخْلَاقِ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ: كَالْعِلْمِ، وَالْعِفَّةِ، وَالْحِلْمِ، وَفِي الْأَفْعَالِ: بِوُجُودِهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.
وَالْجَمَالُ الَّذِي لَنَا فِي الْأَنْعَامِ هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَنَا فِيهَا جَمَالٌ وَعَظَمَةٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاقْتِنَائِهَا وَدَلَالَتِهَا عَلَى سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنِهِ فِيهَا مِنْ أَهْلِ السِّعَةِ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجَمُّلِ بِهَا، كَمَا مَنَّ بِالِانْتِفَاعِ الضَّرُورِيِّ، لِأَنَّ التَّجَمُّلَ بِهَا مِنْ أَغْرَاضِ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي وَمَفَاخِرِ أَهْلِهَا، وَالْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرَى أَمْسَ فِيهِمْ
…
مَرَابِطَ للإمهاز وَالْعَكَرِ الدَّثْرِ
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ بِقَنَّةٍ
…
يَرُوحُ عَلَى آثَارِ شَائِهِمُ النَّمِرُ
وَالْعَكَرَةُ مِنَ الْإِبِلِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَالْجَمْعُ عَكَرٌ. وَالدَّثْرُ الْكَثِيرُ، وَيُقَالُ: أَرَاحَ الْمَاشِيَةَ رَدَّهَا بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرْعَى، وَسَرَحَهَا يَسْرَحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا أَخْرَجَهَا غُدْوَةً إِلَى الْمَرْعَى، وَسَرَحَتْ هِيَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ إِذَا سَقَطَ الْغَيْثُ وَكَبُرَ الْكَلَأُ وَخَرَجُوا لِلنُّجْعَةِ. وَقَدَّمَ الْإِرَاحَةَ عَلَى السَّرْحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ إِذَا أَقْبَلَتْ مَلْأَى الْبُطُونِ، حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ أَوَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، بِخِلَافِ وَقْتِ سَرْحِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْوَقْتَيْنِ تُزَيِّنُ الْأَفْنِيَةَ، وَتَجَاوَبَ فِيهَا الرُّغَاءُ وَالثُّغَاءُ، فَيَأْتَنِسُ أَهْلُهَا، وَتَفْرَحُ أَرْبَابُهَا وَتُجِلُّهُمْ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، وَتُكْسِبُهُمُ الْجَاهَ وَالْحُرْمَةَ لقوله تعالى:
(1) سورة فاتحة الكتاب: 1/ 4.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «2» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ «3» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْجَحْدَرِيُّ: حِينًا فِيهِمَا بِالتَّنْوِينِ، وَفَكِّ الْإِضَافَةِ.
وَجَعَلُوا الْجُمْلَتَيْنِ صِفَتَيْنِ حُذِفَ مِنْهُمَا الْعَائِدُ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «4» وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي حِينًا عَلَى هَذَا، إِمَّا الْمُبْتَدَأُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَمُّلِ، وَإِمَّا خَبَرُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالْأَثْقَالُ. الْأَمْتِعَةُ: وَاحِدُهَا ثِقَلٌ. وَقِيلَ: الْأَجْسَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «5» أَيْ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَى بَلَدٍ، لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ أَيْ: إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهِ لِأَغْرَاضِكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَهُوَ مَكَّةَ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: مَدِينَةُ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مِصْرُ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْمُرَادِ، إِذِ الْمِنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَمْلِ إِلَيْهَا. وَلَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ صِفَةٌ لِلْبَلَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِهَا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى بُعْدِ الْبَلَدِ، وَأَنَّهُ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ بِأَنْفُسِكُمْ دُونَهَا إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ عَنْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى ظُهُورِكُمْ أَثْقَالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشِقِّ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ: بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مَعْنَاهُمَا الْمَشَقَّةُ. وَقِيلَ: الشَّقُّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَيَعْنِي بِهِ: الْمَشَقَّةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الكسر:
أذي إِبِلٍ يَسْعَى وَيَحْسَبُهَا لَهُ
…
أَخِي نَصَبٍ مِنْ شِقِّهَا ودؤوب
أَيْ مَشَقَّتِهَا. وَشِقُّ الشَّيْءِ نِصْفُهُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ الْفَرَّاءُ هُنَا أَيْ: يُذْهِبَانِ نِصْفَ الْأَنْفُسِ، كَأَنَّهَا قَدْ ذَابَتْ تَعَبًا وَنَصَبًا كَمَا تَقُولُ: لَا تَقْدِرُ عَلَى كَذَا إِلَّا بِذَهَابِ جُلِّ نَفْسِكَ، وَبِقِطْعَةٍ مِنْ كَبِدِكَ. وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ. وَيُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ الشَّاةِ أَيْ نِصْفَهَا وَالشِّقُّ: الْجَانِبُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَشَقٌّ اسْمُ كَاهِنٍ. وَنَاسَبَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ حَمْلِهَا الْأَثْقَالَ الْخَتْمُ بِصِفَةِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ تَيْسِيرُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَتَسْخِيرُ الْأَنْعَامِ لَكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَنَهُ بِالْأَنْعَامِ وَمَنَافِعَهَا الضَّرُورِيَّةِ، ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِمَنَافِعِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْخَيْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى وَالْأَنْعَامَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ الرُّكُوبُ أَعْظَمَ مَنَافِعِهَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لكل
(1) سورة الكهف: 18/ 46.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 14.
(3)
سورة الأنعام: 18/ 13.
(4)
سورة البقرة: 2/ 48. [.....]
(5)
سورة الزلزلة: 99/ 2.
الْخَيْلِ، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ وَزِينَةً، وَلَمْ يَكُنْ بِاللَّامِ، وَوُصِلَ الْفِعْلُ إِلَى الرُّكُوبِ بِوَسَاطَةِ الْحَرْفِ، وَكِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَلَقَهَا، وَالرُّكُوبُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَهُمْ ذَلِكَ فَانْتَفَى شَرْطُ النَّصْبِ، وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ.
وَالزِّينَةُ مِنْ وَصْفِ الْخَالِقِ، فَاتَّحَدَ الْفَاعِلُ، فَوَصَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزِينَةً نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلْنَاهَا زِينَةً. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالزِّينَةُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَقَهَا، أَوْ مِنْ لِتَرْكَبُوهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَخَلَقَهَا زِينَةً لِتَرْكَبُوهَا، أَوْ يَجْعَلُ زِينَةً حَالًا مِنْ هَاءِ، وَخَلَقَهَا لِتَرْكَبُوهَا وَهِيَ زِينَةٌ وَجَمَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالنَّصْبُ حِينَئِذٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي تَرْكَبُوهَا. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْ ذَوَاتِ مَا يَخْلُقُ تَعَالَى، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا كُلَّهَا لِمَنَافِعِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ لَهُ مِنَ الْخَلَائِقِ مَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، لِنَزْدَادَ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ بِالْإِخْبَارِ، وَإِنْ طَوَى عَنَّا عِلْمَهُ حِكْمَةً لَهُ فِي طَيِّهِ، وَمَا خَلَقَ تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ بَشَرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَصْلَ حُدُوثِهِ كَالسُّوسِ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودِ فِي الْفَوَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ بحر: لا تَعْلَمُونَ كَيْفَ يَخْلُقُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَزَادَ بَعْدُ فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى.
وَرُوِيَتْ تَفَاسِيرُ فِي: مَا لَا تَعْلَمُونَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالشَّعْبِيِّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا ضَرُورِيًّا وَغَيْرَ ضَرُورِيٍّ، أَعْقَبَ بِذَكَرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِذْ تَفَاصِيلُهُ خَارِجَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَالْعَدِّ، وَالْقَصْدُ مَصْدَرٌ يَقْصِدُ الْوَجْهَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّالِكُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَالسَّبِيلُ هُنَا مُفْرَدُ اللَّفْظِ. فَقِيلَ: مُفْرَدُ الْمَدْلُولِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ، وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ. وَالْمَعْنَى: وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ طَرِيقِ الْهُدَى، وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ مِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْقَاصِدَ فَعَلَى اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَنَعِيمُهُ وَطَرِيقُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ مصيره. وعلى أنّ لِلْعَهْدِ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا جَائِرٌ، عَائِدٌ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ مُقَابِلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْعِ، وَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ: فِرَقُ الضَّلَالَةِ مِنْ
أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، وَمِنْ شُعَبِهَا. وَقِيلَ: الْ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ، وَانْقَسَمَتْ إِلَى مَصْدَرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَإِلَى جَائِرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ، وَالْجَائِرُ الْعَادِلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا قَالَ:
يَجُورُ بِهَا الْمَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
وَمِنَ الطَّرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدَى
…
قَصْدِ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلِ
قَسَّمَ الطَّرِيقَةَ: إِلَى جَائِرٍ، وَإِلَى هُدًى، وَإِلَى ذِي دَخَلٍ وَهُوَ الْفَسَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أَنَّ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «1» (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ:
وَمِنْهَا جَائِرٌ؟ (قُلْتُ) : لِيُعْلَمَ بِمَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُ الْمُجَبِّرَةُ لَقِيلَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَعَلَيْهِ جَائِرُهَا، أَوْ وَعَلَيْهِ الْجَائِرُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ يَعْنِي وَمِنْكُمْ جَائِرٌ عَنِ القصد بسواء اختياره، والله بريء مِنْهُ. وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قَسْرًا وَالْجَاءً انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمِنْهَا يَعُودُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَيْ: وَمِنَ الْخَلَائِقِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عِيسَى: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ: فَمِنْكُمْ جَائِرٌ بِالْفَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَلَهَدَاكُمْ: لَخَلَقَ فِيكُمُ الْهِدَايَةَ، فَلَمْ يَضِلَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَهِيَ مَشِيئَةُ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَفَرَضَ عَلَيْكُمْ آيَةً تَضْطَرُّكُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ سُوءٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَرَوْنَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، لَمْ يُحَصِّلْهُ الزَّجَّاجُ، وَوَقَعَ فِيهِ رَحْمَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ انْتَهَى.
وَلَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الزَّجَّاجَ مُعْتَزِلِيٌّ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهُ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الثَّوَابِ، أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْ شَاءَ لَمَحَضَ قَصْدِ السَّبِيلِ دُونَ الْجَائِرِ. وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَهَدَاكُمْ أَيْ:
وَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
(1) سورة الليل: 92/ 12.
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ بِإِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِيجَادِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرُّكُوبِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ وَأَقْوَاتِهَا مِنَ الزَّرْعِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَغْلَبَ، ثُمَّ عَمَّمَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَالنَّهَارِ الَّذِي هُوَ مَعَاشٌ، ثُمَّ بِالنَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَيْنِ بِإِرَادَتِهِ فِي إِصْلَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لماء، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَرْتَفِعُ شَرَابٌ بِهِ أَيْ:
مَاءً كَائِنًا لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَنْزَلَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَشَرَابٌ مُبْتَدَأٌ. لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ أَخَذَ فِي تَقْسِيمِهِ. وَالشَّرَابُ هُوَ الْمَشْرُوبُ، وَالتَّبْعِيضُ فِي مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي مِنْهُ شَجَرٌ فَمَجَازٌ، لَمَّا كَانَ الشَّجَرُ إِنْبَاتُهُ عَلَى سَقْيِهِ بِالْمَاءِ جَعَلَ الشَّجَرَ مِنَ الْمَاءِ كَمَا قَالَ: أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي رَبَابِهْ، أَيْ فِي سَحَابِ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، إِمَّا قَبْلَ الضَّمِيرِ أَيْ: وَمِنْ جِهَتِهِ، أَوْ سَقْيُهُ شَجَرٌ، وَإِمَّا قَبْلَ شَجَرٍ أَيْ:
شُرِبَ شَجَرٌ كَقَوْلِهِ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «1» أَيْ حُبَّهُ. وَالشَّجَرُ هُنَا كُلُّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرُ، فَسُمِّيَ الْكَلَأُ شَجَرًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشَّجَرُ هُنَا الْكَلَأُ،
وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: «لَا تَأْكُلُوا الشَّجَرَ فَإِنَّهُ سُحْتٌ»
يَعْنِي الْكَلَأَ.
وَيُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ وَسَوَّمَهَا جَعَلَهَا تَرْعَى، وَسَامَتْ بِنَفْسِهَا فَهِيَ سَائِمَةٌ وَسِوَامٌ رَعَتْ حَيْثُ شَاءَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَسِيمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، فَإِنْ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا كَانَ هُوَ وَأَسَامَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَتَأْوِيلُهُ عَلَى حذف مضاف يسيمون أَيْ: تُسِيمُ مَوَاشِيكُمْ لَمَّا ذَكَرَ، وَمِنْهُ شَجَرٌ. أَخَذَ فِي ذِكْرِ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْهُ شَجَرُ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْكَلَأَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارِ مَنَافِعِ الْمَاءِ. وَيُقَالُ: نَبَتَ الشَّيْءُ وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَنْبُوتٌ، وَهَذَا قِيَاسُهُ مَنْبَتٌ. وَقِيلَ: يُقَالُ أَنْبَتَ الشَّجَرُ لَازِمًا. وأنشد الفراء:
(1) سورة البقرة: 2/ 93.
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَّاتِ حَوْلَ بيوتهم
…
قطينا بهم حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
أَيْ نَبَتَ. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَأْبَى أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: نُنَبِّتُ بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ: لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَضْعِيفُ التَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَنْبُتُ مِنْ نَبَتَ وَرَفَعَ الزرع وما عطف عليه. وَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا يَنْبُتُ، وَأَجْمَعُهُ لِلْمَنَافِعِ. وَبَدَأَ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ قُوتُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، ثُمَّ بِالزَّيْتُونِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِدُهْنِهِ، وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ مَعَ مَنْفَعَةِ أَكْلِهِ وَالِائْتِدَامِ بِهِ وَبِدَهْنِهِ، وَالِاطِّلَاءِ بِدُهْنِهِ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ مِنْ أَطْيَبِ الْفَوَاكِهِ وَقُوتٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، ثُمَّ بِالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مَحْضَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أَتَى بِلَفْظِ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَرَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا أُنْبِتَ فِي الْأَرْضِ بَعْضٌ مِنْ كُلِّهَا لِلتَّذْكِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَرُ، كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ مَا خَلَقَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانِ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ. وَخَتَمَ ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَاسْتِعْمَالِ فِكْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ وَمَرَّ عَلَيْهَا مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنٌ لَحِقَهَا مِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ مَا تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا فَيَصْعَدُ مِنْهُ شَجَرَةٌ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَسْفَلُهَا يَغُوصُ مِنْهُ فِي عُمْقِ الْأَرْضِ شَجَرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْعُرُوقُ، ثُمَّ يَنْمُو الْأَعْلَى وَيَقْوَى، وَتَخْرُجُ الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ، وَالثِّمَارُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالشَّمْسَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا، وَانْتَصَبَ مُسَخَّرَاتٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِنْ كَانَ مُسَخَّرَاتٍ اسْمَ مَفْعُولٍ، وَهُوَ إِعْرَابُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَخَّرَهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّسْخِيرِ جَمْعُ مُسَخَّرٍ بِمَعْنَى: تَسْخِيرٍ مِنْ قَوْلِكَ: سَخَّرَهُ اللَّهُ مُسَخَّرًا، كَقَوْلِكَ: سَرَّحَهُ مُسَرَّحًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَخَّرَهَا لَكُمْ تَسْخِيرَاتٍ بِأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: والشمس وَمَا بَعْدَهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، وَحَفْصٌ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِرَفْعِهِمَا، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ يُبْعِدَانِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّ مُسَخَّرَاتٍ بِمَعْنَى تَسْخِيرَاتٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ: وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرَاتٌ فِي مَوْضِعِ، وَالنُّجُومُ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ فِي قِرَاءَةِ نَصْبِ الْجَمِيعِ أَنَّ وَالنُّجُومَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ: وَالنُّجُومَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ النُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ، فَأَضْمَرَ الْفِعْلَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ لَا تَكُونُ مُسَخَّرَاتٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً، بَلْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلَ إِنْ كَانَ جَعَلَ الْمُقَدَّرَةُ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَحَالًا مُبَيِّنَةً إِنْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَعْرَافِ. وَجَمَعَ الْآيَاتِ هُنَا، وَذَكَرَ الْعَقْلَ، وَأَفْرَدَ فِيمَا قَبْلُ، وَذَكَرَ التَّفَكُّرَ لِأَنَّ فِيمَا قَبْلُ استدلالا بإنبات الْمَاءِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَلِأَنَّ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَأَبْيَنُ شَهَادَةً للكبرياء والعظمة. وما درأ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْنِي: مَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَشَجَرٍ وَثَمَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ أَصْنَافُهُ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَلْوَانٌ مِنَ الثَّمَرِ وَمِنَ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَعَادِنُ. إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِيمَا ذَرَأَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ، أَوْ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ. وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ، وَمَعْنَاهُ الِاعْتِبَارُ وَالِاتِّعَاظُ، كَانَ علمهم بذلك سابق طَرَأَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ فَقِيلَ: يَذَّكَّرُونَ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ مَا نَسُوا مِنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْمُكَوِّنَاتِ فِي الْأَرْضِ.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ. وَمَعْنَى تَسْخِيرِهِ: كَوْنُهُ يَتْمَكَنُّ النَّاسُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلرُّكُوبِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلِلْغَوْصِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ، وَلِلِاصْطِيَادِ لِمَا فِيهِ. وَالْبَحْرُ جِنْسٌ يَشْمَلُ الْمِلْحَ وَالْعَذْبَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا مِنْ مَنَافِعِهِ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَمِنْهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِتَأْكُلُوا مِنْ حَيَوَانِهِ طَرِيًّا، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَهُوَ الْحِلْيَةُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى غَايَةِ الْحِلْيَةِ وَهُوَ اللُّبْسُ. وَفِيهِ مَنَافِعُ غَيْرُ اللُّبْسِ، فَاللَّحْمُ الطَّرِيُّ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ، وَالْحِلْيَةِ مِنَ الْمِلْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذْبَ يَخْرُجُ مِنْهُ لُؤْلُؤٌ لَا يُلْبَسُ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنَّمَا يُتَدَاوَى بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِي الزُّمُرُّدِ بَحْرِيًّا، فَأَمَّا لِتَأْكُلُوا فَعَامٌّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَأَمَّا تَلْبَسُونَهَا فَخَاصٌّ بِالنِّسَاءِ. وَالْمَعْنَى: يَلْبَسُهَا نِسَاؤُكُمْ. وَأُسْنِدَ اللُّبْسُ إِلَى الذُّكُورِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِنَّمَا يَتَزَيَّنَّ بِالْحِلْيَةِ مِنْ أَجْلِ رِجَالِهِنَّ، فَكَأَنَّهَا زِينَتُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَةَ الْأَكْلِ مِنْهُ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِلْحِلْيَةِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ تَصَرُّفِ الْفُلْكِ فِيهِ مَاخِرَةً أَيْ: شَاقَّةً فِيهِ، أَوْ ذَاتَ صَوْتٍ لِشَقِّ الْمَاءِ لِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَقْوَاتِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَسْنَدَ الرُّؤْيَةَ إِلَى الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: وَتَرَى، وَجَعَلَهَا جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ: تَعْلِيلِ الِاسْتِخْرَاجِ،
وتعليل الابتغاء، فلذلك عَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ، وَالظَّاهِرُ عَطْفُ، وَلِتَبْتَغُوا عَلَى التَّعْلِيلِ قَبْلَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ: لِتَبْتَغُوا بِذَلِكَ. وَلِتَبْتَغُوا، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَفَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا. وَالْفَضْلُ هُنَا حُصُولُ الْأَرْبَاحِ بِالتِّجَارَةِ، وَالْوُصُولُ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ. قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَجَعَلَتْ تمور فقالت الْمَلَائِكَةُ: مَا هِيَ بِمَقَرِّ أَحَدٍ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، لَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتْ. وَعَطَفَ وَأَنْهَارًا عَلَى رَوَاسِيَ. وَمَعْنَى أَلْقَى: جَعَلَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «1» وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ، مِنْ فَوْقِهَا. وَقَالَ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: جَعَلْتُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ: أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَهِيَ عِنْدِي أَخَصُّ مِنْ خَلَقَ وَجَعَلَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَلْقَى يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْجِبَالَ لَيْسَ مِنَ الْأَرْضِ لَكِنْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ مَا رُوِيَ فِي الْقَصَصِ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَقَوْلُهُ: وَأَنْهَارًا، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ، أَوْ خَلَقَ أَنْهَارًا. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى خُصُوصِ أَلْقَى، وَلَوْ كَانَتْ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ انْتَهَى.
وَأَيُّ إِجْمَاعٍ فِي هَذَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَنَّ أَلْقَى فِيهِ مَعْنَى جَعَلَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «2» . وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ وَشَقَّ أَنْهَارًا وَعَلَامَاتٍ أَيْ:
وَضَعَ عَلَامَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى رَوَاسِيَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ، وَسُبُلًا طُرُقًا إِلَى مَقَاصِدِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بِالسُّبُلِ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَقِيلَ: تَهْتَدُونَ أَيْ: بِالنَّظَرِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ عَلَى صَانِعِهَا، فَهُوَ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَدِينِ اللَّهِ.
وَعَلَامَاتٍ هِيَ مَعَالِمُ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ السَّابِلَةُ مِنْ جَبَلٍ وَسَهْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَاتِ بِشَمِّ التُّرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْعَلَامَةُ صُورَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مَا يُرَادُ مِنْ خَطٍّ أَوْ لَفْظٍ أو
(1، 2) سورة النبأ: 78/ 7.
إِشَارَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَامَاتٍ نُصِبَ كَالْمَصْدَرِ أَيْ: فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَعَلَّكُمْ تَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَعَلَامَاتٍ أَيْ: عِبْرَةً وَإِعْلَامًا فِي كُلِّ سُلُوكٍ، فَقَدْ يُهْتَدَى بِالْجِبَالِ وَبِالْأَنْهَارِ وَبِالسُّبُلِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: النُّجُومُ.
وَأَغْرَبُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْعَلَامَاتُ أَنَّهَا حَيَّتَانِ طُوَالٌ رِقَاقٌ كَالْحَيَّاتِ فِي أَلْوَانِهَا وَحَرَكَاتِهَا تُسَمَّى بِالْعَلَامَاتِ، وَذَلِكَ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ الَّذِي يُسَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْيَمَنِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ كَانَتْ عَلَامَةً لِلْوُصُولِ لِبِلَادِ الْهِنْدِ وَأَمَارَةً لِلنَّجَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبِالنَّجْمِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ: وَبِالنُّجُمِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: بِضَمِّ النُّونِ. وَفِي اللَّوَامِحِ الْحَسَنُ: النُّجُمُ بِضَمَّتَيْنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَنْ أَصْحَابِ عَاصِمٍ انْتَهَى. وَذَلِكَ جَمْعٌ كَسُقُفٍ وَسَقَفِ، وَرُهُنٍ وترهن، وَجَعْلُهُ مِمَّا جُمِعَ عَلَى فُعُلٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النُّجُومَ، فَحَذَفَ الْوَاوَ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: النُّجُمُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ:
إِنَّ الَّذِي قَضَى بِذَا قَاضٍ حَكَمْ
…
أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
قَالَ: يُرِيدُ النُّجُومَ. مِثْلَ قَوْلِهِ:
حَتَّى إِذَا ابْتَلَّتْ حَلَاقِيمُ الْحَلْقِ يُرِيدُ: الْحُلُوقَ. وَالتَّسْكِينُ: قِيلَ تَخْفِيفٌ، وَقِيلَ: لُغَةٌ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ انْتَهَى. قِيلَ:
وَالْجَدْيُ هُوَ السَّابِعُ مِنْ بَنَاتِ نَعْشِ الصُّغْرَى، وَالْفَرْقَدَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْهَا، وَلَيْسَ بِالْجَدْيِ الَّذِي هُوَ الْمَنْزِلَةُ، وَبَعْضُهُمْ يُصَغِّرُهُ فَيَقُولُ: جُدَيٌّ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ، فقل:«هُوَ الْجَدْيُ»
وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَعْدِلْ أَحَدٌ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ، وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي لَا يَجْرِي. وَقِيلَ: هُوَ الثُّرَيَّا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا طَلَبَ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ
…
فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ مَعَابِرُ
وَقَالَ آخَرُ:
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ
…
وَغُودِرَ الْبَقْلُ مُلَوًّى وَمَحْصُودُ
أَيْ وَمِنْهُ مُلَوًّى، وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا. وَهُمْ: ضَمِيرُ غَيْبَةٍ خَرَجَ
مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَانَ الضَّمِيرُ النَّعْتَ بِهِ إِلَى قُرَيْشٍ إِذْ كَانَ لَهُمُ اهْتِدَاءٌ بِالنُّجُومِ فِي مَسَايِرِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ الشُّكْرُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وَالِاعْتِبَارُ أَلْزَمَ لَهُمْ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اعْتِنَاءً وَلِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَبِالنَّجْمِ خُصُوصًا هُمْ يَهْتَدُونَ.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ: ذَكَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَخْلُقُ وَهِيَ الْأَصْنَامُ، وَمَنْ عُبِدَ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، فَجَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَنْ لَهُ الْإِنْشَاءُ دُونَ غَيْرِهِ. وَجِيءَ بِمَنْ فِي الثَّانِي لِاشْتِمَالِ الْمَعْبُودِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، أَوْ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا وَأَفْعَالًا، فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ أُولِي الْعِلْمِ، أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ، أَوْ لِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَعْلَمُ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْخَالِقِ، مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ الْبَتَّةَ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها «1» أَيْ:
أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُنْحَطَّةٌ عَنْ حَالِ مَنْ لَهُ أَرْجُلٌ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ هَذِهِ حَيٌّ، وَتِلْكَ أَمْوَاتٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ لَا أَنَّ مَنْ لَهُ رِجْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : هُوَ إِلْزَامٌ لِلَّذِينِ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَسَمَّوْهَا آلِهَةً تَشْبِيهًا بِاللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ، فَكَانَ حَقَّ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَفَمَنْ لَا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ؟ (قُلْتُ) : حِينَ جَعَلُوا غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ اللَّهِ فِي تَسْمِيَتِهِ بِاسْمِهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَسَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَدْ جَعَلُوا اللَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشَبِيهًا بِهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، أَيْ: مِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ فِيهِ الْغَفْلَةُ. وَالنِّعْمَةُ يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ لَا نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا وَقَوْلُهُ: لَا تُحْصُوها «2» إِذْ يَنْتَفِي الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ فِي الْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تُحْصُوا عَدَّهَا، لِأَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا خَرَجَتْ عَنْ إِحْصَائِكُمْ لَهَا، وَانْتِفَاءُ إِحْصَائِهَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنَ الشُّكْرِ. وَلَمَّا ذَكَرَ نِعَمًا سَابِقَةً أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ نِعَمِهِ لَا يُطِيقُونَ عَدَّهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، حَيْثُ يَتَجَاوَزُ عَنْ تقصيركم في
(1) سورة الأعراف: 7/ 195.
(2)
سورة ابراهيم: 14/ 34.
أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَلَا يَقْطَعُهَا عَنْكُمْ لِتَفْرِيطِكُمْ، وَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرَانِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَأَنَّ لَهُ حَالَةً يَعْرِضُ فِيهَا مِنْهُ كُفْرَانَهَا قَالَ فِي عَقِبِ الْآيَةِ الَّتِي فِي إِبْرَاهِيمَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «1» أَيْ لَظَلُومٌ بِتَرْكِ الشُّكْرِ كَفَّارٌ لِلنِّعْمَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لُطْفًا بِهِ، وَإِيذَانًا فِي التَّجَاوُزِ عَنْهُ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ لَهُمْ، وَالْإِخْبَارَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ آلِهَتِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي تُسِرُّونَ وَتُعْلِنُونَ وَتَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَهُبَيْرَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي مَشْهُورِهِ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالتَّاءِ فِي السَّابِقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ:
يَعْلَمُ الَّذِي يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَالْمَشْهُورُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ.
وَلَمَّا أَظْهَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ، نَصَّ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ، وَعَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْيَاءٍ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَهَائِمِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَّصِفُ بِهِ الْعُقَلَاءُ. وَعَبَّرَ بِالَّذِينِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ عُومِلَ غَيْرُهُ مُعَامَلَتَهُ، لِكَوْنِهَا عُبِدَتْ وَاعْتُقِدَتْ فِيهَا الْأُلُوهِيَّةُ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْيَمَانِيُّ: يُدْعَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَيِ: اللَّهُ أَنْشَأَهُمْ وَاخْتَرَعَهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ يَخْلُقُونَهُمْ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ عَبَدَتِهِمْ انْتَهَى. وَأَمْوَاتٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْأَصْنَامِ، وَيَكُونُ بَعْثُهُمْ إِعَادَتُهَا بَعْدَ فَنَائِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2» . وَقِيلَ: مَعْنَى بَعْثِهَا إِثَارَتُهَا، كَمَا تَقُولُ: بَعَثْتُ النَّائِمَ مِنْ نَوْمِهِ إِذَا نَبَّهْتَهُ، كَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِغَايَةِ الْجُمُودِ أَيْ: وَإِنْ طَلَبْتَهُمْ بِالتَّحْرِيكِ أَوْ حَرَّكْتَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِأَنَّ مِنَ الْأَمْوَاتِ مَا يَعْقُبُ مَوْتَهُ حَيَاةٌ كَالنُّطَفِ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللَّهُ حَيَوَانًا، وَأَجْسَادِ الْحَيَوَانِ الَّتِي تُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَأَمَّا الْأَصْنَامُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ
(1) سورة ابراهيم: 14/ 34.
(2)
سورة الأنبياء: 21/ 21.
فَأَمْوَاتٌ لَا يَعْقُبُ مَوْتَهَا حَيَاةٌ، وَذَلِكَ أَعْرَقُ فِي مَوْتِهَا. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ، هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَ نَاسٌ من الكفار يعبدونهم. وأموت أَيْ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَغَيْرُ أَحْيَاءٍ أَيْ: غَيْرُ بَاقٍ حَيَاتُهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيْ: لَا عِلْمَ لَهُمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ. وَجَوَّزُوا فِي قِرَاءَةِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ موت، يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ ضَمِيرُهُمْ فِي:
يَدْعُونَ، شَبَّهَهُمْ بِالْأَمْوَاتِ غَيْرِ الْأَحْيَاءِ مِنْ حَيْثُ هُمْ ضُلَّالٌ. غَيْرُ مُهْتَدِينَ وَمَا بَعْدَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالْبَعْثُ الْحَشْرُ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقِيلَ: فِي هَذَا التَّقْدِيرِ وَعِيدٌ أَيْ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَى التَّعْذِيبِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمَا يَشْعُرُونَ، لِلْأَصْنَامِ وَفِي: يُبْعَثُونَ، لِعَبَدَتِهَا. أَيْ: لَا تَشْعُرُ الْأَصْنَامُ مَتَى تُبْعَثُ عَبَدَتُهَا. وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ بَعْثِ عَبَدَتِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَقْتُ جَزَاءٍ عَلَى عِبَادَتِهِمْ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ تَكُونَ الْأَخْبَارُ بِتِلْكَ الجمل كلها عن الْمَدْعُوِّينَ آلِهَةً، إِمَّا الْأَصْنَامُ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْوَاتٌ إِلَى آخره، إخبارا عن الكفار. أو يكون وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، فقط إخبارا عن الكفار، أو يكون وما يشعرون إِخْبَارًا عَنِ الْمَدْعُوِّينَ، وَيُبْعَثُونَ: إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِينَ الْعَابِدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَوْمِهِ سُلَيْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
إِيَّانَ، مَعْمُولٌ لِيُبْعَثُونِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ. إِذْ مَعْنَاهُ الْعِلْمُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ مَا انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَهُوَ وَقْتُ الْبَعْثِ إِذَا أُرِيدَ بِالْبَعْثِ الْحَشْرُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يشعرون. وأيان يُبْعَثُونَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ:
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَخْبَرَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّ الْإِلَهَ فِيهِ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ أَيَّانَ إِذْ ذَاكَ تَخْرُجُ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا، إِمَّا اسْتِفَهَامًا، وَإِمَّا شَرْطًا. وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنَى وَقْتٍ مُضَافًا لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَاحِدٌ، كَقَوْلِك: يَوْمَ يَقُومُ زَيْدٌ قَائِمٌ. وَفِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اتَّصَفَتْ بِهِ آلِهَتُهُمْ بِمَا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ وُضُوحِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ بَلْ لَهُ وَحْدَهُ، هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ، مُنْكِرُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ، مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهَا، لِاعْتِقَادِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهَا فِي الْوُجُودِ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُبَالَغَةٌ فِي نِسْبَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، إِذْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْبَعْثِ، إِذْ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَذِّبَ اللَّهَ عز وجل. وَقِيلَ: مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّسَتُّرُ بِهِ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا التَّكَبُّرَ فَإِنَّهُ
فِسْقٌ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَانُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يجيؤون أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ»
أَوْ كَمَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ فِي هُودٍ «1» .
وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا:
وَقَدْ يُغْنِي لَا جَرَمَ عَنْ لَفْظِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: لَا جَرَمَ لَآتِيَنَّكَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ تَعَلَّقَ بِلَا جَرَمَ، وَلَا يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ لِمِرْدَاسٍ الْخَارِجِيِّ: لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَأُفَارِقَنَّكَ أَبَدًا، نَفَى كَلَامَهُ تَعَلُّقُهَا بِالْقَسَمِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَعِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، وَالنَّقَّاشُ: الْمُرَادُ هُنَا بِمَا يُسِرُّونَ تَشَاوُرُهُمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي قَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انتهى. ولا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقِسْطِهِ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ الْآيَةَ، أَنَّ النضر بن الحرث سَافَرَ عَنْ مَكَّةَ إِلَى الْحِيرَةِ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ كُتُبَ التَّوَارِيخِ وَالْأَمْثَالِ كَكَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَأَخْبَارَ اسْفَنْدِيَارَ وَرُسْتُمَ، فَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُحَدِّثُ مُحَمَّدٌ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَحَدِيثِي أَجْمَلُ من حديثه. وماذا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ مَفْعُولٌ بِأَنْزَلَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَعَائِدُهُ فِي أَنْزَلَ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ الَّذِي أَنْزَلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَاذَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ قَالَ: بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ رَبُّكُمْ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كفار قريش. وَمَاذَا أَنْزَلَ لَيْسَ مَعْمُولًا لَقِيلَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَمَا لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْفَاعِلِ. وقرىء شَاذًّا: أَسَاطِيرَ بِالنَّصْبِ عَلَى معنى ذكر ثم أَسَاطِيرَ، أَوْ أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْإِنْزَالِ يُنَافِي أَسَاطِيرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَا نَزَلَ شَيْءٌ وَلَا أن ثمّ منزل. وَبَنَى قِيلَ: لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أن كون القائل بعضهم
(1) سورة هود: 11/ 22.
لِبَعْضٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَالُوا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَأَلَهُمْ وُفُودُ الْحَاجِّ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ أَسَاطِيرَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ: أَسَاطِيرُ، أَوِ الْمُنَزَّلُ أَسَاطِيرُ، جَعَلُوهُ مُنَزَّلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا لَامُ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى الْحَتْمِ عَلَيْهِمْ وَالصَّغَارِ الْمُوجِبِ لَهُمْ، أَوْ لَامُ التَّعْلِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ مَخَافَةَ الشَّرِّ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَامِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ. وَلَمَّا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحُ لَامِ كَيْ عَلَى مَعْنَى قُدِّرَ هَذَا لِكَذَا، وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهَا بِقَوْلِهِ. قَالُوا: بَلْ أَضْمَرَ فِعْلًا آخَرَ وَهُوَ: قَدَّرَ هَذَا، وَكَامِلَةً حَالٌ أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْمِلُ مِنْ وِزْرِ كُلِّ مَنْ أَضَلَّ أَيْ:
بَعْضَ وِزْرِ مَنْ ضَلَّ بِضَلَالِهِمْ، وَهُوَ وِزْرُ الْإِضْلَالِ، لِأَنَّ الْمُضِلَّ وَالضَّالَّ شَرِيكَانِ، هَذَا يُضِلُّهُ، وَهَذَا يُطَاوِعُهُ عَلَى إِضْلَالِهِ، فَيَتَحَامَلَانِ الْوِزْرَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ أَيْ: وَأَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، وَالْمَعْنَى: وَمِثْلَ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ «1»
كَقَوْلِهِ: «فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
الْمُرَادُ: وَمِثْلُ وِزْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ حَتَّى إِنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْفِيفَ الْأَوْزَارِ عَنِ الْأَتْبَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
لَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ أَيْ:
لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ انْتَهَى. وَلَا تَتَقَدَّرُ مِنَ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ: الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ أَوْزَارُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فيؤول مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّقْدِيرِ. وَبِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنْ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُضِلُّونَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ أَوْلَى، إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْإِضْلَالُ عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سُوءِ مَا يَتَحَمَّلُونَهُ لِلْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ سَاءَ مَا يَزِرُونَ. فَأَتَى اللَّهُ أَيْ: أَمْرُهُ وَعَذَابُهُ وَالْبُنْيَانُ، قِيلَ: حَقِيقَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ نمرود بنى
(1) سورة النحل: 16/ 25.
صَرْحًا لِيَصْعَدَ بِزَعْمِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَفْرَطَ فِي عُلُوِّهِ وَطُولِهِ فِي السَّمَاءِ فَرْسَخَيْنِ عَلَى مَا حَكَى النَّقَّاشُ، وَقَالَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: طَولُهُ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رِيحًا فَهَدَمَتْهُ، وَخَرَّ سَقْفُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: هَدَمَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، وَأَلْقَى أَعْلَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَالْحِقْفُ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْمُرَادُ الْمُقْتَسِمُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بخت نصر وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قُرَيَّاتُ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَكَرَ، وَنَزَلَتْ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ إِلَى آخِرِهِ تَمْثِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَوَّوْا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ كَحَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ، فَأَتَى الْبُنْيَانَ مِنَ الْأَسَاطِينِ بِأَنْ تَضَعْضَعَتْ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ وَهَلَكُوا وَنَحْوُهُ: مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ. جَاءَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُمْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ بُنْيَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَنْجَرُّ إِلَى اللُّغْزِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ، رَفْعُ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: انْهَدَمَ عَلَى فُلَانٍ بِنَاؤُهُ وَلَيْسَ تَحْتَهُ، كَمَا تَقُولُ: انْفَسَدَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:
مِنْ فَوْقِهِ، أَلْزَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا جَالِسِينَ تَحْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَجَاءَ بِقَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ لِيَخْرُجَ هَذَا الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ، أَيْ: عَلَيْهِمْ وَقَعَ، وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا، فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي الْبَعُوضَةَ الَّتِي أُهْلِكَ بِهَا نُمْرُوذٌ، وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُنْيَانَهُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بُنْيَتَهُمْ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ: بَيْتَهُمْ، وَالضَّحَّاكُ:
بُيُوتَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: السَّقْفُ مُفْرَدًا، وَالْأَعْرَجُ السُّقُفُ بِضَمَّتَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٌ، بِضَمِّ السِّينِ فَقَطْ. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ مِثْلِ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَبِالنَّجْمِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: السَّقُفُ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي السَّقْفِ، وَلَعَلَّ السَّقْفَ مُخَفَّفٌ منعه، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا قَالُوا فِي رَجُلٍ رَجْلٍ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ذَكَرَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيُخْزِيهِمْ: يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ الَّتِي تَحُلُّ بِهِمْ،
وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِدْخَالَهُمُ النَّارَ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1» أَيْ أَهَنْتَهُ كُلَّ الْإِهَانَةِ. وَجَمَعَ بَيْنَ الْإِهَانَةِ بِالْفِعْلِ، وَالْإِهَانَةِ بِالْقَوْلِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: يُخْزِيهِمْ.
وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِي، أَضَافَ تَعَالَى الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَالْمَعْنَى: شُرَكَائِي فِي زَعْمِكُمْ، إِذْ أَضَافَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُرَكَائِيَ مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مَفْتُوحَ الْيَاءِ، وَفِرْقَةٌ كَذَلِكَ: تُسَكِّنُهَا، فَسَقَطَ فِي الدَّرَجِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَقْصُورًا وَفَتَحَ الْيَاءَ هُنَا خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنْهُ: تَرْكُ الْهَمْزِ فِي الْقَصَصِ وَالْعَمَلُ عَلَى الْهَمْزِ فِيهِ وَقَصْرُ الْمَمْدُودِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِثُبُوتِهِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَيَجُوزُ قَلِيلًا فِي الْكَلَامِ. وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُفَادَاةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشَاقُّونَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَضْعِيفِ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِتَشْدِيدِهَا، أُدْغِمَ نُونُ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، عَامٌّ فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعُلَمَاءِ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَعِظُونَهُمْ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ:
هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَوْقِفَ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسِيٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَيَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ:
شَمَاتَةً بِالْكُفَّارِ وَتَسْمِيعًا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِعْظَامٌ لِلْعِلْمِ، إِذْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «2» تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ «3» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقَوْلِ. فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ حكاية حال ماضية، وأن كَانَ الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا لَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ لَهُمْ مَا يَقُولُ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ فِيهِ، فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ عَلَى بَابِهَا. وَيَشْمَلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ تَوَفَّتْهُ، وَمَنْ تَتَوَفَّاهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقُولٍ، بَلْ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، فَزِيدَتِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ يُجِيزُ: زَيْدٌ فَقَامَ، أَيْ قَامَ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْفَاءَ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ
(1- 3) سورة آل عمران: 3/ 192.
(2)
سورة النساء: 4/ 197.
إِذَا كَانَ مَوْصُولًا، وَضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ صَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ فِيمَا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ: يَتَوَفَّاهُمْ بِالْيَاءِ مِنْ أسفل في الموضعين. وقرىء: بِإِدْغَامِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَهَا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالسَّلْمُ هُنَا الِاسْتِسْلَامُ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوِ الْخُضُوعُ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَيِ، انْقَادُوا حِينَ عَايَنُوا الْمَوْتَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ انْقَادُوا وَأَجَابُوا بِمَا كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّقَاقِ وَالْكِبْرِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ فَأَلْقَوْا عَلَى تَتَوَفَّاهُمْ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: قَالَ الَّذِينَ إِلَى قَوْلِهِ فَأَلْقَوْا، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْكُفَّارِ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: وَنَعْتُهُمْ بِحَمْلِ السُّوءِ، إِمَّا أَنْ يكون صريخ كَذِبٍ كَمَا قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَيْ لَوْ كَانَ الْكُفْرُ عِنْدَ أَنْفُسِنَا سَوَاءً مَا عَلِمْنَاهُ. وَيُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ اعْتِقَادِهِمْ لَمَا كَانَ الْجَوَابُ بَلَى، عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كَذَبْتُمْ فِي اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ، بَلْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سُوءٌ لِأَنَّكُمْ تَبَيَّنْتُمُ الْحَقَّ وَعَرَفْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» وَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ هُوَ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ إِخْبَارَهُمْ بِنَفْيِ عَمَلِ السُّوءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْآمِرُوهُمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ، يَسُوقُونَهُمْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: الْخَزَنَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَبْوَابُ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الدَّرَكَاتُ. وَقِيلَ: الْأَصْنَافُ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْظُرُ فِي بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ صِنْفٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ مُسْتَدِلًّا بِمَا
جَاءَ «الْقَبْرِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ»
وَلَمَّا أَكْذَبُوهُمْ مِنْ دَعْوَاهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرُوهُمْ بِالدُّخُولِ، وَاللَّامُ فِي فَلَبِئْسَ لَامُ تَأْكِيدٍ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَى الْمَاضِي الْمُنْصَرِفِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْجَامِدِ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَقُرْبِهِ مِنَ الأسماء.
(1) سورة البقرة: 2/ 89.
(2)
سورة النحل: 16/ 14. [.....]